नेपोलियन बोनापार्ट इन मिस्र
نابوليون بونابارت في مصر
शैलियों
وقد سبق أن قلنا في ختام الفصل السابق إن الأميرال نلسون الإنكليزي جاوز بأسطوله العمارة الفرنسية جنوبي كريد ولم يرها، فقصد الإسكندرية لكي يدركها على ظنه، فوصلها قبل العمارة الفرنسية بثلاثة أيام فقط، لا بعشرة كما رواه الجبرتي، وتابعه المؤرخون الحديثون، بغير تمحيص ولا تحقيق، وللجبرتي العذر في أغلاطه التاريخية، فإنه إنما كان يكتب في القاهرة ويقول وردت مكاتبات على يد السعاة من الإسكندرية، ومضمونها أن في ثامن «محرم » وصلت عمارة إنكليزية فلا معني إذن لمتابعته، والنقل عنه، بغير ترو، وأوقات وصول هاتيك الأساطيل، وأولئك القواد العظام مضبوطة بالساعات، إن لم يكن بالدقائق في كتب القوم ومذكراتهم، ومع ذلك فلو أنهم قرءوا الجبرتي حق قراءته؛ أي: أنهم درسوا كل كتابه، ولم يكتفوا بالنقل، لوجدوا إن الجبرتي في وفيات سنة 1215 عند ترجمة حياة مراد بك، يقول بعد ذكره وصول العمارة الإنكليزية ومغادرتها المياه المصرية ما نصه: «فما هو إلا أن غابوا في البحر نحو الأربعة أيام إلا والفرنسيس قد حضروا وكان ما كان.» وهو قريب من الصواب أو هو الصواب بعينه، ومن أغلاطهم التي لا تغتفر تقريرهم أن القوة التي قدم بها نابوليون كانت تبلغ أربعين ألفا، وأن عدد البوارج كان أربعمائة سفينة، مع أن البيان الرسمي موجود في كتب القوم، ومنها يظهر في الحال أن القوة التي برح بها أوروبا كانت 32 ألفا فقط، وأنه ترك منها في مالطة ثلاثة آلاف اعتاض عنها بألفين من المالطيين، وأن عدد السفن لم يزد عن 320 سفينة.
فلما ألقى الأميرال نلسون مراسيه في الإسكندرية، ولم يجد العمارة الفرنسية بعث بقارب وفيه «على رواية الجبرتي» عشرة أنفار، فوصلوا إلى البر، واجتمعوا بالسيد محمد كريم، ومن معه من أعيان البلدة فكلموهم واستخبروهم عن غرضهم، فأخبروا أنهم إنكليز حضروا للتفتيش على الفرنسيس؛ لأنهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات، ولا ندري أين قصدهم، فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم، ولا تتمكنون من منعهم، فلم يقبل السيد محمد كريم منهم هذا القول وظن أنها مكيدة منهم، وجاوبهم بكلام خشن، فقالت رسل الإنكليز: «نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر، لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه.» فلم يجيبوهم لذلك، وقالوا هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيس، ولا لغيرهم عليها سبيل، فعادت رسل الإنكليز وأقلعوا في البحر ليمتاروا من غير الإسكندرية، وليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ولو كان السيد محمد كريم أو غيره في الإسكندرية واقفا على شيء من حوادث أوروبا، ومنازعات الإنكليز مع الفرنسيس لأمد أسطول نلسون بما أراد من ماء ومئونة، لا سيما وقد طلبوا شراء ذلك بالمال، ولترك لهم حريتهم حتى يتخابر مع حكام البلدة البكوات، ونائب السلطان، ولو تم ذلك، وبقيت العمارة الإنكليزية ثلاثة أيام أخرى، لكان لها، مع نابوليون وحملته، حال الله بها أعلم.
ويظهر أن رواية الجبرتي هي أصح الروايات؛ لأن الذي حمل نلسون على الإقلاع من مياه الإسكندرية، هو حاجته الشديدة للزاد والماء، بدليل أنه أقلع في الحال إلى شواطئ آسيا الصغرى فجزيرة سراقوزه، حيث امتار وعاد إلى الإسكندرية ثانية، فوصلها في أول أغسطس؛ أي: بعد نزول الفرنسيس أرض مصر بشهر كامل.
وفي اليوم الأول من شهر يوليو سنة 1798
1
وصلت العمارة الفرنسية إلى مياه الإسكندرية عند مطلع الفجر، فبرزت أمام الجنود والقواد مآذن الثغر ومبانيه مجليية بازار الفجر، وراء قاعدة من زرقة البحر، وأدرك الجيش أنه وصل إلى محط رحاله، ونهاية أسفاره، ولما ارتفع ذيل النهار، وعلت الشمس في الأفق، أبصر أهل الثغر سفن العمارة الفرنسية، فأدركوا حين ذلك أن الإنكليز صدقوهم، ولم يخدعوهم، وكان أول ما عمله نابوليون أن بعث بالفرقاطة
La Junon
إلى البر للوقوف على حال البلدة، ولطلب قنصل فرنسا، وكان في ذلك الوقت هو ابن أخ «ماجاللون» الذي سبقت الإشارة إليه، فعارض السيد محمد كريم في ذهاب القنصل، ولكنه عاد فسمح به، ويقول الجبرتي، وتابعه المؤرخون الحديثون، إنه ذهب مع القنصل بعض أهل البلد، ولم يرد ذكر ذلك في الكتب الفرنسية التي وقفنا عليها وهي أحق بالمعرفة، فلما وصل القنصل إلى بارجة الأميرال أخبر نابوليون أن العمارة الإنكليزية، تحت قيادة نلسون، كانت هنا منذ ثلاثة أيام «أي: 28 يونيه سنة 1798» وروى له ما قاله الإنكليز من تفتيشهم على العمارة الفرنسية، وأن الترك قد داخلهم الفزع، فأخذوا في تحصين المدينة، وأقلعة المتاريس، وأن المسيحيين في الثغر في أشد درجات الخطر، بحيث سار من اللازم الإسراع في احتلال المدينة، ولم يكن نابوليون في حاجة للتحريض على الإسراع، فإنه ما كاد يسمع بعبقريته نلسون قريبا من الإسكندرية، حتى داخله الفزع، وأصدر أمره في الحال بالتحول إلى جهة العجمي، وبرج مرابوت «قلعة قايتباي» لإنزال الجنود ليلا إلى البر فعارضه الأميرال في ذلك؛ لأن الجو قد تغير في آخر النهار قائلا: إن نلسون لا يمكن أن يعود قبل بضعة أيام.
قال بوريين في مذكراته عن ذلك اليوم - وكان بوريين مرافقا لنابوليون في باخرته - «فلما قال الأميرال إن نلسون لا يعود قبل بضعة أيام، عارض نابوليون واحتد قائلا: يلزمنا أن لا نضيع دقيقة واحدة، فقد أعطاني الحظ ثلاثة أيام فإذا لم انتهزها خسرنا كل شيء.»
अज्ञात पृष्ठ