नेपोलियन बोनापार्ट इन मिस्र
نابوليون بونابارت في مصر
शैलियों
إهداء الكتاب
1 - مصر قبل الحملة الفرنسية
2 - تاريخ فكرة الحملة الفرنسية على الديار المصرية
3 - الحملة الفرنسية في الإسكندرية
4 - استعداد الحملة للسير في فتح مصر
5 - في القاهرة
6 - القاهرة قبل الواقعة
7 - الواقعة
8 - القاهرة يوم الواقعة
9 - النظام الذي وضعه نابوليون لحكومة مصر
अज्ञात पृष्ठ
10 - الدور الأول (من 1 يوليو-13 أغسطس)
11 - الدور الثاني (أغسطس-22 أكتوبر/10 جمادى الأولى)
12 - ثورة القاهرة
13 - الدور الثالث (من أول نوفمبر سنة 1788 إلى آخر أغسطس سنة 1799)
14 - المدة الثانية
15 - العودة لمصر من سورية
16 - الأحوال والحوادث في مصر أثناء الحملة السورية
17 - المدة الأخيرة لنابوليون في القطر المصري
ذيل أول
ذيل ثان
अज्ञात पृष्ठ
إهداء الكتاب
1 - مصر قبل الحملة الفرنسية
2 - تاريخ فكرة الحملة الفرنسية على الديار المصرية
3 - الحملة الفرنسية في الإسكندرية
4 - استعداد الحملة للسير في فتح مصر
5 - في القاهرة
6 - القاهرة قبل الواقعة
7 - الواقعة
8 - القاهرة يوم الواقعة
9 - النظام الذي وضعه نابوليون لحكومة مصر
अज्ञात पृष्ठ
10 - الدور الأول (من 1 يوليو-13 أغسطس)
11 - الدور الثاني (أغسطس-22 أكتوبر/10 جمادى الأولى)
12 - ثورة القاهرة
13 - الدور الثالث (من أول نوفمبر سنة 1788 إلى آخر أغسطس سنة 1799)
14 - المدة الثانية
15 - العودة لمصر من سورية
16 - الأحوال والحوادث في مصر أثناء الحملة السورية
17 - المدة الأخيرة لنابوليون في القطر المصري
ذيل أول
ذيل ثان
अज्ञात पृष्ठ
نابوليون بونابارت في مصر
نابوليون بونابارت في مصر
تأليف
أحمد حافظ عوض
إهداء الكتاب
إلى زوجتي العزيزة التي لولا تعضيدها ومساعدتها ما أمكن تأليف هذا الكتاب.
أحمد حافظ عوض
«أفي استطاعتنا أن نكتب التاريخ؟ وهل في استطاعتنا أن نستخلص أو نستخرج من نص أو وثيقة، أقل أثر من روحها أو حقيقتها؟ إنما أمرنا أن نعتمد على صيغة النص ببساطتها، ونتمسك بعبارتها، فالصيغة هنا هي التي لها القيمة والوضوح، أما روح التأليف فليس بمحدود، وأما الأفكار والمعاني فإنما يسار فيها على الهوى! ... لا بد أن تكون عظيم الغرور وواسع الخيال حتى تقدم على كتاب التاريخ!»
بالزاك “Est-Ce.que noue ecrirons l’histoire, nous? Est-ce que non essayons: d’extraire d’un texte, d’un document la moindre parcelle dc vie Ou de vérité? Nous publions Ics textes purement et Sirppirmemi Nuns nous en fenons à La lettre، La lettre est seule apprédabic et definie، L’esprit ne l’est pas; les idées sont des faniaisies، II faut ètrc blen vain pour écrire، l’histoire; il faut avoir dc l’imagination.”
Balzac
अज्ञात पृष्ठ
نابوليون الأول «إمبراطور».
مقدمة الكتاب
بقلم أحمد حافظ عوض
لكل شيء تاريخ، وللتاريخ تاريخ، ولهذا الكتاب تاريخ؟
وأول ما يجب أن يبدأ به، بعد حمد الله وشكره على توفيقه وإلهامه، هو ذكر السبب الذي دعا إلى وضع هذا الكتاب أو تاريخ الفكرة فيه، وكيف تقلبت به الأحوال، حتى ظهر على هذا الشكل والمنوال.
وفي اعتقادي أن مصارحة الناس بالحقيقة عن فكرة وضع كتاب، أو إتمام عمل من الأعمال العامة التي تعيش بعد صاحبها، أو يقدر لها الخلود بين النفائش الأدبية، والآثار القومية، لمما يساعد الأجيال الخالفة على تقدير الكتاب، وتقدير ظروف واضعه، وتجلو صدأ الحقيقة عن قيمة العمل ومنزلته، في الفترة الزمنية التي وضع فيها هيكله، وتم فيها بناؤه، وتلك مهمة تاريخية أيضا، وكأنها تاريخ للتاريخ! •••
منذ عدة سنوات قام بنفسي خاطر أن أضع كتابا في تاريخ مصر الأحدث؛ أي: في القرن التاسع عشر، يبتدئ بالحملة الفرنسية، وينتهي بعهد اللورد كرومر.
ولكن هذا الخاطر لم يتجسم، ولم يأخذ شكلا محددا، ولم تساعد الحياة الصحفية القلقة، التي قضت علي بها المقادير، على الانقطاع لعمل كهذا، خصوصا وأنا أطمع - فيما أطمع - أن لا أضع كتابا في التاريخ، على الأسلوب الذي اعتاده كتاب اللغة العربية، من جمع وتنسيق، بغير بحث ولا تدقيق ولا تحقيق، مما يحتاج إلى دراسة وانقطاع، ومحاكاة للأسلوب الغربي الحديث في كتابة التاريخ والخوض في عبابه.
وكل ما كان له من الأثر في نفسي، من جراء تلك الفكرة، الرغبة في الاطلاع على الكتب الإفرنجية التي وضعها المؤلفون والسياح عن تلك الفترة، من العهد الأول؛ أي: قبيل الحملة الفرنسية وخلالها وبعدها، وبقيت هذه الرغبة تتنازعني بشدة مرة، وبلطف أخرى، ثم تعقبها فترة إهمال وترك، حسبما تتلقفني أيدي المقادير من حياتي التي أشرت إليها.
ومرت عدة سنوات ولم أجمع إرادتي مرة للجلوس على مكتب لوضع خطة لتنفيذ ذلك العمل الذي ملت إليه، وهكذا بقيت فكرة وضع هذا التاريخ أشبه بما وصفه اللورد روزيري - في كتابه عن نابوليون في سانت هيلين - «بشيطان أدبي»
अज्ञात पृष्ठ
1
متسلط على جسمي، أغالبه ويغالبني، وأطارده ويطاردني، حتى أراد الله ولا راد لإرادته، أن يندلع لهيب الحرب الأوروبية الكبرى في شهر أغسطس سنة 1914.
وكنت في ذلك الوقت أتولى رياسة تحرير جريدة المؤيد بعد وفاة مؤسسها المرحوم الشيخ علي يوسف، وكان المؤيد لسان حال السراي الخديوية، وصلتي الشخصية والعمومية بسمو الخديو السابق عباس حلمي باشا معروفة، ولها في تاريخ مصر السياسي صحيفة ذات قيمة عظيمة لم يؤن بعد أوان نشرها، فكان من مقتضى هذه العلاقة، أن يصيبني رشاش من النكبة التي أصابته بفقدان عرشه وملكه، ففقدت كل ما لدي، وكل عمل أتكسب منه، فتركت تحرير المؤيد، ونار الحرب مشتعلة، والظروف قاسية، والريبة بين الناس فاشية، وسيف السلطة العسكرية مصلت على الرقاب، ولي زوج وأولاد صغار، أخشى أن يحال بيني وبينهم بالنفي أو الاعتقال، فاخترت العزلة، مع التلطف والاحتيال، وانتقلت بأسرتي إلى الإسكندرية، ثم قضت بعد ذلك السلطة العسكرية الإنجليزية بأن لا أبرح ذلك الثغر، وأن أبقى فيه تحت إشرافها وسيطرتها، حتى تضع الحرب أوزارها.
وحمدت الله، «الذي لا يحمد على مكروه سواه» على الخلاص من النفي أو الأسر أو الاعتقال، إلى غير ذلك من ضروب الاضطهاد التي لاقاها المشتغلون بالسياسة الوطنية، وخصوصا كل من كانت لهم علاقة مثل علاقتي، أو أقل منها بكثير، مع سمو عباس باشا حلمي الخديوي السابق.
ومع أنني كنت في بيتي، مع زوجي وولدي في مدينة واسعة الأكناف، إلا أنني كنت مع هذا أقاسي ألم الاعتقال والضغط على الحرية، ورضوخي للاستبداد، واضطراري إلى الانتقال عن الحياة العمومية، الصحفية والسياسية.
فتحرك في صدري ذلك «الشيطان الأدبي»، وذكرني بكتاب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، ووسوس إلي بأن الاشتغال بتأليف هذا الكتاب مما يساعد على قطع رقبة الفراغ بسيف العمل، فكان من أثر ذلك أنني استعنت بالله وبدأت في وضع الهيكل الذي يشاد عليه بناء الكتاب، وقسمته في الهيكل إلى أربعة أجزاء بحيث يكون في كل جزء رجل أو رجلان كبيران، الأول عن الحملة الفرنسية حتى خروج الفرنسيين من مصر بيد الترك والإنجليز، وبطلا هذا الجزء نابوليون بونابرت وكليبر، والثاني من خروج الفرنسيين إلى وفاة محمد علي وبطلاه محمد علي وإبراهيم، والثالث من وفاة محمد علي إلى الاحتلال الإنجليزي، ورجله إسماعيل، والرابع من الاحتلال البريطاني إلى الحرب الأوروبية وبطلاه عباس وكروم.
هكذا كان الهيكل، وهكذا كانت النية! •••
وبدأت أبحث وأنقب، وأجمع وأرتب، ثم بدأت أكتب، فرأيت أنه لا بد لبيان الحالة السياسية والاقتصادية والأدبية والاجتماعية، التي كانت عليها مصر قبل قدوم الحملة الفرنسية، من أن أضع مقدمة وافية، واستطردت في ذلك، وخصوصا لما وقعت في يدي كتب قيمة قديمة لم أكن قد قرأتها، وفيها معلومات غريبة، مثل كتاب «ثورة علي بك الكبير» المشار إليها في هذا الكتاب، وغيره من كتب السياح مثل قولني، وبروس، وبراون، وسونيتي، وسافاري، ودينون، فطال البحث حتى بلغ في المقدمة أربعا وستين صحيفة من هذه الطبعة بحرفها الصغير هذا.
ثم رأيت من الضروري أن أضع للقارئ العربي مقدمة أخرى عن تاريخ «فكرة الحملة الفرنسية» على مصر، وأسبابها السياسية والدولية، وكيف تطورت الفكرة في عصور مختلفة، وكان لا بد كذلك من فصل موجز واف عن نشأة وتاريخ نابوليون الذي فتح مصر للعالم الأوروبي، وكان له في هذه الديار، وفي العالم أجمع شأن عظيم.
ولا بد من بيان كيف اختمرت فكرة الحملة في رأسه، وهل جاء مصر راغبا أو مكرها، واستغرق هذا البحث وذاك ما يقرب من مائة صحيفة.
अज्ञात पृष्ठ
كل ذلك قبل الدخول في الحملة الفرنسية.
وتفتحت معي الأبواب، وتشعبت المسال، ووجدت نفسي أسبح في بحر خضم من عويص المباحث، ومختلف الكتب والرسائل، والمذكرات الشخصية والعمومية عن الحملة الفرنسية، بحيث لم أصل - بعد مزاولة العمل خلال سنوات أربع، تتخللها فترات انقطاع واشتغال بشئون الحياة - إلى نقطة يحسن الوقوف عندها، إلا نقطة مبارحة نابوليون أرض مصر، وجاء ذلك في هذا المجلد الضخم بهذا الحرف الصغير!
وكل ذلك لم يرد على نصف الجزء الأول من هيكل الكتاب كما كنت قد رسمته وصورته في مخيلتي، فوقفت ثم أخذت أبحث عن كتب لم أطلع عليها، ومذكرات لم تصل يدي إليها، فاتسع المجال، وانفسح ميدان الخيال. •••
وألقت الحرب أوزارها وارتفع كابوس الاعتقال، فطويت صحائف الكراريس والمسودات والتعليقات والمذكرات، وهرعت إلى ميدان العمل في النهضة الوطنية، والحركة السياسية والصحافية، على أمل أن أعود إلى الكتاب فأتمه وأكمل ما فيه من نقص في فرصة أخرى.
ومرت على ذلك سنوات خمس والكتاب في صحائف مبعثرة، وأوراق متناثرة، ومذكرات ومقتطفات متنوعة، وتعليقات متوزعة ... وقد مل شيطاني، وهجر دماغي؛ لأنها امتلأت كخلية النحل، بكثير من المشاكل التي تلهي عنه، وكدت أنسى ما كتبته حتى أهملته، لولا حنين كان يتولاني من آن لآخر، ولولا أن زوجي الفاضلة كانت تذكرني به في أوقات مختلفة؛ لأنها اشتركت فيه معي بروحها، وبمساعدتها لي في تعريب بعض القطع من الفرنسية إلى العربية، في الأيام التي قضيتها معها في شبه منفى بالإسكندرية، ومع كل هذا فلم أقدم على مباشرة طبع الكتاب أو تنقيحه؛ لأنني اعتقدت أنه عمل ناقص، وأنه ليس في مقدوري ولا من رغبتي أن أتمه، وكنت أسوف، وأؤمل أن أنقطع له مرة أخرى، ولكن الفرص لم تتهيأ والظروف لم تساعد.
وحدث أنني مرضت ذات مرة في صيف العام الماضي وتولاني يأس من الحياة وخيل لي أن المنية عدت قاب قوسين أو أدنى، فكان أشد ما يحزنني أنني قد أموت قبل أن أبرز للوجود هذا الذي عملته! فلما من الله بالشفاء نظرت إلى مسودات هذا الكتاب، وقلت في نفسي: قد أمرض ثانية وأموت ولا يتم هذا العمل ولا يطبع ولا ينشر، وهيهات أن يتولى إنسان تنقيحه وطبعه بعدي، وهكذا يزول من الوجود أثر من عمل أجهدت فيه نفسي، وانصرفت إليه بكل ما في روحي من لذة معنوية ورغبة صادقة أدبية ووطنية.
فخطر لي أن أبدأ بطبع ما كتبت وأن أكتفي بما إليه وصلت، ولئن يظهر هذا العمل، على غير إرادتي، ناقصا - أو بعبارة أخرى، أقل مما كانت تصبو إليه نفسي، وتتوجه إليه مطامعي - فذلك أولى من أن لا يظهر مطلقا، وأولى من أن تعدو عليه العوادي فتذهب به كأن لم يكن، وكأن لم أقض في مزاولته عدة سنين من زهرة الحياة!
واختمر هذا الرأي بنفسي فأقدمت، وشرعت في طبع ما كتبت، وأنا آسف على أن الزمن لم يسمح لي بأن أصل بالكتاب إلى ما أردت، أو ما إليه طمحت!
ومع ذلك كانت تعاودني رغبة الإصلاح والإتقان فكنت أمعن في البحث والفحص، وكثيرا ما كنت أوقف الملزمة أسبوعا وأسبوعين حتى أحقق بعض النقط في بعض المصادر التي كنت أعثر عليها في المكاتب، ثم أحور وأغتر، وأزيد وأنقص، وقد صبر معي القائمون «بمطبعة مصر» صبرا جميلا يشكرون عليه، حتى وصلت إلى النتيجة التي يراها القارئ بين يديه.
وها هو الآن بين يدي قراء اللغة العربية وأترك لهم الحكم عليه وعلى قيمته وحقه في المنزلة التاريخية والعمل الأدبي، وكيفما كان حكمهم الذي يصدرونه عليه، فإنني واثق من شيء واحد، وهو أنهم سيعترفون معي أنني وضعت أسلوبا جديدا في كتابة التاريخ العربي، وأنني رسمت خطة لمن يريد أن يقتفي أثرها ويزيد في تحسينها وإتقانها، وأنني بعراة أوجز قد أزلت بعض الأنقاض، ورفعت قليلا من الأتربة المتراكمة في طريق من يريد السير في إتمام هذا العمل.
अज्ञात पृष्ठ
ويرى القارئ في هذا الكتاب إشارة إلى ما كابدته وقاسيته من صعوبة البحث، ومن إظهار الأسف من أن الحكومة المصرية، وكتاب اللغة العربية منذ زمن محمد علي، لم يظهروا أقل عناية بوضع كتاب مفصل عن تاريخ الحملة الفرنسية، من المصادر العديدة والمجلدات الضخمة الموضوعة عن هذه الفترة باللغة الفرنسية، مع تحقيق كان أقرب سهولة في أيام محمد علي باشا وإبراهيم باشا مثلا، منه في هذا الزمن بعد طول المدة وانقراض الذين عاشوا في تلك الأيام القريبة، فأوجه نظر القارئ إلى تلك الملاحظة.
ومن هذا البيان يظهر للقارئ المفكر أنني في هذا الكتاب لم أقم إلا بنصف الجزء الأول من الأجزاء الأربعة التي وضعتها هيكلا لكتاب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، فهل من يقدم على إتمام الأجزاء الباقية على هذا النمط أو أحسن منه؟ أما أنا فلا أؤمل أن أوفق للزيادة على هذا الذي فعلت، إلا أن يشاء الله غير ذلك. •••
ولما لم يعد الكتاب تاريخا كاملا لمصر في القرن التاسع عشر، كما أردت، ولم يصبح تاريخا كاملا للحملة الفرنسية من بدئها إلى نهايتها، اخترت له اسمه الحالي «فتح مصر الحديث»؛ لأن اليوم الذي وطئت فيه قدم نابوليون بونابرت أرض مصر بحملته، كان يوما فاصلا بين القديم والحديث، وكان فتحا لباب مصر ومسألتها على مصراعيه للتدخل الأوروبي، وقد قلت في هذا الصدد: «كان ظهور السفن الفرنسية، بمن نقل من جنود وضباط وقواد وعلماء، وذخائر وبنادق ومدافع، فاتحة عصر جديد لمصر، بدأ بالاحتلال الفرنسي، تحت قيادة أعظم القواد الحربيين الذين أظهرهم هذا الوجود، ثم عقب بالنزاع بين أوروبا، حول هذه البقعة المسماة وادي النيل ... ذلك النزاع الذي ما برح يظهر على جميع الأشكال، وغريب الأحوال، من مطاردة الفرنسيين وإخراجهم، إلى معاضدة المماليك، بإنزال قوة إنكليزية على الشواطئ المصرية، ثم بمقاومة محمد علي، وإيقافه عند حد لا يتعداه، في مشروعاته ومطامعه، ثم بالمعارضة في فتح قنال السويس، إلى التدخل في أمور مصر المالية، حتى كانت الثورة العربية، والاحتلال الإنكليزي والحماية الظاهرة، والمقنعة ... كل هذه الحوادث والمشاكل خلقها وضع فرنسا قدمها في مصر، فإنه من ذلك الحين، أوجست إنكلترا خيفة من تعاظم نفوذ أية دولة أوروبية في وادي النيل، أو تقوية أية سلطة محلية، مما قد يكون عائقا في تنفيذ سياستها القاضية بأن يكون طريقها إلى الهند في يدها ... فكان لها القدح المغلي في كل هاتيك الحوادث والمشاكل، إلى أن استقر قدمها في مصر، عقب الثورة العرابية ... ومع ذلك فستبقي مصر سببا لمشاكل أوروبا ومنازعاتها وحروبها، حتى تنال استقلالها التام بطريقة تجعل الباب مفتوحا، والثقة في التساوي كاملة، أو يحكم الله بأمر من عنده وهو خير الحاكمين». •••
لهذا سميته «فتح مصر الحديث»؛ أي: فتحها للنزاع الدولي, والمدنية الأوروبية، والمستقبل السعيد لوادي النيل من البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة فكتوريا نيانزا.
ولن يقف في سبيل الوصول إلى هذه الغاية، بهمة الجيل الجديد، والقومية الحديثة والتقدم إلى الأمام أحد، كائنا من يكون!
هذا هو اعتقادي في مستقبل مصر الكبرى، أضعه أمام أبنائنا وأحفادنا منارا يهتدى به، وغاية تتوجه إليها النفوس والقلوب والعقول.
والله سبحانه وتعالى يحقق للناس ما يتوجهون إليه بإخلاص ومثابرة وعزم صادق.
القاهرة في 11 ديسمبر سنة 1925
هوامش
الفصل الأول
अज्ञात पृष्ठ
مصر قبل الحملة الفرنسية
قبل الدخول في الكلام على الحملة الفرنسية على مصر وأسبابها، وكل ما يتعلق بها مما هو موضوع هذا الكتاب، نرى من الواجب علينا أن نستفتحه بمقدمة وافية عن الحالة التي كانت عليها مصر قبل تلك الحملة.
فنقول: كانت الديار المصرية منذ منتصف القرن الثالث عشر، إلى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي؛ أي: إلى يوم سقوطها في يد نابوليون، تحكمها وتتحكم في رقاب أهلها، طبقة المماليك من بقايا الطبقة الثانية منهم، ولكي نوفي التاريخ حقه يجب علينا أن نشرح للقارئ، بإيجاز يليق بالمقام، من هم المماليك، وما هو أصل نشأتهم، وأسباب قوتهم، وبقاء سطوتهم، ونوضح بقدر الاستطاعة، الدور الذي لعبوه، في تاريخ الشرق والإسلام إلى يوم انقراضهم.
يبتدئ تاريخ المماليك بإقبال أواخر خلفاء الفاطميين على شراء المماليك الشبان بكثرة من قارة آسيا لاتخاذهم عبيدا وحراسا وبطانة، واستمرت هذه الحال حتى زمن الدولة الأيوبية، وقد استفاد بهم صلاح الدين أعظم الفوائد، فإنه ألف من أولئك المماليك الأشداء الأقوياء جيوشا قهر بها أوروبا في جميع الحروب الصليبية، ولكن خلفاءه ضعفوا عن أن يستخدموهم كما استخدمهم صلاح الدين، حتى إذا ولي الحكم الملك الصالح، أكثر من ابتياع المماليك، وجعل منهم أمراء دولته وخاصة بطانته، فصار لهم من النفوذ ما جعلهم يتخذون لهم دورا خاصة، في جهات منيعة تحكم على المدينة «في جزيرة الروضة بالمنيل»، ومن أجل ذلك لقبوا «بالمماليك البحرية» ثم أشتد ساعدهم، وقوي جاههم، وفعلوا بالدولة الأيوبية على ضفاف النيل، مثل ما فعل أشباههم، وأبناء نوعهم، في الدولة العباسية على ضفاف الدجلة؛ إذ انتهى الأمر بهم إلى قتل آخر ملوك الدولة الأيوبية وهو السلطان «نوران» المعظم في نفس الوقت الذي كان فيه لويس الحادي عشر - الذي يلقبه كتاب الإفرنج بالقديس لويس - يحاول بعد حبسه أن يعقد معهم اتفاقية سياسية في عام 1350 ميلادية. •••
مثل المماليك في تاريخ الدول الإسلامية، والمماليك الشرقية، دورا مهما جعل من الواجب على المؤرخين، أن يضعوا له بحثا خاصا، وتحقيقا دقيقا، ليظهروا ما كان لتلك الطبقة من الأثر الطيب أو السيئ، وليشرحوا أيضا ما إذا كان في ظهورهم، وتقوية شأنهم، بل وفي ذكائهم ونشاطهم، وقوة بأسهم، فائدة للأمم الإسلامية، بحيث استطاعت أن تردد وقتا ما بأولئك المماليك غارات الأمم المسيحية، من القرن الثالث عشر إلى القرن التاسع عشر؟ أو هل كان ظهور أولئك المماليك على مسرح السياسة الشرقية الإسلامية، سواء في آسيا، أو شمال إفريقيا سببا في اضمحلال النهضة العربية الإسلامية الصحيحة، وقضاء على الحياة العلمية الفكرية، التي ابتدأت في الأزهار على شواطئ دجلة والفرات والنيل، في عهد الدول الأموية والعباسية، والفاطمية، وما تفرع من الدول العباسية من الدول الصغيرة، كدول بني بويه وحمدان وغيرهما.
إن الجواب الصحيح على هذه الأسئلة يحتاج إلى بحث مفصل، وتحليل دقيق، في مؤلف خاص بهذا الموضوع، وهو ما لا يحتمله هذا الكتاب الذي وضع لغرض آخر، وزمن أحدث، ولكنني أغتنم هذه الفرصة لألفت إليه نظر محبي المباحث التاريخية: وفي رأيي أن الحكم في هذا الباب مجازفة لا تصح، قبل عرض جميع الحوادث ونتائجها، وأسبابها، ومسبباتها، ومن وجوهها المختلفة.
على أن الذي يهمني من بحثي هذا من الوجهة المصرية الوطنية القومية، هو أنني أميل إلى الرأي، بأن المماليك وخصوصا الطبقة الثانية منهم كانوا سببا في بلاء هذه الديار، وعذاب أهلها مدة طويلة من الزمان؛ إذ صيروا وادي النيل، ميدانا للسلب والنهب والمظالم، كما سترى ذلك مفصلا في بابه. •••
كلمة «مملوك» اسم مفعول من «ملك»، وهو ظاهر المعني لا يحتاج لإيضاح وقد ذكر المؤرخون أن منشأ المماليك في جهات «قفجان» من شمالي آسيا، وأنه لما غزا المغول تلك الأصقاع تحت قيادة بانوخان حفيد جنكيز خان، سلموا أهلها الذل، وفتكوا بهم فتكا ذريعا، حتى هاجر سكان الولايات القسبينية والقوقاسية ديارهم، فضعفت قبائلهم وتشتت في بلاد آسيا الصغرى، وكانت تجارة الرقيق الأبيض والأسود في شدة انتشارها، فكان النخاسون يبتاعون أحسن أبنائهم وأجملهم وأقواهم، من أقاربهم أو آبائهم، أو كانوا يختطفونهم فيبيعونهم لمن أرادوا من أمراء وأغنياء الديار السورية والعربية والمصرية، فيشب الفتى وقد نسي قومه وجنسيته، واندمج في سلك أمثاله المماليك تحت رعاية كبير منهم، أو أمير من أمراء العرب أو غيرهم، يقربونهم إليهم، ويحبونهم لجمالهم وذكائهم وولائهم في خدمتهم، فيرقونهم بعد أن يشتد ساعدهم في بطانتهم، وعند ذلك تتطلع نفوسهم إلى مراتب العز ومنازل الإمارة والشرف بل إلى الملك ذاته؛ لأنهم كانوا يعرفون أن أمثالهم من المماليك الأرقاء الذين ابتيعوا صغارا، وربوا في أحضان أسيادهم وملوكهم، شبوا على الفروسية والإقدام، ووصلوا إلى أرقى مناصب الملك والسيادة، ولم يكن يخفى على صغيرهم قبل كبيرهم أن سلاطين المماليك - بعد الدولة الأوروبية - من عهد الملك الظاهر بيبرس، فالملك المنصور قلاوون، فالسلطان حسن، وبرقوق، وبرس باي، وقايتباي، وجميع ملوك هذه الدولة وسلاطينها لم يكونوا إلا مماليك، أو أبناء مماليك مثلهم، ولقد روى الإسحاقي في تاريخه رواية وهي وإن تكن من قبيل الأقاصيص التي لا يعتمد عليها المؤرخ، إلا أنها مثال للتصورات العقلية، والآمال النفسية، التي كانت تدور بخلد المملوك وهو رقيق صغير، روى الإسحاقي عن عبد الملك الأشرف قايتباي المحمودي، أنه لما جنبه الخواجا «كذا» محمود إلى مصر وكان معه رقيقه أحد المماليك الذي جلب معه تحدثا مع الجمال «قائد الجمل» الذي يحملهما إلى مصر في ليلة مقمرة، فقالا: لعل هذه الليلة هي ليلة القدر التي يستجاب فيها الدعاء، فليدع كل منا بما يحبه، فأما قايتباي فقال: أنا أطلب من الله تعالى سلطنة مصر، وقال الثاني: وأنا أطلب من الله أن أكون أميرا كبيرا، أما الجمال فقال: أما أنا فأطلب «حسن الخاتمة» فصار قايتباي سلطانا وصاحبه أميرا، فكانا إذا اجتمعا يقولان «فاز «الجمال» من بيننا!!»، فانظر كيف كانت تحدث المملوك نفسه بالرقي إلى مصاف الملوك!! فهل كان هذا رقا واستعبادا؟
لم يكن «الرق» الذي ينسبونه إلى المماليك إلا كلمة لا معنى لها؛ لأنهم لم يكونوا هم الأرقاء بحق البيع والشراء، بل كان الأرقاء، في الواقع ونفس الأمر، هم المصريون من جميع طبقاتهم ... •••
يقسم المؤرخون الحديثون من كتاب الشرق تاريخ المماليك في مصر إلى دولتين يسمون الأولى دولة «المماليك البحرية» وقد سموا بهذا الاسم؛ لأنهم في مدة حكم الملك الصالح، ابتنوا دورا كبيرة، ومعاقل متينة، عند الروضة حيث يتفرع نهر النيل إلى فرعين، ويسمى بالبحر الكبير، فلقبوا لذلك بالمماليك البحرية، ومادتهم على هذا التقسيم من سنة 1250 إلى 1381 ميلادية، ويسمون المماليك الذين خلفوهم من أول السلطان برقوق من سنة 1381 إلى 1517؛ أي: إلى الفتح العثماني، بدولة المماليك البرجية، «نسبة إلى الأبراج»، أو الشراكسة «نسبة إلى أصلهم».
अज्ञात पृष्ठ
ولما كان الفتح العثماني لم يقض على سلطة المماليك، بل زادها بعد ذلك عتوا وتجبرا، كان الأولى - على رأيي - أن يقسم تاريخ المماليك في الديار المصرية إلى قسمين على النمط الآتي:
الأول:
من سنة 1250؛ أي: بعد انقراض الدولة الأيوبية إلى سنة 1517 وهو تاريخ الفتح العثماني.
الثاني:
من 1517 إلى 1811؛ أي: إلى أن قضى «محمد علي» على البقية الباقية منهم في مذبحة المماليك المشهورة بالقلعة.
ولا عبرة بقولهم إن القسم الأول من المماليك البحرية كان من جنس غير جنس المماليك الشراكسة «الذين يبتدئون على حسب آراء المؤرخين الحديثين، من تولية السلطان الظاهر برقوق الجركسي»؛ لأن المماليك في أول أمرهم وفي أواخر الدولة العباسية، إلى مذبحة القلعة، لم يكونوا من جنس خاص، ولا من أمة معلومة، بل كانوا دائما خليطا ممن يباع ويشترى من الفتيان الحسان الأقوياء، سواء أكانوا من شواطئ بحر قزوين، وأواسط آسيا، من تتر ومغول وشركس، أم كانوا من بحر إيجة من الأروام، وجزر البحر الأبيض المتوسط، وهذا السلطان الظاهر «حوشقدم»، من مماليك الطبقة الأولى، يلقب بالرومي؛ لأنه يوناني الأصل، ويلقب بالناصري، ومع إسلامه، كان له ولع بالعلوم والآداب اليونانية القديمة، وربما كان فيهم من أجناس مختلفة من الشعوب القائمة حول الأدرياتيك، أو من جزائر إيطاليا والبحر الأبيض على الإجمال.
ولولا أن المماليك كانوا في القسم الثاني، أتباعا للدولة العثمانية، ولو بالاسم، وأنهم لم يلقبوا أنفسهم بألقاب «الملك» و«السلطان» - اللهم إلا أن يكون واحد منهم وهو علي بك الكبير سنة «1763-1774»م - لما كان ثمت داع إلى تقسيم مدتهم إلى دورين، ولاكتفينا واكتفى المؤرخون بالقول بأن المماليك حكموا مصر من عام 1350 إلى حوالي 1811، مع استثناء مدة الاحتلال الفرنسي، وأول ظهور سلطة محمد علي.
القسم الأول
كان مماليك القسم الأول من عام 1250 إلى الفتح العثماني أرقى أخلاقا وأفضل سياسة، وكان يظهر فيهم من وقت لآخر فحول سياسة ورجال عدل ونظام ورفق بالرعية، وكان مما يصلح شأنهم، أن الوراثة كانت توجد بينهم من وقت لآخر مما ثبت دعامة الملك، ولم يدعها مطمعا لكل سفاك للدماء طامح للسلطة والإمارة.
امتاز مماليك هذه الطبقة بما تركوه في القاهرة وضواحيها من الآثار النفسية، والمساجد البديعة النادرة المثال، وما أبقوه من العمائر التي تدل على ذوق راق ورفاهية تضرب بها الأمثال.
अज्ञात पृष्ठ
يقول العلامة «لاين بول» في كتابه المسمى «القاهرة»:
لقد جمع هؤلاء المماليك بين المتناقضات التي لم تجمع في طبقة من الأمراء في أي زمان أو مكان، فبينما نعرف أنهم عصبة من الأفاقين ابتيعوا بيع السلع، ونشئوا أرقاء، وربوا سفاكين للدماء، ظالمين للعباد، مخربين للبلاد، نجد منهم ميلا غريبا للفنون، يحق لأي ذي عرش وصولجان أن يفخر به على الأنداد والأقران، ولقد أظهر هؤلاء المماليك في لباسهم، وفراشهم ومسكنهم، وعمائرهم ذوقا ساميا، ورفاهية بالغة، يصعب على أوروبا الآن، في عصرها «الاستاثيقي» المحب للجمال والتأنق، أن تدانيهم فيه.
انظر إلى ما يوجد الآن في القاهرة من المساجد الكبيرة التي تناطح مآذنها السحاب تجد أنها بنيت في عصر مماليك الطبقة الأولى ... انظر إلى جوامع قلاوون، والناصر، والناصر بن قلاوون، والسلطان حسن، وبرقوق والمؤيد، والإشرافية وقايتباي، ثم انظر إلى قباب قبور المماليك بالصحراء، تر من جلال البناء، وبديع العمارة ما لا يدانى وكل ما بني بعد ذلك في العصر الأخير من القرن التاسع عشر، إنما هو تقليد وتشبيه بهايتك العمائر، التي تفخر بها القاهرة على مدن العالم.
من أين للمماليك بتلك الثروة؟
هنا لا يجد المؤرخ المحقق مناصا من النظر إلى الحالة الاقتصادية التي كانت عليها مصر في تلك المدة؛ لأن موارد مصر معروفة، وهي هي في كل عصر من حيث الثروة الزراعية، والتي لا يوجد في وادي النيل مصدر سواها، ولم تكن تربة مصر في ذلك الحين كانت أخصب مما هي الآن، بل لم تكن لحاصلاتها أسواق تباع فيها بأزيد مما تباع به اليوم، فمن أين كان للمماليك ذلك اليسار وتلك الثروة الواسعة، وتلك الأموال التي استطاعوا الإنفاق منها على بنائها تيك العمائر، وعلى ما كانوا ينعقونه على ترفهم ونعيمهم، وشراء المماليك والسراري، ولم يكن ثمن المملوك مما يستهان به، فكثيرا ما ذكر المؤرخون أنهم كانوا يبتاعون المملوك أو الجارية بألف أو ألوف من الدنانير، وقد جاء في بعض التواريخ أن السلطان سليمان لما فتح مصر ووضع نظام حكومتها - ذلك النظام الذي سنشير إليه، والذي ترك السلطة في يد المماليك وأدى إلى خراب هذه الديار - وأراد العودة إلى بلاده نقل معه ألف جمل محملة ذهبا وفضة، فضلا عن أسلاب أخرى وهدايا ثمينة.
ولم تكن في أرض مصر مناجم الذهب، ولا مصادر أخرى للثروة غير محصول الزرع - وكان المزروع منها قليلا، والنيل يغمر أكثر بلادها فلا يستفاد به في زمن الفيضان - فمن أين كانت لمصر وللمماليك كل هذه الثروة؟
لم أجد بين المؤرخين الذي نقبت في كتبهم من عني بهذه النقطة ووفاها حقها من البحث العلمي والتاريخي مثل مستر «كامرون»
1
فإنه وقف مثلما وقفنا عند حالة مصر الاقتصادية وسأل كما سألنا من أين كان يأتي المال؟ ثم جاء بالجواب الشافي بعد بحث واستقراء في المصادر الإنجليزية المختلفة من كتب وتقارير رسمية، فقال ما خلاصته:
إنه لما كان المماليك أصحاب السلطة المطلقة في مصر، وفي سوريا أيضا فقد وقعت في قبضتهم جميع الموانئ، وطرق القوافل التي توصل إلى أوروبا متاجر البلاد الهندية، وغيرها من بلاد الشرق الأقصى، بذلك تمكنوا من فرض الضرائب التي يريدونها على كل كمية من البضاعة الهندية التي تمر من طريق البحر الأحمر إلى القاهرة، ثم إلى الإسكندرية، وكذلك من طريق البحر الأحمر إلى القاهرة، ثم إلى الإسكندرية، وكذلك من طريق الخليج الفارسي إلى البصرة، وطريق القوافل منها فميناء إسكندرونة لتنقل منها إلى فينيسيا «البندقية» التي كانت واسطة لهم في إيصال المتاجر الشرقية إلى أوروبا، وقد بقي هذا الاحتكار الاقتصادي، المنتج للمال، في أيدي المماليك حتى اكتشف «فاسكودي جلعا» البرتغالي، طريق رأس الرجاء الصالح إلى المياه الهندية - ولم يكن قد دار أحد حول إفريقيا بحرا مثله.
अज्ञात पृष्ठ
ولكي يصور القارئ لنفسه مقدار الثروة التي كانت تدخل في أيدي المماليك، نضرب له مثلا، جاء به مستر كامرون، كما هو ... قال:
فلنفرض أن تاجرا من العرب ابتاع من البضائع الفارسية أو الهندية، أصنافا كالحرير والبهارات والنيلة، ما قيمته عشرة آلاف جنيه، ثم أرسل هذه البضائع بحرا إلى البصرة من طريق الخليج الفارسي، أو بحرا إلى السويس من طريق البحر الأحمر، وكان في الغالب يفضل إرسال تجارته عن طريق السويس فالقاهرة فالإسكندرية؛ لأن البصرة، وإن كانت أقرب إليه برا، ولكن طريق القوافل من البصرة إلى حلب فإسكندرونة أبعد شقة، وأصعب مشقة، وأكثر تعرضا للصوص ولهذا كانت طريق مصر عند التجار أضمن وأروج.
قدرنا بضاعة التاجر بنحو 10000 جنيه، وهذه البضاعة حين تفرغ من السفن في ميناء السويس نضرب عليها ضريبة لا تقل عن 4000 جنيه فيكون ثمنها على التاجر 14000 جنيه، وتقدر في أرض مصر بحرا وبرا بعشرين ألف، وفي مرور هذه البضاعة في أرض مصر يضاعف ثمنها حتى تباع في الإسكندرية بنحو ثلاثين ألفا «بما يدفع للمماليك الحكام من الضرائب المشروعة وغير المشروعة» لتاجر من تجار البندقية «فينيسيا» فلا يستطيع شحن هذه البضاعة في السفن لأوروبا قبل أن يدفع مبلغ 5000 جنيه ضريبة الإصدار، فيكون مجموع ما وصل - من ثمن البضاعة التي كلفت الأوروبي 35 ألف جنيه - إلى سلاطين المماليك وأمرائهم في أرض مصر، ما يقرب من 10000 جنيه؛ أي: نحو ربع ثمن البضاعة في تقديرها الأخير أو قيمة ثمنها الأساسي، وقس على ذلك.
وضرب المستر كامرون مثلا آخر نقله عن كتاب اسمه «تقرير عن المحفوظات القديمة لوزارة الهند» بقلم السرجورج بردوود ما يأتي: «ولا مبالغة فيما ذكرنا فإنه جاء في التقرير المشار إليه أنه في سنة 1620 صدرت الشركة الهندية الإنكليزية «التي امتلكت الهند» 200000 رطلا من النيلة، ابتيع الرطل منها في مدينة «آجرا» (في شمال الهند) بمبلغ 14 بنس (خمسة قروش ونصف) وبيعت في لندره على حساب الرطل الواحد بخمسة شلنات (أي: بخمسة وعشرين قرشا)».
ولاحظ أن هذا المثال المأخوذ من المصادر الرسمية كان في عام 1620 بعد أن استبدل طريق البحر الأحمر، والخليج الفارسي، بالطريق البحري حول رأس الرجاء الصالح؛ لأن اكتشاف هذا الطريق وقع في سنة 1498 وقد قدر التقرير المشار إليه نفقات طريق مصر والشام بثلاثة أمثالها في الطريق البحري؛ ولذلك يصح أن يقال إن ثمن الرطل النيلة كان يصل إلى 15 شلنا بعد خمسة.
ومما يجب ذكره في بيان إثراء المماليك من مركز مصر، أنه يضم إلى هذه أن المسيحيين في مقابل زيارتهم للقدس الشريف، كانوا يدفعون مبالغ من المال لمن تكون له السيادة على فلسطين من المماليك البحرية، فقد جاء في تاريخ الدولة العثمانية تأليف المرحوم محمد بك فريد «أن السلطان سليم لما فتح مصر وعاد إلى أدرنه وصل إليه سفير من قبل مملكة إسبانيا ليكلمه في شأن حرية زيارة المسيحيين للقدس الذي كان قبلا تابعا لسلطة مصر، وتبعها في دخولها تحت ظل الدولة العلية، في مقابل دفع المبلغ الذي كان يدفع سنويا للمماليك.»
ومن هذا يظهر للقارئ أن التيار الذهبي الذي كان يسيل بتجارة الهند والشرق كلها إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، سواء من طريق مصر وهو الأكثر، أو من طريق سوريا، كان يمر في أيدي المماليك فيأخذون منه ما يشاءون من ضرائب ثم هدايا، ثم رشاوى، وهذا غير السلب والنهب، وبذلك استطاع المماليك في الدور الأول بناء كل هاتيك العمائر وشراء المماليك والبذخ والإنفاق.
وكان لهذا الحال الاقتصادية تأثير كبير على إدارة الأحكام في البلاد المصرية، فالثروة عادة تغطي العيوب وتدرأ المصائب، فكان المصريون من تجار وعمال يستفيدون من تلك التجار، الشرقية الغربية، بين بيع وشراء، وقيام بما تستلزمه من نقل وتوزيع، ولذلك كان اليسار فاشيا بين المصريين، وكان المماليك من جهة أخرى قانعين بما يفرضونه من الضرائب على المتاجر الأجنبية وما يدخل في خزائنهم من المال بحيث لم يروا ضرورة لظلم الفلاحين، ومصادرة التجار المصريين، واستلاب ما في بيوت الناس من خير وبركة، كما اضطر أن يفعله خلفاؤهم المماليك بعد الفتح العثماني، الذي حصل بعد اكتشاف طريق الرجاء الصالح وتحويل المتاجر الآسيوية بحرا إلى أوروبا، بزمن قصير جدا «الأول في 1498 والثاني في 1517».
اكتشاف الوصول إلى الهند بحرا وتأثيره على ثروة مصر
ولقد أثر اكتشاف طريق البحر حول إفريقية، على ثروة مصر تأثيرا كبيرا اضطر معه سلطان مصر في ذلك الحين، إلى أن يبعث بعمارة بحرية إلى مياه الهند لمحاربة البرتغاليين، وإتلاف سفنهم؛ لأن «فاسكودي غاما» البرتغالي لما دار حول رأس الرجاء الصالح، ثم وصل إلى الهند سنة 1498، وعاد منها إلى بلاده، حرض قومه «كما فعل قرينه كلومبوس بعد اكتشاف أمريكا» على امتلاك البلاد الهندية التي زارها، وفعلا احتلوا جزءا كبيرا من الجهة الغربية من الهند ولا تزال لهم مستعمرة برتغالية صغيرة للآن.
अज्ञात पृष्ठ
قال جورجي زيدان: في سلطنة «قانصو» الغوري «من 1501-1516» ما نصه: «ثم كانت الحوادث السياسية فتوقف الغوري عن إتمام ما كان يقصده من البناء والتحسين «في جامعه ومدرسته في أول شارع الغورية»؛ لأن البرتغاليين لما استولوا على بعض بلاد الهند أثقلوا على العلاقات التجارية بينها وبين مصر فجهز قانصو الغوري إلى محاربتهم حملة عظيمة ذهبت غنيمة باردة لجيوش الإفرنج في البحر الأحمر.» ا.ه.
بهذه العبارة الخفيفة مر المؤرخ جورجي زيدان على أكبر حادث في تاريخ «مصر الحديث» دون أن يقدر له قيمته، فأولا لم يذكر لنا كيف بعث الغوري بهذه الحملة العظيمة برا أم بحرا ... وقوله أثقلوا على العلاقات التجارية، لا يدخل في ذهن القارئ نورا يضيء له سلسلة الحوادث، وتأثير وجود البرتغاليين في الهند على ثروة مصر، بل وثروة الشرق كله؛ لأن الدولة العثمانية لم تدرك الخطر المحيق بأملاكها في مصر وآسيا من استيلاء الأوروبيين على البلاد الهندية، ولو أراد الله وأؤتي رجال الدولة العثمانية منعة في المدار السياسية، لفضلوا الاستيلاء على شواطئ الهند الغربية، على التوغل في أوربا فكانوا بذلك يمنعون المتاجر الهندية من الذهاب إلى أوروبا، قبل أن تمر ببلادهم، مصر أو سوريا، ثم كانوا ينشرون الدين الإسلامي في بقية البلاد الهندية، وكان الترك، بدلا من محاربتهم لجمهورية البندقية، واستيلائهم على جزر البحر الأبيض - تلك الجزر التي لم تبق في يدهم طويلا، وكلفت من الأموال والرجال ما لا يدخل تحت حصر - يتفقون مع فينيسيا على عدوهم وعدوها، وهو الاستعمار الأوروبي في آسيا.
ويرى الباحث من هذا أن سوء سياسة الدولة العثمانية كانت سببا في الإضرار بمصلحة مصر وثروتها، كما كانت من بعد سببا في تركها في أيدي مماليك الطبقة الثانية يسومون أهلها سوء العذاب، حتى صارت إلى ما صارت إليه، عند قدوم الحملة الفرنسية تحت قيادة نابوليون بونابرت.
والحق يقال أن جمهورية فينيسيا كانت أعرف بالخطر المحيق بثروتها وثروة مصر من الأتراك، فإنها هي التي حرضت السلطان الغوري على إرسال تلك الحملة إلى المياه الهندية، وهي التي أرسلت له بالأخشاب اللازمة لبناء السفن في البحر الأحمر، وكانت هذه الأخشاب تنقل على ظهور الجمال من الإسكندرية إلى السويس ويتولى عمال مهرة من الفينيسيين إنشاء السفن، ويؤكد السير بردوود في تقريره الذي سبقت الإشارة إليه، أن الفينيسيين اشتركوا بجيوش في الحملة المصرية البحرية، وذكر: أن ذلك الأسطول المصري سافر من السويس والتقى بالأسطول البرتغالي على شواطئ بومباي، وأن الأسطول المصري قهر البرتغالي وحطم سفنه ومات قائده واسمه «لورانزو المائيدا» “Lorenzo da Al Maeyda”
وهو ابن حاكم الولايات البرتغالية في الهند الغربية، وأخذ الهنود يقاومون البرتغاليين، ويقلبون لهم ظهر المجن، فخاف البرتغاليون العاقبة وجمعوا أسطولا جديدا قهروا به الأسطول المصري الفينيسي، في شهر فبراير سنة 1509 على مقربة من جزيرة ديو (Dio)
ولا شك أن هذه المعركة البحرية كانت من المعارك الفاصلة في التاريخ؛ إذ لو أتيح للمصريين الفوز الأخير، لقضي على الاستعمار الأوروبي في الهند إلى زمن طويل، ولبقيت مصر، وبلاد الدولة العثمانية، تتمتعان بثمار التجارة الهندية.
وعلى مثل هذه الحوادث الكبرى يمر مؤلفو تاريخ مصر، الحديث، مرورا غير لائق بمقام التأليف.
وكانت نتيجة تحويل التجارة الآسيوية عن طريق مصر عظيمة في إدارة البلاد ونظاماتها وثروتها، إلى درجة أدت إلى خراب مصر؛ إذ بقي المماليك، وبقي بذخهم، وبقي تعودهم على الترف والنعيم، وقل الوارد من الخارج، فتحولوا إلى امتصاص دماء المصريين حتى أوصلوهم إلى ما يقرب من الفناء، كما سيمر على القارئ فيما يلي:
الفتح العثماني لمصر
بعد ثمانية أعوام مرت على تلك المعركة البحرية في المياه الهندية أقبل السلطان سليم العثماني على مصر بجيش جرار وبعد وقائع ومعارك مع السلطان الغوري في مرج دابق، قرب حلب - وبعد معارك مع خلفه «طومان باي» بالقرب من الخانكة - دخل القاهرة «في شهر يناير سنة 1517» عنوة ولاقت العاصمة من جيوش العثمانيين الأمرين؛ إذ دار القتال في شوارعها وحاراتها، وأمعنوا فيها قتلا وسلبا، ونهبا وحرقا، حتى لقد بلغ عدد من قتل من جنود المماليك، ومن أهالي المدينة، أكثر من خمسين ألفا بشهادة مؤرخي الترك أنفسهم.
अज्ञात पृष्ठ
ومن هنا يبتدئ القسم الثاني لحكومة المماليك «1517-1798»؛ لأن السلطان سليم لما افتتح مصر كان في إمكانه القضاء المبرم، على المماليك الجراكسة وغيرهم، وكانت مصر استراحت من مظالمهم، وتمكنت الدولة العثمانية من وضع نظام إداري يجمع بين النفوذ العثماني، وبين تقدم الأمة المصرية، واستعمار هذه الديار على الطرق الحديثة، ولكنه على ما يظهر من جميع أقوال مؤرخي هذه الفترة الثقات خاف لبعد مصر عن مركز الحكومة العثمانية «ولم يكن ثمت سكك حديد ولا سفن بخارية» أن يستضعف أحد الولاة جانب المصريين، وهم دائما مستضعفون، ثم يبسط نفوذه في البلاد، ويستقل بها، وفي هذا الصدد يقول المرحوم علي باشا مبارك، في الجزء السابع من «خططه التوفيقية» ما خلاصته.
لما أخذ السلطان سليم مصر ورأى غالب حكامها من المماليك التي ورثوها عن ساداتهم رأى أن بعد الولاية عن مركز الدولة ربما أوجب خروج حاكمها عن الطاعة، وتطلبه للاستقلال، فجعل حكومة مصر منقسمة إلى ثلاثة أقسام وجعل في كل قسم رئيسا، وجعلهم جميعا منقادين لكلمة واحدة وهي كلمة وزير الديوان الكبير، وجعله مركبا من الباشا الوالي من قبله، ومن بكوات السبع وجاقات وجعل للباشا مزية توصيل أوامر السلطان إلى المجلس، وحفظ البلاد، وتوصيل الخراج إلى القسطنطينية، ومنع كل من الأعضاء عن العلو عن صاحبه، وجعل لأعضاء المجلس مزية نقض أوامر الباشا بأسباب تبدو لهم وعزله أن رأوا ذلك، وجعل حكام المديريات الأربع وعشرين من المماليك وخصهم بمزية جمع الخراج ... إلخ، ثم استطرد فقال: وبهذا الترتيب تمكنت الدولة العلية من إبقاء الديار المصرية تحت تصرفها نحو مائتي سنة، ثم أهملت تلك القوانين ولم تلتفت الدولة لما كان يحصل من المماليك في الأمور المخلة بالنظام فضعفت شوكة الدولة وهيبتها التي كانت لها على مصر، وأخذ البكوات تكثر من المماليك وتتقوى بها حتى فاقت بقوتها الدولة العثمانية في الديار المصرية فآل الأمر والنهي لهم في الحكومة، وصارت سلطة الدولة في مصر صورية غير حقيقية، ولو كانت الدولة العلية تنبهت لهذا الأمر ومنعت بيع الرقيق لكانت الأمور باقية على ما وضعها السلطان، ولكنها غفلت عن هذا الأمر كما غفلت عن أمور كثيرة، ومن ذلك لحق الأهالي الذل والإهانة وهاجر كثير منهم إلى الديار الشامية والحجازية وغيرهما، وخربت البلاد وتعطلت الزراعة من قلة المزارعين، وعدم الاعتناء بتطهير الجداول والخلجان التي عليها مدار الخصب وصار للبكوات الكلمة النافذة وانفردوا بالتصرف. ا.ه.
وقد أراد المرحوم علي باشا مبارك بقوله: «منع بيع الرقيق» هو شراء المماليك وتجنيدهم بواسطتهم أسيادهم الذين بقي لهم النفوذ المطلق في الديار المصرية على الرغم من توالي الولاة الذين كانوا يلقبون بالباشوات من الدولة العلية، ولخوف الحكومة العثمانية من ولاتها، ولرغبتها دائما في استرضاء المماليك، لكيلا يمنعوا الخراج عنها كانت لا تكاد تبعث بوال من عندها حتى تعزله وتعين بدله، وحتى لقد بلغ عدد ولاتها منذ الفتح العثماني إلى الاحتلال الفرنساوي - أي: من 1517 إلى 1798؛ أي: نحو 280 سنة - أكثر من مائة وال، قل من أقام منهم أكثر من عامين، وكثر من بدل كل عام، ولقد كان بعض أولئك الولاة، كما أثبت المؤرخون من أهل الكفاءة والإخلاص، وذوي الرغبة في إصلاح ما اختل من شئون هذه البلاد، فلا يكاد يشعر المماليك برغبته في الضرب على أيديهم، وكف مظالمهم، حتى يقرروا عزله، كما ترك لهم هذا الحق في النظام الذي وضعته الدولة لهم كما تقدم، فكان الوالي بمقتضى هذه الظروف، يوجه همته إلى إرضاء المماليك والتقرب منهم، وأخذ ما يستطيع أخذه من الأموال والطرف، ليعود إلى الآستانة مملوء الوفاض بادي الثراء.
وعلى الرغم من حيطة الدولة ورغبتها في أن لا يستبد أحد من المماليك بالسلطة في الديار المصرية، ومع ما كانت تبذله من الوسائل للتفريق بينهم وغرس بذور الأحقاد في صدورهم، فإنهم كانوا في الواقع ونفس الأمر مستبدين بحكومة البلاد وطالما ماطالوا الدولة في إرسال الخراج، بدعوى الحاجة إليه في إقامة الجسور أو حفر الترع وهم لم يفعلوا شيئا من هذا، أو بحجة قلة الفيضان وعجز المحصول وتأخر الأهالي عن دفع الضرائب، كما أن ذلك لم يمنع من اغتصاب الملك مرارا من الباشا الوالي وطرده من الديار المصرية، وبلغ الأمر في منتصف القرن الثامن عشر - أي: عام 1746 - أن قام المدعو إبراهيم بك القازضغلي، كخيا الإنكشارية «ميرالاي وجاق؛ أي: فرقة الإنكشارية» واتحد مع إسماعيل رضوان كخيا العرب، وقاوما الأحزاب الأخرى حتى استطاعا القضاء على عثمان بك الذي كان وقتئذ زعيم المماليك - أي شيخ البلد - وصارت مشيخة البلد لإبراهيم بك المذكور فصادر ممتلكات كثيرين من الأغنياء في القاهرة، ووضع يده على جميع محصولات البلاد والكمارك والقرى والمخازن، ولما عينت الدولة واليا جديدا لمصر عامله إبراهيم بك بالاحتقار فأراد الباشا الوالي الفتك به فلم يتيسر له ذلك، ثم لما ولي وال آخر غير ذلك وكان اسمه «راغب محمد» اتفق مع إبراهيم بك وحزبه مدة من الزمن، فلم يوافق ذلك سياسة الدولة فسعت للإيقاع بين واليها وبين البكوات، فبعثت له بالأوامر القاضية عليه بإبادتهم، فحاول ذلك ولكنه فشل، فلما عرف إبراهيم بك بمقاصده عزله .
وكان من مماليك إبراهيم بك المذكور «وكانوا يبلغون الألفين عدا» فتى يدعى «علي» اشتهر بالفروسية والإقدام، فرقاه سيده إبراهيم بك إلى رتبة البكوية، وكان لهذا المملوك شأن كبير في تاريخ مصر؛ لأنه خرج على الدولة لما وصل بدسائسه إلى مشيخة البلد، ثم أراد أن يستقل بملك مصر فتم له ما أراد، وفوق ما أراد.
ذلك أنه في سنة 1763 ميلادية تمكن علي بك هذا من أن يكون كبير المماليك، ولقب بشيخ البلد، ولكنه لم يصل إلى هذه الدرجة، إلا بعد منازعات وحروب مع أقرانه، ومنافسة مع المماليك أنداده، أدت إلى تخريب البلاد، والإساءة إلى العباد، إلى درجة أحرجت الشيخ الحفناوي أحد علماء الجامع الأزهر، «على ما بهم من جبن وفزع من المماليك» فقال لهم، كما روى الجبرتي، «لقد خربتم الأقاليم والبلاد، وكل ساعة خصام وحروب مع علي بك.»
ومع ذلك بقي النزاع بين علي بك وأقرانه البكوات، حتى أجبروه على الفرار إلى بلاد اليمن، ولكنه عاد باستدعاء أنصاره في عام 1180 هجرية /1766 ميلادية، وحين استقرت قدمه في القاهرة، قتل أربعة من البكوات في ليلة واحدة، ونفى أربعة آخرين، وكان من مماليكه إبراهيم بك الذي بقي حتى الحملة الفرنسية، وعاش حتى بعد مذبحة محمد علي في القلعة، ومن مماليكه أيضا أحمد بك الجزار المشهور الذي حارب نابوليون في عكا وصده عنها، ومن مماليكه كذلك محمد بك أبو الذهب الذي غدر به وكان سبب القضاء على آماله ومطامعه، ومنهم مراد بك المشهور في الحملة الفرنسية.
ولما خلا الجو لعلي بك، أخذ في مناهضة نفوذ الدولة العثمانية، فشرع في عزل وإبعاد جميع مستخدمي الملكية والجهادية، ورؤساء الوجاقات، وأبدالهم بمن هم على دعوته، وسعى في تقليل العساكر العثمانية، وإكثار المماليك من دعاته، وعمل ما لم تعمله الدولة حين استيلائها على مصر، بأن منع البكوت الذين كان يخشى من تغيرهم عليه، من أن يقتني أحدهم أكثر من مملوك واحد أو مملوكين، ولم يحفل بسلطة الوالي ونفاه من مصر، فلما شعرت الدولة بمقاصده، حاولت القضاء عليه، ففشلت في مساعيها، ولما علم بمقاصد الدولة نحوه، فعل كما فعل «محمد علي» بعده فأعلن استقلال مصر وطرد الوالي الجديد، واتحد مع الشيخ ظاهر أمير عكا، منتهزا فرصة اشتغال الدولة العثمانية بمحاربة روسيا، وعلى الرغم من النزاع الذي كان بين زعماء مماليكه «أي: أحمد بك الجزار، ومحمد بك أبو الذهب» فإنه توصل بدهائه وحزمه، إلى بسط نفوذه على جزيرة العرب، واستولى على جده وعين عليها واليا من مماليكه، اسمه حسن بك ولقبه بالجداوي نسبة إلى جده «وكان لهذا الرجل شأن في حوادث مصر مع الفرنسيس، «سيأتي دورها في هذا الكتاب» واستدعى إليه «روستي» المشهور في الحوادث الفرنسية «وكان هذا الأخير تاجرا صغيرا من أهالي البندقية وبقي في مصر من ذلك الحين، إلى أيام الحملة الفرنسية»
2
وكلفه بتنظيم التجارة الخارجية والمخابرات الدولية، ونصح إليه روستي باتخاذ جدة مركزا للتجارة مع الهند.
अज्ञात पृष्ठ
ولم يكتف علي بك بهذا بل أعلن الحرب على الدولة العثمانية، وحاربها في اليمن والشام، حتى امتد نفوذه في جميع شواطئ البحر الأحمر وبحر القلزم وبسط رواق سلطته على الحجاز ومكة المشرفة، وعزل شريفها، وأقام مقامه ابن عمه الذي لقبه «بسلطان مصر وخاقات البحرين» وأمر بأن يخطب باسمه في المساجد وضرب النقود
3
باسمه في القاهرة.
وعقد له «روستي» المشار إليه، معاهدة سلمية مع الفينيسيين وعهد إلى رجل أرمني يدعى يعقوب، عقد معاهدة دفاعية هجومية مع الروسيا، ثم سير حملة إلى الشام تحت قيادة مملوكه محمد بك أبو الذهب فاتحد مع صديق مولاه الشيخ «ظاهر العمر» صاحب عكا، واستولى على غزة والرملة ونابلس وبيت القدس ويافا وصيدا وحاصر دمشق وافتتحها عنوة.
وليس غرضنا شرح تاريخ علي بك فإن الغرض من هذه المقدمة هو بيان ما كانت عليه أحوال مصر عند الحملة الفرنسية، وإنما أردنا، من ذكر قيام هذا المملوك بمناوأة الدولة العثمانية، إظهار أن سياسة الدولة في مصر كانت عقيمة، وأنها تركتها ألعوبة في أيدي أولئك المماليك الأفاقين، السفاكين للدماء، الطامعين في الاستزادة من الملك والسلطان، ويكفينا في هذا المقام أن نقول في بقية تاريخ علي بك «سلطان مصر وخاقان البحرين، كما كانوا يلقبونه» أن مملوكه محمد بك أبو الذهب - «الذي لقيه «فولني» الرحالة الفرنسي في غارته على سوريا ووصف جنوده المماليك وصفا بليغا في كتابه،
4
وكنا نود أن نأتي عليه لولا خوف الإطالة - أصغى لمساعي رجال الدولة العثمانية، وصادف ما قالوه له هوى في نفسه فانقلب على مولاه، وولي نعمته، وعاد بالجيش الذي افتتح به سوريا ليحارب سيده به، وبعد تقلبات يطول شرحها فر علي بك إلى الشام، ثم عاد منها معضدا بالدولة الروسية ولكنه فشل، وقبض عليه محمد بك أبو الذهب ثم مات مسموما بيده، وقد روى الجبرتي: أنه لما مات علي بك أنعم محمد بك أبو الذهب على مراد بك الذي سيكون له معنا في الحملة الفرنسية شأن كبير، بسريته «نفيسة المرادية» التي اشتهرت بالمكارم والهمة، وسيأتي معنا ذكرها في أيام الفرنسيس وفي زمان محمد علي باشا أيضا.
أما محمد بك أبو الذهب فإنه أعاد مصر تحت سلطة الباب العالي، وهذا يؤيد ما ذهب إليه المؤرخون من أن انقلابه على مولاه، كان بدسيسة من الدولة واستقر هو في وظيفة شيخ البلد؛ أي: الحاكم المطلق فعلا، وأخذ يعبث في البلاد ظلما، وجعل الضرائب ضعفين، وأثقل كاهل الأهالي بالمغارم والمظالم، والقتل والنهب والسلب، وكان من المحتمل أن لو أستتب قدم علي بك، ولم يغدر به مملوكه، أن يسير بالبلاد سيرة حسنة، ويوطد فيها دعامة ملك أثبت من نظام ذلك التنازع بين المماليك والدولة، ولكن مصر دائما مقضي عليها بمثل هذه الظروف السيئة. •••
مات محمد بك أبو الذهب بالحمى في الشام وقد ذهب إليها محاربا ومنتقما من الشيخ ظاهر العمر وترك وراءه بحارا من الدماء، وأشلاء من القتلى، وخرائب من السلب والنهب، فكان من مماليكه المقربين إليه إبراهيم بك، ومراد بك، اللذان كانا يحكمان الديار المصرية عند قدوم نابوليون بونابرت بحملته التي هي موضوع هذا الكتاب.
الحالة الإدارية والحالة الاقتصادية لمصر قبل الحملة الفرنسية
अज्ञात पृष्ठ
لما احتل الفرنسيون هذه الديار، ونقبوا في آثارها، وألفوا الكتب في أحوالها، كتب بعضهم من رجال البعثة العلمية مباحث دقيقة في نظام حكومة المماليك قبل احتلال الفرنسيين، وعلى هذه المباحث نعتمد فيما نكتبه في هذا الباب؛ لأن ما كتبه المؤرخون باللغة العربية، ممن شهدوا تلك الأيام كالجبرتي، ونقولا الترك، والشيخ الشرقاوي، لا يشفي الغليل، والكثير منه خط وخبط لا يهتدي الباحث في ظلماته إلى قبس نور يستضيء به في وضع مختصر عن نظام حكومة المماليك في عهدها الأخير، ولا في بيان الحال الاقتصادية للبلاد، ولقد تعبت كثيرا في معرفة عدد سكان القطر في ذلك الحين لما وجدته من التناقض البعيد في الروايات، إلا أنه بضم أقوال السياح وأقوال المؤرخين المتأخرين إلى بعضها، يصح الاستنتاج أن سكان القطر في ختام القرن الثامن عشر كانوا بين المليونين والثلاثة.
وإنه لمن المفيد كثيرا معرفة عدد سكان القطر المصري، قبل الفتح العثماني ومقارنته بعددهم الذي أشرنا إليه.
كان النظام الإداري الذي وضعه السلطان سليم لمصر، ونقحه وزاد عليه السلطان سليمان بعده، يلخص فيما يلي:
أنشئ ديوانان تحت رئاسة الباشا الوالي يحضر اجتماع كليهما وهو جالس وراء ستار ولا صوت له في أحدهما، وما يقره الديوان ينفذه الباشا الذي يجدد تعيينه كل سنة.
وأما واجبات الديوان الأول فهي المفاوضة والإقرار على ما يتعلق بالأمور الداخلية التي لا علاقة للدولة بها، وأما أعضاؤه فهم أغوات الوجاقات «الأورط أو الفرق العسكرية» الست، ودفتر داريوها وروزنا مجيوها، «يعني قومندانات الآلايات ورئيس كتابها ومدير وحساباتها» ونواب من جميع فرق الجيش، وأمير الحج، والقاضي الأكبر، وأعيان المشايخ، والأشراف، وللباشا الحق في إصدار الأوامر بعقد جلساته، ولم يكن ذلك إلا في الحوادث الهامة.
وأما الديوان الصغير فيعقد يوميا في قصر الباشا وأعضاؤه هم كخيا الباشا «وكيله» والدفتردار والأغا وكبار رجال المتفرقة ونائب من كل وجاق «فرقة» وينظر هذا الديوان في الأعمال، وما تحتاج إليه البلاد من الأمور.
ورسم السلطان سليم بأن يكون مقر الوالي قلعة الجبل، وأن لا تزيد مدة ولايته عن سنة واحدة ثم تعطى لغيره، وزاد في نظام الجند فأنشأ وجاقا سابعا بمن بقي من المماليك الشراكسة، ورتب لكل وجاق ديوانا ينظر في شئونه، وكان مجموع الوجاقات «أي: الحامية العسكرية» عشرين ألفا.
وجعل السلطان سليمان للبكوات المماليك، الذين أقامهم السلطان سليم، امتيازات خاصة وأضاف إليهم 12 بيكا فوق العادة، وهاك أسماء الموظفين الذين ينتخبون من البكوات المماليك وهم الكخيا، أو نائب الباشا، والقباطين الثلاثة، وهم قومندونات ثغور السويس ودمياط وإسكندرية، والدفتردار، وأمير الحج، وأمير الخزنة، ومديرو المديريات الخمس، وهيجرجا والبحيرة والمنوفية والغربية والشرقية.
وكانت وظيفة الدفتردار ضبط الحسابات، وحفظ الدفاتر والسجلات، ولا ينفذ أمر بيع عقار إلا بعد توقيعه عليه، إشارة إلى تسجيله في دفاتره، وأمير الحج يحمل الهدايا والصدقات التي كانت ترسل من السلطان سنويا، إلى الحرمين الشريفين، وأما أمير الخزينة فيحمل الجزية السنوية للأستانة، من حاصلات مصر برا، وكانت مديريات القليوبية والمنصورة والجيزة والفيوم في عهدة كشاف «مديرين» لا فرق بينهم وبين البكوات في النفوذ، ولهم في كل مديرية من هذه المديريات ديوان خاصة من الوجاقلية والشربجية.
وكان هم الباب العالي منصرفا إلى العناية بالسويس ودمياط وإسكندرية؛ لأنها أبواب الفاتحين لمصر، فكان يرسل حاميتها من الآستانة، تحت قيادة ضباط أتراك، ولا تحسب هذه الحاميات من جيش مصر، وإن كانت نفقتها على الخزينة المصرية.
अज्ञात पृष्ठ
وقرر السلطان سليمان بأنه المالك الحر لجميع أرض مصر، فلذلك كان يوزعها إقطاعات على الملتزمين «على نظام الإقطاعات في أوروبا في القرون الوسطى» والفلاحون هم الذين كانوا يقومون بزراعة الأرض كانوا مجبورين على العمل فيها، دون أن يكون لهم حق التصرف بالبيع أو بالشراء ولا يرث أبناؤهم إلا حق الخدمة فيها، وتنتقل الأرض بالميراث لأبناء الملتزمين.
وإذا مات الملتزم من غير وارث، تعود الأرض للسلطان مالكها فتعطى لملتزم جديد، وكان على كل الملتزمين والفلاحين ضرائب أو خراج يدفعونه إما نقدا وإما عينا وكان لا يحل لأحد الفلاحين ترك ما في يده من الأرض، أو التخلي عن تعهدها بالحرث والزرع، بل كان يجبر على ذلك ويجلد بالسياط أو يقوم بدفع ما عليها من الخراج إلى أولئك الملتزمين، ولم يكف هذا النظام العسكري الذي لم يدع للمصريين ظلا من معني الوجود، حتى تطاولت مطامع الأتراك إلى سلب القضاء الشرعي من يد علماء المصريين، ذلك القضاء الذي أبقى لهم شيء من النفوذ الديني في الأحكام والمواريث والقضاء، فأصدر السلطان سليمان «سنة 928ه» أمره بإبطال قضاة المذاهب الأربعة من التصرف في القضاء بديار مصر، وتسليم جميع الأحكام الشرعية لقاض واحد من قضاة الروم «أي: الترك» بحيث لا يصح لأحد أن يوقف وقفا، أو يعقد عقدا، أو يكتب وصية أو إجارة، أو حجة أو غير ذلك من الأمور الشرعية، حتى تعرض على قاضي العسكر الذي يعين من الآستانة.
وروى المؤرخون أن أول قاضي من الترك عينه السلطان سليمان كان اسمه «سيدي جلبي» وهذا عين له وكلاء قضاة للمذاهب المختلفة من الترك أيضا، وجعل لكل قاض منهم نائبا من المصريين، وأحدث هذا القاضي من أساليب امتصاص دماء الأمة ضريبة على التركات فجعل على كل تركة الخمس منها لبيت المال مع وجود الورثة من الذكور والإناث، ولا ندري بأي حق، ولا على أية قاعدة شرعية، وضع هذه الضريبة الفادحة، وغريب أن علماء مصر ورجال الأزهر لم يعارضوا في ضريبة كهذه، وبقي معمولا بهذه البدعة إلى الزمن الأخير من سلطة المماليك فقد ذكرها الإسحافي في حوادث سنة 1028؛ أي: بعد فرض تلك الضريبة بمائة عام تماما: وقال «وهذا العام وقع الطعن والطاعون بمصر المحروسة وقراها، ومكث نحو شهرين فاشتغل الناس بموتاهم، وأقفل غالب الأسواق في مصر وحوانيتها، ما عدا أسواق الأكفان فإنها مفتوحة ليلا ونهارا، ومنع جعفر باشا «الوالي التركي» عامل الأموات من التعرض للموتى، فصار الناس يدفنون موتاهم من غير إذن، وحصل بذلك رحمة للعالمين، قال هذا المؤرخ: «فيا سبحان الله!! يموت اليهودي، وهو صاحب مائة ألف، فلا يتعرض له أحد من الظلمة.» ولا يسأل عما خلف وإذا مات مسلم لم يدفن حتى يشاور عليه وتأتي الظلمة تخرجه من بيته ويختمون عليه «كذا في الأصل» مع أن له أولادا «كذا» وأخوة وزوجة فالحكم لله العلي الكبير، ألم يسمعوا قول العزيز الجبار
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا . ا.ه. •••
هذه النظامات الإدارية والعقارية والقضائية بقيت مرعية الجانب ما دام نفوذ الدولة قويا، ولكن لما استبد المماليك بالأمر انهار جدار هذه النظامات التي لا تخرج عن كونها نظاما عسكريا لم تراع فيه مصلحة البلاد، ولا ترقية شئونها الاقتصادية أو السياسية، حتى ولا العمل على حفظها من التدهور إلى هاوية الفقر المدقع، فلم تقرر في ذلك النظام خطة مالية لحفر الترع وصيانة الجسور، أو أي أمر يساعد على إصلاح الأراضي أو صيانتها، وهي مصدر حياة سكان البلاد، ومصدر خراج الدولة، ومغارم المماليك، وما يلزمهم من الأموال للبذخ والترف، والإنفاق على «بيوتهم» ومماليكهم الذين بلغ عددهم في أواخر القرن الثامن عشر عند زيارة «فولني» لمصر نحو 8500 مملوك من الكبار الذين ينفق الواحد منهم على سلاحه وملبسه وزوجاته وسراريه، نحو ألفين وخمسمائة جنيه في العام، على تقدير «فولني» وهو شاهد عيان.
وكان البكوات الكبار من المماليك يخلعون على أتباعهم في أيام المواسم، الخلع النفيسة المصنوعة في فرنسا أو فينيسيا، ومن كشامير الهند وحرير دمشق، وكانوا إذا أعتقوا مملوكا ورقوه درجة يمنحونه منزلا فاخرا مؤثثا بالرياش الفاخر، ويزوجونه، ويهبونه الجواري الحسان، من بيض وحبشان، فاشتد بذلك ساعدهم، وتقلص ظل الدولة شيئا فشيئا.
ثم كان التنافس بين زعماء المماليك سببا في تخريب البلاد، فإذا خاف أحدهم على نفسه من فتك الآخرين، يغير بجماعته على مديرية من المديريات، ويستولى على خراجها، ويتولى أخذ ضرائبها من الملتزمين والفلاحين، وكثيرا ما يستحل المديرية أو المديريتين لنفسه ملكا حلالا!! فكيف كان من الممكن أن يستتب نظام إداري أو عقاري، في أحوال فوضى واضطرابات كهذه مستمرة بلا انقطاع، وزاد الطين بلة، على المصريين الفلاحين، أن الملتزمين، وكان غالبهم من محاسيب المماليك وأتباعهم الذين إما يعجز منهم عن التطلع إلى مقام البكوات، وإما لضعف في أجسامهم يعوقهم عن مجاراة الأقران في ميادين الفروسية، وإما لرغبة منهم في البعد عن غمرات التحزبات، وأخطار المنافسات - كانوا يفضلون الإقامة في الريف بعد نيل الالتزامات الواسعة - ونقول زاد الطين بلة على الفلاحين أن أولئك الملتزمين مدوا أيديهم إلى ما في أيدي الفلاحين من الأراضي وجعلوها وسايا «جمع وسية» لهم وحتموا على الفلاحين العمل فيها بغير أجر، كما كانوا كذلك يكلفون بالخدمة المجانية في أراضي الأوقاف والحبوسات، التي قل أن يصل شيء من ريعها للإنفاق على ما خصص له.
مثل هذا النظام لم يكن ليؤدي مطلقا إلا إلى هذه الخراب والإفلاس، وطالما حاقت بمصر المجاعات الحادة كما تراه مفصلا بأبلغ العبارات في صحائف الجبرتي، ولا يخفى أن الغزوات التي قام بها علي بك الكبير من سنة 1766-1775 كلفت مصر وأهلها أكثر من ستة وعشرين مليونا من الجنيهات، وقد ذكر «فولني» أن علي بك الكبير ابتاع خنجرا مرصعا بالجواهر الكريمة بمبلغ 225000 جنيه، ولقد وصل الحال بالفلاح المصري أنه لم يجد سكنا يقيم فيه فكان يلتحف العراء، وذو اليسار منهم يعيشون في أكواخ من الطين، ولا يجد الواحد منهم ما يأكله سوي الخبز الحقير المصنوع من الذرة والحلبة، يتناوله بالبصل النيئ أو الأعشاب التي يجمعها من جروف الترع والمجاري، ويطبخها بغير لحم ولا إدام، وكان رداؤه قطعة من القماش المصبوغ بالنيلة، وهي ميراث الفلاحين وإليها ينسبون «أصحاب الجلاليب الزرقاء»، وأما البذخ والترف، والذهب والفضة، والملابس المزركشة، والغلائل الرقيقة، والخيل المسومة، والسلاح المنمق بالجواهر الكريمة، والدور الفسيحة، والقصور الفاخرة، والنعيم على وجهه الأكمل، فلم يخرج عن دور المماليك وأتباعهم، وذوي المحسوبية عليهم من لصوص الإنسانية.
ذكر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار» - وهو مؤرخ هذه الفترة وجامع شتات أخبارها، وله ميل للمماليك - عند كلامه عن مراد بك، أنه جعل إقامته بقصر الجيزة، وزاد في بنائه وتنميقه، وبنى تحته رصيفا محكما، وأنشأ بداخله بستانا عظيما نقل إليه أصناف النخيل والأشجار والكروم، واستخلص غالب إقليم الجيزة لنفسه شراء ومعارضة، وغصبا، وعمر قصر جزيرة الذهب وجعل به بستانا عظيما، وكذلك قصر «ترسا» وبستان «المجنون»، وصار ينتقل في تلك القصور والبساتين ... إلخ، وإليك وصف كاتب فرنسي لقصر مراد بك بعد انخذاله في واقعة إمبابة، وفراره للصعيد، ودخول الفرنسيين في منزله، قال: «ولما وصل المعسكر العام إلى الجيزة في الساعة التاسعة مساء نزلنا دار مراد بك فلم نجد فيها إنسانا، ولم يكن هذا القصر يشابه في حجاراته، وتوزيع طرقاته، قصور أوروبا، ولكنا وجدنا فيه مما تركه رجال مراد بك، ولم يحفلوا بنقله، فراشا فاخرا، وحرائر موشاة الأطراف بالذهب والفضة، وأشياء من مفاخر الصناعة الأوروبية ... إلخ، ومثل هذا الوصف بالنص ورد في كتاب «فيفان دينون»
5
अज्ञात पृष्ठ
الذي قدم القاهرة آتيا من رشيد بعد مدة من سقوط القاهرة في أيدي الفرنساويين، وروى كتاب الحملة الفرنسية أن الجنود الفرنسيين كانوا يجدون في ملابس كل واحد من المماليك الصرعى في ميدان القتال «واقعة إمبابة» ما لا يقل عن نحو مائتين أو مائتين وخمسين قطعة من الذهب، عدا ما تقدر به ملابس الواحد منهم وطيلسانه وسلاحه وسراج جواده، من المبالغ الطائلة.»
تجارة مصر قبل الحملة الفرنسية
لم يكن من الممكن مع حكومة لحكومة المماليك، أن تنمو التجارة، أو تتسع المعاملات الداخلية والخارجية، وقد سبق لنا أن شرحنا، في هذه المقدمة أن مصر لم تعد بعد طريق التجارة الشرقية من موانئ آسيا إلى أوروبا، بعد أن اكتشف طريق الرجاء الصالح، ولو كانت على ضفاف النيل حكومة عادلة، لفضل التجار إرسال متاجرهم عن طريق البحر الأحمر، ونقلها من السويس إلى الإسكندرية بدلا من تعرضها لأخطار البحار العظمى حول إفريقية، وواسع المحيط الأطلانطيقي، «وسنزيد هذه النقطة إيضاحا عند الكلام على تجارة الهند» ... ولو أن الحكومة العثمانية، بعد فتح مصر، فكرت في صالح نمو التجارة، وقدرت خسارة مستعمرتها الجديدة، من اكتشاف طريق الرجاء الصالح، خصوصا وقد حاربت بأساطيلها البرتغال الذين كانوا يهددون تجارة مصر، كما سبق لنا بيانه، نقول لو أن الحكومة العثمانية فكرت في هذا الأمر، وأعادت حفر خليج أمير المؤمنين «الذي احتفره عمرو بن العاص بأمر الخليفة عمر بن الخطاب لنقل المئونة إلى الحجاز، والذي أمر بردمه ، في سنة 134 هجرية، الخليفة المنصور أبو جعفر ثاني الخلفاء العباسيين لكي يمنع وصول الإمداد إلى العلويين الذين طالبوا بالخلافة في المدينة المنورة»، لسهلت للتجارة النقل بحرا من الهند إلى أوروبا، عن طريق مصر ولكنهم لم يفعلوا هذا، ولم يتمكنوا من نشر سيادتهم البحرية في المياه الهندية، وزد على ذلك أن مظالم المماليك وتعديهم على التجار الأوروبيين الذين كانوا يأتون لشراء حاصلات مصر، وما يصل إليها من المماليك الشرقية الآسيوية بطريق القوافل، كانت من أكبر الضربات على التجارة المصرية، ولقد انحط مقام الإسكندرية حتى لم يبق فيها من السكان إلا ثمانية آلاف
6
وزاد الطين بلة فيها أن الحكومة العثمانية احتكرت لنفسها الجزء القديم من الميناء، وهو الجزء الذي يصلح لرسو السفن، فكانت السفن الأجنبية القادمة بالمتاجرة وللشراء مضطرة أن ترسو خارج الميناء الجديدة معرضة للزوابع والزعازع، ورأى مؤرخو الإفرنج «في سنة 1766» أنه بينما كان علي بك الكبير يحارب الدولة هبت ريح عاتية أغرقت اثنين وأربعين سفينة كانت راسية في ميناء إسكندرية، ولم تكن الإسكندرية متصلة بالنيل بقناة تنقل لها الماء الحلو، وكانت هناك قناة مرسومة في الخرائط الفرنسية وهي الترعة المسماة بالمحمودية، نسبة إلى السلطان محمود، ولكن ما كانت توصل المياه إلا في زمن الفيضان فقط، فكان اعتماد سكانها على مياه الأمطار يحفظونها في الصهاريج. •••
وحاول جماعة من تجار الإنكليز تسيير القوافل بين السويس والقاهرة لنقل المتاجر الهندية إلى عاصمة القطر، ثم نقلها بواسطة النيل، إلى دمياط أو رشيد، ولكن مظالم المماليك، وتعدي العربان على القوافل، أوقف تلك المشروعات التي كانت تساعد على نمو التجارة المصرية، وليست هذه الأقوال لكتاب أوروبيين حتى يتهموا بالتعصب لقومهم، فإن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي يقول في ترجمة مراد بك «فأحدث المترجم ديوانا خاصا بثغر رشيد على الغلال التي تحمل إلى بلاد الإفرنج وسموه ديوان البدعة، وإذن ببيع الغلال لمن يحملها إلى بلاد الإفرنج وغيرها، وجعل على كل إردب دينارا خلاف البراني «يعني الرشوة والمغارم»، والتزم بذلك رجل من أعوانه الموصوفين بالجور وسكن برشيد، وبقيت له بها وجاهة، وكلمة نافذة، فجمع من ذلك أموالا وإيرادا عظيما، وكانت هذه البدعة السيئة من أعظم أسباب قوة الفرنسيس وطمعهم في الإقليم المصري، بعدما أضيف إلى ذلك من أخذ أموالهم ونهب تجارتهم وبضاعتهم، من غير ثمن، واقتدى به أمراؤه «أمراء مراد بك» وتناظروا في ذلك وفعل كل منهم ما وصلت إليه همته واستخرجته فطنته.» وقال عنه أيضا: «واختص بالسيد محمد كريم السكندري ورفع شأنه بين أقرانه فمهد له الأمور بالثغر وأجرى أحكامه به، وفتح له باب المصادرات والغرامات ودله على مخبئات الأمور، وأخذ أموال التجار من المسلمين وأجناس الإفرنج، حتى تجسمت العداوة بين المصريين والفرنسيين ... إلخ.» وقال في ترجمة السيد محمد كريم المذكور: «وقلده مراد بك أمر الديوان والجمارك بالثغر فزاد في المكوسات، ومصادرات التجار، خصوصا الإفرنج.»
ومن رأي «جودت باشا» في تاريخه أن الذي دعا الفرنسيين للحملة على مصر هو ما أتاه المعلم نقولا النصراني الذي جعله حسن باشا قبودان رئيسا للقلونجية «البحارة» في الترسانة التي شادها هذا بالجيزة لإنشاء السفن، فإنه بعد أن اشتد نفوذه وعظم شأنه، أكثر من التعدي على سفن الإسلام والإفرنج معا.
7
وكانت نتيجة ذلك كله أن مصر تدهورت إلى هوة الخراب الاقتصادي الذي تجرعت منه الأمرين، وقاسى منه أهلها الجوع والعراء والمظالم، نحو ثلاثة قرون من الزمان حتى اضمحل شأنها، وفقدت منزلتها التي كانت لها في العالم القديم والحديث، وحتى هجرها أهلها، وهي البلاد التي لا يحب أهلها هجرها، ولا غرابة أن تتضاءل مصر في ثلاثمائة عام حتى تعود خيالا، لما كانت عليه من قبل، وحتى ينقص عدد سكانها من نحو 15 مليونا إلى نحو مليونين ونصف.
ولكن بالرغم عن كل هذا فإنه بقيت لمصر تجارة ترد إليها بالقوافل من اليمن وبلاد الحبشة وسوريا شرقا، وطرابلس وتونس والجزائر والصحراء غربا، فكان يرد من اليمن، البن وبهارات الهند والأقمشة الهندية الجميلة، ويرد من الحبشة الصمغ والعاج والريش، ومن دمشق الأقمشة الحريرية المشهورة ومن بلاد الغرب والصحراء الصوف والجلود، والتمر وما أشبهه ذلك، وكانت التجارة الأوروبية بين الإسكندرية ورشيد ودمياط وموانئ أوروبا متواصلة الأخذ والعطاء فكانت يرد السفن من فرنسا بالأقمشة والمعادن والخردوات والمصنوعات، وتعود حاملة للأقمشة القطنية والبن اليمني والريش والعاج والصمغ والقمح والأرز.
अज्ञात पृष्ठ
استعمار إنجلترا في الهند وتأثيره في تجارة مصر في ذلك العهد
لما اتسعت مطامع الشركة الإنجليزية الهندية في استعمار تلك الأقطار، وكانت تلك الشركة تحت سيطرة الحكومة الإنجليزية في لندن، توجهت الأنظار بالطبع إلى هذه الديار المصرية؛ لأنها طريق الهند في التجارة «والداء قديم وتعبير «مواصلات الإمبراطورية البريطانية» ليس بالشيء الحديث».
وعلى الرغم من اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح حول إفريقيا بحرا فقد كان طريق التجارة الطبيعي إلى أوروبا هو البحر الأحمر، ومصر، والبحر الأبيض المتوسط، وقد حدث في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ثلاث حوادث أثرت على الحالة السياسية في العالم، وأهمها تأثيرا على تجارة مصر ومستقبلها معاهدة باريس التي تنازلت فيها فرنسا عن كل دعوى لها في الهند إجابة لطلب إنجلترا، والحادثتان الثانيتان هما ثورة علي بك الكبير وخروجه على الدولة في سنة 1766 «كما سبق لنا القول»، والحرب التي شبت نارها بين الترك والروس سنة 1768 وكان نتيجتها معاهدة «كاينارجه».
وكان من أهم النتائج لهذه الحوادث الثلاثة، زيادة نفوذ إنجلترا بفضل مركزها الجديد في الهند، ولهذا وجهت أنظارها منذ ذلك الحين إلى مصر وكانت مطامعها في أول الأمر تجارية.
وكان في مقدمة الرجال الذين اهتموا بالعلاقات التجارية بين الهند وإنجلترا عن طريق مصر رجل اسمه جامس بروس (James Bruce)
الرحالة المشهور الذي ساح في البحر الأحمر وبلاد الحبشة، وتقرب من علي بك بواسطة روسيتي الفينيسي الذي سبق ذكره، وقد تمكن بروس هذا من الحصول على إذن من علي بك والي مصر، يجيز للإنجليز حرية سفر السفن الإنجليزية، ودخولها ميناء السويس وسافر بروس إلى الحبشة وفي أثناء غيبته عرض روستي على علي بك مشروع ترويج التجارة بين مصر والهند لفائدة الجمارك المصرية، فاغتنم علي بك فرصة نشوب الحرب بين تركيا وروسيا في سنة 1769 واستولى على الحجاز عنوة بحد السيف.
وفي سنة 1771 اقترح إنجليزي مقيم في جدة على علي بك فتح طريق تجاري من الهند إلى السويس مباشرة، وخابر علي بك حام البنغال في هذا الصدد، ولكن قبل أن ينفذ هذا المشروع الاقتصادي خسر علي بك ملكه في الحجاز، وفي مصر أيضا.
وفي يناير سنة 1773 عاد «بروس» من سياحته من الحبشة وكان محمد بك أبو الذهب هو الحاكم المطلق التصرف في مصر فتقرب إليه «بروس» وانتهز هذه الفرصة للاتفاق مع محمد بك أبو الذهب على أن يسمح للإنجليز بجلب بضاعتهم من الهند إلى ميناء السويس.
وقد ذكر بروس شيئا عن هذه المخابرات في كتابه المعنون «سياحة إلى نابع النيل من سنة 1768 إلى 1773»
8
अज्ञात पृष्ठ