إهداء الكتاب
1 - مصر قبل الحملة الفرنسية
2 - تاريخ فكرة الحملة الفرنسية على الديار المصرية
3 - الحملة الفرنسية في الإسكندرية
4 - استعداد الحملة للسير في فتح مصر
5 - في القاهرة
6 - القاهرة قبل الواقعة
7 - الواقعة
8 - القاهرة يوم الواقعة
9 - النظام الذي وضعه نابوليون لحكومة مصر
10 - الدور الأول (من 1 يوليو-13 أغسطس)
11 - الدور الثاني (أغسطس-22 أكتوبر/10 جمادى الأولى)
12 - ثورة القاهرة
13 - الدور الثالث (من أول نوفمبر سنة 1788 إلى آخر أغسطس سنة 1799)
14 - المدة الثانية
15 - العودة لمصر من سورية
16 - الأحوال والحوادث في مصر أثناء الحملة السورية
17 - المدة الأخيرة لنابوليون في القطر المصري
ذيل أول
ذيل ثان
إهداء الكتاب
1 - مصر قبل الحملة الفرنسية
2 - تاريخ فكرة الحملة الفرنسية على الديار المصرية
3 - الحملة الفرنسية في الإسكندرية
4 - استعداد الحملة للسير في فتح مصر
5 - في القاهرة
6 - القاهرة قبل الواقعة
7 - الواقعة
8 - القاهرة يوم الواقعة
9 - النظام الذي وضعه نابوليون لحكومة مصر
10 - الدور الأول (من 1 يوليو-13 أغسطس)
11 - الدور الثاني (أغسطس-22 أكتوبر/10 جمادى الأولى)
12 - ثورة القاهرة
13 - الدور الثالث (من أول نوفمبر سنة 1788 إلى آخر أغسطس سنة 1799)
14 - المدة الثانية
15 - العودة لمصر من سورية
16 - الأحوال والحوادث في مصر أثناء الحملة السورية
17 - المدة الأخيرة لنابوليون في القطر المصري
ذيل أول
ذيل ثان
نابوليون بونابارت في مصر
نابوليون بونابارت في مصر
تأليف
أحمد حافظ عوض
إهداء الكتاب
إلى زوجتي العزيزة التي لولا تعضيدها ومساعدتها ما أمكن تأليف هذا الكتاب.
أحمد حافظ عوض
«أفي استطاعتنا أن نكتب التاريخ؟ وهل في استطاعتنا أن نستخلص أو نستخرج من نص أو وثيقة، أقل أثر من روحها أو حقيقتها؟ إنما أمرنا أن نعتمد على صيغة النص ببساطتها، ونتمسك بعبارتها، فالصيغة هنا هي التي لها القيمة والوضوح، أما روح التأليف فليس بمحدود، وأما الأفكار والمعاني فإنما يسار فيها على الهوى! ... لا بد أن تكون عظيم الغرور وواسع الخيال حتى تقدم على كتاب التاريخ!»
بالزاك “Est-Ce.que noue ecrirons l’histoire, nous? Est-ce que non essayons: d’extraire d’un texte, d’un document la moindre parcelle dc vie Ou de vérité? Nous publions Ics textes purement et Sirppirmemi Nuns nous en fenons à La lettre، La lettre est seule apprédabic et definie، L’esprit ne l’est pas; les idées sont des faniaisies، II faut ètrc blen vain pour écrire، l’histoire; il faut avoir dc l’imagination.”
Balzac
نابوليون الأول «إمبراطور».
مقدمة الكتاب
بقلم أحمد حافظ عوض
لكل شيء تاريخ، وللتاريخ تاريخ، ولهذا الكتاب تاريخ؟
وأول ما يجب أن يبدأ به، بعد حمد الله وشكره على توفيقه وإلهامه، هو ذكر السبب الذي دعا إلى وضع هذا الكتاب أو تاريخ الفكرة فيه، وكيف تقلبت به الأحوال، حتى ظهر على هذا الشكل والمنوال.
وفي اعتقادي أن مصارحة الناس بالحقيقة عن فكرة وضع كتاب، أو إتمام عمل من الأعمال العامة التي تعيش بعد صاحبها، أو يقدر لها الخلود بين النفائش الأدبية، والآثار القومية، لمما يساعد الأجيال الخالفة على تقدير الكتاب، وتقدير ظروف واضعه، وتجلو صدأ الحقيقة عن قيمة العمل ومنزلته، في الفترة الزمنية التي وضع فيها هيكله، وتم فيها بناؤه، وتلك مهمة تاريخية أيضا، وكأنها تاريخ للتاريخ! •••
منذ عدة سنوات قام بنفسي خاطر أن أضع كتابا في تاريخ مصر الأحدث؛ أي: في القرن التاسع عشر، يبتدئ بالحملة الفرنسية، وينتهي بعهد اللورد كرومر.
ولكن هذا الخاطر لم يتجسم، ولم يأخذ شكلا محددا، ولم تساعد الحياة الصحفية القلقة، التي قضت علي بها المقادير، على الانقطاع لعمل كهذا، خصوصا وأنا أطمع - فيما أطمع - أن لا أضع كتابا في التاريخ، على الأسلوب الذي اعتاده كتاب اللغة العربية، من جمع وتنسيق، بغير بحث ولا تدقيق ولا تحقيق، مما يحتاج إلى دراسة وانقطاع، ومحاكاة للأسلوب الغربي الحديث في كتابة التاريخ والخوض في عبابه.
وكل ما كان له من الأثر في نفسي، من جراء تلك الفكرة، الرغبة في الاطلاع على الكتب الإفرنجية التي وضعها المؤلفون والسياح عن تلك الفترة، من العهد الأول؛ أي: قبيل الحملة الفرنسية وخلالها وبعدها، وبقيت هذه الرغبة تتنازعني بشدة مرة، وبلطف أخرى، ثم تعقبها فترة إهمال وترك، حسبما تتلقفني أيدي المقادير من حياتي التي أشرت إليها.
ومرت عدة سنوات ولم أجمع إرادتي مرة للجلوس على مكتب لوضع خطة لتنفيذ ذلك العمل الذي ملت إليه، وهكذا بقيت فكرة وضع هذا التاريخ أشبه بما وصفه اللورد روزيري - في كتابه عن نابوليون في سانت هيلين - «بشيطان أدبي»
1
متسلط على جسمي، أغالبه ويغالبني، وأطارده ويطاردني، حتى أراد الله ولا راد لإرادته، أن يندلع لهيب الحرب الأوروبية الكبرى في شهر أغسطس سنة 1914.
وكنت في ذلك الوقت أتولى رياسة تحرير جريدة المؤيد بعد وفاة مؤسسها المرحوم الشيخ علي يوسف، وكان المؤيد لسان حال السراي الخديوية، وصلتي الشخصية والعمومية بسمو الخديو السابق عباس حلمي باشا معروفة، ولها في تاريخ مصر السياسي صحيفة ذات قيمة عظيمة لم يؤن بعد أوان نشرها، فكان من مقتضى هذه العلاقة، أن يصيبني رشاش من النكبة التي أصابته بفقدان عرشه وملكه، ففقدت كل ما لدي، وكل عمل أتكسب منه، فتركت تحرير المؤيد، ونار الحرب مشتعلة، والظروف قاسية، والريبة بين الناس فاشية، وسيف السلطة العسكرية مصلت على الرقاب، ولي زوج وأولاد صغار، أخشى أن يحال بيني وبينهم بالنفي أو الاعتقال، فاخترت العزلة، مع التلطف والاحتيال، وانتقلت بأسرتي إلى الإسكندرية، ثم قضت بعد ذلك السلطة العسكرية الإنجليزية بأن لا أبرح ذلك الثغر، وأن أبقى فيه تحت إشرافها وسيطرتها، حتى تضع الحرب أوزارها.
وحمدت الله، «الذي لا يحمد على مكروه سواه» على الخلاص من النفي أو الأسر أو الاعتقال، إلى غير ذلك من ضروب الاضطهاد التي لاقاها المشتغلون بالسياسة الوطنية، وخصوصا كل من كانت لهم علاقة مثل علاقتي، أو أقل منها بكثير، مع سمو عباس باشا حلمي الخديوي السابق.
ومع أنني كنت في بيتي، مع زوجي وولدي في مدينة واسعة الأكناف، إلا أنني كنت مع هذا أقاسي ألم الاعتقال والضغط على الحرية، ورضوخي للاستبداد، واضطراري إلى الانتقال عن الحياة العمومية، الصحفية والسياسية.
فتحرك في صدري ذلك «الشيطان الأدبي»، وذكرني بكتاب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، ووسوس إلي بأن الاشتغال بتأليف هذا الكتاب مما يساعد على قطع رقبة الفراغ بسيف العمل، فكان من أثر ذلك أنني استعنت بالله وبدأت في وضع الهيكل الذي يشاد عليه بناء الكتاب، وقسمته في الهيكل إلى أربعة أجزاء بحيث يكون في كل جزء رجل أو رجلان كبيران، الأول عن الحملة الفرنسية حتى خروج الفرنسيين من مصر بيد الترك والإنجليز، وبطلا هذا الجزء نابوليون بونابرت وكليبر، والثاني من خروج الفرنسيين إلى وفاة محمد علي وبطلاه محمد علي وإبراهيم، والثالث من وفاة محمد علي إلى الاحتلال الإنجليزي، ورجله إسماعيل، والرابع من الاحتلال البريطاني إلى الحرب الأوروبية وبطلاه عباس وكروم.
هكذا كان الهيكل، وهكذا كانت النية! •••
وبدأت أبحث وأنقب، وأجمع وأرتب، ثم بدأت أكتب، فرأيت أنه لا بد لبيان الحالة السياسية والاقتصادية والأدبية والاجتماعية، التي كانت عليها مصر قبل قدوم الحملة الفرنسية، من أن أضع مقدمة وافية، واستطردت في ذلك، وخصوصا لما وقعت في يدي كتب قيمة قديمة لم أكن قد قرأتها، وفيها معلومات غريبة، مثل كتاب «ثورة علي بك الكبير» المشار إليها في هذا الكتاب، وغيره من كتب السياح مثل قولني، وبروس، وبراون، وسونيتي، وسافاري، ودينون، فطال البحث حتى بلغ في المقدمة أربعا وستين صحيفة من هذه الطبعة بحرفها الصغير هذا.
ثم رأيت من الضروري أن أضع للقارئ العربي مقدمة أخرى عن تاريخ «فكرة الحملة الفرنسية» على مصر، وأسبابها السياسية والدولية، وكيف تطورت الفكرة في عصور مختلفة، وكان لا بد كذلك من فصل موجز واف عن نشأة وتاريخ نابوليون الذي فتح مصر للعالم الأوروبي، وكان له في هذه الديار، وفي العالم أجمع شأن عظيم.
ولا بد من بيان كيف اختمرت فكرة الحملة في رأسه، وهل جاء مصر راغبا أو مكرها، واستغرق هذا البحث وذاك ما يقرب من مائة صحيفة.
كل ذلك قبل الدخول في الحملة الفرنسية.
وتفتحت معي الأبواب، وتشعبت المسال، ووجدت نفسي أسبح في بحر خضم من عويص المباحث، ومختلف الكتب والرسائل، والمذكرات الشخصية والعمومية عن الحملة الفرنسية، بحيث لم أصل - بعد مزاولة العمل خلال سنوات أربع، تتخللها فترات انقطاع واشتغال بشئون الحياة - إلى نقطة يحسن الوقوف عندها، إلا نقطة مبارحة نابوليون أرض مصر، وجاء ذلك في هذا المجلد الضخم بهذا الحرف الصغير!
وكل ذلك لم يرد على نصف الجزء الأول من هيكل الكتاب كما كنت قد رسمته وصورته في مخيلتي، فوقفت ثم أخذت أبحث عن كتب لم أطلع عليها، ومذكرات لم تصل يدي إليها، فاتسع المجال، وانفسح ميدان الخيال. •••
وألقت الحرب أوزارها وارتفع كابوس الاعتقال، فطويت صحائف الكراريس والمسودات والتعليقات والمذكرات، وهرعت إلى ميدان العمل في النهضة الوطنية، والحركة السياسية والصحافية، على أمل أن أعود إلى الكتاب فأتمه وأكمل ما فيه من نقص في فرصة أخرى.
ومرت على ذلك سنوات خمس والكتاب في صحائف مبعثرة، وأوراق متناثرة، ومذكرات ومقتطفات متنوعة، وتعليقات متوزعة ... وقد مل شيطاني، وهجر دماغي؛ لأنها امتلأت كخلية النحل، بكثير من المشاكل التي تلهي عنه، وكدت أنسى ما كتبته حتى أهملته، لولا حنين كان يتولاني من آن لآخر، ولولا أن زوجي الفاضلة كانت تذكرني به في أوقات مختلفة؛ لأنها اشتركت فيه معي بروحها، وبمساعدتها لي في تعريب بعض القطع من الفرنسية إلى العربية، في الأيام التي قضيتها معها في شبه منفى بالإسكندرية، ومع كل هذا فلم أقدم على مباشرة طبع الكتاب أو تنقيحه؛ لأنني اعتقدت أنه عمل ناقص، وأنه ليس في مقدوري ولا من رغبتي أن أتمه، وكنت أسوف، وأؤمل أن أنقطع له مرة أخرى، ولكن الفرص لم تتهيأ والظروف لم تساعد.
وحدث أنني مرضت ذات مرة في صيف العام الماضي وتولاني يأس من الحياة وخيل لي أن المنية عدت قاب قوسين أو أدنى، فكان أشد ما يحزنني أنني قد أموت قبل أن أبرز للوجود هذا الذي عملته! فلما من الله بالشفاء نظرت إلى مسودات هذا الكتاب، وقلت في نفسي: قد أمرض ثانية وأموت ولا يتم هذا العمل ولا يطبع ولا ينشر، وهيهات أن يتولى إنسان تنقيحه وطبعه بعدي، وهكذا يزول من الوجود أثر من عمل أجهدت فيه نفسي، وانصرفت إليه بكل ما في روحي من لذة معنوية ورغبة صادقة أدبية ووطنية.
فخطر لي أن أبدأ بطبع ما كتبت وأن أكتفي بما إليه وصلت، ولئن يظهر هذا العمل، على غير إرادتي، ناقصا - أو بعبارة أخرى، أقل مما كانت تصبو إليه نفسي، وتتوجه إليه مطامعي - فذلك أولى من أن لا يظهر مطلقا، وأولى من أن تعدو عليه العوادي فتذهب به كأن لم يكن، وكأن لم أقض في مزاولته عدة سنين من زهرة الحياة!
واختمر هذا الرأي بنفسي فأقدمت، وشرعت في طبع ما كتبت، وأنا آسف على أن الزمن لم يسمح لي بأن أصل بالكتاب إلى ما أردت، أو ما إليه طمحت!
ومع ذلك كانت تعاودني رغبة الإصلاح والإتقان فكنت أمعن في البحث والفحص، وكثيرا ما كنت أوقف الملزمة أسبوعا وأسبوعين حتى أحقق بعض النقط في بعض المصادر التي كنت أعثر عليها في المكاتب، ثم أحور وأغتر، وأزيد وأنقص، وقد صبر معي القائمون «بمطبعة مصر» صبرا جميلا يشكرون عليه، حتى وصلت إلى النتيجة التي يراها القارئ بين يديه.
وها هو الآن بين يدي قراء اللغة العربية وأترك لهم الحكم عليه وعلى قيمته وحقه في المنزلة التاريخية والعمل الأدبي، وكيفما كان حكمهم الذي يصدرونه عليه، فإنني واثق من شيء واحد، وهو أنهم سيعترفون معي أنني وضعت أسلوبا جديدا في كتابة التاريخ العربي، وأنني رسمت خطة لمن يريد أن يقتفي أثرها ويزيد في تحسينها وإتقانها، وأنني بعراة أوجز قد أزلت بعض الأنقاض، ورفعت قليلا من الأتربة المتراكمة في طريق من يريد السير في إتمام هذا العمل.
ويرى القارئ في هذا الكتاب إشارة إلى ما كابدته وقاسيته من صعوبة البحث، ومن إظهار الأسف من أن الحكومة المصرية، وكتاب اللغة العربية منذ زمن محمد علي، لم يظهروا أقل عناية بوضع كتاب مفصل عن تاريخ الحملة الفرنسية، من المصادر العديدة والمجلدات الضخمة الموضوعة عن هذه الفترة باللغة الفرنسية، مع تحقيق كان أقرب سهولة في أيام محمد علي باشا وإبراهيم باشا مثلا، منه في هذا الزمن بعد طول المدة وانقراض الذين عاشوا في تلك الأيام القريبة، فأوجه نظر القارئ إلى تلك الملاحظة.
ومن هذا البيان يظهر للقارئ المفكر أنني في هذا الكتاب لم أقم إلا بنصف الجزء الأول من الأجزاء الأربعة التي وضعتها هيكلا لكتاب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، فهل من يقدم على إتمام الأجزاء الباقية على هذا النمط أو أحسن منه؟ أما أنا فلا أؤمل أن أوفق للزيادة على هذا الذي فعلت، إلا أن يشاء الله غير ذلك. •••
ولما لم يعد الكتاب تاريخا كاملا لمصر في القرن التاسع عشر، كما أردت، ولم يصبح تاريخا كاملا للحملة الفرنسية من بدئها إلى نهايتها، اخترت له اسمه الحالي «فتح مصر الحديث»؛ لأن اليوم الذي وطئت فيه قدم نابوليون بونابرت أرض مصر بحملته، كان يوما فاصلا بين القديم والحديث، وكان فتحا لباب مصر ومسألتها على مصراعيه للتدخل الأوروبي، وقد قلت في هذا الصدد: «كان ظهور السفن الفرنسية، بمن نقل من جنود وضباط وقواد وعلماء، وذخائر وبنادق ومدافع، فاتحة عصر جديد لمصر، بدأ بالاحتلال الفرنسي، تحت قيادة أعظم القواد الحربيين الذين أظهرهم هذا الوجود، ثم عقب بالنزاع بين أوروبا، حول هذه البقعة المسماة وادي النيل ... ذلك النزاع الذي ما برح يظهر على جميع الأشكال، وغريب الأحوال، من مطاردة الفرنسيين وإخراجهم، إلى معاضدة المماليك، بإنزال قوة إنكليزية على الشواطئ المصرية، ثم بمقاومة محمد علي، وإيقافه عند حد لا يتعداه، في مشروعاته ومطامعه، ثم بالمعارضة في فتح قنال السويس، إلى التدخل في أمور مصر المالية، حتى كانت الثورة العربية، والاحتلال الإنكليزي والحماية الظاهرة، والمقنعة ... كل هذه الحوادث والمشاكل خلقها وضع فرنسا قدمها في مصر، فإنه من ذلك الحين، أوجست إنكلترا خيفة من تعاظم نفوذ أية دولة أوروبية في وادي النيل، أو تقوية أية سلطة محلية، مما قد يكون عائقا في تنفيذ سياستها القاضية بأن يكون طريقها إلى الهند في يدها ... فكان لها القدح المغلي في كل هاتيك الحوادث والمشاكل، إلى أن استقر قدمها في مصر، عقب الثورة العرابية ... ومع ذلك فستبقي مصر سببا لمشاكل أوروبا ومنازعاتها وحروبها، حتى تنال استقلالها التام بطريقة تجعل الباب مفتوحا، والثقة في التساوي كاملة، أو يحكم الله بأمر من عنده وهو خير الحاكمين». •••
لهذا سميته «فتح مصر الحديث»؛ أي: فتحها للنزاع الدولي, والمدنية الأوروبية، والمستقبل السعيد لوادي النيل من البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة فكتوريا نيانزا.
ولن يقف في سبيل الوصول إلى هذه الغاية، بهمة الجيل الجديد، والقومية الحديثة والتقدم إلى الأمام أحد، كائنا من يكون!
هذا هو اعتقادي في مستقبل مصر الكبرى، أضعه أمام أبنائنا وأحفادنا منارا يهتدى به، وغاية تتوجه إليها النفوس والقلوب والعقول.
والله سبحانه وتعالى يحقق للناس ما يتوجهون إليه بإخلاص ومثابرة وعزم صادق.
القاهرة في 11 ديسمبر سنة 1925
هوامش
الفصل الأول
مصر قبل الحملة الفرنسية
قبل الدخول في الكلام على الحملة الفرنسية على مصر وأسبابها، وكل ما يتعلق بها مما هو موضوع هذا الكتاب، نرى من الواجب علينا أن نستفتحه بمقدمة وافية عن الحالة التي كانت عليها مصر قبل تلك الحملة.
فنقول: كانت الديار المصرية منذ منتصف القرن الثالث عشر، إلى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي؛ أي: إلى يوم سقوطها في يد نابوليون، تحكمها وتتحكم في رقاب أهلها، طبقة المماليك من بقايا الطبقة الثانية منهم، ولكي نوفي التاريخ حقه يجب علينا أن نشرح للقارئ، بإيجاز يليق بالمقام، من هم المماليك، وما هو أصل نشأتهم، وأسباب قوتهم، وبقاء سطوتهم، ونوضح بقدر الاستطاعة، الدور الذي لعبوه، في تاريخ الشرق والإسلام إلى يوم انقراضهم.
يبتدئ تاريخ المماليك بإقبال أواخر خلفاء الفاطميين على شراء المماليك الشبان بكثرة من قارة آسيا لاتخاذهم عبيدا وحراسا وبطانة، واستمرت هذه الحال حتى زمن الدولة الأيوبية، وقد استفاد بهم صلاح الدين أعظم الفوائد، فإنه ألف من أولئك المماليك الأشداء الأقوياء جيوشا قهر بها أوروبا في جميع الحروب الصليبية، ولكن خلفاءه ضعفوا عن أن يستخدموهم كما استخدمهم صلاح الدين، حتى إذا ولي الحكم الملك الصالح، أكثر من ابتياع المماليك، وجعل منهم أمراء دولته وخاصة بطانته، فصار لهم من النفوذ ما جعلهم يتخذون لهم دورا خاصة، في جهات منيعة تحكم على المدينة «في جزيرة الروضة بالمنيل»، ومن أجل ذلك لقبوا «بالمماليك البحرية» ثم أشتد ساعدهم، وقوي جاههم، وفعلوا بالدولة الأيوبية على ضفاف النيل، مثل ما فعل أشباههم، وأبناء نوعهم، في الدولة العباسية على ضفاف الدجلة؛ إذ انتهى الأمر بهم إلى قتل آخر ملوك الدولة الأيوبية وهو السلطان «نوران» المعظم في نفس الوقت الذي كان فيه لويس الحادي عشر - الذي يلقبه كتاب الإفرنج بالقديس لويس - يحاول بعد حبسه أن يعقد معهم اتفاقية سياسية في عام 1350 ميلادية. •••
مثل المماليك في تاريخ الدول الإسلامية، والمماليك الشرقية، دورا مهما جعل من الواجب على المؤرخين، أن يضعوا له بحثا خاصا، وتحقيقا دقيقا، ليظهروا ما كان لتلك الطبقة من الأثر الطيب أو السيئ، وليشرحوا أيضا ما إذا كان في ظهورهم، وتقوية شأنهم، بل وفي ذكائهم ونشاطهم، وقوة بأسهم، فائدة للأمم الإسلامية، بحيث استطاعت أن تردد وقتا ما بأولئك المماليك غارات الأمم المسيحية، من القرن الثالث عشر إلى القرن التاسع عشر؟ أو هل كان ظهور أولئك المماليك على مسرح السياسة الشرقية الإسلامية، سواء في آسيا، أو شمال إفريقيا سببا في اضمحلال النهضة العربية الإسلامية الصحيحة، وقضاء على الحياة العلمية الفكرية، التي ابتدأت في الأزهار على شواطئ دجلة والفرات والنيل، في عهد الدول الأموية والعباسية، والفاطمية، وما تفرع من الدول العباسية من الدول الصغيرة، كدول بني بويه وحمدان وغيرهما.
إن الجواب الصحيح على هذه الأسئلة يحتاج إلى بحث مفصل، وتحليل دقيق، في مؤلف خاص بهذا الموضوع، وهو ما لا يحتمله هذا الكتاب الذي وضع لغرض آخر، وزمن أحدث، ولكنني أغتنم هذه الفرصة لألفت إليه نظر محبي المباحث التاريخية: وفي رأيي أن الحكم في هذا الباب مجازفة لا تصح، قبل عرض جميع الحوادث ونتائجها، وأسبابها، ومسبباتها، ومن وجوهها المختلفة.
على أن الذي يهمني من بحثي هذا من الوجهة المصرية الوطنية القومية، هو أنني أميل إلى الرأي، بأن المماليك وخصوصا الطبقة الثانية منهم كانوا سببا في بلاء هذه الديار، وعذاب أهلها مدة طويلة من الزمان؛ إذ صيروا وادي النيل، ميدانا للسلب والنهب والمظالم، كما سترى ذلك مفصلا في بابه. •••
كلمة «مملوك» اسم مفعول من «ملك»، وهو ظاهر المعني لا يحتاج لإيضاح وقد ذكر المؤرخون أن منشأ المماليك في جهات «قفجان» من شمالي آسيا، وأنه لما غزا المغول تلك الأصقاع تحت قيادة بانوخان حفيد جنكيز خان، سلموا أهلها الذل، وفتكوا بهم فتكا ذريعا، حتى هاجر سكان الولايات القسبينية والقوقاسية ديارهم، فضعفت قبائلهم وتشتت في بلاد آسيا الصغرى، وكانت تجارة الرقيق الأبيض والأسود في شدة انتشارها، فكان النخاسون يبتاعون أحسن أبنائهم وأجملهم وأقواهم، من أقاربهم أو آبائهم، أو كانوا يختطفونهم فيبيعونهم لمن أرادوا من أمراء وأغنياء الديار السورية والعربية والمصرية، فيشب الفتى وقد نسي قومه وجنسيته، واندمج في سلك أمثاله المماليك تحت رعاية كبير منهم، أو أمير من أمراء العرب أو غيرهم، يقربونهم إليهم، ويحبونهم لجمالهم وذكائهم وولائهم في خدمتهم، فيرقونهم بعد أن يشتد ساعدهم في بطانتهم، وعند ذلك تتطلع نفوسهم إلى مراتب العز ومنازل الإمارة والشرف بل إلى الملك ذاته؛ لأنهم كانوا يعرفون أن أمثالهم من المماليك الأرقاء الذين ابتيعوا صغارا، وربوا في أحضان أسيادهم وملوكهم، شبوا على الفروسية والإقدام، ووصلوا إلى أرقى مناصب الملك والسيادة، ولم يكن يخفى على صغيرهم قبل كبيرهم أن سلاطين المماليك - بعد الدولة الأوروبية - من عهد الملك الظاهر بيبرس، فالملك المنصور قلاوون، فالسلطان حسن، وبرقوق، وبرس باي، وقايتباي، وجميع ملوك هذه الدولة وسلاطينها لم يكونوا إلا مماليك، أو أبناء مماليك مثلهم، ولقد روى الإسحاقي في تاريخه رواية وهي وإن تكن من قبيل الأقاصيص التي لا يعتمد عليها المؤرخ، إلا أنها مثال للتصورات العقلية، والآمال النفسية، التي كانت تدور بخلد المملوك وهو رقيق صغير، روى الإسحاقي عن عبد الملك الأشرف قايتباي المحمودي، أنه لما جنبه الخواجا «كذا» محمود إلى مصر وكان معه رقيقه أحد المماليك الذي جلب معه تحدثا مع الجمال «قائد الجمل» الذي يحملهما إلى مصر في ليلة مقمرة، فقالا: لعل هذه الليلة هي ليلة القدر التي يستجاب فيها الدعاء، فليدع كل منا بما يحبه، فأما قايتباي فقال: أنا أطلب من الله تعالى سلطنة مصر، وقال الثاني: وأنا أطلب من الله أن أكون أميرا كبيرا، أما الجمال فقال: أما أنا فأطلب «حسن الخاتمة» فصار قايتباي سلطانا وصاحبه أميرا، فكانا إذا اجتمعا يقولان «فاز «الجمال» من بيننا!!»، فانظر كيف كانت تحدث المملوك نفسه بالرقي إلى مصاف الملوك!! فهل كان هذا رقا واستعبادا؟
لم يكن «الرق» الذي ينسبونه إلى المماليك إلا كلمة لا معنى لها؛ لأنهم لم يكونوا هم الأرقاء بحق البيع والشراء، بل كان الأرقاء، في الواقع ونفس الأمر، هم المصريون من جميع طبقاتهم ... •••
يقسم المؤرخون الحديثون من كتاب الشرق تاريخ المماليك في مصر إلى دولتين يسمون الأولى دولة «المماليك البحرية» وقد سموا بهذا الاسم؛ لأنهم في مدة حكم الملك الصالح، ابتنوا دورا كبيرة، ومعاقل متينة، عند الروضة حيث يتفرع نهر النيل إلى فرعين، ويسمى بالبحر الكبير، فلقبوا لذلك بالمماليك البحرية، ومادتهم على هذا التقسيم من سنة 1250 إلى 1381 ميلادية، ويسمون المماليك الذين خلفوهم من أول السلطان برقوق من سنة 1381 إلى 1517؛ أي: إلى الفتح العثماني، بدولة المماليك البرجية، «نسبة إلى الأبراج»، أو الشراكسة «نسبة إلى أصلهم».
ولما كان الفتح العثماني لم يقض على سلطة المماليك، بل زادها بعد ذلك عتوا وتجبرا، كان الأولى - على رأيي - أن يقسم تاريخ المماليك في الديار المصرية إلى قسمين على النمط الآتي:
الأول:
من سنة 1250؛ أي: بعد انقراض الدولة الأيوبية إلى سنة 1517 وهو تاريخ الفتح العثماني.
الثاني:
من 1517 إلى 1811؛ أي: إلى أن قضى «محمد علي» على البقية الباقية منهم في مذبحة المماليك المشهورة بالقلعة.
ولا عبرة بقولهم إن القسم الأول من المماليك البحرية كان من جنس غير جنس المماليك الشراكسة «الذين يبتدئون على حسب آراء المؤرخين الحديثين، من تولية السلطان الظاهر برقوق الجركسي»؛ لأن المماليك في أول أمرهم وفي أواخر الدولة العباسية، إلى مذبحة القلعة، لم يكونوا من جنس خاص، ولا من أمة معلومة، بل كانوا دائما خليطا ممن يباع ويشترى من الفتيان الحسان الأقوياء، سواء أكانوا من شواطئ بحر قزوين، وأواسط آسيا، من تتر ومغول وشركس، أم كانوا من بحر إيجة من الأروام، وجزر البحر الأبيض المتوسط، وهذا السلطان الظاهر «حوشقدم»، من مماليك الطبقة الأولى، يلقب بالرومي؛ لأنه يوناني الأصل، ويلقب بالناصري، ومع إسلامه، كان له ولع بالعلوم والآداب اليونانية القديمة، وربما كان فيهم من أجناس مختلفة من الشعوب القائمة حول الأدرياتيك، أو من جزائر إيطاليا والبحر الأبيض على الإجمال.
ولولا أن المماليك كانوا في القسم الثاني، أتباعا للدولة العثمانية، ولو بالاسم، وأنهم لم يلقبوا أنفسهم بألقاب «الملك» و«السلطان» - اللهم إلا أن يكون واحد منهم وهو علي بك الكبير سنة «1763-1774»م - لما كان ثمت داع إلى تقسيم مدتهم إلى دورين، ولاكتفينا واكتفى المؤرخون بالقول بأن المماليك حكموا مصر من عام 1350 إلى حوالي 1811، مع استثناء مدة الاحتلال الفرنسي، وأول ظهور سلطة محمد علي.
القسم الأول
كان مماليك القسم الأول من عام 1250 إلى الفتح العثماني أرقى أخلاقا وأفضل سياسة، وكان يظهر فيهم من وقت لآخر فحول سياسة ورجال عدل ونظام ورفق بالرعية، وكان مما يصلح شأنهم، أن الوراثة كانت توجد بينهم من وقت لآخر مما ثبت دعامة الملك، ولم يدعها مطمعا لكل سفاك للدماء طامح للسلطة والإمارة.
امتاز مماليك هذه الطبقة بما تركوه في القاهرة وضواحيها من الآثار النفسية، والمساجد البديعة النادرة المثال، وما أبقوه من العمائر التي تدل على ذوق راق ورفاهية تضرب بها الأمثال.
يقول العلامة «لاين بول» في كتابه المسمى «القاهرة»:
لقد جمع هؤلاء المماليك بين المتناقضات التي لم تجمع في طبقة من الأمراء في أي زمان أو مكان، فبينما نعرف أنهم عصبة من الأفاقين ابتيعوا بيع السلع، ونشئوا أرقاء، وربوا سفاكين للدماء، ظالمين للعباد، مخربين للبلاد، نجد منهم ميلا غريبا للفنون، يحق لأي ذي عرش وصولجان أن يفخر به على الأنداد والأقران، ولقد أظهر هؤلاء المماليك في لباسهم، وفراشهم ومسكنهم، وعمائرهم ذوقا ساميا، ورفاهية بالغة، يصعب على أوروبا الآن، في عصرها «الاستاثيقي» المحب للجمال والتأنق، أن تدانيهم فيه.
انظر إلى ما يوجد الآن في القاهرة من المساجد الكبيرة التي تناطح مآذنها السحاب تجد أنها بنيت في عصر مماليك الطبقة الأولى ... انظر إلى جوامع قلاوون، والناصر، والناصر بن قلاوون، والسلطان حسن، وبرقوق والمؤيد، والإشرافية وقايتباي، ثم انظر إلى قباب قبور المماليك بالصحراء، تر من جلال البناء، وبديع العمارة ما لا يدانى وكل ما بني بعد ذلك في العصر الأخير من القرن التاسع عشر، إنما هو تقليد وتشبيه بهايتك العمائر، التي تفخر بها القاهرة على مدن العالم.
من أين للمماليك بتلك الثروة؟
هنا لا يجد المؤرخ المحقق مناصا من النظر إلى الحالة الاقتصادية التي كانت عليها مصر في تلك المدة؛ لأن موارد مصر معروفة، وهي هي في كل عصر من حيث الثروة الزراعية، والتي لا يوجد في وادي النيل مصدر سواها، ولم تكن تربة مصر في ذلك الحين كانت أخصب مما هي الآن، بل لم تكن لحاصلاتها أسواق تباع فيها بأزيد مما تباع به اليوم، فمن أين كان للمماليك ذلك اليسار وتلك الثروة الواسعة، وتلك الأموال التي استطاعوا الإنفاق منها على بنائها تيك العمائر، وعلى ما كانوا ينعقونه على ترفهم ونعيمهم، وشراء المماليك والسراري، ولم يكن ثمن المملوك مما يستهان به، فكثيرا ما ذكر المؤرخون أنهم كانوا يبتاعون المملوك أو الجارية بألف أو ألوف من الدنانير، وقد جاء في بعض التواريخ أن السلطان سليمان لما فتح مصر ووضع نظام حكومتها - ذلك النظام الذي سنشير إليه، والذي ترك السلطة في يد المماليك وأدى إلى خراب هذه الديار - وأراد العودة إلى بلاده نقل معه ألف جمل محملة ذهبا وفضة، فضلا عن أسلاب أخرى وهدايا ثمينة.
ولم تكن في أرض مصر مناجم الذهب، ولا مصادر أخرى للثروة غير محصول الزرع - وكان المزروع منها قليلا، والنيل يغمر أكثر بلادها فلا يستفاد به في زمن الفيضان - فمن أين كانت لمصر وللمماليك كل هذه الثروة؟
لم أجد بين المؤرخين الذي نقبت في كتبهم من عني بهذه النقطة ووفاها حقها من البحث العلمي والتاريخي مثل مستر «كامرون»
1
فإنه وقف مثلما وقفنا عند حالة مصر الاقتصادية وسأل كما سألنا من أين كان يأتي المال؟ ثم جاء بالجواب الشافي بعد بحث واستقراء في المصادر الإنجليزية المختلفة من كتب وتقارير رسمية، فقال ما خلاصته:
إنه لما كان المماليك أصحاب السلطة المطلقة في مصر، وفي سوريا أيضا فقد وقعت في قبضتهم جميع الموانئ، وطرق القوافل التي توصل إلى أوروبا متاجر البلاد الهندية، وغيرها من بلاد الشرق الأقصى، بذلك تمكنوا من فرض الضرائب التي يريدونها على كل كمية من البضاعة الهندية التي تمر من طريق البحر الأحمر إلى القاهرة، ثم إلى الإسكندرية، وكذلك من طريق البحر الأحمر إلى القاهرة، ثم إلى الإسكندرية، وكذلك من طريق الخليج الفارسي إلى البصرة، وطريق القوافل منها فميناء إسكندرونة لتنقل منها إلى فينيسيا «البندقية» التي كانت واسطة لهم في إيصال المتاجر الشرقية إلى أوروبا، وقد بقي هذا الاحتكار الاقتصادي، المنتج للمال، في أيدي المماليك حتى اكتشف «فاسكودي جلعا» البرتغالي، طريق رأس الرجاء الصالح إلى المياه الهندية - ولم يكن قد دار أحد حول إفريقيا بحرا مثله.
ولكي يصور القارئ لنفسه مقدار الثروة التي كانت تدخل في أيدي المماليك، نضرب له مثلا، جاء به مستر كامرون، كما هو ... قال:
فلنفرض أن تاجرا من العرب ابتاع من البضائع الفارسية أو الهندية، أصنافا كالحرير والبهارات والنيلة، ما قيمته عشرة آلاف جنيه، ثم أرسل هذه البضائع بحرا إلى البصرة من طريق الخليج الفارسي، أو بحرا إلى السويس من طريق البحر الأحمر، وكان في الغالب يفضل إرسال تجارته عن طريق السويس فالقاهرة فالإسكندرية؛ لأن البصرة، وإن كانت أقرب إليه برا، ولكن طريق القوافل من البصرة إلى حلب فإسكندرونة أبعد شقة، وأصعب مشقة، وأكثر تعرضا للصوص ولهذا كانت طريق مصر عند التجار أضمن وأروج.
قدرنا بضاعة التاجر بنحو 10000 جنيه، وهذه البضاعة حين تفرغ من السفن في ميناء السويس نضرب عليها ضريبة لا تقل عن 4000 جنيه فيكون ثمنها على التاجر 14000 جنيه، وتقدر في أرض مصر بحرا وبرا بعشرين ألف، وفي مرور هذه البضاعة في أرض مصر يضاعف ثمنها حتى تباع في الإسكندرية بنحو ثلاثين ألفا «بما يدفع للمماليك الحكام من الضرائب المشروعة وغير المشروعة» لتاجر من تجار البندقية «فينيسيا» فلا يستطيع شحن هذه البضاعة في السفن لأوروبا قبل أن يدفع مبلغ 5000 جنيه ضريبة الإصدار، فيكون مجموع ما وصل - من ثمن البضاعة التي كلفت الأوروبي 35 ألف جنيه - إلى سلاطين المماليك وأمرائهم في أرض مصر، ما يقرب من 10000 جنيه؛ أي: نحو ربع ثمن البضاعة في تقديرها الأخير أو قيمة ثمنها الأساسي، وقس على ذلك.
وضرب المستر كامرون مثلا آخر نقله عن كتاب اسمه «تقرير عن المحفوظات القديمة لوزارة الهند» بقلم السرجورج بردوود ما يأتي: «ولا مبالغة فيما ذكرنا فإنه جاء في التقرير المشار إليه أنه في سنة 1620 صدرت الشركة الهندية الإنكليزية «التي امتلكت الهند» 200000 رطلا من النيلة، ابتيع الرطل منها في مدينة «آجرا» (في شمال الهند) بمبلغ 14 بنس (خمسة قروش ونصف) وبيعت في لندره على حساب الرطل الواحد بخمسة شلنات (أي: بخمسة وعشرين قرشا)».
ولاحظ أن هذا المثال المأخوذ من المصادر الرسمية كان في عام 1620 بعد أن استبدل طريق البحر الأحمر، والخليج الفارسي، بالطريق البحري حول رأس الرجاء الصالح؛ لأن اكتشاف هذا الطريق وقع في سنة 1498 وقد قدر التقرير المشار إليه نفقات طريق مصر والشام بثلاثة أمثالها في الطريق البحري؛ ولذلك يصح أن يقال إن ثمن الرطل النيلة كان يصل إلى 15 شلنا بعد خمسة.
ومما يجب ذكره في بيان إثراء المماليك من مركز مصر، أنه يضم إلى هذه أن المسيحيين في مقابل زيارتهم للقدس الشريف، كانوا يدفعون مبالغ من المال لمن تكون له السيادة على فلسطين من المماليك البحرية، فقد جاء في تاريخ الدولة العثمانية تأليف المرحوم محمد بك فريد «أن السلطان سليم لما فتح مصر وعاد إلى أدرنه وصل إليه سفير من قبل مملكة إسبانيا ليكلمه في شأن حرية زيارة المسيحيين للقدس الذي كان قبلا تابعا لسلطة مصر، وتبعها في دخولها تحت ظل الدولة العلية، في مقابل دفع المبلغ الذي كان يدفع سنويا للمماليك.»
ومن هذا يظهر للقارئ أن التيار الذهبي الذي كان يسيل بتجارة الهند والشرق كلها إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، سواء من طريق مصر وهو الأكثر، أو من طريق سوريا، كان يمر في أيدي المماليك فيأخذون منه ما يشاءون من ضرائب ثم هدايا، ثم رشاوى، وهذا غير السلب والنهب، وبذلك استطاع المماليك في الدور الأول بناء كل هاتيك العمائر وشراء المماليك والبذخ والإنفاق.
وكان لهذا الحال الاقتصادية تأثير كبير على إدارة الأحكام في البلاد المصرية، فالثروة عادة تغطي العيوب وتدرأ المصائب، فكان المصريون من تجار وعمال يستفيدون من تلك التجار، الشرقية الغربية، بين بيع وشراء، وقيام بما تستلزمه من نقل وتوزيع، ولذلك كان اليسار فاشيا بين المصريين، وكان المماليك من جهة أخرى قانعين بما يفرضونه من الضرائب على المتاجر الأجنبية وما يدخل في خزائنهم من المال بحيث لم يروا ضرورة لظلم الفلاحين، ومصادرة التجار المصريين، واستلاب ما في بيوت الناس من خير وبركة، كما اضطر أن يفعله خلفاؤهم المماليك بعد الفتح العثماني، الذي حصل بعد اكتشاف طريق الرجاء الصالح وتحويل المتاجر الآسيوية بحرا إلى أوروبا، بزمن قصير جدا «الأول في 1498 والثاني في 1517».
اكتشاف الوصول إلى الهند بحرا وتأثيره على ثروة مصر
ولقد أثر اكتشاف طريق البحر حول إفريقية، على ثروة مصر تأثيرا كبيرا اضطر معه سلطان مصر في ذلك الحين، إلى أن يبعث بعمارة بحرية إلى مياه الهند لمحاربة البرتغاليين، وإتلاف سفنهم؛ لأن «فاسكودي غاما» البرتغالي لما دار حول رأس الرجاء الصالح، ثم وصل إلى الهند سنة 1498، وعاد منها إلى بلاده، حرض قومه «كما فعل قرينه كلومبوس بعد اكتشاف أمريكا» على امتلاك البلاد الهندية التي زارها، وفعلا احتلوا جزءا كبيرا من الجهة الغربية من الهند ولا تزال لهم مستعمرة برتغالية صغيرة للآن.
قال جورجي زيدان: في سلطنة «قانصو» الغوري «من 1501-1516» ما نصه: «ثم كانت الحوادث السياسية فتوقف الغوري عن إتمام ما كان يقصده من البناء والتحسين «في جامعه ومدرسته في أول شارع الغورية»؛ لأن البرتغاليين لما استولوا على بعض بلاد الهند أثقلوا على العلاقات التجارية بينها وبين مصر فجهز قانصو الغوري إلى محاربتهم حملة عظيمة ذهبت غنيمة باردة لجيوش الإفرنج في البحر الأحمر.» ا.ه.
بهذه العبارة الخفيفة مر المؤرخ جورجي زيدان على أكبر حادث في تاريخ «مصر الحديث» دون أن يقدر له قيمته، فأولا لم يذكر لنا كيف بعث الغوري بهذه الحملة العظيمة برا أم بحرا ... وقوله أثقلوا على العلاقات التجارية، لا يدخل في ذهن القارئ نورا يضيء له سلسلة الحوادث، وتأثير وجود البرتغاليين في الهند على ثروة مصر، بل وثروة الشرق كله؛ لأن الدولة العثمانية لم تدرك الخطر المحيق بأملاكها في مصر وآسيا من استيلاء الأوروبيين على البلاد الهندية، ولو أراد الله وأؤتي رجال الدولة العثمانية منعة في المدار السياسية، لفضلوا الاستيلاء على شواطئ الهند الغربية، على التوغل في أوربا فكانوا بذلك يمنعون المتاجر الهندية من الذهاب إلى أوروبا، قبل أن تمر ببلادهم، مصر أو سوريا، ثم كانوا ينشرون الدين الإسلامي في بقية البلاد الهندية، وكان الترك، بدلا من محاربتهم لجمهورية البندقية، واستيلائهم على جزر البحر الأبيض - تلك الجزر التي لم تبق في يدهم طويلا، وكلفت من الأموال والرجال ما لا يدخل تحت حصر - يتفقون مع فينيسيا على عدوهم وعدوها، وهو الاستعمار الأوروبي في آسيا.
ويرى الباحث من هذا أن سوء سياسة الدولة العثمانية كانت سببا في الإضرار بمصلحة مصر وثروتها، كما كانت من بعد سببا في تركها في أيدي مماليك الطبقة الثانية يسومون أهلها سوء العذاب، حتى صارت إلى ما صارت إليه، عند قدوم الحملة الفرنسية تحت قيادة نابوليون بونابرت.
والحق يقال أن جمهورية فينيسيا كانت أعرف بالخطر المحيق بثروتها وثروة مصر من الأتراك، فإنها هي التي حرضت السلطان الغوري على إرسال تلك الحملة إلى المياه الهندية، وهي التي أرسلت له بالأخشاب اللازمة لبناء السفن في البحر الأحمر، وكانت هذه الأخشاب تنقل على ظهور الجمال من الإسكندرية إلى السويس ويتولى عمال مهرة من الفينيسيين إنشاء السفن، ويؤكد السير بردوود في تقريره الذي سبقت الإشارة إليه، أن الفينيسيين اشتركوا بجيوش في الحملة المصرية البحرية، وذكر: أن ذلك الأسطول المصري سافر من السويس والتقى بالأسطول البرتغالي على شواطئ بومباي، وأن الأسطول المصري قهر البرتغالي وحطم سفنه ومات قائده واسمه «لورانزو المائيدا» “Lorenzo da Al Maeyda”
وهو ابن حاكم الولايات البرتغالية في الهند الغربية، وأخذ الهنود يقاومون البرتغاليين، ويقلبون لهم ظهر المجن، فخاف البرتغاليون العاقبة وجمعوا أسطولا جديدا قهروا به الأسطول المصري الفينيسي، في شهر فبراير سنة 1509 على مقربة من جزيرة ديو (Dio)
ولا شك أن هذه المعركة البحرية كانت من المعارك الفاصلة في التاريخ؛ إذ لو أتيح للمصريين الفوز الأخير، لقضي على الاستعمار الأوروبي في الهند إلى زمن طويل، ولبقيت مصر، وبلاد الدولة العثمانية، تتمتعان بثمار التجارة الهندية.
وعلى مثل هذه الحوادث الكبرى يمر مؤلفو تاريخ مصر، الحديث، مرورا غير لائق بمقام التأليف.
وكانت نتيجة تحويل التجارة الآسيوية عن طريق مصر عظيمة في إدارة البلاد ونظاماتها وثروتها، إلى درجة أدت إلى خراب مصر؛ إذ بقي المماليك، وبقي بذخهم، وبقي تعودهم على الترف والنعيم، وقل الوارد من الخارج، فتحولوا إلى امتصاص دماء المصريين حتى أوصلوهم إلى ما يقرب من الفناء، كما سيمر على القارئ فيما يلي:
الفتح العثماني لمصر
بعد ثمانية أعوام مرت على تلك المعركة البحرية في المياه الهندية أقبل السلطان سليم العثماني على مصر بجيش جرار وبعد وقائع ومعارك مع السلطان الغوري في مرج دابق، قرب حلب - وبعد معارك مع خلفه «طومان باي» بالقرب من الخانكة - دخل القاهرة «في شهر يناير سنة 1517» عنوة ولاقت العاصمة من جيوش العثمانيين الأمرين؛ إذ دار القتال في شوارعها وحاراتها، وأمعنوا فيها قتلا وسلبا، ونهبا وحرقا، حتى لقد بلغ عدد من قتل من جنود المماليك، ومن أهالي المدينة، أكثر من خمسين ألفا بشهادة مؤرخي الترك أنفسهم.
ومن هنا يبتدئ القسم الثاني لحكومة المماليك «1517-1798»؛ لأن السلطان سليم لما افتتح مصر كان في إمكانه القضاء المبرم، على المماليك الجراكسة وغيرهم، وكانت مصر استراحت من مظالمهم، وتمكنت الدولة العثمانية من وضع نظام إداري يجمع بين النفوذ العثماني، وبين تقدم الأمة المصرية، واستعمار هذه الديار على الطرق الحديثة، ولكنه على ما يظهر من جميع أقوال مؤرخي هذه الفترة الثقات خاف لبعد مصر عن مركز الحكومة العثمانية «ولم يكن ثمت سكك حديد ولا سفن بخارية» أن يستضعف أحد الولاة جانب المصريين، وهم دائما مستضعفون، ثم يبسط نفوذه في البلاد، ويستقل بها، وفي هذا الصدد يقول المرحوم علي باشا مبارك، في الجزء السابع من «خططه التوفيقية» ما خلاصته.
لما أخذ السلطان سليم مصر ورأى غالب حكامها من المماليك التي ورثوها عن ساداتهم رأى أن بعد الولاية عن مركز الدولة ربما أوجب خروج حاكمها عن الطاعة، وتطلبه للاستقلال، فجعل حكومة مصر منقسمة إلى ثلاثة أقسام وجعل في كل قسم رئيسا، وجعلهم جميعا منقادين لكلمة واحدة وهي كلمة وزير الديوان الكبير، وجعله مركبا من الباشا الوالي من قبله، ومن بكوات السبع وجاقات وجعل للباشا مزية توصيل أوامر السلطان إلى المجلس، وحفظ البلاد، وتوصيل الخراج إلى القسطنطينية، ومنع كل من الأعضاء عن العلو عن صاحبه، وجعل لأعضاء المجلس مزية نقض أوامر الباشا بأسباب تبدو لهم وعزله أن رأوا ذلك، وجعل حكام المديريات الأربع وعشرين من المماليك وخصهم بمزية جمع الخراج ... إلخ، ثم استطرد فقال: وبهذا الترتيب تمكنت الدولة العلية من إبقاء الديار المصرية تحت تصرفها نحو مائتي سنة، ثم أهملت تلك القوانين ولم تلتفت الدولة لما كان يحصل من المماليك في الأمور المخلة بالنظام فضعفت شوكة الدولة وهيبتها التي كانت لها على مصر، وأخذ البكوات تكثر من المماليك وتتقوى بها حتى فاقت بقوتها الدولة العثمانية في الديار المصرية فآل الأمر والنهي لهم في الحكومة، وصارت سلطة الدولة في مصر صورية غير حقيقية، ولو كانت الدولة العلية تنبهت لهذا الأمر ومنعت بيع الرقيق لكانت الأمور باقية على ما وضعها السلطان، ولكنها غفلت عن هذا الأمر كما غفلت عن أمور كثيرة، ومن ذلك لحق الأهالي الذل والإهانة وهاجر كثير منهم إلى الديار الشامية والحجازية وغيرهما، وخربت البلاد وتعطلت الزراعة من قلة المزارعين، وعدم الاعتناء بتطهير الجداول والخلجان التي عليها مدار الخصب وصار للبكوات الكلمة النافذة وانفردوا بالتصرف. ا.ه.
وقد أراد المرحوم علي باشا مبارك بقوله: «منع بيع الرقيق» هو شراء المماليك وتجنيدهم بواسطتهم أسيادهم الذين بقي لهم النفوذ المطلق في الديار المصرية على الرغم من توالي الولاة الذين كانوا يلقبون بالباشوات من الدولة العلية، ولخوف الحكومة العثمانية من ولاتها، ولرغبتها دائما في استرضاء المماليك، لكيلا يمنعوا الخراج عنها كانت لا تكاد تبعث بوال من عندها حتى تعزله وتعين بدله، وحتى لقد بلغ عدد ولاتها منذ الفتح العثماني إلى الاحتلال الفرنساوي - أي: من 1517 إلى 1798؛ أي: نحو 280 سنة - أكثر من مائة وال، قل من أقام منهم أكثر من عامين، وكثر من بدل كل عام، ولقد كان بعض أولئك الولاة، كما أثبت المؤرخون من أهل الكفاءة والإخلاص، وذوي الرغبة في إصلاح ما اختل من شئون هذه البلاد، فلا يكاد يشعر المماليك برغبته في الضرب على أيديهم، وكف مظالمهم، حتى يقرروا عزله، كما ترك لهم هذا الحق في النظام الذي وضعته الدولة لهم كما تقدم، فكان الوالي بمقتضى هذه الظروف، يوجه همته إلى إرضاء المماليك والتقرب منهم، وأخذ ما يستطيع أخذه من الأموال والطرف، ليعود إلى الآستانة مملوء الوفاض بادي الثراء.
وعلى الرغم من حيطة الدولة ورغبتها في أن لا يستبد أحد من المماليك بالسلطة في الديار المصرية، ومع ما كانت تبذله من الوسائل للتفريق بينهم وغرس بذور الأحقاد في صدورهم، فإنهم كانوا في الواقع ونفس الأمر مستبدين بحكومة البلاد وطالما ماطالوا الدولة في إرسال الخراج، بدعوى الحاجة إليه في إقامة الجسور أو حفر الترع وهم لم يفعلوا شيئا من هذا، أو بحجة قلة الفيضان وعجز المحصول وتأخر الأهالي عن دفع الضرائب، كما أن ذلك لم يمنع من اغتصاب الملك مرارا من الباشا الوالي وطرده من الديار المصرية، وبلغ الأمر في منتصف القرن الثامن عشر - أي: عام 1746 - أن قام المدعو إبراهيم بك القازضغلي، كخيا الإنكشارية «ميرالاي وجاق؛ أي: فرقة الإنكشارية» واتحد مع إسماعيل رضوان كخيا العرب، وقاوما الأحزاب الأخرى حتى استطاعا القضاء على عثمان بك الذي كان وقتئذ زعيم المماليك - أي شيخ البلد - وصارت مشيخة البلد لإبراهيم بك المذكور فصادر ممتلكات كثيرين من الأغنياء في القاهرة، ووضع يده على جميع محصولات البلاد والكمارك والقرى والمخازن، ولما عينت الدولة واليا جديدا لمصر عامله إبراهيم بك بالاحتقار فأراد الباشا الوالي الفتك به فلم يتيسر له ذلك، ثم لما ولي وال آخر غير ذلك وكان اسمه «راغب محمد» اتفق مع إبراهيم بك وحزبه مدة من الزمن، فلم يوافق ذلك سياسة الدولة فسعت للإيقاع بين واليها وبين البكوات، فبعثت له بالأوامر القاضية عليه بإبادتهم، فحاول ذلك ولكنه فشل، فلما عرف إبراهيم بك بمقاصده عزله .
وكان من مماليك إبراهيم بك المذكور «وكانوا يبلغون الألفين عدا» فتى يدعى «علي» اشتهر بالفروسية والإقدام، فرقاه سيده إبراهيم بك إلى رتبة البكوية، وكان لهذا المملوك شأن كبير في تاريخ مصر؛ لأنه خرج على الدولة لما وصل بدسائسه إلى مشيخة البلد، ثم أراد أن يستقل بملك مصر فتم له ما أراد، وفوق ما أراد.
ذلك أنه في سنة 1763 ميلادية تمكن علي بك هذا من أن يكون كبير المماليك، ولقب بشيخ البلد، ولكنه لم يصل إلى هذه الدرجة، إلا بعد منازعات وحروب مع أقرانه، ومنافسة مع المماليك أنداده، أدت إلى تخريب البلاد، والإساءة إلى العباد، إلى درجة أحرجت الشيخ الحفناوي أحد علماء الجامع الأزهر، «على ما بهم من جبن وفزع من المماليك» فقال لهم، كما روى الجبرتي، «لقد خربتم الأقاليم والبلاد، وكل ساعة خصام وحروب مع علي بك.»
ومع ذلك بقي النزاع بين علي بك وأقرانه البكوات، حتى أجبروه على الفرار إلى بلاد اليمن، ولكنه عاد باستدعاء أنصاره في عام 1180 هجرية /1766 ميلادية، وحين استقرت قدمه في القاهرة، قتل أربعة من البكوات في ليلة واحدة، ونفى أربعة آخرين، وكان من مماليكه إبراهيم بك الذي بقي حتى الحملة الفرنسية، وعاش حتى بعد مذبحة محمد علي في القلعة، ومن مماليكه أيضا أحمد بك الجزار المشهور الذي حارب نابوليون في عكا وصده عنها، ومن مماليكه كذلك محمد بك أبو الذهب الذي غدر به وكان سبب القضاء على آماله ومطامعه، ومنهم مراد بك المشهور في الحملة الفرنسية.
ولما خلا الجو لعلي بك، أخذ في مناهضة نفوذ الدولة العثمانية، فشرع في عزل وإبعاد جميع مستخدمي الملكية والجهادية، ورؤساء الوجاقات، وأبدالهم بمن هم على دعوته، وسعى في تقليل العساكر العثمانية، وإكثار المماليك من دعاته، وعمل ما لم تعمله الدولة حين استيلائها على مصر، بأن منع البكوت الذين كان يخشى من تغيرهم عليه، من أن يقتني أحدهم أكثر من مملوك واحد أو مملوكين، ولم يحفل بسلطة الوالي ونفاه من مصر، فلما شعرت الدولة بمقاصده، حاولت القضاء عليه، ففشلت في مساعيها، ولما علم بمقاصد الدولة نحوه، فعل كما فعل «محمد علي» بعده فأعلن استقلال مصر وطرد الوالي الجديد، واتحد مع الشيخ ظاهر أمير عكا، منتهزا فرصة اشتغال الدولة العثمانية بمحاربة روسيا، وعلى الرغم من النزاع الذي كان بين زعماء مماليكه «أي: أحمد بك الجزار، ومحمد بك أبو الذهب» فإنه توصل بدهائه وحزمه، إلى بسط نفوذه على جزيرة العرب، واستولى على جده وعين عليها واليا من مماليكه، اسمه حسن بك ولقبه بالجداوي نسبة إلى جده «وكان لهذا الرجل شأن في حوادث مصر مع الفرنسيس، «سيأتي دورها في هذا الكتاب» واستدعى إليه «روستي» المشهور في الحوادث الفرنسية «وكان هذا الأخير تاجرا صغيرا من أهالي البندقية وبقي في مصر من ذلك الحين، إلى أيام الحملة الفرنسية»
2
وكلفه بتنظيم التجارة الخارجية والمخابرات الدولية، ونصح إليه روستي باتخاذ جدة مركزا للتجارة مع الهند.
ولم يكتف علي بك بهذا بل أعلن الحرب على الدولة العثمانية، وحاربها في اليمن والشام، حتى امتد نفوذه في جميع شواطئ البحر الأحمر وبحر القلزم وبسط رواق سلطته على الحجاز ومكة المشرفة، وعزل شريفها، وأقام مقامه ابن عمه الذي لقبه «بسلطان مصر وخاقات البحرين» وأمر بأن يخطب باسمه في المساجد وضرب النقود
3
باسمه في القاهرة.
وعقد له «روستي» المشار إليه، معاهدة سلمية مع الفينيسيين وعهد إلى رجل أرمني يدعى يعقوب، عقد معاهدة دفاعية هجومية مع الروسيا، ثم سير حملة إلى الشام تحت قيادة مملوكه محمد بك أبو الذهب فاتحد مع صديق مولاه الشيخ «ظاهر العمر» صاحب عكا، واستولى على غزة والرملة ونابلس وبيت القدس ويافا وصيدا وحاصر دمشق وافتتحها عنوة.
وليس غرضنا شرح تاريخ علي بك فإن الغرض من هذه المقدمة هو بيان ما كانت عليه أحوال مصر عند الحملة الفرنسية، وإنما أردنا، من ذكر قيام هذا المملوك بمناوأة الدولة العثمانية، إظهار أن سياسة الدولة في مصر كانت عقيمة، وأنها تركتها ألعوبة في أيدي أولئك المماليك الأفاقين، السفاكين للدماء، الطامعين في الاستزادة من الملك والسلطان، ويكفينا في هذا المقام أن نقول في بقية تاريخ علي بك «سلطان مصر وخاقان البحرين، كما كانوا يلقبونه» أن مملوكه محمد بك أبو الذهب - «الذي لقيه «فولني» الرحالة الفرنسي في غارته على سوريا ووصف جنوده المماليك وصفا بليغا في كتابه،
4
وكنا نود أن نأتي عليه لولا خوف الإطالة - أصغى لمساعي رجال الدولة العثمانية، وصادف ما قالوه له هوى في نفسه فانقلب على مولاه، وولي نعمته، وعاد بالجيش الذي افتتح به سوريا ليحارب سيده به، وبعد تقلبات يطول شرحها فر علي بك إلى الشام، ثم عاد منها معضدا بالدولة الروسية ولكنه فشل، وقبض عليه محمد بك أبو الذهب ثم مات مسموما بيده، وقد روى الجبرتي: أنه لما مات علي بك أنعم محمد بك أبو الذهب على مراد بك الذي سيكون له معنا في الحملة الفرنسية شأن كبير، بسريته «نفيسة المرادية» التي اشتهرت بالمكارم والهمة، وسيأتي معنا ذكرها في أيام الفرنسيس وفي زمان محمد علي باشا أيضا.
أما محمد بك أبو الذهب فإنه أعاد مصر تحت سلطة الباب العالي، وهذا يؤيد ما ذهب إليه المؤرخون من أن انقلابه على مولاه، كان بدسيسة من الدولة واستقر هو في وظيفة شيخ البلد؛ أي: الحاكم المطلق فعلا، وأخذ يعبث في البلاد ظلما، وجعل الضرائب ضعفين، وأثقل كاهل الأهالي بالمغارم والمظالم، والقتل والنهب والسلب، وكان من المحتمل أن لو أستتب قدم علي بك، ولم يغدر به مملوكه، أن يسير بالبلاد سيرة حسنة، ويوطد فيها دعامة ملك أثبت من نظام ذلك التنازع بين المماليك والدولة، ولكن مصر دائما مقضي عليها بمثل هذه الظروف السيئة. •••
مات محمد بك أبو الذهب بالحمى في الشام وقد ذهب إليها محاربا ومنتقما من الشيخ ظاهر العمر وترك وراءه بحارا من الدماء، وأشلاء من القتلى، وخرائب من السلب والنهب، فكان من مماليكه المقربين إليه إبراهيم بك، ومراد بك، اللذان كانا يحكمان الديار المصرية عند قدوم نابوليون بونابرت بحملته التي هي موضوع هذا الكتاب.
الحالة الإدارية والحالة الاقتصادية لمصر قبل الحملة الفرنسية
لما احتل الفرنسيون هذه الديار، ونقبوا في آثارها، وألفوا الكتب في أحوالها، كتب بعضهم من رجال البعثة العلمية مباحث دقيقة في نظام حكومة المماليك قبل احتلال الفرنسيين، وعلى هذه المباحث نعتمد فيما نكتبه في هذا الباب؛ لأن ما كتبه المؤرخون باللغة العربية، ممن شهدوا تلك الأيام كالجبرتي، ونقولا الترك، والشيخ الشرقاوي، لا يشفي الغليل، والكثير منه خط وخبط لا يهتدي الباحث في ظلماته إلى قبس نور يستضيء به في وضع مختصر عن نظام حكومة المماليك في عهدها الأخير، ولا في بيان الحال الاقتصادية للبلاد، ولقد تعبت كثيرا في معرفة عدد سكان القطر في ذلك الحين لما وجدته من التناقض البعيد في الروايات، إلا أنه بضم أقوال السياح وأقوال المؤرخين المتأخرين إلى بعضها، يصح الاستنتاج أن سكان القطر في ختام القرن الثامن عشر كانوا بين المليونين والثلاثة.
وإنه لمن المفيد كثيرا معرفة عدد سكان القطر المصري، قبل الفتح العثماني ومقارنته بعددهم الذي أشرنا إليه.
كان النظام الإداري الذي وضعه السلطان سليم لمصر، ونقحه وزاد عليه السلطان سليمان بعده، يلخص فيما يلي:
أنشئ ديوانان تحت رئاسة الباشا الوالي يحضر اجتماع كليهما وهو جالس وراء ستار ولا صوت له في أحدهما، وما يقره الديوان ينفذه الباشا الذي يجدد تعيينه كل سنة.
وأما واجبات الديوان الأول فهي المفاوضة والإقرار على ما يتعلق بالأمور الداخلية التي لا علاقة للدولة بها، وأما أعضاؤه فهم أغوات الوجاقات «الأورط أو الفرق العسكرية» الست، ودفتر داريوها وروزنا مجيوها، «يعني قومندانات الآلايات ورئيس كتابها ومدير وحساباتها» ونواب من جميع فرق الجيش، وأمير الحج، والقاضي الأكبر، وأعيان المشايخ، والأشراف، وللباشا الحق في إصدار الأوامر بعقد جلساته، ولم يكن ذلك إلا في الحوادث الهامة.
وأما الديوان الصغير فيعقد يوميا في قصر الباشا وأعضاؤه هم كخيا الباشا «وكيله» والدفتردار والأغا وكبار رجال المتفرقة ونائب من كل وجاق «فرقة» وينظر هذا الديوان في الأعمال، وما تحتاج إليه البلاد من الأمور.
ورسم السلطان سليم بأن يكون مقر الوالي قلعة الجبل، وأن لا تزيد مدة ولايته عن سنة واحدة ثم تعطى لغيره، وزاد في نظام الجند فأنشأ وجاقا سابعا بمن بقي من المماليك الشراكسة، ورتب لكل وجاق ديوانا ينظر في شئونه، وكان مجموع الوجاقات «أي: الحامية العسكرية» عشرين ألفا.
وجعل السلطان سليمان للبكوات المماليك، الذين أقامهم السلطان سليم، امتيازات خاصة وأضاف إليهم 12 بيكا فوق العادة، وهاك أسماء الموظفين الذين ينتخبون من البكوات المماليك وهم الكخيا، أو نائب الباشا، والقباطين الثلاثة، وهم قومندونات ثغور السويس ودمياط وإسكندرية، والدفتردار، وأمير الحج، وأمير الخزنة، ومديرو المديريات الخمس، وهيجرجا والبحيرة والمنوفية والغربية والشرقية.
وكانت وظيفة الدفتردار ضبط الحسابات، وحفظ الدفاتر والسجلات، ولا ينفذ أمر بيع عقار إلا بعد توقيعه عليه، إشارة إلى تسجيله في دفاتره، وأمير الحج يحمل الهدايا والصدقات التي كانت ترسل من السلطان سنويا، إلى الحرمين الشريفين، وأما أمير الخزينة فيحمل الجزية السنوية للأستانة، من حاصلات مصر برا، وكانت مديريات القليوبية والمنصورة والجيزة والفيوم في عهدة كشاف «مديرين» لا فرق بينهم وبين البكوات في النفوذ، ولهم في كل مديرية من هذه المديريات ديوان خاصة من الوجاقلية والشربجية.
وكان هم الباب العالي منصرفا إلى العناية بالسويس ودمياط وإسكندرية؛ لأنها أبواب الفاتحين لمصر، فكان يرسل حاميتها من الآستانة، تحت قيادة ضباط أتراك، ولا تحسب هذه الحاميات من جيش مصر، وإن كانت نفقتها على الخزينة المصرية.
وقرر السلطان سليمان بأنه المالك الحر لجميع أرض مصر، فلذلك كان يوزعها إقطاعات على الملتزمين «على نظام الإقطاعات في أوروبا في القرون الوسطى» والفلاحون هم الذين كانوا يقومون بزراعة الأرض كانوا مجبورين على العمل فيها، دون أن يكون لهم حق التصرف بالبيع أو بالشراء ولا يرث أبناؤهم إلا حق الخدمة فيها، وتنتقل الأرض بالميراث لأبناء الملتزمين.
وإذا مات الملتزم من غير وارث، تعود الأرض للسلطان مالكها فتعطى لملتزم جديد، وكان على كل الملتزمين والفلاحين ضرائب أو خراج يدفعونه إما نقدا وإما عينا وكان لا يحل لأحد الفلاحين ترك ما في يده من الأرض، أو التخلي عن تعهدها بالحرث والزرع، بل كان يجبر على ذلك ويجلد بالسياط أو يقوم بدفع ما عليها من الخراج إلى أولئك الملتزمين، ولم يكف هذا النظام العسكري الذي لم يدع للمصريين ظلا من معني الوجود، حتى تطاولت مطامع الأتراك إلى سلب القضاء الشرعي من يد علماء المصريين، ذلك القضاء الذي أبقى لهم شيء من النفوذ الديني في الأحكام والمواريث والقضاء، فأصدر السلطان سليمان «سنة 928ه» أمره بإبطال قضاة المذاهب الأربعة من التصرف في القضاء بديار مصر، وتسليم جميع الأحكام الشرعية لقاض واحد من قضاة الروم «أي: الترك» بحيث لا يصح لأحد أن يوقف وقفا، أو يعقد عقدا، أو يكتب وصية أو إجارة، أو حجة أو غير ذلك من الأمور الشرعية، حتى تعرض على قاضي العسكر الذي يعين من الآستانة.
وروى المؤرخون أن أول قاضي من الترك عينه السلطان سليمان كان اسمه «سيدي جلبي» وهذا عين له وكلاء قضاة للمذاهب المختلفة من الترك أيضا، وجعل لكل قاض منهم نائبا من المصريين، وأحدث هذا القاضي من أساليب امتصاص دماء الأمة ضريبة على التركات فجعل على كل تركة الخمس منها لبيت المال مع وجود الورثة من الذكور والإناث، ولا ندري بأي حق، ولا على أية قاعدة شرعية، وضع هذه الضريبة الفادحة، وغريب أن علماء مصر ورجال الأزهر لم يعارضوا في ضريبة كهذه، وبقي معمولا بهذه البدعة إلى الزمن الأخير من سلطة المماليك فقد ذكرها الإسحافي في حوادث سنة 1028؛ أي: بعد فرض تلك الضريبة بمائة عام تماما: وقال «وهذا العام وقع الطعن والطاعون بمصر المحروسة وقراها، ومكث نحو شهرين فاشتغل الناس بموتاهم، وأقفل غالب الأسواق في مصر وحوانيتها، ما عدا أسواق الأكفان فإنها مفتوحة ليلا ونهارا، ومنع جعفر باشا «الوالي التركي» عامل الأموات من التعرض للموتى، فصار الناس يدفنون موتاهم من غير إذن، وحصل بذلك رحمة للعالمين، قال هذا المؤرخ: «فيا سبحان الله!! يموت اليهودي، وهو صاحب مائة ألف، فلا يتعرض له أحد من الظلمة.» ولا يسأل عما خلف وإذا مات مسلم لم يدفن حتى يشاور عليه وتأتي الظلمة تخرجه من بيته ويختمون عليه «كذا في الأصل» مع أن له أولادا «كذا» وأخوة وزوجة فالحكم لله العلي الكبير، ألم يسمعوا قول العزيز الجبار
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا . ا.ه. •••
هذه النظامات الإدارية والعقارية والقضائية بقيت مرعية الجانب ما دام نفوذ الدولة قويا، ولكن لما استبد المماليك بالأمر انهار جدار هذه النظامات التي لا تخرج عن كونها نظاما عسكريا لم تراع فيه مصلحة البلاد، ولا ترقية شئونها الاقتصادية أو السياسية، حتى ولا العمل على حفظها من التدهور إلى هاوية الفقر المدقع، فلم تقرر في ذلك النظام خطة مالية لحفر الترع وصيانة الجسور، أو أي أمر يساعد على إصلاح الأراضي أو صيانتها، وهي مصدر حياة سكان البلاد، ومصدر خراج الدولة، ومغارم المماليك، وما يلزمهم من الأموال للبذخ والترف، والإنفاق على «بيوتهم» ومماليكهم الذين بلغ عددهم في أواخر القرن الثامن عشر عند زيارة «فولني» لمصر نحو 8500 مملوك من الكبار الذين ينفق الواحد منهم على سلاحه وملبسه وزوجاته وسراريه، نحو ألفين وخمسمائة جنيه في العام، على تقدير «فولني» وهو شاهد عيان.
وكان البكوات الكبار من المماليك يخلعون على أتباعهم في أيام المواسم، الخلع النفيسة المصنوعة في فرنسا أو فينيسيا، ومن كشامير الهند وحرير دمشق، وكانوا إذا أعتقوا مملوكا ورقوه درجة يمنحونه منزلا فاخرا مؤثثا بالرياش الفاخر، ويزوجونه، ويهبونه الجواري الحسان، من بيض وحبشان، فاشتد بذلك ساعدهم، وتقلص ظل الدولة شيئا فشيئا.
ثم كان التنافس بين زعماء المماليك سببا في تخريب البلاد، فإذا خاف أحدهم على نفسه من فتك الآخرين، يغير بجماعته على مديرية من المديريات، ويستولى على خراجها، ويتولى أخذ ضرائبها من الملتزمين والفلاحين، وكثيرا ما يستحل المديرية أو المديريتين لنفسه ملكا حلالا!! فكيف كان من الممكن أن يستتب نظام إداري أو عقاري، في أحوال فوضى واضطرابات كهذه مستمرة بلا انقطاع، وزاد الطين بلة، على المصريين الفلاحين، أن الملتزمين، وكان غالبهم من محاسيب المماليك وأتباعهم الذين إما يعجز منهم عن التطلع إلى مقام البكوات، وإما لضعف في أجسامهم يعوقهم عن مجاراة الأقران في ميادين الفروسية، وإما لرغبة منهم في البعد عن غمرات التحزبات، وأخطار المنافسات - كانوا يفضلون الإقامة في الريف بعد نيل الالتزامات الواسعة - ونقول زاد الطين بلة على الفلاحين أن أولئك الملتزمين مدوا أيديهم إلى ما في أيدي الفلاحين من الأراضي وجعلوها وسايا «جمع وسية» لهم وحتموا على الفلاحين العمل فيها بغير أجر، كما كانوا كذلك يكلفون بالخدمة المجانية في أراضي الأوقاف والحبوسات، التي قل أن يصل شيء من ريعها للإنفاق على ما خصص له.
مثل هذا النظام لم يكن ليؤدي مطلقا إلا إلى هذه الخراب والإفلاس، وطالما حاقت بمصر المجاعات الحادة كما تراه مفصلا بأبلغ العبارات في صحائف الجبرتي، ولا يخفى أن الغزوات التي قام بها علي بك الكبير من سنة 1766-1775 كلفت مصر وأهلها أكثر من ستة وعشرين مليونا من الجنيهات، وقد ذكر «فولني» أن علي بك الكبير ابتاع خنجرا مرصعا بالجواهر الكريمة بمبلغ 225000 جنيه، ولقد وصل الحال بالفلاح المصري أنه لم يجد سكنا يقيم فيه فكان يلتحف العراء، وذو اليسار منهم يعيشون في أكواخ من الطين، ولا يجد الواحد منهم ما يأكله سوي الخبز الحقير المصنوع من الذرة والحلبة، يتناوله بالبصل النيئ أو الأعشاب التي يجمعها من جروف الترع والمجاري، ويطبخها بغير لحم ولا إدام، وكان رداؤه قطعة من القماش المصبوغ بالنيلة، وهي ميراث الفلاحين وإليها ينسبون «أصحاب الجلاليب الزرقاء»، وأما البذخ والترف، والذهب والفضة، والملابس المزركشة، والغلائل الرقيقة، والخيل المسومة، والسلاح المنمق بالجواهر الكريمة، والدور الفسيحة، والقصور الفاخرة، والنعيم على وجهه الأكمل، فلم يخرج عن دور المماليك وأتباعهم، وذوي المحسوبية عليهم من لصوص الإنسانية.
ذكر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار» - وهو مؤرخ هذه الفترة وجامع شتات أخبارها، وله ميل للمماليك - عند كلامه عن مراد بك، أنه جعل إقامته بقصر الجيزة، وزاد في بنائه وتنميقه، وبنى تحته رصيفا محكما، وأنشأ بداخله بستانا عظيما نقل إليه أصناف النخيل والأشجار والكروم، واستخلص غالب إقليم الجيزة لنفسه شراء ومعارضة، وغصبا، وعمر قصر جزيرة الذهب وجعل به بستانا عظيما، وكذلك قصر «ترسا» وبستان «المجنون»، وصار ينتقل في تلك القصور والبساتين ... إلخ، وإليك وصف كاتب فرنسي لقصر مراد بك بعد انخذاله في واقعة إمبابة، وفراره للصعيد، ودخول الفرنسيين في منزله، قال: «ولما وصل المعسكر العام إلى الجيزة في الساعة التاسعة مساء نزلنا دار مراد بك فلم نجد فيها إنسانا، ولم يكن هذا القصر يشابه في حجاراته، وتوزيع طرقاته، قصور أوروبا، ولكنا وجدنا فيه مما تركه رجال مراد بك، ولم يحفلوا بنقله، فراشا فاخرا، وحرائر موشاة الأطراف بالذهب والفضة، وأشياء من مفاخر الصناعة الأوروبية ... إلخ، ومثل هذا الوصف بالنص ورد في كتاب «فيفان دينون»
5
الذي قدم القاهرة آتيا من رشيد بعد مدة من سقوط القاهرة في أيدي الفرنساويين، وروى كتاب الحملة الفرنسية أن الجنود الفرنسيين كانوا يجدون في ملابس كل واحد من المماليك الصرعى في ميدان القتال «واقعة إمبابة» ما لا يقل عن نحو مائتين أو مائتين وخمسين قطعة من الذهب، عدا ما تقدر به ملابس الواحد منهم وطيلسانه وسلاحه وسراج جواده، من المبالغ الطائلة.»
تجارة مصر قبل الحملة الفرنسية
لم يكن من الممكن مع حكومة لحكومة المماليك، أن تنمو التجارة، أو تتسع المعاملات الداخلية والخارجية، وقد سبق لنا أن شرحنا، في هذه المقدمة أن مصر لم تعد بعد طريق التجارة الشرقية من موانئ آسيا إلى أوروبا، بعد أن اكتشف طريق الرجاء الصالح، ولو كانت على ضفاف النيل حكومة عادلة، لفضل التجار إرسال متاجرهم عن طريق البحر الأحمر، ونقلها من السويس إلى الإسكندرية بدلا من تعرضها لأخطار البحار العظمى حول إفريقية، وواسع المحيط الأطلانطيقي، «وسنزيد هذه النقطة إيضاحا عند الكلام على تجارة الهند» ... ولو أن الحكومة العثمانية، بعد فتح مصر، فكرت في صالح نمو التجارة، وقدرت خسارة مستعمرتها الجديدة، من اكتشاف طريق الرجاء الصالح، خصوصا وقد حاربت بأساطيلها البرتغال الذين كانوا يهددون تجارة مصر، كما سبق لنا بيانه، نقول لو أن الحكومة العثمانية فكرت في هذا الأمر، وأعادت حفر خليج أمير المؤمنين «الذي احتفره عمرو بن العاص بأمر الخليفة عمر بن الخطاب لنقل المئونة إلى الحجاز، والذي أمر بردمه ، في سنة 134 هجرية، الخليفة المنصور أبو جعفر ثاني الخلفاء العباسيين لكي يمنع وصول الإمداد إلى العلويين الذين طالبوا بالخلافة في المدينة المنورة»، لسهلت للتجارة النقل بحرا من الهند إلى أوروبا، عن طريق مصر ولكنهم لم يفعلوا هذا، ولم يتمكنوا من نشر سيادتهم البحرية في المياه الهندية، وزد على ذلك أن مظالم المماليك وتعديهم على التجار الأوروبيين الذين كانوا يأتون لشراء حاصلات مصر، وما يصل إليها من المماليك الشرقية الآسيوية بطريق القوافل، كانت من أكبر الضربات على التجارة المصرية، ولقد انحط مقام الإسكندرية حتى لم يبق فيها من السكان إلا ثمانية آلاف
6
وزاد الطين بلة فيها أن الحكومة العثمانية احتكرت لنفسها الجزء القديم من الميناء، وهو الجزء الذي يصلح لرسو السفن، فكانت السفن الأجنبية القادمة بالمتاجرة وللشراء مضطرة أن ترسو خارج الميناء الجديدة معرضة للزوابع والزعازع، ورأى مؤرخو الإفرنج «في سنة 1766» أنه بينما كان علي بك الكبير يحارب الدولة هبت ريح عاتية أغرقت اثنين وأربعين سفينة كانت راسية في ميناء إسكندرية، ولم تكن الإسكندرية متصلة بالنيل بقناة تنقل لها الماء الحلو، وكانت هناك قناة مرسومة في الخرائط الفرنسية وهي الترعة المسماة بالمحمودية، نسبة إلى السلطان محمود، ولكن ما كانت توصل المياه إلا في زمن الفيضان فقط، فكان اعتماد سكانها على مياه الأمطار يحفظونها في الصهاريج. •••
وحاول جماعة من تجار الإنكليز تسيير القوافل بين السويس والقاهرة لنقل المتاجر الهندية إلى عاصمة القطر، ثم نقلها بواسطة النيل، إلى دمياط أو رشيد، ولكن مظالم المماليك، وتعدي العربان على القوافل، أوقف تلك المشروعات التي كانت تساعد على نمو التجارة المصرية، وليست هذه الأقوال لكتاب أوروبيين حتى يتهموا بالتعصب لقومهم، فإن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي يقول في ترجمة مراد بك «فأحدث المترجم ديوانا خاصا بثغر رشيد على الغلال التي تحمل إلى بلاد الإفرنج وسموه ديوان البدعة، وإذن ببيع الغلال لمن يحملها إلى بلاد الإفرنج وغيرها، وجعل على كل إردب دينارا خلاف البراني «يعني الرشوة والمغارم»، والتزم بذلك رجل من أعوانه الموصوفين بالجور وسكن برشيد، وبقيت له بها وجاهة، وكلمة نافذة، فجمع من ذلك أموالا وإيرادا عظيما، وكانت هذه البدعة السيئة من أعظم أسباب قوة الفرنسيس وطمعهم في الإقليم المصري، بعدما أضيف إلى ذلك من أخذ أموالهم ونهب تجارتهم وبضاعتهم، من غير ثمن، واقتدى به أمراؤه «أمراء مراد بك» وتناظروا في ذلك وفعل كل منهم ما وصلت إليه همته واستخرجته فطنته.» وقال عنه أيضا: «واختص بالسيد محمد كريم السكندري ورفع شأنه بين أقرانه فمهد له الأمور بالثغر وأجرى أحكامه به، وفتح له باب المصادرات والغرامات ودله على مخبئات الأمور، وأخذ أموال التجار من المسلمين وأجناس الإفرنج، حتى تجسمت العداوة بين المصريين والفرنسيين ... إلخ.» وقال في ترجمة السيد محمد كريم المذكور: «وقلده مراد بك أمر الديوان والجمارك بالثغر فزاد في المكوسات، ومصادرات التجار، خصوصا الإفرنج.»
ومن رأي «جودت باشا» في تاريخه أن الذي دعا الفرنسيين للحملة على مصر هو ما أتاه المعلم نقولا النصراني الذي جعله حسن باشا قبودان رئيسا للقلونجية «البحارة» في الترسانة التي شادها هذا بالجيزة لإنشاء السفن، فإنه بعد أن اشتد نفوذه وعظم شأنه، أكثر من التعدي على سفن الإسلام والإفرنج معا.
7
وكانت نتيجة ذلك كله أن مصر تدهورت إلى هوة الخراب الاقتصادي الذي تجرعت منه الأمرين، وقاسى منه أهلها الجوع والعراء والمظالم، نحو ثلاثة قرون من الزمان حتى اضمحل شأنها، وفقدت منزلتها التي كانت لها في العالم القديم والحديث، وحتى هجرها أهلها، وهي البلاد التي لا يحب أهلها هجرها، ولا غرابة أن تتضاءل مصر في ثلاثمائة عام حتى تعود خيالا، لما كانت عليه من قبل، وحتى ينقص عدد سكانها من نحو 15 مليونا إلى نحو مليونين ونصف.
ولكن بالرغم عن كل هذا فإنه بقيت لمصر تجارة ترد إليها بالقوافل من اليمن وبلاد الحبشة وسوريا شرقا، وطرابلس وتونس والجزائر والصحراء غربا، فكان يرد من اليمن، البن وبهارات الهند والأقمشة الهندية الجميلة، ويرد من الحبشة الصمغ والعاج والريش، ومن دمشق الأقمشة الحريرية المشهورة ومن بلاد الغرب والصحراء الصوف والجلود، والتمر وما أشبهه ذلك، وكانت التجارة الأوروبية بين الإسكندرية ورشيد ودمياط وموانئ أوروبا متواصلة الأخذ والعطاء فكانت يرد السفن من فرنسا بالأقمشة والمعادن والخردوات والمصنوعات، وتعود حاملة للأقمشة القطنية والبن اليمني والريش والعاج والصمغ والقمح والأرز.
استعمار إنجلترا في الهند وتأثيره في تجارة مصر في ذلك العهد
لما اتسعت مطامع الشركة الإنجليزية الهندية في استعمار تلك الأقطار، وكانت تلك الشركة تحت سيطرة الحكومة الإنجليزية في لندن، توجهت الأنظار بالطبع إلى هذه الديار المصرية؛ لأنها طريق الهند في التجارة «والداء قديم وتعبير «مواصلات الإمبراطورية البريطانية» ليس بالشيء الحديث».
وعلى الرغم من اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح حول إفريقيا بحرا فقد كان طريق التجارة الطبيعي إلى أوروبا هو البحر الأحمر، ومصر، والبحر الأبيض المتوسط، وقد حدث في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ثلاث حوادث أثرت على الحالة السياسية في العالم، وأهمها تأثيرا على تجارة مصر ومستقبلها معاهدة باريس التي تنازلت فيها فرنسا عن كل دعوى لها في الهند إجابة لطلب إنجلترا، والحادثتان الثانيتان هما ثورة علي بك الكبير وخروجه على الدولة في سنة 1766 «كما سبق لنا القول»، والحرب التي شبت نارها بين الترك والروس سنة 1768 وكان نتيجتها معاهدة «كاينارجه».
وكان من أهم النتائج لهذه الحوادث الثلاثة، زيادة نفوذ إنجلترا بفضل مركزها الجديد في الهند، ولهذا وجهت أنظارها منذ ذلك الحين إلى مصر وكانت مطامعها في أول الأمر تجارية.
وكان في مقدمة الرجال الذين اهتموا بالعلاقات التجارية بين الهند وإنجلترا عن طريق مصر رجل اسمه جامس بروس (James Bruce)
الرحالة المشهور الذي ساح في البحر الأحمر وبلاد الحبشة، وتقرب من علي بك بواسطة روسيتي الفينيسي الذي سبق ذكره، وقد تمكن بروس هذا من الحصول على إذن من علي بك والي مصر، يجيز للإنجليز حرية سفر السفن الإنجليزية، ودخولها ميناء السويس وسافر بروس إلى الحبشة وفي أثناء غيبته عرض روستي على علي بك مشروع ترويج التجارة بين مصر والهند لفائدة الجمارك المصرية، فاغتنم علي بك فرصة نشوب الحرب بين تركيا وروسيا في سنة 1769 واستولى على الحجاز عنوة بحد السيف.
وفي سنة 1771 اقترح إنجليزي مقيم في جدة على علي بك فتح طريق تجاري من الهند إلى السويس مباشرة، وخابر علي بك حام البنغال في هذا الصدد، ولكن قبل أن ينفذ هذا المشروع الاقتصادي خسر علي بك ملكه في الحجاز، وفي مصر أيضا.
وفي يناير سنة 1773 عاد «بروس» من سياحته من الحبشة وكان محمد بك أبو الذهب هو الحاكم المطلق التصرف في مصر فتقرب إليه «بروس» وانتهز هذه الفرصة للاتفاق مع محمد بك أبو الذهب على أن يسمح للإنجليز بجلب بضاعتهم من الهند إلى ميناء السويس.
وقد ذكر بروس شيئا عن هذه المخابرات في كتابه المعنون «سياحة إلى نابع النيل من سنة 1768 إلى 1773»
8
ولكن الحكومة الإنجليزية لم تحفل كثيرا بمساعي بروس وخسرت التجارة المصرية والإنجليزية سواء بسواء.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد من معاكسة التجارة بين مصر والهند وأوروبا بل أن الباب العالي؛ أي: تركيا، ارتأت أن سفر البضاعة الهندية من طريق السويس مضر بتجارة الآستانة عن طريق حلب، فأرسل الباب العالي فرمانا إلى باشا القاهرة يأمره بإيقاف كل تجارة تأتي عن طريق السويس، ولم تكن هذه هي المرة الأولى، ولا الأخيرة التي عاكس فيها الباب العالي مرور التجارة الهندية من طريق مصر.
ولم تنجح محاولات «وران هاستنج» حاكم الهند، واتفاقية مع محمد بك أبو الذهب في سنة 1775، ما دامت تركيا قد رأت، في ذلك الوقت، أن مرور التجارة الهندية من طريق مصر مضر بصوالحها، وهكذا خسرت مصر واشتدت بها الفاقة والضنك.
المماليك والمال
لم يكن شره المماليك في جمعهم للمال قاصرا على حاجتهم إليه في البذخ والترف والإنفاق على منازلهم وقصورهم وشهواتهم؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما اشتدت وطأتهم على البلاد واستنزفوا ثروتها، وامتصوا دماءها إلى النقطة الأخيرة، بل لقد كانت حاجتهم إلى المال أشد وأقوى من قضاء أوطارهم الشخصية، فقد قضى نظامهم بأن لا يقوم لواحد منهم شأن، إلا بالإكثار من المال، فأولا لا يكون لمملوك بعد عنقه عزوة، إلا إذا أكثر من شراء المماليك خاصة له ليكون له منهم سند وجاه ، والمماليك الذين يكونون من أتباعه، لا يداومون على التعلق بأهدابه، إلا إذا أغدق عليهم المال، ومدهم بجمع ما يحتاجون إليه من فاخر اللباس، وجميل الهندام، والأسلحة الغالية الأثمان، ثم إذا تطلعت نفس الواحد منهم إلى الإمارة، اضطر إلى بناء الدور الواسعة لاستقبال الزوار، ومد رواق نفوذه على الأقران، وكانت الدسائس والمنازعات بين البكوات وبعضهم، قاضية عليهم بالإكثار من المال في حوزتهم، ليكون آلة قوية في تصيد الأحزاب، وكانوا لا يرعون عهدا، ولا يعرفون الوفاء إلا نادرا، فبينما نرى محمد بك أبو الذهب مملوكا وتابعا ثم قائدا لجيش علي بك الكبير في الشام، نجده قد عاد بهذا الجيش للقضاء على مولاه، وبينما ترى إسماعيل بك مرسلا من قبل علي بك الكبير على رأس ثلاثة آلاف مقاتل لمقاومة خائن عهده أبو الذهب، نجد هذا قد انضم إلى الخصم، وعاد معه لقتال من أرسله لقتاله، وقس على هذا مئات من الأمثلة يجدها القارئ - إن أحب - منثورة على صفحات الجبرتي، وإنما كان الوفاء للمال لحاجتهم إليه في قضاء أوطارهم، وإدراك مطامعهم.
وقد ذكر الثقاة أن علي بك الكبير حين خذله رجاله وأنصاره، التجأ إلى صديقه الشيخ ظاهر عمر أو «العمر»
9
في عكا وكان مقدار ما أخذ معه من الأموال ثمانمائة ألف محبوب ذهبا «أي: نحو أربعة وعشرين ألف جنيه تقريبا»، يحملها على 25 جملا، وقالوا أيضا إنه نقل معه من المصاغ والحلي ما يساوي أربعة أضعاف ذلك.
وقد قابل «فولني» في سياحته بالشام، جيوش علي بك الكبير وهي ذاهبة لفتح سوريا، فقال إن الجيش المشار إليه كان مؤلفا من نحو 40000 مقاتل، ولكن لم يكن فيه من المماليك الخيالة غير خمسة آلاف، ونحو ألف وخمسمائة من المشاة وهم من المغاربة والباقي خدم وأتباع، وبعد وصف هذا الجيش بالفوضى والاضطراب، والسلب والنهب، أخذ يصف ملابس المماليك وصفا بديعا، فقال: إن ملابسهم لم تكن تصلح لامتطاء صهوات الجياد، وإنها تتكون من أربعة أو خمسة أردية وطيلسانات تتدلى إلى أرجلهم، وكان قميص الفارس منهم من القطن الناعم الأبيض، والثوب المتدلي فوق القميص من القماش الهندي الخفيف، وفوق ذلك القفطان من حرير مزركش تمتد أكمامه حتى أطراف الأصابع، ثم «الكرك» بأكمام قصيرة، ويطوف حول الرقبة فراء من السمور، ولكل واحد منهم طيلسان يلبسه في الحفلات يلف به جسمه جميعه!!!! وهذا يحتاج إلى المال الوفير، ومصادر مصر كما سبق لنا القول ضئيلة، وزادتها هاتيك الحروب والمنازعات، وإهمال حال البلاد، فقرا على فقر، فلا غرابة أن تصل الأمة إلى حال لا تستطيع معها الحياة، ولو طال أمر المماليك على هذا الحال، ربع قرن آخر من الزمان، لما بقي في مصر من يحرث الأرض أو يرعى الماشية.
محاولات الباب العالي القضاء على المماليك
ولقد ذكرنا في هذه المقدمة عند الإشارة إلى الفتح العثماني، أن السلطان سليما أخطأ في عدم قضائه على سلطة ونفوذ المماليك مع مقدرته عليهم إذ ذاك، ولكن فاتت العثمانيين الفرصة وندموا عليها، خصوصا وقد قويت شوكة البكوات بما كانوا يشترونه من المماليك الجدد، وبما وصل إلى أيديهم من أموال الأمة المغلوبة على أمرها، ولم يعد الدولة العثمانية، ولا لواليها هيبة ولا سلطان، ليت شعري لو أن السلطان سليما فعل ما نهذب إليه من إبادة المماليك ومنعهم عن استجلاب الرقيق من الممالك، إلى أن يضمحل حالهم في زمن قريب، ووضعت الديار المصرية تحت حكم الدولة العثمانية مباشرة، أكان يكون حالها بعد ثلاثة قرون، من الزمان، أصلح مما وصلت إليه من الخراب والدمار؟؟؟ فقد كان من الممكن والمتصور أن لا يقع ما وقع فيها من تلك الحوادث المشئومة، التي أتت على الحرث والنسل من جراء مظالم المماليك ومطاحناتهم، وكانت رتبت نظاماتها على حال أرقى وأصلح من تلك النظامات، وعمرت البلاد، ونما النسل، وحفظت الثروة، وتحسنت التجارة، بل وحصنت شواطئ البلاد، ولم تصبح في حال من الفوضى بحيث استطاع نابوليون غزوها على أسهل ما يمكن ...
الحكم في هذا صعب جدا، فإن تاريخ الدولة في ممالكها الأخرى، كالشام والعراق، لا يضع في نفس المؤرخ أملا أوسع، بأن تكون أحوال مصر أرقى وأصح، ولكن ربما قيل في هذا أن موارد مصر وخيراتها الطبيعية، ونيلها الذي يجري بالبركة في كل عام، وسلاسة أخلاق أهلها، كانت تساعد على ترقيتها، ونموها أكثر مما جاز للدولة في بلادها الأخرى، وعلى كل حال فكل ما أصيبت به مصر في تلك المدة لا يصح عدلا أن يلقى ذنبه كله على أكتاف المماليك، بل تتحمل الدولة منه جزءا كبيرا؛ لأنها أخطأت في توجيه همتها إلى الفتوحات في أوروبا، بدلا من توجهها إلى الشرق، لوضع سيادتها البحرية على المياه الهندية، لتحول تيار التجارة الشرقية إلى طريق مصر والشام، بدلا من ذهابها إلى أوروبا، حول إفريقية، ولأن الدولة لم تتبع سياسة رشيدة مع المماليك بالقضاء عليهم مرة واحدة، بدلا من خطة الإيقاع بينهم، ويترك باب الاسترقاق بشراء المماليك مفتوحا، ولكن الجزء الأكبر من ذنب سقوط مصر واضمحلالها، يلقى عدلا على أكتاف المماليك ومظالمهم وبلاياهم في هذه الديار.
في فجر القرن الثامن عشر وجه الباب العالي همته إلى القضاء على المماليك ولكن لا بمحاربتهم، ولا إبادتهم؛ إذ يظهر أن ذلك كان متعذرا على الدولة وقتئذ، أو أنه لم ترده خوفا من مروق القائد، الذي تبعث به عن طاعتها، واستبداده بملك مصر، فاختارت خطة إيقاع النفرة والمنافسات بين البكوات وبعضهم بواسطة ولاتها، ويظهر للمتمعن في تاريخ هذه الفترة؛ أي: من سنة 1700 إلى حين الاحتلال الفرنسي، في سنة 1798، أنه وجد بين المماليك، وبين الباب العالي حرب سرية، فكان المماليك يعرفون أن الدولة تسعى لإبادتهم بإغرائهم على بعضهم، ولكنهم كانوا في الدهاء والسياسة أقل كفاءة من مناظريهم الأتراك، وكان نفوذ الدولة الديني والسياسي مساعدا لرجال الدولة على المماليك، وزد على ذلك أن مطامعهم الشخصية، وشهواتهم الذاتية، وفساد أخلاق بعضهم، وقلة ولائهم لأسيادهم وأقرانهم، إلى غير ذلك من صفات الشره والأنانية، كانت من أكبر الأسباب التي ساعدت الدولة عليهم فأضعفت شوكتهم، وإن لم تقض عليهم، ولا نرى بدا من الإشارة إلى الحوادث والوقائع التي تبرهن على استنتاجنا هذا؛ لأني لم أجد من المؤرخين من صرح بهذا الرأي مع الإيضاح الكافي ، أو وضع النقطة على العين «كما يقولون»!!
فقد حدث في سنة 1119ه في أيام حكم السلطان أحمد «1114-1143ه/ 1702-1730م» أن ولي مصر حسن باشا، وهو الذي بدأ بإلقاء بذور الشقاق بين القاسمية والفقارية، وقد كانت المنافسات والمحاربات، بين هاتين الطائفتين من المماليك، سببا في شقاء مصر وخرابها، وفي هذا يقول الجبرتي - «وإن كان قد أخطأ في حكايته الطويلة الخرافية عن أصل القاسمية والفقارية» - «ولم يزل الأمر - أمر الخلاف - يفشو ويزيد، ويتوارثه السادة والعبيد، حتى تجسم ونما، وأهريقت له دما، فكم خربت بلاد، وقتلت أمجاد، وهدمت دور، وأحرقت قصور، وسبيت أحرار، وقهرت أخيار.» ا.ه.
وحدث في سنة 1147ه و1734م «في أيام حكم السلطان محمود 1143-1168ه و1730-1754م» أن عين بكير باشا واليا للدولة في مصر، ويظهر أنه كانت لديه أوامر بالإيقاع بالمماليك، قال عنه المؤرخون: أنه لما وصل إلى القاهرة في يوم السبت 14 شوال سنة 1147 وصعد إلى القلعة، في موكب حافل، فلما مر من وسط المدينة صاح الناس في وجهه، وعلا صراخ العامة من ثقل المغارم والكلف، وفساد العملة، فلم يحفل بصراخهم وصار حتى وصل القلعة ولم يلبث طويلا حتى أخذ يدس الدسائس بين الأمراء لإفساد أمورهم، وتفريق كلمتهم، ثم شغله تفشي الطاعون في البلاد عن تنفيذ مآربه مدة، ولكنه بعد ذلك استغوى بعضهم، ودبر معه مكيدة للقضاء على بقية البكوات، فاستدعاهم بدعوى النظر في أمور الخزينة، إلى بيت الدفتردار، وهناك وقعت مذبحة دموية تعد صورة مصغرة لمذبحة محمد علي المشهورة بالقلعة، عام «1811»؛ أي: بعد ذلك الميعاد بنحو ثمانين سنة، «قال فيها الجبرتي» «قتل فيها أحد عشر من كبار أمراء المماليك وسبب بذلك فتنة اندلع لسان لهيبها في القاهرة وضواحيها.» وقال المؤرخون لهذه الفترة: ولما شاع الخبر بما جرى سار صالح الكاشف، رأس هذه الفتنة «أحد آلات الوالي» إلى بكير باشا ليلا من باب الميدان، وأعلمه بما جرى، فخلع عليه رتبة الإمارة، فطلب منه مالا يفرقه على العسكر المجتمعين معه، فوعده بأن يرسل له ما طلب، فنزل صالح إلى جامع السلطان حسن، فوجد محمدا كتخدا الجاويشية وأتباعه وجماعة آخرون فلبث معهم ينتظر المال، وصعد عمر جلبي، ابن علي بك قيطاس «منافس صالح المذكور» بطائفة من قومه إلى بكير باشا، يطلب بثأر أبيه «محمد بك قيطاس أحد كبار البكوات الذين قتلوا في المذبحة المشار إليها»، وكان وصوله بعد نزول صالح كاشف فخلع عليه الباشا إمارة أبيه،! ورسم له بقتال قاتلي أبيه ومن معهم، وكان الباشا يود لو أنهم يقطعون بعضهم بعضا، فنزل ابن قيطاس وأصحابه، وأمامهم بيرق من المحجر، خلف جامع المحمودية وبيت الحصري وزاوية الرفاعي، وعملوا متاريس على باب الدرب قبالة جامع السلطان حسن، وجعلوا يطلقون بنادقهم، على كل من يمر بهم من الخصوم، وعلى من هم بجامع السلطان حسن ... ثم قال: ولما رأي كبار الوجاقات ما بلغت إليه هذه الفتنة وإنها إنما هي بإيعاز من بكير باشا، قاموا على قدم وساق، وأحاطوا بالقلعة، وأنزلوا بكير باشا، ذليلا مقهورا وسجنوه، وكتبوا إلى دار السلطنة، بما وقع وطلبوا إرسال وال آخر، فأرسل السلطان الأمير مصطفى باشا أمير ياخور لضبط أموال من قتلوا في هذه الفتنة ... إلخ، وقد أحسنت الدولة معاملة بكير باشا هذا وعينته في أرقى وظائف الدولة.
ثم أرادت الدولة إتمام خطتها السياسية، فعينت في سنة 1152 سليمان باشا الشامي المعروف بابن العظم، وكان أول عمل له في مصر إيقاد نار الفتنة بين البكوات، فوقعت فتن بين أمراء المماليك فقتلوا بعضهم بعضا، ولكن لما اتضح لهم أمر الوالي، أنزلوه وعين بعده وال آخر، وتعاقب ثلاثة من الولاة مدة ست سنوات، ثم هبت الدولة مرة ثانية للقضاء على المماليك، فعينت محمد رجب باشا واليا، قال المؤرخون: فلما استقرت به الولاية أخذ يدبر الحيل لقتل من بقي من الأمراء، ثم استمال إليه حسين بك الخشاب وكاشفه بما في نفسه، وأقسما الأيمان على أن لا يخونا بعضهما، وأعلن أن السلطان محمود يريد قطع دابر القطامشة والدمايطة وهم أصحاب الكلمة يومئذ ... ثم دبر لهم مؤامرة كالتي دبرها قبله بكير باشا، ولكن هذه المرة في القلعة في ديوان الوالي، ليشرف بنفسه على هلاكهم، وهي أشبه بمذبحة محمد علي أيضا من حيث وقوعها في القلعة، وإشراف الوالي، كما أشرف محمد علي عليها، ولكنهم لم ينجحوا هذه المرة أيضا، كما يؤملون ... حقيقة قتل بضعة من كبار الأمراء ولكن إبراهيم جاويش، وهو سيد علي بك الكبير ومربيه، أخذ عدته وأدرك المكيدة، فجمع قومه وانتهت هذه الفتنة كما انتهت مثيلاتها بإنزال الباشا وعزله».
وعلت كلمة إبراهيم بك كما سبق لنا بيانه في موضع آخر من هذه المقدمة؛ ولكن الدولة بقيت مصرة على تنفيذ سياستها بتلك الخطة العقيمة، خطة تقليبهم على بعضهم، ولو خربت البلاد، وأبيدت العباد، فمن ذلك أن حمزة باشا الوالي في سنة 1198ه في أوائل ظهور نجم علي بك الكبير، أراد الفتك بالبكوات في القلعة كما فعل الولاة أسلافه، قال مؤرخو هذه الفترة: وجاءت أيام عيد الفطر فركب الأمراء في ثاني يوم شوال إلى قرة ميدان ليهنئوا حمزة باشا بالعيد ... فلما حضروا في ذلك اليوم وهنئوا الباشا، وخرجوا إلى دهليز القصر يريدون الانصراف إلى بيوتهم، برزت لهم طائفة من الجند وسيوفهم بأيديهم مسلولة، وآخرون يحملون البنادق واندفعوا عليهم، فأطلقوا البنادق، وأعملوا السيوف فأصيب عثمان بك الجرجاوي بضربة سيف في وجهه، وأصيب حسين بك كشكش بطلق ناري في خاصرته، وجرح كثيرون جراحا بليغة، فعند ذلك ارتفعت الأصوات وعلت الجلبة، وصاح الأمراء بمماليكهم، فاقتحموا الدهليز والسيوف بأيديهم، وحالوا بينهم وبين المتآمرين، وانتهت هذه المؤامرة الدنيئة، كما انتهت سابقاتها بإنزال الباشا وعزله!! وولي بعد حمزة باشا، محمد راقم باشا سنة 1182ه فبينا تراه يعضد خصوم علي بك، الذي لقب بالكبير بعد، ويساعد على إرسال حملة لمقاومته تحت رئاسة حسين بك كشكش، ويجمع لهذه الحملة المال بمصادرة التجار والأهالي، نجده يقابل علي بك، بعد انتصاره على جيش حسين بك كشكش المشار إليه، ودخول الأول القاهرة ظافرا، فيخلع عليه ويقره شيخا للبلد، وكان ذلك مبدأ نفوذ علي بك وعلو نجمه، وكان قد حلب أشطر الدهر، وعرف أن لا أمانة له مع هذه السياسة العثمانية، فعزل الوالي وأعلن استقلاله بمصر، ولكنه لم ينج من فخ الدولة والسقوط في الهوة التي اتقاها؛ إذ تمكن رجال الدولة من التأثير على مملوكة محمد أبو الذهب كما سبق لنا بيانه، واستمر الحال على هذا المنوال، حتى زمن مراد بك وإبراهيم بك مملوكي محمد أبو الذهب، فإن الدولة أرادت هذه المرة أن تتخذ خطة حاسمة، تليق بشرف الملك وشرف السياسة، فأصدر السلطان عبد الحميد الأول أمره بإرسال قوة إلى مصر لتخليصها من أيدي المماليك، فوصلت القوة العثمانية في عمارة كبيرة تحت قيادة قبودان حسن باشا إلى ثغر الإسكندرية سنة1200ه؛ أي: قبل الحملة الفرنسية بثلاثة عشر عاما، فصمم مراد بك - كعادته من العناد، وحب الاستقلال - على مقاومة القوة العثمانية، قال المؤرخون: فسار مراد بك بمن معه ونزلوا الرحمانية، فلاقتهم الجنود العثمانية «كما لاقت بعد ثلاثة عشر سنة في هذه البقعة العساكر الفرنسية» فانذعرت جنود المماليك، من قنابل العثمانيين فشتت شملهم، وفر مراد بك وإبراهيم بك كذلك إلى الصعيد، كالعادة، ودخل حسن باشا، الذي لقب بالغازي لفتحه مصر من جديد فتحا لم يدم أكثرمن سنة واحدة؛ لأن حسن باشا استدعي للأستانة بسبب الحرب مع الروسيا فترك الأحكام في مصر في يد إسماعيل بك أحد المماليك يشاركه في الحكم حسن بك الجداوي، كما كان مراد وإبراهيم، ولم تستفد مصر من هذه الحملة العثمانية شيئا، اللهم إلا ما ذكره المؤرخون من أن الجيش العثماني أعاد فعاله المعتادة؛ إذ خربت العساكر كل ما مروا به من المدن والقرى، ونهبوا ما فيها، ولولا همة حسن باشا نفسه ما أبقوا على شيء فإنه كان يتهدد الجنود حتى اضطر إلى رمي بعضهم بالرصاص ليردعهم عن أعمالهم الوحشية.
وبعد أربع سنوات عاد مراد بك وإبراهيم بك إلى السيادة الفعلية على البلاد، وبقيا يسومان أهلها الذل والاستعباد، حتى داهمتهما الحملة الفرنسية، كما سيأتي لك بيانه، في مكانه.
ويصح لنا أن نقول هنا من إتمام الفائدة في موضعها أن الباب العالي حاول بعد جلاء الفرنسيين عن مصر القضاء على البقية الباقية من المماليك لتخليص مصر من شرهم، ولكن لم تنجح سياسة تركيا حتى استطاع محمد علي في مذبحة القلعة أن يخلص مصر من المماليك، ويستخلصها لنفسه.
الأوبئة التي فتكت بأهل مصر في عهد المماليك
ما كفي هذه الديار التعسة ما لاقته من مظالم المماليك وعسفهم وتخريبهم وحروبهم، التي أفقرت البلاد من أهلها، ومن خيرها، ومن أرضها، ومائها، حتى بليت في تلك الفترة بأوبئة فتاكة، تسببت طبعا من سوء الأحوال الصحية، ومن نتائج الغزوات، والحروب والتعفن، وعدم تصريف المياه الآسنة في الجداول والخلجان، والبرك، فحدث في سنة 1052ه
10
ما يأتي بيانه:
في أثناء ولاية مقصود باشا، من قبل السلطان إبراهيم بن أحمد، داهم الوباء بولاق أولا ثم ظهر في القاهرة ففتك بأهلها، وبكافة أهل القطر فتكا ذريعا حتى كان اضطر الناس لكثرة الموتى، إلى دفنهم بغير صلاة، وروى المؤرخون أن 230 قرية صارت خرابا لفناء أهلها بذلك الوباء.
وحدث في سنة 1108ه وباء شديد سببه أن وقع في البلاد غلاء كبير مدة ولاية علي باشا قلج، من قبل السلطان مصطفى، فقل ورود الغلال، وعزت الأقوات وضاق العيش على الفقراء، ومتوسطي الحال واشتد بالناس الجوع، قال المؤرخون: «فأكل الناس الجيف وجذور الأشجار، فثارت النفوس، حتى اجتمع السواد الأعظم، رجالا ونساء وأطفالا، وصعدوا إلى القلعة ووقفوا بحوش الديوان، وصاحوا من الجوع، واستغاثوا بالباشا، فلم يجبهم أحد فرجموا ديوانه بالحجارة، وأكثروا من الجلبة والصياح، فركب الوالي وطردهم، فنزلوا إلى الرميلة ونهبوا ما بها من حواصل الغلال، وكذلك حواصل كتخدا الباشا، وكانت ملأى بالشعير والفول، وأصناف الحبوب فلم يقدر أحدهم على ردهم ... واشتد الغلاء وضاق بالناس الخناق، وعم الخطب، ومات الكثير منهم جوعا، والعياذ بالله، وخلت أكثر القرى من أهلها، وخطف الناس الخبز من الأسواق والأفران، مع ندرته، ومات الناس، فتركت جثتهم في الطرقات، فأنشب الوباء أظفاره بالعباد فأراحهم من حياة مرة، وشقاء مستمر، فكانوا يحملون الموتى من الطرقات عشرات عشرات، ويذهبون بهم إلى مغسل السلطان عند سبيل المؤمن فمات من جراء ذلك خلق كثير » ا.ه ملخصا.
وفي سنة 1147ه داهم البلاد وباء في زمن باكير باشا، الذي أوقع الفتن بين الأمراء وبعضهم، قال المؤرخون في هذه الفترة: إن هذا الطاعون لم يسبق له مثيل؛ إذ انتشر في البلاد قاطبة، وفتك بالناس فتكا ذريعا، فكان الناس يدفنون موتاهم على ضوء المشاعيل لاشتغالهم ليلا ونهارا بدفن الموتى، الذين يقعون في الشوارع والطرقات قتلى الوباء، فتبقى جثثهم ملقاة بعض الليالي والأيام وطالت مدة هذا الوباء.
وفي سنة 1171ه هاجم البلاد وباء آخر في أول مدة استقلال علي بك، قال المؤرخون: وكان ظهور الوباء عقب أن أمطرت السماء مطرا غزيرا جدا سالت منه السيول وامتلأت الأودية، واشتد الطاعون شدة بالغة فكثر الموت، وصارت جثث الموتى تلقى في الطرقات والحارات لكثرتها، وعدم وجود من يدفنها، وكثرت الجثث واجتمعت حولها الكلاب تنهشها، وطالت أيام الوباء وسمته العامة «قارب شيحه، اللي يأخذ المليح والمليحة» ولم يرتفع الوباء من أرض مصر في تلك المرة إلا في السنة التالية.
ثم في سنة 1205 بعد الحملة العثمانية التي جاء فيها قبودان حسن باشا الغازي وتعينه إسماعيل بك كبيرا للمماليك، قال المؤرخون: «وفي هذه السنة طرأ على البلاد، ولا سيما القاهرة، وباء شديد الوطأة لم تقاس البلاد مثله من قبل، فإن عدد الموتى في القاهرة بلغ نحو الألف في يوم واحد وتقلب على حكومتها في يوم واحد ثلاثة حكام، وسبب ذلك أن إسماعيل بك أصيب بالوباء فأقيم آخر من بيته مكانه فمات أيضا، حتى فني كان من كان في بيت إسماعيل في يوم واحد، ولم يبق منه إلا عثمان بك الطبل الذي مهد لمراد وإبراهيم سبيل العودة إلى السيادة في مصر، وسمي هذا الوباء بوباء إسماعيل.»
أفبعد كل هذه الأوبئة التي تناوبت على القطر في كل عهد المماليك، وبعد كل هاتيك الحروب والمنافسات والمشاحنات بين المماليك وولاة الدولة، وبين المماليك وبعضهم بعضا، وغارات أعراب البادية، ومظالم الحكام، يمكن أن يبقى في هذه الديار المصرية إلا من فاته الموت، أو عجز عن المهاجرة؟ لا غرابة أن يقول علي مبارك باشا بعد وصفه النظام الذي وضعه السلطان سليم لمصر بعد فتحها «وخربت البلاد وهاجر الكثيرون منهم إلى الديار الشامية والحجازية وغيرها.»
كلمة عامة عن المماليك
لم تمنع أخلاق المماليك الفاسدة، ومطامعهم ومظالمهم، من أن يوجد بينهم من آن لآخر، بعض ذوي الكرامة وأصحاب التدبير، وأن يوجد بينهم من ذوي الرغبة في إصلاح أحوال البلاد، ورفع المظالم عن الأمة، فقد روى الشيخ عبد الرحمن الجبرتي وغيره من الرواة، عن إسماعيل بك أيواظ، وهو ابن أيواظ بك القاسمي، الذي قتل في إحدى فتنهم، مع نحو سبعمائة من رجاله في «الرميلة» بتحريضات والي الدولة، كما سبقت إلى ذلك الإشارة، ولي ولده المشار إليه، وسار في إمارة الحج ثم اشتطت نار الفتنة فهرب واختفى، ثم عاد، وبعد فتنة أخرى استقرت له السيادة المطلقة فعلا في القطر المصري نحو ستة عشر عاما إلى أن قتل غدرا في ديوانه بتحريض من الوالي أيضا، وقال الجبرتي عن إسماعيل بك هذا: «إن أيامه كانت سعيدة، وأفعاله حميدة، والإقليم في أمن وأمان، من قطاع الطريق وأولاد الحرام، وكان صاحب عقل وتدبير وسياسة في الحكام، وفطانة ورئاسة وفراسة في الأمور.» وذكر الجبرتي وهو ثقة فيما رواه عنه عدة روايات تدل على عدل إسماعيل بك، وكرم أخلاقه، وبعده عن نقائص المماليك أمثاله، فمما ذكره عنه أنه جدد سقف الجامع الأزهر، وكان قد آل إلى السقوط، وأنشأ مسجد سيدي إبراهيم الدسوقي بدسوق، ومسجد سيدي علي المليجي بمليج، ومن مآثره عن نفس صاحب الرواية أنه كان يرسل غلال الحرمين في أوانها، ويجعل في بندر السويس والمويلح وينبع، غلال سنة قابلة في الشون، لكي تشحن السفائن وتسافر في أوانها، ثم يرسل خلافها على هذا النحو، قال الشيخ الجبرتي: ولما مات سنة 1136ه، ووصل خبر نعيه إلى أهل الحجاز، حزنوا عليه وصلوا عليه صلاة الغيبة عند الكعبة، وكذلك فعل أهل المدينة فصلوا عليه بين المنبر والمقام، ومات صغير السن على روايتين للجبرتي فهو يقول مرة في الثامنة والعشرين، ولكنه بعد أن ذكر أنه تولى الأحكام وعمره ستة عشر عاما، وأنه حكم البلاد ستة عشر عاما وطلع أمير الحج ست مرات، وهذا خلط من الجبرتي، قال: ورثاه الشعراء ثم ذكر في كتابه قصائد مطولة خير ما فيها قول بعضهم:
وكان جديرا بالرئاسة والعلا
فقد سار فينا سيرة سارها عمر
وكان له حزم ورأي ومنعة
ولكن إذا جاء القضاء عمي البصر
به غدر الجبار جركس ماكرا
فعما قليل سوف يجزى بما مكر
وكأنما ألف الناس قتل الأمراء بعضهم واحدا بعد واحد، فلهذا أشار الشاعر ببساطة «فعما قليل سوف يجزى بما مكر» وأغرب من هذا أن شاعرا آخر من شعراء ذلك الزمن رثى إسماعيل بك هذا بأبيات، يقول في ختامها:
ولا بد أن الله يأخذ من سطا
عليه بتاريخ «سيقتل قاتله»
فإذا جمعت جمل كلمتي «سيقتل قاتله» تجد تاريخ سنة 1136 التي قتل فيها إسماعيل بك، وكان قاتله مملوكا اسمه ذو الفقار بتحريض من الوالي، ومحمد جركس بك الطاغية الذي أنعم عليه إسماعيل بك، وعفا عنه مرارا، وكان نصيب ذي الفقار، بعد أن سار شيخ البلد وأمير الأمراء، رصاصة قضت على حياته سنة 1142، بدسيسة من نصيره الأول محمد جركس، الذي مات غرقا في النيل من مطاردة رجال ذي الفقار، وهكذا كانوا يفعلون!!!
وممن ذكروا بالخير، من أولئك الطغاة الظالمين، مملوك آخر اسمه عثمان بك الذي ولي الأحكام، بعد مقتل ذي الفقار، وغرق محمد جركس، وفي مدته نكبت مصر بالوباء، كتب الجبرتي عن عثمان بك ذي الفقار، وقال إن ما رواه عنه، هو عن لسان والده الشيخ حسن الجبرتي؛ لأن عثمان بك، كما روى الشيخ عبد الرحمن، «كانت له مع الوالد صحبة أكيدة، ومحبة زائدة، وصاحبه في سفر الحج ثلاث مرات، وكان لا يجالس إلا أرباب الفضائل مثل المرحوم الوالد ... وقرأ على الشيخ الوالد تحفة الملوك، والمقامات الحريرية ... إلخ.» ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام قول الجبرتي: «إن عثمان بك لما فر من مصر عاش بعد خروجه منها نيفا وثلاثين سنة ولجلالة شأنه جعل أهل مصر سنة خروجه منها تاريخا لأخبارهم، ووقائعهم ومواليدهم إلى الآن، من تاريخ جمع هذا الكتاب يعني سنة 1226ه، فيقولون جري كذا، سنة خروج عثمان بك ... إلخ.» وهذه الإشارة مهمة جدا؛ لأنها ترشدنا إلى السنة التي بدأ فيها الجبرتي جمع كتابة وهي سنة 1226ه؛ أي: بعد خروج الفرنسيين من مصر بنحو عشر سنوات، وفي أيام سلطة محمد علي ونفوذه، بل هي السنة التي وقعت فيها مذبحة المماليك في القلعة، فهل معني كلمة «جمع» أنه بدأ بالتأليف أو أنه جمع مذكراته وما كتبه من الحوادث في أوقاتها منذ بدأ يكتب؟ ويغلب على الظن أن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي بدأ قبل ذلك بكثير، وأنه كان يدون الحوادث في أيام وجود الفرنسيس بمصر، فقد جاء في مقدمة كتابه «يقول الفقير عبد الرحمن بن حسن الجبرتي أني كنت سودت أوراقا في حوادث القرن الثاني عشر وما يليه، وأوائل الثالث عشر الذي نحن فيه، جمعت فيه بعض الوقائع إجمالية، وأخرى محققة تفصيلية، وغالبها محن أدركناها، وأمور شاهدناها ... إلخ.» مما يدل على أن حوادث القرن الثالث عشر؛ أي: من 1200، وهي السنة التي دخلت فيها الجنود العثمانية تحت قيادة حسن قبودان باشا كان يقيدها في أوقات مختلفة، وأنه لم يبدأ بجمع مسوداته في أوراق منسقة النظام، مرتبة على السنين والأعوام، إلا في سنة 1226 باعترافه هو كما تقدم، ومما يزيد هذا الرأي تأكيدا قول الجبرتي في الجزء الرابع في نهاية سنة 1225 هجرية «انقضت السنة بحوادثها التي قصصنا بعضها؛ إذ لا يمكن استيفاؤها للتباعد عن مباشرة الأمور، وعدم تحققها على الصحة، وتحريف النقلة وزيادتهم ونقصهم في الرواية، فلا أكتب حادثة حتى أتحقق صحتها بالتواتر والاشتهار، وغالبها من الأمور الكلية التي لا تقبل الكثير من التحريف، وربما أخرت قيد حادثة أثبتها، ويحدث غيرها وأنساها، فأكتبها في «طيارة» حتى أقيدها في محلها إن شاء الله تعالى، عند تهذيب هذه الكتابة، وكل ذلك من تشويش البال، وتكدر الحال، وهم العيال وكثرة الأشغال، وضعف البدن، وضيق العطن.»
وقد توسعنا في هذا الاستطراد قليلا؛ لأنه تحقيق تاريخي جدير بالاهتمام، ونعود إلى عثمان بك، فنقول إنه كان من المماليك الأقوياء، الأشداء في الحق، وإن أحوال مصر قد تحسنت في الفترة القليلة التي حكم فيها من 1142-1156؛ أي: نحو أربعة عشر عاما وقد وصفه الجبرتي فقال:
وطلع بالحج وعاد في أمن وأمان، وانتهت إليه الرياسة، وشمخ على أمراء مصر ونفذ أحكامه قهرا عنهم، وعمل في بيته دواوين لحكومات العامة، وانصف المظلوم من الظالم، وجعل لحكومات النساء ديوانا خاصا، ولا يجري أحكامه إلا على مقتضى الشريعة، ولا يقبل الرشوة، ويعاقب عليها، ويباشر أمور الحسبة بنفسه، ومنع المحتسب من أخذ الرشوات وهجج الشهود - شهود الزور - من المحاكم ولم يعهد عليه أنه صادر أحدا في ماله أو أخذ مصلحة على ميراث، ومات كثيرون من الأغنياء، وأرباب الأموال العظيمة، فلم تطمح نفسه لشيء من أموالهم وكان على الهمة، حسن السياسة، يحب إقامة العدل والحق في الرعية، وهابته العرب، وأمنت الطرق والسبل البرية والبحرية، ولم يأت بعد إسماعيل بك ابن أيواظ في أمراء مصر من يشابهه أو يدانية ... إلخ.
وسرد الجبرتي عدة حكايات تدل على عدله وصلابته في الحق.
ولكن ما يكاد يتوطد قدم أمير من المماليك، وينال ثقة الرعية، ويقبض على مقاليد الأمور بيده، حتى تتحرك ضده الأحقاد والدسائس سواء من أقرانه البكوات أو بواسطة الوالي، فتثور الفتن، ويقتل ذلك الأمير، أو يفر هاربا بحياته، ويندلع لسان الفوضى، وتلقى الأمة والبلاد المحن والنكبات.
ولم يكن لأحد من طبقات الأمة المصرية، لا من التجار ولا من الفلاحين صفة أو كرامة، أو هيئة، اللهم إلا لفئة علماء الأزهر، لما كان لهم من النفوذ الديني على المماليك والعامة على السواء، فكنت ترى الأمراء يجتمعون بهم ويزورونهم ويشاورونهم، وهذا الشيخ الحفناوي وقف في وجه الأمراء لما اجتمعوا بالقاهرة وقرروا إرسال حملة لمحاربة علي بك «الكبير» وصالح بك ومحمد معهم «الذين استقروا بالمنيا وبنوا حولها سورا وأبراجا ركبوا عليها المدافع وقطعوا الطريق على المسافرين المبحرين والمقبلين، وقال لهم: «خربتم البلاد والأقاليم، وعلى أي شيء هذا الحال، وكل ساعة خصام ونزاع وتجاريد.» إلى آخر ما قال، فلم يسع الأمراء إلا الامتثال، قال الجبرتي: «فلم يلبث هذا الشيخ إلا أيام ومرض ورمي بالدم، وتوفي فيقال إنهم أشغلوه وسموه.»
والدليل على أنه لم يبق من الأمة المصرية بأسرها إلا هيئة علماء الدين وغالبهم أهل ضعف ومسكنة وزهد وذل، أنه على الرغم من كل هاتيك المصائب والرزايا والنكبات، التي كانت تتساقط كالصواعق على رءوس هذا الشعب المسكين، لم نسمع في كل هذه المدة أن حدثت في البلاد فتنة، أو وجدت حركة تذمر، إلا مرة واحدة على أيدي بعض العلماء في سنة 1209؛ أي: قبل احتلال الفرنسيين بأربعة أعوام فقط، وحكاية هذه الثورة الأهلية الوحيدة في بابها، كما رواه الجبرتي عنها في حوادث شهر الحجة من تلك السنة قال: «وفيه وقع من الحوادث أن الشيخ الشرقاوي له حصة بقرية بشرقية بلبيس، حضر إليه أهلها وشكوا من محمد بك الألفي واستغاثوا بالشيخ فاغتاظ وحضر إلى الأزهر، وجمع المشايخ، وأقفلوا أبواب الجامع، وذلك بعدما خاطب مراد بك وإبراهيم بك، فلم يبديا شيئا، وأمر العلماء الناس بإغلاق الأسواق والحوانيت، ثم ركبوا في ثاني يوم، واجتمع عليهم خلق كثير، وذهبوا إلى بيت السادات، وازدحم الناس على بيت الشيخ من جهة الباب والبركة، بحيث يراهم إبراهيم بك، فبعث إليهم أيوب بك الدفتدار، فحضر إليهم ووقف بين أيديهم وسألهم عن مرادهم فقالوا: نريد العدل ورفع الظلم والجور، وإقامة الشرع، وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها، فقال: لا يمكن الإجابة إلى كل هذا فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات، فقيل له: هذا ليس بعذر عند الله، ولا عند الناس، وما الباعث على الإكثار من النفقات، وشراء المماليك، والأمير يكون أميرا بالإعطاء، لا بالأخذ، فقال: اصبروا حتى أبلغ، ولم يعد لهم بجواب وانفض المجلس، وركب المشايخ إلى الجامع الأزهر واجتمع أهل الأطراف من العامة والرعية، وباتوا بالمسجد.»
وما يشير إلى دسائس البكوات ضد بعضهم أن إبراهيم بك انتهز هذه الفرصة للإيقاع بمراد بك شريكه في الحكم، على الرغم من تحالفهما ، فبعث للمشايخ يعضدهم ويقول لهم أنا معكم، وهذه الأمور على غير خاطري، وأرسل إلى مراد بك يخيفه من عاقبة ذلك، فبعث مراد بك يصالح المشايخ، وعقد مجلسا حضره المشايخ والأمراء وانتهى الأمر كما يقول الجبرتي، بأن تاب الأمراء والتزموا بما اشترطه المشايخ عليهم، وانعقد الصلح على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسا موزعة، وعلى أن يرسلوا غلال الحرمين ويصرفوا غلال الشون، وأموال الرزق، ويبطلوا رفع المظالم المحدثة، والكشوفيات والتفاريد «جمع فردة، ضريبة» والمكوس وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس ويسيروا في الناس سيرة حسنة ... وكتب بذلك حجة «فرمن» من فرمان عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بك ومراد بك، فانجلت الفتنة ورجع المشايخ، وخلف كل واحد وأمامه جملة عظيمة من العامة وهم ينادون حسب ما رسم سادتنا العلماء، بأن جميع المظالم والمكوس، «بطالة» من مملكة الديار المصرية، وفرح الناس، وظنوا صحته وفتحت الأسواق وسكن الحال على ذلك نحو شهر ثم عاد كل ما كان، مما ذكر وزيادة!! ا.ه، عن الجبرتي بلغته وتعبيراته.
وهناك ثورة أخرى صغيرة جدا وقعت في الإسكندرية تكلم عنها «بروان» الرحالة الإنكليزي، وكان زعيمها الشيخ محمد المسيري كبير علماء الإسكندرية في ذلك الوقت، وله معنا شأن في مدة الحملة وبعدها، وكانت تلك الحركة ضد الكاشف المتولي زعامة الجند في الإسكندرية، وقد روي أن مراد بك أرسل من القاهرة حملة صغيرة مؤلفة من كاشفين وبعض جنود من أتباعهما، فأظهر الشيخ المسيري كفاءة في حملة الأهالي على التسلح وترميم الأسوار، والاستعداد للمحاربة فلما علم الكاشفان القادمان بذلك، أعلنا أهل الإسكندرية أنهما لا يريدان حربا، وانتهى الأمر بأن عاد أحدهما يحمل هدية قدمها إليه أهل الإسكندرية، وأخرى من التجار الأجانب.
11
وللشيخ المسيري هذا شأن يذكر عند قدوم الحملة الفرنسية كما أنه عاش إلى زمن محمد علي، وكان له شأن معه.
وبهذه المناسبة نذكر أن «براون» قدر سكان الإسكندرية عند قدومه إليها في سنة 1792 بنحو عشرين ألفا بينهم عدد كبير من الأروام، ويتولى إدارة الأحكام فيها قاض يعين من الآستانة ومعه مشايخ المذاهب الأربعة، ولكن «سافاري» الذي زار مصر، وكان في الإسكندرية في 24 يوليو سنة 1777، يقول: إن سكان الإسكندرية في ذلك الزمن، لم يكونوا يتجاوزون الخمسة الآلاف، والحقيقة بين هذين العددين؛ أي: حوالي الاثني عشر ألفا.
مراد وإبراهيم
لا نختم هذه المقدمة التي ألممنا فيها، بعض الإلمام، بحالة مصر من الوجوه السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، قبل قدوم الحملة الفرنسية دون أن نأتي على ذكر لتاريخ الرجلين اللذين كانا يحكمان مصر، في ذلك العهد، وعلى وصف موجز لأخلاقهما، وظروفهما وأحوالهما.
كانت الكلمة العليا في البلاد المصرية، عند قدوم الحملة الفرنسية، في يد رجلين من مماليك محمد بك أبو الذهب، وهما مراد وإبراهيم، أو إبراهيم ومراد؛ لأنه من الصعب أن يقدر الباحث في حلكة تلك الفترة، من كان منهما أولى بالتقديم من صاحبه؛ ذلك لأنه في لحظة من اللحظات، أو فترة من الفترات، كانت تبدو القوة والنفوذ والسيطرة في يد مراد، وما هي إلا أيام أو شهور حتى ترى مرادا منزويا في قصوره بين أخدانه ونسائه، والأمر كل الأمر في يد إبراهيم.
كان مراد رجلا جريئا مقداما ممتلئا ثقة بنفسه، أو بعبارة أخرى، مخدوعا مغرورا فيها، وكانت له حركات تدل على أنه عصبي المزاج حاده، على أنه قد كان مع ذلك شديد الغيرة على مركزه، لا يقبل الضيم، ولا يرتاح إلى السكون والدعة، بعكس مناظره أو شريكه إبراهيم، فإنه كان على جانب كبير من الدهاء والحيلة، لا يقدم رجلا دون أن يفكر في العاقبة، ولذلك كنت تراه ينزوي ويترك الأمر في يد منافسه حين يرى منه ميلا ذلك، فلا يعارضه ولا يقاومه، ولكن يعمل لتحين الفرص لإسقاطه.
مات مراد بك في الصعيد، والفرنسيون في مصر، ولكن إبراهيم عمر طويلا وهرب إلى الشام، وعاد مع الأتراك والإنجليزي لإخراج الفرنسيين، وبقي إلى زمن محمد علي، وكان من الذين طاردهم محمد علي إلى بلاد النوبة، ومات فيها.
وكان الشيخ عبد الرحمن الجبرتي معاصرا لهما، وعارفا بطباعهما وأخلاقهما، فآراؤه من هذه الوجهة، حجة ثقة، وإن كان الشيخ الجبرتي حاقدا بعض الحقد لأسباب لا نعلمها، على مراد بك، كما يظهر ذلك من الكلام عنه، كلما عرض ذكر اسمه فيما كتبه من حوادث تلك الأيام.
وخلاصة تاريخه عند الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، أنه كان من مماليك محمد بك أبو الذهب، ومحمد بك، مملوك علي بك الكبير، وعلي بك، مملوك إبراهيم كتخدا القاضدغلي.
اشترى محمد بك مراد بك في سنة 1182ه، ثم أعتقه وأمره، وأنعم عليه بالإقطاعات الجميلة وقدمه على أقرانه، وتزوج بامرأة الأمير صالح بك، وسكن داره العظيمة بخط الكبش، ولما مات علي بك تزوج بسريته أيضا، وهي الست نفيسة المرادية الشهيرة الذكر بالخير، ولما انفرد محمد بك بإمارة مصر، كان هو وإبراهيم بك أكبر أمرائه، فلما سافر محمد بك أبو الذهب إلى سوريا محاربا للظاهر عمر، أقام مقامه في الحكم إبراهيم بك، وسافر مراد بك بصحبته، فلما مات محمد بك أبو الذهب بعكا، اجتمع أمراؤه على رأس مماليكه في رياسة مراد بك، فلما حضروا إلى مصر بجثة محمد بك، اتفق رأي الجميع على إمارة من استخلفه سيدهم، وهو إبراهيم بك ورضي جميعهم برياسته «لوقور عقله وسكون جأشه» «كذا عن الجبرتي» ...
وعكف مراد بك على لذاته وشهواته في دوره وقصوره، كل ذلك «كما يقول الجبرتي» على مشاركته لإبراهيم بك في الأحكام، والنقض والإبرام، والإيراد والإصدار، ومقاسمة الأموال والدواوين، وتقليد مماليكه وأتباعه، الولايات والمناصب، وأخذ في بذل الأموال وإنفاقها على أمرائه وأتباعه فانضم إليه بعض أمراء علي بك وغيرهم ممن مات أسيادهم، فأكرمهم وواساهم، ورخص لمماليكه في هفواتهم، وسامحهم في زلاتهم، فانقلبت أوضاعهم، وتبدلت طباعهم، وشرهت نفوسهم وعلت رءوسهم.
ولما قدم حسن قبودان باشا إلى مصر، كما ذكرنا في غير هذا المكان، هرب مراد بك وأتباعه، وكذلك فعل إبراهيم بك ففر إلى الصعيد، فلما انقضت غزوة حسن قبودان باشا، واضمحل شأن إسماعيل بك الذي أمره حسن باشا على مصر، عاد مراد وإبراهيم إلى سابق عهدهما، ومن ذلك الوقت داخل الغرور مراد بك، وظن في نفسه أنه هو الذي استرد مركزه ومركز زميله إبراهيم بك في مصر.
وصف الجبرتي مراد بك فقال:
وكانت صفته أنه أشقر اللون، مربوع القامة ، كث اللحية، وغليظ الجسم والصوت، بوجهه أثر ضربة سيف، ظالما غشوما متهورا، مختالا، معجبا متكبرا، إلا أنه كان يحب العلماء ويتأدب معهم، وينصت لكلامهم، ويقبل شفاعتهم.
ووصف مارسيل
12
وهو من العلماء الذين رافقوا نابوليون في حملته على مصر، وكان مديرا للمطبعة الفرنسية بالقاهرة، وعضوا بالمجمع العلمي، وسمع من المماليك وأهل القاهرة عن إبراهيم بك ومراد بك، فقال عنهما في كتابه «مصر منذ فتح العرب إلى الاحتلال الفرنساوي»
13
ما تعريبه: «كان إبراهيم بك ومراد بك ينافس أحدهما الآخر، ويغار منه ومع ذلك اتحدا ليظل الحكم في أيديهما، على الرغم من اختلاف طباعهما، وكان أولهما أكبر سنا، وقد زادته السنون الطوال خبرة ومعرفة بفنون السياسة، وقدرة على كبح جماح عواطفه، وإخفاء ما في نفسه، فكان دائما على حذر من زميله الذي كان يعرف فيه الكبر والعجرفة، ولكنه كان يشعر أيضا من نفسه، بأنه أقل منه شجاعة، وقوة وكفاءة في الشئون العسكرية، فاجتنب إبراهيم بك سلوك أي سبيل يصطدم فيه مع مراد بك، أو يضطره للحرب والقتال معه.
وكان إبراهيم بك أقل جرأة من مراد بك، ولكنه لم يكن أقل منه جورا وطمعا، إلا أنه كان يخفي غلظ قلبه وقسوته، بما كان يتصنعه من الحلم والرأفة، على خلاف مزاحمة الذي كانت تبدو عليه دائما علامات الحدة، وسرعة الغضب، ولم يظهر إبراهيم بك، سواء قبل ولايته الحكم، أو بعده، شيئا من حسن الأخلاق بل كان سيئ السيرة، لا قلب له ولا ذمة، جبانا كثير الأوهام، حليف الوسواس، سيئ الظن بالناس، كثير الوعود لا يبر بشيء منها، خادعا ماكرا، يظهر المحبة والإخلاص لمن يريد قتله!! ولا يحجم عن إتيان أي عمل، ولكن لا يصل إليه إلا بطرق خفية ملتوية.
أما مراد بك فبالعكس لم يكن يطلب شيئا بطريق الحيلة والخداع بل بالقوة، تظهر عليه علامات القوة والغلظة، متين الأساطين، قوي البنية مفتول الساعد، حتى إنه كان يستطيع أن يقطع رأس الثور بضربة واحدة من حسامه، وتلوح عليه ملامح الجندي، وهيئته كهيئة الليث الغضنفر، لم يباره أحد في ميدان القتال، وإذا غضب ارتعش الواقف أمامه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ولم يكن يعرف كيف يكتم حقده وبغضه، ومع هذا فقد كان كريما جوادا، قريب العفو سريع الرضاء، يقدر كفاءة الناس حتى أعدائه، مخلصا لأصدقائه، بارا بوعده، تظهر عليه أحيانا علامات الحدة والطمع، وأحيانا يميل للحرية والإسراف، ولكنه كان مع كل هذا فخورا بنفسه سفاكا للدماء، سريع الغضب، إذا ملكته سورته ضحى كل شيء، حتى مصلحته الشخصية في سبيل الانتقام.» ا.ه، رأي مارسيل.
وممن يوثق بروايته تمام الثقة في وصف مراد بك، الضابط «سونيني» الفرنسي
14
الذي ساح في مصر سنة 1777؛ وذلك لأنه أولا بعيد عن الغرض الذي يمكن أن ينسب إلى الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، أو إلى مثل مارسيل الذي سمع عنه ولم يره؛ لأن مراد بك بعد فراره من واقعة إمبابة، لم يعد إلى القاهرة حين كان مارسيل بها، وقد روى «سونيني» في كتابه أنه قابل مراد بك مرات عديدة وقال عنه ما يأتي:
وكنت في بعض الأوقات أدخل قصر مراد بك بواسطة شاب فرنسي تمتع بثقته، وقد قابلني البك برقة ولطف، وأجلسني إلى جانبه، وجعلني أدخن من غليونه، وهذا يعتبر شرفا ممتازا في هذا البلاد، غير أني لم أخدع به على الإطلاق، وقد طرح علي ألفا من الأسئلة، كان السؤال الواحد منها أسخف من الآخر، وظهر لي منها كلها أن الرجل على جانب من الجهل العظيم، وأخيرا قام مقدمي إليه بشرح أمري، فأظهر البك ارتياحا من الأجوبة التي أجبت بها على الأسئلة، وكانت النتيجة أن اقترح علي إدخالي في خدمته بوظيفة مزدوجة كطبيب ومهندس، وقدم لي دارا كبيرة في القاهرة، مع جميع أنواع الخدم والحراس، وأقوات يومية وافرة للغاية التي ليس وراءها غاية، كما خصص لي مرتبا كبيرا، ومن المعقول أن يغتر بهذه الهبات أي واحد على غير معرفة بهؤلاء البكوات، الذين لا مبادئ لهم وبتقلباتهم فيما يقدمون من هبات ويمنحونه من ألقاب الشرف أي هؤلاء الذين يثقلون كاهل الرجل بالمكارم في يوم ، وفي اليوم التالي يفاجئونه بوضعه في الأصفاد والأغلال الحديدية، أو قد يأمرون بإعدامه.
ومراد الذي كان له من الشجاعة ما مكنه من مقاتلة الفرنسيين، رجل جميل جدا، وذو مظهر حربي، وذقن مغطاة بلحية سوداء شعثاء، وحاجبان كثيفان يرسمان قوسين فوق عينيه المملوءتين ذكاء وحماسة ونارا، وعلى أحد وجنتيه أثر لجرح زاد منظر سحنته حدة وعنفا، وقد جمع إلى الشجاعة العظيمة مظهرا فريدا فذا، وقوة خارقة للعادة، بحيث إنه إذا ركب ومر بجانب ثور يستطيع أن يقطع رأسه بضربة واحدة من مهنده، وكان مقاتلا لا يفل له عزم، بحيث كان يستطيع أن يتحمل أشد المشاق، كما كان فارسا مغوارا قادرا ماهرا في استعمال السيف، وشجاعا وقت المحنة والضيق، وجسورا يقدم على جلائل الأعمال والمشاريع، ورزينا متئدا في العمل، ولكنه مرعب في المبدأ والمستهل، بحيث لو تعلم مراد لكان قائدا عظيما، وكان له شكل يدل على الكبرياء، وسلوك يشف عن الجود والسخاء، فأكسبه هذان الأمران، ذلك المظهر الجليل الذي يبدو على ملك من الملوك، ولكن الحمق والجهل والقساوة كانت من الصفات التي صيرته ظالما جبارا عتيا. ا.ه.
مراد بك وحكاية إصلاح جامع عمرو
مراد بك «نقلا عن كتاب مارسيل».
من الأعمال الطيبة الباقية الأثر والمنسوبة إلى مراد بك، أنه أصلح جامع عمرو بن العاص، بل وأوجده من العدم، ومن الناس، من يعد له هذه المأثرة ويذكرها له بالمدح والثناء، وغريب أن يقوم رجل مثل مراد بك بهذا العمل الصالح إلا أن يكون له من ورائه مآرب، كاكتساب قلوب الناس والجند، من المماليك بنوع خاص، ليستأثر بالأمر دون شريكه ومنافسه إبراهيم بك، وهناك روايتان، أو وجهتا نظر مختلفتان، في السبب الذي حمل مراد بك على ذلك العمل النافع، فالجبرتي، وهو شاهد عيان، وخبير بأحوال ذلك الزمان، يصف ذلك الإصلاح الذي قام به مراد بك بأنه «خطرات من وساوسه» وفي هذا الصدد يقول :
15
ومما سولت به نفس المترجم «مراد بك» بإرشاد بعض الفقهاء، عمارة جامع عمرو بن العاص، وذلك أنه لما خرب هذا الجامع، بخراب مدينة الفسطاط وبقيت تلالا وكيمانا، وخصوصا ما قرب من ذلك الجامع، ولم يبق لها بعض العمار إلا ما كان من الأماكن التي على ساحل النيل، وخربت في دولة القاصدغليه، وأيام حسن باشا «قبودان» لما سكنتها عساكره «الأتراك» ولم يبق بساحل النيل إلا بعض أماكن جهة دير النحاس «كتبها الجبرتي دار النحاس» وفم الخليج والجامع العتيق، «جامع عمرو» لا يصل إليه أحد لبعده وحصوله بين الأتربة والكيمان، وكان الناس فيما أدركنا، يصلون فيه آخر جمعة في رمضان فتجتمع به بعض الناس على سبيل التسلي من القاهرة ومصر وبولاق، وبعض الأمراء أيضا، والأعيان ويجتمع بصحنه أرباب الملاهي من الحواة والقراداتية وأهل الملاعيب والنساء الراقصات المعروفات «بالغوازي»، فبطل ذلك أيضا من نحو ثلاثين سنة
16
لهدمه وخراب ما حوله، وسقوط سقفه وأعمدته، وميل شقته اليمنى، بل وسقوطها بعد ذلك، فحسن ببال المترجم هده وتجديده بإرشاد بعض الفقهاء، ليرقع به دينه الخلق، كما قال شاعرهم:
ومسجد في فضاء ما عمارته
فوق الصيانة إلا لهو مختلق
كأن عمرا دعا يا عاص هم به
ورمه رقعة في دينك الخلق
ثم ذكر الجبرتي أن مراد بك قام بعمارة ذلك المسجد وصرف عليه أموالا عظيمة «أخذها من غير حلها» ووضعها في غير محلها، وصلى الناس صلاة آخر جمعة من رمضان سنة 1212 «أي: قبل وفاة مراد بك بثلاث سنوات فقط».
ثم قال الجبرتي: «فلما حضرت الفرنساوية في العام القابل «1213» جرى على الجامع ما جرى على غيره من الهدم والتخريب وأخذ أخشابه، حتى أصبح بلقعا أشوه مما كان فيا ليتها لم تزن ولم تتصدق.» ثم انتهى بهذه العبارة إلى وصف لتاريخ مراد بك فقال:
وبالجملة فمناقب المترجم لا تحصى، وأوصافه لا تستقصى، وكان من أعظم الأسباب في خراب الإقليم المصري، بما تجدد منه ومن مماليكه وأتباعه من الجور، والتهور، فلعل الهم يزول بزواله.
هذه رواية الجبرتي عن إصلاح جامع عمرو، ولكني أطلعت على الرواية الآتية في كتاب «مارسيل» الذي سبقت الإشارة إليه، فقد ذكر في ترجمة مراد بك الحكاية الآتية أعربها ليطلع عليها قراء اللغة العربية، ولنسجل في التاريخ، إظهارا لصورة من أخلاق ذلك الرجل، الذي وقف بجيشه أمام نابوليون بونابرت في واقعة إمبابة الفاصلة، قال مارسل عن مراد، ما تعريبه: «وفرض ضريبة جديدة على تجار اليهود، لا في القاهرة وحدها، بل في مصر كلها، وكانت هذه الضريبة سببا لاجتماع كبار الإسرائيليين في معابدهم، وبعد المناقشة فيما بينهم، أرتأوا أن يرسلوا كبيري أحبارهم، إلى مراد بك يسألاه أن يرفع مقته وغضبه عنهم، ولما وقف الحبران أمام مراد بك قالا له: «أيها الأمير، إننا فقراء ولو أردنا أن نبيع أملاكنا ونساءنا وأولادنا، بل وأنفسنا، فإننا لا نستطيع أن نقدم لك عشر الضريبة التي ضربتها علينا، ولكن لو تكرمت علينا بإعفائنا مما لا نستطيع دفعه، كان ذلك شفقة منك، وإننا في مقابل ذلك ندلك على كنز عظيم حفظنا سره، خلفا عن سلف، ونوصي به أبناءنا حتى لا يعرف مكانه أحد سوانا.»
فلما سمع مراد بك هذا القول أرهف أذنيه وقال: «إنني ألغي أمر الضريبة، فأين الكنز؟ فأجابه الحبران: أن الكنز مدفون في جامع عمرو بن العاص، في مصر القديمة، وكان قد وضعه ذلك الفاتح العظيم في صندوق حديدي وخبأه في بطن الأرض ولا يعرف محله سوانا.»
أعطيت هذه المعلومات بدقة وإتقان حتى كأنها حقيقية لا مكذوبة، ومع ذلك فكانت توجد ضمانة أخرى وهي رأسا الحبرين المبلغين!!
لم يسرع مراد بك في وضع يده على الكنز الذي أصبح بعده ملكا له، خوفا من أن يتهم بتخريب الجوامع، ولكي يضع يده على الكنز دون أن يثير سخط الشعب عليه، رأى أن يتظاهر بخروجه إلى الصيد، وعند عودته مر بالجامع ودخل فيه متظاهرا بالصلاة، فلما قابله فيه المشايخ، قال لهم مراد بك - وقد رأي الجامع وأطلاله خربة - «ما دام الله قد قادني إلى هذا المكان المقدس، فإنه أراد بذلك من دون شك، أن أكون أنا الشخص الذي يتولى إصلاحه وتجديده، وأن يقرن اسمي باسم مؤسسة عمرو بن العاص في دعائكم، وغدا سأرسل العمال والصناع للبدء في إصلاحه.»
وفي اليوم التالي جاء العمال ولكن بدلا من أن يشتغلوا بإصلاح الخرائب عمدوا إلى هدم المباني، وحفر الأرض في المكان الذي رسمه لهم وكيل مراد بك وكاتم أسراره المخلص.
وبعد بضع دقائق ظهرت أرض الجامع وأخطر مراد بك فجاء مسرعا يشهد بنفسه إخراج الصندوق الحديدي كما أخبره الحبران، فوجد الصندوق وكان نصفه أحمر من الصدأ وإقفاله لا مفاتيح لها، ولما كسر الصندوق وجد فيه بعض أوراق من الرق مكتوبة عليها آيات قرآنية بخط كوفي على الطراز الذي كان يكتب به في عصر عمرو بن العاص.
وكان من حسن حظ الحبرين أنهما تواريا بين الجمهور وهربا قبل أن يظفر بهما مراد بك الذي عندما عاد إلى القاهرة انتقم من اليهود بفرض ضريبة مضاعفة عليهم، وكان يجلد من تأخر في دفع ما عليه.»
هذه رواية مارسيل، ولا ندري من أين جاء بها، كما أننا لا نتصور كيف يستطيع اختلاقها، ونستغرب أيضا كيف لم يصل خبرها إلى مسامع الجبرتي وهو عائش في تلك الفترة من الزمن، مختلط بالعلماء والمشايخ والأمراء والحكام واليهود والنصارى على السواء، ولعلها من الإشاعات والحكايات التي كانت تروى للأجانب قبل الحملة الفرنسية وبعدها، ومن تلك الأقاصيص، التي رويت عن مراد بك فيما كتبه كتاب الإفرنج ولم نجد لها أثرا في كتاب الجبرتي، وهو العمدة الوحيدة في هذه الفترة حكاية مراد بك وكيف وجده أبوه بعد أن اختطف من أحضانه طفلا، وبيع كغيره من المماليك، ثم ارتقى حتى سار شبه ملك في مصر، وهي حكاية رواها «سافاري» في خطاباته الموجهة إلى شقيق ملك فرنسا، قبل الثورة الفرنسية في سنة 1779.
17
ولقد كان من الأمور الطبيعية أن طفلا يخطف من بين أحضان أمه وأبيه، ويباع بيع الرقيق، فيصير مملوكا، لسيد من الأسياد، ثم ينهض به الجد الباهر، من فتى حقير، إلى زعيم ثم أمير، وأخيرا يصل إلى السيادة على مصر كأنه يوسف الصديق، وكان من الأمور الطبيعية أيضا أن يفكر هذا الولد في أهله وأمه وأبيه، ويفكر كيف يبعث إليهم فيحضرهم ويبرهم، كما حدث ليوسف الصديق، حين دخل عليه أخوته وهم له منكرون.
وأما رواية «سافاري» التي رواها عن مراد بك وأبيه، فهي كما جاء في الخطاب الثالث والعشرين سنة 1779 كما يأتي:
واختم هذا الخطاب يا مولاى بالرواية الآتية التي تريك أن حوادث يعقوب وولده يوسف «عليهما السلام» تتجدد في هذه الديار، ففي العام الماضي حصل قحط عظيم أتى على الحرث والنسل في الديار الشامية، وكان ثمت رجل طاعن في السن يقيم في ضواحي دمشق، وضاقت الحال بهذا الرجل وعز عليه إطعام أولاده الصغار، وبينما هو يبيع في أسواق تلك البلدة شيئا من بقايا متاعه ليبتاع بثمنه غذاء لأولاده، سمع القوم، في القافلة القادمة بالأرز من دمياط، يتحدثون عن مراد بك وقهره لأعدائه، ودخوله القاهرة ظافرا، ثم سمع منهم وصفهم لذلك الأمير ولأخلاقه، وخلقه، وطول قامته، ولون عينيه، وخيل لذلك الرجل الهرم أنه يرى في تلك الأوصاف ملامح ولده الذي اختطف منه وهو في سن الثانية عشرة من عمره، فصمم في الحال على السفر إلى مصر، وفعلا سافر ووصل إليها، وقابل ولده المفقود، وتعرف به، ولا تسل عما دار بين الولد وأبيه من ذكرى الماضي والحاضر، فحن إليه مراد وأجلسه إلى جانبه، وطلب إليه أن يبعث في طلب أخوته في الحال، ودعا أباه إلى اعتناق الدين الإسلامي، فاعتذر الشيخ، ثم بعد مدة رغب في العودة إلى بلده فأمده مراد بمبلغ طائل من المال، وأرسله محفوفا بالإكرام والإجلال، إلى دمشق. ا.ه.
هذه رواية سافاري، وغريب أنها فاتت الجبرتي وهو معاصر لمراد بك!! وقد تكون من نوع الإشاعات والروايات التي أشرنا إليها.
وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح، فمن المؤكد أن هذا الحادث حصل مع علي بك الكبير في سنة 1766.
ولما كان علي بك المشار إليه، رجلا استقل بملك مصر، وصار ملكا عليها وعلى الحجاز، وعلى جزء كبير من البلاد السورية، فإن رواية كالتي سنذكرها عنه، جديرة بأن تدون في صحائف التاريخ، خصوصا وأنه لا أثر لها مطلقا في أي مصدر من المصادر العربية، فقد روى «ستافرو لاسنيان» الرومي مؤلف كتاب «ثورة علي بك» - ذلك الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه سابقا - الرواية الآتية بحروفها، قال:
18
وفي سنة 1766 بعث علي بك بأحد أمرائه الملقب طنطاوي بك - وهو أحد محاسيبه الذي تقدم ذكرهم، وأحد الذين رقاهم إلى رتبة البكوية - إلى الآستانة مع «الخزنة»؛ أي: الجزية التي كانت تدفعها مصر للباب العالي سنويا، وأمره أن يرسل حين وصوله إلى الآستانة، رجلا موثوقا به إلى أماسيا «في الأناضول» ليبحث عما إذا كان أباه وأمه لا يزالون في قيد الحياة، حتى إذا وجدهما كذلك يدعوهما إلى السفر إلى الآستانة ليحضرا إلى مصر مع طنطاوي بك عند عودته، وقد قام طنطاوي بك بتنفيذ إرادة مولاه فأوفد خازنداره إلى بلدة أماسيا، فوجد المدعو داود، والد علي بك حيا
19
فأفضى إليه الرسول بمهمته، فسر الشيخ الهرم سرورا عظيما لعثوره على ولده المفقود، وسرعان ما سوى مهامه وشئونه المنزلية وسافر مع الخازندار، ومعه أصغر بناته وحفيد له، تاركا أكبر بناته في المنزل مع زوجها.
ووصل إلى الآستانة، في وقت انتهاء طنطاوي بك من مهمته، وفعلا حضر هو وابنته إلى القاهرة بعد رحلة دامت أربعين يوما.
ووصلت البشائر إلى علي بك بمقدم والده، فخرج من المدينة ومعه كثيرون من أتباعه لمقابلته، وحين رآه جثا على ركبتيه وقبل يديه.
ووصف الكاتب الفرح الذي استولى على الوالد وولده، ثم قال وبعد ذلك أم الجميع منزل علي بك الكائن في الأزبكية
20
وتولى المماليك والأتباع غسل أقدام القس داود، ثم دخلوا به إلى الحريم، وهناك قدم له بك علي زوجته مريم
21
قال المؤلف، وأقيمت الأفراح في المدينة وتلقى علي بك التهاني من البكوات والأمراء، وأرسل الباشا والي الدولة، تهانئه مع كتخدائه، وأبدى رغبته في مقابلة الوالد داود.
قال أيضا: ثم أقام داود سبعة أشهر في القاهرة وصمم على العودة إلى أماسيا، ولم تنفع معه توسلات ولده بالبقاء، فسافر من مصر محملا بالهدايا النفيسة، وأقلته سفينة خاصة إلى الآستانة، وصدرت الأوامر إلى كبوكتخدا مصر في الآستانة، ليقوم بما يلزم لترحيل داود إلى بلده.
وأهم أنباء هذه الرواية هو أن علي بك بذل مجهودات كبيرة لدى والده لحمله على تزويج أخته المسماة «يوهود» «كذا في الأصل» إلى محمد بك أبو الذهب ذلك الذي غدر به بعد، وكان سبب نكبته وسقوطه من ذلك العرش الذي صعد إليه بهمته وكفاءته.
هذه الرواية موثوق بسندها أكثر كثيرا من رواية سافاري، عن مراد بك ووالده، وليس من البعيد أن يكون سافاري قد سمع هذه الحكاية من أفواه الناس ونسبها إلى مراد بك ليفكه بها مولاه شقيق ملك فرنسا!!
وكيفما كان الحال فإن هذه الروايات تضع أمام القارئ صورة صادقة، لنشأة أولئك المماليك الآفاقيين الذين قضي على مصر بأن يتولوا حكمها، ويسيطروا على حياتها ووجودها ومستقبلها، في ذلك الزمن العصيب.
ذكرنا أن مراد بك مات في سنة 1215ه/1801م، وأما إبراهيم بك فإنه بقي إلى ما بعد مذبحة المماليك، على يد محمد علي باشا بالقلعة سنة 1811م، ومات في بلاد النوبة، وهذه رواية الجبرتي عن وفاته قال في الجزء الرابع:
22
في وفيات سنة 1231ه: «ومات الأمير الكبير الشهير إبراهيم بك المحمدي «نسبة إلى مولاه محمد أبو الذهب، مات بدنقله متغربا عن مصر، وكان موصوفا بالشجاعة والفروسية، وباشر عدة حروب، وكان ساكن الجأش صبورا ذا تؤدة وحلم، قريبا للانقياد إلى الحق، متجنبا للهزل إلا نادرا مع الكمال والحشمة لا يحب سفك الدماء.»
ثم ذكر سيرته مع مماليكه وتساهله معهم حتى داخلهم الغرور، وغرتهم الغفلة عن عواقب الأمور، واستضعفوا من عداهم، وامتدت أيديهم لأخذ أموال التجار، وبضائع الإفرنج الفرنساويين وغيرهم بدون الثمن مع الحقارة لهم ولغيرهم فكان هذا من الأسباب التي عجلت بقدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، أو كان من الأسباب التي توسلوا بها لغزو مصر.
وقد وصف «مارسيل» حالة مراد بك وإبراهيم بك قبيلة الحملة الفرنسية فقال في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه ما تعريبه: «ساءت حالة مراد بك ولم يستطع مناوئة زميله إبراهيم بك وبقيت مراجل الغيظ والحقد تغلي في نفس كل منهما، ولكن كان الأهالي يدفعون دائما النفقات اللازمة لرجالهما بوسائل متنوعة، وضرائب شتى تضرب من وقت لآخر على سكان القاهرة، وسكان الأقاليم؛ لأن مراد بك، وإبراهيم بك لم يكونا لينفقا إلا على سلب الأهالي، وسحق مصر، سواء أكانا غالبين أو مغلوبين، في يديهما القاهرة، أو مطرودين منها إلى الصعيد.
وكان الغرض الوحيد الذي يرميان إليه هو الاستيلاء على أموال المصريين وبعد نضب معين تلك الأموال، عمدا إلى التجار الأجانب لا سيما الفرنسيين في القاهرة ورشيد والإسكندرية، فتحمل محل «فارسي» في رشيد ومحلات نيدورف وكاف، وهنريسي وبودوف
23
وبري ريال، في القاهرة، ما لا تطيقه نفس أحد، ووضعت عليهم ضرائب ناءوا بحملها، ولم يجد تدخل الباشا شيئا، ولم تقابل الطلبات التي عرضت في الآستانة على السلطان سليم الثالث إلا بالصمت والإغضاء، وكان ذلك سببا في استمرار الظالمين على مظالمهما؛ إذ أدركا عجز الباب العالي عن ردعهما.
ولما بلغت الأمور حدها، وعيل صبر التجار الفرنسيين، أرسلوا عريضة إلى حكومة الدير كتوار في الجمهورية سنة 1795 فأحالتها على القنصل «ماجلون»، ولم يهتم مراد بك بالرد على عرائض القناصل الأوروبيين إلا بتشديد الحملة على التجار، بل أراد فوق ذلك أن يدمر محلاتهم في القاهرة ويعطل تجارتهم.» •••
تلك كانت حالة مصر كما وصفناها بإسهاب قبيل الحملة الفرنسية، وهكذا كانت أخلاق الرجال الذين يحكمونها عند وقوع ذلك الحادث الجلل، في تاريخ السياسة والجنس البشري ومصر بنوع خاص، وأعني به قدوم نابوليون بونابرت لفتح مصر، بل لفتح أبوابها إلى العالم الأوروبي، والسياسة الاستعمارية، والمدنية الغربية أيضا.
وتلك كانت هي الأسباب السياسية والتاريخية التي جرت بسلسلتها الطبيعية إلى الاحتلال الفرنسي.
وسنأتي في الجزء الثاني من هذا الكتاب على الأسباب التي ساقت فرنسا، والسياسة الأوروبية، إلى فتح باب المسألة المصرية، في اللحظة الأخيرة من القرن الثامن عشر، وفي مستهل القرن التاسع عشر.
هوامش
الفصل الثاني
تاريخ فكرة الحملة الفرنسية على الديار المصرية
لا بد لنا قبل الكلام على الحملة الفرنسية؛ وما تم على يديها، وما حصل لها في هذه الديار المصرية، أن نفرد فصلا خاصا للأسباب التي حملت حكومة الجمهورية الفرنسية، على القيام بهذه الحملة، في الوقت الذي كانت فيه تلك الإدارة الفرنسية، مبغوضة ممقوتة من جميع دول أوروبا المعتبرة في ذلك الحين، حتى إنها كانت في الحقيقة في حرب مع النمسا وجمهوريات إيطاليا، «وإن يكن نابوليون قد أخضع هاتين الأخيرتين» وعداوة مستحكمة مع الروسيا، وحرب مستمرة مع إنكلترا، هذا فضلا عن أن الجمهورية الفرنسية، لم يكن قد توطدت بعد أركانها، أو ثبتت دعائمها.
قد يقال لنا إن هذا فصل من تاريخ فرنسا، وعلاقاتها بالدول الأخرى، وأن لا شأن له في تاريخ مصر، الذي هو الغرض من هذا الكتاب، ولكن اعتراضا كهذا لا يصدر إلا عن نظر سطحي؛ لأن الوقوف على حقيقة مركز مصر في السياسة الأوروبية، وعلاقة هذا المركز بالحركة الاستعمارية، التي قامت بها أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل التاسع عشر، لا يكون إلا بمعرفة المصريين الأسباب التي دفعت فرنسا إلى فتح الديار المصرية، ثم إن إدراك العوامل التي حاربت فرنسا في مصر، وأجبرتها على الجلاء عن هذه الديار، بل وفهم الحوادث التي سنأتي عليها في هذا الجزء من كتابنا، وفيما وقع من اتفاق الدولة العثمانية مع إنكلترا، والقضاء على كل أحلام نابوليون والفرنسيين كافة في الشرق، لا يكون إلا بفهم الأسباب التي حملت فرنسا للغارة على وادي النيل.
وإننا مع ما نعلمه من صعوبة هذا البحث، والتحقيق التاريخي بشأنه، لم نر بدا من الخوض فيه، مع أنه قد كان في إمكاننا التجاوز عنه، وصعوبة هذا البحث لا ترجع لقلة المواد أو لتشتتها، أو لغموضها، فهي هنا أكثر وضوحا وجلاء من البحث السابق، عن مصر قبل الحملة في المقدمة، والمصادر التي يرجع إلى الأخذ عنها كثيرة، وقد وضع فيه الكتاب الفرنسيون فصولا طويلة، بل وضعت له كتب خاصة وأحسنها وأوفاها كتاب «أسباب الحملة الفرنسية على مصر »
1
تأليف «شارل رو» وهو كاتب بحاثة كان موظفا بوكالة فرنسا السياسية في القطر المصري، وكتابه هذا متوج برضاء الأكاديمي الفرنسية، ولكن صعوبة هذا البحث ليست في قلة مواده، ولكن في اختصاره ووضعه في الصيغة اللائقة المتناسبة، مع قيمة الحوادث في هذا الكتاب، وصعوبته أيضا ترجع إلى أن قراء العربية في حاجة إلى إيضاح أمور لم يدرسوها، ووصف رجال كثيرين لم تسبق لهم معرفة بتاريخهم، هذا فضلا عن ضرورة إيقاف قراء العربية على مختصر من تاريخ نابوليون، وعلاقته بحكومة بلاده ورجال السياسة الذين كان لهم شأن في فكرة الحملة الفرنسية على مصر، وهذا المطلب وحده كان جديرا بأن يلوي عنان الكاتب ويرد منه الطرف حسيرا.
ولكنا وقد وطدنا العزم على تأدية هذا الواجب، فلن نرجع حتى نجول فيه جولة بقدر المستطاع، فإن وفيناه حقه فهو غاية المرام، وإن قصرنا فيكون ما نضعه في هذا الباب أساسا يبني عليه من يكتب بعدنا فيه، ممن هم أغزر مادة وأفصح بيانا، ولن يذهب باجتهاد المجتهد أنه لا يصيب.
كانت مصر منذ القدم، ولا تزال إلى يومنا هذا، عروس الشرق، وخريدة عقد للعالم المتوسط، ولذا كانت دائما مطمح أنظار الدول التي يقوى شأنها في هذه الدنيا، ولو كانت مصر هذه بنيلها وأرضها الخصبة، وأهلها الذين سلس قيادهم، وسهل حكمهم، في مكان غير مكانها الجغرافي الذي هي فيه، كأن تكون في آسيا أو في أمريكا مثلا، لما تطلعت إليها الأنظار، ولما تسابق نحوها القواد العظام، والدول العظيمة الشأن؛ لأن ثروة مصر الطبيعية القاصرة على الأرض والزرع، ليست في حد ذاتها مما يبعث على الطمع والجشع، فكل ما يخرج منها يكفي لأبنائها، ولكن وجودها على مفرق الطرق، وملتقى أشعة العالم، وكونها «الطريق السلطاني» لمتاجر الشرق والغرب، هو الذي جعل لها هذه الأهمية، ووجه إليها المطامع منذ القدم وإلى اليوم.
فلذلك لم يكن غرض الاستيلاء على مصر، في كل الأوقات، موجها لها بالذات، بل كثيرا ما كان للقضاء على نفوذ دولة من الدول، أو عرقلة لنمو أمة من الأمم، ولا شأن لنا أن نضرب على هذه النظرية الأمثلة من التاريخ القديم؛ إذ تكفينا حوادث القرن الماضي وما تقدمه، للتدليل على ما نقول ، وخصوصا فيما نحن بصدده من تاريخ الحملة الفرنسية على مصر، فإن تاريخ هذه الفكرة يرجع إلى عهد أبعد، حين لم يكن يحلم أحد فيه بالثورة الفرنسية، أو جمهوريتها، ولا نابوليون وفتوحاته، وإمبراطوريته.
فقد كان ليبنتز
Leibnitz
2
أول من فكر في ذلك؛ إذ كان لويس الرابع عشر في سنة 1672 يحارب بلاد الفلمنك «هولانده» التي كان لها في ذلك العصر نفوذ كبير، ومستعمرات ومتاجر واسعة في الشرق والغرب - تلك المستعمرات التي من بقاياها الآن صومترا وجلوه الإسلاميتان - فكتب ذلك الرجل الكبير إلى لويس الرابع عشر يقول: «إذا كان مولاي يريد القضاء على جمهورية هولاندة فأحسن وسيلة لذلك هي ضرب هذه الأمة في مصر هناك حيث يوجد طريق الهند، وحيث يمكن تحويل التجارة الهولندية إلى طريق مصر.»
ثم لما قويت سلطة روسيا، وامتد رواق فتوحاتها على المماليك العثمانية، في أواخر القرن الثامن عشر؛ أي: في الوقت الذي حاول علي بك الكبير الاستقلال بملك مصر، خافت فرنسا من استيلاء الروسيا على الآستانة، وتمزيق شمل الدولة العثمانية، فارتأت حكومة لويس السادس عشر، قبل الثورة الفرنسية، ببضع سنوات، أن تحتل مصر غنيمة لها من ميراث الدولة العثمانية، وفي هذا الصدد قال مسيو ده سارتين
M. de. Sartine
وزير البحرية إذ ذاك، في مجلس الوزراء:
إن احتلال مصر هو الطريقة الوحيدة لحفظ تجارتنا في البحر الأبيض، ومتى توطدت قدمنا في مصر صرنا أصحاب السيادة على البحر الأحمر، وصرنا نستطيع أن نهاجم إنكلترا في الهند، أو ننشئ في تلك الأصقاع متاجر ننافس بها الإنجليزي ... إلخ.
ووافق هذا الرأي حكومة لويس السادس عشر فأوفدت في سنة 1777 لمصر البارون ده توت
Baron de Tott
3
بدعوى أنه قادم لعمل مباحث فلكية وعلمية «لأكاديمي العلوم»، ولكنه كان مكلفا بعمل خرائط لشواطئ مصر وسوريا وجزر اليونان وجزيرة كريد أيضا، وكلف بنوع خاص أن يدرس النقطة الواقعة من ساحل مصر، بين الإسكندرية وأبي قير، ومعرفة أي نقطة تصلح لإنزال الجنود إلى البر، وكان معه ضابط من البحرية لقياس عمق النقط المجاورة للساحل ليعرف ما يصلح منها لسير السفن، وكلف «سوتيني» الذي سبق ذكره، أو آخر بالسفر إلى السويس لمثل تلك المباحث ولرسم خريطة عن مدينة القاهرة في أثناء مروره بها، وقد فعل ذلك كله في الوقت الذي كان فيه مراد بك وإبراهيم بك يتطاحنان مع إسماعيل بك، أحد مماليك علي بك الكبير، الذي ولي مشيخة البلد!
قال المؤرخون الفرنسيون: ومرت بضع سنوات لم توطد فيها حكومة لويس السادس عشر العزيمة على تنفيذ ما صممت عليه، حتى كانت سنة 1781 كتب الكونت ده سان بريست
Saint-Priest
سفير فرنسا في الآستانة يستحث حكومته على فتح مصر، وقد ورد في كتاب السفير المشار إليه قوله: «إن الروسيا قد صارت على مقربة من القسطنطينية، وربما استطاعت أن تقضي على تركيا في أوروبا
4
قبل أن تستطيع دولة ما مساعدتها، فعلى فرنسا أن تسرع في احتلال مصر التي لا تكلف فرنسا صعوبة؛ لأن مصر خالية من أي تحصين ما، ولأنه لا يوجد فيها من الجيوش أكثر من خمسة أو ستة آلاف مملوك، لم يقفوا في ميدان حرب منظمة، وليس لديهم مدفع واحد، وفعلا صممت الحكومة على تنفيذ هذه السياسة، وأعدت ثمانية وعشرين ألف جندي لهذه الحملة، وجهزت السفن لنقل هذه القوة إلى الإسكندرية وأبي قير ودمياط.»
وكانوا يعتمدون على مساعدة المسيحيين العديدين المقيمين في القاهرة وفي الوجه القبلي والذين يتولون إدارة الأعمال للبكوات،
5
ولكن حوادث الحرب في أمريكا عطلت سفر هذه الحملة، ثم قامت الثورة الفرنسية على قدم وساق وسقطت الملكية وسالت الدماء أنهارا في باريز، فأهمل شأن مصر وغير مصر.
ويظهر مما تقدم أن فكرة احتلال فرنسا لمصر قديمة، وقد ظهر جليا من المستندات العديدة أن سافاري وسونيني لم يكونا سائحين فقط، بل كانا من رسل الحكومة الملكية في باريس، وفي رسائل سافاري ما يثبت جليا أنه كان يحرض حكومة فرنسا على احتلال مصر، فقد ورد في إحدى رسائله قوله: «لو أن في مصر حكومة عادلة وتوجهت نية هذا الشعب المصري الذكي إلى خدمة أرض مصر الخصبة، فأي جوخ ينسج من صوف أغنام مصر الجميل، وأي قماش يعمل من كتانها الناعم، وأي أقمشة تصنع من قطنها بنوعيه،
6
وأي حرير ينسج من نتاج دود القز الذي ينمو في بلد كهذه، صافية لا مطر فيها ولا غمام؟؟ وأي خير لا يجنى إذا حفرت الترع، وأقيمت الجسور لجعل الأرض صالحة للزراعة؛ وهي التي دفنت ثلثها الرمال؟ وأي نجاح لا يناله الإنسان إذا بحث عن مناجم الزمرد الذي قال أنه يوجد في تربة هذه البلاد؟؟» ا.ه كلام سافاري.
ثم قامت الثورة الفرنسية وتأجج لهيبها، وأكلت بعضها حتى بدأت نارها في الخمود، وعلا نجم نابوليون بونابرت بعد انتصاراته في شمال إيطاليا وقهره للنمسا، ففكر في الغارة على مصر للأسباب التي سنأتي عليها.
وهنا يلزمنا أن نأتي على خلاصة موجزة من تاريخ حياة نابوليون لكي يقف القارئ العربي على قيمة الرجل الذي قدم لفتح مصر، وكانت له فيها حوادث أشبه بالقصص الروائية، منها بالحقائق التاريخية.
ذلك الرجل الذي جالس علماء الأزهر وناقشهم في الأديان، وشرب معهم القهوة جالسا القرفصاء مثلهم على الوسائد والحشايا، ودخن التبغ مثلهم في الشبكات، حتى ارتدى اللباس العربي مثلهم، وشهد مع المصريين حفلاتهم في مولد النبي، وفتح الخليج، وتناول في شهر رمضان الطعام على الموائد الشرقية، في منزل السيد البكري، والسيد السادات، ولقبوه في مصر بالسلطان الكبير، وكان يذكره الجبرتي في كتابه باسم «ساري عسكر الفرنسيس بونابارته». •••
إن مجرد ذكر «نابوليون بونابرت» يجلب أمام مخيلة الذين وقفوا على شيء من التاريخ تصورات كثيرة، وخيالات كبيرة، من ذا الذي لم يسمع باسم هذا الرجل العظيم الذي ملأ الدنيا بذكره حتى دوى صيته في الخافقين، ولا يزال يرن صدى هذا الدوي في الآذان، وسيبقى كذلك ما دام على سطح هذه الكرة الأرضية إنسان! نابوليون بونابرت، ذلك الفتى الذي صعد من التراب، إلى السحاب، فارتقى من ضابط صغير فقير، إلى قمة أكبر عرش في العالم ... نابوليون ذلك الرجل القائد الذي دوخ أوروبا بأسرها، وركعت له القياصرة وسجدت له الملوك!!
الكلام على هذا النمط لائق بالشعراء، وذوي الخيال، وليس أفصح، ولا أغلى قيمة في البلاغة، من مقال السيد توفيق البكري - حفيد البكري الذي جالس نابوليون في منزله - عن نابوليون ... تلك الدرة اليتيمة التي كتبها السيد توفيق البكري عند زيارته لمقبرة البانتيون، وهي منشورة في كتابه «صهاريج اللؤلؤ».
وإنما يليق بنا في مقام التاريخ أن ننزل من ذروة الشعر والخيال، إلى أرض الحقيقة الجامدة والحوادث البارزة الباردة، فنقول:
ولد نابوليون في 15 أغسطس سنة 1769 «وفي نفس هذا العام ولد محمد علي مؤسس العائلة العلوية» في مدينة أجاكسيو من أعمال جزيرة كورسيكا، من أب اشتهر بالإقدام والوطنية، والميل إلى الشعر والفصاحة، ومن أم كانت مثال الكمال والإخلاص، وحسن الأحدوثة وطيب الخلق، ولقد وصفها باولي
7
في سنة 17936، بأنها امرأة جديرة بأن تلد الأبطال، وكان أهل الجزيرة مشهورين بالشجاعة، وحب الحرية، حتى طالبوا بها في ثورات اشتركت فيها أم نابوليون، وهي حامل فيه، وفي أهل كورسيكا كثير من صفات العرب الغرباء من حيث الكرم والشجاعة والصبر على المكاره، والتمسك بأهداب الحرية، ومن هذا العنصر ولد نابوليون العظيم.
لما بلغ نابوليون التاسعة من عمره أرسله أبواه في 15 ديسمبر سنة 1778 إلى «أوتون»
Autun
في فرنسا لتلقي العلوم ودراسة اللغة الفرنسية، وكانت أمه لا تحسن الكلام بهذه اللغة فبقي في فرنسا نيفا وسبع سنوات متوالية لم تقع فيها عينه على وطنه، ولما عاد إلى مسقط رأسه في سبتمبر سنة 1786 - أي: قبل قدومه لمصر قائدا عظيما بنحو اثنتي عشرة سنة - كان عمره سبعة عشر سنة، وقد سار ملازما ثانيا في الطوبجية، قال المؤرخون الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة، من حياة نابوليون سواء وهو طفل على مكتبه، أو إمبراطور على أريكته: إن نابوليون لما كان تلميذا بمدرسة بريين
Brienne
كان يشعر كأنه غريب بين أقرانه؛ لأنه لم يكن فرنسيا، وكان التلامذة يحتقرونه للهجته الأجنبية، ولعدم انتسابه إلى الأسر العريقة في النسب، وفوق ذلك لضيق ذات يده أيضا، فكان ذلك من أدعى الأسباب إلى تكوين نفس الفتى، وعدم اشتغاله باللهو، وانفراده بذاته، في غدواته وروحاته، ونار المطامع تتأجج في صدره، وتسري في شرايين جسمه، وتأكل في خلايا قلبه، وكان ميالا إلى العلوم الرياضية أكثر من سواها، وكانت رسائله التي يبعث بها إلى أبويه، وهو في سن الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، تدل على نمو عقل، ورجاحة فكر، حتى قال عنه أحد كتاب الإنجليز المدققين:
8 «ولقد يخيل لنا أن نابوليون لم يكن أبدا صغيرا.»
ولقد أدرك هذا الفتى في صغره أن الجندية كحرفة، هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها الوصول إلى إدراك المعالي، وأن القواد العظام الذين أحسنوا الاستفادة من ظروفهم، هم الذين استطاعوا قلب الممالك، وثل العروش، وليس التيجان، فلذلك كان شغفه بالتاريخ والجغرافيا عظيما حتى لقد كان يخيل لنفسه بنفسه أنه واحد من أبطال بلوتاركه.
9
وكانت نيران الثورة الفرنساوية في ذلك الحين تتأجج في أتونها، ولم يكن تمث قد اشتمل لهيبها، وعلا شرارها، ولا بأس من أن نقول هنا لفائدة القارئ العربي، أن تلك الثورة الهائلة التي فكث العالم من أغلال الاستبداد، وغيرت كثيرا في أصول الاعتقادات القومية والدينية في أوروبا، لم تكن بنت ساعتها، بل هي من نفثات أقلام الكتاب الفرنسيين من نهاية القرن السابع عشر، إلى نهاية القرن الثامن عشر: أولئك الكتاب الذين فتقوا ذهن الأمة، وفتحوا عيون الشعب إلى أن النظام الذي كانوا يعيشون تحت سلطانه، نظام استبدادي وأن معتقداتهم التي يرضخون تحت نفوذها، معتقدات قائمة على أسس واهية، وأنها لا تحتمل التحليل والبحث في ضوء العقل والقياس المنطقي، وقائد هذه الكتيبة في ساحة الوغى، الكاتب الفرنسي العظيم «فولتير» بذلك القلم الساحر، والأسلوب الباهر، ومن هذه الآراء تغذى عقل نابوليون في مطالعاته مدة سبع سنين قضاها في الجيش، حتى نشأ جاحدا للأديان، متسع الفكر واسع الصدر.
واندلع لهيب الثورة في سنة 1789 ففتحت لنابوليون أبواب الرقي، وأسباب النهضة لإدراك ما صورته له مخيلته من أمانيه وآماله، فكان أول خاطر قام بنفسه قيادة الثورة في جزيرته، لتحريرها من رق فرنسا ، وفعلا سافر إلى كورسيكا وتولى قيادة فرقة من الثائرين، إلا أن الحكومة التي وجدت في باريس، أعلنت من تلقاء نفسها في «30 نوفمبر سنة 1789» استقلال الجزيرة وجعلها مملكة منضمة إلى الجمهورية الفرنسية، فغير ذلك في خطته وعاد إلى باريس وهو شديد التحمس للثورة، ولكن لم تأت سنة 1792 حتى بردت نار حماسته وميله لزعماء الثورة، وذلك لما رآه من ارتكابهم للفظائع، وإهراقهم الدماء، فقد كان حاضرا صيف ذلك العام هجوم الثوار على قصر التوياري في 20 يونيو، وكذلك ذبحهم لجنود الحرس السويسري في 10 أغسطس، وكانت هذه المناظر تؤلم فيه فكرة النظام العسكري، حتى قال «لبوريين»
Bourienne
صديقه، وسكرتيره بعد ذلك، «كيف تسمحون لهؤلاء الغوغاء بارتكاب هذه المساوئ، ولماذا لا يكتسحون منهم أربعمائة أو خمسمائة بالمدافع فيفر الباقون إلى بيوتهم؟!».
ثم عاد في نهاية ذلك العام إلى جزيرته برتبة كابتن «يوزباشي» وحصلت بين أسرته وبين «باولي» وأنصاره منازعات أدت إلى مهاجرة أسرة نابوليون إلى قرية بجوار طولون في فرنسا، وكانت إنجلترا قد أعلنت العداء على الحكومة الجديدة في فرنسا، وجمعت حولها ممالك النمسا وروسيا وأيدتها بالمال، واستردت بلجيكا حريتها من تحت سلطة فرنسا، وطردت الجنود الفرنسية من «كونده» و«مينس» «وفلنسين» وهددت قلب فرنسا، وكذلك احتلت طولون على البحر الأبيض المتوسط، فكانت تلك الحوادث سببا لأن تحرك عوامل الغيظ في قلب نابوليون ضد خصوم بلاده فمال إلى زعماء الثورة، وانضم إليهم قلبا وقالبا، واندمج في جيش الجمهورية المحارب لطولون «في 16 سبتمبر 1793» بوظيفته قومندان الطوبجية، وهنا ظهرت مواهب نابوليون الحربية؛ إذ استطاع بنبوغه العسكري، وبما درسه في فن الطوبجية وهندستها، وعلوم الحرب الحديثة، من طرد الإنكليز والاستيلاء على طولون في «19 ديسمبر 1792» فكافأته حكومة الجمهورية بترقيته إلى رتبة جنرال، ولكن بعد سقوط حكومة روبسبير
Robespiere
الذي كان نصيرا لنابوليون، استدعى نابوليون إلى باريز وألقي في غياهب السجن، ولكن ظهرت براءته من التهمة التي وجهها أعداؤه إليه، وبعد حوادث، وتقلبات لا دخل لها في موضوعنا، ضاق صدره من أعمال حكومة فرنسا وشطب اسمه من قائمة الجنرالات، وعول على الذهاب إلى الآستانة ليتولى تدريب الطوبجية العثمانية، ولكن نجم سعده الآخذ في الصعود خدمه، كما خدمه سنين طويلة مقبلة ... ذلك أنه حدثت ثورة في باريس قام فيها نحو ثلاثين ألف من الحرس الأهلي
Guarde Nationale
ضد حكومة الكونفنسيون، التي لم يكن لها من القوة أكثر من خمسة آلاف، وكانت الحكومة قد اختارت براس
Barras
قومندانا لجيش الحكومة في باريس، ولما لم يكن «باراس» من رجال العسكرية، وكان صديقا لنابوليون محبا له اختاره لقيادة الحامية، والدفاع عن العاصمة، فتمكن هذه المرة بمهارته من قهر أعداء الحكومة وحماية العاصمة، قال المؤرخون الثقاة: إنه لولا مهارة نابوليون في وضع المدافع وتصويبها على النقط التي اجتمع فيها الثائرون، لسقطت الحكومة، ولوقعت فرنسا من جديد في دور الفوضى والخراب، وكافأت الحكومة نابوليون بتوليته قيادة جيش الداخلية، وبذلك دوى اسم نابوليون من هذا التاريخ في جوانب فرنسا، وذاع صيته في البلاد.
في هذا الوقت، وقت لمعان شهرته، وقع في حبائل غرام سيدة على جانب عظيم من الجمال والرقة وهي «جوزفين بوهارنيه» وكانت أرملة للمركيز إسكندر بوهارنيه أحد الجنرالات الذين سقطوا ضحية لآلة القتل في الأيام الأولى من الثورة، فاقترن بها «9 مارس سنة 1796» وكان قبل هذا التاريخ بيومين، قد عين قائدا للجيش الذي جهز لفتح إيطاليا ومحاربة النمسا اللتين كانتا متحالفتين مع إنكلترا ضد فرنسا، فلما تولى نابوليون قيادة الجيش كان فيه من القواد من هم أكبر منه سنا، ولكن لم يكونوا أعلم منه بفنون القتال، فلما رأوه، ولم يكونوا من قبل قد عرفوه إلا اسما، ورأوا منه فتى في الخامسة والعشرين من عمره، ضئيل الجسم، قصير القامة، ناحل البدن، ورأوه كذلك يحمل صورة عروسه ويكثر من النظر إليها، ويريها للضباط معه ظنوا أن ترقيته لهذا المركز الكبير، راجعة إلى المحسوبية ولنفوذ النساء؛ ولكن كما قال الجنرال ماسينا
Masséna : «ما كاد يضع على رأسه قبعة الجنرال حتى خلناه قد طالت قامته شبرين، وأخذ يسألنا عن مواقع فرقتنا، ويستفسر عن القوى الفعالة في كل فيلق من الفيالق، ثم ألقى إلينا الأوامر، وأعلن أنه سيستعرض الجيش غدا، ويهاجم العدو بعد غد ... فعرفنا أن هذا ليس بفتى، ووثقنا من أنه قائد عظيم.»
وتوالت انتصارات نابوليون في شمال إيطاليا والنمسا ، وطبقت شهرته الخافقين فالتف به القواد العظام، وأعجب به إلى درجة التقديس ناشئة الضباط، ورجال المستقبل، ولقبته أوروبا بها نيبال الثاني، لما أتى على يديه من المعجزات في فنون الحرب، واستفاد نابوليون من تجاربه في هذه الحرب، ومن مناطحته لرجال السياسة وكبار دهاة الحرب في النمسا، ما ساعده كثيرا في مستقبل حياته الباهرة.
ولما تم له الفوز كما أراد، وأرادت فرنسا عقد مع النمسا صلحا في 17 أكتوبر سنة 1717 سمي «صلح كامبو فورمبو» نسبة إلى البلد التي تم فيها، وأعادت فرنسا تحت رايتها بلجيكا وحدود الرين، ومحت جمهورية البندقية من صحيفة الوجود، بعد أن عاشت عصورا طويلة محتكرة تجارة الشرق بسبب علاقاتها بمصر، ولطالما حاربت الدولة العثمانية في مواقع بحرية أشهرها واقعة «ليبانت» المشهورة في أكتوبر سنة 1571 ... ولم يمض على عقد هذه المعاهدة عشرة شهور حتى كان نابوليون بجيشه في أرض مصر.
بقي علينا، قبل الانتقال بهذا القائد العظيم إلى حملته على مصر، وبيان الأسباب التي دعت إلى هذه الحملة، والأغراض التي قامت بنفسه هو، أن نقول كلمة موجزة في تعليل فوز هذا الرجل تمهيدا لمعرفة القوة الحربية الجديدة، التي داهم بها المماليك في مصر فنقول: أجمع الباحثون المدققون على أن فوز نابوليون الباهر السريع في شمال إيطاليا والنمسا، راجع إلى أن الفن العسكري كان قد دخل في طور جديد في خلال القرن الثامن عشر، بسبب الاختراعات العديدة التي أدخلت على البنادق والمدافع، ففي سنة 1720 أدخل على البندقية تحسينات بحيث سار في إمكان الجندي أن يطلق منها عدة طلقات في الدقيقة الواحدة، ثم اخترع للميدان مدافع أخف حركة وأسهل في النقل، وأخيرا في سنة 1765 اخترع جريبوفال
Gribeauval
أحد ضباط جيش لويس السادس عشر بطارية ميدان تجمع بين أكثر مما يجمع من القوة مع أخف ما يمكن من صعوبة النقل، ثم قال الأستاذ فيشر في كتابه عن نابوليون وارتقاه الفن العسكري ما تعريبه:
ونتيجة هذا كله، ليست فقط أن المدافع صارت لها أهمية جديدة في الحرب، وأصبحت لأول مرة عاملا ضروريا في القتال الذي تقوم به المشاة، بل كانت النتيجة أيضا، أن تغير الفن الحربي بحذافيره فاستطاعت الجيوش الآن أن تنقسم إلى فرق، والفرقة إذا حلت في مركز موافق لها، تستطيع أن تدافع عن نفسها تلقاء قوة متفوقة عنها، أو على الأقل تستطيع أن تقاتل حتى تحرز السلامة بواسطة قتال يقوم به القسم المعد لحمايتها في المؤخرة، ولهذا صارت أهم مسألة متعلقة بالفن الحربي، أن يبحث الباحثون عن الكيفية التي يستطاع بها الاستفادة كل الاستفادة، من القوة الجديدة التي تكون لقسم مرن يستطيع التحول من جهة إلى أخرى، في ساحة واسعة، وتعلم القواد كيف يقذفون بالفصائل والشراذم المؤلفة من الجنود المعدة للمناوشات، وكيف يبعثون إلى القتال بالفرق التي كانت مرابطة في بقاع ثانية في الخريطة الحربية، والخلاصة أن نابوليون بونابرت استفاد من الانقلابات في الفن العسكري، وكان أول من استخدم هذا التطور بمهارة ونبوغ، فأدهش العالم وساد عليه فترة من الزمن طويلة.
ونعود الآن إلى فكرة الحملة الفرنسية على مصر فنقول:
لما تم لفرنسا بواسطة نابوليون الظفر على أعدائها لم يبق لها من الدول المنافسة المعادية سوي إنجلترا العدوة اللدودة التي حركت الضغائن في نفوس الأمم الأخرى، وجمعت حول فرنسا، بواسطة أموالها ودهاء رجالها نطاقا حديديا من الدول النافرة، حتى بلغ عددها في وقت واحد ست دول، فكان أول خاطر قام في نفس نابوليون هو محاربة إنجلترا بقطع طريق متاجرها الهندية، وذلك بالاستيلاء على مصر.
روى المؤرخون أن نابوليون في أثناء مخابرات صلح كامبوفورميو، كان يجمع قواده في حديقة «باسيريانو»
في شمال إيطاليا، ويصور لهم فتح مصر، واتخاذ هذه الديار قاعدة حربية لإرسال قوة كبيرة إلى الهند، للقضاء على سلطة إنجلترا فيها، وفي الوقت نفسه كتب إلى حكومة فرنسا رسالة مطولة يشرح فيها أهمية الحملة على مصر، من وجوهها السياسية والحربية والتجارية وقد نقل مسيو ديزيه لاكروا
Desiré Lacroi
في كتابه الذي وضعه عن بونابرت في مصر، من محفوظات وزارة الخارجية بباريس خطابا مطولا بعث به إلى تاليران
Talleyrand
وزير الخارجية في 13 سبتمبر سنة 1797 نقتطف منها العبارة الآتية: «إذا قضى علينا الصلح مع إنجلترا بالتنازل عن رأس الرجاء الصالح فلا بد لنا من أن نعتاض عنها بالديار المصرية، التي لم تقع أبدا في حيازة دولة أوروبية، نعم كان للفينسين «البندقيين» فيها نفوذ منذ بضع قرون، ولكنه كان نفوذا مزعزعا، وفي استطاعتنا بإرسال خمس وعشرين ألف جندي للاستيلاء على تلك الديار، وعندي أن مصر ليست تابعة الآن للدولة العثمانية، وأرجو من مواطني الوزير
10
عمل التحريات اللازمة للوقوف على ما يحدثه احتلالنا لمصر من الأثر على حكومة جلالة سلطان تركيا، وأن جيشا كجيشنا الذي يستوي عنده جميع الأديان، يتساوي لديه المسلمون والأقباط والأعراب والوثنيون على السواء ... إلخ.»
فأجابه «تاليران» بخطاب مؤرخ 23 سبتمبر قال فيه: إنه موافق على فكرة الحملة على مصر التي يعوض احتلالها على فرنسا، خسارتها في جزائر الأنتيل
11
وتفتح لنا طريق التجارة للهند ... إلخ.
ويظهر أن عقارب الحسد لنابوليون دبت في نفوس أعضاء الحكومة الجمهورية في ذلك الوقت، فخافوا من اتساع شهرته، ومن مكانته في قلب الجيش الذي يقوده، ولا يبعد أنه يكون قد خيل لهم في ذلك الوقت أن نابوليون، بما أصبح له من المحبة لدى الشعب الفرنسي، وما يلتف به من الجنود والقواد، قادر على أن يضع يده على السلطنة في باريس ويستبد بالملك «كما فعل فعلا» ولا يبعد أن تكون هذه الأفكار قد مرت بمخيلة نابوليون، لما رأى من القابضين على زمام الحكومة الرغبة في فصله عن جيشه، الذي أحبه وحارب تحت قيادته، ولكنه كان حكيما فنظر إلى فرنسا وقال - كما روى يوريين في مذكراته - «إن الثمرة لم تنضج بعد.»
رأت الحكومة في باريز فصله من جيش إيطاليا، وأصدرت أمرا بتعيينه قائدا عاما لجيش إنكلترا «أي: الجيش الموجه لمحاربة إنجلترا» وبعد يومين من صدور هذا الأمر، أصدرت الحكومة المركزية في باريس أمرا آخرا بانتدابه سفيرا مفوضا من قبل الجمهورية الفرنسية لمؤتمر راستاد
Rastadt
مع مندوبين آخرين قال أحد المؤرخين: ولم يكن يخفى على ذكاء نابوليون أن هذا الانتداب إنما يراد به إبعاده عن جيشه ، وأن حسد رجال الحكومة لشهرته هو الذي حملهم على إرساله في مهمة وهمية، ولكن نابوليون مع هذا كان أحكم من أن يظهر لهم تذمره من هذا النفي السياسي، وهو في الوقت بعينه كان يفكر في الجهة التي ينوي أن يسير إليها بالجيش الظاهر الذي حارب تحت زعامته،
12
وقبل أن يبرح مكانه استعرض الجيش في ميلانو «14 نوفمبر» وخاطب الجنود بكلمات تثير في صدورهم الحماسة وتذكرهم به على الدوام، فقال في خطابه لهم:
أيها الجنود، سأذهب في مساء غد إلى راستاد، ولا أجد تعزية على فراقكم، إلا في أملي بأني سأجتمع بكم عن قريب للدفاع ضد أخطار جديدة، أيها الجنود، كيفما كانت الوظائف التي تسندها الحكومة إلى رجال هذا الجيش، فإنهم سيكونون دائما جديرين برفع رايات الحرية، والمحافظين على مجد فرنسا وشرفها، أيها الجنود، إن تحدثتم بالملوك والأمراء الذين قهرناهم، وبالأمم التي خلصتموها من ربقة الاستبداد، في ميدانين «إيطاليا والنمسا» فاعلموا أنكم ستفعلون أكثر من ذلك في ميدانين آخرين.
وفي الإشارة الأخيرة كان نابوليون ينطق بما يكن فؤاده نحو مصر والشرق، لا نتبع نابوليون في سيره إلى راستاد، ولا عودته إلى باريس، واحتفال الحكومة به، ولا لزوم لنشر خطابه الذي أشعل به قلب الأمة الفرنسية، ولا رحلته لارتياد الشواطئ الفرنسية لفكرة غزو إنكلترا، فكل ذلك خارج عن موضوعنا، مهما بلغت قيمته من الفائدة التاريخية، ولكننا ننقل عن لسان صديقه، وكاتب مذكراته، بوريين، بعد عودته مع نابوليون من سياحة الشواطئ التي أشرنا إليها، العبارة الآتية: «وما رأي مولاي القائد في رحلته.» فهز نابوليون رأسه وقال: «إنني لا أرى أملا في غزو إنكلترا، إني لا أجازف بمستقبل فرنسا الجميلة.» وقال بوريين في مكان آخر من مذكراته: «وأخذت افكار نابوليون تتوجه إلى مسألة غزو مصر، فصارت موضوع فكره ليل نهار.» قال لي مرة: «إن أوروبا بأسرها ليست إلا جحر فأر، وما صدرت الشهرة العالية، وما دوى من الصيت الخالد، إلا من الشرق وفي الشرق.» والخلاصة أن نابوليون وحكومته فرنسا عدلوا عن غزو إنكلترا لاستحالة نقل الجيش الفرنسي في مضيق المانش، وفكروا في أن أحسن وسيلة لقهر إنكلترا، هي بالاستيلاء على مصر، فإن كان المانش متعذرا، فإن السير في البحر الأبيض متيسر، ومتى امتلكت فرنسا مصر، عطلت تجارة إنكلترا في الشرق، وخيل لنابوليون أنه يستطيع، بالاتفاق مع راجات الهند، الذين احتلت إنكترا بلادهم، طرد الإنكليز من تلك الديار، كما أن احتلال فرنسا لمصر يقضي عليها بتحويل معظم أساطيلها إلى البحر الأبيض المتوسط، فتستطيع فرنسا أن تعبر المانش بجيش تغزو به تلك الدولة الرابضة على أمواج البحار.
وكان لا بد لفرنسا من الارتكاز على حجة تبرر بها حملتها على مصر وهي من أملاك الدولة العثمانية، تلك الحكومة السلطانية الوحيدة التي لم تكن على عداء مع فرنسا، وكانت أول من اعترف بالجمهورية فكان من الأعذار التي قالت بها فرنسا، وما ورد في خطاب نابوليون لتاليران وزير الخارجية، من أن مصر ليست في حيازة تركيا؛ لأن المماليك استبدوا بالأمر فيها، ثم وجدت فرنسا من تقارير قنصلها في مصر، مسيو ماجاللون
Magallon - تلك التقارير التي أظهر فيها مر الشكوى من معاملة المماليك للتجار الفرنسيين سواء في إسكندرية ورشيد ودمياط والقاهرة - حجة ترتكن عليها.
نابوليون بونابرت حوالي العهد الذي افتتح فيه القطر المصري «نقلا عن صورة للمصور «أبياني».
ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه قد كان من أكبر الأسباب التي حملت الحكومة الفرنسية على تقرير الحملة على مصر، رغبتها في الخلاص من نابوليون بونابرت بإبعاده عن باريس، وأن نابوليون بعد تحمسه لمشروع الحملة على مصر، بردت نار حماسته، لما أدرك ما وراء هذا الإبعاد، من الرغبة في القضاء على شهرته، قبل أن تمتد يده لإدارة الأحكام في فرنسا، ولكنه كان قد تورط في مشروع الحملة، فلم يعد في إمكانه الانسحاب منه، وشهادة «بوريين» في مذكراته تؤيد رأي هذا الفريق فقد قال ما نصه: «ولقد يلوح لي من جميع ما رأيته ووعيته، أن الرغبة في الخلاص من شاب طموح، ولدت شهرته الحسد في قلوب الزعماء، هي التي تغلبت على خطر تجريد فرنسا، لمدة غير معلومة، من جيش عظيم، مع ما كان كثير الاحتمال، من تحطيم الأسطول الفرنسي، وأما نابوليون فلم يبق أمامه إلا أن يختار بين قيادة حملة غير مأمونة العواقب، أو القضاء على مستقبله، ولما كانت حملة مصر، هي الوسيلة الوحيدة لإبقاء علم شهرته خافقا، لم يتردد في قبول القيادة العامة التي صدر له بها الأمر في 12 إبريل سنة 1798.»
13
وأما الفريق الثاني من المؤرخين، فيقول: إن رجال الحكومة لم يريدوا إبعاد نابوليون، وفي مقدمتهم وأكثرهم عنادا كان لاريفاليير ليبو
La Revalliere Lépeaux
فإنه عارض واحتج على تجريد فرنسا من ثلاثين أو أربعين ألفا من خيرة الجنود الفرنسية، وتعريضهم مع سفن الأسطول إلى معركة بحرية مع الأسطول الإنكليزي في البحر الأبيض المتوسط، وإبعاد القائد العظيم الذي تخافه النمسا وتخشاه، هذا عدا حمل الباب العالي على محاربة فرنسا لتعديها على ولاية من ولاياته، فكان نابوليون على رأي هذا المؤرخ، يرد هذه الاعتراضات بأنه لا خوف من الأساطيل الإنكليزية، وإن سحب ثلاثين أو أربعين ألف جندي من فرنسا، ليس بالشيء الذي يذكر ما دام جيشها أكثر من ثلث مائة إلى أربعمائة ألف جندي، وأن الباب العالي قد فقد مصر لاستبداد المماليك بالأمر فيها، واشتد الجدال بين نابوليون ومعارضيه، حتى هدد بالاستعفاء من منصبه، فكان جواب لاريفاليير بشدة «إنني أبعد من أن أقبل استقالتك، ولكني أرى أنك إذا قدمتها، فعليهم قبولها.» فصمت نابوليون ولم ينطق بكلمة الاستقالة بعدها، والروايات في هذه النقطة متناقضة؛ إذ قال بعض المؤرخين: إن الذي أجاب نابوليون ذلك الجواب هو رويبل، وقال آخرون: إنه باراس، ورأى «تيير» المؤرخ العظيم
Thiers
أن هذا الفصل حدث مع لاريفاليير كما ذكرنا.
وكيفما كان الحال فإن الحكومة الفرنسوية قد قررت الحملة، وعينت نابوليون قائدا عاما على جيش البر والبحر لهذه الحملة، وبلغ من أمر التكتم بشأنها أن القواد وكبار الضباط، لم يكونوا يعلمون إلى أين هم سائرون ، ولم يأمن رئيس الحكومة «الدير كتوار» إلى كاتب بكتابة أمر الحملة وقيادتها، فكتبهما بخط يده.
وليس من شأننا أن نأتي على بيان التحضيرات الحربية ، البرية والبحرية؛ إذ يكفينا أن نقول إن الحملة كانت مؤلفة من اثنين وثلاثين ألف جندي من البرية والبحرية، تحملها 13 قايقا و14 بارجة و400 سفينة لنقل العساكر والمهمات، وتقرر أن تسير السفن من ثغور طولون ومارسيليا وجنوا في فرنسا، وسيفاتافتشيا في إيطاليا.
ولقد أظهر نابوليون بإجماع الباحثين والمدققين، مهارة عظيمة ونظرا ثاقبا، وقريحة وقادة في تجهيز هذه الحملة؛ إذ رووا أنه فكر في كل شيء من دقائق الأمور، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا رتبها وبوبها وأحصاها، فبدأ باختيار زهرة القواد، وخلاصة الضباط، ولم ينس أصناف الصناع، وأرباب الحرف اللازمة للجيش، وجلب من روما المطبعة العربية واليونانية، وأحضر معها فئة من العارفين بصف الحروف وطبعها، وجمع عدة آلات وأدوات علمية، ولم ينس انتقاء مكتبة جامعة للكتب عن مصر والشرق، ليقرأها مع ضباط جيشه أثناء سفرهم.
وانتهت كافة التجهيزات في 12 إبريل سنة 1798، وأمضى الأمر بتكوين «جيش الشرق» وتعيين نابوليون بونابرت قائدا عاما، وفوض له الاستيلاء على الديار المصرية، وطرد الإنكليز من جميع البلاد التي يمتلكونها في الشرق ما استطاع لذلك سبيلا، وعلى الأخص القضاء على تجارة الإنجليز في البحر الأحمر، وفوض له أيضا خرق برزخ السويس، واتخاذ الوسائل اللازمة لضمان امتلاك البحر الأحمر واختصاص جمهورية فرنسا به، فما كان أحلاها أحلاما!! وما كان أبعدها تحقيقا!! والملك لله الواحد القهار.
وكادت حادثة الاعتداء على سفير فرنسا
14
في فينا توقف سير هذه الحملة؛ لأن حكومة الجمهورية خافت من تحرك النمسا فأصدرت الأوامر لنابوليون، ولكنه اكتفي بكتابة خطاب شديد إلى الكونت «كوبنزل» فهدأت الأحوال وبرح باريز في 3 مايو ووصل طولون في 9 منه، ونشر على الجيش في اليوم التالي إعلانا حماسيا ملأ عباراته الضخمة، بألفاظ مختارة لتحريك الأشجان، والتأثير في النفس والوجدان، وقال لهم في طولون: «إن أوروبا تنظر إلى أعمالكم.» كما قال لهم بعد ذلك، تحت ظل الأهرام، «إن أربعين قرنا من الزمان تراقبكم»!! وسنرى ماذا يقع تحت عيون أوروبا بأسرها، وأربعين قرنا من الزمان بسرها وسحرها!
والجدول الآتي يبين مجموع القوة الفرنسية وطريقة نقلها على السفن من الموانئ المختلفة:
موانئ السفر
بوارج
فرقاطات
سفن وطرادت
نقالات
جنود
خيول
طولون
13
7
6
106
20000
470
مرسيليا
2
30
3200
60
كورسيكا
1
20
1200
جنوا
1
1
35
3100
70
سفاتافيتشيا
1
1
41
4300
80
المجموع
13
9
11
232
31800
680
وكان تكوين القوة «من حيث الأسلحة» من 24300 من المشاة «البيادة» و4000 خياله «سواري» وطوبجية 3000 ونحو ألف من الأتباع، والمجموع بالضبط 32300 «لا أربعين ألفا كما يتساهل المؤرخون» وكانت قيادة الأسطول تحت الفيس أميرال برويز
Brueys
وتحت قيادة الكونت أميرالات
Decrés, Blanquet-Duchyl, Villenenve ، ورياسة أركان حرب الأسطول لغانتوم
Ganteaume
وأما الجيش البري فكان برتيه
Berthier
رئيس أركان الحرب وكافاريللي على المهندسي، ودومرتين
Doumartin
على الطوبجية وتحت رئاسته على الفرق القواد
Songis
و
Faultrier
و
Desaix
و
Kleber
و
Dugua
وعلى الأورط
Lannes
و
Murat
و
Lunusse
و
Vial
و
Veaux
و
Rampon
و
Davout
و
Friant
و
Belliard
و
Dumas
و
Leclere
و
Verdier
و
Andreossy
ومن ياوران نابوليون الضباط
Junot
و
Beauharnais «ابن زوجته» و
Louis Bonaporte «أخوه» و
Sulkowski
و
Jullien
و
Duroc
و
Croizier .
ولقد جئنا على ذكر أسماء أولئك القواد والضباط الذين صاحبوا نابوليون في حملته؛ لأن الكثير منهم بلغ بعد من الشهرة في تاريخ أوروبا مكانا قصيا، ولأن الكثيرين منهم كانت لهم في الديار المصرية، حوادث ووقائع مشهورة، ومنهم من قتل في هذه الديار، ولا بد من معرفة أسمائهم، وتتبع حركاتهم، وأهم ما فكر فيه نابوليون أنه ارتأى أن تكون معه بعثة علمية محضة لدراسة طبيعة البلاد المصرية، وبحث آثارها ونباتها وحيوانها، ونيلها وأرضها، وسمائها وسكانها، وكانت هذه البعثة تتألف من نحو مائة عالم من مشهوري علماء فرنسا الذين امتازوا بدراسة خاصة في كل فرع من فروع العلوم، وكانت هذه البعثة تحت رياسة الرياضي الشهير صديق نابوليون مونج
Monge
أحد أعضاء الأكاديمي، وكان معه من رجال الأكاديمي
Berthollet
و
Dolomieu
و
Denon
ومن مهندسي الكباري والقناطر
Le pére
وجيرار ومن الرياضيين
Corancez ،
Costaz ،
Fourier
ومن علماء الفلك
Nouet
و
Beauchamp
و
Méchin
ومن علماء الطبيعة والنباتات
Saint-Hilaire Geoffroy
و
Savigny
ومن الكيماوين
Descotils
و
Champy
ومن الرسامين والموسيقيين والشعراء وعلماء فن المعمار عدد كثير.
ولا نزاع في أن هذه أول بعثة علمية رافقت، مرافقة رسمية، حملة من الحملات العسكرية في تاريخ العالم، والفضل في ذلك بلا نزاع راجع لنابوليون دون سواه، ولنا كلام على الأعمال التي قامت بها هذه البعثة العلمية من حيث فائدتها لمصر وأهلها، ومن حيث فائدتها للعلم عامة في أوروبا، ربما أتينا عليه في مكان آخر.
وفي اليوم التاسع عشر من شهر مايو نشرت سفن أسطول هذه الحملة أعلامها وسارت تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، قاصدة جزيرة مالطة، وكان نابوليون وياروانه في السفينة أوريان
Orient «المشرق» التي يسميها الجبرتي «نصف الدنيا» ومعه قائد الأسطول برويس، ومعه أيضا بها من رجال البعثة العلمية مونج وبرتللو، ومن القواد كفاريللي المهندس وغيرهم، وهنا نذكر أن الحكومة الإنكليزية عملت بأمر هذه الحملة، ولكنها لم تكن على بينة من معرفة الجهة التي تقصدها لما اتخذته الحكومة الفرنسية من وسائل التكتم الزائد، وكان الفكر الراجح لدى حكومة إنكلترا، أن هذه العمارة الفرنسية تنوي السفر من مياه البحر الأبيض المتوسط إلى جبل طارق قاصدة احتلال ايرلنده، ومع ذلك فقد أصدرت الحكومة الإنكليزية للأمير ال نسلون أمرا بمراقبة هذه الحملة، وأصدرت إليه الأوامر الصريحة بأن يفعل كل ما في إمكانه لأسر، أو إغراق، أو حرق، هذه العمارة الفرنسية مهما كلفه ذلك، ما دام قادرا على تسيير سفنه ولديه من الزاد والمئونة والذخيرة ما يكفيه، وكان نلسون يخالف حكومته في ظنها من حيث وجهة العمارة الفرنسية، وبعد أن أجبرته زوبعة كبيرة على الالتجاء بسفنه إلى جزيرة سردينيا، حيث رمم بعضها، التي أضرت بها هذه الزوبعة، تمكنت العمارة الفرنسية من السفر دون أن يقف لها الأسطول الإنجليزي على أثر، ثم قصد نلسون شواطئ إيطاليا وكتب في 15 يونيو على مقربة من نابولي قائلا: إذا كانت السفن قد مرت من سيسيليا «جزيرة صقلية» فإنها لا بد وأن تقصد تنفيذ مشروع الاستيلاء على الإسكندرية، لكي ترسل من مصر حملة إلى الهند بناء على اتفاق مع «تيبو صاحب» وليس تنفيذ هذه الخطة بالأمر العسير.
أما العمارة الفرنسية فوصلت مالطة في 9 يونيو «1798» وأنزلت قوة في اليوم الثاني لاحتلال الجزيرة، وليس من موضوع عملنا أن نشرح حال مالطة وما جرى في استيلاء نابوليون عليها، إنما يكفينا من قبيل الفائدة التاريخية، ولما له من علاقة بهذا الكتاب، أن نذكر أن استيلاء نابوليون على مالطة كان ضروريا لحفظ مواصلاته مع فرنسا، وكانت هذه الجزيرة مستقلة تحت إدارة حكومة تدعى «فرسان مالطة» وهم جماعة من المسيحيين من جميع ممالك أوروبا، أشبه بفرسان الحروب الصليبية، وقفوا أنفسهم للدفاع عن صوالح النصرانية، لما شبت الحروب بين الدول الإسلامية وممالك أوروبا المسيحية، وكان لقبهم في الأول فرسان «رودس» فلما فتح السلطان سليمان جزيرة رودس، منحهم الإمبراطور شارلكان جزيرة مالطة وكانا يتقربون إلى ممالك أوروبا، ويستدرون خيرات أبنائها، بدعوى أنهم يحاربون حالهم حتى فاجأهم نابوليون بخيله ورجله، وبعد مقاومة ضعيفة استولى على الجزيرة وترك فيها أحد قواده الجنرال فوبوا
Vaubois
ومعه ثلاثة آلاف جندي كحامية في الجزيرة، وقبل أن يبرح الجزيرة، فكر في أن يوطد العلاقات الودية في المياه اليونانية في ألبانيا وأبيروس، وكان في حروبه مع البندقية قد استولى على جميع الجزر والسواحل والثغور التي كانت ملكا لتلك الجمهورية في بحر الأدرياتيك سنة 1797، وحينذاك راسله علي باشا والي «بنينا» المشهورة، ولم يكن إذ ذاك قد خرج عن طاعة الدولة، مؤكدا له حسن ولائه، فكان أول خاطر لنابوليون قبل مبارحته مالطة، لتوطيد علاقاته الحسنة في ألبانيا، وأبيروس، هو أن بعث بخطاب إلى علي باشا والي ينينا وأوفد به أحد ضباطه.
واستعاض نابوليون، عن القوة الفرنسية التي تركها في الجزيرة «3000 جندي» بقوة تعادلها من المالطيين والفرنسيين، الذين كانوا مع فرسان الجزيرة، وغنم من الجزيرة نحو 1200 مدفع وكميات كبيرة من الذخائر، أخذت منها الطوبجية الفرنسية ما رأته لازما في حملتها على مصر، وكان في الجزيرة نحو ثمانمائة من الأتراك الأسرى فأطلق نابوليون سراحهم، وأحضرهم لمصر في السفن لإرسالهم إلى بلادهم، وقد عمل هذا، كما يظهر من منشوراته في مصر، بقصد التودد للمسلمين ولحكومة الباب العالي، ثم ضم إلى الحملة عددا وافرا من المالطيين والأسرى المغاربة الذين يعرفون اللغة العربية والفرنسية بصفة تراجمة، وكان لهم شأن في حوادث مصر كما سيأتي ذكره في مكانه، وأرسل من مالطة في سفينة عدة آثار غالية وغنائم بقصد إيصالها إلى فرنسا، فغنمها الإنجليز قبل أن تصل إلى فرنسا.
وفي 19 يونيو أقلعت العمارة الفرنسية من مالطة قاصدة جزيرة كريد، أما نلسون فإنه تتبع العمارة الفرنسية بأسطوله، وقد روى كتاب الإنجليز أن نلسون كان في 20 يونيه ماخرا بأسطوله جنوب جزيرة صقلية، وكانت العمارةالفرنسية قد خرجت في اليوم السابق من مالطة، بحيث كان الأسطولان على مقربة من بعضهما، ولكن لم ير أحدهما الآخر، وكانت وجهة الأسطول الإنجليزي ثغر الإسكندرية ليدرك العمارة الفرنسية، كما قرر نلسون ذلك في ذهنه، وقال كتاب الإنجليز: إن نلسون كان في صباح يوم 24 يونيو على مسافة بضع فراسخ من العمارة الفرنسية، جنوبي جزيرة كريد، ولكن لم يرها أيضا واستمر قاصدا الإسكندرية فوصلها، كما سيأتي بيانه، بثلاثة أيام قبل العمارة التي يتعقبها ... فما أعجب حوادث التاريخ!! فلو أن نلسون أبصر العمارة الفرنسية في مكان من المكانين المشار إليهما، لعقبهما وربما مزقها إربا، قياسا على ما فعل معها في أبي قير بعد، وقياسا على انتصاراته على أساطيل فرنسا وحلفائها في حروب تلك السنين، ولو تم له ذلك لتغيرت صفحة كبيرة من صفحات التاريخ، ولما ظهر لنابوليون من الشهرة والمجد ما ظهر، ولما حاق بمصر ما حاق بها من المحن والمنافسات والمنازعات، التي لم تكسب من ورائها فائدة مباشرة.
في يوم 26 يونيو وصلت العمارة الفرنسية إلى جزرية كريد، وهناك في صبيحة اليوم التالي اجتمعت بها الفرقاطة التي كان قد بعث بها للاستعلام في جهات نابولي، وأخبر نابوليون بأن نلسون على رأس أسطول ضخم، كان قريبا من مياه نابولي في يوم 20، وأنه سار قاصدا مالطة، فلما وصل هذا النبأ إلى مسامع نابوليون أصدر أوامره في الحال بالسفر إلى جهة إفريقية، وعند ذلك كشف الغطاء للجنود والضباط عن الجهة التي تقصدها الحملة، بعد أن بقي سرها مكتوما عن الجميع؛ إذ أصدر الجنرال بونابرت أمرا وزعه على جميع السفن لتتلوه الجنود، ولما كان هذا المنشور من الأهمية بمكان من وجهة تاريخ مصر، وبيان الخطة التي وضعها نابوليون لنفسه ولجيشه في مبدأ الأمر نأتي على تعريبه.
منشور إلى الجيش البري
15
من المعسكر العام على ظهر الباخرة أوريان 4 مسيدور سنة 6 للثورة «22 يونيه سنة 1798»
من بونابرت عضو الانستينو ناسيونال، وقائد عام جيش مصر
أيها الجنود!
إنكم ستخوضون غمار حرب سيكون لها تأثير عظيم على المدينة وتجارة العالم أجمع، وستضربون إنكلترا ضربة حساسة في صميم فؤادها، على أمل أن تتمكنوا بعد من إيصال هذه الضربة للقضاء على حياتها.
سنضطر إلى قطع مسافات متعبة على الأقدام، وسنقاتل في عدة مواقع، وسنفوز في جميع المعارك؛ لأن العناية معنا.
وبعد وضع أقدامنا في أرض مصر ببضعة أيام سنمحي من صحيفة الوجود أولئك البكوات المماليك الذين يعضدون التجارة الإنجليزية دون سواها، والذين أهانوا تجارنا، وعاملوا سكان وادي النيل بالظلم والاستبداد.
واعلموا أن الشعب الذي سنعيش معه يدين بدين الإسلام، وأول قواعدهم «أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله» فلا تعارضوهم في معتقدهم، وعاملوهم كما عاملنا اليهود والإيطاليين، واحترموا مشايخهم وعلماءهم، كما احترمنا الرهبان والقساوسة.
وليكن في نفوسكم من التسامح للتقاليد التي يقضي بها الشرع، والمساجد، مثلما كان لكم من التسامح مع الكنائس والصوامع والبيع، ومع المتدينين بدين عيسي وموسى، ولقد كانت الجيوش الرومانية قبلكم تحمي الأديان وترعاها، وستجدون في هذه الديار عادات تخالف العادات في أوروبا، فلا بد من أن تألفوها وتعتادوها، وأعلموا أن الناس الذين ستكونون بينهم، يعاملون النساء على غير مألوفنا، وقد أجمعت الأمم على أن من يتعدى على حرمة المرأة، إنما هو حيوان وبهيم.
وأما النهب والسلب، فلا يغني إلا فئة قليلة من الأفراد، ولكنه يحط من قدرنا، وينقص من شرفنا، ويبغض فينا قلوب الناس الذين من مصلحتنا أن نكون معهم على صفاء ووداد. ا.ه.
ولقد جئنا على نص هذا المنشور لأسباب كثيرة، منها أنه غير موجود باللغة العربية، بخلاف منشوراته الأخرى، التي عربت تعريبا قبيحا، ونشرها الجبرتي وغيره، ومنها أنه يعبر عن عواطف نابوليون وميوله الأولى قبل أن يحطم نلسون أسطوله في أبي قير، ويقطع عليه آمالا كبيرة، ومنها أنه لم يقصد بهذا المنشور الذي وزع على الجنود دون سواهم، مراءات المصريين، ومن هذه الأسباب أيضا، رغبتنا في تطبيق هذه النصائح والإرشادات، التي وجهها لجنوده، على ما وقع منهم من الأمور المغايرة لروح هذه القواعد، أثناء وجود نابوليون بمصر، وبعد سفره منها.
هوامش
الفصل الثالث
الحملة الفرنسية في الإسكندرية
كان ظهور السفن الفرنسية، بمن نقل من جنود وضباط وقواد علماء وذخائر وبنادق ومدافع، فاتحة عصر جديد لمصر، بدأ بالاحتلال الفرنسي، تحت قيادة أعظم القواد الحربيين الذين أظهرهم هذا الوجود، ثم عقب بالنزاع بين أوروبا، حول هذه البقعة المسماة وادي النيل ... ذلك النزاع الذي ما برح يظهر على جميع الأشكال، وغريب الأحوال، من مطاردة الفرنسيين وإخراجهم، إلى معاضدة المماليك بإنزال قوة إنكليزية على الشواطئ المصرية، ثم بمقاومة محمد علي، وإيقافه عند حد لا يتعداه في مشروعاته ومطامعه، ثم بالمعارضة في فتح قنال السويس، إلى التداخل في أمور مصر المالية، حتى كانت الثورة العرابية، والاحتلال الإنكليزي، والحماية الظاهرة والمقنعة ... كل هذه الحوادث والمشاكل خلفها وضع فرنسا قدمها في مصر، فإنه من ذلك الحين، أوجست إنكلترا خيفة من تعاظم نفوذ أية دولة أوروبية في وادي النيل، أو تقوية أي سلطة محلية، مما قد يكون عائقا في تنفيذ سياستها القاضية بأن يكون طريقها إلى الهند في يدها، فكان لها القدح المعلى في كل هاتيك الحوادث والمشاكل، إلى أن استقر قدمها في مصر، عقب الثورة العرابية ... ومع ذلك فستبقى مصر سببا لمشاكل أوروبا ومنازعاتها وحروبها، حتى تنال استقلالها التام بطريقة تجعل الباب مفتوحا، والثقة في التساوي كاملة، أو يحكم الله بأمر من عنده وهو خير الحاكمين.
والآن وجب علينا أن ندخل في تاريخ الحملة الفرنسية وحروبها وأعمالها في مصر مدة الثلاث سنوات التي حكم فيها الفرنسيون هذه الديار، وعاملوا أهلها بما عاملوهم به من عدل وظلم، وإكبار واحتقار، وتعمير وتدمير؛ إذ قد جمع في تلك المدة من المتناقضات ما سيظهر للقارئ على صفحات هذا الجزء الخاص بهذه الفترة.
دمغ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي هذه الفترة بقوله، في فاتحة الجزء الثالث من كتابه، «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، ذلك الكتاب الذي سنذكره، ونأخذ عنه ونجادله كثيرا فيما سنكتبه بالعبارة الآتية فقال:
وهلت سنة 1213 هجرية وهي أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الأحوال، وفساد التدبير وحصول التدمير، وعموم الخراب وتواتر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
ولو وضعت حوادث الحملة الفرنسية في مصر، ونتائجها ومعاركها، في هيكل أو تابوت، وأريد أن ننقش لها كلمة تذكار، لما وجد الباحثون أفضل من عبارة هذا الشيخ الأزهري، عبد الرحمن بن حسن الجبرتي!!
كان الثغر الإسكندري في ذلك الوقت بلدة حقيرة لا يزيد عدد سكانه عن عشرة آلاف نسمة تقريبا، وكانت تجارته قد اضمحلت وثروته قد نزفت وقلت، وكان الرئيس إذ ذاك فيها «والمشار إليه بالإبرام والنقض» هو السيد محمد كريم السكندري، وهو رجل لم أقف على حقيقة جنسيته، والغالب على الظن أنه مغربي الأصل استوطنت أسرته الإسكندرية، وكان كما رواه الجبرتي في ترجمته حياته، في أول أمره قبانيا يزن البضائع في حانوت الثغر، وعنده خفة في الحركة وتودد في المعاشرة، فلم يزل يتقرب إلى الناس، بحسن التودد، ويستجلب خواطر حواشي الدولة، وغيرهم من تجار المسلمين والنصارى، ومن له وجاهة وشهرة في أبناء جنسه، حتى أحبه الناس، واشتهر ذكره في الإسكندرية ورشيد ومصر، واتصل بصالح بك حين كان وكيلا لدار السعادة، وله الكلمة النافذة في ثغر رشيد، ثم اتصل بواسطته إلى مراد بك فتقرب إليه، ووافق الغرض منه، وقلده أمر الديوان والجمارك بالثغر فعلت كلمته، ونفذت أحكامه، وكان قبودان الميناء التركي إدريس بك.
وقد سبق أن قلنا في ختام الفصل السابق إن الأميرال نلسون الإنكليزي جاوز بأسطوله العمارة الفرنسية جنوبي كريد ولم يرها، فقصد الإسكندرية لكي يدركها على ظنه، فوصلها قبل العمارة الفرنسية بثلاثة أيام فقط، لا بعشرة كما رواه الجبرتي، وتابعه المؤرخون الحديثون، بغير تمحيص ولا تحقيق، وللجبرتي العذر في أغلاطه التاريخية، فإنه إنما كان يكتب في القاهرة ويقول وردت مكاتبات على يد السعاة من الإسكندرية، ومضمونها أن في ثامن «محرم » وصلت عمارة إنكليزية فلا معني إذن لمتابعته، والنقل عنه، بغير ترو، وأوقات وصول هاتيك الأساطيل، وأولئك القواد العظام مضبوطة بالساعات، إن لم يكن بالدقائق في كتب القوم ومذكراتهم، ومع ذلك فلو أنهم قرءوا الجبرتي حق قراءته؛ أي: أنهم درسوا كل كتابه، ولم يكتفوا بالنقل، لوجدوا إن الجبرتي في وفيات سنة 1215 عند ترجمة حياة مراد بك، يقول بعد ذكره وصول العمارة الإنكليزية ومغادرتها المياه المصرية ما نصه: «فما هو إلا أن غابوا في البحر نحو الأربعة أيام إلا والفرنسيس قد حضروا وكان ما كان.» وهو قريب من الصواب أو هو الصواب بعينه، ومن أغلاطهم التي لا تغتفر تقريرهم أن القوة التي قدم بها نابوليون كانت تبلغ أربعين ألفا، وأن عدد البوارج كان أربعمائة سفينة، مع أن البيان الرسمي موجود في كتب القوم، ومنها يظهر في الحال أن القوة التي برح بها أوروبا كانت 32 ألفا فقط، وأنه ترك منها في مالطة ثلاثة آلاف اعتاض عنها بألفين من المالطيين، وأن عدد السفن لم يزد عن 320 سفينة.
فلما ألقى الأميرال نلسون مراسيه في الإسكندرية، ولم يجد العمارة الفرنسية بعث بقارب وفيه «على رواية الجبرتي» عشرة أنفار، فوصلوا إلى البر، واجتمعوا بالسيد محمد كريم، ومن معه من أعيان البلدة فكلموهم واستخبروهم عن غرضهم، فأخبروا أنهم إنكليز حضروا للتفتيش على الفرنسيس؛ لأنهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات، ولا ندري أين قصدهم، فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم، ولا تتمكنون من منعهم، فلم يقبل السيد محمد كريم منهم هذا القول وظن أنها مكيدة منهم، وجاوبهم بكلام خشن، فقالت رسل الإنكليز: «نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر، لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه.» فلم يجيبوهم لذلك، وقالوا هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيس، ولا لغيرهم عليها سبيل، فعادت رسل الإنكليز وأقلعوا في البحر ليمتاروا من غير الإسكندرية، وليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ولو كان السيد محمد كريم أو غيره في الإسكندرية واقفا على شيء من حوادث أوروبا، ومنازعات الإنكليز مع الفرنسيس لأمد أسطول نلسون بما أراد من ماء ومئونة، لا سيما وقد طلبوا شراء ذلك بالمال، ولترك لهم حريتهم حتى يتخابر مع حكام البلدة البكوات، ونائب السلطان، ولو تم ذلك، وبقيت العمارة الإنكليزية ثلاثة أيام أخرى، لكان لها، مع نابوليون وحملته، حال الله بها أعلم.
ويظهر أن رواية الجبرتي هي أصح الروايات؛ لأن الذي حمل نلسون على الإقلاع من مياه الإسكندرية، هو حاجته الشديدة للزاد والماء، بدليل أنه أقلع في الحال إلى شواطئ آسيا الصغرى فجزيرة سراقوزه، حيث امتار وعاد إلى الإسكندرية ثانية، فوصلها في أول أغسطس؛ أي: بعد نزول الفرنسيس أرض مصر بشهر كامل.
وفي اليوم الأول من شهر يوليو سنة 1798
1
وصلت العمارة الفرنسية إلى مياه الإسكندرية عند مطلع الفجر، فبرزت أمام الجنود والقواد مآذن الثغر ومبانيه مجليية بازار الفجر، وراء قاعدة من زرقة البحر، وأدرك الجيش أنه وصل إلى محط رحاله، ونهاية أسفاره، ولما ارتفع ذيل النهار، وعلت الشمس في الأفق، أبصر أهل الثغر سفن العمارة الفرنسية، فأدركوا حين ذلك أن الإنكليز صدقوهم، ولم يخدعوهم، وكان أول ما عمله نابوليون أن بعث بالفرقاطة
La Junon
إلى البر للوقوف على حال البلدة، ولطلب قنصل فرنسا، وكان في ذلك الوقت هو ابن أخ «ماجاللون» الذي سبقت الإشارة إليه، فعارض السيد محمد كريم في ذهاب القنصل، ولكنه عاد فسمح به، ويقول الجبرتي، وتابعه المؤرخون الحديثون، إنه ذهب مع القنصل بعض أهل البلد، ولم يرد ذكر ذلك في الكتب الفرنسية التي وقفنا عليها وهي أحق بالمعرفة، فلما وصل القنصل إلى بارجة الأميرال أخبر نابوليون أن العمارة الإنكليزية، تحت قيادة نلسون، كانت هنا منذ ثلاثة أيام «أي: 28 يونيه سنة 1798» وروى له ما قاله الإنكليز من تفتيشهم على العمارة الفرنسية، وأن الترك قد داخلهم الفزع، فأخذوا في تحصين المدينة، وأقلعة المتاريس، وأن المسيحيين في الثغر في أشد درجات الخطر، بحيث سار من اللازم الإسراع في احتلال المدينة، ولم يكن نابوليون في حاجة للتحريض على الإسراع، فإنه ما كاد يسمع بعبقريته نلسون قريبا من الإسكندرية، حتى داخله الفزع، وأصدر أمره في الحال بالتحول إلى جهة العجمي، وبرج مرابوت «قلعة قايتباي» لإنزال الجنود ليلا إلى البر فعارضه الأميرال في ذلك؛ لأن الجو قد تغير في آخر النهار قائلا: إن نلسون لا يمكن أن يعود قبل بضعة أيام.
قال بوريين في مذكراته عن ذلك اليوم - وكان بوريين مرافقا لنابوليون في باخرته - «فلما قال الأميرال إن نلسون لا يعود قبل بضعة أيام، عارض نابوليون واحتد قائلا: يلزمنا أن لا نضيع دقيقة واحدة، فقد أعطاني الحظ ثلاثة أيام فإذا لم انتهزها خسرنا كل شيء.»
فاضطر الأميرال إلى أن يصدر أمره بإنزال الجنود في الحال فبدأ في ذلك العمل على الرغم من هياج البحر وغرق بعض العساكر، قال بوريين في مذكراته:
كانت الساعة الثانية من صبيحة يوم 2 يوليو حين وضعنا أقدامنا في أرض مصر عند نقطة تبعد نحو ثلاثة فراسخ من الإسكندرية «جهة المكس»، وفي الساعة الثالثة بدأ بالزحف على الإسكندرية ثلاث آلايات تحت قيادة كليبر وبون ومورات تحت رياسة القائد العام.
وغريب مع هذا التدقيق في التاريخ، وكون روبيين كان كاتب يد نابوليون فهو شاهد عيان، أن يوجد بين المؤرخين من يقرر أن موعد نزول الجيوش الفرنسية كان في يوم 3 يوليو لا في 2 منه، كما يقول به «بربيه» في كتابه «تاريخ مصر من سنة 1798 إلى 1900»
2
هو من خيرة الكتاب المحققين، وصاحب التوفيقات الإلهامية، وهو ممن يعتمد على تدقيقهم في التاريخ، يقول أيضا: إن نزول الجنود الفرنسية في أرض مصر كان في يوم الثلاثاء 19 محرم، الموافق 3 يوليو، مع أنه قرر وصول العمارة إلى الإسكندرية يوم الأحد 17 محرم، فكأنه يرى أن الجنود لم تنزل في مساء ذلك اليوم، ولا يتفق هذا مع إسراع نابوليون وخوفه من نلسون، والجبرتي يقول: «وردت الأخبار بأنه في يوم الاثنين 18 محرم وردت مراكب وعمارات للفرنسيس، فأرسو في البحر.» وهو في هذا الخطأ التاريخي مخطئ ومعذور معا.
ونقطة الخلاف هي هل كان دخول نابوليون مدينة الإسكندرية يوم الاثنين «2 يوليو 18 محرم على رواية بوريين وهو شاهد عيان، وعليه أكثر اعتماد كتاب الإفرنج»، أو في يوم الثلاثاء «3 يوليو و19 محرم».
ومما جاء في مذكرات «بوريين» عند نزوله من السفينة أنه لما مد الأميرال يده لمساعدة نابوليون على النزول إلى القارب، رأى القارب قد ابتعد عن مكانه فصرخ قائلا: «إن حظي بدأ يخونني»! ولكنه بعد صعوبة ومخاطرة وضع قدمه في أرض مصر الساعة الأولى بعد منتصف الليل!
وتكون الجيش الزاحف على الإسكندرية في الساعة الثالثة من صباح يوم الأحد 2 يوليو «18 محرم سنة 1223» من ثلاث فرق فقط «منو» على الجناح الأيسر و«كليبر» في القلب، «وبون» في الجناح الأيمن، وكان نابوليون بونابرت القائد العام، يسير على قدميه؛ لأنه لم يكن قد أنزل من الخيول القادمة مع الحملة جوادا واحدا، ولم يكن ذلك بالشيء الكثير على قائد طبقت شهرته الخافقين، وهو لا يزال في التاسعة والعشرين من عمره يوم وطئت قدمه أرض مصر!
أما أهل الإسكندرية فقد أزعجهم ظهور الأسطول في النهار، ولكنهم لم يكونوا ينتظرون أن يداهمهم العدو ليلا؛ إذ المألوف عندهم أن الجيوش التي تنزل أرض مصر تأتي من جهة أبي قير، وأنه يلزمها عدة أيام لإفراغ شحن هذه السفن، وتنظيم قوة لمهاجمة المدينة، ولكنهم لم يعرفوا نابوليون وسر نجاحه، وهو الإقدام وعدم ضياع الوقت.
إلا أنه لما أنزلت الجنود الفرنسية في البر ليلا في تلك الليلة المقمرة أسرع بدوي على فرسه بالسير إلى الإسكندرية، وأبلغ الخبر للسيد محمد كريم ... ومن يدري كيف كان، وأين كان في تلك الساعة مع سراريه وأخدانه، على نحو ما ألف أهل ذلك الزمن، من الترف والنعيم واللهو، فأخذ معه نحو عشرين من المماليك الإنكشارية «على رواية الفرنسيين؛ إذ ليست لدينا رواية من مصادر أخرى» فالتقت هذه القوة الصغيرة عند مطلع الفجر بطليعة من الجيش الفرنسي فظنوها كل القوة القادمة، فهاجمها الإنكشارية وقتلوا ضابطها وقطعوا رأسه وعادوا بها ظافرين إلى شوارع الإسكندرية.
وأخذ بعض عربان قبيل الهنادي وهم على خيولهم يناوشون تلك المقدمة، ويقطعون حبل مواصلاتها مع القوى التي بقيت لإنزال بقيت الجيش، وكانت تحت قيادة الجنرال ديزيه
Desaix ، قال أحد المؤرخين : لو كانت القوة البدوية التي ناوشت الجيش الفرنسي، مؤلفة من نحو خمسمائة من شجعان المماليك، لأحدثت ضررا كبيرا في مبدأ الحركة؛ لأن الجنود الفرنسيين، لم يكونوا قد تنبهوا، ولأنهم ما كانوا مستعدين لقبول أي مؤثرات جديدة.
وما زال بونابرت سائرا برجاله حتى أشرفوا على مدينة الإسكندرية، فكان أول ما لاح لهم في نور الفجر عمود السواري ثم المنائر والمباني، وصعد نابوليون في الساعة الثامنة صباحا، على قاعدة عمود السواري لاستطلاع المدينة، وإعداد الحملة عليها.
وليس من غرضنا، ولا من خطتنا في كتابة هذا التاريخ، أن نتوسع في دقائق الحركات العسكرية ومواقع القتال؛ لأن وجهتنا سياسية محضة، وغايتنا هي بيان حالة البلاد والأمة، وما نقلب عليها من الحوادث والأحوال، وأما الحركات الحربية وذكر أسماء القواد والضباط، وتنقلات الأورط والألايات، وإيضاح نقل الذخائر والمهمات، فهو من خصائص التاريخ الحربي، وقل أن يدعو إلى اهتمام القراء الذين وضع لهم هذا الكتاب.
ويكفينا أن نقول: إن الإسكندرية لم تكن محصنة، ولم يكن لها جيش كاف للدفاع، لا من جانب الدولة، ولا من جانب المماليك، فلم يأت ظهر ذلك اليوم، حتى كان نابوليون قد دخل المدينة ونزل في دار القنصل الفرنسي، والتجأ السيد محمد كريم، ومن بقي حوله من الملتفين به إلى حصن فرعون، وأما الأهالي فسلموا، ودارت المخابرات مع السيد محمد كريم طول ليلة الإثنين، وانتهى الأمر بأن جاء هو ومن معه مستسلمين، وهكذا سقطت الإسكندرية، التي أسسها القائد اليوناني الكبير، أعظم قواد العصور الأولى في يد نابوليون بونابرت، أعظم قواد العصور الحديثة!! هكذا الدهر بالناس قلب.
قال الجبرتي: «فنادى الفرنسيس بالأمان في البلد، ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا لديه فأمرهم بجمع السلاح وإحضاره إليه، وأن يضعوا «الجوكاد» في صدورهم فوق ملبوسهم، والجوكاد ثلاث قطع من جوخ أو حرير أو غير ذلك، مستديرة في قدر الريال، سوداء وحمراء وبيضاء، توضع بعضها فوق بعض بحيث تكون كل دائرة أقل من التي تحتها حتى تظن أن الألوان الثلاثة كالدوائر المحيط بعضها ببعض.»
قال كتاب الفرنسيس: أما السيد محمد كريم فإنه قبل أعتاب نابوليون، وقال له: إنه أصبح عبده ومولاه، وخطب بين يديه، فرضي عنه نابوليون وطلب منه أن يكون خادما للجمهورية الفرنساوية، مساعدا لها على إبادة المماليك، وتأييد سلطة خليفة المسلمين، سلطان آل عثمان!!!! فأجابه السيد كريم إلى ما طلب، فعين قومندانا للبوليس في الثغر فقام بواجبه خير قيام؛ إذ أعاد النظام في المدينة وجمع السلاح وقدم للجيش الفاتح كل ما يحتاجه.
ويظهر من قول نابوليون للسيد كريم «إنه يريد إبادة المماليك» وتأييد سلطة خليفة المسلمين سلطان آل عثمان» أنه كان في أول الأمر مصمما على اتباع السياسة التي اتبعها الإنكليز فيما بعد في مصر، وهي حفظ سيادة آل عثمان، ودعوى المحافظة على حقوق الدولة، وأن الغرض الذي جاء من أجله بالحملة الفرنسية هو لإبادة المماليك، كما كانت دعوى الإنكليز، إخضاع الثورة العرابية ...
وأحسن ما وقفت عليه من بيان الخطة التي وضعها نابوليون نصب عينيه في سياسة مصر، هو ما كتبه ذلك المؤرخ الكبير، والسياسي الخطير، مسيو تيير
Thiers
3
في تاريخ فرنسا الحديث، قال:
إن نابوليون الذي جمع بين كفاءة القائد العسكري، ودربة الإداري، ومهارة السياسي، أدرك بثاقب فكره الخطة السياسية التي يجب اتباعها في مصر بمجرد وضع قدمه فيها، فكان عليه أن ينظف البلاد من الذين يحكمونها فعلا، وهم المماليك الذين وجبت محاربتهم سواء بالسيف أو بالسياسة، وكان ذلك من حقنا؛ لأنهم طالما أساءوا إلى الفرنسيين، وطالما عاملوهم بالظلم والاستبداد، وأما فيما يختص بالباب العالي فكان من الواجب التظاهر بعدم الرغبة في التعدي على حقوق سيادته، وإظهار احترام تلك الحقوق ورعايتها، وكيفما كانت صفة تلك السيادة فإنها لم تكن ذات تأثير مهم، وفي الإمكان الاتفاق مع الباب العالي إما على أن يتنازل عن مصر بإعطائه تعويضات عنها في مكان آخر، وإما بتوزيع السلطة فيها توزيعا لا يسوءنا؛ لأن سماحنا بإقامة الباشا في القاهرة، كما كان من قبل مقيما، مع تولينا السلطة التي كانت في يد المماليك، هو غاية مطلبنا، أما فيما يختص بالأهالي فكان أول واجب علينا لتأليف قلوبهم معنا هو أن نكسب الأغلبية، وهم المصريون المسلمون، وذلك يكون باحترام المشايخ وتمليق كبريائهم، وتوسيع دائرة نفوذهم، وبالضرب على أوتار قلوبهم الحساسة، بنغمة كالنغمة التي ضربنا عليها في إيطاليا، والتي توجد دائما في كل زمان ومكان، تلك هي نغمة إعادة مجد الوطن القديم، وذكرى الدول العربية الإسلامية، وبذلك نتأكد من التسلط على البلاد وحكمها تماما، وزيادة على ذلك، فإننا باحترامنا للحق في معاملة الناس وممتلكاتهم - عند شعب اعتاد أن يعتقد أن فتح البلاد يعطي للفاتحين الحق في القتل والسلب والنهب - مما يبعث فيهم الدهشة، ويرفع مكانة الجيش الفرنسي في عيونهم، وفوق كل هذا وذاك، فإننا بمحافظتنا على الأعراض، واحترامنا لاسم النبي
صلى الله عليه وسلم ، نستطيع أن نستولي على القلوب، كما استولينا على البلاد.
ويؤيد الاعتقاد بأن نابوليون وضع لنفسه أساس هذه السياسة، الخطاب الذي بعث به إلى إدريس بك قبودان السفن العثمانية في الميناء، وكانت ثلاث سفن فقط، وكبراهن السفينة المسماة «عقاب بحري» وهي سفينة القبودان؛ إذ كتب له في اليوم الأول من وصول العمارة الفرنسية لمياه إسكندرية يقول ما نصه:
إن البكوات أكثروا من سوء معاملتهم لتجارنا، وقد جئت للمطالبة بحقوقنا وسأكون غدا في الإسكندرية، فلا يكون ذلك داعيا لقلقك؛ لأنك تابع صديقنا العظيم، ومولانا سلطان تركيا، ولتكن خطتك تبعا لمقتضيات هذه السياسة، أما إذا بدر منك أقل معاملة عدائية للجيش الفرنسي، فإنني أعاملك معاملة الأعداء وتكون أنت السبب فيه، الأمر الذي هو أبعد الأشياء عن مرادي وفؤادي.
4
وقد روى سرهنك باشا في كتابه «حقائق الأخبار عن دول البحار» رواية أخرى، لم يذكر فيها بالطبع هذا الخطاب، ولكن قال في باب البحرية بمصر في عهد ولاة الدولة العثمانية ما يأتي: «وفي عهد السلطان سليم خان الثالث ازدادت أهمية البحرية العثمانية بما أدخل فيها من الإصلاحات ، وكانت عنايته السلطانية موجهة لزيادة قوة «الدونتمة» فعززها بالسفن الجسيمة التي أمر بتشييدها، كالملايين والفراقيط والشهدية، وغير ذلك وخصص بعضها لحماية الثغور وأرسل بعضها للديار المصرية، فكان في ثغر الإسكندرية منها ثلاث سفن حربية تحت قيادة إدريس بك قبودان السفينة المسماة «عقاب بحري» عندما فاجأ بونابرت الديار المصرية بجيوشه وأساطيله، ولما طلب بونابرت من إدريس بك أن يرفع العلم الفرنساوي بدلا من العثماني، توقف عن إجابة هذا الطلب وطلب الإقلاع عن الميناء فصرح له نابوليون بذلك، فأقلع إلى الآستانة وأخبر بما حصل، وكان أبو بكر باشا والي مصر وقتئذ قد هرب إلى غزة.»
5
وهذه الرواية مضطربة؛ لأن طلب نابوليون لرفع الراية الفرنسية بدل العثمانية لا يتفق مع روح خطابه، ولا يسير مع خطته السياسية التي شرحناها، وها هو نابوليون في منشورة الذي وزعه على أهالي مصر يسمح لهم برفع الرايات العثمانية؛ إذ يقول في المادة الثالثة «كل قرية تطيع العسكر الفرنساوية تنصب أيضا صنجاق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه» ... وقوله: إن أبا بكر باشا، والي مصر وقتئذ هرب إلى غزة إنما هو من باب التساهل أيضا؛ لأن أبا بكر باشا، لم يفر إلى غزة إلا بعد انهزام المماليك في واقعة إمبابة، وخذلانهم في واقعة الصالحية في مديرية الشرقية، على أنه لم يكن ثمت من داع لذكر هذه العبارة الأخيرة؛ لأن القبودان العثماني لم تكن له صلة بوالي مصر، وكانت علاقاته مع الباب العالي مباشرة.
6
ومما يؤيد أن نابوليون وضع نصب عينيه اتباع سياسة «دعوى المحافظة على السيادة العثمانية» قوله في المنشور الذي سبقت الإشارة إليه آنفا، وسنأتي على نصه بعد في مكانه «ومع ذلك فإن الفرنساويين في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعداء أعدائه أدام الله ملكه.» وقوله أيضا في ختام ذلك المنشور: «أدام الله إجلال السلطاني العثماني.»
ومن الوسائل التي تذرع بها نابوليون لنشر دعوته في الشرق، وللتقرب من المسلمين والدولة العثمانية، أن أصدر أمره
7
بإعادة السبعمائة أسير تركي، الذين فك إسارهم من مالطة إلى بلادهم بطريق البر، وكان بعض أولئك الإسراء من أهالي طرابلس والجزائر وتونس ومراكش ودمشق وسوريا وأزمير ومن الآستانة أيضا، وأمر بأن يصرف لهم الغذاء الحسن واللباس الجيد ، وأن يعاملوا معاملة خاصة ووزعت عليهم مبالغ كافية من النقود يستطيعون بها السفر، وسلم إليهم بعض نسخ من المنشورات التي أعدت لتوزيعها على الشعب المصري، وقصد بذلك أن يذيعوا خبر انتصار الفرنسيين وقوتهم ونياتهم الحسنة نحو المسلمين، قال لاكروا: «ولم يسكت أولئك الأسرى عن نشر مكارم نابوليون فكانت أقوالهم هذه سببا لالتفاف القلوب حوله، وأثرت تأثيرا حسنا في الشرق كله.»
ولم تقف رغبة الفرنسيين في التقرب من المسلمين، ودعوى إبقاء السيادة العثمانية على مصر عند هذا الحد، بل اتخذ أيضا من الوسائل السياسية ما يلزم لذلك، فكلف «ليران» وزير الخارجية، سفير الجمهورية الفرنسية في الآستانة أن يؤكد للباب العالي، أن فرنسا لا تريد إلا أن تحل في مصر محل المماليك الذين استبدوا بالأمر وخلعوا سلطة جلالة السلطان، وأساءوا إلى الجمهورية الفرنسية، بسوء معاملتهم لأبنائها الذين قضت عليهم أشغالهم بالوجود في الإسكندرية، «من نص تعليمات وزير الخارجية» وسيظهر للقارئ أن كل هذه المجهودات والمساعي، لم تفد أمام مساعي إنكلترا وسياستها، أو تحريضها الدولة على استرداد مصر. •••
لما استقر قدم نابوليون بالإسكندرية شرع أولا في وضع نظام لحكومتها، فكان أول ما عمله أن أصدر أمرا إلى القواد يقضي باحترام الدين، وحقوق الأهالي وممتلكاتهم، وقد جاء في هذا الأمر:
يريد القائد العام أن يترك للأتراك «بريد الأهالي» الحرية التامة في تأدية واجباتهم الدينية في المساجد كما كانوا يفعلون من قبل، ويشدد كذلك في أن لا يدخل أي فرنسي، جندي كان أو غير جندي في المساجد، ولا أن يحتشدوا على أبوابها، وعليكم أيها القواد أن تصدروا الأوامر لكل ضابط فرقة بتلاوة هذه الأوامر على الجنود، وأن يقرأ عليهم أيضا الأمر الخاص بتجنب النهب والتعدي، ولكم أن تعاقبوا كل مخالف لهذه الأوامر بالقتل رميا بالرصاص، ومن المهم جدا أن يدفع الجنود ثمنا لكل ما يبتاعونه في المدينة ، وأن لا يسب الترك ولا يتعرض لهم؛ إذ يجب علينا أن نكون معهم على صفاء وأن لا نحارب إلا المماليك.
وترك أمر الأحكام والفصل في القضايا للقضاة المسلمين ، ثم شكل ديوانا أو مجلسا بلديا، مؤلفا من المشايخ وأعيان البلدة، قال أحد المؤرخين: إن نابوليون اختار سبعة من كبار الإسكندرية ولم يذكر منهم إلا اثنين هما السيد محمد كريم السابق ذكره والشيخ محمد المسيري كبير علماء الإسكندرية،
8
وفوض إليهم النظر فيما تحتاجه المدينة وأمهم أن يجتمعوا كل يوم مرة لتقدم لهم الشكاوى ويتقاضى الناس أمامهم، وتوالى صدور أوامر نابوليون بتلك السرعة المدهشة، والذكاء الباهر فكان من أوامره:
9
أمر بتشكيل قومسيون لتحديد قيمة النقود المختلفة.
أمر بإبدال سبائك الذهب والفضة التي مع الحملة وصكها نقودا من نقود البلاد.
أمر بجمع الضرائب التي كانت مفروضة من قبل وجباية مبلغ قدره مائة وخمسون ألف فرنك «ستة آلاف جنيه» كغرامة حربية.
أمر بإنشاء كورنتينة.
أمر بإنشاء مطابع مختلفة للغات الفرنسية والعربية والتركية واليونانية.
لا شك أن نابوليون قد أثبت بهذه النظامات والأوامر، شديد رغبته في إرضاء المصريين والتقرب إليهم بكل الوسائل، ولكن ضريبة مبلغ مائة وخمسون ألف فرنك على مدينة الإسكندرية، في حالها التي كانت عليها، تعد من باهظ المغارم التي تنوء تحت حملها البلاد وقت فتحها، وقد يقال: وما هو مبلغ ستة آلاف جنيه على ثغر كالثغر الإسكندري، يتبرع أهله للصليب الأحمر في زمن الحرب الكبرى «عن طيب خاطر كما يقولون!!» بمبلغ اثني عشر ألف جنيه؟؟ ولكن يجب أن تقارن بين ثروة الإسكندرية وتعداد سكانها في ذلك الحين، وثروتها وتعداد أهلها في الوقت الحاضر، فقد كان سكان الإسكندرية ثمانية آلاف فقط على رواية الفرنسيين أنفسهم، فمعنى ضريبة ستة آلاف جنيه في ذلك الزمن هي كضريبة سبعمائة وخمسون ألف جنيه على مدينة الإسكندرية في الوقت الحاضر، هذا إذا كانت المقارنة بنسبة السكان فقط فكيف بالمقارنة مع الثروة؟؟
صورة من الطبيعة: «نابوليون قبل الهجوم على الإسكندرية من كتاب مذكرات الكابتن تورمان الذي كان في فرقة المهندسين العسكرية مع الحملة».
ولم يخسر الفرنسيون في فتح الإسكندرية أكثر من نحو أربعين قتيلا مع ثمانين إلى مائة من الجرحى، ولكي يبعث نابوليون الحماسة في قلب الجيش أمر أن يدفن جميع الذين قتلوا في الاستيلاء على الإسكندرية بجانب عمود السواري، وأن تحفر أسماؤهم عليه! وذكر المؤرخون أنه قتل من عساكر الإنكشارية والأهالي نحو مائة نسمة.
وكان أول ما فكر فيه نابوليون هو تحصين ثغر الإسكندرية اتقاء البوارج الإنكليزية، فأصدر أمره للضابط كريتين
Cretin
أحد رؤساء الفرق الهندسة، فقام بذلك الأمر خير قيام، وأظهر من المهارة والعلم، ما جعل نابوليون يطريه إطراء عاليا في مذكراته، التي كتبها بعد ذلك بسنين طوال.
وأخذ يستعد نابوليون للسير بجيشه لفتح مصر، والقضاء على المماليك فكان أول ما فكر فيه، طبع منشور باللغة العربية، كتبه هو بنفسه بالفرنسية، كما أيد ذلك الثقاة، وعربه بلغة ركيكة غير مضبوطة، وليست منطبقة على الأصل الفرنسي تماما، بعض المستشرقين والتراجمة الذين أحضرهم معه، وطبع هذا المنشور في المطبعة العربية التي أحضرها وتاريخه 2 يوليو سنة 1798، الموافق 18 محرم سنة 1213 و14 ميسودور سنة 6 للجمهورية الفرنسية، ونحن مضطرون إلى أن نأتي على نص هذا المنشور بحروفه، وتعبيراته الشاذة الركيكة، كما نقله الجبرتي، واعتمد عليه المؤرخون الحديثون، ثم نعقب عليه ببيان الفوارق بين الأصل الفرنسي وترجمته: قال الشيخ الجبرتي: «وقد كان الفرنسيس حين حلولهم بالإسكندرية كتبوا مرسوما وطبعوه وأرسلوا منه نسخا إلى البلاد التي يقدمون عليها، تطمينا لهم، ووصل هذا المكتوب مع جملة من الأساري الذين وجدوهم بمالطة، وحضروا صحبتهم، وحضر منهم جملة إلى بولاق ومعهم منه عدة نسخ، ومنهم مغاربة، ومنهم جواسيس، وهم على شكلهم من كفار مالطة، ويعرفون باللغات، وهذه صورة المكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له ولا شريك له في ملكه
من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية والسر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته ... يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمن مديد، الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي فحضر الآن ساعة عقوبتهم، وأخرنا من مدة طويلة هذه الزمرة المماليك المجاوبين من بلاد الإبازة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كره الأرض كلها، فأما رب العالمين القادر على كل شيء، فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم، يا أيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا القطر إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، واحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضا لهم إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان، والخيل العتاق، والمساكن المفرحة! فإن كانت الأرض المصرية التزاما للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رءوف وعادل حكيم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء منهم سيديرون الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقا كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة، والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك.
أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية، وأعيان البلد، قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا كرسي البابا الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكوالليرية
10
الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه، أدام الله ملكه، ومع ذلك أن المماليك امتنعوا عن إطاعة السلطان غير ممتثلين لأمره فما أطاعوا أصلا إلا لطمع أنفسهم.
طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم، وتعلى مراتبهم! طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا، فلا يجدون بعد ذلك طريقا إلى الخلاص ولا يبقي منهم أثر.
ثم اتبع هذا بخمس مواد للإرهاب، ولتكون بمثابة تعليمات للمصريين، نأتي على نصها:
المادة الأولى:
جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية فواجب عليها أن تبعث للسر عسكر من عندها وكلاء لكيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا، وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي وأحمر.
المادة الثانية:
كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوية تحرق بالنار.
المادة الثالثة:
كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضا تنصب صناجق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه.
المادة الرابعة:
المشايخ في كل بلد يختمون حالا جميع الأرزاق والبيوت والأملاك التي تتبع المماليك، وعليهم الاجتهاد التام لئلا يضيع أدنى شيء منها.
المادة الخامسة:
الواجب على المشايخ والعلماء والقضاة والأئمة أنهم يلازمون وظائفهم، وعلى كل أحد من أهالي البلدان أن يبقى في مسكنه مطمئنا، وكذلك تكون الصلاة قائمة في الجوامع على العادة، والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله سبحانه وتعالى لانقضاء دولة المماليك قائلين بصوت عال:
أدام الله إجلال السلطان العثماني!
أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي!
لعن الله المماليك!
وأصلح حال الأمة المصرية.
نقل هذا المنشور المرحومان جورجي بك زيدان وشارويم بك في كتابيهما عن تاريخ مصر الحديث، وغير فيه الأول بضع كلمات بما يقابلها فكلمة «شرع» بدل «متساوون» في قوله: «متساوون عند الله» و«الكرج» بدل «الجركس»، ونسي الثاني كلمة «دينكم» في قوله: «إنني جئت لإزالة دينكم» فكتبها «لإزالتكم» «وما أظن ذلك عن قصد» وكان الأولى بهما مقارنة الأصل بالترجمة، ونحن قبل أن نأتي على ما بين الأصل والتعريب من الفوارق، نقول: إن نابوليون قد أتعب نفسه وتراجمته ومطبعته، بغير فائدة؛ لأن هذا المنشور بما فيه من حقائق من حيث صفة المماليك وتخريبهم أرض مصر، وتمويهات كدعوى الإسلام وعبادة الله، واحترام النبي والقرآن، وبما فيه من ترغيب، وترهيب «لا يساوي عند المصريين بصلة» كما يقول العوام في تعبيراتهم، وذلك لأسباب كثيرة، منها أن المصريين مغلوبون على أمرهم، ولا حول لهم ولا قوة، فقد كانوا إذ ذاك كالأغنام والحمير، لمن غلب وركب، ومنها أنهم مع ما أصيبوا به من الذل والهوان، تحت نير المماليك والأتراك، لا يميلون لقبول سلطة مسيحية، ولا يرضون بغير الأتراك المسلمين بديلا، والدليل على ذلك اضطرابهم عند قرب الفرنسيس وقيام الكثيرين منهم بمهاجرة الديار، وما أظهروه من الجزع ليلة قدوم الفرنسيس في الجهة الشرقية من النيل، واستعدادهم جميعا لمقاتلة القادمين، ولو بالعصي والنبابيت، ومن أكبر الأدلة أنهم على الرغم من حسن معاملة الفرنساويين لهم، وترتيب نظام إداري عادل لأحوالهم، ثاروا ضد نابوليون وجنوده ورجاله وعلمائه مرتين في مدة أقل من سنتين كما سيجيء تفصيل ذلك، وهم لم يثوروا ضد مظالم الأتراك والمماليك طول هاتيك القرون مرة واحدة، اللهم إلا أن تكون تلك «الهيصة» التي قام بها الشيخ الشرقاوي، لتعدي الألفي بك على ممتلكاته، حيث جمع فيها بعض المشايخ، وانتهت كأنها لم تكن، ولكن نابوليون معذور في تصوره أن في مصر، كما في غيرها من البلاد، أمة تحكم العقل، وتفهم قيمة صوالحها، وأن لها شيئا من المقدرة على رد مكروه، وأنها تعزز، أو تضعف، إن مالت إلى جهة، أو انحرفت عن أخرى، فلذلك كتب ذلك المنشور البديع في بابه معنى وسياسة، من الوجهة السياسية الفرنسية، ولا غضاضة عليه في ذلك.
أما الخلاف بين الأصل والتعريب - مع التجاوز عن سوء الترجمة وأغلاطها - فهو أن الأصل في خزائن وزارة الحربية الفرنسية، والموجود في مكاتبات نابوليون تحت نمرة 2723، ليس فيه ذكر في مقدمته «لا بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا هو لا شريك له» وليس فيه عبارة «ومن طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية»، بل جاء في أوله: «من بونابرت عضو الانستيتو ناسيونال، والقائد العام»، وأوله «أنه من زمان مديد ... إلخ» ... وجاء في الأصل: «وأنني أكثر من المماليك احتراما لله ولنبيه وللقرآن» وفي التعريب «أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى أحترم نبيه والقرآن العظيم» وليس في الأصل مطلقا قوله: «قولوا إن الفرنساويين هم أيضا مسلمون مخلصون»، والذي فيه هو: «قولوا إننا أصدقاء للمسلمين الصادقين» وفرق بين العبارتين كبير، ولسنا ممن يظن أن هذا الخلاف قد جاء عفوا من سوء الترجمة، بل هو مقصود؛ لأن نابوليون لا يكتب بلغته عبارات يعرف أنها ستحفظ عليه في التاريخ، وتعرض من أعدائه، أمام قومه، لتشويه سمعته، وكان أحرص الناس وأنفذهم نظرا إلى هذين الأمرين، وإنما حور المترجمون عباراته ووافق هو على ذلك التحوير، وأعقب نابوليون هذا المنشور بخطاب كان قد كتبه وأعده وهو على ظهر الباخرة «أوريان» في 30 يونيو؛ أي: قبل الإشراف على الإسكندرية بيوم واحد، وهذا الخطاب موجه للسيد أبي بكر باشا الذي كان واليا على مصر من قبل الدولة العثمانية، وقد بعث الخطاب المذكور مع ضابط تركي من ضباط السفن التي كانت راسية بالميناء، وهذا هو نص الخطاب:
إن الإرادة التنفيذية للجمهور الفرنساوي طالما طلبت من الباب العالي معاقبة البكوات المماليك لسوء معاملتهم للتجار الفرنسيين، فكان جواب الباب العالي دائما أن أولئك المماليك أشخاص أدنياء طماعين، ولا يحترمون مبادئ العدل وأن الباب العالي لا يكتفي فقط لعدم السماح لأولئك المماليك بإساءة أصدقائه الصادقين من الفرنسيس، بل يشملهم برعايته وعنايته كلما تيسر له ذلك.
فلذلك قررت الجمهورية الفرنسية إرسال جيش عظيم للقضاء على مظالم المماليك في مصر، كما اضطرت إلى عمل مثل ذلك مرارا في خلال القرن الحالي مع باي تونس ومع الجزائر، فأنت الذي كان من الواجب أن تكون السيد المطاع على البكوات، وقد أصبحت بغير جاه ولا نفوذ، جدير بأن تتلقى نبأ قدومي بالسرور والانشراح، وأنت بالطبع تعلم أنني لم آت للتعرض للدين والشرع، ولا للقيام بأمر ضد السلطان، وكذلك لا بد أنك تعرف أن الأمة الفرنسية هي الحليفة الوحيدة للسلطان في أوروبا، فهلم إذا إلى مقابلتنا والعن معنا المماليك وعنصرهم الخبيث.
11
بونابرت
والظاهر أن هذا الخطاب لم يصل إلى يد بكير باشا أو أن وصل إليه ولم يجب عليه.
بعد هذه المنشورات التي وزعها، والكتب التي بعث بها إلى الباشا الوالي وقومندان السفينة التركي، شرع نابوليون - كما سيراه القارئ مفصلا بعد - في تفهم النفسية المصرية، فأخذ يكثر من الاجتماع بالشيخ المسيري، ومحمد كريم، ويدعو العربان إلى المآدب، ويشتري منهم الخيول، ويعد العدة للسير بالحملة إلى القاهرة، وامتلاك ما في القطر المصري من قرى وبنادر ... فلنسر معه حتى نرى!
هوامش
الفصل الرابع
استعداد الحملة للسير في فتح مصر
كانت إقامة نابوليون في الإسكندرية سبعة أيام فقط، وما كان ليقيم فيها هذه المدة على قصرها، لما جعله أساسا لنجاحه من قيمة الزمن، لولا حاجته إلى أمور كثيرة: منها تدبير مسألة الأسطول، وإنزال ما فيه من المدافع الثقيلة، وآلات الحرب العديدة، ومنها حاجته إلى الخيول للخيالة؛ لأنه لم يحضر معه كما ورد في الجدول السابق نشره، سوي 680 جوادا، مع أن معه أربعة آلاف جندي من الخيالة، ولم ينس أن يحضر معه السروج، والأعنة والأدوات اللازمة لكل جواد.
ولم يكن في الإسكندرية ما يكفي لهذا القدر من الخيول، فالتزم أن يستعين بالسيد محمد كريم على شراء الخيول اللازمة من عرب البحيرة، وكان من اللازم له عدا شراء الخيول منهم، أن يتودد إليهم لكيلا يعاكسوه، ويقطعوا خطوط مواصلاته في سيره، ولما كان للسيد محمد كريم بصفته أكبر حاكم في الإسكندرية، من النفوذ على الأعراب ولحاجتهم دائما إلى النقود، لبوا الأمر سراعا فاجتمع منهم في يوم 4 يوليو ثلاثون شيخا من شيوخ قبائل الهنادي، وأولاد علي، وبني يونس، في ساحة المعسكر الفرنسي فأحسن نابوليون مقابلتهم وتودد إليهم، وكتبوا معه عقدا تعهدوا فيه بأن يجعلوا الطريق من الإسكندرية إلى دمنهور آمنا، وأن يوردوا ثلاثمائة رأس من الخيل، في مقابل مائتين وأربعين جنيها
1
ذهبا، وخمسمائة هجين في مقابل مائة وعشرين جنيها وأن يقدموا ألف جمل مع قادتها لحمل الأثقال، وأن يطلقوا سراح الأسرى الفرنسيين الذين قبضوا عليهم في مناوشاتهم قرب الإسكندرية، وقبضوا مقدما مبلغ ألف بنتو ذهبا فسر نابوليون بهذه النتيجة سرورا كبيرا وشرب وأكل مع أولئك الأعراب وقد حضروا في اليوم الثاني وقدموا ثمانين حصانا، ونحو مائة جمل، ووعدوا بالباقي في الأيام التالية، وجاءوا باثني عشر جندي فرنسي كانوا لديهم أسرى.
وكانت رغبة نابوليون قائمة على الوصول إلى القاهرة قبل فيضان النيل الذي يفيض في شهر أغسطس، ولذلك صمم على متابعة السير في الحال إلى عاصمة البلاد فبدأ أولا بوضع حامية مؤلفة من ثمانية إلى تسعة آلاف جندي في الإسكندرية تحت قيادة الجنرال «كليبر» الذي جرح في محاولته دخول الإسكندرية، ولم يكن قد شفي من جراحه وأصدر إليه عدة أوامر في خطاب مطول
2
نكتفي باقتطاف ما يأتي منها:
إنك تتولى يا مواطني الجنرال قوموندانية الإسكندرية وأبا قير والصف المتحرك
3
المخصص للبقاء في ساقة الجيش لتسهيل المواصلات فيه، وعليك مراقبة إنشاء الكورنتينة، وإعداد مستشفيين واحد للجرحى وآخر للمرضى، وأرجو أن تكون علاقاتك مع العربان، ووقوفك على حركاتهم، على غاية ما يرام، وأن تحافظ على احترام العلماء وأعيان البلد، وسيذهب الأسطول ليرسو في مياه أبي قير ويلزم أن يرسو في جهة بحيث يكون في مأمن من الطوارئ، تحت حماية الطوابي التي يلزم إقامتها هناك، ولعلك تدرك من هذا أهمية الإسراع في إنشاء تلك الاستحكامات، ومن المهم جدا أن يسارع الصف المتحرك الذي تحت قيادة الجنرال دومي (Dumay)
إلى احتلال نقطة السكربون
4
الواقعة بين الإسكندرية ودمنهور حيث توجد مياه كثيرة، وأن ينصح له بتنظيف الآبار الموجودة في جهة «البيضة» ومن الضروري جدا أن تبقى مواصلات الإسكندرية ورشيد على غاية ما يرام بواسطة القوارب في البحيرة، وسيبعث لك ديوان أركان الحرب بالنظام الذي وضعه لإدارة الأحكام في البلاد، فمن الواجب كثيرا تعويد القوم تدريجيا على أخلاقنا وتصرفاتنا، وأن نترك في أيديهم مجالا واسعا من سلطة إدارة أمورهم الداخلية، وبالأخص يلزم عدم التدخل في شيء من المسائل التي لها مساس بالشرع والدين، وفوق ذلك كله أرجوك أن لا تفرط في إجهاد نفسك بحيث تضر بصحتك، التي هي أهم لدي وللجيش، من كل شيء، ولك السلام.
بونابرت
وفي هذه الأوامر من دقائق الحكم، وحسن الإدارة، واجتذاب القلوب، ما لا يخفى على المفكر في تاريخ ذلك الرجل العظيم، وأهم ما في هذه الأوامر إشارته إلى حماية الأسطول من غارة نلسون، التي وقعت على الرغم من كل ذلك بعد شهر واحد من وصول الجيش الفرنسي إلى الإسكندرية، كما سنشرحه في مكانه، ولكن المهم ذكره هنا، هو أن نابوليون كان على حذر من الأسطول الإنكليزي، وكان يعلم علم اليقين أنه إن قضي على سفنه بالدمار، فقد قضي على كل آماله ومشاريعه في مصر خصوصا والشرق عموما، ولذلك كان همه منذ وصل إلى الإسكندرية أن يبحث عن طريقة تقي الأسطول من الخطر، فكتب إلى الأميرال برويس يقول «تاريخ 3 يوليو»:
إن القائد العام يريد منك اتخاذ كل الوسائل لإنزال كل ما يخص الجيش إلى البر، ويعتقد القائد العام أنك ولا بد قد جسست عمق البحر؛ ولذلك يود أن يدنو الأسطول من الميناء؛ لأن وجوده بعيدا غير موافق لمصلحة مواصلاتنا.
5
وكان نابوليون يميل إلى دخول الأسطول في ميناء الإسكندرية لحمايته بأسرع ما يمكن، ولكن حصل خلاف بين رجال البحرية فيما يختص بسعة قاع الميناء لقبول سفن كبيرة كالتي مع الأسطول، فقال القبودان باريه
Barré
بإمكان ذلك، ولم يوافق عليه الأميرال وبقية القبودانات الآخرين، وكان من أمر رسوه في مياه أبي قير ما كان.
وقد أوضحنا هذه النقطة لعظيم أهميتها في مركز الفرنسيين بالقطر المصري، ولأن نابوليون طالما ندد بالأميرال برويس وشكا نتيجة تساهله وعدم الحيطة اللازمة، ولمؤرخي الفرنسيين مجادلات في هذه المسألة يطول شرحها.
وكان آخر ما كتبه نابوليون بالإسكندرية الخطاب الآتي الذي بعث به إلى السيد محمد كريم:
المعسكر العام - 7 يوليو 1798 - إلى السيد محمد كريم
6
لقد سر القائد سرورا كبيرا بحسن سلوككم منذ دخول الجيش الفرنسي فلذلك يمنحكم وظيفة محافظ دائرة الإسكندرية، وسنبعث لكم أوامرنا على يد الجنرال كليبر، قومندان عموم الجهة، وذلك لا يمنع السيد محمد كريم من أن يكتب للقائد العام في جميع الأحوال متى أراد، وعليكم أن تقدموا للجنرال كليبر كل ما يطلبه من مستلزمات الجيش الفرنسي وبوليس دائرة العربان.
بونابرت
ولكن السيد محمد كريم هذا ، على الرغم من هذه المعاملة الحسنة، وتلطف نابوليون في مخاطبته وثقته به، لم يحفظ للفرنساويين حرمة، ولم يرع لهم عهدا، وكان كعادة أبناء جنسه وزمنه، وكعادة أبناء وطنه، إلى وقتنا هذا لا يثبتون على رأي واحد؛ إذ بينما هم مع هؤلاء؛ إذ هم مع أولئك ... وعذرهم في هذا قصر نظرهم من جهة، وخوفهم من التقلبات من جهة أخرى، زيادة عما ربوا عليه من أثر الذلة والمسكنة وضعف الإرادة، فقد وجد الفرنسيون معه بعد ذلك، مكاتبات بعث بها وراء ظهورهم إلى مراد بك، يحرضه على الغارة على الإسكندرية، فجاءوا به من الثغر ذليلا ومثلوا به تمثيلا، إلى غير ذلك مما سيأتي في مكانه مفصلا ...
ومن أسرار نجاح نابوليون في حروبه، الإسراع والحيطة، فإنه ما كاد يضع قدمه يوم 2 يوليو في الإسكندرية، حتى أصدر أمره مساء ذلك اليوم للجنرال ديزيه بالتقدم بفرقته للاستيلاء على قرية «البيضة»، وهي على بعد ثلاثة فراسخ من الإسكندرية لكي يكون ذلك بمثابة النقطة الأمامية لقوى الجيش التي تتقدم دائما إلى الأمام، وتنذر بالخطر إن كان هناك هجوم من العدو، ومما يجب ذكره ما أوصى به نابوليون الجنرال ديزيه قبل تحركه لتلك النقطة الأمامية؛ إذ قال له في أوامره: «أن لا تستعمل المدفعية ما استطعت ولا تسلط المدافع على المساكن، وأهم شيء لدينا هو إخفاء ما عندنا من وسائل القوة الغربية، فلا تستعملها إلا حيث تضطر لمقاومة قوة كبيرة جدا.»
7
ثم أصدر أمرا آخر بأن تكون فرقة الجنرال «بون» على بعد فرسخ واحد من الإسكندرية بحيث تكون واسطة المخابرات بينه وبين الجنرال ديزيه.
ومما يجب ذكره هنا أنه كان أمام نابوليون طريقان لنقل جيشه إلى شاطئ النيل، أحدهما من رشيد والثاني من الإسكندرية إلى دمنهور فالرحمانية، والأول سهل لوجود الماء، ولكن رشيد كانت لا تزال في حوزة المماليك، وربما خشي مقاومة منهم فيها، وهو يريد الإسراع للاستيلاء على القاهرة، فلذلك اختار الثاني ووضع نظامه على ذلك.
جاء في المذكرات التي أملاها نابوليون في سانت هيلانة ما يأتي:
وكنا في شهر يوليه وقد قرب النيل أن يغمر الأرض بمياهه، فأراد بونابرت أن يصل إلى القاهرة قبل الفيضان، ولم يكن بونابرت يجهل أن تحت ستار التقاليد القديمة تختفي الحقائق أحيانا، وأنه يجب على الإنسان أن يدرس الأمور قبل أن ينشر نفوذه على البلاد التي يريد افتتاحها، وأن يفهم أن القوة المسلحة وحدها، ليست الضمان الوحيد، وكان يعرف طبقا للتقاليد المألوفة، أن احتلال القاهرة بمثابة احتلال مصر كلها، فمن الواجب عليه أن يسرع في وضع يده على المدينة المقدسة ليقضي بقوة الذعر والخوف، على روح الخرافات والأوهام التي تسود الشعب، فيحرك جيشه ليصل إلى غرضه، وترك حامية مؤلفة من ثمانية أو تسعة آلاف رجل في الإسكندرية وسلم قيادتها، وكذلك قيادة الفرق التي كانت في عهدة الجنرال «ديموي» إلى «كليبر» الذي اضطرته جروحه للبقاء وعدم استطاعته السير.
وفي اليوم السادس من يوليو بدأت الحملة سيرها من الإسكندرية إلى دمنهور مما سنفرد له فصلا خاصا بعد أن ننتقل بالقارئ إلى القاهرة، ونروي له ما حصل فيها، وكيف كان وقع خبر احتلال الفرنسيس على أفئدة المماليك والأهالي.
هوامش
الفصل الخامس
في القاهرة
لم يذكر لنا الجبرتي بالضبط متى وصل إلى القاهرة، خبر دخول البوارج الفرنساوية في مياه الإسكندرية، وكل ما قاله بعد كلمات قلائل عن احتلال الإسكندرية العبارة الآتية:
ولما وردت هذه الأخبار إلى مصر، حصل للناس انزعاج، وعول أكثرهم على الفرار والهياج ...
وكذلك لم يعتن المؤرخون الحديثون بضبط اليوم الذي وصلت فيه الأنباء إلى القاهرة؛ لأننا نعرف أن السيد محمد كريم بعث لمراد بيك بنبأ ظهور العمارة الفرنسية بمجرد ظهورها، أو بعد رسو القارب، الذي يقل القنصل الفرنسي للبارجة «أورويان»، ويقع ذلك في يوم الأحد 17 محرم سنة 1213، وأول يوليو سنة 1798، فكم كان يلزم من الأيام لوصول الأخبار إلى القاهرة بأسرع ما يمكن؟ كان لا بد من أربعة أيام على الأقل للفارس المجد، فتكون الأخبار قد وصلت إلى القاهرة ظهر يوم الخميس 5 يوليو، والظاهر أن هذا هو الصواب؛ لأن الجبرتي يقول: «وأخذوا في الاستعداد وقضاء اللوازم والمهمات، وارتحل مراد بك بعد صلاة الجمعة.» وهو اليوم التالي لعقد المجلس وقرار ما اتفق عليه.
وكان السيد محمد كريم حين أبصر تلك العمارة الفرنسية، وهاله أمرها، كتب إلى مراد بك يقول: إن العمارة التي حضرت إلى ميناء الإسكندرية تتألف من سفن كثيرة لا أول لها يعرف، ولا آخر لها يوصف، فبالله ورسوله أدركونا بالرجال، وتوالت رسائله بالأخبار المنقطعة، حتى قيل - كما روى أحد المؤرخين - إنه بلغ عدد الرسل الذين بعث بها السيد محمد كريم، ثلاثة عشر رسولا في يوم واحد، وهو يوم الأحد أول يوليو.
جاء في كتاب تاريخ فرنسا الحديث، الذي سبقت لنا الإشارة إليه، البيان الآتي:
ولما قرأ مراد بك التحرير الذي بعث به السيد محمد كريم غضب غضبا شديدا ورمى به إلى الأرض، وهاج وماج، وسار إلى منزل إبراهيم بك (كان مراد بك بقصره في الجيزة، وإبراهيم بك في سراية بقصر العيني) واجتمع به مدة وشاع الخبر في كل القاهرة فهاج الأهلون وخافوا، واجتمع الأمراء والأعيان في قصر إبراهيم بك، وحضر أبو بكر باشا والي الدولة العليا من القلعة السلطانية، واجتمع كل قواد المماليك والأعيان، وهم إبراهيم بك الكبير، ومصطفى بك الكبير، وأيوب بك الكبير، وإبراهيم بك الصغير، ومراد بك الصغير، وسليمان بك أبو دياب وعثمان بك الشرقاوي، ومحمد بك الألفي، ومحمد بك المنوفي، وعثمان بك البرديسي، وعثمان بك الطوبجي، وقاسم بك أبو شنب، وقاسم بك أبو البحر، والأمير مرزوق بن إبراهيم بك الكبير، وعثمان بك الطويل، ومن العلماء الشيخ السادات، والشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ خليل البكري، والسيد عمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ العربي، والشيخ محمد الجوهري، وكثيرون غيرهم وأخذوا يبحثون في مجيء الفرنساويين وفتحهم الإسكندرية ويستغربون ذلك الأمر جدا، أما مراد بك فكان يعلم أن الدولة العلية مغتاظة منه؛ ولذلك قال لوزيرها «أي: للوالي»: «إن الفرنساويين لم يدخلوا هذه الديار إلا بإذنها.»
اعتمد مراد بك في قوله هذا، على العبارة الواردة في منشور نابوليون بأنه قادم للقضاء على المماليك، وأنه صديق الدولة والسلطان ... إلخ، ثم قال أيضا: «ولا ريب أن حضرة الوزير يقدر أن يخبرنا بشيء عن ذلك غير أنه لا بد أن تسعفنا العناية على الاثنين.» «يعني الفرنسيس والترك» فأجابه الوزير قائلا: أيها الأمير، أنه لا يليق بك أن تتكلم بمثل هذا الكلام؛ لأنه لا يمكن أن تسلم الدولة العثمانية لدولة نصرانية أن تستولي على بلاد إسلامية، فدعوا عنكم هذا المقال، وانهضوا جميعا كالأبطال، وصادموا الذين أتوا ليفتحوا بلادكم، وبعد ذلك أجمعوا رأيهم على أن يسجنوا قنصل فرنسا وجميع التجار الفرنساويين المقيمين بالقاهرة، خوفا من الخيانة فسجنوهم في قلعة الجبل.
نقلنا هذه العبارة من كتاب الشيخ الدحداح، بنصها حرفيا؛ لأن الجبرتي لم يأت على شيء من هذا التفصيل، وهو إذ ذاك يقيم بالقاهرة، وله اتصال تام بكثير من الأمراء والشيوخ الذين حضروا ذلك المجلس، وكل ما قاله في ذلك الصدد «إنه اجتمع بإبراهيم بك ومراد بك باقي الأمراء والعلماء والقاضي، وتكلموا في شأن هذا الأمر الحادث، فاتفق رأيهم على إرسال مكاتبة بخبر هذا الحادث إلى إستامبول، وأن مراد بك يجهز العساكر لملاقاتهم وحربهم، وانقضى المجلس على ذلك، وكتبوا المكاتبة وأرسلها بكر باشا مع رسوله عن طريق البر ليأتيه بالترياق من العراق.» ا.ه. والعبارة الأخيرة مثل معروف في مصر، والمراد به استحالة وصول المعونة من جانب تركيا، ويروى عادة بالتعبير الآتي: «على ما يأتوا بالترياق من العراق يكون العليل مات!»، وذلك يدلنا على أن الجبرتي وأمثاله من المشايخ والمصريين لم يكونوا مخدوعين في قوة الدولة وإمكانها إسعاف مصر!!!
وفي رواية عن كتب الفرنسيين أنه لما وصلت الأخبار إلى القاهرة، بأن جيشا من الكفار «كذا» هبط أرض مصر، وأن عدده كثير، وكل جنوده من المشاة وليس فيهم خيالة، طرب المماليك وكشافهم، وأنيرت القاهرة زينة ، وقال المماليك: ما هؤلاء الجنود الكفار إلا كحب «الفستق» للكسر والأكل «ولو كانوا مائة ألف لأفنيناهم عن آخرهم» وأخذ كل واحد منهم يعد بقط مائة رأس من رءوسهم!!! ا .ه.
فأما دعاوى المماليك، وغرورهم بأنفسهم فقد يكون صحيحا، وأما إن القاهرة أنيرت للزينة فغير صحيح، إلا أن تكون الإنارة من الخوف والفزع!!
ورواية الجبرتي في هذه النقطة أصدق الروايات، وهو القائل: «وفي أثناء خروج مراد بك والحركة، حركة الاستعداد، بدأت الوحشة في الأسواق، وكثر الهرج بين الناس والإرجاف، وانقطعت الطرق، وأخذت «الحرامية» في كل ليلة تطرق أطراف البلد، وانقطع مشي الناس والمرور في الطرق والأسواق، من المغرب، فنادى الأغا والوالي بفتح الأسواق والقهاوي ليلا، تعليق القناديل على البيوت والدكاكين.»
وأخذ مراد بك في الاستعداد للسفر لمقاومة الفرنساويين، قال الجبرتي وهو شاهد عيان: «وأخذوا في الاستعداد للثغر (ربما كان الأصل للسفر) وقضاء اللوازم والمهمات في مدة خمسة أيام، فصاروا يصادرون الناس، ويأخذون أغلب ما يحتاجون إليه بدون ثمن، ثم ارتحل مراد بك بعد صلاة الجمعة وبرز خيامه ووطاقه إلى الجسر الأسود، فمكث به يومين حتى تكامل العسكر وصناجقته، وعلي باشا الطربلسي وناصف باشا، وأخذ معه عدة كثيرة من المدافع والباردو وسار من البر مع العساكر والخيالة، وأما الرجالة «الراجلون؛ أي: المشاة وهم الالداشات القلينجية والأروام والمغاربة»، فإنهم ساروا في البحر مع الغلايين الصغار التي أنشأها الأمير المذكور.»
فيؤخذ من رواية الجبرتي أن مراد بك تحرك بالجيش الذي جمعه من الخيالة برا، والمشاة بحرا في النيل، في يوم الأحد 14 محرم، 8 يوليو، بدليل قوله بعد ذلك «وفي يوم الاثنين وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا إلى دمنهور، وفعلا كان وصول نابوليون لدمنهور في الساعة الثانية من صباح يوم 9 يوليو، وكانت مقابلة الجيش الفرنسي لمراد بك وجنده وقواربه، عند شبراخيت في يوم الجمعة 13 يوليو فكأن مراد بك قضى أربعة أيام في السير من الجيزة إلى شبراخيت.
ولم يرد في الجبرتي، ولا فيما كتب بعده، أدنى بيان لمقدار القوة التي سار بها مراد بك، ولا غرابة أن لا يذكر الجبرتي عددا معينا، فما نظن أن مراد بك نفسه كان يعرف عدد جنوده من خيالة ومشاة، وهكذا كان نظامهم!! إلا أن الشيخ الدحداح، وهو كما قلنا ناقل عن المصادر الفرنسية يقول: إن مراد بك ركب في جيش جرار يفوق العشرين ألف مقاتل وجمع غفير من فرسان الغز والبدو وسار بهم إلى الرحمانية، وهذه مبالغة غير معقولة، وكذلك «لاكروا» وهو ناقل من المصادر الرسمية الفرنسية، يقول: إن مراد بك برح القاهرة في 6 يوليو «يوم الجمعة الذي ذكره الجبرتي» ومعه ثلاثة آلاف من المماليك الخيالة وألفين من الإنكشارية المشاة وعدد كبير من السفن يبلغ نحو الستين، منها خمسة وعشرون مسلحة، وقوة من المماليك قابلت الجنرال ديزيه (Desaix)
عند دمنهور.
فمجموع هذه القوة لا يزيد على ثمانية آلاف، كما اعترف بذلك نابوليون في مذكراته التي أملاها في سانت هيلانة، فعبارة الشيخ الدحداح مبالغ فيها بلا نزاع.
ويقدر المستر كامرون في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه، في مقدمة هذا الكتاب، قوة المماليك في ذلك الحين بعشرة آلاف خيال وثلاثين ألف باشبوزق «جندي غير نظامي»، وهذا التقدير غير مضمون الخطأ، خصوصا والمستر كامرون ليس من الموفقين في صحة الأرقام، إلا ما كان خاصا بالقوى الإنكليزية لوقوفه عليها في المصادر الرسمية، فقد قدر قوة الحملة الفرنسية بأربعين ألفا من خيرة الجنود، وهو كما عرف القراء مبالغ في نحو الربع، وأن صعب تحقيقه للقوة الفرنسية، فتحقيقه لقوة المماليك أصعب! وثابت في أقوال كتاب الفرنسيين، وهم أحق بالمبالغة في قوة المماليك، ليباهوا بما حازوه من فخار وانتصار، أن قوة المماليك لا تزيد على ثمانية آلاف وخمسمائة خيال من المماليك أخذ منها مراد بك نحو خمسة آلاف، وبقي الباقون في القاهرة، وأما الباشبوزق، وهم الجنود غير النظاميين، من خدم المماليك وأتباعهم «الالداشات»، فلا يسهل تعدادهم، ولا نظنهم يزيدون عن العشرين ألفا، وهم لا يساوون ألفا من الجنود المنظمة.
قال كامرون: إنه لما وصلت الأخبار للقاهرة هزأ المماليك بفكرة الغارة الفرنسية على مصر، وأرسل مراد بك للقنصل الفرنسي روستي
1
وأخذ يستفسره عن الغرض من غزوة الفرنسيين، وأخذ يسب الفرنسيس ويشبههم بالمكارين «الحمارة» قائلا للقنصل: «أعطهم قليلا من المال ودعهم يذهبون؛ لأنني لا أريد أن أوذيهم.» وعبثا يحاول القنصل تفهيمه أن قائد الحملة الفرنسية، هو نابوليون بونابرت بطل واقعة «اركولا»، ذلك الذي دوخ النمسا في سهول لومبورديا! فلم تكن لمراد بك معرفة بالجغرافيا ولا بالممالك ...
نترك مراد وجيشه، سائرا لملاقاة نابوليون وجنوده عن طريق الفرع الغربي من النيل، ونعود إلى متابعة الحملة الفرنسية في سيرها، بعد أن تركناها تستعد للحركة من الإسكندرية لدمنهور.
من الإسكندرية إلى الرحمانية
في اليوم السادس من شهر يوليو برح الجنرال فيال
Vial
الإسكندرية متوجها إلى دمنهور على نفس الطريق التي سار فيها الجنرالات ديزية، وبون، ورينيه، مارا بالبيضة والعكريش وبركة غطاس، وسار الجنرال مينو بحملة منظمة للاستيلاء على رشيد، ورتبت عمارة بحرية من السفن الخفيفة المسلحة تحمل الزاد والذخيرة والمدافع والمهمات للسفر من مصب النيل متجهة جنوبا، لكيما تلتقي مع الجيش عند الرحمانية، وعهدت رياسة هذه العمارة الكولونيل «بريه» وكان معه الجنرال اندرويسي
Andreossy ، قومندان عموم المهمات مع ضباط آخرين من البحرية، وكان مجموع القوى التي تحركت من الإسكندرية ورشيد واحدا وعشرين ألفا على رواية أصدق المصادر، بين طوبجية وبيادة وسواري وبحرية.
وفي الساعة الخامسة تماما من مساء يوم الاثنين 9 يوليو الموافق 25 محرم برح نابوليون بونابرت وهيئة أركان حربه، مدينة الإسكندرية عن طريق الصحراء إلى دمنهور.
وكانت مقدمة الجيش تحت قيادة الجنرال «ديزيه»، أول من برح الإسكندرية كما قلنا، مع قوة مؤلفة من أربعة آلاف وستمائة مقاتل، وقد قاسى هذا القائد وجنوده، من شدة الحر وقلة الماء وصعوبة السير في الرمال، مر العذاب، وكان العربان قد ردموا الآبار، وألقوا فيها النطرون المالح حتى سار ماؤها مرا وحامضا، ولم تكن المنطقة الخصبة الواقعة الآن بين دمنهور وإسكندرية، كما هي اليوم بعد مد السكة الحديدية، وتطهير المصارف، وحفر الترع والمساقي، بل كانت خرابا ينعق على أطلالها البوم، ليس فيها إلا بضعة أكواخ وعشش للعربان وقطاع الطريق، فداخل قلوب الجنود الفرنسيين الكدر، وشملتهم الكآبة، ولم يجدوا في تلك المهامة القفر ما كان يمنيهم به رؤساؤهم، من أرض مثمرة، وأنهار جارية وأشجار معشوشية، حتى اضطر «ديزيه» وهو القائد البطل الصبور، كما يدل على ذلك تاريخه، أن يكتب لنابوليون قائلا: «إذا لم يجتز الجيش الصحراء بأسرع ما يمكن فقد قضي عليه بالفناء.» وعلى رواية بوريين، سكرتير نابوليون أنه؛ أي: «ديزيه» كتب يقول: «إما أن تأمرنا بالعودة إلى الوراء أو المسارعة في السير، فإن البقاء في هذه الصحاري مستحيل، وقد بدأ الجنود يتذمرون ويتململون» ... وشتان بين هذه الأرض الجرداء المحرقة، خصوصا في شهر يوليو، وبين سهول لومبادريا في شمال إيطاليا، أو مناظر التيرول في جنوب النمسا!! «تلك المناطق التي كانت تحارب فيها هذه الجنود»، ولهذا يطعن كتاب الإنجليز «الذين ما كانوا يريدون لنابوليون نجاحا» على المماليك لعدم إسراعهم لمعاكسة الحملة الفرنسية في سيرها بين دمنهور والإسكندرية، أما نابوليون فإنه بعد أن برح الإسكندرية في الساعة الخامسة مساء استمر مع هيئة أركان حربه سائرا طول ليلة في جو مقمر، إلى أن اختفى القمر في الساعة الثالثة صباحا فسار في الظلام، وكاد يروح ومن معه ضحية لرصاص جنوده فرقة من الفرق المعسكرة في النقط الأمامية؛ إذ خيل للحراس أنهم هوجموا فنادوا بالتأهب، وأطلقت البنادق من الفريقين مدة ما حتى سمعت الأصوات، وتبودلت العبارات والإشارات، وسار نابوليون في طريقه إلى أن لاحت لأنظاره بلدة دمنهور في الساعة الثامنة صباحا، فيكون قد قضى راكبا حوالي ستة عشر ساعة، دون راحة!! وكانت دمنهور في ذلك الزمن بلدة حقيرة تحيط بها أشجار نخيل وسنط كثيرة، وفيها بعض المساجد، وحولها بعض تلول عليها قبور وأضرحة للأولياء، وكان «ديزيه» قد احتل البلدة بلا مقاومة، وهناك استقبل نابوليون في دار، قال عنها المؤرخون الفرنسيون، إنها أشبه بزريبة لا نوافذ ولا أبواب لها، وهناك اجتمع شيخ البلد والكشاف والمشايخ وبعض أعيان البلدة فقدموا له جرعة من اللبن، ولقمة من الفطير الذي يسميه الفلاحون «الدماسي»؛ أي: المسوى تحت رماد النار!!! فما كان أوسع الفرق بين تلك الدار الحقيرة، وقصور إيطاليا وزخارفها!!
وحكى بوريين فقال: «لما وصلنا دمنهور اتخذت هيئة أركان الحرب دارا كانت لأحد أعيان البلد مقرا لها، وكان ظاهر هذه الدار حسنا؛ لأنها مبيضة بالجير، ولكن داخلها كان متهدما، ينم على فقر ومسكنة، وكان نابوليون قد علم أن صاحب الدار ذو ثروة، فلذلك سأله، بعد أن طمأن خاطره بواسطة المترجم: لماذا يحرم نفسه من التمتع برفاهية العيش ما دام غنيا وقادرا على ذلك؟ وأكد له المترجم أن صدقه يفيده ولا يضره، فلما اطمأن خاطر الرجل قال: انظر إلى قدمي! منذ بضع سنوات أصلحت داري، وابتعت بعض الأثاث، فوصل خبر ذلك إلى مسمع الحكام في القاهرة، فطلبوني وطالبوني بالمال؛ لأنهم اعتقدوا أنني ذو ثروة ويسار، فلم أعطهم ما أرادوا فعاقبوني بالضرب إلى أن أعطيتهم ما طلبوا، ولكن بعد أن انكسرت رجلي كما ترون، ومن ذلك الحين هممت أن لا تكون لي دار غير هذه الدار الخربة، والويل ثم الويل لمن يعرف أنه غني في هذه البلاد!! وأضمن الأحوال للسلامة هو الفقر أو ادعاء الفقر.»
واستمر الجيش في طريقه قاصدا الرحمانية، حتى وصلها في نفس ذلك اليوم 10 يوليو، ولما وقعت عيون الجنود على نهر النيل فرحوا وطربوا، وخلع الكثيرون من الضباط والجنود ملابسهم، ونزلوا للاستحمام بماء النيل، ووصل بونابرت وهيئة أركان حربه، واستقر معظم الجيش في جوار الرحمانية وعلى شاطئ النيل طلبا للراحة، حتى تصل العمارة البحرية التي قامت من رشيد كما سبق لنا القول.
وكان المماليك قد سارعوا بإرسال نحو خمسمائة خيال على جناح السرعة لتعويق نابوليون عند دمنهور، فوصلت هذه القوة بعد أن ارتحل معظم الجيش الفرنساوي ووصلت مقدمته إلى الرحمانية، ولم يبق إلا فرقة الجنرال ديزيه، التي تركت في المؤخرة، فالتقى المماليك بالفرنسيين، ودارت معركة غير مهمة بين دمنهور والرحمانية خسر فيها الفرنسيون أربعة من الجنود، وخسرت تلك الفصيلة من المماليك نحو خمسين.
وقد خلط الشيخ الدحداح، فيما ترجمه في كتابه تاريخ فرنسا الحديث، فروى حكاية التمرد الذي وقع بين الجنود الفرنساوية، وكاد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، كأنها وقعت في المنطقة بين الإسكندرية ودمنهور، وهذا غير صحيح، ورواية هذا التمرد ستأتي في مكانها بعد انهزام المماليك في واقعة شبراخيت، وقبل وصول الجيش الفرنساوي لإمبابة، بنحو يومين، كما رواه نابوليون نفسه تفصيلا، في مذكراته التي أملاها وهو أسير في سانت هيلانة.
موقعة شبراخيت
قال صاحبنا الجبرتي متهكما على مراد بك «وما كان أكثر تهكمه عليه»: «لما ارتحل من الجسر الأسود أرسل إلى مصر يأمر بعمل سلسلة من الحديد في غاية التخن «كذا» والمتانة، طولها مائة ذراع وثلاثون ذراعا، لتنصب على البوغاز عند برج مغيزل من البر إلى البر، لتمنع مراكب الفرنسيس من العبور لبحر النيل، وذلك بإشارة علي باشا، وأن يعمل عندها جسر من المراكب وينصب عليها متاريس ومدافع ظنا منهم أن الإفرنج لا يقدرون على محاربتهم في البر، وأنهم يعبرون في المراكب، ويقاتلونهم وهم في المراكب، وأنهم يصايرونهم ويطاولونهم حتى تأتيهم النجدة.»
وكيفما كان غرض الجبرتي من هذه العبارة فإن مراد بك، بعد أن ألقى تلك الأوامر، سار بجيشه المؤلف من نحو ثلاثة آلاف فارس من المماليك، وألفين من الإنكشارية، ونحو ألف وخمسمائة أو ألفين من البحارة، في القوارب التي سبقت الإشارة إليها، وتابع سيره ملازما ضفة النيل حتى وصل إلى قرية الطرانة، وهناك وصلت إليه الأخبار بما تم للفرنسيين في أرض مصر، وعلم لأول مرة أن الجيش الفرنسي احتل رشيد، وأن فرقة المماليك التي بعث بها إلى دمنهور تفرقت شذر مذر، بين تلك البلدة وبلدة الرحمانية، وأن كتلة الجيش الفرنسي زاحفة على مصر.
فسار إلى شبراخيت وأخذ في الاستعداد الحربي على قدر معرفته وكفاءته، لملاقاة القوة الفرنسية، فبدأ بإقامة طابيتين في بلدة شبراخيت، ووضع في كل طابية 9 مدافع، وأخذ كذلك في حفر الخنادق حول تلك البلدة حيث وضع للدفاع عنها مشاته من الإنكشارية، ووقفت عمارته في النيل منتظرة قدوم السفن الفرنسية.
والآن نترك الكلام في وصف هذه الواقعة المهمة، التي ذكرها الجبرتي في بضعة سطور، وتابعه المؤرخون الحديثون لنابوليون نفسه، فيما أملاه من مذكراته وهو في منفاه قال ما خلاصته: «كان الجيش في يوم 12 يوليو عند الساعة السابعة مساء معسكرا عند قرية منية سلامة، على بعد فرسخ من الرحمانية، وصدرت إليه الأوامر بأن يسير عند الساعة الواحدة صباحا؛ لأنه كان من المهم كثيرا أن لا نعطي مراد بك الوقت الكافي للتحصن والتترس، وجمع شتات جيشه، فما كاد يظهر ضوء القمر حتى تحرك الجيش، ثم لم تأت الساعة الثامنة صباحا حتى كان وجها لوجه مع جيش مراد بك المرتكز جناحه الأيمن، المؤلف من المماليك، على بلدة شبراخيت، وجناحه الأيسر يتألف من نحو ألفين من العربان، ممتدين إلى داخل الصحراء، وكان مع كل مملوك ثلاثة أو أربعة من الجرال لخدمته وكذلك كان العربان في حركة مستمرة متنقلين من مكان لآخر، بحيث يخيل للنظار أن هذا الخط مؤلف من خمسة عشر ألفا إلى ثمانية عشر ألفا.»
ولما التقى الجيشان أخذ كل فريق يرقب الآخر، وكان الفرنساويون ينتظرون قدوم عمارتهم التي كانت لم تزل راسية بجوار الرحمانية، ولا تستطيع السير قبل أن تهب رياح الشمال، وهي لا تهب قبل الثامنة صباحا، وأخيرا سطعت الشمس بأشعتها الذهبية على خوذ المماليك وملابسهم، فأظهرت تلك الجنود البديعة في أجلى مظاهرها، ودارت مناوشات بين الفرسان وبعضهم على الطريقة الشرقية أظهر فيها المماليك من البسالة والرشاقة، وخفة الحركات، ما ملأ صدورنا بالإعجاب والإجلال، فكان الفارس منهم، هو وجواده كأنه قط عة واحدة متماسكة، وكأنما كان جواده يشاركه في جميع عواطفه ومؤثراته وحركاته، التي كان يقوم بها من إطلاق غدارته وسل سيفه، وإدارة جواده، بمهارة ورشاقة تفوق الوصف.
ولا نستمر مع نابوليون في أوصافه للحركات الحربية لهذه الواقعة، مما هو فني محض، ونكتفي بالقول بأن المعركة دارت على ثلاثة أدوار الدور الأول هجمة قام بها المماليك ففتحوا بها ثلعة في مربع فرقة الجنرال «رينيه» وأخرى في مربع الجنرال «دوكا» ولكن نيران المدافع، وبنادق المشاة من الخلف، ردتهم على أعقابهم بخسارة كبيرة، والدور الثاني المعركة البحرية في النيل، وذلك أن العمارة الفرنسية تحت قيادةالكولونيل بريه
، وصلت الساعة الأولى بعد الظهر فقابلتها السفن المصرية بنار حامية، وكانت تلك السفن تحت قيادة علي باشا الطرابلسي واحتدمت الحرب بين الفريقين، فخسرت السفن الفرنسية خسارة كبيرة وكادت تدور الدائرة عليها، وهنا يقول نابوليون في مذكراته: «إن «بريه» أنقذ سفنه بحسن تصرفه ومهارته في إدارتها.» ويقول الجبرتي ومن تابعه، نقلا عن أفواه المماليك طبعا: «إن المصادفة هي التي قضت بفوز الفرنساويين؛ ذلك لأن قنبلة من قنابلهم أصابت المركب التي تحمل ذخائر المماليك، فأحرقتها وتطايرت أجزاؤها في الفضاء، فانذعر المماليك وخابت آمالهم.»
وأما الدور الثالث فهو أن نابوليون لما أدرك الخطر المحدق بعمارته في النيل أصدر أمره، بتلك السرعة التي طالما أنقذته من مهالك شتى، للبيادة بالهجوم على شبراخيت وقطع مواصلات الإنكشارية الذين فيها عن المماليك، فشعر أولئك بالخطر فولوا الأدبار بعد مقاومة قليلة، واستمرت المعركة دائرة حتى الساعة السادسة مساء حيث انتهت بوصول الفرنسيين إلى بلدة «شابور»، وتقهقر مراد بك ومن معه إلى القاهرة.
وكانت خسارة الفرنسيين في هذه الواقعة من ثلاثمائة إلى أربعمائة بين قتيل وجريح، وخسر المماليك مثل هذا القدر من الخيالة، بين قتيل وجريح وأسير، ونحو أربعمائة إلى خمسمائة من المشاة، ولقد كانت هذه الواقعة أول درس تلقاه المماليك عن الحرب مع الجيوش النظامية الأوروبية، بعد أن كان يخيل لهم أنهم لا يغلبون، وأن الحرب هي عبارة عن امتطاء صهوة الجواد، وإطلاق القرابينه، وإشهار السيف ... عرفوا عند ذلك أن العدو القادم عليهم لا يستخف به، وأن شمس أيامهم قاربت الأفول.
ومن الأدلة التي يجب أن تذكر للدلالة على كياسة نابوليون واجتذابه لقلوب قواده وضباطه، أنه لما علم بأن الكولونيل بيريه البحري جرح في يده، وفقد سيفه في المعركة البحرية، رقاه في الحال إلى رتبة «كونتر أميرال» وبعث له بالخطاب الآتي:
إنني أبعث إليك يا مواطني الجنرال بسيف عوضا عن سيفك الذي فقدته في واقعة شبراخيت، فأرجوك أن تقبله مني برهانا على اعترافي لك بفضل الخدم التي قمت بها للجيش في فتحه مصر.
بونابرت
ولا شك أن خطابا كهذا يفوح عبيره في الجيش فيملأ قلوب القواد والضباط والجنود حبا لقائدهم، ورغبة عظيمة في التفاني في خدمته وخدمة وطنهم.
قال نابوليون في مذكراته عن هذه الواقعة:
إن واقعة شبراخيت كانت مما يجلب الفخار للجيش الفرنسي، نعم إننا كنا عشرين ألف رجل ومعنا اثنان وأربعون مدفعا في ساحة الوغى، ولم يكن أمامنا في الحقيقة سوى ثمانية آلاف مقاتل، ولكن هذه كانت أول مرة وجد فيه الجيش الفرنسي نفسه أمام أولئك الفرسان البواسل الأبطال.
2
وغريب أن صاحب كتاب «حقائق الأخبار» يسمي هذه الموقعة الكبيرة واقعة الرحمانية، ولم يقع في الرحمانية منها شيء، وزيدان يخلط بين شبريس وشبراخيت، والجبرتي لا يذكر أين مكانها، بل يقول كعادته وردت الأخبار بحصول معركة!
من شبراخيت إلى إمبابة
كان من السهل علينا أن ننتقل بالقارئ من واقعة شبراخيت إلى الواقعة التي يسمونها واقعة إمبابة، ويسميها آخرون واقعة الأهرام، وغيرهم واقعة القاهرة، وهي جديرة بأن تطلق عليها هذه الأسماء الثلاثة لولا أن لنابوليون نفسه في مذكراته، عبارات في غاية الأهمية عن الجيش الفرنساوي في تلك المنطقة، الواقعة بين شابور وإمبابة ... تلك المنطقة التي قطعها الجيش المذكور في ستة أيام؛ أي: من صباح 14 إلى صبيحة 20 يوليو «من السبت 30 محرم إلى الجمعة 6 صفر»، وليس لهذه المدة أثر في الكتب العربية؛ لأن صاحبنا «الجبرتي» لا علم له بها، وكفاه ما كان فيه من هم وغم، بعد وصول أخبار خذلان مراد بك في واقعة شبراخيت؛ إذ لم تعد تخفى الحقيقة عن سكان القاهرة، على الرغم من دعوى المماليك عن تلك الواقعة الكبير «بأنه لم يقع فيها قتال صحيح، وإنما هي مناوشة بين طلائع العسكرين بحيث لم يقتل إلا القليل من الفريقين.» كما روى الجبرتي، وذلك عن ألسنتهم، وسجله في كتابه ليكون للأعقاب مثلا على مقدار ما في البلاغات الرسمية في أيام الحروب من الصدق والكذب!!
بعد أن استراح الجيش الفرنسي في شبراخيت وما جاورها على ضفة النيل يوم الجمعة 13 يوليو صدرت إليه الأوامر بالسير صباح اليوم التالي فوصلت مقدمته مساء ذلك اليوم إلى بلدة «كوم شريك» وفي تلك الجهة يكثر البطيخ في هذا الفصل من العام، وأكثره منزرع في الأرض الرملية التي تقارب النيل في تلك البقعة فأكل منه الجنود كميات كبيرة وطابت نفوسهم نوعا ما.
وفي الخامس عشر عسكر الجيش على النيل ثم سار نحو أربعة فراسخ ونصف حتى أدرك بلدة أبو نشابة وفي السابع عشر كان عند بلدة وردان، وكان الجيش يسير ببطء زائد لأسباب كثيرة منها شدة الحر، وصعوبة الحصول على المئونة الكافية للجيش، في بلاد لحق أهلها الفقر المدقع، وهاجر الكثيرون من سكانها ولم تبق فيها إلا بقية لا تسمن ولا تغني من جوع.
وكان يتابع الجيش من بعيد بعض العربان الذين كانوا يتصيدون من الجنود الفرنسية ليقتلوه، وليأخذوا سلاحه وما معه من قليل أو كثير، فكانت كل هذه الأمور وغيرها مما ينغص على الجنود حياتهم، ويزيد في ضيق أنفاسهم وكدرهم، وكما كان بنو إسرائيل حين جاوز بهم موسى البحر، وأنقذهم من مظالم الفراعنة، وأنزل عليهم المن والسلوى، يتشوقون إلى مصر، ويحنون إلى فولها وعدسها وقثائها وبصلها، كذلك كانت الجنود الفرنسية، كلما رأت الصحراء المحرقة والبلاد القاحلة، حنت إلى فرنسا، وتذكرت إيطاليا، وسهولها وجمالها.
قال نابوليون في مذكراته:
ولقد غشت الكآبة نفوس الجنود فأخذوا يقارنون بين هذا الشعب البربري الذي لا يحسنون التفاهم معه، مساكن أولئك الفلاحين البؤساء الذين يشابهون ثيرانهم في البلاهة والغباوة، وهذه البلاد القاحلة العارية عن الظل والثمر، وهذا النيل، بل المجراة الحقيرة التي تحمل قليلا من الماء القذر الملوث بالطين، وضموا إلى كل هذا أولئك العربان، سكان الصحاري ذوي الأجسام الناحلة، والقسوة المتناهية، ونساءهم اللائي هن أكثر قبحا وقذارة ... أخذ الجنود يقارنون بين كل هذا، وبين سهول «لومبارديا» المزهرة المثمرة، وأهالي فينيسيا الأرقاء الظرفاء وتزايدت شكوى الجنود من أنه جيء بهم إلى بلاد لا خبز فيها ولا نبيذ، ولم يستمعوا إلى ما يقال لهم من أن هذه البلاد، التي ترونها فقيرة، قد كانت أغنى بلاد الدنيا، وكانت خزانة الحبوب لروما والقسطنطينية، وأنهم متى وصلوا إلى القاهرة وجدوا فيها ما يطلبون من مآكل وشراب ... فكان جوابهم على هذا: «هكذا قلتم لنا في الصحراء قبل دمنهور، فغاية الأمر أن تكون القاهرة أكبر من دمنهور ثلاث مرات أو أربعا، أو مجموعة من العشش الحقيرة، الفقيرة من كل ما يجعل الحياة مقبولة ومحتملة.»
وذكر أيضا بونابرت أنه كان يدنو من الجنود ويخطب فيهم قائلا:
إن النيل الآن في آخر انخفاضه، وإنه بعد قليل من الزمن يفيض بالماء الكثير وسيدركون كل ما سمعوا عنه، وبعد أيام قليلة ستكون لدى الجيش الطواحين والأفران لصنع الخبز، وأن هذه الأرض التي يرونها اليوم جرداء، والتي يسيرون فوقها بصعوبة سيرونها عما قليل خضراء زاهية بالمزارع مما يذكرهم بخصوبة وادي النيل، وكانوا كلما استقر بهم المقام في نقطة على النيل خلعوا ملابسهم ونزلوا للاستحمام، ثم يأخذون بعد ذلك في الجدل والسياسة والمناقشة وإظهار الغيظ من تلك الحال فكانوا يقولون: «لأي شيء جئنا إلى هذه البلاد؟» لا شك أن حكومة «الدير كتوار» قد أبعدتنا ونفتنا من بلادنا، وفي بعض الأحيان يلتفتون إلى الجهة التي فيها قائدها «نابوليون»، وكان دائما يعسكر على ضفة النيل، ولا يتناول من الطعام أكثر مما يتناول أحقر جندي، ويظهرون نحوه علائم الانعطاف والشفقة، قائلين: لا شك أن رجال الحكومة أرادوا إبعاد قائدنا والتخلص منه، ولكن كان يلزمه بدلا من أن يقودنا إلى هنا أن يأمرنا ونحن بأقل إشارة منه، كنا نطرد أعداءه من تلك القصور التي يحكمون فيها كما سبق لنا طرد أعداء الجمهورية من مساكنهم.
وكان الجنود كلما رأوا العلماء قد ذهبوا إلى مكان أو جهة من الجهات للوقوف على بعض الآثار في الطريق، خيل لهم أن أولئك العلماء هم الذين حرضوا الحكومة على إرسال هذه الحملة، فكانوا موضع سخطهم، واحتقارهم، وكانوا يلقبونهم «حمير العلماء».
وكان الجنرال كافاريللي رئيس فرقة المهندسين، له رجل مبتورة وضع مكانها رجلا من خشب، يكثر من التنقل بين الجنود لتطمئن خواطرهم، وليذكر لهم محاسن مصر وخيراتها فالتفت إليه أحد الجنود وقال له منكتا متهمكما: أنت تقول كل هذا لتهزأ بنا، وأنت لك رجل في فرنسا، قبل أن تكون لك رجل هنا، قال الراوي فانتقلت هذه النكتة من فرقة إلى فرقة حتى امتلأت بها أفواه الجنود ضحكا وسخرية. ا.ه.
ولقد أطلنا في نقل هذه العبارات من المصادر الفرنساوية لأهميتها من حيث هي من مذكرات ذلك القائد العظيم، ولأنها توصف حالة كان عليها الجيش الفرنسي، بحيث لو أتيح لقوة منظمة، ولو صغيرة، من المماليك أو غيرهم، أن تلتقي بذلك الجيش، وهو على ذلك الحال، وفي تلك البقعة، لكان من الممكن أن تتغير صفحة مهمة من صفحات التاريخ:
وفي التاسع عشر من شهر يوليو «الخميس 5 صفر» وصل الجيش الفرنساوي إلى أم دينار، على بعد خمسة فراسخ من القاهرة، وهنا لاحت له لأول مرة مناظر الأهرامات وبعض المآذن العالية من مساجد القاهرة.
وفي اليوم التالي اصطف الجيش وصدرت له الأوامر بالاستعداد للمحاربة في الواقعة الفاصلة، التي سنفرد لها فصلا خاصا.
هوامش
الفصل السادس
القاهرة قبل الواقعة
بين وصول مراد بك لإمبابة، بعد هزيمته في شبراخيت، وبين واقعة إمبابة الفاصلة نحو خمسة أيام، نريد أن نأتي على وصف القاهرة في خلالها، وعمدتنا في هذه النقطة، هو صاحبنا الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، فإن ما يرويه في هذه النقطة صحيح الرواية؛ لأنه شاهد عيان، وأقوال مثله في أوقات كهذه مما يحرص عليها المؤرخون، هذا فضلا عن أن وصفه لحالة الشعب وحكامه في ذلك الحين، مما يعطينا صورة صادقة اللون للحالة الاجتماعية، والأخلاقية والنفسانية، للأمة المصرية، وسنجتهد بقدر الإمكان في اختصار عباراته المطولة، وفي الاقتصار منها على ما يساعدنا في تكوين وتلوين الصورة التي نريد إبرازها في هذه الصحائف.
قال الجبرتي: إنه لما وصلت الأخبار بانهزام مراد بك، اشتد انزعاج الناس، وكان العلماء يجتمعون بالأزهر كل يوم، ويقرءون البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والبراهمة «لا يريد البراهمة الهنود، بل أتباع سيدي إبراهيم الدسوقي المعروف» والقادرية والسعدية، وغيرهم من الطوائف، وأرباب الأشاير ، ويعملون لهم مجالس بالأزهر، وكذلك أطفال المكاتب ويذكرون الاسم اللطيف وغيره من الأسماء «يعني بهذا تلاوة أسماء الله الحسنى».
قال عن يوم الاثنين 16 يولي «2 صفر»، وبعد ذكره خبر وصول مراد بك إلى إمبابة، وشروعه مع بقية الأمراء في إقامة المتاريس، وترتيب الجنود حتى سار البر الغربي والشرقي مملوءين بالمدافع والعساكر والمتاريس والخيالة والمشاة قال: «ومع ذلك فلم تكن قلوب الأمراء مطمئنة؛ إذ شرعوا في نقل أمتعتهم من البيوت الكبار المشهورة، إلى البيوت الصغيرة التي لا يعرفها أحد، واستمروا طول الليالي ينقلون الأمتعة ويوزعونها على معارفهم وثقاتهم، وأرسلوا البعض منها إلى بلاد الأرياف، وأخذوا في تشهيل الأحمال، واستحضار دواب الشيل وأدوات الارتحال.»
وهذا من الأدلة القاطعة على أن أمراء المماليك قد داخلهم الفزع والخوف، وأنهم لم يكونوا واثقين من أنفسهم، ولا من قادتهم، وأنهم ما كانوا يحرصون على ملك، ولا يشعرون بعاطفة قومية أو دينية أو وطنية، ولا فكروا في قبور أسلافهم، ولا في معابد دينهم، حتى ولا في أعراضهم، كما يشعر كل قوم يداهمهم عدو أجنبي عن جنسهم ودينهم وخلقهم، وكان كل همهم محصورا في الحرص على مقتنياتهم وأموالهم التي سلبوها من المصريين المساكين!! وعندي أن مراد بك على الرغم من أنه أشجع الجميع، وأحقهم بشيء من الثناء لمدافعته ومقاومته، ما أسرع بالفرار إلى القاهرة بعد واقعة شبراخيت، إلا ليجمع ما لديه من مال وخيول، ليهرب إلى الصعيد!! فقد روى الجبرتي: أن مراد بك بعد واقعة إمبابة الأخيرة فر إلى الجيزة ولم يقض في قصره أكثر من ربع ساعة، وأنه قد أعد غليونه الكبير وجمع فيه كل ما يريد الحرص عليه، وأنه اضطر إلى حرق ذلك الغليون لما عجز عن سيره لقلة الماء في النيل! ورووا عن إبراهيم بك أنه أعد في السفن كثيرا من خيراته ومقتنياته.
ومن الغريب في أمر أولئك المماليك أنهم في ذلك الظرف العصيب، حرموا على غيرهم ما أحلوه لأنفسهم، فقد روى «الجبرتي» أنه لما رأى الأهالي منهم ذلك الخوف، والسعي في تخبئة أموالهم ومقتنياتهم، أرادوا الاقتداء بهم، فمنعهم الأمراء «المماليك» وهددوهم بالقتل، ولولا ذلك لما بقي بمصر من أغنيائها أحد.
وإلى القارئ صفحة من صورة القوم في ذلك الحين، كما رسمها الجبرتي بريشة قلمه الساذج، قال: «وفي يوم الثلاثاء «17 يوليو» نادوا بالنفير العام لخروج الناس للمتاريس، فأغلق الناس الدكاكين والأسواق، وخرج الجميع لبر بولاق، فكانت كل طائفة من طوائف أهل الصناعات، يجمعون الدراهم من بعضهم، وينصبون لهم خياما ويجلسون في مكان خرب، أو مسجد، ويرتبون لهم قيما ليصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم، وبعض الناس كان يتطوع بالإنفاق على البعض الآخر، ومنهم من يجهز جماعة من المغاربة أو الشوام بالسلاح والأكل وغير ذلك بحيث أن جميع الناس بذلوا ما في وسعهم، وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم، وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم، فلم يشح في ذلك الوقت أحد بشيء يملكه، ولكن لم يسعفهم الدهر» ...
ولعمري إن هذا الدليل ناصع على وطنية كامنة في نفوس المصريين لا تحتاج إلا إلى التهذيب والإرشاد وحسن القيادة؛ إذ لم ينقصهم التضامن في تكوين فئات، وجمع شتات، وتسليح القادرين، وإنفاق المال عن طيب خاطر ... ولكن ماذا تنفع هذه الفوضى والجهل، أمام النظام والعلم؟!
وإلى القارئ صورة أخرى ... قال صاحبنا الجبرتي: «وخرجت الفقراء وأرباب الأشاير بالطبول والزمور، والأعلام والكاسات، وهم يضجون ويصيحون، ويذكرون بأذكار مختلفة، وصعد السيد عمر أفندي «مكرم» نقيب الأشراف إلى القلعة، فأنزل منها بيرقا كبيرا، سمته العامة «البيرق النبوي»، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون، ويكثرون من الصياح ... وجلس مشايخ العلماء بزاوية علي بك ببولاق يدعون ويبتهلون إلى الله بالنصر.»
قال: «وانقطعت الطرق، وتعدىالناس بعضهم على بعض، وأما بلاد الأرياف فإنها قامت على قدم وساق بقتل بعضهم بعضا، وبنهب بعضهم بعضا، وكذلك العرب غارت على الأطراف والنواحي، وصار قطر مصر، من أوله إلى آخره، في قتل ونهب، وإخافة طريق، وقيام شر، وإغارة على الأموال ... وحاول العامة التعدي على النصارى واليهود فمنعهم الحكام، ولولا ذلك المنع لقتلهم العامة وقت الفتنة.»
ولم يغب عن الجبرتي أن ينتقد نظام المماليك الحربي، ويهزأ بهم، وبسوء تصرفهم، وعدم قيامهم بما يلزم لحماية البلاد، فقال: «في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر، فمنهم من يقول إنهم واصلون من البر الغربي، ومنهم من يقول بل يأتون من الشرقي، ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين، وهذا وليس لأحد من أمراء العساكر همة تحمله على أن يبعث جاسوسا، أو طليعة تناوشهم القتال قبل دخولهم، وقربهم ووصولهم إلى فناء مصر، بل كل من إبراهيم بك ومراد بك جمع عسكره، ومكث مكانه لا ينتقل عنه، ينتظرون ما يفعل بهم، وليس ثم قلعة ولا حصن، ولا معقل، وهذا من سوء التدبير، وإهمال أمر العدو»!! فالشيخ الجبرتي الأزهري، يقول في ذلك الزمن، بما يقول به كتاب الإنكليز الخبيرون عن إهمال المماليك أمر مناوشة نابوليون وجيشه، خصوصا في جهات الصحراء، وفي النقط التي ضاقت فيها صدور الجنود، وكرهوا مصر وفتحها!! ولو أن قوة هاجمت الفرنساويين من ورائهم عند «وردان» مثلا - فإن مواصلاتهم مع شبراخيت والرحمانية لم تكن على ما يرام - لأضرت بهم ضررا بليغا، ولربما ألحقت بهم الفشل والانهزام.
قال المستر كامرون في كتابه: «ولقد أضاع المماليك الفرص الثمينة فإن نابوليون ترك حرا في تسيير جنوده، وهم منهوكو القوى في الصحراء حتى دمنهور، ثم كذلك في الوصول إلى النيل دون أن يضطر إلى مقاومة في الحصول على الماء، ولما انهزم مراد بك في شبراخيت عاد إلى القاهرة وجمع معظم قوته عند إمبابة، ولم يتخذ أقل الوسائل لمناوشة عدوه وحرمانه من النوم والراحة، ولا عمل شيئا يؤدي إلى تجريد السكة التي سار فيها جيش العدو من الزرع، ثم لم يكن ثمت من داع لمحاربة عدوه في الجهة الغربية من النيل، بل ما كان على مراد بك إلا أن يتحول بجيشه إلى الجهة الشرقية تحت أسوار العاصمة، وأن يجبر نابوليون على عبور نهر النيل في نقطة واسعة شديدة التيار بين إمبابة وبولاق، أو الجيزة ومصر، في ظروف غير ملائمة لمصلحة الفرنساويين، كل هذه الفرص أضاعها مراد بك كبرياء وجهلا، وألقى نفسه غنيمة باردة في يد المغير على بلاده.»
وكذلك لم يخل الجبرتي المماليك أصحابه من قاذع اللفظ، ومر القول إذ وصفهم بعد ذلك فقال: «وفي يوم السبت 21 يوليو وصل الفرنسيس إلى أم دينار، فعندها اجتمع العالم العظيم من الجنود والرعايا والفلاحين المجاورة بلادهم لمصر، ولكن الأجناد متنافرة قلوبهم، منحلة عزائمهم، مختلفة آراؤهم، حريصون على حياتهم، وتنعمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم، مغترون بجمعهم، محتقرون شأن عدوهم، مرتبكون في رؤيتهم، مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم.»
والذي يؤيد عندك صدق عبارة الجبرتي في قوله: «حريصون على تنعمهم ورفاهيتهم.» أن الجنود الفرنساويين وجدوا في خيام المماليك، وفي عامة معسكرهم الذي أقاموه في جهة إمبابة، بعد الفشل والهزيمة، من فاخر الرياش، وأصناف السجاجيد الفارسية، والأواني الغالية الفضية والصينية، ما دل على أن أولئك القوم ما فارقوا نعيمهم، ولا ملذاتهم، إلى اللحظة الأخيرة التي يدافعون فيها عن ذلك النعيم، والخير العميم، بل عن أرواحهم وأعراضهم، وسيأتي ذلك في مكانه بعد وصف الواقعة التي قضت على تلك العصبة فلم تقم لهم بعدها قائمة تذكر.
ولننتقل إلى الجانب الآخر قبل الواقعة ... جاء فيما أملاه نابوليون في سانت هيلانة ما يأتي:
في 19 يوليو وصل الجيش إلى قرية أم دينار تجاه ملتقى فرعي الدلتا، وعلى بعد خمسة فراسخ من القاهرة، فشاهد الجيش لأول مرة الأهرامات وصوبت النظارات لرؤية هذه الآثار القديمة.
واستراح الجيش في اليوم العشرين من شهر يوليه ثم صدرت له الأوامر بالتأهب لخوض المعركة.
وكان العدو قد عسكر على الضفة اليسرى لنهر النيل تجاه القاهرة بين إمبابة والأهرامات يجيش عرمرم من المشاة والفرسان، تحرسه عمارة بحرية، وبين سفنها فرقاطة تحمي معسكره، أما العمارة البحرية الفرنسية فقد بقيت في المؤخرة؛ لأن النيل كان منخفضا، ولا بد من الاستغناء عن الإمدادات التي يجب أن تنقل بواسطته.
اعتز المماليك والأغوات والبحارة بكثرة عددهم وحسن موقفهم، وملأت الحماسة قلوبهم، وشجعتهم نظرات أمهاتهم وأولادهم وزوجاتهم ، فيات الرجاء يملأ أفئدتهم، وكانوا يقولون إن تحت الأهرامات التي بناها أجدادهم سيلقى الفرنسيون حتفهم، وسيحفرون قبورهم، ويحل القضاء بهم.
الفصل السابع
الواقعة
واقعة إمبابة
على الرغم من رغبتنا الشديدة في تحاشي الخوض في تفصيل الحركات العسكرية، كما سبقت لنا الإشارة إلى ذلك، فإننا لم نر مناصا من وصف معركة إمبابة، وصفا يليق بمنزلتها من التاريخ.
حقيقة إن واقعة إمبابة، على عظيم أهميتها، لا تعد من الوقائع الفاصلة في تاريخ الجنس البشري؛ لأن المعركة التي يسمونها «الفاصلة»، هي معركة يترتب على نتيجتها تغيير كبير في الأمم والدول، وأنه لو تمت على خلاف ما تمت، لكان الفرق هائلا، وربما غير سطح البسيطة بسبب ذلك.
وللمؤرخين اهتمام بالمواقع الفاصلة في التاريخ، ولهم فيها كتب خاصة، ولا بأس أن نذكر على سبيل الاستئناس أن من الوقائع الفاصلة في تاريخ الجنس البشري واقعة اليرموك، وواقعة القادسية ... الأولى قضت على السلطة الرومانية المسيحية، في آسيا الصغرى، والثانية قضت على الدولة الفارسية، والديانة الزردشتية، ومن هذه الوقائع الفاصلة في التاريخ القديم، واقعة ثرمويلي، بين الفرس واليونان، وفي تاريخ القرون الوسطى، واقعة فتح القسطنطينية، وواقعة لزتداد السيل التركي حول فينا، ومن هذه الوقائع أيضا في تاريخ الإسلام، واقعة عبد الرحمن الثالث مع «شارل مارتيل» في سهول «طورس»، ومنها في تاريخ أوروبا وأترلوا، وسيدان، والمارن.
ولا تعد واقعة إمبابة من الوقائع الفاصلة؛ لأنه لو تغير «الطابق»، وقهر نابوليون فيها، لأمكنه الرجوع إلى الوراء ريثما ينظم نفسه، ويعيد الكرة، وكان في إمكانه على فرض فشله نهائيا، أن يعود إلى سفنه في الإسكندرية بعد أن يخسر ربع أو نصف جيشه، ولم يكن نلسون قد حطم العمارة في أبي قير وقتئذ، اللهم إلا إذا كان انتصار المماليك في إمبابة حاسما بالقضاء المبرم على نابوليون وجيشه، ولم يك ذلك من الأمور التي تدخل في حيز الممكنات، ويضعها المؤرخون المدققون موضع الاهتمام، لما كان ثمت من الفرق العظيم بين كفاءة القواد ونظام الجنود، والفرق بين الأسلحة، ولكن لو حدث ذلك على فرض المستحيل ، كما يقولون، إذا كانت تعد واقعة إمبابة من الوقائع الفاصلة الهائلة، وإذا لما كانت الإمبراطورية الفرنسوية الأولى، ولا الثانية، ولما كانت مواقع أوسترلينز، وجنا، ومارنجو، وواترلو، ولما كان ثمت من ضرورة للإتيان بجيش عثماني، ولا انتقل محمد علي من بلدته قوله، ولعاش ومات لا يعرفه إلا «أهل بلده» كما يقال في الأمثال. •••
لم تصل أخبار معركة إمبابة للمؤرخ الجبرتي، وهو صحفي تلك الأيام، إلا متقطعة من أفواه الناجين من الجند والكشاف والمماليك، ولذلك كانت روايته عنها مضطربة، فبينما يقول: إن الحرب والقتال استمر ثلاثة أرباع الساعة، تراه يناقض نفسه فيقول: إن الحرب بدأت من وقت القائلة «حوالي الساعة عشرة أو أحد عشر صباحا»، ثم يذكر أن الحرب استمرت إلى المساء تقريبا، فنحن أمام هذا التناقض في المصادر العربية، نعتمد على الروايات الفرنسية، وعلى مذكرات نابوليون ومذكرات بوريين وأشباهه، وخلاصة أقوالهم تظهر فيما يأتي:
كانت قوة المماليك من مشاة وخيالة، ممتدة بين إمبابة ونقطة الأهرام، بحيث كان جناح هذا الجيش الأيمن مؤلفا من نحو عشرين ألفا من الإنكشارية والجندرمة، والالداشات والرجالة والعربان، وهذا الجناح قائم وراء خناق أو متاريس أقاموها بسرعة كبيرة في خلال الأيام الأربع منذ عودة مراد بك إلى إمبابة، وكان مع هذا الجناح من المشاة نحو أربعين مدفعا من طراز قديم، مثبتة على أرصفة أعدت لذلك، بحيث لا يستطاع نقلها من جهة إلى أخرى، ولا تحويل طلقاتها إلى اتجاه مخصوص غير ما أعدت له، بخلاف مدافع الفرنساويين، التي هي من نظام حديث، وتجرها الخيول، وتحملها الجنود، من مكان إلى آخر حيث تقضي به مصلحة الموقعة، وهذا الجناح الأيمن مرتكز على شاطئ النيل شمالي قرية إمبابة، ثم يتألف قلب الجيش من نحو عشرة آلاف مملوك، ونحو ألفين من الأغوات والشوربجية، وبعض الخيالة من المصريين، ومع كل طائفة أتباع وخدم، وكان على الجناح الأيسر بضع آلاف من العربان الخيالة منتشرين إلى نقطة الأهرام.
وكانت السفن المصرية التي كانت في واقعة شبراخيت، وما انضم إليها من الغلايين ممتدة في النيل من إمبابة إلى بولاق، ووراءها سفن وقوارب عديدة واقعة شراعها، حتى كان المنظر في البقعة، الواقعة من إمبابة إلى الجيزة من جهة الغرب، ومن بولاق إلى مصر العتيقة من جهة الشرق، في نهر النيل ذلك اليوم، مما يأخذ بالأبصار حتى وصفه أحد الكتاب الفرنسيين فقال: إن تلك المنطقة بهاتيك الأشرعة كانت كأنها غاية باسقة الأشجار ... وعلى الضفة المقابلة لإمبابة؛ أي: على شاطئ بولاق وما وراءه من جهة قصر النيل والقصر العيني إلى مصر العتيقة، خرج سكان القاهرة رجالا ونساء، وأرباب الطرق والأشاير، بالطبول والزمور كأنهم في مولد من الموالد المشهورة في مصر.
ولم نقف على بيان واف للنظام الذي وضعه إبراهيم بك للجنود التي بقيت لحماية القاهرة؛ ذلك لأن هذه الجنود لم تفد فائدة، ولأن ما وضع من النظام من الجهة الشرقية لم يؤد إلى نتيجة، وكل ما نعرفه في هذا الصدد إن إبراهيم بك أرسل إلى العربان المجاورين لمصر ورسم لهم أن يكونوا في المقدمة بنواحي شبرا وما ولاها.
وعلى هذا النظام في البرين، الغربي والشرقي، كان الجيش المصري - إن صح أن يسمى بالمصري - معسكرا انتظارا لقدوم الجيش الفرنساوي.
قلنا في آخر الفصل الخاص بالحملة الفرنساوية من إسكندرية إلى القاهرة، إن جيش نابوليون وصل أم دينار يوم 19 يوليو.
وفي اليوم التالي تقدم إلى الأمام قليلا فوقع بمصر قواده على الجيش الرابض فكان منظره مؤثرا عليهم؛ لأن كثرة الذاهبين والآتين فيه، وكثرة الأتباع والخدم، أكبرت في عيونهم قوة الجيش المصري وخيل لهم، على روايات بعضهم، أن هذه القوة لا تقل عن خمسين ألف مقاتل، وهم «الفرنسيون» لا يزيدون على عشرين ألفا، فلذلك أخذ نابوليون يركض بجواده متنقلا أمام واجهة جيشه، وهو يقول لهم بصوته الرنان، مشيرا بإصبعه إلى قمم الأهرام:
إن أربعين قرنا من الزمان تنظر إليكم.
وأخذ الجيش الفرنساوي في التأهب للقتال، وصدرت الأوامر من القائد العام بأن يسير الجنرال «ديزيه» بفرقته في الميمنة ويجاوره الجنرال «رينيه» بفرقته وتتوسط فرقة الجنرال «دوكا» ومعها القائد العام، عند قلب الجيش، ويرتكز الجنرال «بون» على النيل ويجاوره الجنرال «فيال» مكملا للجناح الأيسر.
فلما أشرق النهار بضوئه التقى الجيش الفرنساوي بفصيلة من المماليك فبددها ببضع طلقات من المدافع، وفي الساعة الثامنة صباحا التقى الجمعان.
فكان أول ملاحظة بونابرت أن الجناح الأيمن للجيش المصري لا يعبأ به؛ لأنه لا يستطيع الخروج من وراء الحواجز التي أقامها، والتي لا تصد، أو تعطل، إلا الخيالة، ثم إن مدافعه لثبوتها وعدم المقدرة على تحريكها، لا تفيده إلا إذا وقف الجناح الأيسر من الجيش الفرنساوي أمامها، فلذلك أصدر بونابرت أمره بالانحراف عن مواجهة هذه المدافع، وبتوجيه فرقة الجنرال «ديزية» للفصل بين قلب الجيش المصري، حيث توجد حقيقة القوة الفعالة، وهي العشرة آلاف مملوك، وبين جناحه الأيمن، فسار «ديزية» وتبعته فرقة «رينيه».
وسارت الجنود الفرنساوية على هذا الطراز نحو نصف ساعة بسرعة كبيرة وبسكون وهدوء، إلا أن مراد بك، وإن لم يكن بالقائد المدرب، إلا أنه قد وهب بصرا ثاقبا وإلهاما حربيا، أدرك الغرض من هذه الحركة، وعرف أنه إذا وصلت القوى الفرنساوية إلى غرضها فقد قضت عليه في الحال، فلذلك أصدر أمره للخيالة التي معه بالهجوم على المشاة الفرنسيين في خلال سيرهم لتعطيلهم في نفاذ خطة فصل قلب الجيش المصري عن ميمنته.
وانقض مراد بك بنحو سبعة آلاف فارس، من أفخر الفرسان الذين امتطوا صهوة جواد في التاريخ القديم والحديث، وبسرعة كالبرق الخاطف، فدخلوا بين فرقتي «ديزيه» و«رينيه»، كالمردود بين الجفن والجفن، وقد عملت هذه الحركة بخفة عجيبة حتى خيل لبونابرت أن «ديزية» أصبح في خطر، وأنه ليس لديه الوقت الكافي للاصطفاف للقتال، ولكن لحسن حظه كانت الفئة الأولى من المماليك الذين هاجموه قليلة، قتل نصفها بطلقات المدافع فمكن في وقت سقوطها، وارتداد الباقي منها، من تكوين مربعه، ورتبت المدافع وطلقات البنادق على الجهات الأربع، ورأى الجنرال «رينيه» الخطر كما رآه «ديزية» فشكل جنوده في مربع أيضا، وتلقى الخيالة المماليك من الجهات الأربع، وقامت فرقة الجنرال «درجا»، التي يقودها بونابرت فعلا، بحركة دوران حول ميمنة المصريين، فحالت بينها وبين النيل، واستطاعت أن تطلق المدافع من وراء الخيالة المماليك المواجهين لمربع «ديزية» ومربع «رينيه»، فوقع بذلك المماليك بين نارين من أمام ومن خلف، فصاروا يتساقطون جثثا هامدة على الأرض، واختل نظام الجيش المصري، ووقع زعماؤه في حيص بيص.
فلم يبق أمام مراد بك إلا الانسحاب للوراء مع ثلاثة آلاف من الخيالة قاصدين الجيزة، وكانت فرقة الجنرال «رامبون» الاحتياطية، قد وجهت إلى الأمام وراء الميمنة المصرية للاستيلاء على نقطة لكي تستطيع قطع المواصلات بين إمبابة والجيزة، وحين رأى من بقي من فرسان المماليك انسحاب مراد بك إلى الجيزة، أرادوا اللحاق به فلقيهم «رامبون» بفرقته التي أشرنا إليها، وأطبقت عليهم فرقة «دوجا» و«وبون» فلم يبق أمام أولئك الفرسان إلا أن يلقوا بأنفسهم في نهر النيل على أمل العبور إلى البر الثاني، وفي ذلك الاضطراب قل من استطاع الوصول منهم سالما، قالوا ولهذا السبب غرق منهم بضعة آلاف.
أما جيش المشاة من الإنكشارية وغيرهم، وكانوا نحو عشرين ألفا متترسين وراء الخنادق، بما معهم من المدافع، فإنهم لما أبصروا هزيمة الخيالة تركوا ميدان القتال فارين لا يلوون على شيء، فمنهم من لقي حتفه، ومنهم من نزل إلى القوارب ووصل إلى البر الشرقي ... ولو كانت هذه القوة الكبيرة تحت قيادة حسنة لاستطاعت أن تدور حول الجنود الفرنسية، وتحصرها بين إمبابة والجيزة، حيث الخيالة، ولكن هذه القوة البيادة لم تكن على شيء من النظام، وكلهم من الباشبوزق والخدم والأتباع، ولم يكن في الحقيقة في مصر قوة للقتال غير قوة الخيالة المماليك، التي كانت تحسن القتال مع جنوده من نوعها، لا أمام بطاريات من مدافع متحركة، ولا أمام بنادق سريعة الطلقات، ولا أمام حركات عسكرية فنية، كالتي امتاز بها جيش نابوليون بونابرت، وقهر بها جيوش إيطاليا والنمسا.
وحاول مراد بك القيام بهجمات جديدة ليفتح طريق المواصلات بينه وبين ما تبقى من جيشه ليسهل لهذا الأخير انسحابه، فلم ينجح في هجماته، ودخل الليل لظلمته، فلجأ إلى الجيزة وذهب إلى قصره ليأخذ منه ما لم يستعد لأخذه من قبل.
وبلغت خسارة الفرنساويين في هذه الموقعة، على روايتهم، ثلاثمائة بين قتيل وجريح، أما خسارة المماليك فقد رووا أن لم يبق من مجموع قوة المماليك إلا ثلاثة آلاف ، انسحب بهم مراد بك إلى الجيزة، ونحو ألف بقيت مع إبراهيم بك في القاهرة، وقتل وغرق في النيل نحو سبعة آلاف من كبار المماليك وأتباعهم، وقتل نحو ثلاثة آلاف أخرى من العربان والفلاحين وأمثالهم.
ثم ماذا جرى على السفن الفرنساوية والسفن المصرية؟ أما السفن الفرنساوية فإنها لقلة الماء في النيل، لم تقدر على السير في محاذاة الجيش، وليس من البعيد أنها تأخرت خوفا من السفن المصرية، وقد لاقت من قتالها الأمرين قرب شبراخيت، فكيف وهي الآن أكثر عددا وعدة؟
كان «بوريين» سكرتير نابوليون ممن سار مع العمارة الفرنسية من الرحمانية إلى القاهرة كما سبق لنا القول، وهو يروي لنا، في مذكراته، «أن تلك العمارة، يوم واقعة إمبابة، كانت راسية على مسافة عشرة فراسخ من القاهرة، «قريبا من نقطة القناطر الخيرية»، وأن ريح الشمال كانت تهب شديدة، فكانت أصوات المدافع لا تصل إلى من هم في السفن، ولكن لما أقبل المساء، وهدأت الريح، سمعت طلقات المدافع، وأبصرنا جثث القتلى والغرقى من المماليك يسير بها تيار النيل إلى رشيد ودمياط، فعرفنا أن الدائرة دارت عليهم.»
وأما السفن المصرية فإنها لم تستطع القيام بعمل، وخاف مراد بك وقوعها في أيدي الغزاة فأمر بإحراقها، وسنأتي على ذكر هذا الإحراق، وما أحدثه من الجزع في القاهرة، في الفصل الآتي.
والآن نقف عند هذا البيان الذي حاولنا فيه بقدر الإمكان، وصف معركة إمبابة التي دامت من الصباح إلى المساء، وإن تكن ساعات القتال الحقيقية قليلة ومتقطعة، ولكنا قبل أن ننتقل إلى وصف حال القاهرة في ذلك اليوم العصيب، وما جرى عليها في الليلة التالية نصف حال الجيش الفرنسي بعد انتصاره، قال كاتبهم: «وصل نابوليون وأركان حربه إلى الجيزة عند الساعة التاسعة مساء فاحتلوا قصر مراد بك الذي لم يبق فيه إنسان.» ثم وصفوا ما في ذلك البيت من فراش وفير، ودمقس وحرير، وأقمشة من فاخر صناعة كشمير، ونمارق مزركشة من صنع أمهر الصانعين، وما في بستانه من أشجار وأثمار نادرة المثال، وغنمت الفرقة التي عسكرت في إمبابة كميات كثيرة من المؤن والمآكل اللذيذة والحلوى الفاخرة، وجميع أدوات وفراش البكوات والكشاف، من أبسطة فاخرة، وفضيات وصيني، فدب الفرح والسرور في قلوب الجنود، خصوصا بعدما وجدوا في ملابس البكوات والمماليك القتلى أموالا طائلة، فقد رووا أنهم كانوا يجدون في ملابس الواحد منهم بين مائتين ومائتين وخمسين قطعة من الذهب، وهذا غير ملابسهم الموشاة بالذهب والفضة، وسلاحهم المفضض والمذهب، فكان ذلك حاملا للجنود الفرنساوية على انتشال جثث الغرقى من النيل طلبا للغنيمة، وأكل الجنود وشربوا وطربوا، وأقيم في وسط المعسكر سوق للبيع والشراء، في السروج والخيول والملابس والسلاح! كل ذلك بين جثث الموتى وأنين الجرحى! والخلاصة أن الجنود الفرنسية سكرت بخمرة الظفر، ورقصت على نغمة الغنائم!
وكانت النيران قد شبت في السفن المصرية وما جاورها من القوارب الصغيرة فعلا دخانها وتأججت نارها، فكانت القاهرة تلوح بمآذنها، وقباب مساجدها، ودورها وقصورها، وراء ذلك الدخان واللهيب، في حين كانت الجنود الفرنسية في البر المقابل طروبة لاهية، كأنما تبصر وراء الأفق زينة بحرية، أو ألعاب نارية!!
هكذا كان حال الفاتحين الغزاة في البر الغربي من النيل، فانظر إلى حال المساكين أهل مصر في الضفة المقابلة!
الفصل الثامن
القاهرة يوم الواقعة
تركنا في ذهن القارئ صورة لما كان عليه الجيش الفرنساوي في الضفة الغربية، والآن نعود إلى صاحبنا «الجبرتي» في وصف ما حاق بالقاهرة يوم الواقعة ومساؤه فنقول: بلغ ما كتبه الجبرتي عن واقعة إمبابة بضعة سطور لا قيمة لها، إلا فيما ذكره من أسماء بعض البكوات الذين أبلوا بلاء حسنا، فذكر منهم أيوب بك الدفترادار، وكان من كبار المماليك، وعبد الله كاشف الجرف وعدة كثيرة من كشاف محمد بك الألفي، وغرق إبراهيم بك الصغير، وهو صهر إبراهيم بك الكبير، ثم قال: «ولما عاين وسمع عسكر البر الشرقي القتال ضج العامة والغوغاء من الرعية ، وأخلاط الناس بالصياح، ورفع الأصوات بقولهم: «يا رب ويا لطيف» «ويا رجال الله»، ونحو ذلك وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم، فكان العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك ، ويقولون لهم إن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب، وضرب الرقاب، لا برفع الأصوات، والصراخ والنباح، فلا يسمعون ولا يرجعون عما هم فيه، ومن يقرأ ومن يسمع.»
وليس بصحيح ما كتبه «الجبرتي» من أنه لما انهزم المماليك في البر الغربي حول الفرنسيس المدافع والبنادق على البر الشرقي؛ إذ لم يرد ذكر ذلك في المصادر الموثوق بها، كما أنه لا ينطبق على العقل أن يشتغل الفرنساويون بإطلاق قنابلهم إلى الجهة الشرقية، وهي لا تصل إلى تلك الجهة ولا تأتي بفائدة، كما أنهم لم يكونوا يخشون من عبور سكان القاهرة إليهم، وقد يمكن أن بعض الطلقات التي كانت موجهة لفئات من المماليك سقطت في النيل، فخيل لهم أن الضرب كان بذلك القصد.
وفر إبراهيم بك وأبو بكر باشا، وعولا على الفرار إلى سوريا، وهذه كانت نية إبراهيم بك من أول الأمر، كما يظهر من أخذه أهبته، وجمعه مقتنياته ... قال الشيخ الجبرتي، وهو في هذا الوصف الحجة الثقة ...
فلما استقر إبراهيم بك بالعادلية «الوايلية الآن» أرسل يأخذ حريمه، وكذلك من كان معه من الأمراء ... واستمر معظم الناس طول الليل خارجين من مصر، البعض بحريمه، والبعض ينجو بنفسه ولا يسأل أحد عن أحد، بل كل واحد مشغول بنفسه عن أبيه وابنه، والناس يضجون بالعويل والنحيب، ويبتهلون إلى الله من شر ذلك اليوم العصيب، والنساء يصرخن بأعلا أصواتهن من البيوت، فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر، البعض لبلاد الصعيد، والبعض لجهة الشرق، وهم الأكثر، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه، ومن لا يقدر على الحركة ممتثلا للقضاء، متوقعا للمكروه، وذلك لعدم مقدرته أو لقلة ذات يده، وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله.
وأي مصري، بل أي إنسان ذي عاطفة، يقف على ذكرى هذه الحال، ويتصور ما كان يجيش في صدور القوم من الآلام والأحزان، في تلك الليلة السوداء، التي زادت القوم مصائب على مصائبهم السابقة واللاحقة، ثم لا ينقطع نياط قلبه، أو تنحدر الدموع من عينه؟؟
وقال الشيخ الجبرتي: «والذي أزعج قلوب الناس بالأكثر أن في عشاء تلك الليلة شاع في الناس أن الإفرنج عدوا إلى بولاق وأحرقوها، وكذلك الجيزة، وأن أولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء!! وكان السبب في هذه الإشاعة أن بعض القلينجية «البحارة» من عسكر مراد بك لما تحقق الكسرة أضرم النار اغعليون الذي هو فيه (وهذا لا شك بأمر مراد بك وإن لم يعلم به الشيخ الجبرتي) وكذلك مراد بك، لما وصل من الجيزة أمر بانجرار الغليون الكبير من قبالة قصره ليصحبه معه إلى جهة قبلي، فمشوا به قليلا ووقف لقلة الماء في الطين، وكان به عدة وافرة من آلات حربية، والجبخانة، فأمر بحرقه أيضا فصعد اللهيب من جهة الجيزة وبولاق، فظن الناس، بل أيقنوا أنهم أحرقوا البلدين، فماجوا واضطربوا زيادة عما هم فيه من الجزع والفزع والروع.»
ولو كان إبراهيم بك، أو كان أبو بكر باشا، ذا حكمة وإخلاص، وشفقة على الرعايا، لشكل حكومة وقتية من الكبراء والأمراء، وهدأ خواطر الناس، وحافظ على السكينة والسلام حتى الصباح، وكان له أن يفر مع ذلك بمماليكه ونسائه وأمواله، إذا شاء، ولكن هكذا كان المماليك لا يعرفون من الواجبات إلا المحافظة على أرواحهم، واعتبارهم بقية الناس حشرات لا قيمة لهم.
وقال الشيخ الجبرتي: «وأخذ الناس يتلاحقون ويتسابقون، وخرجوا من كل صوب ينسلون ... وخرج أكثرهم ماشيا، أو حاملا متاعه على رأسه، وزوجته حاملة طفلها، ومن قدر على مركوب أركب زوجته وابنته، ومشي هو على أقدامه، وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات، وأطفالهن على أكتفاهن يبكين في ظلمة الليل» ... والعياذ بالله.
ثم أتبع هذه الصورة المؤلمة بما هو أشد منها إيلاما، قال عفا الله عنه:
واستمر الناس على ذلك الحال طول ليلة الأحد وصبحها، وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع، فلما خرجوا من أبواب البلد، وتوسطوا الفلاة تلقتهم العريان والفلاحون، فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم، بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته، أو يسد جوعته، وربما قتلوا من قدروا عليه، أو دافع عن نفسه ومتاعه، وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وفتكوا بهن، وفيهن المخدرات ونسوة الأعيان، وكانت ليلة وصباحها في غاية الشناعة، جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر، ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين، فما راء كمن سمعا.
ولما أصبح الصباح كان إبراهيم بك قد فر بحريمه وأمواله ومعه من تبعه من مماليك وغيرهم من البكوات، ويبلغ عددهم نحو ألف مقاتل، واصطحب معه أبو بكر باشا الوالي، وفروا جميعا قاصدين بلدة «بلبيس» وتركوا القاهرة بلا حاكم ولا وازع، ولا ندري إن كان الخطاب الذي بعث به نابوليون قد وصل إلى يد نائب الدولة العلية، وممثل جلالة السلطان بمصر، وخليفة المسلمين، أو لم يصل؛ إذ الرواة مختلفون في ذلك، فالجبرتي لم يشر إلى هذا الخطاب ولا علم له به، وكتاب الفرنسيين يقولون: إن ذلك الخطاب وقع في أيدي المماليك، ولم يعلم به أبو بكر باشا؛ إذ من المحتمل أنه لو وصل إلى يديه، ورأى أن قائد الحملة الفرنسية يقول: إن فرنسا صديقة السلطان، وإنه يريد أن يخلص البلاد من المماليك، ويحفظ سيادة الدولة العثمانية، لاختار البقاء في القاهرة، ليرى إن كان ما يقوله نابوليون صحيحا أو غير صحيح!!
ومن الغريب أن نابوليون كتب خطابا آخر للباشا الوالي في يوم 23 يوليو؛ أي: بعد يومين من الواقعة، وبعد مقابلته في الجيزة لكثير من العلماء والأعيان، الذين لا بد أنهم قد أخبروه بسفر الباشا الوالي مع إبراهيم بك إلى بلبيس، والظاهر أنه كتب ذلك الخطاب الثاني ليبعث به للباشا في بلبيس، على اعتقاد أو ظن، بأن الخطاب الأول لم يصله، وهذه ترجمة الخطاب الثاني الذي لم يظهر في كتاب من الكتب العربية، حتى ولا في كتاب الدحداح، الذي هو أوسع الكتب تفصيلا، لنقله عن المصادر الفرنسية:
إن نية الجمهورية الفرنساوية في احتلالها لمصر هي بقصد طرد المماليك الذين طالما شقوا عصا الطاعة على الباب العالي وعاملوا الحكومة الفرنسية بالعداء، والآن وقد تمكنت الجمهورية الفرنسية، بانتصار جيوشها، من وضع يدها على مصر، فإن من أقصى رغبات الجمهورية أن تحافظ على نفوذ ممثل جلالة السلطان، وعلى استحقاقه ووجوده، فلذلك أرجوك أن تؤكد للباب العالي أنه لم يخسر بوجودنا في مصر شيئا، وإنني سأحرص على أن تتلقى حكومة جلالة السلطان الجزية التي كانت ترسل لها من مصر.
1
بونابرت
وعلى كل حال فلم يأت هذا الخطاب بالنتيجة التي كان يريدها نابوليون؛ إذ لم يعد الوالي، ولم تثق الدولة في شيء من صحة هذه التصريحات.
قال الشيخ الجبرتي: «ولما أصبح يوم الأحد «8 صفر، 22 يوليو» والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم، ومتوقعون حلول الفرنسيس، ووقوع المكروه، ورجع الكثيرون من الفارين وهم في أسوأ حال من العري والفزع، فتبين أن الإفرنج لم يعبروا النيل إلى البر الشرقي، وأن الحريق كان في المراكب المتقدم ذكرها، فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الإفرنج، وينتظروا ما يكون من جوابهم، ففعلوا ذلك وأرسلوها صحبة شخص مغربي يعرف لغتهم وآخر صحبته.»
وفي كتب الفرنسيين أن الذين فكروا في فتح باب المخابرة هم جماعة من تجار الإفرنج في القاهرة وذكروا أنهم اجتمعوا بكخيا الوالي - نائبه - وأقنعوه بضرورة ذلك، فسمح لهم بالذهاب إلى البر الغربي لمقابلة القائد العام، وفعلا ذهبوا إليه، فقال لهم: الأولى أن يحضر إلي العلماء والمشايخ والأعيان، لأطمئنهم بنفسي.
وعندي أن رواية الجبرتي أقرب إلى التصديق؛ إذ لا يعقل أن أهل البلد لا يفكرون في حالهم، في ذلك الوقت العصيب، ويتركون لتجار من الأجانب النظر في هذا الأمر، وليس من البعيد أن يكون السعي قد حصل من الجانبين.
والشيخ الدحداح يقول في كتابه: «وفي الصباح اجتمع القاضي والأعيان، وقالوا: لا سبيل لنا إلا التسليم لمن فتح البلاد عنوة فاتفقوا على هذا الرأي وأتوا بقنصل فرنسا والتجار الذين كانوا قد سجنوهم في القلعة، وطلبوا إليهم أن يسيروا معهم إلى بولاق «والصحيح الجيزة»، ليطلبوا إلى بونابرت أن يقبل تسليمهم ويؤمنهم، فأشار عليهم القنصل بأن يرسلوا اثنين من الفرنسيين ومعهم محمد الكاتب الأول لإبراهيم بك، إلى الجنرال بونابرت فلما أتوه قابلهم الباشا وأمنهم على أموالهم وأنفسهم، وطلب إليهم أن يرسلوا إليه بعض القوارب لينقل بها فرقة من جيوشه لتدخل المدينة، وتمنع تعدي رعاع القوم على المنازل، فرضوا وأخبروا العلماء والأعيان بما كان، فبعثوا حالا بالقوارب إلى بر إمبابة فركبتها فرقة الجنرال ديبوي Dupey وكان العلماء والأعيان فيها فاجتمعوا بالجنرال فأمنهم ... فنزل الجنرال ليلا في منزل إبراهيم بك الصغير، وأرسل بعض الجنود إلى القلعة فاستولوا عليها.»
ورواية المعلم «نقولا الترك»
2
وهو من المعاصرين للحملة، ومن أنصار الفرنسيين تقول:
وكان أبو بكر باشا وإبراهيم بك حين انهزموا من بولاق وقلوبهم مفتر مات بالحسرات، وهم يتأسفون على ما فات، ثم أخذوا عيالهم ورجالهم، وخرجوا من المدينة من باب النصر، قاصدين البرية، والديار الشامية، وبقت بقية أهل القاهرة تلك الليلة بمخاوف وافرة ... وعند الصباح، اجتمع القاضي والأعيان، وقالوا إن الحكام ولت، وأحوالهم اضمحلت، فالتسليم لنا أصلح، وحقن دماء الإسلام أوفق وأربح، وقد ذكرنا أن القنصل والتجار الفرنساوية، «تحت اليسق» في قلعة الجبل، فأحضروهم وطلبوا منهم أن يسيروا معهم إلى بولاق، ويأخذوا لهم الأمان، فأشار عليهم القنصل أن يتوجه اثنان من التجار، ومحمد كتخدا إبراهيم بك، وساروا إلى بر إمبابة، وفي وصولهم تقدموا إلى الجنرال ديبوي، وترحب بهم وسألهم عن أحوال المدينة، وما مراد أهلها، فقالوا: إن الحكام ولت، والرعية ذلت، وقد أتينا من قبل علماء البلد والأعيان، نطلب لهم الأمان، فأجابهم الجنرال ديبوي: من ألقى سلاحه حرم قتاله، فلهم مني الأمان، ومن أمير الجيوش، ومن كل من في هذا المكان، وإنما يلزمكم أن ترسلوا المعادي والقوارب ... إلخ.
وظاهر من هذه الرواية المعاصرة أن الذين اجتمعوا هم القاضي وأعيان القاهرة، وأنهم قرروا في مداولاتهم الإفراج عن القنصل الفرنسي والتجار الذين كانوا مسجونين في قلعة الجبل، أو «تحت اليسق» كما كانوا يعبرون عن الاعتقال في ذلك الزمان.
وكيفما تكن الحقيقة بين هذا أو ذاك، فإن ما لا نزاع فيه هو أن الجنرال ديبوي عبر نهر النيل على قوارب ومعديات قدمها له المصريون في اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو سنة 1798، ودخل القاهرة مساء، «وساروا قدامه بالمشاعيل إلى أن دخلوا المدينة، والمنادية تنادي أمامه بالأمان، على الرعية والأعيان، وجلس الجنرال ديبوي في منزل إبراهيم بك الصغير وأرسل بعض الصلدات تسلمت قلعة السلطان» كما يقول المعلم «نقولا الترك» بلهجته، في رسالته.
وفي الصباح وجد أهالي القاهرة المنشور الآتي ملصقا على الحيطان، ولم نقف على نص هذا المنشور باللغة العربية، فلذلك نعربه نحن نقلا عن المصادر الرسمية الفرنسية وتاريخه 4 ترميدورستة 6 «22 يوليو» وهذا هو:
يا أهل القاهرة: إنني مسرور من سلوككم وقد أحسنتم صنعا بعدم اشتراككم في العمل لمقاومتي.
لقد أتيت هنا لأقضي على جنس المماليك وأبيده ولأحمي التجارة وحقوق البلاد الطبيعية.
فليهدأ بال من دخل الخوف قلبه، ونال الرعب منه، وليعد الذين تركوا بيوتهم إليها، ولتقم الصلوات اليوم في المساجد كما كانت تقام من قبل، وكما أريد أن تبقى دائما، ولا تخافوا شيئا على عيالكم وبيوتكم وأملاككم ولا سيما دينكم، دين النبي الذي أحبه وأقدسه.
ولقد أسرعت بتعيين رجال الشرطة حتى يعود الأمن إلى نصابه ولا يعبث به عابث، وسيكون لكم ديوان مؤلف من سبعة أشخاص يجتمعون في جامع «الدود» «كذا» ويكون اثنان منهم دائما متصلين بالقائد ويبقى أربعة منهم للاهتمام بحفظ الأمن ومراقبة الشرطة.» ا.ه حرفيا.
ومدهش أن الجبرتي لم يأت على نص هذا المنشور، مع حرصه على نصوص تلك المنشورات، وغاية ما ورد في كتابه قوله: إن الفرنساويين أعطوا الوفد الأول الذي قابل نابوليون «سواء أكان الرجل المغربي وصاحبه، أم بعض التجار وقنصل فرنسا، وكاتب إبراهيم بك» ورقة لتطمين أهل مصر، وعبارتها مغايرة للأصل الذي نقلنا تعريبه من المصادر الرسمية، وجاء الشيخ الدحداح بتعريب ذلك المنشور بعبارة مغلوطة ركيكة، تخالف كثيرا في نقطها الأساسية، الأصل الرسمي، ولم يذكره ولم يشر إليه المعلم نقولا الترك.
ورواية الجبرتي، بعد ذلك أصح من غيرها قال : «ولما رجع الجواب بذلك «وبعد ذلك المنشور» اطمأن الناس، وركب الشيخ الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون إلى الجيزة فتلقاهم نابوليون وضحك لهم، وقال لهم: أنتم المشايخ الكبار؟ فأعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا، فقال: لأي شيء يهربون؟ اكتبوا لهم بالحضور، ونحن نعمل لكم ديوانا لأجل راحتكم وراحة الرعية وإجراء الشريعة، فكتبوا منه عدة مكاتبات بالحضور والأمان، ثم انفصلوا من معسكره بعد العشاء، وحضروا إلى مصر واطمأن برجوعهم الناس وكانوا في وجل وخوف على غيابهم، وأصبحوا فأرسلوا الأمان إلى المشايخ فحضر الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والمشايخ، ومن انضم إليهم من الناس الفارين من ناحية المطرية، أما السيد عمر مكرم نقيب الأشراف فإنه لم يطمئن ولم يحضر.»
وكانت العامة من الأهالي لما علموا بفرار البكوات وكبار المماليك، انقضت على دورهم كالذئاب الخاطفة فنهبتها وأشعلت النار في بعضها، وبيع ما كان في تلك القصور والدور، من فرش ونحاس وأمتعة، بأبخس الأثمان، وهكذا الغوغاء تفعل في كل مكان وزمان، حيث لا راع ولا وازع.
قال «لاكروا»: واستمرت المخاطبات دائرة بين أهالي المدينة من جهة، والقائد العام من جهة أخرى، فيما بين الثالث والعشرين إلى الخامس والعشرين من شهر يوليو فلم يبق أحد ممن له حيثية في القاهرة لم يعبر النيل لملاقاة «السلطان الكبير»، كما لقب الناس بونابرت إذ ذاك «ولم نر في الجبرتي ذكرا لهذا اللقب» وتقديم واجبات الطاعة والخضوع له فكان نابوليون يقابلهم جميعا بالبشاشة والاستئناس ليبعث الطمأنينة في نفوسهم.
وكان يساعد بونابرت في تطييب خواطر القوم المترجم بينه وبينهم، وكان من ذوي الحصافة والعلم، وهو المستشرق المعروف مسيو فانتير
M. Venture
3
ولما عزم نابوليون على الانتقال من الجيزة للقاهرة، شرع أولا في أخذ الحيطة اللازمة للجيش وله، فأصدر أمره للجنرال «ديزيه» باحتلال الجهة الواقعة على بعد فرسخين جنوبي الجيزة، وإقامة الطوابي والمتاريس، ووضع المدافع اللازمة توقيا من هجوم مراد بك، وكذلك أمر الجنرال «دوجا» بإقامة خط دفاع عند نقطة الهرم توقيا من هجوم العربان، وبعث بونابرت بكميات وافرة من الغلال والأرز والمئونة إلى رشيد في القوارب لتموين الجيش والأسطول.
وفي يوم الأربعاء 25 يولية 11 صفر
4
عبر نابوليون بونابرت النيل ودخل القاهرة دخول الظافر الفاتح، ونزل في دار الألفي بك المطلة على بركة الأزبكية، وكان ذلك المنزل كما روى الجبرتي، في خط الساكت، وقد أنشأه محمد بك الألفي في السنة السابقة لدخول الفرنساويين وزخرفه وصرف عليه أموالا عظيمة، وفرشه بالرياش الفاخرة، فكأنه إنما كان يبنيه لأمير الفرنسيس، قال الشيخ الجبرتي: «ولما عدى كبيرهم، وسكن بالأزبكية لم يدخل المدينة إلا القليل منهم، فمشوا في الأسواق بغير سلاح ولا تعد بل صاروا يضاحكون الناس، ويشترون ما يحتاجون إليه بأغلى ثمن فيأخذ أحدهم الدجاجة ويعطي صاحبها في ثمنها ريال فرانسة، ويأخذ البيضة بنصف فضة، قياسا على أسعار بلادهم وأثمان بضائعهم.» وفات شيخنا الجبرتي أن أولئك الجنود قد امتلأت جيوبهم من ذهب المماليك وفضتهم، وأن الأموال التي يبتاعون بها البضائع ليست أموالهم! ثم قال: «فلما رأى منهم العامة ذلك أنسوا بهم واطمأنوا إليهم، وخرجوا لهم بالكعك والفطير والخبز والبيض والدجاج، وأنواع المأكولات وغير ذلك مثل السكر والصابون، والدخان والبن، وصاروا يبيعون لهم بما أحبوا من الأسعار، وفتح غالب السوق الحوانيت والقهاوي.»
ولنأت هنا على وصف كاتب فرنسي للأيام الأولى التي أعقبت دخول نابوليون مدينة القاهرة، وما أسرع في إصداره من الأوامر وتنفيذه من الأعمال ما ليس له أثر في المصادر العربية قال:
في 25 يوليه دخل القائد العام القاهرة ونزل في بيت الألفي بك الكائن بميدان الأزبكية والواقع طرف المدينة، وكان لهذا البيت حديقة جميلة تتصل من الجهة الخلاء ببولاق ومصر القديمة.
ولم يكد يستقر في هذا البيت، هو وأركان حربه حتى وجه عنايته للاعتناء بالمرضى والجرحى والنظر فيما يعود على الجند بالراحة والرفاهية، فأمر بأن ينشأ في أقل من ثمانية أيام مستشفى في بولاق لمائتي جريح، وآخر في مصر القديمة لمائتي مريض، وثالث في الجيزة لمائة من المرضى، ورابع في القاهرة لمائة آخرين، وأن يبني في الجيزة فرن ومخبز لكل قسم من إدارة الجيش، وفي بولاق ستة أفران ومخبز، وفي القاهرة ثلاثة أفران ومخبز، وأصدر أمرا خاصا بأن يكون الخبز الذي يقدم للجند من الدقيق النقي الذي لا يشوبه شيء غير دقيق الحنطة.
ولكي يحمي الأهالي ويؤمن المغلوبين على أمرهم صرح للقوافل بالمجيء بدون خوف إلى مصر، ورفع الحصار البحري عن الإسكندرية ليدع السفن التركية تدخل إليها، وليجعل التجارة حرة كالعادة.
وأصدر منشورا حث فيه العرب على الإخلاد إلى السكينة، وأن لا يحرجوا صدور الفرنسيس بقتالهم إياهم، وجعل العرب تحت حمايته ورعايته كأهل مصر، ونظم جيشا من الجنود الأتراك مؤلفا من خمس فصائل يبلغ عدد رجال كل منها 65 رجلا ووضعهم تحت قيادة الجنرال دبوي.
وصرح لنساء البكوات والمماليك اللواتي كن يهمن على وجوههن في ضواحي القاهرة بالعودة إلى منازلهن، وأن يضعن أيديهن على أملاكهن، وقال في هذا الشأن:
لما رأى القائد العام أن نساء البكوات والمماليك اللواتي يهمن على وجوههن في ضواحي القاهرة قد يقعن فرائس لرجال العرب، أخذته الشفقة التي يتحلى بها الرجل فأذن لكل نساء البكوات والمماليك بالعودة إلى المدينة، والإقامة في منازلهن التي هي ملك لهن واعدا إياهن بالأمان. ا.ه.
وطلب من كبار المشايخ أن يصدروا منشورا فأطاعوا وأصدروا منشورا نصحوا فيه المصريين بالخضوع لمن أرسله الله سبحانه وتعالى لإنقاذهم، هذا الرجل الذي يحترم النبي
صلى الله عليه وسلم ، والذي جاء لينتقم للمؤمنين من ظلم المماليك.
وثبت كبار المشايخ في مراكزهم وقراهم، وأعاد لهم كل الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها وأحاطهم برعاية لم يروها من قبل، ومن هؤلاء المشايخ ألف ديوانا لحكم البلاد كما فعل في الإسكندرية. ا.ه من المصادر الفرنسية.
وهكذا فتح الفرنسيون مصر واحتلوا عاصمتها، واستقروا في دور أمرائها وأسيادها، وتم لهم ما أرادوا وطارت كآبتهم التي لحقتهم في الطريق، وأخذوا يقتربون من الأهالي ويتوددون إليهم، كما رأى القارئ من عبارات الجبرتي وأقوال الكتاب الفرنساويين، وبشر نابوليون المصريين بعهد سلام ورفاهية ورقي وإصلاح وأكثر من الوعود والأماني ... فماذا تم على يد الفرنساويين؟؟ وهل كان عهدهم بمصر عهد إصلاح وسلام، أو كانت كل هاتيك الوعود والأحلام، كلاما في كلام!
هوامش
الفصل التاسع
النظام الذي وضعه نابوليون لحكومة مصر
كنت أظن قبل أن أجوس خلال هذه المباحث التاريخية، وأشغل نفسي بتحقيق نقطها وضبط موادها ، كما يليق بالمؤرخ الصادق، أن كاتبا عربيا قد حام حول الحمى، ووفى هذه الفترة القريبة منا شيئا من حقها التاريخي، ولكني لم أر واحدا ممن وضعوا المجلدات الضخام، قد أتعب نفسه وكلفها مئونة البحث الصحيح، الدال على إخلاص في خدمة التاريخ أو خدمة الوطنية، رأيتهم كلهم قد اعتمدوا على الشيخ الجبرتي، ونقلوا عنه حرفا بحرف دون تقدير لظروف الرجل وكفاءته، ومن غير نظر إلى أنه كتب تاريخه لا نقلا عن المصادر، ولا من أوراق ثابتة ذات قيمة أثرية، بل كان اعتماده على ما يصل إليه من أفواه الناس ورواة الأخبار، وغلطهم أكثر من صوابهم، هذا فضلا عن أن الشيخ الجبرتي يعترف في كتابه، أنه ابتدأ في جمعه وتنسيقه في السنة السادس والعشرين بعد المائتين والألف؛ أي: بعد ثلاثة عشر عاما من خروج الفرنساويين وستة عشر من دخولهم، فلا بد من وقوعه في أغلاط كبيرة وكثيرة، وكان من أقل الواجبات على إخواننا المؤرخين أن يلجئوا إلى المصادر الفرنسية، ويكملوا ما نقص منها، أو يقارنوا بينها وبين ما خالف منها أقوال الجبرتي، أفليس من المدهش والمحزن أن مؤرخا مشهور الاسم يلخص عن الجبرتي حرفا بحرف ويقع في أغلاطه؟ بيد أن الكتب الفرنسية موجودة مفصلة تصحح له الصواب، وتهديه إلى ساحل الحق، وإن غفرنا له ذلك لإسراعه في وضع ذلك السفر في مبدأ حياته العملية، فهل نغتفر لمثل حنا بك شارويم المصري الصميم صاحب الكتاب الكافي في أربع مجلدات ضخام؟ وهو ممن درسوا اللغة الفرنسية وتولى القضاء في المحاكم المختلطة، وما دونه في هذه النقطة التاريخية المهمة، أضعف من صاحبه وقد تابع الجبرتي في جميع أغلاطه وتخريفاته!! فالجبرتي مثلا يقول: «دخل نابوليون القاهرة في يوم الثلاثاء 10 صفر.» فينقلون عنه ذلك!!! ويقول الجبرتي بعد «وفي يوم الخميس 13 صفر أرسلوا يطلبون المشايخ.» وكيف يكون الثلاثاء 10 في الشهر والخميس 13؟ وكيف تابع أولئك المؤرخون المحققون الجبرتي في أغلاطه؟ وكيف يعقل أن نابوليون وأوامره ولوائحه ومنشوراته لترتيب شئون البلاد - كانت تنهال كالسيل عشرات في اليوم الواحد - يبقى بين الثلاثاء والخميس لا يشكل الديوان! ثم إن هنالك اختلافا في أسماء أعضاء الديوان الأول، بين صورة الأمر الرسمي الذي أصدره نابوليون، وهو محفوظ بنظارة الحربية الفرنسوية، وبين ما جاء في كتاب الجبرتي الذي جمعه بعد ست عشرة سنة!! فعلى من نعتمد؟ بالطبع لا تردد في الاعتماد على الأمر الرسمي، ولم يذكر الجبرتي شيئا عن النظام الذي وضعه نابوليون للمديريات، وتشكيل دواوين فيها للنظر في شئون الرعية، وكذلك لم يفعل مؤرخونا الحديثون! وبين نابوليون اختصاصات ديوان القاهرة، ولم يذكر الجبرتي عن هذه الاختصاصات شيئا، وكذلك فعل إخواننا المؤرخون!! وللجبرتي ألف عذر وعذر، ولكن بماذا نعتذر عن المؤرخين الحديثين؟؟
ويسوءني أيضا أنه لم يقم شخص واحد من رجال البعثات المصرية، الذين أوفدهم محمد علي وخلفاؤه إلى فرنسا، بجمع أو تعريب شيء من مئات الكتب والمذكرات المستفيضة، عن الحملة الفرنساوية بمصر، حتى بقي تاريخها مجهولا في هذه الديار، وحتى وجدنا في العشرة التاسعة من القرن التاسع عشر من يقصر اعتماده على الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الحبشي الأزهري، ولا يعرف سواه من المصادر الصحيحة والمواد الكثيرة التي تحير المؤلف لكثرتها، وسعة مواردها، والحق يقال إن مؤلف تاريخ فرنسا الحديث، سواء أكان هو البستاني أو الدحداح، قد ألم بكثير من المعلومات والبيانات، مع أنه بعيد عن مصر، والكتاب خاص في نظره بتاريخ فرنسا، ولم يك كاتبه أو معربه مصريا، أو قاصدا وضع تاريخ لمصر، ولو كانت عبارة ذلك الكتاب فصيحة، ووجه كاتبه همته إلى تحقيق أسماء الأشخاص، والأماكن في أصلها العربي، لكان ما جاء منه في تاريخ فرنسا بمصر، يستحق الثناء والإعجاب.
لا أكتب هذه الكلمة من باب التبجح والتعالي على من كتبوا قبلي في هذه الفترة، ولكني أكتبها من قبيل التذكرة من جهة، والآسف من أخرى ... للتذكرة لمن يكتب التاريخ بعدنا، وللآسف لأني كنت أحب أن أجد الطريق أمامي ممهدا لكيما أجد من وقتي متسعا لزيادة التعمق والتحقيق والاستنتاج، ولكيلا أقع فيما لا بد أن أكون قد وقعت فيه من الأغلاط، لتشعب المسالك وقلة المادة في المصادر العربية المصرية. •••
قبل أن نذكر النظامات العديدة التي وضعها نابوليون لإدارة البلاد المصرية، والتي لم تؤد إلى نتيجة فعلية، حتى في مدة وجود الفرنساويين هنا، بل ولم يبق لها أدنى أثر بعد خروجهم، نرى من الضروري خدمة للحق والتاريخ أن نعترف أن نابوليون كان مخلصا في نية الإصلاح وإن كان لم يوفق، وإذا كانت نتيجة حملته، قد جاءت بعكس ما أراد ولم تحدث غير الخراب والدمار، وفقدان الأنفس والأموال، والإخلال بالآداب، والإفساد للأخلاق، فما ذلك إلا للظروف التي أحاطت بنابوليون وحملته، والمقتضيات التي جاءت فوق طاقته، وسنعود إلى هذا ببيان أوسع، وإيضاح أكمل، في الحكم النهائي على نتيجة الحملة الفرنساوية في مصر، بعد أن يكون القارئ قد وقف على أصول القضية وفروعها.
وما ذكرنا هذه الكلمة الموجزة إلا تمهيدا لبيان أن خطة نابوليون في مصر مدة وجوده فيها وبعد سفره منها قد تطورت في أطوار مختلفة، باختلاف المؤثرات السياسية الخارجية عنها، الفعالة فيها.
ولكي يستنير القارئ ويسير معنا على هدى، نقسم له هاتيك التطورات إلى أدوارها، مع بيان الأسباب الطبيعية التي قضت بها، والتقسيم الذي سنأتي عليه هو من مبتكراتنا؛ إذ لم نر أحدا من الكتاب الأجانب أو غيرهم، قد فصله هذا التفصيل، كما أننا ما جئنا به إلا ليتمكن القارئ المصري الذي لم يدرس تاريخ أوروبا دراسة وافية، من الوقوف على أمهات النقط السياسية في تاريخ هذه الفترة.
تنقسم التطورات التي أشرنا إليها إلى خمسة أدوار:
الدور الأول:
من وصول الحملة إلى الإسكندرية إلى وصول نبأ واقعة أبي قير البحرية «من أول يوليو-13 أغسطس».
الدور الثاني:
من وصول الخبر بالواقعة البحرية «13 أغسطس» إلى ثورة مصر الأولى 21 أكتوبر سنة 1798.
الدور الثالث:
من تاريخ الثورة المذكورة إلى مغادرة نابوليون مصر 23 أغسطس سنة 1799.
الدور الرابع:
مدة زعامة كليبر إلى قتله «22 أغسطس سنة 1799-14 يونيو سنة 1800».
الدور الخامس:
مدة زعامة مينو إلى خروج الفرنسيس نهائيا من مصر في 2 نوفمبر سنة 1801.
الفصل العاشر
الدور الأول (من 1 يوليو-13 أغسطس)
من احتلال الإسكندرية إلى واقعة أبي قير
لما احتل نابوليون الإسكندرية، وسار بجيشه حتى وصل إلى قصبة الديار المصرية، لم يكن يقوم بذهنه طول البقاء بمصر بالنسبة لذاته شخصيا؛ إذ المعروف أنه كان منذ سطعت شمس حياته، وتألق سنا مجده، ولاح كوكب شهرته في أوروبا، متطلعا إلى السيادة على فرنسا، وبواسطتها على أوروبا، كما أدرك ذلك فعلا بعد، ولذلك قالوا إنه لما أدرك أن حكومة الديركتوار تريد إبعاده عن فرنسا خوفا من شهرته التي نالها، ومحبته التي تمكنت في قلب الشعب الفرنسي، بردت نار حماسته التي اشتعلت بفكرة فتح مصر، ولكنه كان قد تورط في الأمر من جهة، ومن جهة أخرى التفت يمنة ويسرة عله يجد طريقة لأخذ السلطة من يد أولئك الحكام، فرأى كما صرح بذلك «لبورين»، «أن الثمرة لم تنضج بعد»
1
ققدم إلى مصر بحملته، وكان من أمره ما كان.
ونحن نريد أن نستنتج من هذا أنه لم يكن مصمما على البقاء في مصر، وكانت عينه متطلعة دائما إلى فرنسا، فكان همه موجها إلى وضع نظام حكومة راقية في هذه الديار ليكتسب بها مودة الشعب المصري وثقته، ويسعى في التودد إلى حكومة الباب العالي، فيوفق بين احتلال فرنسا لمصر، وسيادة جلالة سلطان آل عثمان، كما سبق لنا بيان ذلك، وعلى هذه الفكرة سار في الخطة التي وضعها لنظام حكومة هذه الديار، إلى أن علم أن نلسون الإنكليزي قد دمر أسطوله في واقعة أبي قير «وكان علمه بذلك بالضبط يوم 13 أغسطس، وهو قادم من مطاردة إبراهيم بك في مديرية الشرقية»، فعرف أنه قد حيل بينه وبين العودة إلى فرنسا، وأن مواصلاته بوطنه، ومصدر الإمدادات، بل قل الحياة له ولجيشه، قد انقطعت فلجأ إلى اتخاذ خطة أخرى، والأصح أن يقال، إلى توسيع خطته الأولى مع المصريين، كما سنشرح ذلك في حينه.
قلنا إن خطته في الدور الأول كانت قائمة على وضع نظام راق وحكومة عادلة لمصر مع التشديد على جيشه وضباطه بالمحافظة على العادات والآداب الشرقية، والتقاليد الإسلامية، فلذلك أصدر أمره يوم وصوله إلى القاهرة بتشكيل ديوان من علماء مصر وشيوخها، وهذه صورة لأمره الرسمي بتشكيل الديوان واختصاصاته.
معسكر القاهرة 7 ترميدور سنة 6 / 26 يوليو سنة 1798
بونابرت عضو المجتمع العلمي الأهلي وقائد عموم الجيش يأمر بما يأتي: (أولا):
تحكم مدينة القاهرة بواسطة ديوان مشكل من تسعة أشخاص. (ثانيا):
يتألف هذا الديوان من المشايخ، السادات، والشرقاوي، والصاوي، والبكري، والفيومي، والعريشي، وموسى السرسي، ونقيب الأشراف سيد عمر، ومحمد الأمير، وعليهم أن يجتمعوا في الساعة الخامسة مساء اليوم بمنزل «كخيا الشواهد» وعليهم أن ينتخبوا من بينهم رئيسا لهم وينتخبوا سكرتيرا «كاتم سر» من الخارج «أي: من غير دائرتهم» ويختاروا لهم كتبة تراجمة يعرفون الفرنساوية والعربية ولهذا الديوان حق تعيين اثنين من خيار الناس «أغات» لإدارة البوليس، وعليه أن ينتخب قومسيونا مؤلفا من ثلاثة آخرين يكلفون بمهمة دفن الموتى الموجودين في القاهرة وضواحيها. (ثالثا):
يجتمع أعضاء هذا الديوان كل يوم من الظهر ويبقى منهم ثلاثة أعضاء على الدوام في دار المجلس. (رابعا):
يقام على باب الديوان حرس فرنساوي وآخر تركي. (خامسا):
على الجنرال برتبة وقومندان المدينة أن يكونا عند الساعة الخامسة مساء اليوم بدار الديوان لإجراء ما يلزم لأعضائه، ولكي يفهموهم أن لا يعملوا شيئا ضد مصلحة الجيش.» ا.ه. •••
هذا نص أمر تشكيل واختصاصات الديوان الأول كما نشره «لاكررا» نقلا عن النص المحفوظ بديوان الحربية في فرنسا تحت نمرة 2837، وهو يخالف في بعض الوجوه - وربما كان في شكله فقط - ما كتبه الجبرتي في هذا الصدد، فقد ذكر الشيخ الجبرتى «أنهم «الفرنسيس» أرسلوا يطلبون المشايخ والوجاقلية عند قائمقام صاري عسكر، فلما استقر بهم الجلوس خاطبوهم وتشاورا معهم في تعيين عشرة أنفار من المشايخ للديوان وفصل الحكومات، فوقع الاتفاق على الشرقاوي والبكري والصاوي والفيومي والسرسي والعريشي والدمنهوري والمهدي والشبراخيتي والدواخلي.»
فالستة أعضاء الأول، هم كما ورد في أمر نابوليون الرسمي، وأما الأربعة الآخرون فقد ذكر مكانهم ثلاثة فقط؛ عمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ محمد الأمير، والسادات.
فأما السيد عمر مكرم فقد كان غائبا؛ لأنه خرج مع إبراهيم بك وأبي بكر باشا هاربا من وجه الفرنسيس، ولم يعد إلى مصر إلا بعد خروجهم، فمن المحتمل أن يكون نابوليون قد ذكره ليبلغه ذلك، وهو لا يزال في بلبيس، فيرتاح خاطره فيحضر، وأنه انتخب واحدا من العلماء الثلاثة الدمنهوري والشبراخيتي والدواخلي، وأما الشيخ محمد المهدي فمن المؤكد أنه انتخب ليكون «كاتم سر وباشكاتب الديوان الخصوصي» وأما شيخ السادات فقد ذكره نابوليون في أول أمره المشار إليه، ولكن لم يرد ذكره كعضو من أعضاء الديوان، في كتاب الجبرتي، وأما المعلم نقولا الترك، فقد خلط وخبط فقال: «ابتدأ نابوليون في النظامات لمدينة مصر فأحضر أولا خمسة من الأسماء الكبار وهم الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ خليل البكري والشيخ مصطفى الصاوي والشيخ محمد المهدي والشيخ سليمان الفيومي، وأحضر معهم اثنين من الوجاقات وواحد من التجار وهم علي كتخدا باشي ويوسف شاويش باشي والسيد أحمد المحروقي، وأفرز إلى هؤلاء محلا معينا، وعين لهم علائف «مرتبات» شهرية وأقامهم رؤساء في ديوان خصوصي.» ا.ه.
ونحن لا نعرف شيئا عن أولئك الاثنين من الوجاقلية؛ إذ لم نعثر على اسمهما في أي كتاب، ولكنا نعرف أن السيد أحمد المحروق لم يكن في القاهرة في ذلك الحين؛ لأنه فر مع إبراهيم بك، وبكير باشا، ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد واقعة الصالحية في 12 أغسطس أي بعد نحو عشرين يوما من هذا التاريخ، ومن الغريب أن يرد بعد هذا في رسالة نقولا الترك ذكر أسماء أعضاء الديوان الذين أمضوا على المنشور الذي وزعه نابوليون تحت أسمائهم ردا على المنشورات والأوراق التي كان يبعث بها إبراهيم بك ورجال الدولة لتحريض الأهالي على الفرنساويين «كما سيأتي ذلك في موضعه» وعددهم عشرة رجال وهم البكري والشرقاوي والصاوي والمهدي ومحمد الأمير والعريشي والفيومي والدواخلي والسرسي والدمنهوري، فلم يذكر من بينهم السادات، ولا الشيخ محمد الأمير مفتي المالكية، ولا الشيخ الدواخلي.
ولم يذكر الجبرتي الاختصاصات التي أعطاها نابوليون للديوان، ولكن ذكر أولا أنه حضر مع المشايخ في جلسة الديوان مصطفى كتخدا الباشا «وكيل الباشا الوالي» والقاضي «التركي» وهذا من الأدلة الكبيرة على رغبة نابوليون في إتباع السياسة التي شرحناها من حيث اتفاقه مع الدولة ومحافظته على حقوق السيادة العثمانية، ثم قال الجبرتي: «وقلدوا محمد أغا المسلماني أغات مستحفظات «محافظ» وعلي أغا السواري والي الشرطة وحسن أغا محرم أمين احتساب، وذلك بإشارة أرباب الديوان فإنهم؛ أي: «الفرنسيس» كانوا ممتنعين عن تقليد المناصب لجنس المماليك فعرفوهم أن السوقة في مصر لا يخافون إلا من الأتراك ولا يحكمهم سواهم.» وذكر الجبرتي أيضا أنهم قلدوا محمد بك كتخدا لبونابرته ومن أرباب المشورة الخواجة موسى كافوا وكلاء الفرنساوي ... «وصوابهما موسى كافوا وكاوي الفرنساوي» وعينوا مسيو جان بنو وكيلا للديوان.
هذا فيما يختص بنظام إدارة حكومة القاهرة، أما فيما يختص بداخلية البلاد فلم يذكر الجبرتي شيئا وكذلك لم نجد في كتاب المعلم نقولا الترك، ولا في كتاب البستاني الناقل عن كتب الفرنسيس، ولكن رأينا في المصادر الفرنسية، أن نابوليون ألقى عدة أسئلة على المشايخ أعضاء الديوان للاستفسار منهم عن أحسن الطرق لإدارة أحكام المديريات، فأجابوه على أسئلته بجوابات أعجبته وسر بها؛ ولذلك وضع النظام الآتي في أمر له بتاريخ 27 يوليو، ومحفوظ أصله في مخابرات نابوليون بنمرة 2858 وهذا تعريبه:
المادة الأولى:
يشكل في كل مديرية من مديريات القطر المصري ديوان مؤلف من سبعة أعضاء للنظر في شئون الأهالي، وليعرضوا علي كل شكوى تقدم لهم، وليمنعوا التعديات التي تقع من الأهالي على بعضهم، وليراقبوا المشبوهين وليعاقبوهم إذا اقتضى الحال بطلب قوة من قومندان الجهة الفرنساوي، وعلى هذا الديوان إرشاد الأهالي إلى ما يراه موافقا لمصلحتهم.
المادة الثانية:
يقيم في كل مديرية أغا من الإنكشارية تكون علاقاته متواصلة مع القومندان الفرنساوي، وتكون تحت أمرته قوة مؤلفة من سبعين رجلا من أهالي البلاد مسلحين لكي يسيروا في البلاد لتوطيد دعائم الأمن وإدخال الناس في دائرة الطاعة والطمأنينة.
المادة الثالثة :
يقيم في كل مديرية مدير لجباية أموال الميري وتحصيل جميع ضرائب الأطيان، وجمع إيرادات أملاك المماليك التي أصبحت الآن ملكا للجمهورية الفرنسية، ويكون تحت إدارته العدد الكافي من العمال اللازمين لذلك.
المادة الرابعة:
يعين مع المدير المشار إليه آنفا وكيل فرنساوي للمخابرة مع إدارة ديوان المالية ولتنفيذ الأوامر التي تصدر له من هذه الجهة ويكون تابعا لها. ا.ه.
بونابرت
ووضع نابوليون عدا ذلك مذكرة تقضي بتثبيت جميع الملاك في أملاكهم، وبالمحافظة على الأوقاف التابعة للمساجد والمعاهد الدينية، وأن تستمر المعاملات التجارية والمدنية على ما كانت عليه، وأن يبقى السير في الأعمال القضائية على ما كان عليه. •••
فأنت ترى من هذا النظام أن نابوليون قد وضع المهم من سلطة إدارة أمور البلاد في أيدي أبنائها، مكتفيا بالرقابة العامة، ولكن البلاد كانت خالية من الرجال المصريين الذين يصلحون لتولى مهام هذه الشئون، بدليل اختيار أعضاء الديوان في القاهرة بعض رجال المماليك لتولي إدارة الأحكام، وقد ذكر المعلم نقولا الترك أن محمد أغا المسلماني الذي عين محافظا لمدينة القاهرة أرمني اعتنق الإسلام، وتعيين أغا من الإنكشارية بقوة مسلحة تحت يده معناه بقاء السلطة الفعلية في أيدي أولئك العتاة الظالمين.
ومع وضع هذا النظام الشبيه بالدستوري في شكله، ومع عظيم تودد الفرنساويين للمشايخ والأعيان والعلماء والمسلمين عامة، فإن ذلك لم يمنعهم من فرض ضريبة فادحة على مدينة القاهرة فقد روى الجبرتي، أنهم في يوم السبت «28 يونيو» اجتمعوا بالديوان وطلبوا دراهم سلفة، وهي مقدار خمسمائة ألف ريال «مائة ألف جنيه» من التجار والمسلمين والنصارى والقبط والشوام وتجار الإفرنج أيضا، وأما المعلم نقولا الترك فيقول في رسالته: «وكان أمير الجيوش بونابرته بعد دخوله إلى أرض مصر أحضر تجار ديوان البهار المعروف بديوان البن الوارد من الأقطار، وطلب منهم ألف وستمائة كيس، وطلب من الأقباط المباشرين الدواوين ألف وستمائة كيس، أخرى ومن تجار النصارى ثمانمائة كيس، وتسلم تلك الأربعة آلاف كيس ستة أيام ووعدهم بوفائها عندما يروق الحال ويتسع المجال.» ا.ه، فإذا كانت قيمة الكيس كما ذكرها «بيريه» ستين جنيها، تكون الضريبة التي فرضها نابوليون على القاهرة 240000 جنيه.
ثم أخذوا أيضا يجمعون الأموال بطرق شتى، ويحصلون على الغنائم ومقتنيات المماليك بأساليب عديدة، فمن ذلك أنهم نادوا على نساء أمراء المماليك بالأمان وأنهن يسكن بيوتهن، وإن كان عندهن شيء من متاع أزواجهن يظهرنه، فإن لم يكن عندهن شيء يصالحن على أنفسهن، ويأمن في دورهن! قال الجبرتي: «فظهرت الست نفيسة زوجة مراد بك وصالحت عن نفسها وأتباعها من نساء الأمراء والكشاف بمبلغ قدره مائة وعشرون ألف ريال فرنساوي «24000 جنيه»!
ثم قال أيضا: إنهم جمعوا أموالا طائلة من بقية نساء الأمراء، وصاروا يعملون عليهن إرهاصات وتخويفات، وكذلك مصالحات على الغز والأجناد المختلفين والغائبين والفارين فجمعوا بذلك أموالا كثيرة.
ولم يكتفوا بكل هذا بل طلبوا الخيول والجمال والسلاح والأبقار فحصلت عليها مصالحات «أي: دفع الناس بدلها أموالا».
وصاروا يفتشون الدور ويستخرجون الخبايا والودائع ويستعينون بالخدم للاستدلال على مستودعات أسيادهم، وفرضوا ضريبة أخرى غير السابقة على أهل الحرف من التجار في الأسواق، فلأي سبب كانوا يجمعون هذه الأموال، وبأي حق كانوا يصادرون الناس وفي أي شريعة يدفع النساء إتاوة للإقامة في دورهن؟ إن من حقوق الفاتح أن يغنم ما يقع في يده من الغنائم التي يتركها العدو في ميدان الحرب، وله حق مصادرة أملاك أعدائه الذين حاربوه وماتوا في ساحة الوغي، وله أن يجمع السلاح ويتقي شر الثورات والقلاقل، ولكن جمع هاتيك الأموال على ذلك الشكل مما يسيء إلى سمعة نابوليون وقواده وضباطه الذين جمعوا تلك الأموال، وقد روى بوريين عن نابوليون أنه عاد من حروبه في إيطاليا بمبلغ ثلاثة ملايين من الفرنكات، فلا شك أنه عاد من مصر بمثلها أو أكثر منها، وقل مثل ذلك عن القواد والضباط.
ولو أن هاتيك المصادرات وقعت على المماليك لقلنا تسلط الظالم على الظالم، ولكنها تعدت إلى أرباب الحرف من المصريين المساكين!
وفي الوقت الذي يتبجح كتاب الفرنساويين بأن بونابرت ما كاد يضع قدمه في مصر حتى أصدر أمره بالعفو عن الفارين، والسماح لنساء المماليك بالعودة إلى دورهن مطمئنين؛ نجد أنهم ما سمحوا لهن بالعودة إلا ليضربن عليهن هاتيك الضرائب الفادحة، ولقد روى الجبرتي في أوقات مختلفة روايات عن تعرض الفرنساويين لنساء المماليك ومصادرتهن، وخلق الأسباب لدعوتهن إلى منازل الحكام مما يخجل القلم من ذكرها، وحكاية عن زوجة رضوان كاشف، التي صالحت نفسها بألف وثلاثمائة ريال، ثم نهبوا بعد ذلك بيتها، بحجة التفتيش على السلاح، وأخذوا كل ما فيه، وقرروا عليها بعد إهانتها وإقامتها ثلاثة أيام عندهم أربعة آلاف ريال أخرى، ليست الوحيدة في بابها.
ولا غرابة في ذلك فما خرج الكثير من أولئك الضباط والمقطوعين من موظفي الجيش إلا بقصد الحصول على الثروة، وما نقول هذا من عندنا، فقد جاء في كتاب «ميو» الذي سبقت الإشارة إليه قوله في الصحيفة الثالثة من مذكراته ما يأتي تعريبه:
أي ميدان واسع فتح أمام أصحاب النفوس الثائرة التي نفذ منها الصبر وكان أصحاب المطامع يرقبون المستقبل لكي يزيدوا ثروتهم.
وكان كل منهم يأمل خيرا في هذه الحملة العظيمة، وكان القائد العام يمنيهم غالبا بالأقوال الخادعة ويدفع فيهم حب العظمة والثراء، وكان جنودنا قد اعتادوا في إيطاليا الثراء والغنى عن نفقات البلاد التي فتحت، وكانت مصر أمام أعينهم منجما مهملا، وبلادا عذراء لم تستغل بعد، ولم تمسها الأيدي العاملة. إلخ إلخ.
فعل الفرنساويون ما فعلوه لاغتصاب الأموال، وهم ثملون بخمرة الفوز في الوقت الذي كان فيه أسطول نلسون يغرق ويحرق أسطولهم في أبي قير في موقعة بحرية قضت على آمالهم في هذه الديار قضاء مبرما، فما كان أصدق قول الشاعر عليهم في تلك الآونة:
يا نائم الليل مسرورا بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
في الوقت الذي كانت فيه العمارة الفرنساوية تلاقي البلاء من مواقع الإنكليز كان نابوليون في القاهرة يستعد لتجهيز حملة لمطاردة إبراهيم بك، ومن معه من المماليك النازلين في بلبيس.
في الدور الأول أيضا بعد الواقعة
يخطئ من يظن أن الفرنساويين بمجرد قهرهم المماليك في واقعة إمبابة واستيلائهم على مدينة القاهرة عاصمة الديار المصرية، قد تملكوا هذه البلاد وخضع لهم فيها البعيد والقريب، قلت هذا لأن ما كتبه إخواننا المؤرخون الحديثون يترك لأول وهلة في نفس القارئ ذلك الأثر، والحقيقة أن الفرنساويين لم يستقر لهم في مصر قرار بغير حرب وقتال منذ وضعوا قدمهم فيها، إلى يوم خروجهم منها، وأنهم وإن كانوا قد ملكوا عاصمة الديار، وأصدروا الأوامر، وأنشئوا الدواوين، فإن سلطتهم لم تكن قد توطدت إلا في الجهات التي مروا فيها، وفي الثغور التي احتلوها كالإسكندرية ورشيد، وأما ما دون ذلك فقد كان إبراهيم بك لا يزال بقوة كبيرة من المماليك في الشرقية، وكان مراد بك بقوة أخرى قابضا مسيطرا على الوجه القبلي، وكانت مديريات الدقهلية والغربية غير خاضعة للسلطة الفرنسية، وقد كتب مسيو «ميو» من الذين رافقوا الحملة في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه كلمة نرى من تعظيم الفائدة تعريبها بإيجاز، قال:
إننا وإن نكن قد احتللنا القاهرة، وصرنا سادة فيها، إلا أننا كنا أشبه بالمحصورين منا بالفاتحين؛ إذ كنا لا نستطيع الخروج عن دائرة المدينة، ومن ابتعد من الجنود لاقى حتفه، وكثيرا ما خسر الجيش من رجاله بهذه الصورة، وحتى الطريق من القاهرة لبولاق لم تكن مأمونة، وكانت مواصلاتنا محفوفة بالخطر بسبب العربان الذين كانوا يجرءون على الدنو من أبواب القاهرة فكأننا في حرب مستمرة، ولطالما ذكرتني الحرب بموقفنا في مصر وهكذا كل حرب أهلية؛ لأن احتلال جيش لبلد لا يريد أهلها إلا الحرية، يجعل ذلك الجيش معرضا للخطر فإما محو تلك الأمة، وإما ترك البلاد لأهلها، ومع أن الشعب المصري لم يقم من نفسه للتعدي علينا إلا أنه كان يميل ويعضد أعمال كل معاد لنا، ولو أن المصريين لم يكونوا على جانب عظيم من الضعف، وخور العزيمة أو كانوا متحمسين بفكرة الوطنية، لما بقي لفرنسي في أرض مصر أثر، خصوصا وقد امتنع عنا المدد وانقطع حبل الاتصال ببلادنا.
2
كانت هذه الظروف قاضية على نابوليون بإرسال الحملات المتوالية لجهات القطر المختلفة للاستيلاء عليها، وتوطيد قدم الفرنساويين فيها، فبدأ أولا بإيفاد حملة تحت قيادة الجنرال ديزيه إلى الصعيد لاقتفاء آثار مراد بك، وأرسل حملة أخرى تحت قيادة الجنرال فيال إلى دمياط وكلف كليبر قومندان نقطة الإسكندرية أن يرسل قوة كبيرة تحت رياسة الجنرال ديموي لاحتلال مديرية البحرية وعين الجنرال زانشكوك لمديرية المنوفية وعين مورت للقليوبية وفوجيير للغربية، ومع كل واحد منهم قوة عسكرية لفتح البلاد ووضع النظام الذي خصص لها، وكانت التعليمات الصادرة لجميع هؤلاء القواد محصورة في المسائل الآتية: (1)
تجريد الأهالي من السلاح. (2)
جمع الخيول اللازمة للخيالة الفرنسية. (3)
إنشاء أفران للخبز. (4)
إنشاء المستشفيات اللازمة. (5)
الاستيلاء على ممتلكات ومخلفات المماليك من أرض ودور وماشية. (6)
دراسة أحوال الأهالي وأخذهم بالشدة إذا اقتضى الحال فإن الطاعة عند هؤلاء القوم معناها الخوف.
ونحن لا ننوي أن نتبع هذه الغزوات بتفصيلاتها الوافية إلا فيما نجد منه فائدة في إظهار الروح المصرية أو بيان حال من الأحوال الاستثنائية فلطالما وقعت بين الفرنساويين والفلاحين المصريين معارك كثيرة في جهات مختلفة من جهات القطر لم أر لها ذكرا في الكتب العربية على الإطلاق، على أنه يحسن بأبناء كثيرين من أعيان القرى والبلدان أن يعرفوا اليوم أن آباءهم أو أجدادهم قد قاتلوا الفرنساويين حول بيوتهم وفي حقولهم.
ولنبدأ الآن بأهم المعارك التي دارت في أرض مصر بعد واقعة إمبابة، وقد سبق لنا القول في ختام الفصل السابق، أنه في الوقت الذي كان فيه نلسون يغرق ويحرق السفن الفرنسية، كان نابوليون يعد حملة قوية لمطاردة إبراهيم بك والقضاء على القوة الباقية معه في بلبيس؛ لأن وجود إبراهيم بك على مقربة من القاهرة، وفي طريق القوافل الذاهبة إلى السويس والقادمة من الحجاز، كتم لأنفاس القوة الفرنسية في القاهرة، وقد صادق أن المحمل المصري قد من الحجاز بعد بضعة أيام من احتلال الفرنساويين للقاهرة، وتصحب المحمل عادة قوة من الجند، وقد روى الجبرتي أنه في 20 صفر 1213 «3 أغسطس» وردت مكاتيب الحجاج من العقبة، فذهب أرباب الديوان إلى العسكر «يعني نابوليون» وأعلموه بذلك، وطلبوا منه أمانا لأمير الحج، فامتنع وقال: لا أعطيه ذلك إلا بشرط أن يأتي في قلة، ولا يدخل معه مماليك كثيرة ولا عسكر، فقالوا له ومن يوصل الحجاج؟ فقال: أنا أرسل لهم أربعة آلاف من العسكرية يوصلونهم إلى مصر، فكتبوا لأمير الحج
3
بذلك، ولكن إبراهيم بك كان قد سبقهم لذلك وطلب من أمير الحج أن يقدم بمن معه إلى بلبيس، وفعلا انضموا إليه، ولكنهم لاقوا بذلك عناء شديدا من تعدي العربان وإيذائهم، فكان ما حصل دافعا لنابوليون على الإسراع في مطاردة إبراهيم بك؛ لأنه اتصل به إن إبراهيم بك، بعد أن تقوى جانبه بالمدد الذي جاءه مع الحجاج، سيهاجم القاهرة من الشمال، وكذلك سيهاجمها مراد بك من الجنوب، فخاف نابوليون العاقبة فأخذ في الاستعداد لمحاربة إبراهيم بك، فكان أول عمله أن أصدر أمره للجنرال لكرك
Leclerc
بالزحف إلى جهة الخانكة، وكان «ميو» صاحب المذكرات في الفرقة التي سارت تحت قيادة هذا الجنرال، ويظهر من روايته أنه كان تابعا لقسم المهمات؛ لأنه روى عن نفسه فقال: كانت الساعة الخامسة من صباح 2 أغسطس حين برحنا القاهرة مارين بالقرافة حتى وصلنا القبة حيث كان الجنرال «دينيه» معسكرا ووصلنا يوم 3 أغسطس بلدة الخانكة دون أن نصادف مقاومة، ولما كنا قد صممنا على الإقامة طويلا في هذه النقطة أخذت في إعداد ما يضمن للجنود غذاءهم بأن شرعت في بناء عدة أفران للخبز وروي أيضا أنه في صبيحة يوم 5 أغسطس هاجمتهم قوة كبيرة مؤلفة من المماليك والفلاحين وبينما هم يشتغلون بمقاومتهم ثار أهل القرية «الخانكة» فصاروا يقتلون كل من يقع في يدهم من الفرنساويين، ودمروا الأفران التي بناها صاحبنا «ميو» وانتشب القتال بين الطرفين من صباح ذلك اليوم إلى مسائه، وكادت تدور الدائرة على الفرنساويين لولا أن قائدهم انسحب بمن معه من الجنود تحت جنح الظلام عائدا أدراجه إلى القاهرة، وكانت أخبار هذه الفرقة قد وصلت نابوليون فأصدر أوامره للقوات المختلفة بالسير إلى جهة الخانكة فاستردوها، وخرج نابوليون بنفسه يوم 7 أغسطس من القاهرة وسارت تلك القوة حتى وصلت بلبيس في يوم 9 منه.
أما إبراهيم بك فإنه لما علم بذلك انسحب بمن معه إلى الصالحية والجبرتي يقول إنه انسحب للمنصورة
4
أولا، وأرسل الحريم إلى القرين، ولم يذكر الجبرتي بالطبع شيئا عن واقعة الخانكة، ولكنه قال: «فلما كانت ليلة الأربعاء «يوافق 8 أغسطس» خرج كبيرهم بونابرته وكانت أوائلهم وصلت إلى الخانكة وأبي زعبل وطلبوا كلفة من أبي زعبل فامتنعوا «أي: أهلها» فقاتلوهم وضربوهم وكسروهم ونهبوا البلدة وأحرقوها.» ثم قال: «وفي ثامن عشر منه «من صفر يوافق يوم السبت 11 أغسطس» ملك الفرنساويون بلبيس من غير قتال ومن بقي فيها من الحجاج فلم يشوشوا عليهم وأرسلوهم إلى مصر ومعهم طائفة من العسكر؟».
وهذه الرواية عن الحجاج ذكرها نابوليون في تقريره الرسمي الذي بعث به لحكومة فرنسا «الديركتوار» بتاريخ 19 أغسطس، وقد نشر نصه «لاكروا» وفيه ذكر نابوليون أن العربان فتكوا بالحجاج وسلبوهم، وأن تاجرا من المصريين أكد له أنه خسر من البضائع الهندية - من كشامير وغير ذلك - ما تقدر قيمته بمائتي ألف ريال، والتاجر المشار إليه هو السيد أحمد المحروقي كان حاجا في ذلك العام المشئوم، وروايته في الجبرتي هي أن «إبراهيم بك ومن معه من المماليك لما علموا بقرب الفرنساويين منهم، ركبوا في الليل وترفعوا إلى جهة القرين، وتركوا التجار وأصحاب الأثقال من الحجاج، فلما طلع النهار حضر إليهم جماعة من العربان واتفقوا معهم على أن يحملوهم إلى القرين وعاهدوهم، فلما توسطوا الطريق نقضوا عهدهم وخانوهم ونهبوا حمولهم وتقاسموا متاعهم، وعروهم من ثيابهم، وفيهم كبير التجار السيد أحمد المحروقي، وكان ما يخصه نحو ثلاثمائة ألف ريال فرنسي نقودا ومتجرا من جميع الأصناف الحجازية ... إلخ.» قال الجبرتي: «إن الحجاج عادوا إلى القاهرة تحرسهم شرذمة من الجند الفرنساوي فدخلوها، وهم في أسوأ حال وصحبتهم أيضا جماعة من النساء اللاتي كن خرجن ليلة الحادثة، وهن أيضا في أسوأ حال تسكب عند مشاهدتهن العبرات.»
ونحن نقول إن من الغريب في ذلك الزمن العصيب، أن تاجرا مصريا يكون من بعض ثروته تجارة يقدم بها من الحجاز تحت الخطر تقدر على رواية نابوليون، عن صاحبها، بمائتي ألف ريال، وعن الجبرتي بثلاثمائة ألف، والريال الفرنسي يقدر بخمسة فرنكات فتكون قيمة تلك البضائع التي خسرها السيد أحمد المحروقي ستين ألف جنيه على الرواية الثانية، «وقد استعمل نابوليون في تقريره الرسمي كلمه “écus”
عن الريال، والمعروف أنه بخمس فرنكات»، وأربعين ألفا على الرواية الأولى!!
وفي يوم الجمعة «17 صفر/10 أغسطس» وصلت مقدمة الجيش الفرنساوي إلى الصالحية، وكانت تلك المقدمة مؤلفة من نحو ثلاثمائة من الخيالة وكان فيها نابوليون فالتقت بهذه القوة، قوة كبيرة من مماليك إبراهيم بك، ودارت معركة ظهرت فيها بسالة المماليك ومهارة فرسانهم على الخيالة الفرنساوية، وكادت تدور الدائرة على نابوليون ومن معه، لولا أن أدركته البيادة والطوجية فلم يستطع فرسان المماليك الوقوف أمامها، وقتل وجرد من الفرنساويين عدد كبير ومن بينهم كثيرون من الضباط الكبار، وترى وصف هذه المعركة في مذكرات«ميو» الذي شهد الواقعة بعينه وأطرى مهارة فرسان المماليك إطراء عظيما.
وفي أثناء اشتباك المعركة كان إبراهيم بك قد أعد عدته للرحيل إلى الديار الشامية فتمكن من نقل كل ما أخذه معه من المقتنيات الثمينة والأموال الكثيرة، وسار في جمع كبير من رجاله ونسائه وسراريه ومعه أيضا السيد أبو بكر باشا والي الدولة العثمانية في الديار المصرية، وإليك ما يقوله «ميو» في مذكراته وهو يؤيد رأينا السابق
5
قال:
ولقد بقي نابوليون لغاية اللحظة الأخيرة يمني نفسه بإمكان التأثير على والي الدولة بالبقاء في مصر، كما كان في زمن المماليك، وقد سبق لنا أن ذكرنا نصوص الخطابات التي بعث بها نابوليون من الإسكندرية ومن الجيزة لأبي بكر باشا، والآن نذكر أيضا أنه بعد استيلاء الفرنساويين على الصالحية، وفرار إبراهيم بك وأبي بكر باشا، كتب نابوليون خطابا أعطاه لأعرابي على هجين سريع ليلحق إبراهيم بك في طريقه إلى غزة، على أمل أن يتفق معه ومع والي الدولة، وهذا هو تعريب ذلك الخطاب:
المعسكر العام بالصالحية 12 أغسطس 1798
إلى إبراهيم بك
لم يعد عندك شك في تفوق الجيوش التي أقودها، وها أنت خارج أرض مصر وأمامك صحراء واسعة، وإنك لتجد في واسع حلمي كل ما تريده من نعمة وسعادة واطمئنان، فهل لك أن تبلغني في الحال رغباتك؟ وإني أعلم أن باشا «نائب» جلالة السلطان موجود معك، فليكن هو واسطة ورسولا للمخابرة بيني وبينك .
6
بونابرت
وليس لدينا أدنى دليل على وصول هذ الخطاب إلى يد إبراهيم بك، ولكن مما لا نزاع فيه هو أن نابوليون لم يتلق ردا ولا رسولا، حتى ولم يعد إليه الأعرابي الذي بعث الخطاب معه، ولو جاز لنا أن نتخيل وصول ذلك الخطاب فعلا فهل كان من الممكن أن يؤدي إلى اتفاق إبراهيم بك مع نابوليون، كما اتفق مراد بك بعد مع الفرنساويين؟؟
الجواب على هذا، أن كل الدلائل تفيد أن إبراهيم بك ما كان ليقبل مطلقا؛ لأنه قد أعد من قبل عدته للسفر، ولأن جميع المماليك كانت لهم ثقة في مقدرة الدولة على إخراج الفرنساويين من مصر، وما اتفق مراد بك معهم إلا بعد أن انتصر نابوليون على الجيش العثماني في واقعة أبي قير البرية، بعد هذا التاريخ بنحو سنة كاملة «25 يوليو 1799»، وما كان يعقل أن يكون والي الدولة العثمانية، رسول الاتفاق بين إبراهيم بك ونابوليون!! كما أنه لا يبعد أن تكون قد وصلت إلى إبراهيم بك وأبي بكر باشا أخبار من جهة العريش عن رغبة الدولة العثمانية في محاربة الفرنساويين ومطاردتهم من أرض مصر.
بقي علينا أن نأتي على الصورة التي كتب بها الجبرتي نبأ انهزام إبراهيم بك وفراره إلى الشام، فإن روايته في هذه النقطة غريبة، ويلاحظ القراء إننا بعد أن نشرح حادثة من الحوادث، نعود إلى رواية الجبرتي، وإننا نفعل ذلك بقصد المقارنة بين المصادر المختلفة، من جهة، وبقصد بيان ما كان يصل من الأخبار إلى القاهرة من جهة أخرى، مع إظهار الحالة العقلية التي كانت لطبقة المتعلمين من المصريين في ذلك الوقت، وهي التي يمثلها الجبرتي في أجلى مظاهرها، قال:
وفي يوم الثلاثاء 2 ربيع الأول
7
وصل الفرنساوية إلى نواحي القرين، وكان إبراهيم بك ومن معه وصلوا إلى الصالحية، أودعوا ما لهم وحريمهم هناك، وضمنوا عليها العربان وبعض الجند، فأخبر بعض العرب الفرنساوية بمكان الحملة فركب صاري عسكر «بونابرت» وأخذ معه الخيالة وقصد الإغارة على الحملة وعلم إبراهيم بك بذلك أيضا فركب هو وصالح بك «الذي كان أميرا للحج» وعدة من الأمراء والمماليك، وتحاربوا معهم نحو ساعة أشرف فيها الفرنسيس على الهزيمة لكونهم على الخيول، وإذا بالخبر وصل إلى إبراهيم بك بأن العرب مالوا على الحملة يقصدون نهبها فعند ذلك فر بمن معه على أثره وتركوا قتال الفرنسيس ولحقوا بالعرب وجلوهم عن متاعهم، وقتلوا منهم عدة وارتحلوا إلى قطيا. ا.ه.
فإن صحت رواية الجبرتي، فكأن نابوليون لم يسرع بالقوة الخيالة، التي قدرها كتاب الفرنساويين بنحو ثلاث مائة، إلا لينقض على مقتنيات إبراهيم بك وأمواله وعرض نفسه ومن معه بذلك للخطر الذي لم ينقذه منه إلا قوة المشاة التي أجبرت بنيرانها المماليك على الفرار على رواية الكتاب الفرنساويين - وأما غدر العربان بالمماليك في تعديهم على متاعهم، كما رواه الجبرتي، فأمر معروف مشهور.
والظاهر أن نابوليون كان يعلق أهمية كبرى على ما أخذه إبراهيم بك معه من المقتنيات والأموال، وإذا كان العربان قد نهبوا من واحد من الحجاج، ما تقدر قيمته بنحو ستين أو أربعين ألف جنيه، فكم يكون مع إبراهيم بك، وأبي بكر باشا والسيد عمر مكرم، ومئات من أمراء المماليك الذين لم يتركوا في القاهرة ليلة الواقعة «في إمبابة» شيئا ثمينا لم يأخذوه معهم؟؟ ولا ينسى القراء أن الكثير من ضباط نابوليون وقواده ورجاله، وهو في مقدمتهم قدموا مصر برغبة الإثراء وجمع الأموال، ولا نقول هذا جزافا فقد رواه يورين عن نابوليون، وكتب عنه ميو في مذكراته
8
فهل يا ترى كانت رغبة الحصول على ثروة إبراهيم بك، هي التي دعت نابوليون لكتابة ذلك الخطاب الأخير؟؟
بعد خروج إبراهيم بك ومن معه، من أرض مصر وتوجههم إلى غزة، لم يبق أمام نابوليون في تلك المنطقة إلا أن يعمل على تحصينها فأصدر أمره للجنرال «كافريللي» بإنشاء القلاع والطوابي والقشلاقات اللازمة في الصالحية وحواليها، وعين الجنرال رينيه قومندانا لحامية الصالحية ومديرا لمديرية الشرقية، وفي الوقت نفسه عين الجنرال دوجا لمديرية الدقهلية وكان اسمها مديرة المنصورة، وبعد أن أصدر لهم الأوامر كالتي أصدرها للمديرين السابق تعيينهم، برح الصالحية قاصدا القاهرة ولم يكد يبتعد عن تلك النقطة بنحو فرسخين، حتى التقى برسول «كليبر» قادما من الإسكندرية يحمل إليه أشأم الأنباء، وهو تدمير الأسطول الفرنساوي في أبي قير!!
المحاربات الفرعية في صعيد مصر والجهات الأخرى
أما وقد خصصنا هذا المبحث بالحروب التي قام بها الجيش الفرنساوي في أنحاء القطر المصري لنشر نفوذه في كافة الجهات، فعلينا أن نترك نابوليون عائدا للقاهرة بذلك السهم المسموم في أحشائه «نبأ تدمير السفن الفرنسية» وننتقل إلى الجهات التي وقعت فيها المعارك، حتى إذا فرغنا منها، لم يبق أمامنا إلا شرح الحوادث السياسية التي كانت نتيجة لازمة لمعركة أبي قير، وإعلان الدولة العثمانية الحرب على فرنسا، واتفاقها مع إنكلترا وروسيا أيضا.
وليس لدينا في المصادر العربية، لا في كتاب الجبرتي، ولا في كتب المؤرخين الحديثين، كلمة عن تلك الحروب، كما أنها ليست موجودة في المصادر الإنكليزية مطلقا، فاعتمادنا فيها يكون على ما كتبه الفرنساويون أنفسهم وتبعة الصدق والكذب في الرواية تقع عدلا عليهم.
ولنبدأ الآن أولا بأهم هذه الحروب، وليس بالطبع بعد إبراهيم بك إلا مراد بك، فنقول: إن مراد بك بعد واقعة إمبابة وفراره من الجيزة، اجتمع عليه بقية من بقي من المماليك في الفيوم وانضم إليه كذلك خصومه الذين كانوا في الصعيد، وكذلك التف حوله عدد عديد من العربان، وبهذا الجيش المكون من المماليك والعربان، اتخذ مراد بك مقره عند ناحية البهنسا في مديرية الفيوم، وكانت معه بقية من بعض السفن الحربية التي سلمت من الحريق في واقعة إمبابة، وهذه سارت في النيل إلى بلدة المنيا واستقرت أمامها، وألقت القوارب والمراكب الصغيرة التي تحمل المئونة والأدوات وبعض مستلزمات المماليك مراسيها في بحر يوسف بالقرب من «أبو جرج».
في 23 أغسطس أصدر نابوليون أمه للجنرال ديزيه بالسير لمقاتلة مراد بك بقوة مؤلفة من أربعة آلاف جندي، فشرع الجنرال «ديزيه» في مغادرة الجيزة حيث أقام منذ واقعة الأهرام، فأمر قوة من جيشه أن تنزل إلى النيل لتركب في السفن التي هيئت لنقلها، ورغما عن الفيضان الذي كان يغمر البلاد، نزلت فرقة من الجيش وسارت بها السفن مخترقة النيل حتى وصلت بني سويف في 26 أغسطس وتقدمت حتى وصلت بعد عناء شديد إلى بحر يوسف، وبعد أن قطعت ثماني ترع أخرى، وبحيرة كان الماء فيها قليلا وصلت السفن إلى البهنسا، فبغت مراد بك وأسقط في يده؛ لأن لم يكن ينتظر أن يصل الفرنسيون إلى هذه المدينة، وأمر رجاله أن يمروا على الضفة الأخرى من البحر اليوسفي ويذهبوا إلى الفيوم الواقعة غرب بني سويف، ولم يستطع الفرنسيون إدراكهم إلا بعد أن اجتاز آخر جمل لهم البحر.
ولما علم الجنرال ديزيه من الأهالي أنه توجد اثنتا عشرة سفينة محملة بالمئونة والذخيرة على مقربة منه أمر رجاله فاستولوا عليها رغم النار الحامية التي كان يصبها المماليك عليهم.
وكان في هذه المراكب بعض المماليك فلما رأوا أنهم واقعون في أيدي الفرنسيين ألقوا بأنفسهم إلى الماء، وتمكن الكابتن راب ياور الجنرال ديزيه أن يجرد اثنين منهم من السلاح بعد مقاومة شديدة؛ لأنهما رفضا التسليم ووجد في مركب من هذه المراكب الاثني عشرة ستة مدافع وذخائرها.
ولما جاء الليل لم يستطع الفرنسيون اقتفاء أثر العدو الهارب فأمر ديزيه جنوده بالراحة.
وعلى الجنرال ديزيه، وهو في البهنسا، أن مراد بك بعد أن أقام في هذه المدينة شهرا غادرها منذ ثمانية أيام وذهب اللاهون بقرب الفيوم حيث يقيم محمد بك الألفي وبعض المماليك، ولا تزال المواصلات بين اللاهون والبهنسا سليمة وأن البكوات عثمان رضوان وعمر ومماليك إبراهيم بك الصغير قد كلفوا بالمحافظة على البهنسا بجيش مؤلف من أربعمائة رجل من المماليك وقبيلتين من العرب، وقد أحضر أولئك العرب منذ ثلاثة أيام من أسيوط وأمروا بحماية الإمدادات التي تأتي من البلاد إلى البهنسا بطريق البحر اليوسفي، أما الجنرال ديزيه فلم يكن معه في هذه الحملة إلا الأورطة الأولى من الفرقة الواحدة والعشرين، أما بقية الفرقة فقد ظلت في المؤخرة.
وقد زحفت العمارة البحرية التي كانت للمماليك في أبي جرج إلى الأمام لتحمي حركات مراد بك وتقدم الجنرال ديزيه إلى ديروط الشريف ليقطع على هذه العمارة خط الرجعة، وتمكن الفرنسيون من إيقاف سبعة وعشرين مركبا محملة حبوبا وخضروات، فلما علم حسن بك قبودان السفن المصرية أن الفرنسيين طردوا المماليك من البهنسا، واستولوا على مقدار وافر من المؤن والذخائر، صعد بمراكبه في النيل قاصدا أسيوط ونزل فيها لينضم إلى مراد بك، أما العمارة الفرنسية فقد وجدت أنه يتعذر عليها السفر؛ لأن القتال كان معوجا والريح شديدة حتى اضطر الجنود أن يجروا المراكب بالحبال في مياه لا يزيد ارتفاعها عن منطقة الرجل، وأعياهم التعب فلم يستطيعوا السير بعد وصولهم إلى ملوي، وحينئذ أرسل الجنرال ديزيه عشرة من قواربه تحمل بعض المرضى من رجاله إلى بني سويف ليعالجوا هناك وظل هو وجنوده يترقبون وصول المماليك، ولكنه لم ير منهم أحدا.
وليس من السهل علينا أن نستمر في وصف تلك المعارك الثانوية المتقطعة، وليس لنا سوى المصادر الفرنسية، فهي بالطبع وجهة النظر الفرنسية، دون سواها كما أنه ليس في مقدورنا أن نقارنها بغيرها، وكم كنا نود أن نضرب صفحا عن هذه المحاربات، ولكن ضرورة ذكرها، لأول مرة في اللغة العربية أجبرتنا على أن نقتصر على ملخص لهاتيك الحوادث قطعة فقطعة، فإذا وجدها القارئ جافة فليعلم أنها رواية حوادث، وسلسلة محاربات متقطعة، وليس في الإمكان صياغتها بشكل آخر.
واعتمادنا في أخبار هذه الحوادث المتقطعة على كتاب «دنيس لاكروا» - المعنون «بونابرت في مصر»، قال بعد رواية ما تقدم:
في 14 أكتوبر شوهدت أول فصيلة من فصائل مراد بك مؤلفة من 150 مملوكا وبعض الأعراب في قرية بني قرة، فقابلتها فصيلة فرنسية مؤلفة من أربعمائة رجل وأكرهتها على الابتعاد عن ضفة النهر ليتيسر للجيش الفرنسي السير.
وفي 5 أكتوبر رأى الفرنسيون قوة أخرى من المماليك عددها ستمائة مملوك يسيرون بنظام على الضفة اليمني لبحر يوسف فأمر الجنرال ديزيه عمارته بالتقهقر نحو نصف فرسخ لكي ينزل منها الجنود، ولم تكد العمارة تنفذ الأمر حتى أرسل العدو فصيلة لتمنع هذه الحركة، ولكن حملة «القربينات» من الفرقة الحادية والعشرين لم تدع هذه الفصيلة تقرب من الشاطئ، ونزلت الفرقة ونظمت صفوفها بدون أن تلقى مانعا، وأمر الجنرال ديزيه في الحال بوضع مدفعين وبزحف الجيش لمقالة العدو، فتقهقر المماليك ببطء أمام الفرنسيين الذين كانوا يصلونهم نارا حامية مدة أربع ساعات، وفقد فرسان المماليك الذين كانوا تحت قيادة محمد بك الألفي بعض خيولهم، وحينئذ أمر الجنرال ديزيه جنوده بالراحة.
وفي 6 أكتوبر واصل الفرنسيون زحفهم وكانت العمارة تتبعهم رغما منشدة هبوب الريح، فرأوا جيش مراد بك قد احتل المرتفعات التي تشرف على النيل، وقد صف مراد بك جنوده وراء المرتفعات على خط طويل، فصف الجنرال ديزيه فرقته على هيئة مربعات يؤلف كل منها من مائتي رجل وأمر بالزحف حتى سار الفرنسيون على مقربة من مركز العدو، فأمرهم بالوقوف وحينذاك استطاع أن يرى مراد بك واقفا أمام خيمته يحيط به مماليكه وكشافة وكبار ضباطه فاصدر الجنرال ديزيه أمره بإطلاق النار ففتحت البنادق أفواهها واصلت العدو نارا حامية حتى اختل نظامه، وفر رجاله، لا ياوون على شيء، واقتفى الفرنسيون أثرهم يعملون السيف في رقابهم فقتلوا عددا عظيما من الرجال والخيل.
وكان مراد بك ينوي أن يجر الفرنسيين إلى الصحراء ليتمكن من إهلاكهم، ولكن الجنرال ديزيه لم يخدع بهذه الحيلة، وأمر رجاله أن لا يبتعدوا عن ضفة البحر اليوسفي ليستولوا على قوارب المماليك.
وفي 7 أكتوبر واصل الجنرال ديزيه الزحف حتى وصل إلى بلدة سدمنت حيث جمع مراد بك المماليك والأعراب من أعوانه وخيوله التي يبلغ عددها أربعة أو خمسة آلاف جواد فصمم على الاستيلاء على هذه المدينة مهما كلفه الأمر.
ومع أن مراد بك هزم في موقعة سدمنت شر هزيمة فإنه لم يستسلم لليأس، ولم يكف عن محاربة الجنرال ديزيه في بلاد الصعيد، ولذلك رأى هذا الجنرال أن الحاجة تدعوه للقضاء على قوات مراد بك وطرده إلى الصحراء، فاتخذ ديزيه مدينة بني سويف مركزا مؤقتا لقواته وجعلها قاعدته الحربية، وطلب من القائد العام للقوات الفرنسية في القاهرة إرسال الإمدادات اللازمة لإخضاع الصعيد، ولم ير بونابرت إجابة طلبات الجنرال كلها ، ولم يقبل أن يمده بكل القوات التي سأله إياها، ولكن الجنرال «ديفو» الذي كان في ذلك الوقت في القاهرة، سافر منها بقوة مؤلفة من 1200 من الفرسان و300 رجل من المشاة ومعه ستة مدافع، وستة قوارب حربية، مجهزة بالسلاح والمتاريس، وهذه القوة مكنت الجنرال ديزيه من امتلاك ناصية الصعيد، والبحث عن قوات المماليك والجيوش التي كانت تعاون مراد بك، والقضاء عليها قضاء مبرما.
وفي 3 يناير سنة 1799 التقى الجنرال ديزيه بفرقة من جيش مراد بك بقرب قرية السواقي، وسرعان ما وقع الأنظار عليها، حتى تهيأ الجنرال «ديفو»، لمحاربتها قصف رجاله وأمرهم بالهجوم فلم يستطع جيش مراد بك الوقوف طويلا، بل اختلت صفوفه، وولى الأدبار، والقوة الفرنسية مجدة في أثره، بعد أن ترك 800 قتيلا.
وواصل الجنرال «ديفو» الزحف بجيشه، حتى وصل طهطها في 8 يناير، واضطر جيشر مراد إلى التقهقر منها، بعد أن قذف الرجال الذين كانوا يدافعون عن المدينة بأنفسهم في النهر فغرق منهم عدد عظيم.
ولما رأى الجنرال «ديفو» أن العدو كر عليه ثانية بفصيلة من العرب والمماليك أمر بإطلاق النار فاستطاع أن يخضع كل مدن الإقليم، وأن يعيد المواصلات بينه وبين العمارة البحرية الصغيرة التي انتهزت فرصة قيام الريح، وواصلت السير فوصلت جرجا في اليوم السابع عشر من شهر يناير، وألقت مراسيها على الضفة اليسرى للنيل، واستطاع الجنرال ديزيه بفضل ذلك الاتصال أن يواصل فتوحاته، ولكن بعد أن أضاع ثمانية عشر يوما في حروب متواصلة مع العدو.
وعلم مراد بك بهزيمة جيشه في طهطا، ولكن في الوقت ذاته جاءته الأنباء مبشرة بصلحه مع حسن بك الجداوي وبوصول شرفاء ينبع وانضمام حسن بك إلى مراد بك ومعه ثلاثة آلاف مقاتل ومائتين وخمسين من المماليك.
وكان لحسن بك نفوذ عظيم في مصرالعليا، فأثرت أخبار صلحه مع مراد بك تأثيرا عظيما ووصل إلى الصعيد ألفا شريف من أشراف ينبع الذين كان يقودهم حسن بك بنفسه.
كان مراد بك ينسب هزيمته السابقة إلى عدم وجود جيش له من المشاة يحمي ذمارهم ويرد عادية الأعداء عنهم، وظن الآن أن القدر جاءه بما كان ينقصه؛ إذ علم أن ألفين آخرين من الأشراف قد تجمعوا في ينبع، ينتظرون وصول السفن لتحملهم وتجتاز بهم البحر الأحمر، ورأى مراد بك أنه أصبح وله جيش يبلغ عدده اثني عشر إلى أربعة عشر ألف مقاتل، فصمم على وضع مشروع جديد للقضاء على جيش العدو وإهلاكه.
أراد مراد بك أن يذهب إلى جرجا عندما يغادرها الجنرال ديزيه ليقوم على تحصينها ويؤيد العصاة فيها، وبذلك يكون وراء الجنرال ديزيه ويضطره إلى العودة للقتال بين المنازل حيث تكون النتيجة انتصار مراد بك، ولذلك بقي في الصحراء على الضفة اليسرى لقناة الصعيد الكبرى.
وفي 20 يناير سافر الجنرال ديزيه مخترقا الطريق بين النيل والقناة، وفي 22 يناير التقى الجيشان في آخر النهار في بلدة سمهود، وكانت القناة تفصل بينهما ولكن القناة كانت جافة لا ماء فيها.
أما الجيش الفرنسي فكان مؤلفا من خمسة آلاف من المشاة والفرسان وأربعة عشر مدفعا وعمارة بحرية صغيرة في النيل، وجيش العدو كان مؤلفا من 1800 من المماليك و7 آلاف من فرسان العرب وألفين من المشاة من أشراف ينبع وثلاثة آلاف من العرب ولا مدافع عندهم، فكان مجموع جيش العدو نحو ثلاثة عشر ألفا أو أربعة عشر ألفا من المقاتلين.
وفي يوم 22 تقابلت فصيلة الهوسار السابعة تحت قيادة القومندان دوبلسي بجيش العدو قريبا من أسوار قرية سمهود، وبعد قليل وصل الجنرال ديزيه فأمر مشاته أن يؤلفوا مربعين متساويين، وضع أحدهما على اليمين والآخر على اليسار، وجعل الفرسان في الوسط يؤلفون مربعا آخر وليكونوا في حمى المشاة، ومع ذلك تقدم العدو على المربعات كلها بدون خوف وأحاط فرسانهم وهم كثيرو العدد بالقوة الفرنسية وألقت جماعة من المشاة مؤلفة من عرب ينبع بأنفسها في القناة وبدأت تطلق النار بشدة، فكبدت ميسرة الفرنسيين خسائر فادحة، وحينذاك اضطر الجنرال ديزيه أن يأمر ضابطي أركان حربه وهما راب وسافاري بالهجوم على العرب ومعهما كوكبة من فرقة الفرسان السابعة من الهوسار، بينما أمر فرقة حملة القرابينات الحادية والعشرين أن تتقدم تحت قيادة الكابتين كليمانت على شكل طابور إلى القناة لتحصر قوة العدو، فنفذ ذلك الأمر بشجاعة نادرة، واضطر العرب إلى الفرار من وجه القوة الفرنسية تاركين خمسة عشر قتيلا وعددا كبيرا من الجرحى، ولم يفقد من فرقة حملة القرابينات غير رجل واحد أصيب بطعنة خنجر عندما أراد أن ينزع علما من أيدي الأعراب وسقطت سمهود في قبضة الفرنسيين، ومع ذلك بقيت عصابات عديدة من المماليك تتقدم صائحة صياحا مزعجا يعاونها عرب ينبع، وهي تريد استرداد سمهود من أيدي الفرنسيين، ولكن فرقة حملة القرابينات الحادية والعشرين تصدت لهم وأصلتهم نارا حامية واضطرتهم إلى التقهقر بعد أن كبدتهم خسائر فادحة، وفي ذلك الوقت انقض المماليك على المربع الذي كان تحت قيادة الجنرال فرانيت، بينما كانت فرقة من مشاتهم تضايق الفرقة التي كان يقودها الجنرال بليارد، غير أن نيران المدفعية الفرنسية الحامية قضت على تلك الجهود التي كان يبذلها العدو حتى اضطر بعد هجوم لم ير فائدة منه أن يولي الأدبار تاركا عددا كبيرا من القتلى والجرحى.
ثم صدر الأمر للجنرال ديفو أن يحمل على المماليك الذين كانوا تحت قيادة مراد بك وحسن بك فصدع الجنرال بالأمر وحمل على جيش مراد بك حملة صادقة، حتى اضطره للتقهقر فكان تقهقر مراد بك علامة التقهقر العام.
وهرب العدو والفرنسيون يعملون السيف في أقفيته مدة أربع ساعات، ولم يقف الفرنسيون إلا في فرشوط حيث وجدوا عددا عظيما من رجال العدو قد قضوا نحبهم، وهم متأثرون من جراحهم، ولم يفقد من الفرنسيين في تلك المعركة غير أربعة رجال، أما المماليك فقد قتل منهم أكثر من مائتين وخمسين رجلا بخلاف الجرحى الذين لا يحصى لهم عدد.
وأراد الجنرال ديزيه أن يقتفي أثر مراد بك في اليوم الثاني، ولكن العدو كان يحارب في بلاده وهو يعرف مسالكها جبالها ووهادها، أما المشاة والفرسان الفرنسيون فقد كان أنهكهم التعب ولا يستطيعون جر مدافعهم الثقيلة فاضطر الجنرال ديزيه أن يأمر جيشه بالمبيت في فاو يوم 22 وفي يوم 23 واصل الزحف حتى وصل دندره وعسكر بجيشه في خرائبها.
وفي يوم 24 زحف وسط سلسلة جبال ليبيا مخترقا وادي النيل، فشاهد على بعد آثار طيبة وهياكلها ذات المائة باب وفي 25 يناير بات الجيش الفرنسي بين الجبلين ووصل في يوم 26 إلى لسنا وكان المماليك يفرون أمام الجيش المنتصر، وهم يحرقون في طريقهم كل ما كان معهم من الخيام والمعدات بعد أن تفرقت جموعهم أيدي سبا.
أما مراد بك وحسن بك ففرا إلى بلاد البرابرة والتجأ فيها الألفي بك فاحتل الجنرال ديزيه أسنا، وأنشأ فيها استحكامات وبنى المخازن والأفران لصنع الخبز اللازم للجنود ومستشفى لتمريض الجرحى والاعتناء بالمرضى، وبقي الجنرال فرانيت مع فرقته في إسنا لمراقبة الألفي بك وحسن بك قائد أشراف ينبع، واجتاز الجيش أدفو وهي مدينة كبيرة على بعد عشرة فراسخ من إسنا، وكان ديزيه مجدا في مقابلة العدو يروم الإسراع في التنكيل به والقضاء على قواته، فاجتاز الجبال التي يجري بينها النيل، وكانت الجنود تسير بصعوبة وقد أنهكها التعب حتى وصلوا إلى قرية بنيان وباتوا فيها، وفي 12 فبراير عسكر الجيش الفرنسي في قرية أسوان وهي على الضفة الشرقية، وفي 3 فبراير تركها عابرا النهر وعسكر قبالتها، وهناك يبلغ عرض النيل 500 توان «مقياس طوله ستة أقدام أو 1,949 متر» وعندما ترك ديزيه الضفة اليسرى للنيل في المرة الأولى، بقي المماليك عليها؛ لأن الوادي هناك عريض بينما كانت المناورات الحربية مستمرة على الضفة اليمنى ومنها يستطيعون الوصول إلى سواحل البحر الأحمر.
وفي اليوم ذاته تمكنت فصيلة من الوصول إلى جزيرة أنس الوجود، وهي آخر حدود المملكة الرومانية القديمة، فوجدت بقرب شلالات النيل نحو خمسين قاربا محملا بأمتعة المماليك اضطروا لتركها أثناء فرارهم، ورفعت راية مثلثة الألوان على صخرة عالية هناك، حياها الجنود بين أصوات الأبواق ودق الطبول، وتناول الخطباء الكلام فشبهوا الفرنسيين بالرومانيين الذين امتلكوا مصر من أقصاها إلى أقصاها ، وكان الجنرال ديزيه ينوي أن يقيم معسكرات للجنود في البلاد من قرية أسوان إلى جرجا حتى يضمن إخلاد البلاد إلى السكينة، فترك في قرية أسوان الجنرال بليارد مع فصيلة من المشاة وغادر ديزيه سائرا بفرسانه، وقد قسمهم قسمين، أحدهما على ضفة النيل اليسرى، والآخر على ضفته اليمنى حتى وصل إلى إسنا في اليوم التاسع من شهر فبراير.
واضطر الجوع حسن بك أن يترك بلاد البرابرة ويغادرها مع أفراد أسرته ونسائه وأمتعته وكنوزه وثروته، ولكي يخلي محلا لمراد بك فإنه ذهب إلى ضفة النهر اليمنى حيث كان له أعوان ويملك هناك قرى، ولما علم الجنرال ديفو أن حسن بك اقترب من طيبة رأى أن يعبر النيل مع فرقة الرماة الثانية والعشرين وفصيلة الدراجون الخامسة عشر وفاجأه في يوم 12 فبراير.
ولما رأى حسن بك أنه لم يعد في استطاعته أن يعسكر في الوادي اضطر أن يفر إلى الصحراء ونزل هناك بجنوده.
واحتل الجنرال ديزيه إسنا ونشر أعلام الأمن والسكينة وعمل على تنظيم الأقاليم ورفع لواء العدالة، ولما علم من الرسل الذين أتوه من جهات مختلفة أن مراد بك غادر مكانه وابتعد عنه قاصدا إسنا وأسيوط، وأن الألفي بك ترك الواحات، وأن الأشراف وحسن بك خرجوا من الصحراء ونزلوا على ضفة النيل اليمنى، أسرع بالقضاء على مشروعات أعدائه فأمر الجنرال باليار أن يغادر أسوان ويذهب إلى إسنا مع كل جيوشه، ليقطع على الأعداء خط الرجعة وليملك ناصية الصعيد، وأمر الجنرال فرانيت أن يجمع جنوده ويسير بهم إلى أسيوط، وأمر العمارة البحرية أن تسير في النيل متبعة أثر الجنرال فرانيت الذي سافر بنفسه في 2 مارس ليضع يده على أسيوط قبل أن يصلها مراد بك، وقبل أن تتصل قواته بقوات الألفي، فوصل الجنرال فريانت إلى الصوامعة في يوم 5 مارس وكان هو في مقدمة الجيش، وقد أمر أن يهيأ مسكن لجنوده ودخل إلى هذه المدينة فقوبل بإطلاق النار من البنادق؛ إذ كان يحتل هذه البلدة نحو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف مقاتل من الفلاحين العصاة، فهجم عليهم الجنرال فرانيت من ثلاثة جهات حتى اضطر كثير منهم أن يرموا بأنفسهم في النيل وفي الغداة واصل الجنرال السير إلى جرجا فأسيوط حيث انضم إلى الجنرال ديزيه.
ورغما من ذلك فإن مراد بك استطاع أن يتصل بالألفي بك ويضم قواته إليه في أسيوط، وهناك علما أن الجنرال بونابرت استولى على العريش، ودخل سوريا ولكن بقي في القاهرة من الفرنسيين أكثر مما معه في الصعيد، وأنه أخلى القلعة وأن أهالي القاهرة قدموا له فروض الطاعة وصرح علماء الأزهر بأنه لو اقترب المماليك من العاصمة فإن الأهالي والمشايخ ينضمون إلى الفرنسيين؛ لأنهم سئموا الحرب ويريدون الجنوح إلى السكينة والهدوء.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الجنرال ديزيه كان مقتفيا أثر المماليك وهو لا يبعد عنهم أكثر من يومين، فاضطر مراد بك أن يفر إلى الواحة الكبرى والألفي بك إلى الواحة الصغرى، وتفرق المماليك في البلاد متنكرين بثياب الفلاحين.
ومع ذلك بقي حسن بك والشرفاء على ضفة النيل اليمنى، وما كادوا يجمعون جموعهم في قنا حتى علموا أن العمارة الفرنسية عاكستها الرياح بقرب بلدة البارود فأسرعوا لمهاجمتها، وكانت العمارة مؤلفة من اثنتي عشرة سفينة مسلحة بالمدافع الضخمة ومحملة بالمؤن، والذخائر، والأمتعة، وخزينة الحرب، وآلات الموسيقى ونقل نحو ثلاثمائة رجل، فقسم حسن بك جنوده إلى قسمين وجعل كل قسم منهما على كل ضفة من ضفتي النيل، وانضم إليه نحو 10 آلاف من الأهالي الذين دفعهم الطمع إلى السلب والنهب، وكانت المعركة شديدة، واحتل الأعداء الجزر النيلية والمآذن ولما لم يكن عندهم شيء من المدافع، هجموا على العمارة البحرية بإطلاق نار بنادقهم فتمكنت السفينة «إيطاليا» من أن تبدد شمل العرب وتوقع الاختلال في صفوفهم، ولكن هذه الخسارة التي أصابت العرب لم تفت في عضدهم ولم تثن عزيمتهم، فأسرعوا إلى النزول في النهر واستولوا عنوة على كل السفن تقريبا ونهبوا الذخائر وحاولوا الصعود إلى السفينة إيطاليا، والاستيلاء عليها، ولكن قبودان تلك السفينة وهو الكابتن «سوراندي» ضاعف جهوده وأمر بإطلاق نيران المدافع فحصدت صفوف المهاجمين، غير أنه عند اقتراب ساعة الفوز، كان الملاحون قد أصيبوا بجروح منعتهم من القيام بالمناورة بالسرعة اللازمة، فدفعت الرياح السفينة إلى تل من الرمال حيث سقطت وأحاط بها العرب من كل جهة ، فلما رأى الربان سوراندي أن لا أمل له في إنقاذها أشعل فيها النار بنفسه، ونسف ما فيها من الذخائر، وقضى نحبه فيها بعد أن قضى على المحيطين بها انتقاما لنفسه ولملاحيه وذخائره!! ووقعت السفن الأخرى في قبضة العدو فاستولوا على ما فيها، وقتلوا الملاحين وغنم العرب الخزينة وما فيها من المال، وكانت خسارة الجيش الفرنسي في تلك المعركة مائتي ملاح، وثلاثمائة جندي، والمجموع خمسمائة فرنسي، وهذه كانت أكبر خسارة تعرض لها الجيش الفرنسي في مصر، وكانت تلك الكارثة التي بقي ذكرها زمنا طويلا سببا دفع الجنود أن يتهموا قائدهم أنه أساء عملا في وضع العمارة تحت حماية قوة من جيشه، وأنه ارتكب غلطة كبرى؛ لأنه ظن أن العمارة تستطيع أن تقتفي أثر الجيش في وقت انخفاض مياه النيل.
ولما علم الجنرال بليار نزل في النيل، وسافر في الحال إلى إسنا وسار على ضفة النهر اليمنى حتى وصل إلى قنا، فعلم أن معركة شديدة دارت رحاها هناك، وأن الفرنسيين انهزموا شر هزيمة وفقدوا عددا عظيما من جنودهم وأموالهم وأمتعتهم.
وفي 8 مارس التقى الجنرال بليار بجيش العدو عند بلدة «قفط» وقد رفع رجاله رءوس الفرنسيين على أسنة حرابهم وتبعهم عدد كبير من الفلاحين يرتدون ملابس الفرنسيين التي سلبوها، وبأيديهم بعض الآلات الموسيقية التي غنموها، وقد ثمل الأعداء بخمرة النصر، ونادى حسن الجداوي بأعلى صوته مصرحا على رءوس الأشهاد، ومتنبئا أن ساعة الفرنسيين قد دنت، وحان يوم هلاكهم وأنهم من اليوم فصاعدا، لا يلقون غير الهزيمة بعد الأخرى، وأن المؤمنين سيكون نصيبهم النصر والفوز الأكبر.
ولما وقعت عينا الجنرال بليار على العدو، صف جيشه الصغير على شكل مربع، ووقف لمواجهة خصمه الذي أطلق عليه نيران البنادق، وحينئذ هجم الجنرال ومعه فصيلتان من الرماة الفرنسيين على حسن بك وجيشه ودارت رحى معركة حامية وانقض فرسان «الدراجون» على العدو والسيوف بأيديهم، فذبحوا ثلثي العرب وقتل المأجور لاباور اثنين منهم بيده، وغنم منهم ثلاثة أعلام، وبينما كانت المعركة دائرة، أطلقت المدافع نارها، فمنعت الشرفاء من التقدم لنجدة إخوانهم، ولكن المماليك انقضوا على الفرنسيين من الوراء، فقطعوا خط الرجعة على نحو 25 رجلا من الرماة الفرنسيين، وكانت معركة شديدة إذ اضطر الفرنسيون أن يقاتل الواحد منهم ستة من رجال العدو، وكان ذلك اليوم يوم مجد وفخار للجنرال بليار الذي أمكنه أن ينقذ جيشه ويطهر الصعيد من حسن بك ورجاله، ولما كانت المواصلات قد قطعت بين الجنرال بليار ونفدت ذخائره، أسرع بليار في العودة إلى قنا، فوصلها في 12 مارس ومنها كتب إلى الجنرال ديزيه في أسيوط يشرح له الموقف الذي كان فيه، وأنبأه أن المماليك ورجال حسن بك وعثمان بك وأعراب ينبع ذهبوا إلى جهة بئر البحر، فجمع الجنرال ديزيه في الحال سفنه التي بقيت له وسار في النيل يوم 18 مارس، وفي الغداة نزل البر، وسار بجيشه لينجد الجنرال بليار، وفر المماليك بعد هذه المعركة عائدين إلى السفينة بعد أن تركوا عددا عظيما من الجرحى والخيول في الصحراء، فأمر ديزيه الجنرال بليار أن يقتفي أثرهم ويبحث عنهم أين ذهبوا وعاد ديزيه إلى قنا ورتب قوة مؤلفة من فصيلة من الفرقة الواحدة والستين وكوكبة من فرقة الهوسار السابعة، وجعلها تحت إمرة الجنرال ديفو، وفي الوقت ذاته أمر القائد موراند قومندان جرجا أن يذهب إلى الضفة اليمني للنيل، ويبقى أمام جرجا حتى يقف في وجه العدو إذا تقهقر، ولما شعر العرب بحرج موقفهم لم ينتظروا حتى يسد الجنرال ديفو عليهم الطريق، ومروا على شاطئ النيل بقرب برديس، فلما علم قومندان جرجا بوصولهم، قام في يوم 5 إبريل عائدا إلى جرجا وأخذ معه 250 رجلا، وذهب للقائهم في برديس التي استولى عليها ولما شاهده أعراب ينبع والفلاحون والمماليك خرجوا منها وهم يصيحون صياحا عاليا، وأرادوا أن يصدوه عن برديس فلم يستطيعوا واضطروا إلى الفرار ليلا بعد أن تركوا عددا عظيما من القتلى، وحينئذ عاد القائد موراند إلى جرجا.
وفي اليوم التالي دارت رحى معركة جديدة؛ لأن أعراب ينبع ساروا إلى جرجا وهم ينهبون في طريقهم الأسواق، فترك موراندقوة في المدينة وسار للقائهم خارجها ففرق جمعهم وقتل من استطاع منهم أن يدخل المدينة، أما الباقون فهاموا على وجوههم في الصحراء، وقد فقد أعراب ينبع في هاتين المعركتين مائتي قتيل، أما الفرنسيون فجرح منهم عدد قليل.
ولما انهزم العرب في جرجا ساروا إلى طهطا لتدميرها وتحريض أهلها على الثورة، ولما علم القائد لاسال بخبرهم، أسرع في الحال بالفرقة الثانية والعشرين من الهوسار، والثامنة والثمانين، ومعه مدفع، فوصل إلى جهينة في الساعة الأولى بعد الظهر من يوم 10 إبريل، وكان أعراب ينبع فيها، فحاصرها بجزء من جيشه، وسار لمقابلة العدو بالجزء الآخر، ولما رأى الأعراب ذلك، انقضوا على الجيش الفرنسي وثبتوا أمامه بضع ساعات رغم نيران المدافع التي كانت تلتهم صفوفهم فقتل منهم عدد عظيم، ومن بقي حيا فر هاربا، وتمكن نحو مائتين منهم بفضل الأشجار أن يسيروا إلى الصحراء، وكان بين القتلى الشريف الذي تلى حسن بك في الزعامة، وقد هلك أعراب ينبع كلهم تقريبا، ومع ذلك فإن الجنرال ديفو لم يكف عن مطاردتهم، ولم يكد ديفو يصل أسيوط حتى علم أن الثورة قامت في بني عدي بقرب أسيوط؛ إذ قام أهلوها وهم أشجع سكان مصر بالانضمام إلى المماليك والعرب وأهالي دارفور الذين جاءوا مع القوافل من قلب إفريقية، وشاع أن مراد بك غادر الواحات ليكون على رأس أولئك العصاة، وأنه أرسل بقواته وكشافه لينظموا تلك القوة وليثيروا حمية العصاة.
وبينما كان الجنرال ديفو يحارب في بني عدي تلك الجموع ويعمل لإهلاكها والقضاء عليها، كان عرب الجمعيات والبقوشية يهددون المنيا، وقد ثارت أيضا القرى المجاورة لبني عدي، ولم يكن مع الجنرال «ديستريه» محافظ المنيا غير عدد قليل من الجنود وأمل أن يصله الإمداد حتى يتغير موقفه الحرج وسار إليه الجنرال ديفو لينجده، ولكنه وصل متأخرا ولم يستطع الجنرال «ديستريه» مقاومة العدو وطرده إلا بعد جهد عنيف ، ومع ذلك ذاعت إشاعة أن عرب ينبع واصلوا الزحف إلى بني سويف التي هبت فيها نيران الثورة، وفي القرى المجاورة، فأسرع الجنرال ديفو.
ولم يبق في الصعيد الأعلى غير حسن بك الذي انسحب منذ زمن طويل إلى القصير، وبقي فيها مطمئنا وأصبحت أسوان في قبضة يده، فأرسل الجنرال أيبار قومندان إسنا الكابتن رينو ومعه 200 رجل من المشاة للاستيلاء على أسوان، وهو إما يجهل عدد القوة التي مع حسن بك أو يظن أنها سارت مع القوافل، ولما علم حسن بك بوصول تلك القوة القليلة العدو تولاه الطرب؛ لأن الفرصة مكنته من الانتقام للمؤمنين، وأسرع بلقائها ومعه 180 مملوكا و200 من الأعراب و300 من البيادة، وعندما رأى الكابتن رينو تلك القوة العظيمة، لم تأخذه الدهشة ولم يتولاه اليأس، بل أمر رجاله أن يقفوا على هيئة مربع، ونادى فيهم بأعلى صوته «أيها الرفق! إن أبطال إيطاليا
9
لا يعبئون بكثرة عدد أعدائهم فليقاتل كل واحد منكم خصمه وأنا أقضي على الباقي منهم» ... فعلت هذه الكلمة فعلها في الجند وأثارت حميتهم، فلم يكادوا يطلقون بنادقهم أول طلقة حتى سقط من المماليك 100 على الأرض يمجون علقما ونجيعا، وبعد بضع ساعات تمكن الكابتن رينو من دخول أسوان ووضع يده على الأمتعة والجرحى، وجرح أيضا حسن بك وعثمان بك جروحا خطرة قضت على حياتهما بعد بضعة أيام، أما الكابتن رينو فلم يفقد من رجاله غير أربعة قتلى و15 جريحا، وكانت هذه المعركة أجمل معركة للفرنسيين في مصر، أما مراد بك فعندما علم بخبر تلك الكارثة فر إلى الصحراء، وهلك حسن بك والمماليك ولم يبق منهم غير شريف واحد من أشراف ينبع.
ولم يبق على الفرنسيين إلا أن يحتلوا ميناء القصير والواحة الكبرى والواحة الصغرى، ولكن شدة القيظ ووعورة الأرض اضطرتا الفرنسيين أن يؤجلوا إرسال الحملة إلى الواحات حتى شهر نوفمبر، ولكنهم رأوا أن يحتلوا القصير في الحال؛ لأن السفن الآتية من بلاد العرب وجدة وينبع كانت تأتي لتحمل الأرز والحنطة وبعض الحبوب الأخرى إلى الجزيرة ولا سيما مكة والمدينة ، فرأى الجنرال بليار أنه لا بد من امتلاك القصير في الحال وتحصينها.
وقد عد الصعيد منذ ذلك الوقت أنه قد تم فتحه ولم يبق على الجنرال ديزيه إلا أن يسير حملة لي الصحراء الكبرى للقضاء على قوة مراد بك، فرأى أن يعهد بها إلى الجنرال فراينت، ذلك القائد الذي اشتهر بالشجاعة والإقدام والمقدرة في الفنون العسكرية، وكان مراد بك في موقف يرثى له، وليس معه غير بعض المماليك والعرب، فهو لا يستطيع عملا ولا يخشى منه، ولذلك رأى الجنرال ديزيه أن يتفرغ لتنظيم البلاد فقسم الصعيد إلى قسمين وجعل عاصمة الأول أسيوط والثاني قنا، واختار لنفسه القسم الأول، وبقي في أسيوط وعهد بقنا إلى الجنرال بليار.
ولما خضع الصعيد واستتب الأمن أظهر الجنرالان قدرة فائقة في الأعمال الإدارية لم تكن أقل من قدرتهما في الأعمال العسكرية، وذهبا إلى القرى ليدبرا مع المشايخ والأهالي أمر حفر الترع وتطهيرها، وإقامة الجسور ووضعا مع رجال البلاد القادرين القواعد التي تضمن تحسين حالة البلاد، وعملا على اتفاق الحكومة مع الأهالي، وتركا الناس يهتمون بفلح أراضيهم، وكان أغنياء البلاد يتمتعون بثروتهم بدون خوف، وتغلب العقل والحكمة على الطباع فلم يهب الأهالي للانتقام، ولم يقصر الفرنسيون في محاكمة الجند الذين يعتدون على الأهالي حتى لقب بونابرت بلقب السلطان العظيم ولقب ديزيه بالسلطان العادل، وأرسل بونابرت إلى ديزيه كتابا يثني عليه قال فيه:
أرسل إليك يا مواطني الجنرال سيفا جميلا نقشت عليه هذه الكلمة - افتتاح الصعيد - وهو لم يفتح إلا بفضل مقدرتك وجهودك، وإنني أرى في تلك الهدية دليلا على احترامي لك، وإخلاصي لشخصك.
بونابرت
وأرسل أيضا إلى كل من الجنرال بليار والجنرال فراينت سيفا مزينة قبضت بالماس. •••
وإلى القارئ كل ما جاء في الجبرتي متقطعا عن المحاربات في الصعيد قال:
إنه في يوم الأربعاء أول ربيع الثاني سنة 1213 وردت الأخبار بأن مراد بك ومن معه لما بلغهم ورود الفرنسيس عليهم رجعوا إلى جهة الفيوم، وأن عثمان بك الأشقر عدا إلى البر الشرقي وذهب من خلف إلى أستاذه إبراهيم بك بغزة وخرج جماعة من الفرنسيس إلى جهة الشرق، ومعهم عدة جمال وأحمال فخرج عليهم الغز والعرب الذين يصحبونهم وأخذوا منهم عدة جمال بأحمالها ولم يلحقوهم، وفي ليلة الأحد 12 منه ركب كبير الفرنسيس إلى بر الجيزة وسفر عساكر إلى الجهة التي بها مراد بك، وكذلك إلى الجهة الشرقية ومعهم مدافع على عجل، وعينت عساكر إلى مراد بك وذهبوا إليه ببحر يوسف جهة الفيوم، وفي يوم الثلاثاء سافر أيضا جماعة من الفرنسيس إلى جهة مراد بك ومن معه والتقوا معهم وتراموا ساعة ثم انهزموا عنهم، واطمعوهم في أنفسهم فتتبعوهم إلى أسفل جبل اللاهون ثم خرجوا عليهم على مثل حالهم رجالا وتراموا معهم وكمنوا لهم وثبتوا معهم، وظهر عليهم المصريون وقتل من الفرنسي مقتلة كبيرة.
وجاء في حوادث شهر جمادى الأول قوله: «وفي يوم الخميس أول جمادى الأولى قدمت مراكب من جهة الصعيد، وفيها عدة من العسكر جرحى، وفي أول شعبان جاءت الأخبار أن مراد بك ومن معه سافروا إلى قبلي ووصلوا إلى عقبة الهواء، وكلما قرب منهم عساكر الفرنسيس انتقلوا إلى قبلي وقد داخلهم خوف شديد ولم تقع بينهم ملاقاة ولا قتال، وجاء في حوادث شهر رجب تواترت الأخبار من ابتداء شهر رجب بأن رجلا مغربيا يقال له: الشيخ الكيلاني كان مجاورا بمكة والمدينة والطائف فلما وردت أخبار الفرنسيس إلى الحجاز، وأنهم ملكوا الديار المصرية انزعج أهل الحجاز وضجوا بالحرم وجردوا الكعبة، وصار هذا الشيخ يعظ الناس ويدعوهم إلى الجهاد ويحرضهم على نصرة الحق والدين وقرأ بالحرم كتابا مؤلفا في معنى ذلك فاتعظ جملة من الناس وبذلوا أموالهم وأنفسهم واجتمع نحو الستمائة من المجاهدين، وركبوا البحر إلى القصير مع من انضم اليهم من أهل ينبع وخلافهم، وورد الخبر في أواخر رجب أنه انضم إليهم جملة من أهل الصعيد، وبعض الأتراك والمغاربة ممن كان خرج معهم مع غز مصر عند واقعة إمبابة ركب الغز معهم أيضا وحاربوا الفرنسيس، فلم يثبت الغز كعادتهم وانهزموا وتبعهم هوارة الصعيد والمتجمعون من القرى وثبت الحجازيون، ثم انكفوا فقلتهم وذلك بناحية جرجا وهرب الغز والمماليك إلى ناحية إسنا وصحبتهم حسن بك الجداوي وعثمان بك حسن تابعه، ووقع بين أهل الحجاز والفرنسيس بعض حروب غير هذه المرة في عدة مواضع وانفصل الفريقان بدون طائل. ا.ه.
هاتان هما الروايتان الموجودتان في كتب التاريخ الفرنسي والعربي أثبتناهما تعريبا ونقلا، وظاهر أن الجبرتي لم يكن يعلم شيئا عن أخبار فتح الفرنسيس لبلاد الصعيد، إلا ما يسمعه من أفواه الناس وما يصل من الأخبار المتقطعة إلى القاهرة، وظاهر أيضا أن هذه المحاربات في الصعيد بين المماليك والأهالي والعرب من جانب، والفرنسيين من جانب آخر، وقعت خلال الحوادث التي أفردنا لها الفصول الآتية، والآن ننتقل إلى نابوليون في القاهرة ونتبعه في غزوته للشام حتى نصل إلى نهاية أمره في أرض مصر.
هوامش
الفصل الحادي عشر
الدور الثاني (أغسطس-22 أكتوبر/10 جمادى الأولى)
من معركة أبي قير إلى ثورة القاهرة الأولى (1) معركة أبي قير البحرية
كانت معركة أبي قير البحرية التي أبصرها «دينون»
1
من برج «أبي مندور» بين الأسطول الإنكليزي الذي يقوده الأميرال نلسون، والأسطول الفرنسي الذي نقل جيوش الحملة الفرنسية لمصر تحت قيادة الأميرال «برويز»، من المعارك الفاصلة في تاريخ الجنس البشري؛ لأن النتائج التي ترتبت على تلك الواقعة كانت على جانب عظيم من الأهمية، بحيث لو أتيح النصر للفرنساويين، أو لو بقيت لهم من أسطولهم قوة تعادل ما لإنكلترا في البحر الأبيض المتوسط من القوة البحرية، لما كانت خاتمة الحملة الفرنسية في مصر كما تمت بعد ذلك، بل لما كانت خاتمة نابوليون في الشرق كله كما حصلت!!
ولو شاء الكاتب أن يضرب بالسهم الأوفر في ميدان التخيلات، وتصور المحتملات، لوجد الباب واسعا لمثل هذه التأملات! فقد كان من الممكن أن تبقى مصر مستعمرة فرنسية منذ ذلك الحين إلى الآن! ولقد كان من الممكن أن ينجح نابوليون في الاستيلاء على عكة والتوسع في مطامعه وأمانيه وآماله في الشرق، كما صرح بذلك «لبورين» في حديث سنأتي عليه، وكان من الممكن - نتيجة لازمة لذلك - أن لا يعود بالسرعة إلى فرنسا ليقبض على صولجان ملكها، ويدوخ الممالك، ويثل العروش، ثم يهوي كما يهوي الشهاب النازل!
ولقد أكد الثقاة أن الدولة العثمانية ما كانت لتنضم إلى إنكلترا في محاربتها فرنسا، وتتفق مع الروسيا، عدوتها التاريخية، لذلك الغرض إلا بعد أن وثقت أن قوة فرنسا في البحر الأبيض المتوسط قد تلاشت بعد وقعة أبي قير البحرية التي يقول عنها الإنكليز في كتاباتهم: «إنها لم تكن انتصارا فحسب، بل كانت فتحا»!
وليس مما يهم المؤرخ المصري أن يتوسع في تفصيل الحركات الحربية لتلك الواقعة؛ إذ سواء أأخطأ الأميرال «برويز» في أنه لم يعمل بنصيحة نابوليون، ويذهب بالأسطول إلى جزيرة كورفو ... وسواء أأخطأ في أنه حين أبصر الأسطول الإنكليزي لم يقابله في عرض البحر بدلا من البقاء راسيا في مياه أبي قير، وسواء أظن أن نلسون لا يهاجمه ليلا أم لم يظن ... فتلك مباحث تهم كتاب الإنكليز والفرنساويين والاختصاصيين من رجال الحروب البحرية، وأما نحن فلنا النظر إلى النتائج وأثرها في وطننا المصري وأمتنا المصرية، ويكفينا في هذا المقام، من قبيل ما تقضي به الضرورة التاريخية، أن نذكر أن الأميرال نلسون بعد أن رفض السيد محمد كريم السكندري السماح بتسويته، اضطر إلى مغادرة الإسكندرية قبل قدوم العمارة الفرنساوية بثلاثة أيام ثم قصد سواحل الشام لأخذ ما يلزمه من الماء والمئونة، ثم عاد أدراجه إلى المياه المصرية بعد شهرين تقريبا، فأبصر السفن الفرنسية في خليج أبي قير فلم ينتظر منها أن تلم شعثها، بحضور بحارتها الذين كان الكثير منهم في الإسكندرية ورشيد، وكان من صفات نلسون المعروفة، الإقدام والجرأة والمجازفة، وبذلك استطاع في ليلة واحدة أن يحطم السفن الفرنساوية، وأن يحرق ويغرق الكثير منها، بحيث لم يبق من تلك العمارة الكبيرة، إلا بضع سفن صغيرة بقيت في مياه أبي قير استعملها نابوليون بعد لنقل المدافع إلى يافا في حملته على الشام، واستطاع الكونتر أميرال فيلنوف
2
الهروب ببضع سفن فرنساوية إلى جزيرة صقلية ومنها إلى فرنسا.
ولقد بلغ من انتهاك قوة الأسطول الإنكليزي بعد هذه الواقعة الهائلة، أنه لم يستطع القضاء على البقية الباقية من السفن الفرنسية، وإن كانت قد وقعت هذه السفن الباقية، عند الحملة الشامية، غنيمة لسفن الأسطول الإنكليزي تحت قيادة السر سدني سميث.
ولنابوليون أقوال كثيرة في الانتقاد على الأميرال «بروبز» الفرنساوي وعلى الكونتراميرال فيلنوف الذي كان في إمكانه - على رأي نابوليون - أن يعود بالسفن التي فر بها ليقضي على الأسطول الإنكليز في نهاية الواقعة في منتصف الليل أو في الصباح، ولكتاب الفرنساويين مناقشات كثيرة في هذا الموضوع، بين مخطئ ومصوب، ومنتقد على برويز، ومعارض لنابوليون، نضرب عنها صفحا؛ لأنها كما ذكرنا خاصة بهم، غير أنه لا يفوتنا أن نذكر أن الفريقين من المتحاربين في واقعة أبي قير - فرنساويين وإنجليز - رجالا وضباطا وقادة، قد أظهروا في ذلك الوقت العصيب من صفات الشهامة والبسالة والتفاني في خدمة الوطن ما يجب أن يبقى درسا للأجيال الخالفة، وأن تتعظ به الأمم، وتتفاخر به الدول، فقد أصيب الأميرال «برويز» بقنبلة ألقته صريعا على ظهر باخرته الأوريان «الشرق» وأرادوا نقله إلى سفينة أخرى فقال: «أتركوني أموت هاهنا»! وأصيب نلسون الأميرال الإنكليزي بإصابات قطعت لحم جبهته فانهدل على عينه وظن أنه مات، ومع ذلك رفع اللحم بيديه إلى جبينه وعصبه، وبقي يصدر الأوامر لمتابعة القتال! ... وحكاية ذلك الفتى «كلاسيلانكا» ابن الضباط كاسبلانكا الذي بقي والنار تحرق الباخرة أوريان، لا ينتقل من مكانه؛ لأن أباه أمره بالبقاء فيه حتى احترق!! إلى غير ذلك من الروايات التي تهز الأوتار الحساسة، وتولد عواطف الحماسة، وتخلد في أعقاب الأمم الراقية شعور الوطنية والعواطف القومية!
ولقد سبق لنا أن ذكرنا أن نابوليون علم بنكبة أسطوله، وهو قادم من الصالحية، ثمل بنشوة الفرح والظفر على إبراهيم بك، ومن معه، وإن يكن قدا ساءه عدم استطاعته الحصول على ما كان مع إبراهيم بك وبقية الأمراء والمصريين من الثروة والخيرات، وقد روى «بوريين» في مذكراته أن كليبر قومندان الإسكندرية إذ ذاك، لما علما بنتيجة واقعة إبي قير، أوفد للقاهرة ضابطا من أركان حربه ببيان مفصل فلما وصل إلى القاهرة لم يجد نابوليون بها والتقى ببوريين كاتم أسراره، فعلم منه بتفاصيل الواقعة وكلفه بالسفر إلى الصالحية لملاقاة القائدة العام، وهناك التقى به على بعد فرسخين من الصالحية.
روى كتاب الفرنساويين أن نابوليون لما تلقى نبأ تلك الفاجعة أظهر التجلد، وأسرع بالعودة إلى القاهرة، فدخلها في يوم 15 أغسطس، وكانت الأخبار قد أشيعت في القاهرة، وشملت الكآبة من علم بذلك من الضباط والقواد، وقد روى الشيخ الجبرتي الحكاية الآتية، بمناسبة شيوع أخبار معركة أبي قير قال:
تحدث الناس بتلك الأخبار فصعب على الفرنساويين واتفق أن بعض النصارى الشوام نقل عن رجل شريف يسمى السيد أحمد الزور من أعيان التجار بوكلة الصابون أنه تحدث بذلك فأمروا بإحضاره وذكروا لذلك «كذا في الأصل» فقال: أنا حكيت ما سمعته من فلان النصراني فأحضروه أيضا، وأمروا بقطع لسانيهما أو بدفع كل واحد منهما مائة ريال فرنسية نكالا بهما، وزجرا عن الفضول فيما لا يعنيهما، فتشفع المشايخ فلم يقبلوا، فقال بعضهم: أطلقوهما ونحن نأتيكم بالدراهم فلم يرضوا، فأرسل الشيخ مصطفى الصاوي فأحضر مائتي ريال ودفعها في الحضرة.
فتأمل في هذه المعاملة الغريبة التي يظهر منها تغيظ الفرنساويين وشديد رغبتهم في أن لا يذاع نبأ تحطيم عبارتهم، ويظهر أن الفرنساويين الذين فعلوا ذلك لما أحضر الشيخ الصاوي النقود خجلوا من أنفسهم، ووبختهم ضمائرهم؛ إذ يقول الشيخ الجبرتي: «فلما قبضها الوكيل ردها ثانية إليه، وقال: فرقها على الفقراء فأظهر أنه فرقها كما أشار وردها إلى صاحبها، فانكف الناس عن التكلم في شان ذلك.»
وكان وقع الخبر بطبيعة الحال على الفرنساويين شديد، والذي يقوله «ميو» في مذكراته يعبر عن شعور الفرنساويين؛ لأن «ميو» كما سبق أن ذكرنا، كان مع نابوليون في محاربة إبراهيم بك، وعلم بالخبر عند قدوم رسول كليبر بالقرب من الصالحية، وقد أكثر «ميو» من الندب والعويل قائلا: «يا رب كيف تنتهي هذه الحملة في مصر، وكيف نؤمل المساعدة وقد حيل بيننا وبين بلادنا! أنعيش في مصر بقية حياتنا، بعيدين عن أولادنا وآبائنا وأزواجنا وخليلاتنا ...؟ فقدنا كل هذا وأصبحنا في ديار مقفرة، وبين قوم لا نألفهم ولا يألفونا ... إلخ.» وقال بوريين: «بالرغم من تجلد نابوليون وتدرعه بالصبر ليبعث الطمأنينة في قلوب القواد والضباط والجنود ، فإنه كان كلما سار على انفراد معي يبدي الجزع، ويظهر الغيظ والحنق، قائلا: «إن حكومة الديركتوار مؤلفة من رجال سفلة أدنياء فهم يحسدونني ويبغضونني، وأحب ما يحبون أن أفنى أنا ومن معي في هذه البلاد، وفضلا عن كل هذا أفلا ترى أن جميع الجنود يتذمرون ولا يود واحد منهم الإقامة هنا»، وقال بوريين أيضا: «وعبثا كنت أهدئ خاطره وأعزيه بقول: حقيقة إن الخطب جلل، ولكنه كان يكون أشد وأنكى لو أن نلسون عثر بالحملة وهي قادمة لمصر وحطم عمارتنا وأغرقنا مع جنودنا، أو لو بقي نلسون في الإسكندرية أربعا وعشرين ساعة لكانت القاضية علينا، أما الآن فنحن حكام هذه البلاد، ولدينا الجنود والذخائر، والخيرات والأموال.» (2) سياسته بعد المعركة
كان نابوليون رجلا في مقتبل عمره ممتلئ الصدر بالآمال الكبار، حديد العزيمة، قوى الإرادة، فلذلك وطد همته على النظر إلى مركزه الجديد بعين الحكمة فجمع لديه نخبة قواده وأركان حربه وألقى عليهم خطابا حماسيا يحرك الأشجان؛ إذ قال لهم: «إن كانت الظروف قضت علينا أن نبقى هاهنا، وأن نقوم بأعمال عظيمة لنقم بها! وإن قضت علينا أن ننشئ مملكة واسعة فلننشئها! وإن كانت البحار التي ليست لنا فيها سيادة قد فصلت بيننا وبين وطننا فإنه لا توجد بحار تفصلنا عن إفريقيا وآسيا! وهانحن كثير والعدد والعدة، وإن لزمنا جنود أخرى فإننا نجند من هذه الديار وغيرها، وإن لزمتنا ذخائر فعلى شامبي وكونتيه
3
أن يقوما بصنعها لنا ... فلنكن عظاما ولنفعل العظائم.»
4
ثم أخذ يشرح لهم مركز القطر المصري، وموارده الطبيعية التي تحتاج إلى حسن تدبير ونظام كي يعود إلى ما كان عليه من الثروة في الأزمان الماضية، وإذا ساعدت تلك الموارد الطبيعية الصناعة الحديثة، والعلوم العصرية، أمكن أن توجد على شواطئ النيل دولة عظيمة الشأن، ثم ذكرهم بأن مركزهم في مصر حصين، تحده من الشرق الصحراء ومن الشمال البحر، وأن أول واجباتهم أن ينشطوا الجنود، وليذكروا دائما أن الصفات الكريمة في الإنسان إنما تظهر في أوقات الشدائد، وختم خطابه قائلا «يجب علينا أن نرفع رءوسنا، ونصعد على الموجة، ونهزأ بالعواصف والزعازع، فربما قد قدر لنا أن نغير صحيفة الشرق، وأن نضع أسماءنا بجانب أسماء أولئك الرجال العظام الذين خلد التاريخ أسماءهم.»
5
كان نابوليون في «الدور الأول» يريد أن يجعل مصر مستعمرة فرنساوية تتصل بفرنسا، وأما في هذا الدور - بعد أن حيل بينه وبين وطنه - فقد صمم على أن يجعلها دار إقامة، وقصبة ملك كان يحلم به في الشرق، كما هو ظاهر من كلماته التي ألقاها على ضباطه، ولذلك كانت خطته السياسية في هذه المدة، التوسع في استجلاب رضاء المصريين والتقرب منهم، والامتزاج بهم، فكأنما يقول: أما وقد قضي علينا بالبقاء مع هؤلاء القوم فلنجتهد في إدراك تصوراتهم وفهم معتقداتهم، والاشتراك معهم في أخلاقهم وعاداتهم، ولطالما قيل إن نابوليون أسلم أو ادعى الإسلام، وللمؤرخين مناقشات في هذا الصدد سنأتي على شيء منها بعد، والمؤكد في الأمر أن فكرة إسلام نابوليون ترجع إلى هذه الفترة.
يجوز لنا أن نتصور بحق أن نابوليون، وقد أدرك واعتقد أو تصور «لأنه لم يكن قط يحلم بأنه يستطيع العودة إلى فرنسا ويؤسس فيها ما أسسه من الملك والصولة والإمبراطورية العظيمة» أنه وقد حيل بينه وبين بلاده، فإنه سيبقى في هذا الديار ويقيم فيها سلطة تضارع سلطة المماليك، مثل السلطان حسن أو الغوري أو بيبرس أو صلاح الدين «ولم يكن الكثيرون من المماليك مسلمين أصلا» ... ولا يبعد أن نابوليون مع ما أوتي من سعة القريحة ومضاء العزيمة، وبعد الخيال، قد صور لنفسه وفي نفسه مملكة مصرية يملكها بونابرت، تتسلط على البحر الأحمر، وبلاد العرب والشام أيضا، ويتم له في مصر ما تم لمحمد علي، وهو أكفأ منه سياسة وأكثر علما، ومعه رجال من الدرجة الأولى في الكفاءة العلمية ... فلماذا لا تكون فكرة الإسلام قد توطدت في نفسه واعتمدها، وكان من الممكن - إذا لم يستطع مبارحة القطر المصري - أن يقوم بتنفيذها! وأي خيال يستطيع أن يصور لنا ماذا كان مستقبل مصر، لو أن نابوليون أسلم حقيقة، وصاغ مصر والشرق على درجة ما استطاع أن يفعل بعد في فرنسا!!
وكانت الصفحة الثانية من سياسته الداخلية تقضي عليه بأن يهيئ لضباطه وجنوده أسباب الراحة والاطمئنان ووسائل التسلية، ليخفف عنهم ألم الحنين إلى الوطن وليوطد عزيمتهم على البقاء في هذه الديار واتخاذها وطنا ثانيا.
وأما خطته السياسية الخارجية تبعا لمقتضى ظروف هذا المركز، فكانت ترمي إلى التودد إلى الدولة العثمانية، وأمراء المسلمين في الشام والحجاز.
وسنأخذ الآن في بسط الأعمال التي قام بها نابوليون لتنفيذ هذه الخطة في وجوهها المختلفة، أما مع المصريين فإنه ما كادت تستقر قدمه في القاهرة حتى أخذ يزور علماء الأزهر وكبار المسلمين في دورهم، ويدعوهم إليه ويحادثهم ومنهم علم أن موعد الاحتفال بوفاء النيل قد حان، فانتهز هذه الفرصة لإقامة شعائر ذلك الاحتفال بمزيد الأبهة ومظاهر الأفراح التي يألفها المصريون، ويتخذها رجال السياسة آلة لإلهاء الشعوب، وصرفها عن أمور كثيرة، بما في ذلك من إدخال السرور على الجنود، وصرفهم عن التفكير في حقيقة موقفهم. (3) حفلات ومظاهر
كان وصول نابوليون للقاهرة مساء يوم الأربعاء «3 ربيع الأول/15 أغسطس» قال الجبرتي: «ففي يوم الجمعة خاصة أمر صاري عسكر بالاستعداد وتزيين العقبة كالعادة، وكذلك زينوا عدة مراكب وغلايين، ونادوا على الناس بالخروج إلى النزهة في النيل والمقياس والروضة على عاداتهم وأرسل صاري عسكر أوراقا لكتخدا الباشا «وكيل الوالي الذي بقي بعد خروجه كان اسمه مصطفى بك»، والقاضي التركي «الذي أبقوه في وظيفة القضاء الشرعي لإفهام المصريين أن صفة السيادة العثمانية محفوظة»، وأرباب الديوان وأصحاب الثورة والمتولين المناصب وغيرهم بالحضور في صبيحة «يوم السبت 6 ربيع الأول و18 أغسطس»، وركب «نابوليون» بموكبه وزينته، وعساكره وطبوله وزموره، إلى قصر قنطرة السد وكسروا الجسر بحضرتهم وعملوا شنك مدافع ونفوطا «أي أطلقوا المدافع والصواريخ» حتى جرى الماء في الخليج وركب وهم صحبته حتى رجع داره.»
وكتاب الفرنساويين يصفون ذلك الاحتفال بالتطويل ويقولون: إن المصريين على بكرة أبيهم فرحوا وطربوا، وطبلوا وزمروا، وأن المشايخ جمعوا بين الدعاء لله سبحانه وتعالى، والصلوات على نبيه الكريم، وبين الدعاء لنابوليون وباركوه وبجلوه!!! هذا وصاحبنا الجبرتي يقول: «وأما أهل البلد فلم يخرج أحد منهم تلك الليلة للتنزه في المراكب على العادة سوى النصارى الشوام والقبط والأروام والإفرنج البلديين ونسائهم وقليل من الناس البطالين»!!
والمعلم نقولا الترك يقول في هذا الصدد: «وكان موكبا عظيما ومحفلا جسيما يذكر جيلا فجيلا، وعم الأمان كل الناس، وخرج الرجال والنساء من دون بأس وصنع أمير الجيوش وليمة عظيمة لسائر العلماء والأعيان، وأهل الديوان والجنرالية والفسالية «لعله يعني أوفسية، الضباط» وحكام الخطوط المصرية، وقد أعجبت أهل مصر القاهرة، تلك الأحوال الباهرة.»
والفرق بين جلال الجبرتي وتحفظه، والمعلم نقولا الترك ومغالاته، غير خاف سببه.
ويظهر أن نابوليون سرته نتيجة ذلك الاحتفال فأخذ يسأل عن الموالد والأعياد، فعلم أن المولد النبوي يقع في العاشر من شهر ربيع الأول، فاستدعى إليه السيد خليل البكري وقلده نقابة الأشراف، بدلا من السيد عمر مكرم الذي سافر مع إبراهيم بك واستقر بغزة، قال الشيخ الجبرتي - وروايته في هذه الأمور أصدق الروايات - «ثم سأل صاري عسكر الشيخ خليل البكري عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم، فاعتذر بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال، فلم يقبل «نابوليون» وقال: لا بد من ذلك، وأعطى له ثلاثمائة ريال فرنسية معاونة، وأمر بتعليق تعاليق «كذا» وأحبال وقناديل واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ودبادبهم، وأرسل الطبلخانة الكبيرة «الجوفة الموسيقية العسكرية» إلى بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره، وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية، وعدة آلات ومزامير مختلفة الأصوات مطربة، وعملوا حراقة نفوط مختلفة وصواريخ تصعد في الهواء.»
وفي رواية كتاب الفرنساويين أن نابوليون أعطى السيد البكري ألفا وثمانمائة فرنك «فأما أن يكون الريال الفرنسي ستة فرنكات والمعروف أنه خمسة، أو أن رواية الشيخ الجبرتي أقل تسعين ريالا»، وأن نابوليون ذهب إلى منزل السيد البكري حيث جلس بجوار المنشدين الذين أخذوا في تلاوة القصة النبوية، وكان يهتز معهم كأنما هو مشارك لهم في التلاوة والنغمات، ثم مدت الموائد، وكان عددها يربو على عشرين مائدة نصبت على الطريق الشرقية في بهو كبير، وكانوا يجلسون على وسائد لا على كراسي وحول كل مائدة خمسة أو ستة أنفار، وقد جلس نابوليون حول واحدة من هذه الموائد وبجواره السيد البكري، وتفرق كبار قواده حول الموائد الأخرى يأكلون مع القوم بأيديهم.
وكان منزل السيد خليل البكري إذ ذاك بالقرب من بركة الأزبكية في الجهة الجنوبية من ميدان الأوبرا الحالي، حيث العمارة المطلة على الميدان الآن، وكان السيد خليل البكري من الذين توددوا للفرنساويين كثيرا، ولقي بسبب ميله إليهم متاعب كثيرة في أثناء التقلبات والثورات التي سيجيء ذكرها، ولم يكن السيد خليل البكري المشار إليه من ذوي الأخلاق الفاضلة، بل كان - كما يؤخذ من ترجمته في وفيات الجبرتي ومن أخباره الواردة عنه - متساهلا في أمور دينه على شاكلة أبناء الأسر العريقة في الحسب الذين أخذوا بأسباب النعيم والترف، وللجبرتي كلام طويل عن خروج ابنه البكري «عن حدود الحشمة مع الفرنساويين»، وعن السيد البكري ومملوكه، نضرب عنه صفحا، وإنما أشرنا إليه من قبيل وصف الحالة الأخلاقية لبعض دعاة الأمة في ذلك الحين، والمعلم نقولا الترك يذكر السيد البكري، بعد حكاية مولد النبي فيقول عنه: «وقد كان السيد خليل البكري محبا لجمهور الفرنساوية، فلأجل ذلك بغضه الإسلام «أي المسلمون» المصرية.»
وما كاد يفرغ نابوليون من هذا الاحتفال حتى فكر في تقليد إمارة الحج: قال الشيخ الجبرتي: «وفي عشرين «ربيع الأول/أول سبتمبر» قلدوا مصطفى بك كتخدا الباشا على إمارة الحج فحضر إلى المحكمة عند القاضي، ولبس هناك الخلعة بحضرة مشايخ الديوان، والتزم بونابرت بتشهيل مهمات الحج.» وقد نشر لاكروا خطابا كتبه نابوليون في ذلك الوقت ليبعث به إلى الشريف غالب بن مسعود أمير مكة، ولم يرد لهذا الخطاب ذكر في الكتب العربية، ولذلك رأينا أن نأتي على نصه:
إلى الشريف غالب بن مسعود
في الوقت الذي أنبئوك فيه بدخول الجيش الفرنسي إلى مصر، أرى من الواجب علي أن أؤكد لك بأن نيتي ترمي إلى تأمين طريق الحج إلى مكة بكل الوسائل الممكنة ، وستبقي المساجد والأملاك التي للحرمين الشريفين في مصر كما كانت في الماضي لا ينازعهما فيها منازع.
إننا أصدقاء لنبي المسلمين ولدينهم وسنعمل كل ما نستطيعه لإرضائكم وللتودد إلى الدين الإسلامي.
أريد منك أن تعلن الناس في كل مكان أن قوافل الحج لا تلقى في طريقها مقاومة، بل ستكون محمية بطريقة تجعلها في مأمن من اعتداء البدو عليها.
بونابرت
فانظر إلى هذه الدعاوى وتفهم منها ما كان يرمي إليه نابوليون في سياسته.
وهكذا أخذ نابوليون يتودد بجميع الوسائل للمصريين وعلمائهم وكبرائهم فكانت أوامره للقواد الذين عينهم في جهات القطر المصري مشددة بضرورة المحافظة على عادات المصريين وتقاليدهم، وعدم التعرض لدينهم وأموالهم وأعراضهم، وكان يوصي بذلك جميع الضباط والجنود المقيمين في القاهرة وضواحيها، ثم كان لا يفتر لحظة عن استرضاء المشايخ والسؤال عن خاطرهم، والاجتماع بهم، والتحدث معهم في المسائل العمومية وفي الأديان، مظهرا عظيم ميله إلى الدين الإسلامي إلى غير ذلك من وسائل التلطف وحسن السياسة ونهاية الدهاء.
وكان مما التفت إليه، للتأثير على جيشه وحمله على الرضى بحالته، أن شرع في الاستعداد لإقامة احتفال كبير يوم تذكار تأسيس الجمهورية الفرنساوية، وكان ذلك اليوم يقع في 22 سبتمبر، ولكن نابوليون شرع في الاستعداد للاحتفال به في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس، عقب الاحتفال بالمولد النبوي مباشرة، ونص الأمر الذي أصدره، لبيان برنامج ذلك الاحتفال، مؤرخ في 26 أغسطس، وهذا الأمر يقضي بأن تحتفل الجنود الفرنساوية والموجودة في القاهرة حول بركة الأزبكية، والتي في الإسكندرية عند عمود السواري، والتي في الصعيد على أطلال طيبة «مع أنه في ذلك التاريخ لم يكن «ديزيه» قد برح بجيشه الفاتح للصعيد بلدة بني سويف» وقد وصف الجبرتي الزينات التي أقامها الفرنساويون للاحتفال بعيدهم هذا، فقال: «إنهم أقاموا في وسط بركة الأزبكية صاريا عظيمة «مسلة» نقشوا عليها تصاوير سواد في بياض ووضعوا قبالة باب الهواء بالبركة شبه بوابة كبيرة عالية «قوس النصر» من خشب مقفص وكسوها بالقماش المدهون مثل لون الصاري ونقشوا عليها تصاوير حرب المماليك المصرية معهم، وهم في شبه المنهزمين بعضهم واقع على بعض، وبعضهم ملتفت إلى خلف، وعلى موازاة ذلك من الجهة الأخرى بناحية قنطرة الدكة التي يدخل منها الماء إلى البركة مثال بوابة أخرى، وأقاموا أخشابا كثيرة منتصبة مصطفى منها إلى البوابة الأخرى شبه الدائرة متسعة محيطة بمعظم فضاء البركة، بحيث سار عمود السواري «المسلة» الكبير المنتصف المذكور في المركز، وربطوا بين تلك الأخشاب حبالا ممتدة وعلقوا بها صفين من القناديل، وبين ذلك تماثيل لحراقة البارود وأقاموا في عمل ذلك عدة أيام.» ولا ينقص وصف الشيخ الجبرتي شيء، سوى أن تلك الأخشاب المنتصبة كانت مائة عمود وتسعة أعمدة عدا رفع على كل عمود منها راية وكتب عليها أسماء مديريات فرنسا، وأن تلك التماثيل التي ذكرها كانت بشكل هياكل نقش عليها الذين قتلوا في معارك المماليك بمصر.
وفي الساعة السابعة من صباح يوم السبت «11 ربيع الثاني/22 سبتمبر» اصطفت الجنود على النظام الذي أعد لها وتقدم نابوليون يحف به قواده وأركان حربه ورؤساء المصالح وأعضاء المجمع العلمي «سيأتي الكلام عليه» وأعضاء الديوان وكتخدا الباشا ... ولنترك للشيخ الجبرتي الكلام على طريقته اللذيذة قال:
وفي حادي عشرة كان يوم عيدهم الموعود به فضربوا في صبيحته مدافع كثيرة، ووضعوا على كل قائم من الخشب بندبرة من بندبراتهم الملونة، وضربوا طبولهم، واجتمعت عساكرهم بالبركة الخيالة والرجالة، واصطفوا صفوفا على طرائفهم المعروفة بينهم، ودعوا المشايخ أعيان المسلمين والقبطة والشوام، فاجتمعوا ببيت صاري عسكري وجلسوا حصة من النهار، ولبسوا في ذلك اليوم ملابس الافتخار، ولبس المعلم «جرجس الجوهري» كركة بطرز قصب على أكتافها إلى أكمامها، وعلى صدرها شمسات قصب بازرار «سترة تشريفة فرنساوية» وكذا «فلتيوس» وتعمموا بالعمائم الكشميري، وركبوا البغال الفارهة، وأظهروا البشر والسرور في ذلك اليوم إلى الغاية، ثم نزل عظماؤهم «الفرنساوية» وصحبتهم المشايخ والقاضي وكتخدا الباشا وركبوا وذهبوا عند الصاري الكبير الموضوع بوسط البركة، وقد كانوا فرشوا في أسفله بسطا كثيرة، ثم إن العساكر لعبوا ميدانهم، وعملوا هيئة حربهم «مناورة» وضربوا المدافع والبنادق، فلما انقضى ذلك اصطفت العساكر صفوفا حول الصاري ، وقرأ عليهم كبير قسوسهم ورقة بلغتهم، لا يدري معناها إلا هم وكأنها كالوصية أو النصيحة أو الوعظ.
وليت شعري: هل كان الشيخ عبد الرحمن الجبرتي أحد المدعوين في ذلك الاحتفال، حتى إنه شهده عن قرب واشترك فيه، أو أنه كان من المفرجين من بعيد؟؟
كل الدلائل تشير إلى أنه كان من المدعوين؛ لأنه كان من كبار العلماء الذين يشار إليهم، وكان قبل من المتقربين إلى المماليك، فلا يعقل أن تترك دعوته، وإن ساءه من المعلم جرجس الجوهري والمعلم فلتيوس لبسهما تلك الملابس المقصبة، إلا أن النقطة التي يصعب علينا تحقيقها، هي قوله إن كبير قسوسهم «الفرنساوية» قرأ عليهم ورقة بلغتهم، ولم يك مع الفرنساويين قساوسة، فقد كانوا خرجوا من جميع الأديان في الثورة، وكتاب الفرنساويين يقولون إن الذي تلا ذلك الخطاب على الجنود، هو نابوليون نفسه! فكيف أخطأ الجبرتي في تمييزه بين «صاري عسكر بونابرته»، وبين «كبير قسوسهم»؟؟ وإن يكن من المحتمل كثيرا، أن يكون نابوليون قد كتب ذلك الخطاب وعهد إلى أحد كبار العلماء بتلاوته، إلا أن «ميو» وهو أيضا شاهد عيان، يقول إن الذي خطب في الجنود هو نابوليون بصوته الرنان، والمعلم نقولا الترك وهو شاهد عيان آخر، لم يذكر شيئا عن خطاب ما، وأحسن ما ورد في عبارته عن هذا الاحتفال قوله عن الصاري الكبير الموضوع في وسط الأزبكية: «إن الفرنساويين كانوا يسمونه شجرة الحرية، وأما أهالي مصر فكانوا يقولون إن هذه إشارة إلى الخازوق الذي أدخلوه فينا باستيلائهم على مملكتنا»!
وإني لا أشك في أن عبارة المعلم نقولا هذه صحيحة، فهي وإن تكون من نكات العامة في مصر، ومع أنها سخافة من سخافاتهم، إلا أنها تعبر عن شعور القوم في ذلك الحين! وغريب تصورهم أنه كانت لهم مملكة وضاعت، مع أنهم كانوا دائما عبيدا للحكام المماليك، وهم لا يقلون في الأجنبية عن أولئك الفرنساويين، سوى أن أولئك كانوا مسلمين «وإن كان إسلامهم ضعيفا»، وهؤلاء كفار، لا يعرف لهم دين ولا عقيدة.
فهذه قوة اليقين عند المسلمين ، وهذه عقيدتهم الدينية التي جعلت مصطفى كامل بعد هذا التاريخ بمائة عام - تغيرت فيها المذاهب، وتبدلت فيها العقائد - لما حاجه بعضهم في تعلقه بالدولة العثمانية مع ظلم الأتراك، واستبداد السلطان عبد الحميد، وهو «أي: مصطفى كامل» من طلاب الحرية والدستور!!، يصرح في إحدى خطبة بقوله: «إننا نقول وسيف السلطان على رقابنا: ليحيا جلالة السلطان.» وفي هذا قد عبر مصطفي كامل عن شعور المسلمين في جميع بقاع الأرض، وعلى كل حال فنحن تأتي على نص خطاب نابوليون من المصادر الفرنساوية لأهميته التاريخية:
أيها الجنود:
إننا نحتفل بتذكار اليوم الأول من السنة السابعة لإقامة الجمهورية الفرنساوية، فمنذ خمس سنوات كان استقلال الشعب الفرنساوي مهددا، ولكنكم أنتم باستيلائكم على طولون قد قضيتهم على مقاصد أعدائكم، ولم تمض سنة على ذلك حتى كنتم قد قهرتم النمساويين في موقعة ديجو (Dego)
وفي السنة التالية كنتم تتسرفون من قمم جبال الألب «على الممالك النمساوية»، ومنذ سنتين فقط كنتم تهاجمون أسوار مانتوا (Mantuoua) ، وحزتم ذلك النصر الباهر عند قرية سان جورج، وفي السنة الماضية كنتم عند منابع نهري درافا والأسونزو، عائدين من انتصاراتكم في ألمانيا! فمن كان يظن أنكم في هذا اليوم تكونون كما أنتم الآن على ضفاف نهر النيل، في وسط هذه القارة العتيقة؟! فاعلموا أن أمر العالم - من الإنكليزي المتمدين الراقي إلى البدوي المتوحش - تنظر إليكم محدقة.
أيها الجنود، إن مستقبلكم باهر؛ لأنكم جديرون بما قمتم به من جلائل الأعمال، وجديرون بالحكم الذي يحكمون به عليكم، فإما أن تموتوا موت الأبطال الذين نقشت أسماؤهم على هذا الهرم، وإما أن تعودوا لوطنكم مكللين بغار الفخر والفخار، ومصحوبين بإعجاب العالم من صغار وكبار! واعلموا أننا منذ برحنا وطننا ونحن موضوع رعاية وعناية أبنائه، وفي هذا اليوم يحتفل مثلكم أربعون مليونا من الفرنساويين بخلع نير الاستبداد وبإقامة الحكم الدستوري، وهم في أفراحهم يذكرون أنهم مدينون لأعمالكم ولدمائكم في حفظ السلم ونمو الثروة والتمتع بالحرية المدنية.
فلما فرغ من تلاوة هذا الخطاب الذي قصد به مع كل هذا الاحتفال، تمليق مشاعر الجنود وتطيب خواطرهم، هتفوا فلتحيا الجمهورية! وليحيا الجنرال بونابرت! وذهبت شرذمة من الجنود تحمل الراية المثلثة الألوان إلى الجيزة لتقيم تلك الراية على أعلى نقطة في الأهرام، وعاد نابوليون إلى داره، قال الجبرتي: «ثم رجع صاري عسكر إلى داره فمد سماطا عظيما للحاضرين، فلما كان عند الغروب أوقدوا جميع القناديل وعملوا حراقة وصواريخ» ... إلى آخره. (4) المسلمون والأقباط
إن يكن الشيخ الجبرتي قد ساءه من المعلم جرجس الجوهري، كبير الأقباط في ذلك العهد، توشحه بتلك الملابس المذهبة في الاحتفال، وخروجه مع أمثاله عما اعتاده من الملابس التي ألفها المصريون، إلا أنه مع ذلك قد كان من المحبين للمعلم جرجس، ومن المعجيبن به، وحقيقة يظهر من غالب ما كتبه الجبرتي عنه، أو من بقية الأخبار التي وردت عن ذلك الرجل، أنه كان من أكابر القوم، جامعا لكثير من الصفات الطيبة، فهو لم يفعل مثل المعلم «يعقوب» الذي خرج عن حدوده وجمع له جندا من بعض فقراء الأقباط، وكاشف المسلمين بالعداوة، كما سيأتي في مكانه.
وقد ذكر الجبرتي في وفيات سنة 1225، بعد الحوادث التي نحن بصددها باثنتي عشرة سنة ترجمة المعلم جرجس الجوهري وأطراه ... قال: «مات المعلم جرجس الجوهري القبطي كبير المباشرين، وهو أخ المعلم إبراهيم الجوهري، ولما مات أخوه في زمن رياسة الأمراء المماليك تعين مكانة في الرياسة على المباشرين والكتبة، وبيده حل الأمور وربطها في جميع الأقاليم المصرية، نافذ الكلمة، وافر الحرمة، وتقدم في أيام الفرنسيين فكان رئيس الرؤساء، وكذلك كان مع العثمانيين لما كان يسديه إليهم من الهدايا والرغائب، ورأينه يجلس بجانب محمد خسرو باشا «سيأتي ذكره في تاريخ محمد علي» وبجانب شريف أفندي الدفتردار، ويشرب بحضرتهم الدخان، وكان عظيم النفس ويعطي العطايا ويفرق على جميع الأعيان عند قدوم شهر رمضان من الشموع العسلية والسكر والأرز والكساوي والبن، ويعطي ويهب، وأنشأ دارا كبيرة عند قنطرة الدكة.»
وبهذه المناسبة لا نجد مناصا - خصوصا وقد ذكرنا تقرب نابوليون من المسلمين وعلمائهم وتودده لهم ولدينهم ومعتقداتهم - أن نقول كلمة في هذا المكان عن سلوك الفرنساويين مع النصارى عموما، والأقباط خصوصا في ذلك العهد، ولقد كنت أظن أن حنا بك شاروييم يخصص في كتابه «الكافي» فصلا لهذا الموضوع فلم أجده أعاره أدنى نظرة، ولعل له في ذلك حكمة.
ليس لدينا تعداد موثوق به عن سكان القطر في زمن الفرنسيس، ولكن يؤخذ من المصادر الفرنسية أن عدد الأقباط كان في ذلك الحين من تسعين إلى مائة ألف على رواية «لاكروا»؛ أي: نحو ثمن عددهم اليوم، فإذا لاحظنا أن عدد المسلمين، منذ ذلك الحين قد تضاعف خمس مرات «أي: من مليونين ونصف مليون» تقريبا إلى ثلاثة عشر مليونا في الوقت الحاضر فيكون الأقباط قد تضاعفوا ثمانية مرات، وهي نتيجة غريبة مع وجود تعدد الزوجات عند المسلمين، ومع التساوي في حالة الرخاء والطمأنينة في القرن التاسع عشر، وربما كان عددهم أكثر مما ورد في رواية «لاكروا».
وليس بضائر الأقباط إذ ذاك أن يلجئوا إلى الفاتحين ويتوددوا إليهم، ويفرحوا بقدومهم للخلاص من مظالم المماليك وسوء معاملتهم وبقائهم محتقرين في بلد، يعتقدون أنها في الأصل بلدهم، وإن كان الأقباط على ما اعتقد قد كانوا أحسن حالا من مواطنيهم المسلمين؛ لأن الأقباط كانوا آلات المماليك في تحصيل الضرائب، وكانوا كتاب أيديهم والمباشرين لأعمالهم الحسابية، وأمورهم الداخلية، ومن ذا الذي كان من المصريين المسلمين في زمن المماليك «في يده حل الأمور وربطها في جميع الأقاليم المصرية، نافذ الكلمة موفور الحرية»، مثل المعلم جرجس الجوهري، كما قال عنه الجبرتي؟
كان ظلم المماليك في الحقيقة واقعا في الأكثر على الفلاحين المسلمين، ولم يكن الأقباط في ذلك الوقت ممن يشتغلون بحراثة الأرض وزرعها، كما أنه قد كان في دهاء الأقباط وحسن حياتهم وصفاتهم الكثيرة التي أوجدها أثر الاستبداد في نفوسهم، خير واسطة للتخلص من المظالم والتقرب من الحكام، بما لا يتيسر في كثير من الأحوال لمواطنيهم المسلمين، وزد على هذا أنهم لكونهم فئة قليلة مستضعفة، كانوا أكثر اتحادا، وأحسن معاونة لبعضهم البعض من المسلمين، بحيث إذا لحق واحد منهم ظلم وجدت كبراءهم في ذلك الزمن يذهبون إلى الحكام ويتوسلون إليهم في منع الظلم عن ابن طائفتهم.
ومع هذا نقول لا غضاضة عليهم إذا فرحوا بقدوم الفاتح الأجنبي تخلصا من احتمال الظلم على كل حال، ولم يكن عند الأقباط، ولا عند المسلمين في ذلك الزمن، عاطفة وطنية؛ إذ لم يكن الوطن لهؤلاء ولا لهؤلاء! وأما إذا كان المسلمون بعكس ذلك من حيث عدم الرضى عن الفاتح الأجنبي، وميلهم للأتراك والمماليك، فذلك لأسباب كثيرة أهمها الرابطة الدينية بينهم وبين الخلافة الإسلامية، التي لم يكونوا يعتبرونها دولة أجنبية عنهم، وبسبب هذا الشعور تمكن الأتراك من المصريين في مصر، وكذلك من العرب في آسيا، وأبقوهم تحت سلطانهم إلى عهد قريب جدا.
والآن نبحث في: هل كان من وراء تودد الأقباط للفرنساويين فائدة للأقباط! وترقية أحوالهم؟ الجواب على هذا صريح واضح، وهو أنه إن لحق المسلمين ظلم واحد من الغاصبين، فإنه قد لحق الأقباط ضعف ذلك، والقضية في هذا الشأن بديهية لا تخفى إلا على عمى البصيرة الذين تغرهم الزخارف، والذين تخدعهم أقوال الفاتحين الأجانب وتوقعهم في حبائل مكرهم؛ إذ لا نزاع مطلقا في أن الفاتح الأجنبي إنما يعمل جهده لإرضاء الأغلبية بالتودد لها والتقرب منها، ولا يهمه أن يستضعف جانب الأقلية أو تهضم حقوقها، وتبقى دائما هذه خطته مهما تظاهر بعكس ذلك أمام الأقلية بقصد غرس أسباب النفرة ليسود الحكم من جراء التفرقة.
ولو كان نابوليون يثق بأنه إذا أباد الأقباط على بكرة أبيهم ينال ثقة المسلمين ويحل في قلوبهم محل العثمانيين، لما تأخر عن ذلك طرفة عين!! ثم هل ادعى نابوليون المسيحية الأرثوذكسية كما ادعى الإسلام وتظاهر بمدح الدين الإسلامي؟ وقد كان أقرب للتصديق في الأولى من الثانية!
خذ المثال الآتي: قال الجبرتي في حوادث شهر رمضان من تلك السنة: «نبهوا الفرنساوية بالمناداة في أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عاداتهم مع المسلمين أولا، ولا يتجاهرون بالأكل والشرب في الأسواق، ولا يشربون الدخان ولا شيئا من ذلك بمرأى منهم ... كل ذلك لاستجلاب خواطر الرعية حتى إن بعض الرعية من الفقهاء مر على بعض النصارى وهو يشرب الدخان، فانتهره فرد عليه ردا شنيعا، فنزل ذلك المتعمم وضرب النصراني واجتمع عليه الناس وحضر حاكم الخطة، فرفعهما إلى قائمام، فسأل من النصارى الحاضرين عن عادتهم في ذلك فأخبروه عن عادتهم القديمة أنه إذا استهل شهر رمضان لا يأكلون ولا يشربون في الأسواق ولا بمرأى من المسلمين أبدا، فضرب النصراني وترك المتعمم لسبيله»!
وذكر الجبرتي في حوادث يوم 8 جمادى الآخرة قال «وفيه قتلوا «الفرنساوية» أربعة أنفار من القبط قيل إنهم سكروا في الخمارة وعربدوا فاغتاظ لذلك القبطة.» وقس على هذا كثيرا.
ولكن الأقلية مع الأسف تنسى دائما هذه الحقيقة البديهية، ونعني بها سعي الفاتح الأجنبي في إرضاء الأكثرية، فإذا حدثت قلاقل ومشاكل يحرض ذوو الأغراض من الطرفين الطبقة لواطئة فتتسع الهوة، ثم متى تأكد الحاكم الأجنبي أن الأكثرية غير راضية عنه وغير ممكن استجلاب خواطرها، كما تأكد ذلك الفرنسيون بعد، فإنه يأخذ في إيغار صدور الفئة القليلة ويظهر نحوها انعطافه وحمايته فيحدث مثل ما حدث من المعلم يعقوب، وتأليفه فرقة من فقراء الأقباط لمقاومة المسلمين ومحاربتهم، وكانت عاقبة ذلك وبالا على شخصه هو حتى اضطر أن يهجر وطنه، ويسافر مع الفرنسيين عند خروجهم، كما سيجيء ذلك مفصلا في مكانه.
إلا أنه من مصلحة الأغلبية، أكثر مما هو في مصلحة الأقلية، أخذ الأغلبية للأقلية تحت جناحها بما تظهره نحوها من واجب الانعطاف، وما تبديه من حسن الصلات؛ لأن الأقلية في كل زمان ومكان مستضعفة ميالة إلى المودة والرعاية، فإذا قابلتها الأكثرية في ربع الطريق قطعت لها الأقلية ثلاثة أرباعه الباقية، وباجتماع الكلمة تسهل للأكثرية مقاومة الأجنبي، ومصادمة الحوادث، ومقارعة الدسائس، دون أن تشعر بثغرة في حصنها، أو ثامة في درعها، أو فلول في سيوفها، وبهذا تقضي السياسة والمصلحة، وبهذا يقضي العدل، وبهذا تفضي الوطنية، بل بهذا يقضي الدين نفسه الذي يتخذه الفريقان آلة للتفريق.
والخلاصة أن أبناء الوطن الواحد متكاتفون متضامنون، إن أصاب فريقا منهم خير أصاب الآخر، فإن أصلح الحاكم ، أجنبيا كان أو غير أجنبي، عم الإصلاح، وإن أفسد عم الخراب ولحق الواحد ما يلحق الآخر، واليوم الذي يكون رائد المسلمين والأقباط الوطنية ومصلحة الوطن، مع انصراف كل فريق لإصلاح شئونه الخاصة به، هو اليوم الذي يقال فيه إن مصر قد تكونت فيها قومية متماسكة جديرة بأن تحل المحل اللائق بها بين الأمم الراقية.
6 (5) سياسة الإنشاء للبقاء
كان من مقتضى سياسة نابوليون في هذا الدور أن يدرس طبيعة البلاد ويقف على جميع مواردها ويجمع الوسائل التي يستطيع بها طول البقاء فيها، وبالجملة يوطن نفسه ومن معه على الرضاء بمصر والاستفادة منها، وإن أمكن فليجعلها النقطة المركزية لفتوحاته وآماله في الشرق، ولكي يصل إلى هذه الغاية فكر في إنشاء المجمع العلمي المصري «انسيتو ديجبت» الذي لا يزال موجودا بالاسم إلى الآن، يجمع بين أعضائه في الوقت الحاضر زمرة من أهل العلم والفضل من الأجانب وبعض المصريين، وكان صدور أمره بذلك في 22 أغسطس سنة 1798 ولا حاجة بنا إلى تعريب نص ذلك الأمر، بما فيه من بيان اختصاصات ذلك المجمع وجلساته وأعضائه وأعماله، ولكنا نكتفي لفائدة التاريخ بالبيان الآتي:
يتألف أمر نابوليون بإنشاء المجمع العلمي المصري من ستة وعشرين مادة أهم ما فيها أن الغرض من المجمع: (1)
تقدم ونشر العلوم والمعارف في الديار المصرية. (2)
بحث ودراسة وطبع المباحث الطبيعية والصناعية والتاريخية لمصر. (3)
استشارته في المسائل المختلفة التي ترى الحكومة عرضها عليه.
ومن هنا يرى أن المجمع أنشئ ليؤدي وظيفتين، علمية بحتة وإدارية حكومية، لتسهيل مهمة القائمين بإدارة الأحكام، وجاء في المادة الثالثة من هذا الأمر أن المجمع يؤلف من أربع دوائر، وقال في المادة الرابعة إن هذه الدوائر الأربع هي للرياضيات، والطبيعيات، والاقتصاد السياسي، والآداب والفنون، والمادة الخامسة قررت أن تتألف كل دائرة من اثني عشر عضوا وينتخب للجميع رئيس ووكيل وسكرتير ومدير أعمال، وقرر أن تطبع أعمال المجمع كل ثلاثة شهور، وعين أول رئيس للمجمع العالم الكبير مسيو مونج
Monge
وخص نابوليون بوكالة الرئيس، ومسيو فورييه
Fourier
سكرتيرا ومسيو كوستاز
Costaz
لإدارة الأعمال.
قال لاكروا : إن إنشاء المجمع لفت نظر الأهالي فإن المكتبة وجميع الآلات والأدوات الخاصة بدراسة العلوم الطبيعية والرياضية والنباتات المختلفة والأحجار المتنوعة التي جمعها العلماء لتحقيق مباحثهم، وما أشبه ذلك من الأمور، استدعى اهتمام الأهالي فصاروا يفكرون في الأسباب الداعية لهذه المساعي، حتى لقد خيل لهم أن الغرض منها صناعة الكيمياء أو صناعة الذهب! ولكن لما أدركوا الغرض الحقيقي من ذلك تحببوا إلى العلماء وتقربوا إليهم ومال إليهم المتعلمون من المصريين وكثير من الطبقة الواطية من أصناف العمال، والصناع الذين كان العلماء يسألونهم عن صناعاتهم وأعمالهم.
ولنرجع إلى شيخنا الجبرتي فهو من أهل العلم الذين يقدرون القائمين به حق قدرهم، ولقد كتب في هذه النقطة مطولا معجبا مثنيا على الفرنساويين وعلومهم ومباحثهم، مما يدل على سعة صدر وشغف بالعلم، ولا بأس هنا أن ننقل مثالا من أقواله في هذا الصدد؛ لأنها مقياس لدرجة الرقي العقلي في الأمة المصرية في ذلك الزمن، قال:
وأفردوا للمديرين والفلكيين وأهل المعرفة والعلوم الرياضية، كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات والمصورين والكتبة والحساب والمنشئين، حارة الناصرية حيث الدرب الجديد وما به من البيوت، مثل بيت قاسم بك وأمير الحج المعروف بأبي يوسف، وبيت حسن الكاشف جركس القديم والجديد الذي أنشأه وشيده وزخرفه وصرف عليه أموالا عظيمة من مظالم العباد!
وقال عن المكتبة:
وفيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة، فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء من الكتب فيحضرها الخازن فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر.
وقال عن تلطفهم مع المصريين «وإذا حضر إليهم بعض من المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه من الدخول إلى أعز أماكنهم ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه، وخصوصا إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعا للنظر في المعارف بذلوا له مودتهم ومحبتهم، ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير وكرات البلاد والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات، وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء، ولقد ذهبت إليهم مرارا ... ورأيت عندهم كثيرا من الكتب الإسلامية مترجما بلغتهم، فمن ذلك كتاب الشفاء للقاضي عياض، والبردة للبوصيري ترجموها بلغتهم، ورأيت بعضهم يحفظ سورا من القرآن ولهم تطلع زائد للعلوم.»
7
وقال:
وافردوا لجماعة منهم بيت إبراهيم كتخدا السناوي وهم المصورون لكل شيء ومنهم أريجو المصور، وهو يصور صورة الآدميين بشكل يظن من يراه أنه برز في الفراغ، مجسم يكاد ينطق، حتى إنه صور صورة المشايخ كل واحد منهم على حدته في دائرة وكذلك غيرهم من الأعيان،
8
وآخر في مكان يصور الحيوانات والحشرات، وآخر يصور الأسماك والحيتان بأنواعها وأسمائها، ويأخذون الحيوان أو الحوت الغريب الذي لا يوجد ببلادهم فيضعون جسمه بذاته في ماء مصنوع حافظ للجسم فيبقى على حالته وهيئته لا يتغير ولا يبلى، ولو بقي زمنا طويلا ... وسكن الحكيم «رويا»
9
ببيت ذو الفقار كتخدا ووضع آلاته ومساحته وأهوائه في ناحية، وركب له كوانين وتنانير لتقطير المياه والأدهان واستخراج الأملاح ... وأفردوا مكانا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطلب الكيماوي.
وذكر الجبرتي بعض عمليات كيماوية وطبيعية عرضت عليه مما لا يخفى أمره اليوم على تلامذة المدارس في المعامل الكيماوية والطبيعية! ولكنه يقول عنها: «ولهم في ذلك أمور كثيرة وأحوال وتراكيب غريبة، ينتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا.»
رحمك الله يا شيخ جبرتي وبرد ثراك! لو عشت لرأيت أن عقول أولاد أحفادك وسعت أكثر من ذلك! وما هو إلا جهل الحكام، واستبداد الظلمة الذي جعلك تتصور استحالة إدراك تلك المبادئ من العلوم، علوم أولئك الذين كانوا همجا وبرابرة، في الوقت الذي كانت مدارس بغداد وقرطبة وسمرقند والقاهرة نفسها، تفيض بالعلم وبالنور!! وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
وهنا يجب أن نقول إن الحملة الفرنسية إن كانت قد فشلت من حيث هي، ولم تخلف وراءها لدى المصريين سوى الآثار المحزنة، والتذكارات المؤلمة، إلا أن العمل العلمي الذي قام به رجال البعثة العلمية من بحث وفحص وتأليف وتصوير مما سنأتي على خلاصة وافية له في المكان اللائق به، قد غطى على تلك العيوب وأبقى إلى اليوم أثرا علميا فاخرا باهرا، إن لم يكن قد أفادنا من وجهة مباشرة فائدة مادية علمية، وحتى وإن لم تستفد منه فرنسا ما أملته، إلا أن ذلك لا يمنع من الاعتراف بأنه عمل تطاطئ أمامه الرءوس إجلالا وإكبارا. (6) الاستعداد الحربي
لم يكن ليخفى على نابوليون أنه في مصر محاط بالأعداء من الجنوب والشمال والشرق والغرب، ففي الجنوب مراد بك ومعه قوة كبيرة من المماليك تعضده العربان الهوارة وعرب الحجاز أيضا، وقد وقف الفراء على مطاردتهم لمراد بك في الفصل السابق، ومن الشمال الأساطيل الإنكليزية تمر ذاهبة وآتية تقطع عليه السبيل، بل وتحصره ومن معه حصرا تجاريا وعسكريا، ولا يزال إبراهيم بك ومن معه من المماليك على حدوده الشرقية، في أول بلاد الشام، وكذلك عرب درنة وقبائل البدو من أولاد علي والهنادي يناوشونه ورجاله من آن لآخر، فلذلك وجه نابوليون همته إلى تحصين البلاد وإقامة الطوابي والحصون حول القاهرة.
وقد ابتدأ الإنكليز يدسون له الدسائس ويحرضون عليه الأتراك، قال الجبرتي في حوادث شهر ربيع الثاني: «وفي ثالثة «الجمعة 14 سبتمبر» حضرت مكاتبة من إبراهيم بك خطابا للمشايخ وغيرهم مضمونها: إنكم تكونون مطمئنين ومحافظين على أنفسكم والرعية وإن حضرة مولانا السلطان وجه لنا عساكر وإن شاء الله عن قريب سنحضر عندكم، فلما وردت تلك المكاتبة وقد كان سأل عنها بونابرت فأرسلوها له وقرئت عليه فقال: المماليك كذابون.» ثم لم يكن ليخفى على بونابرت أيضا أنه على الرغم من كل ما عمله من أسباب التودد والتقرب إلى المصريين، فإن التوفيق بين الفريقين لا يزال بعيدا ... وكيف يتصور عكس ذلك ولديه في كل وقت شاهد على ميل المصريين للعثمانيين؟؟ فمن الحوادث التي لا يخفى معناها على مثله أن أحد الأغوات الأتراك حضر من الإسكندرية في ذلك التاريخ بقصد زيارة المشهد الحسيني قال الجبرتي: «فشاهده الناس واستغربوا هيئته، وفرحوا برؤيته، وقالوا: هذا رسول الحي! «تأمل هذا التعبير» حضر من عند السلطان بجواب للفرنسيس يأمرمهم بالخروج من مصر «وتأمل هذا أيضا»، فاختلفت روايات الناس وآراؤهم وأخبارهم وتجمعوا بالمشهد الحسيني وتبع بعضهم بعضا، وصادف أن بونابرت في ذلك الوقت بلغه مما نقل وتناقل بين الناس من أنه ورد مكتوب إلى المشايخ أيضا وأخفوه فركب من فوره وحضر إلى بيت الشيخ السادات بالمشهد الحسيني، ثم جلس مقدار ساعة وركب ومر بعسكر من باب المشهد والناس قد كثر ازدحامهم بالجمع والخطة «بسبب ذلك الأغا» وهم يلغطون ويخلطون، فلما نظروه وشاهد هو جمعيتهم داخله أمر من ذلك فصاحوا بأجمعهم وقالوا بصوت عال «الفاتحة»، فشخص إليهم وصار يسأل من معه عن ازدحامهم فلطفوا له القول، وقالوا له: إنهم يدعون لك! وذهب إلى داره وكادت تنشأ من ذلك فتنة.»
فلا غرابة إذا رأينا نابوليون يعمل جهده لتحصين القاهرة، وحث رجاله وأهل العلم منهم، على الإسراع في تحضير الأدوات الحربية، وصناعة البارود والقنابل وأصدر أمره بإخراج سكان القلعة من منازلهم، والسكنى بالمدينة، قال الجبرتي في حوادث شهر ربيع للثاني:
وأصعدوا إلى القلعة مدافع ركزوها بعدة مواضيع وهدموا أبنية كثيرة وشرعوا في بناء حيطان وكرانك وأسوار وهدموا قصر صلاح الدين، ومحاسن الملوك والسلاطين، ذوات الأركان الشاهقة، والأعمدة الباسقة.
وكان من مقتضى الحيطة العسكرية إزاء تحريضات إبراهيم بك أن يتخذ نابوليون خطة التشديد في مراقبة القادمين من الأغراب، منعا لنقل، الأخبار قال الجبرتي في حوادث هذا الشهر أيضا: «إنهم نبهوا على الأغراب من المغاربة وغيرهم والخدامين الباطلين ليسافروا إلى بلادهم، فذهب جماعة منهم إلى بونابرت، وقالوا له: إن السفر غير ممكن؛ لأن طريق البر غير مأمون وسفن الإنكليز في البحر تقطع عليهم الطريق.» ويظهر أن العبارة الأخيرة حركت أشجان نابوليون من جهة وافحمته من أخرى، فتركهم وشأنهم واكتفى بأن أصدر أمره أن لا يخرج أحد من البلد إلا بجواز من محافظ المدينة، ولا يسمح لغريب بالدخول إليها إلا بعد التحقق من أمره، ومما رواه الجبرتي في حوادث ربيع الثاني أنهم قتلوا شخصين وطافوا برأسيهما ينادون ويقولون: «هذا جزاء من يأتي بمكاتيب من عند المماليك أو يذهب إليهم بمكاتيب.»
واشتد نابوليون في معاملة كل من يعلم عنه أنه يكتب للمماليك، أو يتلقى منهم الرسائل، أو يبعث لهم بالمعونة المالية، وأخذ الناس بالشبهة وسعى بعض المفسدين في إيذاء الرجال والنساء أيضا بهذه الوسيلة، مثل ما حدث لزوجة عثمان بيك الطمنبرجي «أو الطنبورجي» الذي كان من كبار المماليك وفر مع مراد بك إلى الصعيد، فإنه اتصل بالجنرال «دبوي» أنها ستبعث مع خادم لها خمسمائة محبوب لإيصالها إلى زوجها، فبعث «دبوي» إليها فاستغاثت بالشيخ المهدي والشيخ السرسي فذهبا معها، ومع ذلك، ومع عدم ثبوت شيء ضدها، ومع الحاح المشايخ في الإفراج عنها والمبيت بدار الحاكم الفرنسي بدلا عنها، فإن الجنرال «دبوي» قال: «نو نو.» «كما رواها الجبرتي حرفيا» فباتت عندهم وتلطف الجبرتي فقال: «وصحبتها جماعة من النساء المسلمات والنساء الإفرنجيات.» ومع ذلك فإنهم، بعد رجاء القاضي الكبير وكتخدا الباشا والمشايخ لدى نابوليون نفسه، أطلقوا سراحها في مقابل دفع ثلاثة آلاف ريال فرنسية «ستمائة جنيه».
ولقد كان الجنرال «ديبوي» هذا أول من سقط قتيلا في ثورة الأهالي ضد الفرنساويين!! ولاحت للفرنساويين فرصة يلقون بها على المصريين مثلا قاسيا، ودرسا ثقيلا، فقد علم القارئ أن السيد محمد كريم السكندري، الذي كان محافظا للإسكندرية أو مديرا للجمارك عند قدوم الفرنساويين، وسلم إليهم وصافاهم، وخدمهم ولكنه، كما سبق لنا القول غدر بهم وبعث بالكتب من وراء ظهورهم إلى مراد بك، ولا شك في أن الذي حمل السيد كريم على ذلك هو حبه في أخذ الحيطة لنفسه، ولأن الفرنساويين قد غلوا يده عن المكاسب والمظالم في إسكندرية، ولا عبرة بما يقال غير ذلك، ولم يذكر مؤرخو الفرنسيين كيف وقعت رسائل السيد محمد كريم في يد نابوليون وكل ما ذكروه أن نابوليون أمر بإلقاء القبض عليه وإحضاره إلى القاهرة ... وإلى القارئ نص الأمر الذي كتبه بونابرت لمحاكمته «محفوظات نابوليون ورقة نمرة 3247».
إلى الجنرال ديبوي (25 أغسطس 1798)
عليك أيها الستوين جنرال اتخاذ الاحتياطات الكافية لعدم فرار «كريم» وبعد فليتقدم للتحقيق معه وليطلب منه الجواب الصريح على الأسئلة الآتية: (1)
هل كتب لمراد بك بعد أن حلف لنا يمين الطاعة؟ (2)
لمن من المماليك قد كتب بعد مصادقته لنا؟ (3)
أي نوع من المكاتبات كان بينه وبين عربان البحيرة؟
واستمرت المحاكمة والتحقيق إلى يوم 5 سبتمبر فاتضح لهم أن السيد محمد كريم خانهم وكاتب المماليك ومالأهم وتجسس لهم، فلذلك أصدر نابوليون أمره
10
بالحكم على السيد كريم بالإعدام رميا بالرصاص في ميدان القلعة، هذه رواية المصادر الفرنسية، وإلى القارئ ما ذكره الشيخ الجبرتي رحمه الله في وفيات سنة 1213 قال: «ومات الوجيه الأمثل السيد محمد كريم السنكدري مقتولا بيد الفرنسيس.» «وبعد أن ذكر شطرا من ماضيه الذي سبق لنا الكلام عنه» قال: فلما حضر الفرنسيس ونزلوا الإسكندرية قبضوا على السيد محمد المذكور وطالبوه بالمال وحبسوه في مركب «وهذا غير صحيح، ولكن الجبرتي يريد أن يبرئه أولا من ممالأته للفرنسيس وخدمته لهم، مع أنه وصفه في ماضيه بالظلم والاستبداد»، ولما حضروا إلى مصر وطلعوا قصر مراد بك، وفيه مطالعة بأخبارهم،
11
وبالحث والاجتهاد على حربهم وتهوين أمرهم وتنقيصهم، فاشتد غيظهم عليه فأرسلوا وأحضروه وحبسوه فتشفع فيه أرباب الديوان عدة مرار فلم يمكن، وجاءه «مجللون» «كان قنصل فرنسا مع كريم في إسكندرية» وقال له المطلوب منك كذا وكذا من المال وذكر له قدرا يعجز عنه، وأجله اثنتي عشرة ساعة وإن لم يحضر ذلك القدر وإلا يقتل بعد مضيها، فلما أصبح أرسل إلى المشايخ وإلى السيد أحمد المحروقي فحضر إليه بعضهم فترجاهم، وصار يقول: اشتروني يا مسلمين، وليس بيدهم، ما يفتدونه به، وكل إنسان مشغول بنفسه، ومتوقع لشيء يصيبه «لاحظ اضطراب الخواطر في هذه العبارة» وذلك في مبادئ أمرهم، فلما كان قريب الظهر، وقد انقضى الأجل، أركبوه حمارا واحتاط به عدة من العسكر إلى أن ذهبوا إلى الرميلة وكتفوه وربطوه مشبوحا وضربوا عليه بالبنادق، ثم قطعوا رأسه، وطافوا بها في جهات الرميلة، وهم ينادون: هذا جزاء من يخالف الفرنسيس.
ولصاحبنا المرحوم الحاج عبد الله براون الإنكليزي المستشرق في كتابه «بونابرته في مصر» إعجاب بالسيد محمد كريم وقال عنه: إنه أبى دفع الفدية ومات شهما مقداما!! وما أدري على من اعتمد في هذه الرواية ومصدره الوحيد في هذا الجبرتي، وهو يقول: إنه تذلل وقال اشتروني يا مسلمين؟
ولكن الذي يلفت النظر ولا يفوت المؤرخ هو ملاحظة أن الفرنسيين كانوا على استعداد للعفو عن السيد محمد كريم عفوا تاما لو أنه دفع لهم ما أرادوه من المال فداء عن نفسه، وإذن فلم يكن العدل أو القصاص هو المقصود بالذات، وإنما كانت الغاية اغتصاب المال ممن يظنون أنه كان رجلا غنيا، أو أن أغنياء البلد سيشفقون عليه ويجمعون المال لخلاص حياته، وفي ذلك من العار والشنار ما فيه.
وسواء استحق السيد محمد كريم تلك العقوبة لخيانة عهدا قطعه على نفسه - وهو عهد أعطي لعدو البلاد تحت سيف القهر والقوة - أم أنه نال ذلك العقاب جزاء وفاقا لمظالم سابقة ارتكبها، ونفوس بريئة أزهقها، والعدل الإلهي جرى مجراه!! فإن ذلك شيء، وتصور المصريين أن الفرنساويين قد ظلموا رجلا من كبار رجالهم، شيء آخر، خصوصا إذا كان السيد محمد كريم ينتسب حقيقة إلى الأشراف بلقب السيادة، وإن كان لقب «السيد» يطلق في مصر على أبناء البلد فيقولون «سي السيد» فلان، لكل معمم وتاجر ومن لا صفة له من العلم أو الوظيفة، ولا شك أن نابوليون أراد أن يلقي على المصريين درسا ثقيلا، ولكنه ككل الأوروبيين لا يصلون إلى فهم الروح الشرقية، ولذلك فإنه بدلا من أن تستفيد سياسته من قتل السيد محمد كريم والتمثيل به، قد خسر أضعاف ذلك من تغير القلوب، وإعطاء أعدائه سلاحا ماضيا لمحاربته وتنغيص سلطته.
وأصدر أوامره للجنرال كليبر بالإسكندرية بأن يقطع دابر الأعراب في مديرية البحيرة، وأن يحفظ مواصلاته ببحيرة أدكو ورشيد، وكذلك أصدر أمرا طويلا إلى الجنرال أندريوسي (Andreossy)
بدراسة وفحص بحيرة المنزلة حتى يأمن على البلاد من السفن المعادية.
ولتحصين بحيرة المنزلة وفحصها حدثت محاربات ووقائع عسكرية بين الفرنسيين وبين أهالي الجهات الواقعة بالقرب من دمياط وفي مديرية الدقهلية.
ولما كانت المصادر العربية خالية كل الخلو من الإشارة إلى تلك الوقائع والملاحم رأيت من الواجب أن أعتمد على المصادر الفرنسية فألخص من «لاكروا» الروايات الآتية في مكانيها، قبل أن ننتقل إلى مخابرات نابوليون مع والي عكا، وقبل أن ندخل في أسباب وتاريخ ثورة القاهرة، ليرى القارئ المصري أن الفرنسيين لم يكونوا مطمئنين لا في الداخل ولا في الخارج، ولا في القاهرة ولا في الأقاليم، وفي ذلك من الموعظة السياسية والتاريخية ما فيه.
وإلى القارئ ملخص لتلك الملاحم والحوادث التي جرت في شمال القطر المصري ملخصه عن «لاكروا» قال ما خلاصة تعريبه:
عين الجنرال مينو «الذي أسلم بعد وسمي عبد الله مينو» محافظا لرشيد وبعد أن وجه عنايته لنشر أعلام الأمن في ربوع هذه الأرجاء وإعادة الطمأنينة إليها قرر أن يتفقد الأحوال بنفسه فيها، واستصحب معه الجنرال «مارمون» الذي أرسله القائد العام بمهمة خاصة، وقاما للطواف في البلاد ومعهما بعض أعضاء المجمع العلمي في مصر الذين انتهزوا هذه الفرصة للبحث والتنقيب خدمة للعلم».
وفي اليوم العاشر من شهر سبتمبر سافرت هذه البعثة من رشيد سائرة على ضفاف النيل، ولم يكن رجالها يخافون أهل البلاد أو يرتابون في إخلاصهم بعد أن رأوا احتفاء أهالي برمبال ومطوبس وفوه بهم.
وأراد الجنرالان أن يعبرا إلى الضفة اليمنى، ولكن فيضان النيل حال بينهما وبين أمنيتهما؛ إذ كان لا بد لهما من اجتياز جسور لا يزيد عرضها عن قدمين، وهي مهددة بالسقوط من وقت لآخر.
ولما وصلت البعثة إلى كفر شياس عامر في اليوم الخامس عشر من شهر سبتمبر ووثقت بإخلاص الأهالي لم يأخذ الجنرالان معهما للحراسة غير ستة أو ثمانية من الفرسان، ولكن لم تكد البعثة تدخل هذه القرية حتى أحاط برجالها عدد كبير من الأهالي بأيديهم البنادق والحراب، فلما رأى العلماء ذلك فروا هاربين وتقدمت جموع المصريين واستولوا على الجسر ليمنعوا الفرنسيين من اجتيازه، ولما رأى الجنرالان أنهما وقعا في الفخ تبعا الهاربين، ووقع مصور اسمه «جولي» من فوق جواده خوفا ورعبا، وأراد الجنرال مارمون أن يعيده على الجواد، ولكن الرجل ملكه الهلع فلم يستطع أن يحرك قدميه أو يعتدل على جواده، وسقط ثانية فاضطر الفرنسيون لتركه وذبحه الأهالي أمام أبناء جلدته الذين لم يستطيعوا إنقاذه.
وكان الجنرالان قد تركا كتيبة من الجند لحفظ الأمتعة فوصلا إليها وعادا مستصحبين مائة وأربعين رجلا، ولكنهما وجدا أن الجسر قد قطع في عدة مواضع واضطرا أن يخوضا الماء برجالهما، ولم تستطع هذه القوة الصغيرة أن تحاصر القرية إلا بمشقة كبيرة.
ولم يثبت الأهالي إلا قليلا وانسحبوا إلى المنازل والأبراج في كفر شياس عامر، وقاد الجنرال مارمون فصيلة من حملة القرابينات وزحف حتى وصل إلى باب البرج الكبير، ولكن علو ذلك البرج ومتانة بابه لم تمكنه من اقتحامه إذ كان من فيه يطلقون عليه نيران البنادق ويرمون رجاله بالأحجار الثقيلة بحيث لم يستطع الجنود القرب منه.
وبعد قليل دخل الجنرال مينو إلى القرية فقتل جواده برصاصة ووقع الجنرال في حفرة عمقها ثلاثة أقدام، ولما رأى الجنرال مارمون حرج الموقف أراد أن لا يعرض رجاله للقتل وصمم على احتلال البلدة، فأمر رجاله أن يشعلوا النار في المنازل وأن يدمروا جزءا من البرج، وفي الساعة الحادية عشر مساء حينما اندلعت السنة النيران في البيوت هرع عدد عظيم من أهالي القرى المجاورة لإغاثة القرية التي تأججت فيها النار، ولكن تمكن ثلاثون من الجنود الفرنسيين كانوا على الجسر من أن يصدوا هؤلاء القادمين ويمزقوا شملهم ثم أكرهوهم على الفرار، واستطاع الفرنسيون أن يدمروا القرية ويهدموا البرج، ولم يفقد منهم غير ثلاثة من القتلى وتسعة عشر من الجرحى.
ولما رأى الجنرالان مينو ومارمون أن الفرصة غير ملائمة لاستئناف الطواف في الدلتا أرجأ هذه المهمة حتى ينتهي وقت الفيضان وعادا إلى رشيد برجالهما.
وقد حدث مثل هذه الحوادث في الوقت ذاته في أقاليم المنصورة ودمياط والمنزلة، وجاءت قوة من العرب في مديرية الشرقية يعاونها عرب «درة» وأهالي المنزلة تحت قيادة زعيم قادر اسمه حسن طوبار
12
صديق المماليك وحليف لهم فهجمت في ليلة 15 سبتمبر على حامية دميان، ولكن هذه استطاعت أن تقف في وجه هؤلاء المغيرين وتصدهم.
وفي 16 سبتمبر ثارت قرية الشعراء الكائنة على رمية قوس من دمياط واجتمع فيها العرب واتخذوها محلا لقيادتهم العامة، وفي 17 و18 وصلهم إمداد كبير وكذلك وصلت لحامية دمياط إمدادات أيضا.
وفي 28 سبتمبر صمم الجنرال «فيال» أن يهاجم قرية الشعراء وتولى الجنرال أندريوسي قيادة العمارة البحرية التي ألقت مراسيها بقرب القرية، وصف العدو «أي: المصريين» رجاله صفا واحدا واحتل المنطقة الواقعة بين النيل وبحيرة المنزلة، وكان عدد رجاله نحو 10 آلاف «كذا»، فأرسل الجنرال «فيال كتيبة من الفرقة الخامسة والعشرين لتهجم على ميمنة العدو وتقطع عليه الطريق إلى بحرية المنزلة، وفي الوقت ذاته هجم على المقدمة ففرق شمل العدو الذي غرق كثير من رجاله في النيل وبحيرة المنزلة، وأشعل النار في قرية الشعراء فمات نحو 1500 من العرب بين غريق وقتيل وغنم منهم مدفعين جميلين من البرونز وثلاثة أعلام، أما الفرنسيون فلم يفقدوا إلا قتيلا واحدا وأربعة من الجرحى، وهكذا استطاع جيش صغير من الفرنسيين قوامه 500 رجل أن يقهر عرمرما للعدو عدده 10 آلاف!! وامتاز في هذه الموقعة بالبسالة الكابتين سابانية وأرسل القائد العام إلى الجنرال فيال رسالة يهنئه فيها بالفوز جاء فيها «إن الموقعة التي قمت بها أيها الجنرال المواطن في قرية الشعراء رفعت مكانتك ومكانة جنودك.»
وكلف الجنرال فيرديه بالزحف على قرية سنباط بمديرية المنصورة فسار ومعه قوة مؤلفة من 600 رجل، وقام بمهمته خير قيام رغم ما لاقاه من ثبات العرب الذين قتل منهم نحو خمسين رجلا دون أن يفقد الفرنسيون غير جندي واحد!!
وأرسلت عدة حملات صغيرة قليلة الأهمية إلى بلاد الوجه البحري وظلت الثورات من أواخر أغسطس حتى نهاية سبتمبر، ولكن قضي عليها ووزعت الفرق الفرنسية في أقاليم الدلتا.
وبقي عرب «درنه» محتلين قرية «دنديط» فأرسل نابوليون أمرا إلى الجنرال «مورات» قائد القوة بإقليم القليوبية والجنرال «لانوس» بالزحف واستخلاص هذه القرية فوصلا إليها في 28 سبتمبر وفرقا شمل الثائرين بعد أن هلك منهم نحو مائتي رجل بين غريق وقتيل، وتركوا قطعانهم وجمالهم وحميرهم، ولم يصب من الفرنسيين غير بعض الجرحى.
وقدم الجنرال مورات تقريرا اثنى فيه ثناء عاطرا على الجنود واختص بالمديح الضابط نيثرودو، وكان هذاالضابط سويدي الأصل امتاز بالبسالة والإقدام ورقي إلى رتبة قائد فرقة، وجرح بعد ذلك جرحا مميتا في سنة 1803 إذ اعتدي عليه في مدينة «بني جواف».
وكان بونابرت يعلق أهمية كبرى على امتلاك بحيرة المنزلة، ويظهر ذلك من تعليماته التي أصدرها إلى الجنرال أندريوسي إذ جاء فيها:
يا مواطني الجنرال علمت مسرورا خبر وصولك إلى دمياط، ويظهر لي أنك وصلتها في الوقت الملائم لتساعد الجنرال «فيال» وتمده بنصائحك وآرائك الثاقبة ولتقدم للجيش مرة أخرى خدمة كبيرة.
يجب أن يكون معك عدد كبير من الجنود وقد أصدرت الأوامر إلى الجنرال دوجا بالاستيلاء على المنزلة، وأن يدخل إلى البحيرة أكبر عدد يستطيعه من القوارب والسفن المسلحة بالمدافع الصغيرة، وأمرته أن يطوف بالجزر الموجودة في هذه البحيرة وأن يأخذ رهائن من كل القرى التي تظهر العداء، وأن يقوم بكل ما يلزم، وقلت له يجب عليك: (1)
أن تسيطر على بحيرة المنزلة. (2)
ولكي تستطيع الوصول إلى «يباوس»
13
يجب أن تذكر كلماتي وتعمل بها وهي: اجتهد أن تدخل في البحيرة كل الفرقة التي معك، ويجب أن يصل الجنرال اندريوسي إلى بياوس.
إنني أعتقد أن مصر لا يمكن أن تهاجم الأمن بحيرة المنزلة، وإن الدفاع والهجوم يتوقف على ما تقوم به، وإذن يجب عليك السير بحذير وبطء ولا تتقدم إلى الأمام إلا إذا كنت متحققا منه؛ لأنه ربما كانت حفرة صغيرة سببا في خطأ حسابنا ولتعرف: (1)
كم عدد المراكب الموجودة في بحيرة المنزلة؟ (2)
وكم تستطيع كل منها أن تحمل من الناس؟ (3)
وما هو عمق البحيرة؟ (4)
وهل يمكن لكل قارب أو مركب أو سفينة أن تمخر في البحيرة؟ (5)
وما هو عمق كل من المصبات الثلاثة؟ (6)
وهل يمكن لسفينة مدفعية أن تمخر فيها؟ (7)
وكم عدد سكان الجزائر الموجودة في البحيرة؟ (8)
وما السبيل إلى اتصال دمياط بالحيرة؟ (9)
وهل ماء البحيرة حلو أو مالح؟ (10)
وكيف يستطيع الجنود الذين يعسكرون بين البحيرة والبحر أن يتصلوا ببعضهم؟
لا تذهب إلى «يباوس إلا بقوات كبيرة وليكن معك على الأقل ست كتيبات مسلحة كل منها بمدفع، ولا تغادر دمياط إذا لم يكن معك على الأقل 500 رجل وستة مراكب مسلحة بالمدافع وخذ معك من الماء ما يكفيك للإقامة في بياوس خمسة أو ستة أيام لا بل عشرة أيام.
وأرسل لي مذكرات عن كل ما تجده في دمياط والمنزلة والصالحية: وكل ما يتعلق بدمياط والنيل والدفاع عن المرسى.
بونابرت
وبعد أن عاد الجنرال اندريوسي إلى دمياط عقب واقعة الشعراء قام بالمهمة التي عهدت إليه خبر قيام وكانت عمارته البحرية مؤلفة من ستة عشر مركبا منها ثلاثة مسلحة، وسافر من دمياط في 3 أكتوبر ونزل إلى النيل واجتاز البوغاز، وصار معه 100 رجل في الطريق الفاصلة بين بحيرة المنزل والبحر، وترك بقية الجيش في السفن، وفي اليوم الرابع من أكتوبر سبر عمق البوغاز في «ديبه» وخرج من البوغاز قاصدا المطرية، فرأى عمارة العدو البحرية تمخر مخفية وراء الجزر قد ظهرت أشر عنها فأطلق عليها نارا حامية مدة ساعتين لكي يدمرها من جهة وليعلن الجنرال «فيال» من جهة أخرى أن المعركة قد بدأت، وكان هذا الجنرال متأهبا فلما احتل الجنرال اندرويسي منطقة قرية المنية «غرب دمياط» أرسل له الجنرال «فيال» بعض الجنود لتعزيز قوته: ولما جاءه أمرهم أن يطفئوا عطشهم قبل الدخول في المعركة فأجابوه لسنا عطاشى ولا حاجة لنا بالطعام، بل نريد الحرب، وهبوا للقتال ونشبت معركة شديدة قتل فيها من العرب والفلاحين خلق كثير ولم يقتل ولم يجرح جندي فرنسي واحد، وكان قائد قوة العدو حسن طوبار فأرسل إليه الجنرال «دوجوا» كتابا يدعوه إلى الاتفاق مع الفرنسيين، فرد عليه الشيخ حسن طوبار بما يلي: «إنني لا أريد أن أرى الفرنسيين لا عن قرب ولا عن بعد، وإذا أكدوا لي أنهم يبقون مسالمين هادئين في ضواحي المنزلة، فإنني أدفع لهم الضرائب التي كنت أدفعها للمماليك، ولكنني لا أريد أن يكون بيني وبين الكافرين أقل اتصال.»
وبعد ثلاثة أيام أرسل الجنرال اندريوسي الضابط «تيرليه» رئيس فرقة عمال الجسور، والكابتن ساباتيه من فرقة المهندسين للقيام بالأعمال المتعلقة بسير غور البحيرة ومعرفة ما أراده بونابرت .
وقد أكرهت هذه الموقعة مراكب العدو على الابتعاد حتى المصب القديم في «بياوس» ومكنت الفرنسيين من إقامة حاميات عسكرية في المطرية والمنزلة لحماية العمارة البحرية الفرنسية التي خصصت للجولان في البحيرة.
وإلى هنا ينتهي التلخيص من الفرنسية عن بحيرة المنزلة وما جرى من المناوشات الفرعية في شمال الدلتا. (7) مخابرات سياسية
وبدأ يكاتب حكومة الباب العالي، وأحمد باشا الجزار والى عكة ليتودد إليهما، وليأمن جانب اعتدائهما، وليتوصل من ذلك إلى إقناع المصريين بأن جلالة السلطان وخليفة المسلمين راض عن احتلال الفرنساويين لمصر تنفيذا للسياسة التي وضع خطتها عند قدومه، وقد وقفنا في المصادر الفرنسية على نص الخطابين اللذين بعث بهما إلى أحمد باشا الجزار، ثم الخطاب الذي أرسله إلى الصدر الأعظم: أما أول خطاب بعث به الأول فقد أوفده إليه مع مسيو بوفوازين
Beauvoisin
وكانت وظيفته في القاهرة قومسير لدى الديوان المخصوص «أشبه بالمستشار المالي في مجلس الوزراء سابقا» وقد ألقى عليه التعليمات الآتية في خطاب محفوظ في أوراق نابوليون بنمرة 3087 وهذا نصه:
المعسكر العام بالقاهرة في 22 أغسطس 1798 (يوافق 10 ربيع أول سنة 1213)
على الستوين بوفوازين أن يذهب إلى دمياط ومنها يبحر على سفينة تركية أو يونانية قاصدا يافا ليحمل إليها الخطاب المرفق بهذا إلى أحمد باشا الجزار، وليطلب مقابلته لكي يصرح له بصوت عال أن المسلمين ليس لهم أصدقاء صادقون في أوروبا مثلنا، وإنني قد علمت مع الأسف أنهم يعتقدون في سوريا أنني أنوي الاستيلاء على أورشليم «بيت المقدس» والقضاء على الدين الإسلامي، ليقل له إن مثل هذا الظن بعيد عن رغبتي وميولي، فليكن مطمئن الخاطر مستريح البال، وإنني أعرفه بالسماع لما اتصل بي من أنه رجل ذو فضل وكفاءة، وليؤكد له أنه إذا أحسن التصرف معنا ولم يتعرض لمن لا تعرض له فإننا نصادقه، وبدلا من أن يكون وجودنا في أرض مصر منقصا لسطوته، فإنه يزيدها قوة وتمكينا، وأنني أعلم أن المماليك الذين بددت شملهم قد كانوا أعداءه، ويجب عليه أن لا يخلط بيننا وبين عامة الأوروبيين؛ ذلك لأننا بدلا من أن نستعبد المسلمين، فإننا بالعكس نفسح لهم طريق الحرية، والخلاصة أن على رسولنا أن يشرح لأحمد باشا ما وقع في مصر، ويحسن أيضا أن يزيل من رأسه فكرة الاستعداد للحرب، ويبعده عن التدخل في المشاغبات، وإذا لم يكن أحمد باشا في يافا فعلى الستوين «بوفوازين» التوجه إلى عكة، ولكن يحسن به أن ينتهز فرصة وجوده في يافا لزيارة الأسر الأوروبية، وخصوصا ليقابل وكيل القنصل الفنرساوي، ولكي يقف على أخبار الآستانة وما يجري من الأمور في سورية.
بونابرت
وهذا نص الخطاب الموجه إلى أحمد باشا الجزار «محفوظ بنمرة 3078»:
إلى أحمد باشا حاكم صيدا وعكا
معسكر القاهرة (في 22 أغسطس 1798)
إنني لم آت مصر محاربا للمسلمين بل جئتها لمحاربة البكوات، واعتقد أني بالقضاء عليهم قد عملت عملا عادلا وموافقا لصالحك؛ لأنهم كانوا أعداءك ولا بد أنك تعلم أنني لما وضعت قدمي في مالطة كان أول عمل عملته أن أطلقت سراح ألفين من أسرى الأتراك الذين قصوا عدة سنين في ذل الأسر والعبودية، وما وصلت إلى مصر حتى طمأنت خواطر الأهالي وبالغت في احترام العلماء ورجال الدين ومساجد المسلمين، ولم يلق حجاج بيت الله مثل ما لاقوا من العناية والرعاية معي، ولم يحتفل بمولد النبي بمثل ما احتفلت به بالأبهة الكاملة والاحترام العظيم.
وقد بعثت إليك بهذا الخطاب مع ضابط يستطيع أن يوقفك على ميولي ورغبتي في أن أكون معك على صفاء وسلام لتساعد معنا على ترقية الوسائل التي تؤدي لنمو التجارة وخير البلدين، وأؤكد أنه لا يوجد للمسلمين أخلص أصدقاء من الفرنساويين. ا.ه.
بونابرت
وظاهر من عبارة هذا الخطاب، ومن التعليمات التي وضعها نابوليون للستوين «بوفوازين»، أن نابوليون قد اتصل به أن أحمد باشا الجزار والي عكا، أو أميرها فعلا، قد شرع في الاستعداد للغارة على مصر بناء على تعليمات وردت له من الآستانة، أو بناء على اتفاق بينه وبين الإنكليز؛ لأن أحمد باشا الجزار قد كان رجلا مدربا عرك الدهر وحلب أشطره، فهو لا يخفى عليه أن نابوليون قد قضى على سلطة المماليك في مصر، وهو ليس بأكثر منهم عددا وعدة، فلولا أن يكون معضدا بقوة تعادل قوة الفرنساويين، لما تأخر عن الاتفاق مع نابوليون، ولم يك أحمد باشا الجزار بالرجل الذي تهمه الفكرة الإسلامية، ولا الارتباط بالخلافة العثمانية؛ إذ من المؤكد أن الجزار لم يكن تابعا للدولة العلية إلا بالاسم، ولطالما حاول رجال الدولة القضاء على سلطته فلم يفلحوا، واستبد بالملك في عكا وصيدا ويافا، وامتد رواق سلطانه على الدروز في جبل لبنان، وبلغ من الاستبداد مبلغا عظيما حتى هابه الناس، ونفرت منه القلوب، فلما وصل إليه رسول نابوليون أبى مقابلته، ومع بعد الشيخ الجبرتي عن معرفة هذه الأمور لتكتم الفرنساويين إياها، فإنه علم بها فقال: «وفي حوادث أواخر شهر ربيع الأول حضر القاصد الذي كان أرسله كبير الفرنساوية بمكاتبات وهدية إلى أحمد بك الجزار بعكا، وصحبته أنفار من النصارى الشوام في صفة تجار، فلما وصلوا إلى عكا وعلم بهم أحمد باشا أمر بذلك الفرنساوي فنقلوه إلى بعض النقاير،
14
ولم يواجهة، ولم يأخذ منه شيئا، وأمره بالرجوع من حيث أتى وعوق عنده نصارى الشوام الذين كانوا بصحبته» ... وفي رواية المعلم نقولا أن مندوب نابوليون، ويسميه «باظان» «بوفوازين»، قد ركب سفينة من سفن أحمد باشا الجزار، كان الفرنساويون قد قبضوا عليها وأسروها في دمياط، فلما وصلت السفينة إلى عكا نزل قبطانها وهو الذي أرسل الخطاب إلى الجزار، فلما قرأه - على رواية المعلم نقولا - «قال للقبطان وجه هذا الكافر، ودعه يسافر، وإن لم يرجع في الحال، من هذه الديار، أحرقته بالنار»!!
وذكر «لاكروا» أن نابوليون بعث برسول ثان إلى عكا فكان حظه أشأم من الأول؛ إذ أمر الجزار بقتله والتمثيل به، ولكن «لاكروا» على سعة اطلاعه، ووجود المحفوظات الرسمية تحت أمره لتأليف كتابه، لم يذكر نص الخطاب الثاني الذي بعث به نابوليون إلى أحمد باشا الجزار، فقد كان بونابرت في خطابه الثاني أقل صلفا وأخف دعوى، وقد عثرت على نص هذا الخطاب الثاني في مذكرات «ميو» وهذا تعريبه:
15
لا أريد أن أدخل معك في حرب، نعم أنك لست عدوا، لي ولكن حان الوقت لتعلم أنك إذا بقيت جاعلا حدود مصر ملجأ لإبراهيم بك، فإنني أعد ذلك علامة للعداء وأذهب إلى عكا.
وإذا كنت تريد أن تبقى في سلام معي فابعد إبراهيم بك على مسافة أربعين فرسخا من حدود مصر، ودع التجارة حرة بين دمياط وسوريا.
وحينئذ أعدك باحترام البلاد التي تحت إمارتك وأترك للتجارة الحرية التامة بين مصر وسوريا في البر وفي البحر.
بونابرت •••
وقد أكدت المصادر الموثوق بها أن الجزار كان قد عقد مع الإنكليز اتفاقا على أنهم يحمون عكا بمدافع أساطيلهم، ولولا ذلك لما عجز نابوليون، في حملته على الشام عن فتح عكا وعن إدراك ما أراده وكانت تطمح إليه آماله في الشرق.
ونرى من الواجب هنا ذكر شيء عن تاريخ أحمد باشا الجزار ليكون لدى القارئ صورة في ذهنه عن هذا الرجل الغريب، ويوفق بينها وبين حكمنا السابق عليه.
ذكر الشيخ الجبرتي أحمد باشا الجزار في وفيات سنة 1219 هجرية ووصفه «بالجناب المكرم، والمشير المفخم، والوزير الكبير، والدستور الشهير» وأثنى عليه على الرغم مما ذكره من مظالمه التي قال فيها: «وأخاف النواحي وعاقب على الذنب الصغير بالقتل والحبس والتمثيل، وقطع الآناف، والآذان والأطراف، ولم يغفر ذلة عالم لعلمه، أو ذي جاه لوجاهته، وسلب النعم عن كثير جدا من ذوي النعم واستأصل أموالهم، ومات في محبسه ما لا يحصى من الأعيان والعلماء وغيرهم، إلى غير ذلك من الفظائع.» ثم قال: «ولقب بالجزار لما قتل من شيوخ عربان البحيرة نيفا وسبعين كبيرا وجاء برءوسهم للقاهرة.» وهنا يسأل القارئ وما كان شأن أحمد باشا الجزار والي عكا بالبحيرة والقاهرة؟ فنقول: إن أصل هذا الرجل من بلاد البوسنة، قال عنه المرحوم جودت باشا في تاريخه: «إن الجزار لم يكن من المماليك، بل هو بوسنوي الأصل من طائفة البوشناق الذين هم أشجع وأقوى طوائف الروم أيلي.» وقال عنه: «إنه قدم إلى دار السعادة وعمره ثمان عشرة سنة واشتغل حلاقا ثم سار يتردد إلى دائرة علي باشا حكيم أوغلي، الذي عين واليا على مصر سنة 1169 هجرية «1755م»، فسافر معه إلى مصر كواحد من الأتباع ثم أخذ يلتصق بالبكوات المماليك، وقلده علي بك الكبير كشوفية البحيرة وقتل من الأعراب من قتل أخذا بثأر سيده عبد الله، أحد أتباع علي بك، ثم فر من مصر في حوادث يطول شرحها فسافر إلى الآستانة، ثم عاد لمصر متنكرا وآوه عربان البحيرة الذين فتك من قبل برجالهم»!! ومما قاله الجبرتي: «وأقام بعرب الهنادي وتزوج هناك فلما أرسل علي بك «الكبير» التجاريد إلى ابن حبيب والهنادي حارب الجزار معهم ثم سافر إلى بلاد الشام.» وتقلبت به الأحوال من بؤس ورخاء، ولم يذكر الجبرتي أنه عاد لمصر مرة ثالثة ولكن جودت باشا يقول: «إنه بعد إقامته بدمشق خاوي الوفاض مرتبكا لأنواع السفالة والدناءة، توجه إلى مصر في زي أرمني، وبعد أن بات في بيته ثلاث ليال أخذ المال الذي في داره وجاء مرة أخرى إلى الشام.»
وكانت في سوريا «سنة 1185» منافسة: بين أولاد الظاهر عمر والدروز فدخل بينهم وصدرت إرادة الدولة باستخلاص صيداء من أولاد الظاهر وعين خليل باشا متصرف القدس قائدا للجند فكان الجزار معه، وأخيرا توصل الجزار إلى أن سار محافظا على قلعة بيروت ثم واليا لعكا.
هذا مختصر موجز لحياة رجل يقول عنه الجبرتي: «وبالجملة فكان من غرائب الدهر، وأخباره لا يفي القلم بتسطيرها، ولو جمع بعضها لكانت مجلدات، ولو لم يكن له من المناقب إلا استظهاره على الفرنساوية لكفاه.»
16
ولكن شيخنا الجبرتي لم يكن يعلم أن الذي صد الفرنساويين عن عكا لم يكن أحمد باشا الجزار، بل كانت سفن السيرسدني سميث
17
في البحر وتدبيرات فليبو
17
المهندس الفرنساوي في البر، ولا يفل الحديد إلا الحديد.
وفشل نابوليون أيضا فيما حاوله من الاتفاق مع الدولة العثمانية، ولما كان الخطاب الذي بعث به للصدر الأعظم في غاية من الأهمية التاريخية رأينا أن نأتي على تعريبه من المصادر الفرنسية وهذا تعريبه:
القيادة العامة الفرنسية بالقاهرة في 5 فركتدور العام الرابع للثورة، الموافق 22 أغسطس 1798
إلى الصدر الأعظم
يا دولة السيد العظيم: إن الجيش الفرنسي الذي أتشرف بقيادته قد دخل مصر ليعاقب البكوات المماليك على الإهانات التي لم يكفوا عن توجيهها للتجار الفرنسيين.
وقد عين المواطن «تاليران بيريجور» وزير الشئون الخارجية في باريس سفيرا من قبل فرنسا في الآستانة بدلا من المواطن «ادبرت دوبايبت» وزود بالسلطة والتعليمات اللازمة من لدن «الديركتوار» المفاوضة، وعقد معاهدة وتذليل ما عساه يقف من الصعوبات بشأن احتلال الجيش الفرنسي لمصر، ولتوطيد دعائم المحبة القديمة التي لا بد من بقائها بين الدولتين.
ولما كان يحتمل أن السفير لم يصل حتى الآن إلى الآستانة، فقد بادرت لإطلاع دولتكم على نية الجمهورية الفرنسية فهي لا تريد فقط إعادة العلاقات الحسنة القديمة، بل تروم أيضا الحصول على تأييد الباب العالي، وهي في حاجة شديدة إلى تأييده للقضاء على أعدائها الطبيعيين الذين يعملون ضدها.
ولا بد أن يكون السفير «تاليران بريجور» قد وصل الآن، وإذا كان قد تأخر بسبب بعض الطوارئ فأرجوكم أن ترسلوا إلى القاهرة من يكون موضع ثقتكم، وتزودوه بالتعليمات والسلطة اللازمة، أو أن ترسلوا إلي فرمانا حتى أستطيع أن أرسل لكم وكيلا، ليحدد معكم مصير هذه البلاد، ويدبر الأمور التي تكون في مصلحة عظمة السلطان والجمهورية الفرنسية حليفته الأكثر أمانة، وتوقع في الارتباك والحيرة البكوات والمماليك أعداءنا المشتركين.
وأرجو دولتكم قبول الاحترامات.
بونابرت
ولم يصل هذا الخطاب لحكومة جلالة السلطان حتى كانت الدولة العثمانية قد أعلنت الحرب رسميا على فرنسا في 21 ربيع الأول الموافق 2 سبتمبر من تلك السنة، وأخذت في جمع الجيوش بمدينة دمشق وبجزيرة رودس لإرسالها لمصر وأتت الدونائمة الروسية من البحر الأسود إلى بوغاز الآستانة، ثم خرجت إلى البحر الأبيض مع الدونانمة العثمانية، وذلك بمقتضى معاهدة أبرمت بين إنكلترا والدولة العثمانية والروسيا لمحاربة فرنسا، وإخراج جيوشها من أرض مصر، فكان ذلك من أعظم الأسباب التي حملت نابوليون على حرب الشام ومفاجأة الدولة قبل استعدادها كما سيأتي ذلك في مكانه.
وحاول نابوليون التأثير على العالم الإسلامي ورجال الدولة العثمانية بواسطة علماء مصر فاستكتبهم رسالة مطولة للتنويه بذكر الفرنساويين وحسن معاملتهم واحترامهم للدين الإسلامي، ولم نقف على نص هذه الرسالة؛ لأن الشيخ الجبرتي ضن بنشرها بالنص كأن نفسه لم تكن راضية عما فيها، مع أنهم طبعوها ونشروها في القاهرة، ومع ذلك فهو نفسه عمدتنا الوحيد فيما كتبه عنها قال: وفي السبت ثامن عشر ربيع الثاني كتبوا من المشايخ «تأمل هذا التركيب» كتابا يرسلوه إلى السلطان وآخر إلى شريف مكة، ثم إنهم بصموا منه عدة نسخ وألصقوها بالطرق والمفارق وصورته بعد الصدور، ذكر ورودهم «الفرنسيس» وقتالهم مع المماليك وهروبهم، وأن جماعة من العلماء ذهبت إليهم بالبر الغربي فأمنوهم، وكذلك الرعية دون المماليك، وذكروا فيه أنهم من أخصاء السلطان العثماني وأعداء أعدائه، وأن السكة «النقود» والخطبة باسمه، وشعائر الإسلام مقامة على ما هي عليه، وباقي المنشور بمعنى الكلام السابق من قولهم إنهم مسلمون وإنهم محترمون للقرآن والنبي، وإنهم أوصلوا الحجاج المتشتتين وأكرموهم، وأركبوا الماشي وأطعموا الجيعان وسقوا العطشان، واعتنوا بيوم الزينة يوم جبر البحر، وعملوا له شأنا ودونقا استجلابا لسرور المؤمنين، وأنفقوا أموالا برسم الصدقة على الفقراء، وكذلك اعتنوا بالمولد النبوي وأنفقوا أموالا في شأن انتظامه واتفق رأينا ورأيهم على بس حضرة الجناب المحترم مصطفى أغا كتخدا بكر باشا والي مصر جالا فاستحسنا ذلك لبقاء علاقة الدولة العلية، وهم أيضا مجتهدون في إتمام مهمات الحرمين وأمرونا أن نعلمكم بذلك والسلام. ا.ه.
وغريب أن يطلب نابوليون من المشايخ كتابة هذا المنشور في 18 ربيع الثاني بعد أن كانت الدولة العلية قد أعلنت الحرب على فرنسا وجمعت جيوشها لإخراج الفرنساويين من مصر منذ شهر تقريبا، ويبعد أن لا يكون نابوليون ورسله وجواسيسه منتشرة في مصر وسوريا على بينة من ذلك، ومن الغريب أيضا أن يذكر في هذا المنشور أن أبا بكر باشا لا يزال واليا على مصر!! (8) تلبد الجو بالغيوم
أسباب الثورة الكبيرة
لا نزاع في أن نابوليون قد تأكد في ذلك الوقت أن مركزه قد أصبح محفوفا بالمخاطر، فالطريق إلى فرنسا قد سدت في وجهه ولم يعد له أدنى أمل في العودة إلى بلاده، وكيف يكون ذلك وإنجلترا مسيطرة على البحر الأبيض المتوسط، ولم يبق من سفن فرنسا ما يصلح لنقل شرذمة من الجنود من موانئ فرنسا إلى مصر، وحكومة «الديركتوار» في باريز قد اختلت واعتلت وناوأها الخصوم والأعداء من كل جانب، والكثير من أعضائها يخشى سطوة نابوليون وشهرته!! كل هذه أمور لم تكن لتخفى على ثاقب فكر ذلك الرجل العظيم الذي برهن في حياته على ذكاء نادر المثال، ولقد ذكر «بوريين» في مذكراته أنه كان يجد نابوليون في القاهرة أثناء هذه الفترة شديد التفكر، كثير الصمت، بادي القلق والاضطراب ... ولا غرابة في ذلك فهذه حاله من جهة وطنه، فهو لا شك قد علم أن ثلاث دول كبار، تركيا وروسيا وإنكلترا، قد أشهرت الحرب عليه وصممت على الفتك به ومن معه في أرض مصر، فلا بد له من مقاومتها بكل الوسائل التي يستطيعها، والوسيلة الوحيدة أمامه هي مهاجمة تركيا في سوريا، والاستيلاء على تلك الديار؛ إذ كان يعلم أن جيشه أحسن نظاما وأكمل عدة من جيش الأتراك في ذلك الزمن، ولكن يلزمه للقيام بهذه المهمة المال الوفير، فمن أين يأتي به؟ لم يكن لديه مصدر غير مصر! وما أتعس حظ مصر!
ولقد سبق لنا أن شرحنا في هذا الكتاب أن موارد مصر قد نضبت وزد على ذلك أن تجارتها القليلة من طريق البحر الأبيض أو من البحر الأحمر قد عطلت بمحاصرة الإنكليز لشواطئها، ولم يكن من مصلحة نابوليون وسياسته القاضية باستجلاب محبة المصريين ومودتهم، أن يلجأ إلى ما كان يلجأ إليه المماليك، من مصادرة أموال الناس وامتصاص دمائهم، نعم إن الفرنساويين فعلوا شيئا من هذا على طرق شتى، ودعاوى مختلفة، ولكنهم فعلوه على شكل معقول، كدعوى مصادرة أملاك المماليك وتفتيش بيوتهم، ومطالبة الذين ينتسبون إليهم أو يخابرونهم بشيء من المال على قدر طاقتهم، ولو زاد الأمر عن ذلك الحد لما اتفق مع دعوى الفرنساويين بأنهم قدموا لينقذوا البلاد من ظلم المماليك، وليحافظوا على الحقوق، وليحترموا الواجبات!
فكيف يحصل نابوليون على المال اللازم للإنفاق على جيشه ورجاله، وكلهم راغب في الكسب، آلف لمعيشة الرفاهية؟ ثم كيف يحصل على المال اللازم لتجهيز الحملة على الشام ومقاومة الدولة العثمانية والأساطيل الإنكليزية والروسية؟ لم يبق أمامه إلا أن يفرض ضرائب جديدة على أهالي القاهرة ومدن مصر وقراها على طريقة جديدة، وكان معه من رجال الاقتصاد الإداري مسيو بوسيلج
الذي عينه مديرا للأمور المالية، وكان الجبرتي يسميه «بوسليك الروزنامجي»، ويقول المعلم نقولا: إن المصريين كانوا يسمونه «وزير المشيخة الفرنساوية»
18
فوضع له مشروعا يقضي بتسجيل عقود الممتلكات وحجج العقارات للتصديق عليها في مقابل ضريبة مخصوصة، فطالبوا أصحاب الأملاك بإحضار حججهم ومستنداتهم التي تثبت ملكيتهم.
قال الشيخ الجبرتي في هذا الصدد: «إن الغرض من ذلك التحيل على أخذ الأموال إذ طلبوا من الناس إثبات ملكيتهم، فإذا أحضروا حججهم وأثبتوا وجه تملكهم لها، إما بالبيع أو بالانتقال لهم بالإرث، لا يكتفى بذلك يأمر بالكشف عليها في السجلات، ويدفع على ذلك دراهم بقدر عينوه، فإن وجدوا تمسكه مقيدا بالسجل طلب منه بعد ذلك الثبوت، ويدفع على ذلك الإشهاد وثبوته قدرا آخر، ثم ينظر بعد ذلك في قيمة العقار ويدفع على كل مائة اثنين فإن لم تكن له حجة، أو كانت ولم تكن مقيدة بالسجل، أو مقيدة ولم يثبت ذلك التقييد، فإنها تضبط لديوان الجمهور وتصير من حقوقهم.»
ووضع له بوسيلج مشروعا آخر للضرائب يقضي بتحصيل أموال عن المواريث والتركات، وفي هذا يقول الجبرتي، وهو أدرى بشعور قومه: «ومن جملة الشروط مقررات على المواريث والموتى ومقاديرها متنوعة في القلة والكثرة كقولهم: إذا مات الميت يشاورون عليه ويدفعون معلوما لذلك ويفتحون تركته بعد أربع وعشرين ساعة، فإذا بقيت أكثر من ذلك ضبطت للديوان أيضا ولا حق فيها للورثة، وإن فتحت على الرسم بإذن الديوان يدفع على ذلك الإذن مقررا وكذلك على ثبوت الورثة، ثم عليهم بعد قبض ما يخصهم مقرر، وكذلك من يدعي دينا على الميت يثبته بديوان الحشريات ويدفع على إثبات مقررا ويأخذ له ورقة يستلم بها دينه فإذا استلمه دفع مقررا أيضا! ومثل ذلك في الرزق جمع «رزقة» والأطيان بشروط وأنواع وكيفية أخرى غير ذلك والهبات والمبايعات والدعاوى والمنازعات والمشاجرات والإشهادات الجزئيات والكليات، والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدرا، وكذلك المولود إذا ولد ويقال له إثبات الحياة، وكذلك المؤاجرات وقبض أجر الأملاك وغير ذلك.» ا.ه.
خلص المصريون من ظلم فوضى، فوقعوا في ظلم منظم! ولكي يعطيه صفة النظام، ويلبسه ثوب العدل، أصدر نابوليون أمره بعقد مجلس عام مؤلف من كبار الأمة وأعيانها من جميع أطراف القطر المصري، للموافقة والتصديق على هذا المشروع المالي «كتصديق الجمعية العمومية على الضرائب» فحضر من الإسكندرية ورشيد ودمياط وبقية بنادر القطر المصري بعض علمائها وأعيانها، واجتمع هذا الجمع في بيت قائد أغا بالأزبكية، قال الجبرتي: «فتوجه المشايخ المصرية والذين حضروا من الثغور والبلاد وكذلك أعيان التجار ونصارى القبط والشوام ومديرو الديوان من الفرنسيس وغيرهم جمعا موفورا.»
ثم افتتحت الجلسة بخطاب مطول عن مصر وتاريخها وكونها بلادا خصبة أضر بها الظلم وسوء الإدارة، وأن الفرنساويين بعثهم الله لينقذوها من الخراب والدمار، وأنهم يريدون إصلاحها وتنظيم أمورها، وأنهم استدعوا كبار المصريين في هذه الجمعية للاستفادة من خبرتهم ... إلى غير ذلك، وبعد أن أتم المترجم قراءة هذا الخطاب الذي يظهر من لهجته أنه من إنشاء نابوليون نفسه، طلب من الحاضرين انتخاب رئيس لهم.
وكان نابوليون قد حنق على الشيخ الشرقاوي؛ لأنه أبى أن يضع على كتفه طيلسان الجمهورية الفرنساوية ذا الثلاثة ألوان، وزجر نابوليون وخرج مغضبا من عنده، وعبارة الشيخ الجبرتي في هذه النقطة ظريفة قال: «ثم قال الترجمان نريد منكم يا مشايخ أن تختاروا شخصا منكم يكون رئيسا عليكم، فقال بعض الحاضرين: الشيخ الشرقاوي: فقال «نو نو»: وإنما يكون ذلك بالقرعة بأوراق فطلع الأكثر على الشيخ الشرقاوي، فقال حينئذ: يكون الشيخ الشرقاوي هو الرئيس.» وانقضى الاجتماع الأول وكان ذلك يوم السبت 25 ربيع الثاني، وفي يوم الاثنين اجتمع المجلس وكلف المعلم ملطي القبطي الذي شارك «بوسيلج» في وضع مشروع الضرائب ، بتلاوته ولم يقرروا في ذلك اليوم شيئا، وفي يوم الخميس اجتمعوا ثانية وأظهر المشايخ معارضة شديدة في تسجيل حجج الممتلكات، وقالوا: الأولى أن تقرض على العقارات ضرائب ليسهل تحصيلها ويكون ترتيبها بنسبة قيم الممتلكات، كعوائد الأملاك في الزمن الحاضر، ثم اجتمعوا مرة ثالثة وقرر المشايخ كيفية قسمة الورثة في الشريعة الإسلامية، فلم يرض بها الفرنساويون، وكانوا يريدون أن يورثوا الابن كالبنت بدعوى أن الولد أقدر على الكسب من البنت! فاحتدم الجدال بين الطرفين، ولكن يظهر من الأخبار القليلة التي وصلت إلينا عن هذا الاجتماع أن الأقباط والسوريين «ذكر منهم الجبرتي الخواجه ميخائيل كحيل من أعضاء هذه الجمعية» قالوا: إننا أعتدنا أن نقسم مواريثنا على شريعة الإسلام وقر القرار على أن يضع المشايخ بيانا بكيفية المواريث في الشريعة المحمدية، وكان آخر اجتماع لهذا المجلس الغريب يوم السبت 10 جمادى الأول إذ تقررت فيه عوائد الأملاك والعقار، فجعلوها ثلاث درجات يدفع الأعلى ثمانية ريالات فرنسية، والأوسط ستة والأولى ثلاثة، وما كانت أجرته أقل من ريال في الشهر فلا يدفع عنه شيء، قال الجبرتي: «وأما الوكائل والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين بحسب الخسة والرواج والاتساع، وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم والصقوها بالمفارق والطرقات، وأرسلوا منها نسخا للأعيان وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى وشرعوا في الضبط والإحصاء وطافوا في الجهات لتحرير للقوائم وضبط الأسماء وأربابها ... إلخ.»
ولا شك في أن هذه الاجتماعات، وما نشر من قبل من مشروع الضرائب الجديدة قد شغل بال أهالي القاهرة، فكان ذلك حديثهم في مجتمعاتهم وكثر لغطهم، وتضاربت آراؤهم، وغير خاف أن ثروة مصر في ذلك الزمن تجمعت في مدينة القاهرة، وتنوعت طبقات أهلها، من الملاك وأصحاب الدور الكبيرة والوكائل العديدة والحوانيت الكثيرة، إلى أرباب الحرف الصغيرة، وهذه الضريبة تمسهم جميعا من الكبير إلى الصغير، وكانوا قد ألفوا عدم دفع ضريبة ما اكتفاء بما كان المماليك يتحصلون عليه من أثمان محصولات البلاد، وما كانوا يفرضونه من الضرائب والمغارم على الأغنياء من التجار المصريين والأجانب على حد سواء.
فلا غرابة إن أظهر أهل القاهرة التململ من هذه الضرائب الجديدة الفادحة التي لم تخل منهم كبيرا ولا صغيرا، ولا غنيا ولا فقيرا، فكان ذلك سببا لثورتهم وهياجهم، تلك الثورة التي عادت عليهم بالوبال والنكال كما سنفصل ذلك في مكانه.
ومن رأي «لاكروا» عن أسباب الثورة، أن الأغنياء وأصحاب المصالح من المصريين مالئوا الفرنساويين وامتنعوا عن مقاومتهم؛ لأن صوالحهم تقضي عليهم بتجنب أسباب القلاقل، ولكن فرض هاتيك الضرائب على دورهم وعقارهم، وتركاتهم وديونهم ومؤاجراتهم، ودخلهم وخرجهم، قد نفر قلوبهم من الفرنساويين فساعدوا على تحريض العامة والغوغاء.
ومن رأي «بيريه» أن بعض علماء الأزهر وغيرهم من المشايخ الذين لم ينتخبوا لعضوية الديوان، ولم يشاركوا الفرنساويين في الأحكام وإدارة الأمور، حقدوا على الآخرين الذين خصوا بذلك وصارت لهم كلمة مسموعة في شئون البلاد، فانتهز أولئك الحاسدون فرصة تذمر الناس من الضرائب الجديدة، فحرضوهم على الهياج والثورة تحت ستار الدين.
ومن المؤرخين من ينسب ثورة أهالي القاهرة لتحريضات المماليك وما ورد من إبراهيم بك من المنشورات، ومن رجال الدولة العثمانية من المراسلات والمكاتبات، ومن هؤلاء المعلم نقولا الترك، وهاك ما يقوله في هذا الصدد ننقله بحرفه لما فيه من الفائدة التاريخية، وليقف القراء على أسلوبه ونظريته: قال: «إنه من بعد أن مكثت الفرنساوية، في المملكة المصرية مقدار ثلاثة أشهر فكان المسلمون يظنون أن سترد لهم الأوامر من الدولة العثمانية بتقريرهم على المملكة حسبما كانوا يشيعون، أنهم حضروا إلى مصر بإدارة السلطان سليم، وكان يخبر أمير الجيوش بقدوم عبد الله باشا العظم من الشام إلى مصر وأعد له منزلا ينزل فيه وأمر بتدبيره وفرشه ومضت المدة المعينة ولم يحضر أحد فتسبب من قبل ذلك أسباب كثيرة للنفور، وإيداع الفتن والشرور، من قتل السيد محمد كريم؛ لأنه كان أحد الأشراف، ومن ورود المكاتيب من الأمراء المصريين، وكتابات أحمد باشا الجزار إلى البلاد المصرية، واستنهاضهم على الفرنساوية، وإنه قادم عليهم بالعساكر العثمانية، وقد كان الفرنساوية يخرجون البنات والنساء المسلمات، مكشوفات الوجوه في الطرقات، ثم اشتهار شرب الخمر وبيعه إلى العسكر، ثم هدم جامع ومنارات في بركة الأزبكية لأجل توسيع الطرقات، لمشي العربات، وكان المسلمون يتنفسون الصعداء من صميم القلوب، ويستعظمون في هذه الخطوب وصاحوا لقد آن أوان القيام، على هؤلاء اللئام، فهذا وقت الانتصار إلى الإسلام.»
ونحن لا نجادل في أن الأمور التي عددها المعلم نقولا قد آلمت المسلمين وقرحتهم في مشاعرهم، ولكنها لم تكن هي السبب الأصلي في الثورة؛ لأن منشور الجزار ومكاتيب المماليك لم تصل القاهرة إلا بعد الثورة بنحو أسبوعين، كما هو وارد في الجبرتي، وما نظن الجزار في عكا قد طبع منه المئات والألوف، بل غاية ما كتب منه بضع نسخ وقعت في أيدي الفرنساويين فأبادوها، حتى إن الجبرتي نفسه لم يحصل على نسخة منها، وكذلك المعلم نقولا نفسه بدليل خلو كتابيهما منه، ثم إن المصريين كانوا قد ألفوا خروج النسوة العاهرات مكشوفات الوجوه مع الفرنساويين، والكثير من أولئك النسوة كن من السراري والجواري البيض والحبشان اللاتي وجدهن الفرنساويون في دور المماليك، وأولئك النسوة لا دين لهن ولا عرض وليسوا مصريات، وما كان المصريون يعدونهن من الحرائر إلا إذا اعتقن وتزوجن بعقد نكاح، وهذا الجبرتي، وهو من أقدم البيوتات العريقة في الحسب والنسب، ومن أهل التقوى والشدة في الدين، يذكر خروج أولئك النسوة مع الفرنساويين بغير تغيظ ولا انتقاد، كقوله عند سفر الفرنساويين للشام «وكان معهم عدة مواهي ومحفات للنسوة الجواري البيض والسود والحبوش اللاتي أخذوها من بيوت الأمراء وتزيا أكثرهن بزي نسائهم الإفرنجيات.» وكتب الجبرتي عن حضور القومندان الفرنسي لخط الشهد الحسيني وجلوسه في القهاوي مع الأهالي فقال: «ويحضر معهم ذلك الضابط ومعه زوجته وهي من أولاد البلد المخلوعين.» «كذا»، وغير خاف أن أولئك النسوة الرقيقات، من الأرمنيات والروميات والجركسيات، كن حلا لمن يبتاعهن من النصارى واليهود، وكان أغنياء الأقباط يتخذون منهن السراري كعادة المسلمين في ذلك الزمن، فما كان خروجهن مع الفرنساويين داعيا للثورة، وإن كان فيه من تغيير القلوب، واستنكار كشف وجوههن، بعد أن كن نسوة للمماليك وغيرهم، ما فيه ثم إن شرب الجنود الفرنسية للخمر وبيعه لهم بواسطة نصارى الشوام أو الأورام لا ينغص عيش المسلمين ويدفعهم إلى الثورة، ومن الغريب أن المعلم نقولا الترك يعدد كل هاتيك الأسباب وينسى السبب المباشرة للثورة كما اعترف به الفرنساويون وشهد به المعاصرون.
وقد كتب الشيخ عبد الله الشرقاوي في رسالته «تحفة الناظرين» قال: «فلما قامت عليهم أهل مصر بسبب طلبهم تقريد غرامة «كذا» على البيوت، قتلوا منهم ما يقرب من الألف، وهتكوا بعض الأعراض في مصر وقتلوا من علماء مصر نحو ثلاثة عشر عالما، ودخلوا بخيولهم الجامع الأزهر.» فالشيخ الشرقاوى، كبير علماء المسلمين في ذلك الزمن، قد كان أولى من المعلم نقولا الترك بأن يذكر أن خروج النساء حاسرات الوجوه، وبيع الخمور، وهدم المآزن والمساجد، كل ذلك كان سببا للثورة، بدلا من تخصيصه السبب بذكر الضرائب على البيوت.
والخلاصة أن الباحث المدقق والمؤرخ المنصف يحكم لأول وهلة أن السبب الأصلي في تلك الثورة هو مشروع هاتيك الضرائب الفادحة، ولا نزاع مطلقا في أنه متى وجد السبب، ودبت عقارب العدوان، وغلت مراجل القلوب، تكونت الأسباب الأخرى المرشحة للسبب الأول فتعطيه صفة تطير حولها قلوب العامة والغوغاء، ومن قبل فيعرض منهم حياته للموت الزؤام تحت مخدر المؤثرات الدينية، والعوامل الملية، والنعرات والقومية ... فالتعصب الديني الذي ينسبه الكتاب المسيحيون من أمثال نقولا الترك ومن جاراه من المؤلفين الحديثين، كالشيخ الدحداح ومن على شاكلته، لم يكن هو سبب الثورة بحال من الأحوال، وإن تكن الثورة قد لبست ثوب الدين في شكل من أشكالها، فما ذلك إلا لمقتضيات الظروف التي لا بد منها، والتي تصحب هياج العامة في كل زمان ومكان.
وليست هذه أول مرة ثار أهالي القاهرة «أو كانوا على أبواب الثورة » بسبب الضرائب والمغارم فقد حدث في سنة 1202؛ أي: قبل هذا التاريخ بإحدى عشر عاما أن إسماعيل بك فرض ضريبة على سكان القاهرة فذهب رؤساء الحرف والطوائف إلى الشيخ العروسي، شيخ الجامع الأزهر، كما ذهب القوم في هذه المرة إلى دار القاضي، وركب الشيخ العروسي معهم وقبل إسماعيل بك شفاعته خوف الفتنة، وإن يكن قد جمع ما أراد بعد بطرق أخرى.
19
هوامش
الفصل الثاني عشر
ثورة القاهرة
ذكرنا في الجزء الأخير من الفصل السابق العوامل التي كونت أسباب ثورة أهالي القاهرة التي حدثت في يوم الأحد 21 جمادى الأولى سنة 1213 21 أكتوبر سنة 1798، وقد اطلعنا على نص التقرير الذي بعث به نابوليون لحكومة الديركتوار في باريس عن هذه الثورة، وهذا التقرير مؤرخ في 27 أكتوبر ومحفوظ في مكاتبات نابوليون بنمرة 3538، فلم نر فيها أثرا لذكر السبب الذي حمل الأهالي على الثورة والهياج، وكل ما فيه بيان للخطة الحربية التي اتخذها لإخماد تلك الثورة، وكنت أود أن أنقل عن الجبرتي وصفه لهذه الثورة الداخلية، كعادتي في الاعتماد عليه في المواقف الأهلية التي تصور للقارئ الذكي حالة الشعب المصري العقلية والنفسية في ذلك الزمن، ولكن مولانا الجبرتي خرج عن أسلوبه الطبيعي البسيط الذي يدون الحقائق عارية عن ثوب الخيالات، واختار لوصف تلك الثورة الفريدة في بابها، بل ربما كانت الأولى والأخيرة من نوعها؛ لأنها قد كانت في الحقيقة ثورة أهلية ضد مظلمة عمومية، وأما الثورة الثانية في زمن كليبر، فقد كانت حربا بين جنود الترك والمماليك الذين دخلوا القاهرة بعد انهزام جيش الصدر الأعظم في المطرية وبين الجنود الفرنساوية، نقول: إن الشيخ الجبرتي اختار لوصف هذه الثورة أسلوب المقامات السجعية، ليظهر كفاءته الكتابية في ذلك الأسلوب الذي كان يعجب به أهل زمانه إعجابا كبيرا، ومع ذلك فلا بد لنا من الاعتراف بأن اعتمادنا واعتماد كل مؤرخ في وصف هذه الثورة من وجهة النظر المصرية عليه دون سواه؛ لأنه «شاهد عيان» وإن يكن - كما يخيل لي - قد أنشأ هذه المقامة التاريخية بعد مضى الحوادث بزمن طويل؛ لأنه لو دونه في وقتها لكان أسلوبه فيها بسيطا دقيقا كعادته.
انقضى المجلس العمومي، أو الجمعية العمومية على اصطلاح زماننا، يوم السبت بعد تقرير تلك الضرائب الجديدة الفادحة فكثر لغط الناس وتناجوا فيما بينهم، واندس فيهم من ذوي الأغراض وآلات الفساد من أوغر صدورهم، ومن هؤلاء بعض آلات الإنكليز وجواسيسهم، كما يذهب إليه كتاب الفرنساويين،
1
وإن لم يكن لدينا دليل تحقيقي - وقلما يوجد دليل يجزم في مثل هذه الأمور - فلم يكد يلوح فجر يوم الأحد حتى امتلأت الطرقات بالغوغاء، وليس لهم زعيم عاقل ولا مرشد مفكر، قال الجبرتي: «ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذين لم ينظر في عاقبة الأمور، ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور.»
2
مما يؤيد أن حزبا من المشايخ قد كان حاقدا وحاسدا للعلماء الذين خصهم الفرنساويون بالعناية والرياسة، وكان في القاهرة في ذلك الوقت رجل اسمه السيد بدر وهو رجل سوري الأصل من بيت المقدس، نقول: إن ذلك السيد بدر جمع حوله جما غفيرا من «حشرات الحسينية، وزعر الحارات البرانية»، وانضم إليهم خلق كثيرون حتى بلغوا نحو الألف عدا وقصد هذا الجمع الفوضي بيت القاضي الكبير بقصد أن يطلبوا منه التوسط لهم لدى الفرنساويين في محو تلك الضرائب أو تخفيضها، وكان القاضي المشار إليه، هو القاضي التركي الذي بقي في مصر ولم يفر مع إبراهيم بك وبكير باشا، وكان حقا عليه ذلك لأنه مولى من قبل السلطان بفرمان، ولما كان نابوليون ميالا لحفظ الصفة الدينية، ومظهر السيادة العثمانية، أبقى ذلك القاضي في وظيفته وتحبب إليه كثيرا ومنحه المنح الكثيرة والعطايا الوافرة، حتى لقد ذكره في تقريره عن هذه الثورة فقال عنه: «إنه رجل محترم لعلمه وفضله.» وكان اسمه إبراهيم أدهم أفندي كما ورد في التقرير المشار إليه واسمه في كتاب الجبرتي «بجمقشي زاده».
وكان من عادة المصريين أن يلجئوا إلى علماء الدين وقضاة الشرع في شكاويهم من ظلم المماليك وأتباعهم، ولذلك كان الغرض من التوجه إلى بيت القاضي، هو حمله على الذهاب إلى نابوليون، وفي رواية الجبرتي، أن القاضي لما رأى تجمعهم خاف العاقبة «وأغلق أبوابه، وأوقف حجابه!»، ولكن رواية نابوليون في تقريره تقول: إنه دخل على القاضي في أول الأمر نحو عشرين رجلا من الثائرين، فركب فعلا جواده وخرج، ولكنه ما كاد يسير قليلا حتى ألقى واحد من أتباعه نظره إلى كثرة المجتمعين وهياجهم، فرأى أن تلك الملاحظة صحيحة، ونزل في الحال عن جواده ورجع إلى بيته، فحنق عليه القوم واجتمعوا حول داره يرجمونها بالحجارة ... ولو أن القاضي حذرهم سوء العاقبة ولم يداخله الخوف من كثرة تجمعهم، وسار أمامهم إلى دار نابوليون، أو من ينوب منابه، لكان من الممكن أن تهدأ ثائرة القوم أثناء المناقشة، سواء بالوعد أو بالوعيد، ولكنه لم يفعل، فزاد بذلك هياج القوم وغيظهم واندلع لهيب الثورة في أحياء القاهرة.
ولا نظن أن مولانا القاضي قد اتخذ تلك السياسة لكي يزيد الخرق اتساعا! فقد يخطر ببال المفكر أن القاضي رجل تركي حاقد على الفرنساويين، وقد قضت عليه الظروف، التي فوق طاقته، بالبقاء في مصر فصانع الفرنساويين ولاطفهم، حتى إذا رأى أهل القاهرة في ثورة صحيحة ضد أولئك المغيرين لم يشأ أن يقف عقبة في سبيلها، وفضل أن يزيد في إشعال نارها بالامتناع عن الشفاعة للقوم، ولو رموه بالخيانة، ورجموه بالطوب والحجارة! والأتراك مشهورون بالدهاء وسعة الحيلة!
قد يكون هذا الظن معقولا لو كانت لدينا الأدلة على أن إبراهيم أفندي هذا كان من ذوي الأخلاق القوية، إلا أن تاريخه في حوادث مصر يشير إلى عكس ذلك ويدل على أنه كان رجلا ضعيف الإرادة، جبان القلب، كما يؤيد ذلك بقاؤه في القاهرة مع استطاعته الفرار مع إبراهيم بك ومماليكه ورجال الدولة، وكان هو أولى بذلك من السيد أحمد المحروقي والسيد عمر مكرم، ثم حدث في أثناء غزو نابوليون لسوريا أن مصطفى أفندي، كتخدا بكر باشا، الذي عينه الفرنساويون أمير الحج وقربوه ورفعوه خدع القاضي «وأخرجه معه على الفرنساوية» على غير إرادة منه كما سيأتي ذلك مفصلا في بابه.
وكيفما كانت الحال فإن الثورة اندلع لهيبها، واشتد أوارها، وأخذ الغوغاء يكثرون من الجلبة والصياح قائلين: «نصر الله السلطان»! وهكذا من خزعبلاتهم المعروفة، في تلك الأحوال المألوفة، ونادى بعض المعممين الضالين المضلين بالجهاد وقتل الكفار!!
وليت شعري أين كان هؤلاء وأين كانت هذه الوطنية والنعرة الدينية والفرنسيون لا يزالون في البر الغربي وبينهم وبين القاهرة نهر واسع عريض! ومعهم من المماليك عدد عديد، ومن الآلات والأسلحة شيء كثير! ولكنه الجهل يقوم حيث يجب أن يقعد، ويقعد حيث يجب أن يقوم!
كان نابوليون في تلك الآونة خارج القاهرة؛ لأنه برحها مبكرا مع بعض أركان حربه قاصدا مصر العتيقة وجزيرة الروضة، وكان الجنرال جونو
Juno
مقيما في الأزبكية حيث يقطن الجزء الأكبر من الفرنساويين، وكان الجنرال «ديبوي» المكلف بإدارة قومندانية القاهرة «أي: حاكمها» في منزل إبراهيم بك الوالي المطل على بركة الفيل، فلما وصلت إلى هذا الأخير أخبار تجمهر القوم وهياجهم خرج من داره قاصدا خط الغورية يقابل الشيخ عبد الله الشرقاوي، كبير العلماء ورئيس الديوان، للاستفسار منه عن هذه الحركة الفجائية، فلم يجده في منزله، وربما كان في ذلك الوقت في الجامع الأزهر حيث احتشدت الخلائق وتكاثرت الجموع وكثر الصياح واللغط، وكان الجنرال ديبوى رجلا في سن الثامنة والثلاثين من عمره، نشأ جنديا في ارتوا
Artois
ورقي ببسالته وإقدامه في درجات الجندية حتى سار في رتبة الجنرال التي منحه إياها نابوليون في مصر في هذه السن الفتية، ونريد بهذا الوصف أن نقول إنه كان جنديا جسورا مجازفا فلذلك اندفع في وسط الجموع، وليس معه إلا شرذمة من الفرسان، وفصيلة من البيادة للتوجه إلى بيت القاضي، فمر من شارع الصنادقية، فوجد الزحام شديدا، قال الجبرتي: «فخاف وخرج من بين القصرين وباب الزهومة، وتلك الأخطاط بالخلائق مزحومة.» وروى نابوليون في تقريره المشار إليه أن أحد رجال الإنكشارية الذين عينوا في بوليس القاهرة لما رأى ازدحام الناس ووقوفهم في وجه الجنرال «ديبوي» أطلق طبنجته الكبيرة فكان ذلك سببا في إشعال نار الثورة، وخروج القوم عن حد الصواب، وغريب أن نابوليون لم يرض أن يذكر في تقريره أن الذي أطلق طبنجته، فكانت سببا في إلهاب نار الثورة، هو ذلك اللعين برطلمين الرومي صنيعتهم وسنأتي على طرف من سيرته، فلما رأى ذلك الجنرال ديبوي حمل على القوم المتجمعين بمن معه من الجنود واندفع هو شاهرا سيفه أمامه فرشقه واحد، لا يعرف من هو، بسهم أو نوع من أنواع الحراب فقطعت له شريانا وسقط قتيلا يتدرج في دمائه، وفي رواية المعلم نيقولا الترك: إن الذي قتل الجنرال ديبوي، رجل من الأتراك ضربه بخشبه على خاصرته في سوق النحاسين، ومما جاء في كتاب الحملة الفرنساوية
3
أن «مسيو بودوف كاف»، من تجار الفرنسيين في مصر، وأحد أعضاء الديوان ركب مع ديبوي في ركبته المشئومة، فلما أحس ديبوي بالسهم التفت لبودوف وقال له: «لقد قضي علي.»
جرى الدم في شوارع القاهرة بين الفريقين فكان فاتحة الحرب وخاتمة الدمار؛ إذ دار القتال بين الجنود والأهالي: قال الجبرتي: «فعند ذلك أخذ المسلمون حذرهم وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح، وآلات الحرب والكفاح، ومسكوا الأطراف الدائرة، بمعظم أخطاط القاهرة، كباب الفتوح وباب النصر والبرقية، إلى باب زويلة وباب الشعرية، وهدموا مساطب الحوانيت، وجعلوا أحجارها متاريس، ووقف دون كل متراس، جمع عظيم من الناس.» وبعبارة موجزة إن الأهالي تحصنوا في الدور والطرقات الضيقة وعلى أبواب المدينة التي ذكرها الجبرتي كأنهم في حصار وأي حصار!
فلما شاعت الأخبار أسرع الجنرال «جونو» فبعث رسولا لنابوليون فحضر نابوليون مسرعا بمن معه من جهة مصر العتيقة، فوقف القوم في طريقه، ولم يكن نابوليون مشهورا مثل «ديبوي» ولذلك رضي أن يقصد جهة بولاق ويدخل من جهة الأزبكية وفي الحال أصدر أوامره بالسرعة التي امتاز بها في أدوار حياته العسكرية، فعين الجنرال «بون» لقومندانية القاهرة بدلا من «ديبوي» وأخذ في إعداد المدافع في الجهات المناسبة ووجه بالجنود إلى أحياء المدينة المتطرفة فأطلقت البنادق على الأهالي بلا تمييز ولا تدقيق.
وكان في القاهرة، كما يوجد فيها الآن عدد وافر من المغاربة، وهم عادة من أجلاف القوم وأهل الشرور الذين يودون مثل هاتيك الظروف السيئة ليعبثوا في البلاد سلبا ونهبا، فأولئك القوم كانوا أول من تظاهر بالحمية القومية والغيرة الدينية ووقفوا، كما يقول الشيخ الجبرتي، عند جهة المناخلية، فقصدهم الفرنساويون وأجلوهم عن تلك البقعة فارتدوا عنها منذعرين وأنسابوا في المدينة مع من انضم إليهم من أسافل القوم، وامتدت أيديهم لنهب الدور وهتك النساء، والتعرض للنصارى واليهود بالأذى، ومن الغريب أن أولئك المغاربة قد كانوا أول من انضم إلى الفرنساويين بعد إخماد هذه الفتنة، واتخذوا منهم جنودا بعثوا بهم إلى المنوفية لمقاتلة أهلها وخصوصا آل شعير في كفر عشما، وسنذكر ذلك في حينه، قال الجبرتي عن أولئك المغاربة وأسافل العامة: «وسبوا النساء والبنات، ونهبوا خان الملايات، وما به من الأمتعة والموجودات، وأكثروا من المعائب، ولم يفكروا في العواقب.»
وبقي الحال على هذا المنوال حتى أقبل الليل وأرخى سدوله على المدينة، وكم كان في تلك الساعة من امرأة تندب حظها، وبنات يصرخن، وأمهات يولولن، وشيوخ عاجزين عن صد تيار الفتنة!! وانتهز نابوليون فرصة دخول الليل، قال في تقريره: «وفي منتصف الليل سار الجنرال دومرتين
Dummartin
ببطارية من المدافع فوضعها على مرتفع واقع بين القبة والقلعة، وذلك المرتفع يتسلط بمسافة نحو خمسمائة قدم على حي الجامع الأزهر.» وفي هذا يقول الجبرتي: «وأما الإفرنج فإنهم أصبحوا مستعدين، وعلى تلال البرقية والقلعة واقفين، ولأمر كبيرهم منتظرين.»
والحق يقال إن نابوليون لم يرد أن يأمر بإطلاق القنابل على المدينة لما في ذلك من تخريب الدور وإزهاق الأنفس قبل أن يبعث للقوم برسل السلام، وكلمات النصح والتحذير.
قال الجبرتي: «وكان كبير الفرنسيس أرسل إلى المشايخ مراسلة فلم يجيبوه عنها ومل من المطاولة.» وكانت الطلقات النارية ومن البنادق تتجارب في كل مكان وحي، بين الأهالي من جانب، والنصارى المختفين في دورهم، وبعض الفرنسيين والأجانب الذي استوطنوا في بعض أحياء القاهرة، من آخر قال «ميو» في مذكراته: «وكان كشير من الفرنساويين الذين أنشئوا المطاعم والقهاوى متشتتين في أطراف المدينة فأولئك فتك بهم الثائرون ونهبوا دورهم، وكذلك حاصر القوم دار العلماء، فاضطر هؤلاء أن يدفعوا عن أنفسهم.» وذهب جماعة من الثائرين إلى الدار التي يسكنها الجنرال «كفريللي» المهندس الكبير وهي دار مصطفى كاشف بالدرب الأحمر ونهبوا أدواته وكسروها، وقتلوا بعض الفرنساويين ومن بينهم اثنان من المهندسين وهما «تيفنو» و«درفال »
Duval
و
Trevenon
فاضطر الباقون إلى الفرار للقلعة، وجاءوا بالمدد من جهة المحجر، وأحاطوا بمن في الدار من المسلمين، وقتلوهم عن آخرهم، وكان منهم أحد المشايخ المسمى الشيخ محمد الزهار، ولكن بعد أن كسر الثائرون أكثر الآلات الهندسية والنظارات الفلكية مما يعز وجوده بعد ذلك خصوصا في ذلك الزمان والمكان، وممن قتلهم الثائرون من العلماء والفضلاء مسيو «تستفويد»
Testiviude
وهو شيخ يبلغ من العمر فوق الستين، وكان في ذلك الوقت يشتغل برسم خريطة للقطر المصري، وقتل أيضا دوبريه الرسام
Dupres
وخلص «جومار» العالم الكبير لحسن حظه وحظ العلم، وقد كتب «دينون» فصلا مطولا في كتابه عن مركز رجال العلم في دارهم، وكيف كافحوا وقاوموا حتى أخمدت الثورة، وله كلمات حلوة جميلة عن الجنرال «ديبوي» وخصوصا عن الضابط البولوني «سولسكي» الذي قتل بعد ذلك.
وروى نابوليون في تقريره أن المشايخ من أعضاء الديوان وعلماء الأزهر قصدوا الجهات التي تترس فيها الثائرون ونصحوهم بالكف عن القتال، وبينما يذهبون إلى كبير الفرنساويين ويمهدون أسباب الصلح، فلم يستمعوا لهم وسبوهم وهددوهم بالقتل إن تعرضوا لهم، عند ذلك يئس نابوليون من إنابة القوم إلى رشدهم فأصدر أمره عند الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الاثنين بإطلاق القنابل على الجامع الأزهر وما حوله من الجهات حيث يوجد الثائرون، قال الجبرتي: «وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر، وحرروا عليه المدافع والقنبر، وكذلك ما جاوره من أماكن المجاورين، كسوق الغورية والفحامين، فلما سقط عليهم ذلك ورأوه، ولم يكن في عمرهم عاينوه، نادوا يا سلام، من هذه الآلام، يا خفي الألطاف، نجنا مما نخاف، وهربوا من كل سوق، ودخلوا في الشقوق.»
ولا يكاد الإنسان يتلو عبارة الجبرتي، التي نقلناها، حتى يشعر بشيء من الاستهزاء أو الضحك، الذي هو أشبه بالبكاء لسخافة أولئك القوم، وتصورهم إمكان مقاومة الفرنساويين، وهم عزل من السلاح، محصورون من جميع الجهات، ومع خصمهم المدافع الكبيرة، والقنابل الكثيرة! قال الجبرتي بعد كلام طويل على ذلك النسق الغريب: «وتتابع الرمي من القلعة والكيمان، حتى تزعزت الأركان، وهدمت في مرورها حيطان الدور، وسقطت في بعض القصور، ونزلت في البيوت والوكائل، وأصمت الآذان بصوتها الهائل، فلما عظم الخطب، وزاد الحال والكرب، ركب المشايخ إلى كبير الفرنسيس ليرفع عنهم هذا النازل، ويمنع عسكره من الرمي المتراسل ... فلما ذهبوا إليه عاتبهم في التأخير، واتهمهم بالتقصير، فاعتذروا إليه فقبل عذرهم، وأمر برفع الرمي عنهم فقاموا من عنده وهم ينادون بالأمان في المسالك، وتسامع الناس بذلك، فردت فيهم الحرارة، وتسابقوا لبعضهم بالبشارة، واطمأنت القلوب، وكان الوقت قبل الغروب، وانقضى النهار وأقبل الليل.» •••
وأول ما يتبادر لذهن القارئ من تقرير نابوليون لحكومة الديكتوار أنه أراد تلطيف ذكر هذه الثورة وتخفيض شأنها لكي يفهمهم في باريز أن مركزه في مصر محفوف بالأخطار، وأنه مقيم بجيشه وسط شعب يتحين الفرص للانقضاض عليه، أو للانقضاض عنه، فلذلك اكتفى نابوليون بالقول إنه ما كاد يطلق قنابل المدافع على الثائرين مدة عشرين دقيقة، حتى تبدد شملهم، واحتل الجنود الجامع الأزهر وزهقت روح الفتنة!! في حين أن الحرب بقيت سجالا في جزء كبير من الليل كما يشهد بذلك الجبرتي؛ إذ يقول: إن أهل الحسينية، والعطوف البرانية، استمروا على القتال إلى أن مضى من الليل نحو ثلاث ساعات، وما منعهم عن الاستمرار إلا لأن البارود قد فرغ منهم، فعجزوا عن المقاومة، ولم يدخل الفرنساويون المدينة - على رواية الشيخ - إلا «بعد هجمة الليل، دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع، لا يجدون لهم من ممانع، كأنهم الشياطين، أو جند إبليس اللعين، وهدموا ما وجدوا من المتاريس، وكروا ورجعوا، وترددوا وما هجموا، ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول.»
وحكاية الشيخ الجبرتي الأزهري عما عمله الفرنساويون في الجامع الأزهر من أنواع الإساءة وخرق حرمة ذلك المكان المبجل، من العبارات التي تملأ الفؤاد حسرة، والنفس كآبة، ولولا خوف التطويل لنقلناها عنه فليراجعها من يشاء وإنما نذكر هنا أن الجنود الفرنساوية وخيولها بقيت في الجامع الأزهر من مساء يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء؛ إذ يقول الجبرتي: إن المشايخ ذهبوا في ذلك اليوم إلى نابوليون ورجوه في إخراج العسكر من الجامع الأزهر «فأجابهم لذلك السؤال، وأمر بإخراجهم في الحال» ... ولكن المعلم نقولا الترك يقول: إن نابوليون لم يجب المشايخ إلى طلبهم ثم قال: «فانصرفوا من أمامه باكين «كذا» وعلى أحوالهم نائحين، وتأسفوا على جامع الكنانة، وخراب الديانة، ثم في ذلك النهار أرسلوا له الشيخ محمد الجوهري، وكان في كل حياته ما كان يقابل أحدا من الحكام، ولا يتعرض إلى أمور العوام، وفي دخوله قال له: ما قابلت حاكما عادلا أو ظالما، والآن قد أتيت متوسلا إليك أن تأمر بإخراج العسكر من الجامع الأزهر، وتغفر ذنب هؤلاء القوم الغجر، واتخذني مدى العمر داعيا لك ناشرا فضلك، فانشرح أمير الجيوش من ذلك الخطاب، وانعطف قائلا: إنني عفوت وصفحت عن أحبابك، لأجل خطابك.»
وقد جارى جورجي زيادان المعلم نقولا في روايته عن شفاعة الشيخ محمد الجوهري، ونحن لا نتعرض لنفيها أو إثباتها، ولكنا نستغرب إهمال الجبرتي لها، مع أنه أولى بمعرفتها لصداقته وثقته بالشيخ الجوهري، ثم نقول: إن ما ذكره المعلم نقولا عن الشيخ الجوهري، من حيث اعتكافه وعدم زيارته للأمراء والحكام صحيح؛ إذ كان ذلك الرجل من أهل الفضل والمكانة السامية؛ لأنه من أهل العلم ومن بيوت الحسب والجاه، ذكره الجبرتي في وفيات سنة 1215 وقال عنه: إنه كان من الذين حضروا على والده الشيخ حسن الجبرتي، وكان آية في الفهم والذكاء وألقى الدروس بالأشرفية وأظهر التعفف والامتناع عن خلطة الناس، والذهاب والترداد إلى بيوت الأعيان، وساعده على ذلك الغنى والثروة وشهرة والده، وتردد الأمراء على داره وسعوا لزيارته، وكانت شفاعته لا ترد عندهم، وطار صيته في الآفاق ووفدت الوفود عليه من الحجاز والهند والشام والروم، وطلب لمشيخة الجامع الأزهر فأبى، ولكنه نقض ما أبرمه العلماء والأمراء ورد المشيخة للشافعية بعد أن كانوا قد عينوا فيها الشيخ عبد الرحمن العريشي الحنفي، وعين الشرقاوي بعد العروسي بإشارته، ولم يذكر الجبرتي في ترجمة الشيخ الجوهري المطولة أنه زار نابوليون أو رجاه، وكل ما ذكره من علاقته بالفرنساويين قوله: «ولم يزل وافر الحرمة معتقدا عند الخاص والعام، حتى حضر الفرنساوية واختلت الأمور وشارك الناس في تلقي البلاء، وذهب ما كان له بأيدي التجار ونهب بيته وكتبه التي جمعها وتراكمت عليه الهموم والأمراض، وحصل له اختلاط لم يزل حتى توفي يوم الأحد حادي عشرين شهر القعدة بحارة «براجون» وله عدة مؤلفات في العلوم والمباحث الشرعية ذكرها الجبرتي، وهي تربوا على الثلاثين مؤلفا رسالة.
ولم يقتصر أمر الثورة على سكان القاهرة إذ كان من الطبيعي أن تنتشر الأخبار في البلاد المجاورة فيسارع الفلاحون والعربان لنصرة إخوانهم، وفعلا قدم إلى القاهرة من جهة القليوبية عدد كبير من الفلاحين والبدو فاضطر نابوليون أن يبعث بفرقة من الخيالة تحت قيادة الجنرال دوماس
Dumas
لمقاومة الفلاحين بالقرب من بلدة القبة وعزبة الزيتون فحال بينهم وبين القاهرة.
وكان زعيم العرب والفلاحين القادمين من القليوبية لنصرة الثائرين في القاهرة المرحوم شيخ العرب سليمان الشواربي جد آل الشواربي
4
المعروفين في القليوبية، وقد روى المعلم نقولا التركي أنه لما صمم أهل القاهرة على الثورة كتبوا إلى الشيخ الشواربي يستنجدونه «وعينوا له زمانا يحضر بعشائر العربان، وقد أتى في الميعاد إذ كانت الفرنساوية محيطة بالقاهرة فضربهم الفرنساويون بالمدافع والرصاص فولوا منهزمين».
وليس في الجبرتي أثر لهذه الرواية والقرائن كلها تدل على صحتها، ولعل السبب في ذلك هو أن الشيخ الجبرتي كان في حي الأزهر مع المحصورين المضروبين، بينما كان المعلم نقولا الترك مع الفرنساويين المحاصرين للمدينة؛ ولذلك استطاع أن يعرف أن الفرنساويين صدوا القادمين للنجدة وضربوهم بالمدافع والرصاص فولوا منهزمين، والدليل على صحة الرواية هو ما ورد بعد ذلك في حوادث أوائل شهر رجب في الجبرتي قوله: إن كبير الفرنسيس الذي بناحية قليوب حضر ومعه سليمان الشواربي شيخ الناحية وكبيرها فلما حضر حبسوه بالقلعة، وقيل: إنهم عثروا على مكتوب أرسله وقت الفتنة السابقة إلى سرياقوس ليحرضهم على قتال الفرنسيس، وقال في حوادث آخر شهر رجب هذا، إنهم قتلوا الشيخ سليمان الشواربي ومعه ثلاثة من عرب الشرقية قطعوا رءوسهم بالرميلة، ونقلت جثة الشواربي إلى قليوب ودفن هناك مع أسلافه، رحمه الله.
وكان حاكم القليوبية الذي قبض على الشواربي هو الجنرال مورات
Murat
صهر نابوليون وملك إيطاليا في بعد، وصاحب الشهرة الواسعة في تاريخ أوروبا وحروبها النابوليونية وتاريخ حياته أشبه برواية من الروايات الخيالية، ويكتفي أنه ارتقى من جندي بسيط إلى ملك عظيم.
وحاول المصريون أيضا من أهل القرى المجاورة كالجيزة وما وليها الهجوم على القوى الفرنسية، واجتمع منهم على رواية نابوليون في تقريره نحو أربعة أو خمسة آلاف فحملت عليهم فرقتان تحت قيادة الجنرالين؛ لأن (Launes)
وفو (Veaux)
فبددنا شملهم وكذلك أقبل جماعة من البدو إلى جهة باب النصر، فأوفد نابوليون الكولونل «سولكوسكي» البولوني أحد أركان حربه فقتل هو ومن معه إلا نفرا واحدا.
وليس من الغريب أن يتبع الفرنساويين إخمادهم الفتنة بالانتقام من المصريين عمن قتل من أبناء جنسهم، سواء من الملكين أو من الحربيين، كيف لا وقد قتل منهم من القواد الجنرال ديبوي وكان محبوبا لبسالته وجرأته، وكذلك قتل العربان كما ذكرنا الكولونيل سولوسكي وكان ضابطا يولوني الأصل من ذوي الفضائل والمكارم، وأي فضيلة أشرف من فضيلة الوطنية لدى رجل أبت نفسه أن يبقى في بلاده بعد أن هدمت المطامع الأوروبية سور استقلالها فارتحل عنها المجد والحرية، فجاء مصر يفعل فيها مثل ما فعل في بلاده!! حتى لقي حتفه في أرض ما عرفت الحرية، ولا ذاقت طعم الاستقلال، ولقد أحبه نابوليون حبا جما حتى لقد سالت الدموع من عينيه حين عمل بمقتله، وكثيرا ما ذكره وأثني عليه، ولقد رثا «دينون» مقتل سولكوسكي بكلمات هي السحر الحلال وقال: كان ذلك الضابط الجميل الرشيق صديقا حميما، طموح النفس، عالي الهمة إلى آخر ما أسبغ عليه من الثناء والإطراء.
ويقدر نابوليون في تقريره عدد من قتل من المصريين في هذه الثورة السخيفة بنحو ألفين إلى ألفين وخمسمائة، وقدر خسارة الفرنساويين بنحو ستين نسمة من الجنود الملكيين.
وأما المعلم نقولا الترك فيقدر الخسارة بأكثر من ذلك أضعافا مضاعفة فقال: «وقد كان مات بهذه الواقعة ألفا صلدات «استعمل المعلم نقولا هذه الكلمة عن الجنود وهي فرنسية
Soldat
عسكري» ومن أهالي المدينة ما ينيف عن خمسة آلاف.» وهي مبالغة لا شك فيها خصوصا فيما يتعلق بخسارة الفرنسيين.
وإلى القارئ سلسلة انتقامات الفرنسيين من المصريين نسردها واحدة فواحدة، فنبدأ بما رواه الجبرتي، ثم نأتي على أقوال الفرنسيين أنفسهم.
نقتطف من الجبرتي في الجزء الأخير من مقامته الثورية العبارات الآتية قال: «ثم تردد الفرنسيس في الأسواق ووقفوا صفوفا، مائتين وألوفا، فإن مر بهم أحد فتشوه، وأخذوا ما معه وربما قتلوه، وتحزبت نصارى الشوام، وجماعة أيضا من الأروام، واغتنموا الفرصة في المسلمين، وأظهروا ما هو بقلوبهم كمين ... وانتدب برطلمين للعسس، على من حمل السلاح واختلس، وبعث أعوانه في الجهات، يتجسسون في الطرقات، فيقبضون على الناس بحسب أغراضهم، وما ينهبه النصارى من أبغاضهم، فيحكم فيهم بمراده، ويعمل برأيه واجتهاده، ويأخذ منهم الكثير، ويركب في موكبه ويسير، وهم موثوقون بين يديه في الحبال، ويسحبهم الأعوان بالقهر والنكال، فيودعونهم السجونات، ويطالبونهم بالمنهوبات، ويقررونهم بالعقاب والضرب، ويسألونهم عن السلاح وآلات الحرب ... وكثير من الناس ذبحوهم، وفي بحر النيل قذفوهم ... ومات في هذين اليومين وما بعدهما أمم كثيرة لا يحصى عددها إلا الله!».
وليت شعري هل أحصى نابوليون تلك الخلائق الذين فتكوا بهم بعد إخماد الثورة وخلود الناس إلى السكينة، فيما قدره من خسارة الثائرين في تقريره الآنف الذكر، أو كان الألفان أو الألفان ونصف ألف خارج هذا العدد «الذي لا يحصبه إلا الله»، على رأي الجبرتي، طيب الله ثراه. (ثانيا) ألقوا القبض على عدد كبير من كبار القوم المتهمين بإشعال جذوة الثورة، ومن هؤلاء ذكر الجبرتي الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ إسماعيل البرواي، وفي اليوم التالي «23 أكتوبر» أصدر نابوليون أمرا «محفوظا في مخاطباته بنمرة 3427» إلى الجنرال «بون» قومندان القاهرة «بأن يقتل أولئك المشايخ، ومن قبض عليهم من زعماء الثوار، وذلك بأن يؤخذوا ليلا إلى شاطئ النيل بين مصر العتيقة وبولاق ثم يقتلوا وتلقى بجثتهم في مياه النهر».
وقد بقي أهل القاهرة عدة أيام لا يعرفون ماذا جرى لأولئك المشايخ والفرنساويون يخفون عليهم الأمر، والشيخ الجبرتي يقول: «أخذ الفرنساويون المشايخ من بيت البكري وعروهم عن ثيابهم وصعدوا بهم إلى القلعة فسجنوهم إلى الصباح، ثم أخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقوهم من السور خلف القلعة وتغيب حالهم عن أكثر الناس أياما.»
وكان ذلك ليلة الأحد 25 جمادى الأول، مع أنهم كانوا قتلوا قبل ذلك بعدة أيام وطرحت جثتهم بالنيل ويظهر أنهم حقيقة عروهم عن ثيابهم وأخفوا رءوسهم، وإلا لو طرحت في النهر لطفت رممهم وتعرفهم الناس في أماكن مختلفة، ولا ندري من أين جاء المعلم نقولا التركي بأن الفرنساويين عقدوا مجلسا وحاكموا الذين ألقى القبض عليهم محاكمة قانونية، مع أن الفرنساويين، وهم أولى بالدفاع عن أنفسهم، لم يذكروا شيئا من هذا! أفنكون ملكيين أكثر من الملك.
ويقول المعلم نقولا الترك أيضا: «إن نابوليون وجد من بين أولئك المقبوض عليهم أثنان من أعضاء المجلس العالي، فبعد قتلهما أمر بإلغاء المجلس.» ولا ندري من كان من أولئك المشايخ في المجلس العالي الذي يشير إليه وكلهم ما عدا الشيخ الجوسقي من متوسطي المدرسين الذين يقرءون الدروس في الأزهر وفي غيره من المساجد مثل المشهد الحسيني وزاوية الجوهرية وجامع الكردي، ويظهر من تراجمهم أنهم كانوا من أهل التقوى والصلاح والابتعاد عن المشاكل، أما الشيخ سليمان الجوسقي فكان من ذوي المطامع وأهل المشاغبات، وتاريخه من الأمور العجيبة ولذا رأيت أن أذكره بشيء من التفصيل؛ لأنه يرسم لنا صورة من حياة ذلك العصر.
الجوسقي نسبة إلى الجوسق وهي على الأغلب بلدة في مديرية الشرقية،
5
قال عنه الجبرتي أنه ولي شيخا على العميان بزاويتهم المعروفة الآن بالشنواني فسار فيهم بصرامة وجبروت، وجمع بجاههم أموالا عظيمة وعقارات، فكان يشتري غلال المستحقين المعطلة بالأبعاد «كأن يكون لأحد الناس استحقاق في وقف ما في جهة من جهات القطر البعيدة يستولي عليها الملتزمون من المماليك ولا يدفعون للمستحقين شيئا، فيأتي الشيخ الجوسقي ويبتاع من المستحقين غلتهم»، بدون الطفيف ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين، ويطالبهم بها كيلا وعينا، ومن عصى منهم بعث إليه بالجيوش الجرارة من العميان فلا يجد بدا من الدفع!! وله أعوان يرسلهم إلى الملتزمين بالجهة القبلية، يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والمعاونات «بدل الغلة» من السمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك، ويبيعها في سني الغلاء بالسواحل والرقع
6
بأقصى القيمة ويطحن منها على طواحينه دقيقا ويبيع خلاصته في البطط
7
بحارة اليهود، ويعجن نخالته خبزا لفقراء العميان يقتاتون به مع ما يجمعون من الشحاذة في طوافهم بالليل وأطراف النهار بالأسواق والأزقة، وتغنيهم بالمدائح والخرافات، وقراءة القرآن في البيوت ومساطب الشوارع وغير ذلك ومن مات منهم ورثة الشيخ الجوسقي، وكثير من أولئك العميان الشحاذين من ترك ثروة طيبة فصار الشيخ بذلك من ذوي اليسار والنفوذ تخشى سطوته، وتسمع كلمته يركب البغال وأتباعه محدقون به، وعلى رواية الجبرتي أنه «تزوج الفتيات الجميلات واشترى السراري البيض والحبش والسود، وكان يقرض الأكابر المقادير الوافرة من المال، ليكون له عليهم الفضل والمنة، ولم يزل حتى حمله التفاخر في زمن الفرنسيس على إثارة الفتنة التي أصابته وغيره وقتل فيمن قتل بالقلعة، ولا يعلم له قبر.» ومن غريب أمر الشيخ الجبرتي أنه لما ذكر وفاة المشايخ الآخرين كان يختم ترجمة كل واحد منهم بقوله: «اتهم في إثارة الفتنة وقتل شهيدا.» أما عن الشيخ الجوسقي فلم يرض أن يقول عنه: «مات شهيدا»!!
والثالث من سلسلة انتقامات الفرنساويين ما رواه كتاب الفرنساويين في كتبهم ومذكراتهم من أن نابوليون أصدر أمره للضابطين كروازبيه
Croizier
وأوجين بوهارنيه «هو ابن زوجته جوزفين»، وكلاهما من أركان حربه بمطاردة العربان الذين اعتدوا على الجرحى القادمين من جهة الشرقية وفتكوا بهم أثناء ثورة القاهرة فأحاطا بمن معهما من الجنود بكثير من مضارب البدو النازلين في الجهات الواقعة شرقي مديرية القليوبية، فأحرقوا خيامهم وخربوا دورهم وفتكوا بنسائهم وأولادهم، وقبضوا على مائتين من رجالهم، وكان أمر نابوليون قاضيا بذبح أولئك العربان ذبحا وجز رءوسهم من حلوقهم، وجمع هاتيك الرءوس المفصولة في أكياس ليتفرج عليها أهل القاهرة!
لا مبالغة في هذا القول فقد روى «بوريين » كاتب يد نابوليون في مذكراته ما نصه حرفيا:
بعد إخماد الثورة ببضعة أيام قضت ضرورة المحافظة على سلامتنا أن نعمل عملا قاسيا فظيعا، وذلك أن نابوليون بعث بالضباط كروازيه أحد أركان حربه وأمره أن يهاجم قبيلة من البدو كانت اعتدت على شرذمة من جنودنا، وأن يحيط بتلك القبيلة ويحرق مساكنها، ويذبح رجالها، وكان الأمر يقضي بأن يجمع رءوس القتلى في أكياس ليعرضها على سكان القاهرة وكان «بوهارنيه» مع كروازيه في تلك المهمة القاسية، فعادا في اليوم التالي ومعهما عدد عديد من الحمير محملة بأكياس ملأى بالرءوس البشرية! وفتحت هاتيك الأكياس، وأفرغ ما فيها أمام أعين الناس المجتمعين! وأني لا أستطيع أن أصف بشاعة ذلك المنظر، ولا القشعريرة التي أحسست بها عند رؤيته.
وغريب أن الجبرتي لم يذكر شيئا عن هذه الحادثة، وما أظنها خفيت عليه، ولكن ربما نسي تقييدها أو سقطت من أوراقه قبل تنسيقها وتدوينها. (والرابع) من ذلك إرسال برطلمين الرومي وكيل محافظة القاهرة بفئة من الجند إلى جهة سريافوس لمطاردة الفارين من أهل القاهرة الذين خافوا العقاب فلم يدرك أحدا منهم، ولكنه عوض عن فشله، لإرضاء أسياده الفرنساويين، بنهب البلاد وإحراق القرى وفرض المغارم حتى ضج العباد واستغاثوا من مظالمه.
وقد سبق لنا ذكر هذا الرجل الرومي الذي عينه الفرنساويون عند احتلالهم القاهرة كتخدا مستحفظان «وكيل محافظة» ولا أدري لماذا اختاروه لتلك الوظيفة في الوقت الذي كانوا يتحببون فيه إلى المسلمين، ولكن الذنب في ذلك واقع على المشايخ الذين أفتوا لهم بأن سوقة مصر لا يخافون إلا من المماليك وأشباههم، فلذلك عينوا محمد أغا المسلماني، وهو أرمني حديث عهد بالإسلام، أغات مستحفظان؛ أي: محافظا للقاهرة، وعينوا برطلمين هذا وكيلا له، فبئس الأصيل وبئس الوكيل! واسم برطلمين الحقيقي «رتامي» وكان العامة في مصر - على رواية الجبرتي - يسمونه «فرط الرمان» وقال عنه: إنه من أسافل نصارى الأروام العسكرية القاطنين بمصر، وكان من الطبلجية عند محمد بك الألفي، وله حانوت بخط الموسكي يبيع فيه القوارير الزجاج، فلما دخل الفرنساويون عينوه في تلك الوظيفة فسكن في بيت بحي كاشف الكبير بحارة عابدين فأخذه بما فيه من فرش ومتاع وجواري وغير ذلك.
8
وأما أولئك المغاربة الذين كانت لهم اليد الطولي في الفتنة والمشاغبة فإن الفرنساويين أطلقوا سراح الذين قبضوا عليهم بوساطة كبيرة من بين جنسهم اسمه عمر القلقجي، وقد جمع هذا أولئك «الفتوات» من أوباش المغاربة فانتقى نابوليون فئة كبيرة ألف منها فرقة عسكرية تحت زعامة عمر المذكور، قال الشيخ الجبرتي في حوادث يوم 18 جمادى الأولى «يوافق 28 أكتوبر»: «إن أولئك المغاربة بعثوا بهم إلى جهة بحري فضربوا كفر عشما وقتلوا كبيرها المسمي بابن شعير، ونهبوا داره ومتاعه وبهائمه، وكان شيئا كثيرا جدا، وأحضروا إخوته وأولاده وقتلوهم، ولم يتركوا منهم سوى ولد صغير جعلوه شيخا عوضا عن أبيهم.»
ورواية الجبرتي في هذه الحكاية مضطربة، شأنه في كل الحوادث التي تبعد عن القاهرة فإن مهاجمة كفر عشما وقعت في 20 أكتوبر وهو يوافق 10 جمادى الأولى؛ أي: قبل الثورة بيوم واحد، والفرنساويون يقولون إن ابن شعير أو أبا شعير كان من كبار اللصوص وقطاع الطريق أو من يسمونه «شيخ منصر» ولقي منه الفرنساويون في مديرية المنوفية الأمرين فكان يهاجمهم ويفتك بجنودهم، ويسلب ذخائرهم وأسلحتهم ويختفي بمن معه، فطاردهم وطاردوه، وقاتلهم وقاتلوه، حتى كانت ليلة السبت 20 أكتوبر اتصل بالجنرال لأنوس
Lanusse
أن أبا شعير يبيت في كفر عشما
9
في داره فأسرع بقوة عظيمة وأحاط بالقرية، وحاصر الرجل في داره وقتلوه ومن معه، قال «لاكروا»: إن أبا شعير هذا كان رجلا ظالما عاتيا، وكان له النفوذ الأول في جميع مديرية المنوفية وما جاورها، وكان تحت أمرته من الرجال أكثر من ألف ومائتين فلما حاصروه وقاتلوه، وفر من استطاع الفرار من رجاله، استولوا على منزله فوجدوا فيه على رواية ذلك المؤلف مقادير كثيرة من النقود والفضة الخالصة، وكميات وافرة من الذخائر والأسلحة المتنوعة، وأخذوا من داره ثلاثين جوادا من أفخر الجياد المطهمة، ثم طافوا برأسه في جميع قرى المنوفية ليقتنع الناس بموته، وفي مكاتبات نابوليون خطاب بعث به للجنرال لأنوس يقول فيه: «أقدم لك مزيد التهاني يا مواطني الجنرال على ظفرك بأبي شعير، فقد كان فوزك على ذلك السلاب
Brigand
انتصارا كبيرا لنا.»
وسواء كان ابن شعير أو أبو شعير لصا وقاطع طريق، أو كبير عزوة ورئيس عشيرة، وفقد قتلوه ومثلوا به وغنموا أمواله! ومن يدرينا ماذا فعلوا في بلدته من الشرور وهتك الأعراض وسلب العباد!
ومع هذا يقول الكتاب الفرنسيون: إن نابوليون عامل المصريين بعد الثورة بالرفق وأبدى لهم من التسامح والتساهل شيئا كثيرا! فماذا كانوا يطلبون بعد قتل من ظنوهم زعماء الثورة، وإلقاء لجثث أولئك العلماء في النهر كأحط المجرمين بلا محاكمة، وبعد إزهاق أرواح أكثر من ثلاثة آلاف نسمة بشهادة نابوليون نفسه ثم تخريب القرى وإحراقها!! ثم ما هو أكبر من ذلك من خرق حرمة المعهد الإسلامي المقدسة وجعله إسطبلا للخيول ومرحاضا للجنود! ماذا كنتم تريدون أن يفعل بالمصريين أكثر من هذا يا دعاة المدنية وأنصار العدل والإنسانية! وحملة راية «الحرية والمساواة والإخاء» ...؟
أما أن المصريين قد أخطئوا بتلك الثورة السخيفة، فذلك ما لا شك فيه، ورحم الله الشعبي الخارجي لما قال للخليفة هارون الرشيد: «لقد قمنا بفتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء.» وهكذا كان المصريون، ولكنهم من جهة أخرى قد حركتهم عوامل الأغراض المتباينة وحرضتهم آلات أعداء الفرنساويين من رسل الإنكليز والروس والأتراك، وبقايا المماليك في القاهرة، والويل للأمم التي تقع ألعوبه في مهاب السياسة التي لا قلب لها ولا ضمير ...
تسفك دماء المصريين فلتسفك! تخرب ديارهم فلتخرب! ولكن لا يبقى الفرنساويون في أرض مصر ما دامت طريق إنكلترا إلى الهند!
ليس للمصريين في أي وقت من الأوقات، ولا في أي زمان من الأزمان، مصلحة ما في الثورات والاضطرابات؛ لأنهم في حال خاصة لا يفيدهم فيه غليان العواطف ، واضطرابات المشاعر القومية، في القلاقل التي لا يستفيد منها غير الأجنبي ... وتاريخ القرن التاسع عشر، الذي كانت هذه الحوادث التاريخية فاتحته في مصر، يشهد بذلك، وإن صحت أو لزمت الثورات لتطهير جسم أمة من الأمم في أوروبا مثلا، أو لقلب حكومة من حكوماتها، أو نظام من نظاماتها فلأنها أمم مستقلة بذاتها، فدورانها حول نفسها، وشرها لها، وخيرها لها، وأما في مصر، فكل اضطراب في جسم الأمة يعود عليها بالنكال، وعلى المصريين أن يضعوا هذه الحقيقة دائما نصب أعينهم ولا تخدعهم الظواهر، فقد كفاهم من التاريخ موعظة، وليستفيدوا من سكوتهم، وليتركوا المتنافسين وشأنهم، فذلك أسلم لهم، اللهم إلا إذا اشتد ساعدهم وقوي بأسهم - وبينهم وبين ذلك أمد بعيد، وسفر طويل - فلهم أن يسيروا على السنن الطبيعية للأمم ... ليحرص المصريون وليبتعدوا عن الوقوع في حبائل المحركين لعواطفهم، وليلازموا السكينة ولا يمكنوا أعداءهم من صدهم وتعويقهم عن السير المضمون في طريق الحضارة الصحيحة والعلم النافع، والاستفادة من ظروف الزمان والمكان، فإن لم نكن فجرة أقوياء، فلنكن بررة أتقياء، حتى يحكم الله بأمر من عنده وهو خير الحاكمين.
يقول الكتاب الفرنساويون: إنهم قهروا المماليك في واقعة إمبابة وقهروا المصريين في ثورة القاهرة؛ ذلك أن المصريين بعد أن رأوا من قوة الفرنساويين ما رأوا أظهروا المذلة والمسكنة، وحاموا حول الفاتحين يتطلبون منهم العفو والمغفرة، وأكثر الكثيرون منهم التزلف والتملق والصغار كعادتهم، التي أورثتهم إياها الاستعباد والاستبداد ... وهذا المعلم نقولا الترك يقول: «وقد خسرت الإسلام، ولم تربح بهذا القيام، سوى الذل والإهانة، وافتضاح جامع الديانة.»
فلا غرابة بعد ذلك إذا شمخ الفرنساويون بأنوفهم واستباحوا ما استباحوا من حمى المسلمين وأعراضهم، ونفذوا ما أرادوا من ضرائبهم.
قال الجبرتي: «وفي السابع والعشرين من الشهر «جمادى الأولي» شرعوا في إحصاء الأملاك والمطالبة بالمقرر «من الضرائب» فلم يعارض في ذلك معارض ولم يتفوه أحد بكلمة، والذي لم يرض بالتوت يرضى بحطبه.»
وكان من نتائج تلك الثورة ومقتضياتها أن يغير نابوليون خطته وسلوكه نحو المصريين، ويعاملهم معاملة الشدة ويشك في إمكان إخلاصهم، ولولا أنه قد كان عالما بأن الدولة العثمانية قد اتفقت مع إنجلترا وروسيا على محاربته وإخراجه من أرض مصر، فكان ذلك قاضيا عليه بأن يتودد للمصريين بعض التودد، ويكثر من نشر المنشورات، ويلقي عليهم النصائح والإرشادات ، ويذكرهم بعدله وحلمه وعفوه، ويقارن ذلك بظلم المماليك وغطرستهم - نقول لولا ذلك لكان أشد وطأة على المصريين مما كان بعد الثورة وفي الدور الثالث ...
بقي علينا أن نسأل أين ذهب السيد بدر المقدسي السوري زعيم القوم وقائد «أولاد الحسنية والحارات البرانية» ومسبب كل هاتيك الشرور والفضائح في بيوت النصارى والمسلمين على السواء؟ أين ذهب ذلك البطل المغوار؟ كان أول من فر إلى بلاده محملا بالغنائم مما خف ثقلا وغلا ثمنا، فقد روى الجبرتي بعد ذكره القبض على أولئك المشايخ الأزهريين الذين قتلوهم أو ذبحوهم في القلعة أو على ضفة النيل «أما السيد بدر المقدسي فإنه تغيب وسافر إلى جهة الشام.» وهكذا يفعل دائما الدخلاء الذين لا ناقة لهم في البلاد ولا جمل؛ لأنهم أفاقون لا دين لهم ولا وطنية عندهم، وليس لهم في البلد ذمار، ولا عرض يصان، ولا مال يحرص عليه، ولا قبور آباء وأجداد ترعى كرامتها وتخفر ذمتها.
وهنا صفحة أخرى بيضاء للمصريين في خلال تلك الفتنة ألا وهي معاملة كثير من أهالي القاهرة لكثير من الفرنسيين والإفرنج الذين التجئوا إليهم، واستظلوا بحمايتهم من العامة والغوغاء، ولا أنقلها عن الجبرتي، ولا المعلم نقولا الذين شهدا حوادث تلك الأيام وتركنا لنا مذكراتهما عنها، فإنهما لم يكتبا عن هذه الأمور والحوادث، التي اشتهر في ذلك الوقت بالطبع أمرها, ولكني أنقل تلك الصحيفة البيضاء عن ذلك الكاتب البليغ والمصور الماهر «فيفان دينون» وهو شاهد عيان أيضا قال:
مع أن عامة الأهالي والغيورين على الدين مع بعض كبار الناس، كانوا متعصبين قساة في الثورة التي قامت في القاهرة، إلا أن الطبقة المتوسطة، وهي في جميع البلدان أكثر الناس عملا بأحكام العقل والفضيلة، كانت تعاملنا بتمام الإكرام والإنسانية على الرغم مما بيننا وبينها من الفارق الكبير في الأخلاق والدين واللغة، وهذا بينما كان التحريض على القتل يجري من شرفات المآذن بغيرة دينية، وبينما كانت الشوارع ملأى بالجرحى وبأكداس القتلى.
وجميع الذين كانوا يأوون في ديارهم أي رجال من الفرنسيين، كانوا يتوقون إلى إخفائهم وإنقاذهم، وإلى إمدادهم بكل حاجاتهم في الحال وبمجرد الطلب، وقد أفهمتنا عجوز كانت في الحي الذي أقمنا فيه، أنه لا يسعنا إلا الالتجاء إلى مقر الحريم في دارها؛ لأن جدارنا أضعف من أن يقينا إذا هوجمنا.
وحينما لم يكن من المستطاع الحصول على طعام من البلد، وحينما كان كل شيء يدل بجلاء على قرب حدوث مجامع، عمد جار لنا إلى إمدادنا بقوت مما خزنه لديه درن أن نطلب منه شيئا، بل إنه جرد دارنا من كل شيء يجعلها ظاهرة للعدو، ثم جلس أمام بابنا يدخن غليونه مخادعة للمعتمدين حتى يظنوا أن هذا الدار ما هي إلا داره.
وحدث أن شابين كان يقتفى أثرهما في الشوارع، فأمسك بهما أناس مجهولون فتوقعا أن سيسقطا فريسة لقسوة مفزعة، وبينما كانا يجاهدان بعنف في سبيل التخلص، رأى الممسكون بهما أنهم لا يستطيعون إقناعهما بحسن مقاصدهم، فأودعوا لديهما أطفالهم كبرهان على إخلاصهم.
ومن المستطاع إيراد كثير من أشباه هذه الحكاية الدالة على رقة الشعور التي أعادت الروابط بين الطبائع البشرية في ساعة غليان واضطراب. ا.ه.
ولا أختم هذا الفصل عن ثورة القاهرة دون أن أسجل على صفحات التاريخ بالعربية الحادثة التي نقلتها السيدة «جيهان ديفري» من بعض المذكرات عن مسيو مارسيل المستشرق، وشغفه العظيم بالآثار العربية، قالت:
وسمع الضباط الفرنسيون فجاءة صرخة مزعجة فأخذوا مجاهرهم، ووقفوا في البيت البعيد الذي كانوا يرقبون منه شبوب النار فشاهدوا شبحا ينسل بين المحاصرين وقد شد بيديه على كومة له قد سودها الدخان والبارود، وهي كأنها كرة هوائية منفوخة، أما الأهالي فلم يرونه لشدة ما أصابهم من البلايا وتولاهم من الذعر.
وقال أحد الضباط الفرنسيين: إنني أراهن بأن ذلك الشبح هو مارسيل. وكان هو بعينه؛ لأنه لم يكن أحد غيره يهتم بإنقاذ المخطوطات النفيسة والدفاع عنها - تلك المخطوطات التي كانت مودعة في الجامع ونجت من شرور الحرب.
وقد ذهب مارسيل لأنقاذها وهو بملابس النوم ملتفا بعباءة ومحتذيا بحذاء البيت، واندفع بين الثائرين وحمل ذلك الكنز إلى مركز القيادة العامة، وكان من حسن التوفيق أنه استطاع إنقاذ نسخة خطية من القرآن كتبت في القرن الثالث عشر «الميلادي» على رق وزينت صفحاته بنقوش بديعة ذات قيمة فنية.
هوامش
الفصل الثالث عشر
الدور الثالث (من أول نوفمبر سنة 1788 إلى آخر أغسطس سنة 1799)
من ثورة القاهرة إلى مغادرة نابوليون مصر
ندخل الآن في الدور الثالث من أحوال الحملة الفرنساوية في مصر، وهو الدور الذي أدرك فيه نابوليون بعد ثورة القاهرة أنه لا يزال غريبا عن المصريين وبعيدا عن قلوبهم، فاختار لنفسه السياسة التي يقضي بها ذلك التغير، وهي سياسة الشدة عليهم، والحذر منهم، وعدم الاكتراث بهم، ولذلك كان أول بادرة من أعماله إلغاء الديوان وعدم الاهتمام بالمشايخ، ثم إدارة الأحكام بواسطة رجاله وأعوانه.
إلا أن إعلان تركيا الحرب على فرنسا واستعدادها بالجيوش الجرارة برا وبحرا لمحاربته، وتحريضها المصريين والمسلمين عامة على مقاومة الفرنساويين، وتنغيص حياتهم في وادي النيل كل ذلك قضى عليه بالرجوع إلى خطة المداهنة والتودد إلى المصريين مع بقائه على حذر منهم، ولما كان هذا الدور طويل المدة وتخللته الحملة الفرنساوية على سوريا، وكان لتلك الحملة، وفشل الفرنساويين فيها، تأثير على سياستهم وخطتهم في هذا الدور رأينا أن نقسم هذه الفترة إلى ثلاث مدد:
المدة الأولى:
من الثورة إلى بدء الحملة السورية «من أول نوفمبر سنة 1798 إلى أول فبراير 1799».
المدة الثانية:
الحملة السورية «من فبراير إلى يونيو 1799».
المدة الثالثة:
من عودة نابوليون من سوريا إلى مغادرة أرض مصر «من يونيو لغاية أغسطس 1799».
وغير خاف أن سياسة الفرنساويين مع المصريين كانت تأخذ في هذا الدور أشكالا متنوعة متقاربة ومتباعدة بنسبة هاتيك المدد الثلاث، وما يحيط بها من المؤثرات السياسية، فعلى القارئ أن يلاحظ تلك الظلال المختلفة الألوان في خلال تلك المدد لكي يدرك منها الظروف الخارجية التي قضت بها.
المدة الأولى
1
كان هم الفرنساويين في المدة الأولى موجها إلى تحصين البلاد اتقاء لغارات المغيرين من البر والبحر، قال الجبرتي بعد الثورة بأسبوعين: «وفي مدة هذه الأيام بطل الاجتماع بالديوان المعتاد، وأخذوا في الاهتمام في تحصين النواحي والجهات وبنوا ابنية على التلول المحيطة بالبلد ووضعوا فيها عدة مدافع وقنابر، وهدموا أماكن بالجيزة، وحصنوها تحصينا زائدا وكذلك مصر العتيقة ونواحي شبرا، وهدموا عدة مساجد منها المساجد المجاورة لقنطرة إمبابة ومسجد المقس «المعروف الآن بأولاد عنان» على الخليج الناصري بباب البحر»، ولا شك أن التفاصيل الواردة في كتب الفرنسيين في هذه النقطة أدق إيضاحا، وخلاصة ما كتب في هذا الصدد أن نابوليون أصدر أمره للجنرال المهندس «كفريللي» بأن يضع مشروعا لتحصين مدينة القاهرة بحيث يجعلها واقعة تحت رحمة القلاع والطوابي فبنوا على التل الذي أطلقت منه المدافع على حي الأزهر خلال الثورة حصنا منيعا يتسلط على جميع تلك الأخطاط، وحولوا جامع المقس الذي كان ذكره الجبرتي إلى قلعة سموها قلعة سلوكوسكي، تذكارا لذلك الضابط البولوني الذي قتل عند باب النصر، ثم أقاموا برجا عاليا على مرتفع في الطريق الموصل من الأزبكية إلى بولاق ووضعوا فيها الكميات الوافرة من المدافع والذخائر، وأطلقوا عليه اسم «برج كامين».
1
وأقاموا أيضا على التل المعروف بتل العقارب بالناصرية، قرب الدار التي اختاروها للمجمع العلمي طوابي وعدة أبراج وثكنات للجنود، وجعلوا جامع الظاهر بيبرس المعروف بالقرب من الحسينية قلعة، وحولوا منارته برجا ووضعوا على أسواره المدافع واتخذوا باقيه معسكرا وبنوا في داخله عدة مساكن للجنود، وكان الشعائر الدينية في هذا المسجد قد عطلت منذ زمن طويل، وجاء في الأمر الذي أصدره نابوليون بتاريخ 27 أكتوبر، ومحفوظ نصه بنظارة الحربية في باريس، أنهم هدموا المقياس بالروضة وبنوه بشكل طابية وضعت فيها المدافع وحولوا قناطر السباع التي بناها السلطان صلاح الدين لنقل المياه إلى القلعة، ولا تزال آثارها باقية للآن، إلى طابية أخرى، والخلاصة أنهم اتخذوا كل الاحتياطات الحربية الفنية لإخضاع أي حركة في القاهرة أو ضواحيها، ولمقاومة الجيش المهاجم للمدينة.
وفي الأيام الأولى من شهر جمادى الثانية؛ أي: في خلال إنشاء تلك الحصون، وإقامة هاتيك الاستحكامات، لم ينس نابوليون أن يمتن على أهالي القاهرة بأنه قد صفح عنهم، وعفا عن زلتهم، وعاملهم - بعد كل الذي جرى عليهم - بالتساهل والتسامح، وأصدر هذه الأفكار في منشور كتبه عن لسان المشايخ ووزعه ملصوقا بالشوارع والأسواق، وإلى القارئ نصه:
نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة:
نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ونبرأ إلى الله من الطاغين في الأرض بالفساد، ونعرف أهل مصر المحروسة أن طرفا من الجعيدية وأشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية، وبين العساكر الفرنساوية، بعدما كانوا أصحابا وأحبابا بالسوية، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين، ونهبت بعض البيوت ولكن حصلت الطاف الله الخفية وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته، وارتفعت هذه البلية؛ لأنه رجل كامل العقل عنده شفقة ورحمة على المسلمين، ومحبة إلى الفقراء والمساكين، ولولاه لكانت العساكر أحرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال وقتلوا كامل أهل مصر، فعليكم أن لا تحركوا الفتن ولا تطيعوا أمر المفسدين، ولا تسمعوا كلام المنافقين، ولا تتبعوا الأشرار، ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول، الذين لا يقرءون العواقب لأجل أن تحفظوا أوطانكم، وتطمئنوا على عيالكم وأديانكم، فإن الله سبحانه وتعالى يعطي ملكه من يشاء ويحكم ما يريد، ونخبركم أن كل من تسبب في تحريك هذه الفتنة قتلوا عن آخرهم وأراح الله منهم العباد والبلاد، ونصيحتنا لكم أن لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة واشتغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم، وادفعوا الخراج الذي عليكم والدين النصيحة والسلام ا.ه.
ثم التفت نابوليون إلى إتمام ما شرع فيه، وأشرنا إليه في الدور الأول من تحسين مدينة القاهرة وتجميلها ليجعل الإقامة فيها للفرنساويين مقبولة محبوبة، فمد الشوارع الواسعة من الأزبكية إلى بولاق، ومن الأزبكية إلى قبة النصر، وردموا الجهات الواقعة حول بركة الأزبكية وجددوا قنطرة المغربي، ومدوا شارعا آخر بين باب الحديد وباب العدوى عند المكان المعروف بالشيخ شعيب ، ومهدوا جسرا آخر ممتدا من هناك إلى خارج الحسينية ... إلى غير ذلك من أسباب تسهيل المواصلات.
وفكروا في إقامة أماكن للهو والنزهة فوضع مسيو دارجيفال
Dargeaval
مشروع إنشاء «كازينو» أطلق عليه لقب تيفولي
Tivoli
تشبها بنظيره في باريس، واختير لإقامة ذلك المكان إحدى دور الأمراء المماليك وعهد إلى مسيو دارجيفال المذكور تنفيذ مشروعه في تلك الدار وحديقتها، فحولها إلى ملهى يجمع بين دفتيه أسباب التسلية المعروفة في أمثال هذه الأماكن، فجعل في جزء منها بهوا للعب البليارد، وقاعة للعب الورق، وأخرى للمطالعة، وفي مكان آخر أعد محلا أشبه بالمسرح للرقص والغناء ومطعما ومحال للشراب وما أشبه ذلك، وإليك ما يقوله شيخنا الجبرتي في هذا الصدد: قال في أواخر حوادث شهر جمادى الثانية: «وانقضى هذا الشهر وما حصل فيه من الحوادث الكلية والجزئية، التي لا يمكن ضبطها لكثرتها، منها أنهم أحدثوا بغيط النوبي المجاور للأزبكية أبنية على هيئة مخصوصة منتزهة يجتمع بها النساء والرجال للهو والخلاعة في أوقات مخصوصة، وجعلوا على كل من يدخل إليها قدرا مخصوصا يدفعه، أو يكون مأذونا وبيده ورقة» ... رحم الله الشيخ الجبرتي! لم تفته صغيرة ولا كبيرة!
وشكل التجار الأوروبيون الموجودون في القاهرة شركة تجارية رأس مالها 300000 فرنك، وجعل ثمن السهم فيها ثلاثة آلاف فرنك ومدتها ثلاث سنوات، واشترك الجيش الفرنساوي في عشرة أسهم منها بناء على أمر أصدره نابوليون إلى بوسيلج مدير الأمور المالية، وهذا الأمر محفوظ في أوراق نابوليون بباريس نمرة 3619 وتاريخه 14 نوفمبر سنة 1798.
وفي هذه الفترة ظهرت للمجمع العلمي جريدتان فرنساويتان وهما «الديكاداجيسيان»
Le Decade Egyptien «والكورية دي أجيبت»
Le Courier d’Egypte
وابتدأ الباحثون من الفرنساويين في إقامة وإنشاء الأعمال النافعة التي تقضي بها ضرورة الإقامة في هذه الديار، وكان من الرجال الذين أحضرهم نابوليون معه رجل اسمه كونتيه
Conté
كانت وظيفته رئيس فرقة الطيران الذي لم يكن في المنزلة التي هو فيها الآن، ولكنهم كانوا قد بدءوا في خلال الثورة الفرنساوية في اختراع المناطيد «البالونات» وجعلوا لها عملا خاصا في الإدارة الحربية، فكان مسيو كونتيه هذا من أكثر الناس نفعا للحملة الفرنسية؛ لأنه كان نادرة الذكاء والمقدرة على الاختراع والتفنن، فأنشأ لهم معامل لصناعة الأقمشة والقبعات والورق، وأخذ يدرس الصناعات الوطنية ويجتمع كثيرا بالصناع المصريين ويستفسر منهم عن الآلات التي يستعملونها في صناعاتهم المحلية، ولا تنس أن مراد بك كان قد أنشأ في الجيزة دار صناعة للآلات الحربية والقنابل والبارود، وأن مثل هذه الصناعات كانت معروفة في مصر، ولكن الفرنساويين تحت إدارة كونتيه دشاسي وولده
Champy
أدخلوا محسنات الصناعة الأوروبية فصنعوا البارود، وسبكوا المدافع والبنادق وجميع ما يلزم من أدوات الحرب، كل ذلك لعلمهم أنه قد قضي عليهم بالبقاء في وادي النيل، وأن طريق البحر إلى وطنهم قد سد في وجوههم، والحاجة أم الاختراع.
2
وفي هذه المدة بدأت الدولة العثمانية بتحريض من إنجلترا في مقاومة الفرنساويين بإيغار صدور المصريين عليهم، فأرسلت عدة منشورات، ووالت إرسال الرسل بالرسائل والكتب لأعيان البلاد وكبار القوم، ومن هذه المنشورات منشور طويل لم يذكره الجبرتي؛ لأن الفرنساويين صادروه وأحرقوه وقد وقفنا على صورة باللغة الفرنسية لنص ذلك المنشور، فرأينا من باب الفائدة التاريخية أن نأتي على أهم ما جاء فيه من عبارات الطعن على الفرنساويين، وتسفيه أحلامهم، والاستهزاء بمعتقداتهم، ويقول «لاكرو»: إن المطلع على هذا المنشور، وما فيه من الطعن على مبادئ الثورة الفرنسية، يرى من خلاله أنه كتب بقلم أوروبية. يشير بذلك إلى أنه كتب بإرشاد الإنكليز وبتعليماتهم؛ والمنشور مستفتح بالبسملة والصلاة على النبي محمد خاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين، ثم يقول:
إن الفرنساويين أباد الله ملكهم، ونكس أعلامهم، قوم كفار ملاعين، لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يعتقدون في رسالة محمد
صلى الله عليه وسلم
ويسخرون من جميع الأديان، وينكرون البعث والنشور، وما كتب لعباده تعالى من الثواب والعقاب في الدار الآخرة، ويعتقدون أن المصادفة العمياء هي التي أوجدت هذا الكون وهي المتسلطة في الحياة والموت، وأن الإنسان متى وضع في التراب انحل جسمه ولا يعود إلى حياة ثانية يعاقب فيها، أو يثاب على عمله في الحياة الدنيا، ولهذا السبب هدموا كنائسهم، وخربوا معابدهم، وكسروا صلبانهم، وطردوا قساوسهم ورهبانهم، وعندهم أن كتب الأنبياء والمرسلين ليست إلا أكاذيب وخرافات ملفقة، وأن القرآن والتوراة والإنجيل، ليست إلا أساطير الأولين، ويعتقدون أن الأنبياء كموسى وعيسي ومحمد ليسوا إلا أفرادا امتازوا عن غيرهم قليلا ما، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى لم يبعثهم برسالة، ولم يختصهم بنبوة، ولا يعتقد فيهم غير ذلك سوى الأغبياء والمفتونين، ومن رأيهم أن الناس قد خلقوا سواء ولهذا يجب أن يكونوا متساوين في الحرية، يعتقد الواحد منهم ما يشاء فيما يشاء.
وعلى أساس هذه المعتقدات الفاسدة، وضعوا لهم نظاما جديدا وشرائع شيطانية بها هدموا أساس المعتقدات الدينية، وأحلوا ما حرم الله وفتحوا للشهوات البشرية أبواب الفساد، فصاروا بذلك أمة همجية بعيدة عن الإنسانية لا تعرف غير الدعارة والشرور.
ومن مبادئ أولئك القوم الضالين إيقاع النفرة، وغرس بذور الخلاف بين الملوك والأمم، وخلق الأسباب للمشاكل والقلاقل بين العباد، ويوهمون الناس بأنهم أنصار الحرية، ويفهمونهم أنهم إخوان، وأنهم يعتقدون مثل ما يعتقدون، ويدخلون بذلك في صدور عباد الله أوهاما باطلة، ومطامع سافلة، وبذلك سقطوا في بحر لا ساحل له من الفضايح والقبائح، ولم تعد لهم ضمائر رادعة، ولا نفوس زاجرة، فالحيلة عندهم مهارة، والسلب شطارة، وسفك الدماء مهارة وجسارة، والكذب فصاحة ونباهة، ولقد ذبحوا وقتلوا وأهلكوا من قومهم من لا يدين بدينهم.
ولقد اهتزت جوانب أوروبا لهذه الطغمة الشريرة التي انتشرت كالذئاب الجائعة، تهاجم الأمم المطمئنة لهدم قواعد الحكومات؛ وإبادة الأديان، واختطاف النساء والأطفال، فسالت من جراء ذلك الدماء أنهارا، وفازوا في إخضاع الأمم التي رضخت لشرهم وخنعت لأمرهم!
فما أنتم فاعلون يا حماة الإسلام وأنصار الدين الحنيف؟ يا من تؤمنون برسالة محمد بن عبد الله! إن ألئك القوم الضالين قد ساء فألهم فظنوا المسلمين كأولئك الكفار المنافقين الذين صدقوهم واتبعوا مبادئهم الفاسدة، وغاب عنهم أن الإسلام محفور على صفحات قلوبنا، وأنه يجري مجرى الدم في عروقنا، فهل يمكن أن نترك ديننا الطاهر الحنيف، بعد أن أنار الله قلوبنا بنوره، وهدانا إلى الصراط المستقيم؟ كلا ثم كلا! إن الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده المؤمنين أن يزعزع إيمانهم، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز
إن ينصركم الله فلا غالب لكم .
فكونوا يا عباد الله على حذر منهم ولا تقعوا في أشراكهم وحبائلهم، ولا ترهبنكم كثرتهم ولا تدهشنكم هيئتهم، فالأسد لا يرهب الثعالب مهما كثر عددها، والنسر لا يخاف البغات مهما استنسر، وستصلكم الجيوش الجرارة على الصافنات من الجياد لتقضي على عدو الله وعدوكم، وتقذف به إلى النار وبئس القرار، فلا تيأسوا من روح الله فإنه تعالى حارسكم ومؤيدكم وناصركم، فبعونه تعالى وحول رسوله الكريم ستمحق جيوشنا أولئك الكفرة الضالين، والساعة آتية لا ريب فيها، نصر الله جيوش الموحدين وأعز سلطان المسلمين ا.ه.
ليس في المصادر الفرنسية إشارة إلى التاريخ الذي وصل فيه هذا المنشور إلى القاهرة، ولكن ورد في الجبرتي، كما سبقت لنا الإشارة، أنه في ليلة السبت 24 جمادى الأولى حضر هجان من ناحية الشام وعلى يده مكاتبات، وهي صورة فرمان وعليه طرة ومكتوب من أحمد باشا الجزار وآخر من بكر باشا إلى كتخدائية مصطفى بك، ومكتوب من إبراهيم بك خطابا للمشايخ، أما خطاب بكر باشا وإبراهيم بك فلا نظن أنهما نشرا أبدا، وأما فرمان أحمد باشا الجزار فهو لا شك هذا المنشور، وفيه بلا مرية روح السرسدني سميث في طعنه على مبادئ الثورة الفرنسية؛ إذ هي نفس المطاعن التي يوجهها الإنكليز للفرنساويين في ذلك الزمن، مثل كارليل الكاتب المشهور والمستر برايتون الخطيب البرلمان الكبير، وكان السرسدني سميث في ذلك الوقت كثير التردد على عكا، وله من هذا النوع منشور بعث به في حرب الشام لنصارى سوريا ويحذرهم، كما في هذا المنشور، من أن الفرنساويين مسيحيون، بل هم كما وصفهم في هذا المنشور قوم لا دين لهم ولا عقيدة، وأنهم هدموا أركان الدين المسيحي.
ومن التاريخ المذكور لوصول هذاالمنشور يتضح جليا أن لا صحة لدعوى المعلم نقولا الترك، ومن نقل عنه من أمثال الشيخ الدحداح، إن العلماء وزعوا ذلك المنشور على أهالي القاهرة ليحضوهم على الثورة السالفة الذكر، ونقول: إن عبارة هذا المنشور، من حيث معتقدات الفرنساويين، تطابق ما وصفهم به الشيخ عبد الله الشرقاوي في رسالته الذي وضعها للصدر الأعظم يوسف باشا بعد الاتفاق على خروج الفرنساويين من مصر وسماها «تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين» إذ قال فيها: «وحقيقة رجال الفرنساوية أنهم فرقة من الفلاسفة إباحية طبائعية يقال لهم: نصارى قاتوليقية، يتبعون عيسى عليه السلام ظاهرا وينكرون البعث والدار الآخرة، وبعثة الأنبياء والمرسلين، ويقولون إن الله واحد، ولكن بطريق التعليل ويحكمون العقل ويجعلون منهم مديرون يدبرون الأحكام يضعونها بعقولهم ويسمونها شرائع، ويزعمون أن الرسل محمدا وعيسى وموسى كانوا جماعة عقلاء، وأن الشرائع المنسوبة إليهم كناية عن قوانين وضعوها بعقولهم تناسب أهل زمانهم.»
ولنعد إلى منشور الجزار فنقول إن من السهل كثيرا تصنيف مثل هاتيك المنشورات، والدعوة إلى الجهاد ضد الكفار مألوفة، وطريقة من الطرق التي يلجأ إليها، ولكن ما فائدتها في ذلك الزمن، وفي أي زمن سواه، هل يمكن أنها حركت أمة أو حررت شعبا أو أدت إلى نتيجة مرضية حيث يكون القابض على نواصي الأمة قويا قادرا على قمع أية ثورة في إبانها، وإخماد أي فتنة في مكانها؟ اللهم لا فائدة لهذه الأعمال إلا إيقاع النفرة وغرس بذور الأحقاد، وتحريك الضغائن والأضرار بالذين يراد الخير لهم، والأولى بالذين يريدون امتلاك البلاد أو نصرة أهلها - إن كان هذا صحيحا - أن يستعيضوا عن الأقوال بالأفعال، ورحم الله من قال: «السيف أصدق أنباء من الكتب»!
ولا شك في أن هذا المنشور قد أزعج نابوليون ورجاله؛ لأنه دب على المواضع الحساسة في نفوسهم ووجه إليهم من المطاعن ما هو مؤلم، ولأنه نقض أساس دعواه للمصريين بأنهم مسلمون، أو أنهم يحترمون الدين الإسلامي، أو أنهم أصدقاء أمير المؤمنين وخليفة المسلمين.
قال الجبرتي: «إنه لما وصلت هذه الأوراق - يعني فرمان الجزار هذا - وكتب بكر باشا وإبراهيم بك أخذها مصطفى بك وكيل بكر باشا وذهب بها إلى صاري عسكر «بونابرت» فلما اطلع عليها قال: هذا تزوير من إبراهيم بك ليوقع بيننا وبينكم العداوة والمشاحنة، وأما أحمد باشا الجزار فهو رجل فضولي وسيأتي بعد أيام وال من الدولة يقيم معنا ونقيم معه كما كان الحال مع المماليك» ... وإن صحت هذه الرواية ، فيكون ما قاله نابوليون إنما هو جواب على خلاصة ترجمها له المترجمون من تلك الكتب الكثيرة، فلما اطلع على ترجمتها بالنص رأى من مقتضى السياسة أن يحمل علماء الأزهر على كتابة منشور ضد منشور الجزار، فكتب له بعضهم ما أراد وطبعوا من صورة ما كتب عدة نسخ وزعوها في البلاد، والصقوا منها كثيرا بالأسواق والحارات ... وهذا نصها عن الجبرتي:
نصيحة من علماء الإسلام بمصر المحروسة
نخبركم يا أهل المدائن والأمصار من المؤمنين، ويا سكان الأرياف من العربان والفلاحين، أن إبراهيم بك ومراد بك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات إلى سائر الأقاليم المصرية لأجل تحريك الفتنة بين المخلوقات، وادعوا أنهم من حضرة مولانا السلطان، ومن بعض وزرائه بالكذب والبهتان، وبسبب ذلك حصل لهم شدة الغم والكرب الزائد واغتاظوا غيظا شديدا من علماء مصر ورعاياها حيث لم يوافقوهم على الخروج معهم ويتركوا عيالهم وأوطانهم، فأرادوا أن يوقعوا الفتنة والشر بين الرعية والعسكر الفرنساوية لأجل خراب البلاد وهلاك كامل الرعية، وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزائد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية، ولو كانوا في هذه الأوراق صادقين، بأنها من حضرة سلطان السلاطين، لأرسلوها جهارا مع أغوات معينين، ونخبركم أن الطائفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوائف الإفرنجية دائما يحبون المسلمين وملتهم، ويبغضون المشركين وطبيعتهم، أحباب لمولانا السلطان وقائمون بنصرته، وأصدقاء له ملازمون لمودته وعشرته ومعونته، يحبون من والاه، ويبغضون من عاداه، ولذلك بين الفرنساوية والموسكوف غاية العداوة الشديدة، من أجل عداوة المسكوف القبيحة الرديئة، والطائفة الفرنساوية، يعاونون حضرة السلطان على أخذ بلادهم إن شاء الله تعالى ولا يبقون منهم بقية، فننصحكم يا أهل الأقاليم المصرية، أنكم لا تحركوا الفتن والشرور بين البرية، ولا تعارضوا العساكر الفرنساوية، بشيء من أنواع الأذية، فيحصل لكم الضرر والهلاك، ولا تسمعوا كلام المفسدين، ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكامل الملتزمين، لتكونوا بأوطانكم سالمين، وعلى أموالكم وعيالكم آمنين مطمئنين؛ لأن حضرة صاري عسكر الكبير أمير الجيوش بونابرته اتفق معنا على أن لا ينازع أحدا في دين الإسلام، ولا يعارضنا فيما شرعه الله من الأحكام، ويرفع عن الرعية سائر المظالم ويقتصر على أخذ الخراج، ويزيل ما أحدثه الظالمة من المغارم فلا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد، وارجعوا إلى مولاكم مالك الملك وخالق العباد، فقد قال نبيه ورسوله الأكرم، «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم» - عليه أفضل الصلاة والسلام.
3
ولا شك أن نابوليون قد أدرك من منشور الدولة العثمانية لأهل مصر أن الحرب مع الأتراك آتية لا ريب فيها، وأن من مقتضى السياسة أن يزيد في التودد إلى المصريين، ويعيد إنشاء الديوان الذي ألغاه بعد ثورة القاهرة، ولكن على طريقة جديدة بعد الذي اكتسبه من الخبرة، وعرفه من مكانة الأفراد ومنزلتهم عند الشعب، وبعد ما عرف من عرف من الموالين له من المصريين والسوريين والأجانب في مصر، لذلك ارتأى أن يشكل الديوان على نظام مختلط من المشايخ والتجار والأجانب فأصدر أمره في 16 رجب «25 ديسمبر» بإنشاء ديوان مؤلف من ستين عضوا، وسماه الديوان العمومي، وقرر أن ينتخب من هؤلاء أربعة عشر عضوا يتألف منهم ديوان سماه «الديوان الخصوصي» وكأني باللورد دوفرين، بعد أربعة وثمانين سنة من هذا التاريخ، استعار هذا النظام «البونابارتي»، مع بعض التحوير، عند وضعه نظام مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية عقب الاحتلال البريطاني سنة 1882.
وقرر أن الديوان العمومي لا يجتمع إلا عند الضرورة، أما الخصوصي فيجتمع كل يوم للنظر في الأمور المختلفة ولوضع إمضاءات أعضائه «!» على منشورات نابوليون وبلاغاته المطولة عن حرب الشام كما سيرى القراء ذلك.
أما أعضاء الديوان الخصوصي فلم يذكر الجبرتي إلا ثلاثة عشر منهم حتى إن مصححي المطبعة الأميرية، الذين أحسنوا تصحيح الطبعة الأولى من كتاب الجبرتي، وهي التي طبعت في زمن الخديو توفيق باشا سنة 1297 هجرية - أي: بعد موت الجبرتي بإحدى وستين سنة - لاحظوا في هامش الكتاب أنه لم يذكر إلا ثلاثة عشر عضوا، والمعلم نقولا الترك لم يشر إلى تأسيس هذا الديوان، ولم يأت على المنشور الخاص به، ولكنه عند ذكره سفر نابوليون من مصر جاء بمنشور نائبه على لسان أعضاء الديوان وعليه ستة عشر إمضاءة، وهي تخالف الأسماء الواردة في الجبرتي، وكلاهما - على أي حال - متفق على الأسماء الآتية:
الشيخ عبد الله الشرقاوي، الشيخ محمد المهدي، الشيخ مصطفى الصاوي، السيد خليل البكري، الشيخ سليمان الفيومي، السيد أحمد المحروقي، لطف الله المصري، يوسف فرحات.
والخلاف في الخمسة الآتية أسماؤهم:
فالجبرتي ذكرها كالآتي: حسين بن محرم، كحيل رواحه الإنكليزي، بودني موسى كافر الفرنساوي.
ونقولا الترك ذكرها هكذا: علي كتخدا مجرلي، يوسف باش جاويش، جبران سكروج، لومار بودوف، ذو الفقار كتخدا، وأسقط حسن بن محرم.
وجارى زيدان الجبرتي حرفا بحرف مكتفيا بثلاثة عشر، ولم يذكر رواحه الإنكليزي، بل قال: «وواحد إنكليزي وآخر يدعى أباديف.»
فلما رجعت للمصادر الفرنسية المطولة وجدت في كتاب «الحملة الفرنسية» الذي سبقت الإشارة إليه وهو أحق بالثقة من سواه، الترتيب الآتي من نفس نص الأمر النابوليوني المحفوظ في أوراقه الرسمية؛ إذ صدر أمر نابوليون كما يأتي: يؤلف الديوان الخصوصي كالآتي:
من العلماء:
المشايخ عبد الله الشرقاوي، محمد المهدي، مصطفى الصاوي، السيد خليل البكري، سليمان الفيومي.
من التجار:
السيد أحمد المحروقي، حسن بن محرم.
من الأقباط:
المعلم لطف الله المصري، المعلم إبراهيم جر العايط.
من السوريين:
يوسف فرحات، مخائيل كحيل.
من الأجانب:
ولمار «وهو طبيب سويدي من السويد» وفرنسوا بودوف، وكاف
2 (Caffe & Beaudeuf)
وهما تاجران فرنسيان من أهالي مرسيليا.
فالذي سقط من الجبرتي هو المعلم إبراهيم جر العايط القبطي، وخلط بين ولمار السويدي، وسماه رواحه الإنكليزي، ولا يبعد أنه كان يتسمى باسم «رواحة» قبل مجيء الفرنسيين؛ إذ كان الأجانب قبل مجيئهم يرتدون الملابس الشرقية ويتخذون ألقابا مصرية، وكيف يعين نابوليون في الديوان الخصوصي إنكليزيا وهو في حرب معهم في البر والبحر؟ ... ثم «بودني» الذي ذكره الجبرتي هو لا شك «بودوف» الفرنسي، وكاف هو الذي سماه موسى كافر! وأما الأسماء التي جاءت في رسالة المعلم نقولا الترك فلا يصح الاعتماد عليها؛ لأن تاريخ المنشور الذي وضعت عليه تلك الإمضاءات يقع في 20 ربيع الأول سنة 1214، وتشكيل الديوان العمومي الذي نحن بصدده كان في رجب سنة 1213، فمن المحتمل حدوث تغيير في الأعضاء في خلال تلك المدة خصوصا، وأن من الثابت لدينا أن مخائيل كحيل السوري مات في 29 محرم سنة 1214.
3
أما أعضاء الديوان «عدا أعضاء الخصوصي» فلم نقف على أسمائهم في الكتب العربية، وكل ما ذكره الجبرتي عنهم قوله: «وأما العمومي فأكثره مشايخ حرف.» وكنت قبل أن أعثر على الاسم الساقط في الجبرتي من أعضاء الديوان الخصوصي، أميل إلى الظن بأنه قد يكون الشيخ عبد الرحمن الجبرتي نفسه، هو ذلك العضو، وأنه لم يرد ذكر اسمه تواضعا منه أو ترفعا عنه، خصوصا بعد خروج الفرنسيين وقدوم الأتراك، وهو لم يجمع كتابه إلا بعد هذه الفترة بزمن طويل، كما سبق لنا تحقيق ذلك، وسبب هذا الظن أن «كاردين» وغيره من الذين ترجموا هذه الفترة من تاريخ الجبرتي، قالوا عنه: إنه كان عضوا في الديوان الخصوصي مدة وجود الفرنسيين في مصر، ولكن هذا الظن زال أثره بعد أن تحققت من أن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي كان عضوا في الديوان الذي أنشئ في زمن الجنرال مينو.
4
ومما جاء في مرسوم نابوليون بتشكيل هذا المجلس أن يكون في المجلس مندوب فرنسي وهو مسيو جلوتيه
Gloutier
وأن الذي يأمر باجتماع المجلس هو قومندان «حاكم» المدينة، ويجب أن تنتهي جلسات الديوان العمومي بعد ثلاثة أيام، ولا ينعقد ثانية إلا بدعوة فوق العادة، وأن أعضاء الديوان الخصوصي يجتمعون يوميا للعمل «على ما يؤيد العدل ويؤدي إلى إسعاد الأهالي وخدمة صوالح الجمهورية الفرنسية» وجعل مرتب رئيس الديوان الخصوصي في كل شهر مائة ريال، ولكل عضو ثمانون.
وأعقب نابوليون الأمر بإنشاء الديوان على الطريقة المتقدم بيانها بمنشور طويل قصد به اكتساب مودة المصريين، مع الإرهاب والإنذار! وإن كان الجبرتي قد نشره مع طوله «للاطلاع على ما فيه من التمويهات على العقول والتسلق على دعوى الخواص من البشر بفاسد التخيلات، التي تنادي على بطلانها بديهة العقل فضلا عن النظر»؛ فنحن كذلك ننشره لسبب آخر وهو مقارنته بالأصل الفرنساوي، لإظهار ما في ذلك من تصورات نابوليون في نفسه، وإظهار ما كان يعانيه المشايخ في تنقيح وتحوير عباراته، بألفاظ تقرب من مراده، ولا تجرح المسلمين في عواطفهم، ولا تؤلمهم في معتقداتهم، وهذا هوالنص العربي كما ورد في الجبرتي وفي غيره ممن نقل عنه، ولم يأت به المعلم نقولا الترك.
بسم الله الرحمن الرحيم
من أمير الجيوش الفرنساوية إلى كافة أهل مصر الخاص والعام! نعلمكم أن بعض الناس الضالين العقول، الخالين من المعرفة وإدراك العواقب، سابقا أوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين بمصر فأهلكهم الله بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة، والباري سبحانه وتعالى أمرني بالشفقة والرحمة على العباد فامتثلت أمره وصرت رحيما بكم عفوا عنكم، ولكن حصل عندي غيظ وهم شديد بسبب تحريك تلك الفتنة بينكم، ولأجل ذلك أبطلت الديوان الذي كنت رتبته لنظام البلد وإصلاح أحوالكم من مدة شهرين، والآن توجه خاطرنا إلى ترتيب الديوان كما كان؛ لأن حسن معاملتكم وأحوالكم في المدة المذكورة أنسانا ذنوب الأشرار وأهل الفتنة التي وقعت سابقا، أيها العلماء والأشراف أعلموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه من ضلال عقله وفساد فكره فلا يجد ملجأ ولا مخلصا ينجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من بين يد الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى، والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى، وإرادته وقضائه، ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة، واعلموا أيضا أمتكم أن الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي، وقدر في الأزل أني أجيء من الغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها وإجراء الأمر الذي أمرت به، ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضائه، واعلموا أيضا أمتكم أن القرآن العزيز صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل وكلام الله في كتابه صدق وحق لا يتخلف.
إذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم فلترجع أمتكم جميعا إلى صفاء النية، وإخلاص الطوية، فإن منهم من يمتنع عن الغي وإظهار عداوتي خوفا من سلاحي وشدة سطوتي، ولم يعلموا أن الله مطلع على السرائر يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي يفعل ذلك يكون معارضا لأحكام الله ومنافق، وعليه اللعنة والنقمة من الله علام الغيوب، واعلموا أيضا أني أقدر على إظهار ما في أنفس كل واحد منكم؛ لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد ما أراه، وإن كنت لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده، ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعاينة أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم إلهي لا يرد، وأن اجتهاد الإنسان غاية جهده لا يمنعه عن قضاء الله الذي قدره وأجراه على يدي! فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية وإخلاص السرايرة والسلام. ا.ه.
كتب نابوليون هذا المنشور الغريب في 21 ديسمبر وهو يوافق يوم الجمعة 13 رجب، ولكنه لم ينشر في القاهرة إلا يوم 16 رجب؛ أي: بعد ثلاثة أيام قضاها المترجمون في تعريب وتحوير عبارة نابوليون الأصلية التي ادعى فيها لنفسه منزلة النبوة إن لم نقل الإلوهية، وهذا ما يقصده الشيخ الجبرتي بقوله: «التسلق على دعوى الخواص من البشر.» كالأنبياء المرسلين وأولياء الله الصالحين مثلا، ولو عرف الشيخ الجبرتي أن نابوليون يقول في الأصل الفرنسي: «إن الذين يبلغ بهم الاستخفاف إلى معاداتي لا يجدون ملجأ لأنفسهم لا في هذا العالم ولا في عالم الآخرة.» لما اكتفى بوصف نابوليون بالتسلق على دعوى الخواص من البشر، بل لرماه بالإغراق والتسلق على مقام الله سبحانه وتعالى.
وغريب أن نابوليون الذي ما صح له اعتقاد بوجود الخالق كما أثبت ذلك كل المحققين من كتاب تاريخه، يدعى أن الله عز وجل أمره أو أوحى إليه بالشفقة والرحمة على العباد!! ومن رأى اللورد «روزبري» في كتابه الجليل عن نابوليون في سانت هيلانة، ذلك الكتاب الذي حلل فيه أخلاق نابوليون ومعتقداته تحليلا فلسفيا علميا، معتمدا فيه على أقوال نابوليون وشهادة الذين عاشروه ونقلوا عنه، أن نابوليون كان من الوجهة الدينية، رجلا ماديا لا يعتقد بوجود الخالق، ولا يصدق بالأنبياء ولا بالبعث والنشور، ولنا في هذا الموضوع كلمة سنأتي بشيء من البيان والتحقيق في فصل سنعقده لما كان يقال، ولا يزال يعتقد لدى بعضهم، من أن نابوليون اعتنق الإسلام أو ادعاه.
وكيفما كان معتقد نابوليون وهو يكتب ذلك المنشور، فلا نزاع في أنه أراد به التمويه على العقول وإرهاب المسلمين وتحذيرهم من الانقلاب عليه وعلى جنوده إذا أقبل العثمانيون لخلاص مصر من أيدي الفرنساويين، وفاته أن للمسلمين اعتقادات ثابتة، ودينا قائما على أسس راسخة رسوخ الجبال، قد فصل فيه كل أمر تفصيلا، فهم لا يؤخذون بمثل هذه التمويهات، وهم لا يثقون بالمسلم إلا إذا حسن إسلامه واتبع أوامر الدين الحنيف واجتنب نواهيه، وفاته أيضا أن فكرة الخلافة الإسلامية متأصلة في نفوس المسلمين، وأنهم ما داموا يعتقدون أن الخلافة في بني عثمان، فمهما جاءهم نابوليون بالمعجزات، ومهما صور لهم من أمثال تلك العبارات، فإنهم يعتقدون أن نصرة آل عثمان على المسلمين فرض مقدس عليهم؛ أخطأ المسلمون المصريون وغير المصريين في ذلك أم أصابوا، فإن ذلك لا يغير الحقيقة التي شرحناها في هذا المقام، والمعنا إليها في كثير من مواطن الكلام.
4
ورأى نابوليون ضرورة تحصين القطر المصري من الجهات المختلفة اتقاء للطوارئ فبعث الجنرال مارمون
Marmont
بفرقة من الجنود ليساعدوا في تحصين الشواطئ المصرية الواقعة بين برج العرب «مارابوط» ورشيد، وكان الأسطول الإنكليزي ومعه بضع سفن روسية وعثمانية يظهر من آن لآخر أمام الشواطئ المصرية فيضطر الفرنساويون إلى مضاعفة قواهم في الجهات الواقعة على السواحل والثغور، وأنشئت القلاع والطوابي حول ثغر دمياط وعلى مصاب نهر النيل وكانت في ذلك الوقت أكثر من اثنين، وانتقل الجنرال كليبر من قومندانية الإسكندرية إلى القاهرة وعين مكانه الجنرال مارمون المشار إليه.
والآن وقد ظن نابوليون أنه قد اطمأن بالا بعد أن حصن القاهرة أو جعلها تحت رحمة طوابيه وقلاعه ومدافعه، وبعد أن حصن الشواطئ من الإسكندرية إلى العريش وأقام في الصالحية القوى الكافية والحصون اللازمة، وبعد أن ضعضع الجنرال «ديزيه» قوى مراد بك في الوجه القبلي ولم يبق في نظر نابوليون معارض ولا مقاوم، انصرف إلى التفكير في المشروع العظيم الذي لم يتم على يديه، ولكن بقي فخاره لفرنساوي آخر، ونعني به مشروع قنال السويس - أي: اتصال البحر الأبيض بالبحر الأحمر - ولم يكن الفرنساويون لهذا الوقت «أوائل شهر ديسمبر سنة 1798» قد امتلكوا السويس؛ لانقطاع المواصلات بينها وبين القاهرة، ولسطوة العربان في الصحراء الواقعة بين البلدين، وقد كانوا حاولوا احتلال ذلك الثغر بواسطة نفر من المماليك وبضع نفر من الفرنساويين فلم ينجحوا، فقد روى الجبرتي في حوادث 15 ربيع الأول أنهم عينوا إبراهيم العمار أغات المتفرقة قبطانا للسويس، وسافر معه أنفار «يبوت» فرنساوي فخرج عليهم العربان فنهبوهم وقتلوا إبراهيم أغا المذكور ومن معه.
5
فكان احتلال السويس ضروريا لوصول التجارة القادمة من البحر الأحمر، ولتأمين الحجاج، ولقطع المواصلات مع إبراهيم بك ومن معه في سوريا، فلذلك انتخب نابوليون فئة من العلماء وأوفد الجنرال «بون» بفرقته ليكون في مقدمة الحملة على السويس وأصدر له أمرا مطولا بالتعليمات التي يتبعها، وهي محفوظة في مكاتبات نابوليون نمرة 3697 وكلها تعليمات عسكرية لا نرى ضرورة لتعريبها، وفي يوم 24 ديسمبر عسكر نابوليون ومن معه من الجنود والقواد والعلماء في بركة الحج، ثم وصل بلده «اجرود» بعد ظهر اليوم التالي وسار منها إلى السويس فوصلها في الليل وبات في خيمة.
وكانت السويس في ذلك الزمن فرضة صغيرة يقيم فيها بضع مئات من الناس في غير موسم الحج، وكان الماء ينقل إليها على ظهور الجمال من عيون موسى وليس فيها من الصهاريج التي تحفظ فيها المياه إلا عددا قليلا قد تخرب أكثره، وكان يصل عدد سكانها إلى نحو الألفين أو ثلاثة آلاف في أيام موسم الحج وحركة التجارة ، ولما وصلها نابوليون في 27 ديسمبر أصدر أمره بإقامة المعاقل والحصون وعزم على زيارة عيون موسى، وهذا البيان ملخص من بيان طويل أملاه نابوليون وطبع في كتاب «حروب مصر وسوريا للجنرال براتران».
والجبرتي يقول في حوادث 16 رجب: «إن ساري عسكر بونابرته سافر إلى السويس وأخذ صحبته السيد أحمد المحروقي وإبراهيم أفندي كاتب البهار «ديوان البن والبضائع التي ترد من البحر الأحمر» وأخذ معه بعض المديرين والمهندسين والمصورين وجرجس الجوهري وأنطون أبو طاقية وغيرهم، وعدة كثيرة من عساكر الخيالة والمشاة وبعض مدافع وعربات وتختروان، وعدة جمال لحمل الذخيرة والماء والقومانية «المأكولات».
وروى أيضا أنه لما عاد السيد أحمد المحروقي ومن معه من السويس حكوا أن أهل السويس لما بلغهم مجيء الفرنساوية «أي: الفرقة التي ذهبت مع الجنرال بون لاحتلال الثغر قبل وصول نابوليون» هربوا وأخلوا البلدة فذهب بعضهم إلى الطور وبعضهم إلى عرب البادية، فنهب الفرنساويون ما وجدوه في البندر من البن والمتاجر والأمتعة وهدموا الدور وكسروا الأخشاب وخوابي المياه.» ثم قال: «فلما حضر كبيرهم وكان متأخرا عنهم كلمه التجار الذاهبون معه، وأعلموه أن هذا الفعل غير صالح فاسترد من العسكر بعض الذي أخذوه ووعدهم باسترجاع الباقي أو دفع ثمنه بمصر.» وقال الجبرتي أيضا: «إن نابوليون في مدة إقامته بالسويس سار يركب ويتأمل النواحي وجهات ساحل البحر ليلا ونهارا.»
ولا شك أن نابوليون كان ينظر إلى أمواج البحر الأحمر وهو يحرق الارم لعدم وجود السفن التي تقله وتحمل جيوشه إلى البلاد الهندية ليأخذ بثأره من الإنكليز! فكأنما كانت هاتيك الأمواج تجيبه بتلاطمها على الصخور، وحفيفها بالرمال «إن أولئك الذين تحقد عليهم سيحاربونك وتحاربهم، ويخذلونك وتخذلهم، ثم يكون، بما لهم من السيطرة على هذه المياه، القول الفصل في شأنك لهم، فيأخذونك إلى سانت هيلانة، وتعيش فيها كئيبا لا مؤنس لك غير مثل هذه الأصوات، من مثل هذه الأمواج والمستقبل لله! والملك لله!» ولو كشف له قناع المستقبل وهو ينظر ويتأمل شواطئ البحر الأحمر، لرأى كما يرى النائم في حلمه، خيالات السفن مارة من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر، حاملة رايات الزينة المصرية والفرنساوية، وفي وسط إحدى هاتيك السفن رجل من بني جنسه يشير بإصبعه قائلا: «إنني أفتح الطرق للأمم»
6
ثم يرى بعد ذلك خيال المدرعات الإنكليزية والمدافع البريطانية مع سفن بلاده وأبناء قومه وعشيرته يقفون كتفا لكتف مع أولئك الذين صدوه وقبروه ليحفظوا لهم هذه الديار،
7
بعد أن أخرجوهم منها منذ قرن من الزمان! فيفيق من سباته مذعورا، وهو يقول في سره مباكتا نفسه: كلا لا يمكن أن يكون هذا صحيحا! إنما هي أضغاث أحلام، وخيالات من خيالات هذه البلاد المشهور بالطلاسم والسحر في غابر الأيام! أولم يضرب موسى بعصاه البحر في هذا المكان فانفلق وعبر هو وبنو إسرائيل، وغرق فرعون فكان من الهالكين ...؟
كأني بنابوليون وقد أفاق من غيبوبة كهذه فقال لمن معه من العلماء والمفكرين: «هلموا نعبر البحر حيث عبره موسى وبنو إسرائيل»!
وليس هذا من قبيل الخيال فإن نابوليون صمم حقيقة على قطع البحر الأحمر عند النقطة التي عبر منها موسى وقومه؛ ولذلك أصدر أمره إلى الجنرال «برتية» في يوم 27 ديسمبر بأن ينبه على الكونتر أميرال «غانتوم» أن يذهب مع نحو ستين رجلا من الأدلاء إلى جهة عيون موسى، وأعلنه بأنه سيركب مع الخيالة في الساعة الثالثة من صباح اليوم التالي، وليكن مع المشاة والأدلاء ما يلزمهم من المؤنة لمدة ثلاثة أيام.
وفعلا ركب نابوليون ومعه الجنرالان كفريللي رئيس المهندسين والجنرال دومرتين قومندان الطوبجية مع عدد من الفرسان وعبر البحر عند نقطة المعدية، في الوقت الذي تنسحب فيه المياه بالجزر، وكان ذلك في الساعة الثالثة من صباح يوم 29 ديسمبر، والمسافة بين السويس وعيون موسى تبلغ نحو ثلاثة فراسخ، وكان الكونتراميرال غاننوم قد سافر بسفينة مسلحة مع عدد كبير من البحار والمهندسين، وكثير من العلماء عن طريق البحر، وقد روى نابوليون فيما أملاه على «برثران» أنهم وجدوا عند عيون موسى آثار مبان كان أقامها الفينيسيون «البندقيون» في القرن الخامس عشر حينما أرادوا مقاومة البرتغاليين في طريقهم إلى الهند.
ونلخص القطعة الآتية من كلام مطول من كتاب برتران المشار إليه قال: «وفي المساء امتطى نابوليون صهوة جواده ليعود إلى السويس والذين جاءوا عن طريق البحر ركبوا السفينة، وفي الساعة التاسعة مساء نادى الجنود الذين في المقدمة أنهم ضلوا الطريق وطلبوا الأدلاء، وكان الجنود في النهار قد تسلوا بسقي أولئك الأدلاء الخمور حتى سكروا وغابوا عن الصواب وضل الركب الطريق، وكانت الليلة مظلمة وخيل للجند في مقدمة الركب أنهم يبصرون نارا في السويس فاتجهوا إليها، ولكن تلك النار كانت عبارة عن مصباح السفينة التي تقل الجماعة الآخرين فازداد الركب ضلالا، وكانت الساعة قد صارت عشرة وأخذ المد يعلو، والمياه تدنو، والخيل تسير في تلك الرمال إلى أن وصلت المياه إليها وأخذت تزداد شيئا فشيئا حتى وصلت إلى بطون الخيل والقوم حيارى لا يدرون ماذا يصنعون حتى قال نابوليون منذعرا: «أجئنا هنا لنغرق كما غرق فرعون من قبل؟ فما يكون أحسن من هذا موضوعا للوعظ في كنائس رومه.»
8
ولكن الحامية كانت مؤلفة من جنود أقوياء من الذين خدموا الجيش من ثمان إلى عشر سنوات، وهم على جانب من النباهة والدراية، فمن هؤلاء اثنان أحدهما اسمه لويس وكربونيل، فالأول اكتشف الطريق الأصلي في الحال وعاد بسرعة لإرشاد الجماعة، وكانت المياه قد وصلت إلى سروج الخيل، وكاد يغرق الجنرال كفريللي بسبب رجله المصنوعة من الخشب، ولكنهم بعد جهد جهيد صلوا إلى الشاطئ».
وقال صاحب هذه الرواية إن الذين بقوا في السويس أدركوا أن الجماعة قد ضلوا فخطر لهم أن يقيموا نارا لهدايتهم، فلم يجدوا الخشب اللازم لذلك فهدموا دارا من الدور ولم يكادوا يشعلون النار حتى كان الجماعة قد وصلوا إلى البر، ولم ينس نابوليون أن يكافئ الجندي لويس الذي دلهم على الطريق، وأنقذ الجنرال كفريللي من الغرق فرقى درجته وأهداه سيفا نقش على إحدى صفحتيه «من الجنرال بونابرت للفارس لويس.» وعلى الصفحة الثانية «عبور البحر الأحمر.»
9
وفي أثناء وجود نابوليون جهة الطور حضر إليه رهبان دير طور سيناء وطلبوا منه أن يشملهم برعايته، كما أعطاهم النبي محمد عهد الأمان، وكما فعل صلاح الدين والسلطان سليم؛ فأعطاهم عهدا بأن لا يعتدي عليهم أحد من الفرنساويين، وصورة عهد نابوليون لهم محفوظة بنمرة 3782 في مجموعة مكاتباته.
كان نابوليون موفقا في جميع أموره، ولطالما عرض نفسه للأخطار، ففي «أركولا» بإيطاليا كاد يصعق تحت سنابك الخيل، وأنقذ بمعجزة من معجزات الزمان، وهاهو يخلص من سيل البحر ومده ويعلو على الأمواج وارتفاعها، وكأني به وهو يقول: «أجئنا لنغرق كما غرق فرعون.» يسمع هاتفا يهتف في تلك الليلة الليلاء، وفي ذلك المكان المملوء بالذكريات الرهيبة: «لا تخف! إن الله حارسك وحافظك، فإن المهمة التي خلقت لأجلها لم تتم بعد! جئت إلى هذه الديار فقطعت دابر فئة ظلمت العباد وسفكت الدماء، وخرجت عن حدود الإنسانية حتى ضجت منها الأرض والسماء، فجاء الله بك جلادا لتنفيذ عدله الإلهي، وسنذهب بك إلى الشام فنفعل فيها في الضالين الظالمين مثلما فعلت في أولئك المماليك في مصر، والنمساويين في إيطاليا، ثم تعود إلى فرنسا فتشعل نار الحرب في أوروبا، وتتسم ذروة المجد الشاهقة، وتأخذ في غزو الأمم وإذلال العباد، وإهراق الدماء، وتبقى كالسيف المعلق على الرقاب، تنظف أوروبا كما ينظف الخادم دار مولاه! حتى إذا انقضت مهمتك سقطت من ذلك المكان العالي، سقوط الشهاب الثاقب، لتعيش بعد ذلك ستة أعوام متوالية يتقطع فيها نياط قلبك، كما تقطع أوتار الآلة الموسيقية، فيسمع لها رنين غريب، قد بقي دويه إلى اليوم، يرن في آذاننا، وآذان من يأتي من بعدنا، إلى يوم الساعة! وما كنت في الأولى، ولا في الثانية، إلا آلة في كف القضاء، وألعوبة في يد الأقدار، وكل ميسر لما خلق له»!
ولنعد إلى ما كنا فيه من رحلة نابوليون إلى السويس فنقول: إنه في اليوم التالي لخلاصة من ذلك المأزق الحرج، ركب في جماعة من العلماء وفيهم مونج وبرتللوا وبعض قواده وضباطه أركان حربه وسار بهم شمالا بقصد استطلاع طريق مواصلة البحر الأبيض بالأحمر، وكان قبل قد أصدر أمره إلى القوة المرابطة بالسويس بالسير عائده للقاهرة عن طريق أجرود وبلبيس، أما هو فعثر على آثار تلك الترعة التي كانت تنقل مياه النيل في الوادي من بوبسط على فرع النيل القديم الذي كان يسمى «بيليز» “Peluse” .
وفي الثالث من شهر يناير سار نابوليون ومعه بعض القواد والجنود في اتجاه وادي الطمبلات، وهناك أبصر برجل يسير على هجين يحمل رسالة، ولما رأى الرجل الجنود الفرنسية حاول الاختفاء والابتعاد، وكانت الرسائل التي معه من إبراهيم بك والجزار باشا إلى مصر معلنة بابتداء المعارك على حدود سوريا وبأن جيش الجزار دخل الأراضي المصرية، وأن مقدمة هذا الجيش احتلت قلعة العريش، وهي تعمل في تحصين القلعة لتكون قادرة على الدفاع.
وفي هذه الأثناء وصلت مراكب من جدة إلى السويس حاملة مقدارا عظيما من البن وبضائع الهند فاجتاز بونابرت الصحراء وعاد إلى السويس، وكانت حملة هذه المراكب تبلغ نحو أربعمائة أو خمسمائة طن، وجاءت أيضا قافلة من القاهرة وأصبحت مدينة السويس كمدينة هندية وقابل بونابرت التجار الذين عادوا من الهند، وبعد ذلك سار من السويس إلى الصالحية، وأخذ في إقامة الاستحكامات فيها استعدادا للحملة على سوريا.
هوامش
الفصل الرابع عشر
المدة الثانية
الحملة الفرنساوية على الشام
1
ندخل الآن في المدة الثانية من الدور الثالث، وهي عبارة عن الزمن الذي قضاه نابوليون في غارته على الديار الشامية إلى أن عاد إلى القاهرة يائسا من تحقيق أحلامه في بلاد الشرق، وقد سبق لنا القول إن الدولة العليا اتحدت مع إنكلترا وروسيا على محاربة فرنسا وإخراج جنودها من أرض مصر، فأعلن الباب العالي الحرب على فرنسا رسميا في 21 ربيع الأول سنة 1213 الموافق 2 سبتمبر سنة 1798، والحق يقال: إن نابوليون كان أبعد نظرا من جميع رجال السياسة في فرنسا؛ لأنه فكر في إمكان قيام الدولة العلية عليه، فحسب لذلك ما حسب من سوء العواقب قبل أن يبرح فرنسا بحملته، بدليل أنه كتب من إيطاليا إلى مسيو تالليران (Talleyrand)
وزير الأمور الخارجية بتاريخ 13 سبتمبر سنة 1797 «أي: قبل إعلان الدولة العثمانية الحرب على فرنسا بسنة كاملة» خطابا محفوظا الآن بوزارة الخارجية يطلب منه اتخاذ الوسائل اللازمة لإرضاء الباب العالي وحمله على قبول الاحتلال الفرنساوي لمصر، بل وزاد نابوليون في ذلك إذ طلب من تالليران أن يذهب بنفسه إلى الآستانة ليبذل ما أوتي من حكمة ودهاء للتأثير على رجال الدولة العلية.
إلا أن تالليران لم يكن في الحقيقة صافي النية نحو نابوليون، كما يشهد بذلك تاريخه معه حتى بعد ارتقاء نابوليون إلى عرش فرنسا، وطالما أظهر نابوليون الحقد عليه وطعن في ذمته وإخلاصه في مذكراته وأحاديثه في سانت هيلانة، ولذلك لم يذهب تالليران إلى الآستانة، قال «ميو» في مقدمة كتابه: «ولما كان نابوليون يحب دائما أن يشرك الرجال معه فيما يذهب إليه من الأخطار
1
طلب من تالليران أن يذهب إلى الآستانة، وبرح نابوليون فرنسا وهو معتقد بصدق وعود تالليران ولكن الأول لم يدرك أن الثاني كان أكثر منه دهاء وخبثا؛ لأنه تركه يرحل لمصر وهو عارف بما ستؤدي إليه نتائج تلك الحملة، وبقي في باريس و،خدع بذلك أحد أعضاء الديركتوار الذي كان يتطلع إلى منصب وزارة الخارجية.»
ومع ذلك فإن تالليران لم ينس أن يكلف سفير الجمهورية الفرنسية في الآستانة أن يبذل نفوذه للتأثير على الباب العالي لأجل منعه عن الانضمام إلى إنكلترا وروسيا، فقد رأيت في كتاب المرحوم سرهنك باشا «حقائق الأخبار في دول البحار» وهو في هذا ناقل عن المصادر التركية قوله: «إن الدولة العلية أخذت تسعى في استرجاع مصر، وإخراج نابوليون منها بالقوة رغما عن المساعي التي أجراها مسيو روفن
Ruffin
سفير فرنسا لدى الباب العالي لإقناع الدولة وجعلها تعتبر حركات بونابرت حبية لا عدائية؛ لأن الدولة وقتئذ عدت ذلك بمثابة إعلان حرب من فرنسا عليها وسجنت السفير روفن المذكور في «يدي قلله» مع باقي الفرنساويين المقيمين في القسطنطينية كالعادة، ثم أخذت تجهز جيوشها وأساطيلها وعقدت لذلك معاهدات دفاعية مع دولتي الروسيا وإنكلترا على يد مندوبها المسمى عصمت بك أحد الصدور العظام وعاطف أفندي رئيس الكتاب.»
ونحن لا نحتاج إلى تذكير القارئ بأن إنكلترا لما اتفقت مع الدولة العثمانية على محاربة فرنسا في مصر، إنما كانت تنفذ خطتها السياسية، وتقاليدها الأساسية، وهي أن لا توجد على ضفاف النيل دولة قوية؛ تلك السياسة التي ظهرت واضحة جلية في جميع حوادث القرن التاسع عشر الميلادي بمصر، من إخراجها الفرنسيين من هذه الديار، وبمقاومتها محمد علي باشا وإضعاف دولته وخضد شوكته، وفي مقاومة إنشاء قناة السويس، وفي مساعدتها إسماعيل باشا على الإسراف، وباتخاذ ديون مصر وسيلة للتدخل في شئون البلاد، وإلهابها شرارة الثورة العرابية توسلا لاحتلال مصر.
وأما روسيا التي لم تكن في ذلك الحين قد رسمت سياستها الآسيوية تلك السياسة التي حولت بها وجهها شطر التوسع في آسيا والتطلع إلى الهند، فإنها لعداواتها للجمهورية الفرنساوية، وخشيتها من انتشار أفكار الثورة الفرنسية في البلاد الروسية، رضيت أن تدخل في اتفاق مع عدوتها تركيا وإنكلترا لإخراج فرنسا من أرض مصر، وهكذا السياسة دائما تعادي وتصافي للمصلحة قبل كل شيء.
بدأت تركيا حربها ضد فرنسا باحتلال الجزر اليونانية الواقعة في بحر الادرياتيك وكان نابوليون، لما قهر جمهورية فينيسيا«البندقية»، احتل تلك الجزر وضمها إلى الجمهورية الفرنساوية، قال سرهنك باشا في كتابه المشار إليه «وصلت الدوننما الروسية من البحر الأسود إلى الآستانة وانضمت إليها الدوننما العثمانية، ثم أقلع الأسطولان سوية من البوغاز وقصدا بحر الادرياتيك، واستوليا على البلاد التي كانت فرنسا واضعة يدها عليها هناك بمساعدة دلنلي علي باشا، وبعد أن تم لها ذلك شكلت الدولة الروسية هناك جمهورية مكونة من عدة جزائر يونانية عرفت بجمهورية الجزائر السبع، وكفت الدولة وقتئذ أحمد باشا الجزار والي عكا أن يبعث جيشا لاحتلال العريش.»
ويرى القارئ، من الشذرات التي نقلناها واعتمدنا عليها من كتاب سرهنك باشا، التمرق بين ما يكتبه في التاريخ أهل المعرفة والاطلاع وذووالإلمام بلغة أو بلغتين من اللغات الأجنبية، وبين ما يكتبه في هذا الفن من لا يكلف نفسه مشقة الفحص والتمحيص، وينقل من الكتب العربية أغلاطها، ويقع فيما وقع عليه فيه كتابها عن جهل قهري، فالجبرتي مثلا إنما يعتمد عليه في الأمور المحلية والحوادث الوقتية اليومية، ولكن معرفة الأمور الخارجية والمسائل السياسية تحتاج للرجوع إلى الكتب التركية أو الأوروبية إجمالا، ولقد وقع سرهنك باشا في كتابته عن هذه الفترة في أغلاط جمة وبما أشرنا إليها في سياق الكلام.
ولنعد إلى تاريخ حملة نابوليون على سورية فنقول: ذكر نابوليون في مذكراته التي أملاها على الجنرال برتران في سانت هيلانة أنه لو بقي الفرنساويون في مصر ينتظرون في الغارة عليها من البحر والبر لعرضوا أنفسهم لأخطار كبيرة لا قبل لهم بها، ولذلك صمم نابوليون على مهاجمة أعدائه قبل أن يهاجموه، وبدأ في تجهيز الحملة على سورية، وكان نابوليون يؤمل أن ينضم إليه مسيحيو سوريا ودروز جبل لبنان لما يقاسيه أولئك من ظلم الجزار وقبائحه، وكان من جهة أخرى يصور لنفسه إمكان تأليف جيش كبير من أهالي سوريا ليسير بهم إما شمالا إلى الآستانة وإما جنوبا بشرق إلى بلاد فارس والأقطار الهندية ليعيد ذكرى الإسكندر المقدوني ويتوج قيصرا على كل هاتيك الممالك والأصقاع، فقد جاء في مذكرات «بوريين» أن نابوليون التفت إليه وهما سائران بالقرب من الشاطئ أمام عكا وقال:
بوريين! إذا نجحت في فتح هذه المدينة، كما أعتقد أنني سأنجح، فإنني سأجد فيها كنوز الجزار، وأجد أسلحة تكفي لثلاثمائة ألف جندي، وعند ذلك أهيج أهالي سورية الذين يبغضون الجزار لظلمه، ويسألون الله صباح مساء أن أنجح في دخول عكا، ثم أسلح منهم جيشا عرمرما وأقصد دمشق وحلب فينضم إلي القوم كمخلص لهم من المظالم، ثم أسير بجيوش لفتح الآستانة وأنشئ في الشرق إمبراطورية عظيمة الشأن تنقش اسمي على أحجار الأبدية، وربما عدت إلى باريس من طريق أدرنة وفينا بعد أن أمحي من صحيفة الوجود بيت هابسبورج.
2
إيه أيتها الأحلام! ما أحلاك ساعة التصور وأمرك عند صحو التحقيق:
تقفون والفلك المحرك دائر
وتقدرون فتضحك الأقدار!
2
عاد نابوليون من رحلته إلى السويس في السابع من شهر يناير سنة 1799، قال الجبرتي «وفي ليلة الاثنين غاية شهر رجب حضر ساري عسكر بونابرت من ناحية بلبيس إلى مصر ليلا، وأحضر معه عدة عربان وعبد الرحمن أباظة أخو سليمان أباظة شيخ العبابدة وخلافه رهائن وضربوا أبو زعبل والمنير وأخذوا مواشيهم وحضروا بهم للقاهرة، وخلفهم أصحابهم رجالا ونساء وصغارا.»
وما فعل ذلك نابوليون بعرب الشرقية وأخذ زعماءهم رهائن إلا ليأمن جانبهم في حملته على الشام، أو ليتقي شرهم في حال هجوم الجنود التركية التي كانت في ذلك الوقت قد احتلت العريش وأخذت في الزحف على مصر، وأول ما بدأ الشيخ الجبرتي ينوه بحملة الشام قوله في حوادث يوم 12 رجب «وقد ذهب عدة من العسكر الفرنساوية إلى قطية وشرعوا في بناء أبنية هناك، وأشيع سفر ساري عسكر إلى الشام والإغارة عليها.» وذكر في حوادث 19 رجب أيضا «أنه كثر الاهتمام والحركة لسفر الفرنسيس إلى جهة الشام، وأخذوا جمال عرب الترابين ليحملوا عليها الذخيرة والدقيق والعليق والبقسماط، ثم رسموا على الأهالي عدة كبيرة من الحمير والبغال فخاف الناس على حميرهم وامتنع خروج السقايين والبراسمية، وحصل للناس ضيق بسبب ذلك.»
نقلنا هذه العبارة من الجبرتي ليرى القراء أسلوب الفرنساويين في الاعتداء على المساكين، وأخذهم دوابهم التي يتعيشون منها، وكأنهم استحلوا كل ما في أيدي المصريين واعتبروه ملكا لهم يأخذونه أنى شاءوا وكيفما شاءوا.
وقبل أن يعلن نابوليون للمصريين بعزمه على غزوة الشام كتب منشورا على لسان أعضاء الديوان الخصوصي تزلف فيه إلى المصريين، وبالغ في التلطف معهم إلى حد بعيد، وهذا المنشور مكتوب بعبارة عربية مسجعة تشابه أسلوب المعلم نقولا في رسالته، ولعل نابوليون كلفه بتحرير ذلك المنشور بعد أن مدحه بقيصدته المعلومة التي جعلها مسيو مارسل المستشرق موضوع محاضرة له في دار المجمع العلمي، وقد وزع المنشور في يوم 21 من شهر شعبان سنة 1213 / 28 يناير سنة 1799 وهذا هو:
الحمد لله وحده، هذا خطاب إلى جميع أهل مصر من خاص وعام، من محفل الديوان الخصوصي من عقلاء الآنام، علماء الإسلام، والوجاقات والتجار الفخام، نعلمكم معاشر أهل مصر أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية صفح الصفح الكلي عن كامل الناس والرعية، بسبب ما حصل من أراذل أهل البلد والجعيدية، من الفتنة والشر مع العساكر الفرنساوية، وعفا عفوا شاملا، وأعاد الديوان الخصوصي في بيت قائد أغا بالأزبكية، ورتبه من أربعة عشر شخصا أصحاب معرفة واتقان، خرجوا بالقرعة من ستين رجلا كان انتخبهم بموجب فرمان ، وذلك لأجل قضايا حوائج الرعايا وحصول الراحة لأهل مصر من خاص وعام، وتنظيمها على أكمل نظام وإحكام، كل ذلك من كمال عقله وحسن تدبيره، ومزيد حبه لمصر وشفقته على سكانها من صغير القوم قبل كبيرة، رتبهم بالمنزل المذكور كل يوم لأجل خلاص المظلوم من الظالم، وقد اقتص من عسكره الذين أساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهري، وقتل اثنين بقراميدان وأنزل طائفة منهم عن مقامهم العالي إلى أدنى مقام؛ لأن الخيانة ليست من عادة الفرنسيس، خصوصا مع النساء الأرامل فإن ذلك قبيح عندهم لا يفعله الإ كل خسيس، ووضع القبض بالقلعة على رجل نصراني مكاس؛ لأنه بلغة أنه زاد المظالم في الجمرك بمصر القديمة على الناس، ففعل ذلك بحسن تدبيره ليمتنع غيره من الظلم، ومراده يرفع الظلم عن كامل الخلق، ويفتح الخليج الموصل من بحر النيل إلى بحر السويس لتخف أجرة الحمل من مصر إلى قطر الحجاز الأفخم، وتحفظ البضائع من اللصوص وقطاع الطريق، وتكثر عليهم أسباب التجارة من الهند واليمن وكل فج عميق، فاشتغلوا بأمر دينكم وأسباب دنياكم، واتركوا الفتنة والشرور، ولا تطيعوا شيطانكم وهواكم، وعليكم بالرضا بقضاء الله وحسن الاستقامة، لأجل خلاصكم من العطب والوقوع في الندامة، رزقنا الله وإياكم التوفيق والتسليم، ومن كانت له حاجة فليأت إلى الديوان بقلب سليم، إلا من كانت له دعوة شرعية، فليتوجه إلى قاضي العسكر المتولي بمصر المحمية، بخط السكرية، والسلام، على أفضل الرسل على الدوام ا.ه.
وأما حكاية اقتصاص نابوليون من جنوده الذين «أساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهري» ذلك القصاص الذي يتدلل به المصريين، ويوهم به أن الاعتداء على النساء ليس من عادة الفرنسيس؛ فهي إن الشيخ محمد الجوهري الذي سبق الكلام عنه لما رأى تزاحم الفرنساويين على السكنى بحي الأزبكية، هجر داره التي كانت له مطلة على البركة بالقرب من باب الهواء، وترك فيها بعض الخدم من رجال ونسوة فحيل لبعض الفرنسيين في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب - وذلك قبل عودة نابوليون من السويس بثلاثة أيام - التعدي على تلك الدار لأمر ما، فاستيقظ النسوة الخادمات وصرخن فضربوهن وقتلوا منهن امرأة وحاولوا هتك عرض بنت خادمة، ففرت منهن إلى مكان خفي في قعر الدار، قال الجبرتي: «وعاثوا في الدار وأخذوا متاعا ومصاغا ونزلوا فاستيقظ البواب واختفى منهم.» وقال: «فلما قدم ساري عسكر من سفره ركب مشايخ الديوان وأخبروه بأمر ذلك الاعتداء على منزل الشيخ الجوهري فاغتم لذلك وأظهر الغيظ.»
ولولا أن الشيخ الجوهري له تلك المنزلة العالية التي يركب لأجلها مشايخ الديوان، لما اغتم ولا اهتم نابوليون بأمر ذلك الاعتداء القبيح على داره وخدمه! ولو كان فيه نساؤه وبناته للحقهن ما لحق خادماتهن! ولكن ألم يكن يقع مثل ذلك مع أسر كثيرة في جميع أحياء القاهرة؟ وهل كنا ننتظر من الشيخ الجبرتي أن يدون لنا كل ما حصل من ذلك في دور محمد وإسماعيل وإبراهيم وسيد أحمد مثلا ...؟
ولولا أن نابوليون في ذلك الوقت كان قادما فيه على حرب عوان مع جميع المسلمين شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، لما تزلف إلى المصريين، ولا همة منزل الجوهري وخادماته، مهما عظم مقامه وجل شأنه؛ إذ لا نزاع في أن نابوليون كان أحوج إلى جندي فرنسي من أن يريق دمه فداء لمصرية أو لمصري! ولكنه رضي مكرها أن يقتص من اثنين أو ثلاثة من الجنود ليبرهن للمصريين على عدله وليقربهم إليه زلفى، ومع ذلك فنحن لا نعرف كيف اقتص من الجنود، وغاية ما نعرفه هو أن الجبرتي ذكر في حوادث أول شعبان العبارة الآتية: «إنهم قتلوا ثلاثة أنفار من الفرنسيس وبندقوا عليهم بالرصاص بالميدان تحت القلعة قيل: إنهم من المتسلقين على الدور»! ومن يدرينا، أو يدري الجبرتي، أن أولئك الثلاثة ليسوا من المجرمين الذين ارتبكوا إجراما فاحشة ضد القواد أو الضباط أو الجيش مثلا ...؟
ولنعد إلى الحملة الشامية فنقول إن نابوليون شرع في الاستعدادات لتلك الحملة، وبدأ في تسييرها من القاهرة في الأيام الأولى من شهر رمضان من تلك السنة الموافق شهر فبراير سنة 1799، ولم يجد مناصا أمام ما ظهر للناس من حركة الجنود، وما أذيع في طول البلاد وعرضها من قرب هجوم الأتراك على مصر، أن يعلن للمصريين بصفة رسمية عزمه على غزو الشام، فجمع لديه أعضاء الديوان، وقال لهم كلاما طويلا خلاصته أنه قد قضى على المماليك في الوجهين القبلي والبحري، من أرض مصر، وأنه قد عزم على أن يذهب ليبيد البقية الباقية منهم؛ أي: أولئك الذين فروا مع إبراهيم بك إلى سوريا، وصاروا يهددون الأقطار المصرية، ويبعثون بالمكاتبات والمنشورات المهيجة للأمة، ليقضي عليهم، ويريح العباد من شرورهم، وألقى على المشايخ كلاما ثقيلا وهددهم وآلهم بالفناء والعدم إذا حصل في البلاد أثناء غيبته شغب أو فتنة، قال الجبرتي: «وكتبوا أوراقا مطبوعة في هذا المعنى وألصقوها بالطرق.» ولا ندري لماذا لم ينشر الجبرتي نص هذا المنشور كأثر من الآثار التاريخية لتقف منها الأجيال الخالفة على تمويهات السياسة في ذلك الزمن، ولهذا يحق لنا أن نذكر المعلم نقولا الترك بالخير لوضعه نص ذلك المنشور في رسالته، وقبل أن نأتي على نصه نقول: إن نابوليون قد تحاشى، سواء في خطابه الذي ألقاه على أعضاء الديوان، وسواء في هذا المنشور، ذكر أنه يحارب الدولة العثمانية أو الأتراك، وقصده بذلك ظاهر؛ إذ إنه لا يزال يوهم المصريين بأن الدولة العلية غير غاضبة على احتلاله مصر، وأنه إنما جاء لمحق سلطة المماليك الظالمين.
إلا أنه مع هذا الحرص مهد أذهان القوم لقبول فكرة الانفصال عن تركيا بإعطاء نفسه لقب «السلطان أمير الجيوش» ولعل الجبرتي لم ينشر ذلك المنشور بنوع خاص لوجود ذلك اللقب فيه، نعم إن كتاب الفرنسيين قالوا وكرروا وأكدوا أن المصريون كانوا يلقبون بونابرت «بالسلطان الكبير» من أول يوم وطئت فيه قدماه أرض القاهرة، ولكنا لا نزال نؤكد أن ذلك لم يكن إلا من أفواه المداحين والمنافقين، سواء من بعض المسلمين أو النصارى السوريين أو بعض الأقباط، والجبرتي لم يذكر هذا اللقب قط، وضن أن يكون في مصر لقب سلطان مع وجود سلطان آل عثمان خليفة المسلمين، وكذلك لم يرد في كل منشورات نابوليون، سواء المقولة عن لسانه، وسواء المنسوبة إلى المشايخ وأعضاء الديوان، ذكر لذلك اللقب إلا في هذا المنشور الذي رفض الجبرتي تسطيره ودونه المعلم نقولا الترك، ولم يكن لنابوليون مصلحة في انتحال هذا اللقب لنفسه؛ إذ كانت تقضي عليه السياسة والحكمة بعكس ذلك، فهو ابن الثورة الفرنساوية التي ثلت عروش الملوك، والتي تنادي بالحرية والإخاء والمساواة، ولا يخاطب الوزير أو الحقير إلا بلفظ ستواين «مواطن» وهذا نص المنشور نقلا عن رسالة المعلم نقولا ننقله بنصه وقصه:
من محفل الديوان الخصوصي إلى جميع الأقاليم المصرية نخبركم أن أمس تاريخه خامس شهر رمضان المعظم، توجه حضرة الدستور المكرم سر عسكر الكبير بونابرته، أمير الجيوش الفرنساوية مسافرا يغيب ثلاثين يوما لأجل محاربة إبراهيم بك الكبير وبقية المماليك المصرية حتى تحصل الراحة الكلية للأقاليم المصرية، من هؤلاء الأعداء الظالمين، الذين لا راحة فيهم، ولا رحمة في دولتهم على أحد من رعيتهم، وقد وصلت الآن مقدمة الجيوش الفرنساوية إلى العريش، وعن قريب يأتيكم خبر «قطيعة» إبراهيم بك ومن معه من المماليك نظير ما وقع في «قطيعة» أخيه مراد بك ومن معه في إقليم الصعيد، فيقطع دابرهم من بر الشام كما انقطع دابرهم من إقليم الصعيد بالتمام، ويبطل القيل والقال، وتذهب الكاذبة التي تسمعونه من أوباش الرجال، ونخبركم أن حضرة الساري عسكر المشار إليه، يتجدد له كل يوم نية الخير والرحمة، ويحدث في تصميم الشفقة والرأفة، هذه هي نيته لكم في كل الأقطار المصرية، ويحصل لهم النجاح والصلاح، ويكمل في سائر أقطارها السرور والإصلاح، وتفرح أقاليمها على يد سلطانها بونابرته بمشيئة الله الذي مكنه فيها، ونصره على من ظلم فيها من المماليك المفسدين، ولا يتم خلاصها بالكلية وتتطهر من دولة المماليك الردية، إلا ببذل همته ورأيه السديد، في تكميل نظامها بخضوعهم لسيوفه الباترة ، وتكمل زروعها الفاخرة، وأنواع تجارتها الباهرة، ويحدث فيها برأيه وحسن تدبيره التحف من أنواع الحرف والصنايع النفيسة، ويجدد فيها ما اندثر من صنائع الحكماء والأولين، ويرتاح في دولته كل الفقراء والمساكين فالتزموا يا أهل سكان الأرياف والفلاحين بحسن المعاملة والأدب، واجتنبوا في غيبته أنواع الكذب والقبائح حتى يراكم حين يعود بعد الشهر قد أحسنتم المعاملة، ومشيتم على الاستقامة، وينشرح صدره منكم، ويرضى عليكم، وإن حصل منكم في غيابه أدنى خلل ومخالفة حل بكم الوبال والدمار، ولا ينفعكم الندم، ولا يقر لكم قرار! واعلموا أن ذهاب دولة المماليك بقضاء الله وقدرته، ونصرة سلطانكم أمير الجيوش عليهم بتقدير الله وأمره، والعاقل يمتثل إلى أحكام الله، ويرضى بمن ولاه والله يؤتي ملكه من يشاء والسلام عليكم ورحمة الله.
3
واتبع المعلم نقولا هذا المنشور بإمضاءتين فقط وهما على الشكل الآتي: «الداعي لكم الفقير عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان الخصوصي عفا الله عنه، والداعي لكم الفقير السيد محمد المهدي الحفناوي كاتم السري؛ وباشكاتب الديوان عفا الله عنه.»
وقد كان هذان الشيخان يمضيان دائما على منشورات الفرنساويين وبلاغاتهم عن الحرب في الشام، وكان قد اختار نابوليون جماعة من العلماء لمرافقته لتلك الأقطار ليوهم العالم الإسلامي بأن رجال الدين يسيرون في ركابه ويشهدون بعدله وإحسانه، ولا شك في أن اختيار هذين الشيخين لإمضاء المنشورات راجع في الأكثر إلى الصفة التي لكل واحد منهما في الديوان الخصوصي؛ لأن الشيخ عبد الله الشرقاوي كان رئيس الديوان والشيخ محمد المهدي كاتب سره، ولكن وجودهما في هذه المنزلة له أيضا سبب آخر، وهو أنهما كانا من صنف المشايخ الذين نعرفهم ويعرفهم كل من له خبرة بأحوال هذه الديار وطبقات أهلها، كانا من ذلك النوع الذي كان أولى به الزهد في الدنيا وزخارفها، من أن يكون شرها في حب المال والتعلق بمظاهر الحياة الفانية.
كان الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشافعي من بلدة الدويلة بمديرية الشرقية، لذلك سمي «الشرقاوي» وكان في مبدأ أمره من الفقراء المعوزين يعيش من فضلات الناس الذين يلتصق بهم في أيام طلبه للعلم، ثم أخذ في التردد على الشيخ محمود الكردي من مشايخ الطرق الصوفية، فلما توفي هذا أخذ في إلقاء الدروس بالأزهر، وكان يجمع الطلبة والمجاورين للذكر في حلقات في دور الناس ليأخذوا بذلك الدراهم، وليأكلوا من قصع الثريد، ثم ارتقى به الحال حتى عد في طبقة العلماء، وتوصل إلى مشيخة الجامع الأزهر، قال الجبرتي الذي لخصنا منه ما تقدم عن الشيخ الشرقاوي في وفيات سنة 1227 «أي: بعد المدة التي نحن بصددها بأربعة عشر عاما»: «فلما حضرت الفرنساوية جعلوا المترجم رئيس الديوان، فانتفع في أيامهم بما يتحصل إليه من المعلوم والمرتب له عن ذلك، وقضايا وشفاعات ببعض الأجناد المصرية، وجعالات واستيلاء على تركات وودائع خرجت أربابها في زمن الفرنسيس وهلكوا، واتسعت عليه الدنيا وزاد طمعه فيها وكبر عمامته، وزوجته بنت الزعفراني هي التي تدبر أمره، وتحرر كل ما يأتيه ويجمعه، ولا يروح ولا يغدو إلا عن مشورتها، واشترت العقارات والحمامات والحوانيت.» ا.ه.
وكان هذا الشيخ الشرقاوي أول من استقبل الأتراك وألف كتيبا بناء على طلبهم سماه «تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين» وقد سبق لنا نقل شذرة من هذه الرسالة، وهي الكلمة الوحيدة التي توجد في ذلك الكتيب، وجاء في مقدمته «إنه لما حل ركاب الصدر الأعظم، والوزير الأفخم، والدستور الأكرم، حضرة مولانا الوزير يوسف باشا، بلغة الله من المرادات ما شاء، بمدينة بلبيس في شهر رمضان سنة 1214 بعد حصول الصلح بينه وبين طائفة الفرنساوية في قلعة العريش، وذهبت مع بعض علماء مصر لملاقاته، طلب مني بعض الإخوان من أتباع ذلك الصدر الأعظم أن أجمع كتابا متضمنا لواقعة الحال المذكور». «فأين هذه الألقاب للوزير الأعظم، والدستور الأكرم من «سلطاننا بونابرته أمير الجيوش ذي العدل والإحسان والإصلاح والخير للرعية والملة المحمدية»؟
وكان ينتظر من أكبر علماء زمانه أن يكتب للأعقاب الخالفة تاريخا ذا قيمة عن الحملة الفرنساوية في مصر، كما طلب منه ذلك من طلب أتباع الصدر الأعظم، ولكن رسالته المذكورة ليس فيها عن الحملة الفرنساوية إلا نحو ثلاث صفحات لا قيمة لها، قال الجبرتي في ترجمة الشيخ الشرقاوي: «وللمترجم طبقات جمعها في تراجم الفقهاء الشافعية المتقدمين والمتأخرين من أهل عصره، ومن قبلهم من أهل القرن الثاني عشر نقل تراجم المتقدمين منهم من طبقات السبكي والإسنوي، وأما المتأخرين فنقلهم من تاريخنا هذا بالحرف الواحد.»
وهذه العبارة تدلنا على أن بعض أجزاء تاريخ الجبرتي هذا كان مكتوبا ومتداولا بين الأيدي، والغالب على الظن أن بعض أجزائه الخطية كانت توضع في مثل مكاتب الأزهر، ثم قال الجبرتي: «وعمل تاريخا مختصرا في أربعة كرارريس وأهداه للوزير يوسف باشا عدد فيه ملوك مصر، وذكر في آخره خروج الفرنسيس ودخول العثمانية في نحو ورقتين، وهو في غاية البرود وغلط فيها غلطات»! وكانت وفاة الشيخ الشرقاوي في أول حكم محمد علي باشا.
وأما الشيخ محمد المهدي فتوفي بعد الشرقاوي بثلاث سنوات؛ أي: سنة 1230 هجرية، قال عنه الجبرتي: إن والده كان من الأقباط وأسلم الشيخ وهو صغير دون البلوغ على يد الشيخ الحفني الذي احتضنه ورباه، ثم دخل الأزهر وقصد للتدريس في سنة 1190 وتقرب من إسماعيل بك كتخدا وكيل حسن باشا الجزايرلي، وصاهر الشيخ محمد الحريري الحنفي وأقبلت عليه الدنيا، وزادت ثروته ورغبته وسعيه في أسباب تحصيل الدنيا، واشتغل بالشركات والتجارة في الكتان والقطن والأرز وغير ذلك، والتزم بعدة حصص في البحيرة والمنوفية والجيزة والغربية، وابتنى دارا بالأزبكية ناحية الرويعي، ولما حضرت الفرنساوية وخافهم الناس لم ينقبض الشيخ المهدي عن المداخلة فيهم، بل اجتمع بهم وواصلهم وانضم إليهم، وسايرهم ولاطفهم وجاراهم في أغراضهم، وأحبوه وأكرموه وقبلوا شفاعاته ووثقوا بقوله، فكان هو المشار إليه في دولتهم مدة إقامتهم بمصر، والواسطة بينهم وبين الناس في قضاياهم وحوائجهم، وأوراقه وأوامره نافذة عند ولاة أعمالهم، وراج أمره في أيامهم وزاد إيراده وجمعه، وأقاموه وكيلا عنهم في أشياء كثيرة وبلاد وقرى يجيء خراجها إليه، ويأتيه الفلاحون بالهدايا فيفعل بهم ما كان يفعله أرباب الالتزامات من الحبس والضرب وأخذ المصالح، وصار له أعوان وخدم وتبع من وجهاء الناس، ثم قال الشيخ الجبرتي الذي لخصنا ما تقدم عنه ما نصه: «وبالجملة فكان لوجوده وتصدره في تلك الأيام النفع العام، سد بعقله ثقوبا واسعة وخروقا، وداوى برأيه جروحا وفتوقا، لا سيما أيام اليهازع، والخصومات والتنازع ، وما يكدر الفرنساوية من مخارق الرعية، فيتلاقاه بمراهم كلماته، ويسكن حدتهم بملاطفاته، ولما مضت أيامهم وتنكست أعلامهم، وارتحلوا عن الأقطار المصرية، ووردت الدولة العثمانية، كان المترجم أعظم المتصدرين في مقابلاتهم، وأوجه الوجهاء في مخاطبتهم ومكالمتهم، وبهرهم بتحيله واحتياله، واسترهبهم بسحره وخياله» ... وبعد كلام طويل عنه وعن أولاده، قال: إنه اشترى دارا كبيرة بناحية الموسكي «وهي المعروفة الآن بدار الشيخ المهدي» وكانت لبعض عتقى بقايا الأمراء الأقدمين، وتنتهي حدودها من الموسكي إلى حارة المناصرة أو إلى كوم الشيخ سلامة، ولم يدفع من ثمنها إلا العربون وكتب الحجة وسكنها، وماطل في دفع ثمنها كعادته في دفع الحقوق وغاب خمس سنوات متنقلا في البلاد حتى مات في غيبته بعض أصحاب الدار التي اشتراها منهم، واستمر الحال بالشيخ المهدي حتى زمن محمد علي باشا، فكان ممن أوقع النفرة بين الباشا وبين السيد عمر مكرم، ونال بذلك أغراضه، ومنح النظر على أوقاف كان السيد عمر يحصل منها على أموال جمة، وأكثر المهدي من التردد على محمد علي باشا وأكابر دولته مثلما كان يفعل في زمن الفرنساويين وعين شيخا للجامع الأزهر أياما قلائل، وكان كلما وجد امرأة من نساء البكوات المماليك ذات اليسار بغير زوج يقترن بها ويسقط مالها وتوالها في بئر عميق «هكذا تعبير الشيخ الجبرتي»، وترك المال الكثير والعقارات الواسعة والأطيان الشاسعة لأولاده وأولاد أولاده المعروفين الآن في القاهرة.
هذه خلاصة موجزة اقتطفناها من عدة صحائف من وفيات الجبرتي الطويلة لكي يكون القارئ لنفسه صورة عن زعماء العلماء في ذلك العصر، وما ذكرناها إلا لاختصاص الشيخين الشرقاوي والمهدي بإمضاء منشورات نابوليون وبلاغاته وتمويهاته على المصريين خاصة، والمسلمين في جميع بقاع الأرض عامة، حتى إذا وضعت تراجم أولئك العلماء بجانب ما في تلك المنشورات من العبارات، وجد للقارئ معيار يزن به الحقائق التاريخية ولهذا يهتم المؤرخون المحققون بالبحث عن صفات وأخلاق وظروف الأشخاص الذين يمثلون دورا من الأدوار في حوادث عصر من العصور.
4
ليس من غايتنا أن نتبع الحملة الفرنساوية في غارتها على الديار السورية ؛ لأن ذلك يعتبر صفحة من تاريخ تلك البلاد، ونحن إنما نكتب تاريخ مصر في هذه الفترة ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نلم إلماما عاما بحركات تلك الحملة في سوريا ونتائجها التي لها بلا شك ارتباط بتاريخ مصر، خصوصا إذا لاحظنا في ذلك تاريخ محمد علي باشا وحملته على سورية واستيلاء الجيوش المصرية على الجزء الأكبر من سورية والأناضول، وانتصارات جنود مصرية نجحت حيث فشلت الجنود الفرنساوية تحت قيادة أعظم قائد عسكري أوجده الزمان؛ فنقول: إن الحملة الفرنساوية تألقت من نحو ثلاثة عشر ألف جندي تحت قيادة الجنرالات كليبر ورينيه ولأن وبون ومورات ودومرتين وكفريللي، وسارت هذه الحملة من جهات مختلفة من دمياط والصالحية وبلبيس والقاهرة، وكان خروج نابوليون من العاصمة في يوم الأحد 5 رمضان سنة 1213 / 10 فبراير 1799، وأخذ معه من المشايخ سليمان الفيومي ومصطفى الصاوي وعبد الرحمن العريشي ومحمد الدواخلي، واستصحب معه أيضا قاضي عسكر إبراهيم أدهم أفندي «يجمقشي زاده» ومصطفى بك «الذي كان كتخدا الوالي والذي ولاه أمير الحج» واستصحب أيضا جماعة من التجار والوجاقلية والأقباط والشوام.
وكان غرض نابوليون من استصحاب أولئك المشايخ والقاضي وأمير الحج التأثير بهم على المسلمين في سوريا لكي يفهمهم أنه على اتفاق تام مع المسلمين في مصر، وأنة إنما قدم سورية ليخلصها من مظالم الجزار، ولكنه لم يوفق في النهاية إلى وجود أولئك المعممين معه؛ لأنهم تخلفوا عنه في الطريق، ولهم حكاية طويلة كادت تحدث منها ثورة كبيرة سنأتي عليها في مكانها.
وقبل أن نتبع نابوليون في غزوته الديار الشامية وتعدد انتصاراته المتوالية - إذ لم يمض على خروجه من القاهرة أكثر من شهر من الزمان حتى كان قد استولى على العريش وغزة وخان يونس والرملة ويافا وحيفا، وابتدأ في حصار عكا - نقول قبل هذا نسأل: ماذا أعدت الدولة العثمانية لذلك المغير على بلادها، بعد أن حالفت إنكلترا واتفقت مع الروسيا على محاربته وإخراجه من أرض مصر منذ 2 سبتمبر سنة 1798؛ أي: قبل تحرك نابوليون للشام بنحو أربعة أشهر ونصف؟
كل ما نعلمه هو أن الدولة أعدت جيشا في جزيرة رودس لإرساله لمصر، وعهدت إلى أحمد باشا الجزار والي عكا بإرسال الجيوش إلى الديار المصرية عن طريق الصحراء، ولكن الجزار كان رجلا داهية لا يخفى عليه أن تجريد ولايته، التي استقل بها عن الدولة من جيوشه، يعرضه للوقوع في شراك الدولة، فلذلك لم يحفل بفرمانات الدولة وأوامرها كما يؤخذ ذلك من خطاب بعث به يوسف باشا ضياء حين عين لقيادة الجيش الزاحف على مصر، وهذا الخطاب، موجود بنصه في الجزء الثاني من «تاريخ الأمير حميدر أحمد الشهابي» واكتفى الجزار بإرسال أربعة آلاف، خليطا من المماليك المصرية والمغاربة والأرنئوط إلى قلعة العريش لتكون هذه القوة على مقربة منه، حتى إذا رأى من العثمانيين عين الغدر، استدعى تلك القوة إليه ثانية، وكانت هذه السياسة الخرقاء من أسباب ضعف الدولة في ذلك الحين وبعده إلى آخر عهد الإمبراطورية العثمانية.
ولنعد إلى نابوليون فنقول: إن فرقة الجنرال «رينيه» وصلت إلى العريش في 20 فبراير، وحصلت بينه وبين القوة المرابطة فيها بعض وقائع حتى اضطرت تلك القوة إلى الالتجاء إلى القلعة، ولم يكن فيها من المدافع غير ثلاث قطع، فكيف تفعل أمام تلك الحملة المنظمة والمدافع الكثيرة والجنود العديدة؟ وقدم عبد الله آغا
3
من قبل الجزار من جهة غزة بقوة تزيد عن ستة آلاف مقاتل فتلقاها الجنرالان كليبر ورينيه وهجمت عليها الجنود الفرنسية ليلا فبددت شملها قبل أن تتمكن من الوصول إلى نجدة العريش، وامتنعت القوة المرابطة في قلعة العريش وأبت التسليم إلى النهاية إلا على شريطة أن يسمح لها بالخروج بكامل سلاحها، ولم يرد نابوليون أن يفقد في هجومه على تلك القلعة نحو خمسمائة جندي من رجاله، وهو في أشد الحاجة إليهم بعد أن دام الحصار ثمانية أيام، ولذلك قبل شروط الحامية فسلمت وخرجت بسلاحها، بعد أن عاهد رجالها نابوليون وأقسموا بالشرف العسكري أن لا يرفعوا في وجهه سلاحا، ما دام يحارب سورية «وعلى رواية أخرى لمدة عام» ولكن هذه القوة بعد أن خرجت قاصدة دمشق تحولت ثانية إلى يافا وانضمت إلى المحاربين، فكان عملها هذا مسوغا لنابوليون أمام نفسه وضميره لقتل من قتل في تلك المجزرة البشرية التي بقيت وصمة في تاريخه على الرغم من الأسباب الوجيهة التي دافع بها عن نفسه وعمله في مذكراتاه في سنت هيلانة.
ولما استولى الفرنساويون على العريش أرسلوا إلى القاهرة بخبر انتصارهم فأقيمت الزينات وأطلقت المدافع، قال الجبرتي في حوادث 25 رمضان: «وبعد الظهر عملوا الشنك الموعود به وضربوا عدة مدافع بالقلعة والأزبكية، وأظهر النصارى الفرح والسرور بالأسواق والدور، وأولموا في بيوتهم الولائم، وغيروا الملابس والعمائم، وتجمعوا للهو والخلاعة، وزادوا في القبح والشناعة.»
ولما استولى نابوليون على العريش أصدر منشورا لأهالي سوريا كما فعل في الإسكندرية لأهالي مصر، وقد رأينا من باب المقارنة والفائدة التاريخية أن نأتي على بعض شذرات منه فيما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم ... وبه نستعين
من طرف بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية إلى كافة المفتيين والعلماء وكافة أهالي نواحي غزة والرملة ويافا حفظهم الله تعالى! بعد السلام نعرفكم أننا حررنا لكم هذه السطور نعلمكم أننا حضرنا إلى هذا الطرف بقصد طرد المماليك وعسكر الجزار عنكم، وإلى أي سبب حضور عسكر الجزار وتعديه على بلاد يافا وغزة التي ما كانت من حكمه، وإلى أي سبب أرسل عساكره إلى قلعة العريش، بذلك هجم على أرض مصر فلا شك كان مراده إجراء الحروب معنا ونحن حضرنا لنحاربه.
ومن هذا يرى القارئ أن نابوليون مع أنه يحارب الدولة العثمانية في بلادها، ومع أنها أعلنت الحرب عليه وعلى فرنسا فإنه لا يزال متمسكا بأنه لا يحارب تركيا، ولا يقصد التعدي إلا على المماليك وأحمد باشا الجزار الذي بادأه العدوان! ثم جاء في هذا المنشور:
وقصدنا أن القضاة يلازمون وظائفهم وأن دين الإسلام لا يزال معتزا ومعتبرا والجوامع عامرة بالصلاة وزيارة المؤمنين ... والذي يتظاهر لنا بالحب يفلح والذي يتظاهر بالغدر يهلك ... إلخ.
وليلاحظ أن أسلوب هذا المنشور الموجود نصه في الجبرتي يخالف لهجة المنشورات الأخيرة التي طبعت في القاهرة بعبارة مسجعة فصيحة نوعا ما، ويظهر أن هذا التركيب الركيك من إنشاء «فنتور» المستشرق الذي صحب نابوليون في حملة سورية ومات أمام عكا بالطاعون، أو من إنشاء بعض كتبة الدواوين الذين أخذهم معه، وكان من الذين سلموا في العريش عدد كبير من المماليك المصريين الذين تبعوا إبراهيم بك، وأولئك اختاروا أن يعودوا لمصر، فأرسلهم نابوليون مع بعض جنده إلى مصر وانضم ثلاثمائة من المغاربة إلى الجيش الفرنسي فسلحوا، وانقلبوا من محاربة الفرنساويين، إلى محاربة الذين كانوا يحاربون معهم غيرة على الدين والملة!!
ولما احتل الفرنساويون العريش كلفوا مشايخ الديوان بنشر بلاغ وضعوه لهم وأمضاه السيد البكر بصفته نقيب الأشراف، والشيخ الشرقاوي بصفته رئيس الديوان، والشيخ المهدي بصفته كاتبه، وعجيب أن الجبرتي لم يكتب نص هذا المنشور أو البلاغ، ولكن المعلم نقولا الترك نشره في رسالته، فرأينا أن نأتي على نصه لعدم وجوده في الكتب المتداولة، ولأنه يشرح كيفية الاستيلاء على العريش، وهذا نصه:
4
لا إله إلا الله الحق المبين، ومحمد رسول الله الصادق الوعد واليقين، نعرف آل مصر وسائر الأقاليم أن توجهت الفرنساوية إلى الديار الشامية وحاصروا قلعة العريش من عشرة رمضان إلى سبعة عشر منه ووقعت مقاتلة عظيمة خارج القلعة، وكان في القلعة نحو ألف وخمسمائة نفر غير من قتل خارجها، فلما طال عليهم الحصار، وتهدمت أسوار القلعة من ضرب الفرنساوية بالمدافع عليها وتيقنوا بالهلاك، وهكذا أصحاب المروءات وهؤلاء اعتقهم وأطلق في سبيلهم، وبعض الكشاف والمماليك الذين كانوا في القلعة نحو ستة وثلاثين جنديا طلبوا من حضرة السر عسكر أن ينعم عليهم برجوعهم إلى مصر إلى عيالهم، وبيوتهم فأحسن إليهم وأرسلهم إلينا وإلى وكيله، ودخلوا عليه يوم الأحد في 26 رمضان معزوزين مكرومين،
5
وأرسل السر عسكر أن يؤتى بإكرامهم «لعله يوالي إكرامهم» إن داموا على عهدهم الذي حلفوا به في العريش ، وإن خانوا وهانوا فيحصل لهم من يده الانتقام! وأمر في الفرمان أن الجنرال دوكا يأمر التجار بالسفر في القوافل إلى بر الشام لينتفعوا بالمكاسب أصحاب التجارة، وينتفعوا سكان بر الشام ببضائع مصر حسب العادة السابقة ليحصل الأمان بحلوله في تلك الأراضي، وكتب حضرة وزيره الجنرال إسكندر برتبة فرمانا يخبرنا ويخبر حضرة الوكيل بالحالة التي وقعت إلى عساكر إبراهيم بك وبعض من عساكر الجزار والمساعدين له، وأن الفرنساوية وجدوا في قلعة العريش مخازن أرز وبقسماط وشعير وثلاثمائة رأس من الخيل الجياد، وحمير كثيرة وجمال غزيرة اكتسبته جميعه الفرنساوية، ومع ذلك عندهم الصفح عند قدرتهم عليه، وهذا من صفات أصحاب المروءة من الرجال الأبطال، فيا إخواننا لا تعارضوا الملك المتعال، واتركوا أنفسكم من القيل والقال، واشتغلوا في إصلاح دينكم والسعي في معاش دنياكم وارجعوا إلى الله الذي خلقكم وسواكم والسلام عليكم. ا.ه.
وبعد احتلال العريش تقدمت القوة الفرنساوية نحو خان يونس ثم إلى غزة، ودارت في الجهة الواقعة بين هاتين البلدتين موقعة كبيرة بين الفرنساويين والجنود التي يقودها عبد الله باشا انكسر فيها هذا الأخير، وانسحب بمن بقي معه من القوة إلى يافا وسلمت غزة، وتقدم الجيش الفرنساوي في سيره فاحتل الرملة وسار منها قاصدا يافا، وهو أول ميناء بحري في الديار السورية من جهة القطر المصري، وكان نابوليون قد أصدر أمره للكابتين «بريه» بأن يحمل في بعض سفن بقيت للفرنساويين، المدافع الكبيرة، والآلات العديدة التي كان يريد استعمالها في حصار عكا، ولذلك أسرع في الاستيلاء على يافا ليتلقى تلك الآلات، ويسير بها إلى مكانها غير حاسب للأسطول الإنكليزي الذي يقوده السر سدني سميث حسابا.
وكانت يافا محصنة تحصينا حسنا، وفيها قوة كبيرة من عساكر الجزار والمماليك وجميع من بقي من القوة التي يقودها عبد الله باشا، وفيها عدد كبير من المدافع، وتقدر القوة التي كانت في يافا بنحو اثني عشر ألفا، ولم تكن القوة الفرنسية كلها أكثر من ذلك، وقد حاول نابوليون أن يؤثر على تلك القوة ويحملها على التسليم فبعث بضابط ودليل من عنده يحمل راية السلام بقصد المفاوضة، فكان جوابها على ذلك، قتل الضابط ومن معه ووضعت رأساهما على المزاريق فوق الأسوار، وطرحت جثتاهما وراءها، فاغتاظ الفرنساويون وسلطوا على المدينة المدافع الكبيرة وهجموا على الأسوار حتى سقطت المدينة، واستباح الجند الفرنساوي حماها يقتل وينهب ويسلب ويهتك الأعراض ويفعل ما يشاء.
وقد نشر الجبرتي صورة الخطاب الذي بعث به نابوليون لحاكم يافا وصورة البلاغ الذي نشر في مصر بالاستيلاء عليها، وكان السيد عمر مكرم نقيب الأشراف الذي فر مع إبراهيم بك، وكان له شأن عظيم في تاريخ مصر في أيام محمد علي باشا، ممن حوصروا في يافا فبعد سقوطها ذهب ومن معه من المصريين إلى نابوليون فأكرمهم، وأرسلهم إلى مصر في السفن إلى دمياط.
وقد وردت الفقرة الآتية في البلاغ الذي نشر في مصر على لسان المشايخ نأتي عليها لأهميتها في البحث التالي قال: «وفي يوم الجمعة غرة شوال وقع الجميل من حضرة ساري عسكر الكبير، ورق قلبه على أهل مصر من غني وفقير الذين كانوا في يافا وأعطاهم الأمان ورجعوا إلى بلدهم مكرمين، وكذلك أمر أهل دمشق وحلب برجوعهم إلى أوطانهم سالمين لأجل أن يعرفوا مقدار شفقته، ومزيد رأفته ورحمته، يعفو عند المقدرة، ويصفح وقت المعذرة، مع تمكينه ومزيد إتقانه وتحصينه. وفي هذا الوقت قتل أكثر من أربعة آلاف من عسكر الجزار بالسيف والبندق لما وقع منهم من الانحراف ... إلخ.» وعلق الجبرتي رحمه الله على هذا المنشور الطويل بقوله: «فلما تحقق الناس هذا الخبر تعجبوا، وكانوا يظنون استحالة ذلك خصوصا في المدة القليلة، ولكن المقضي كائن.»
ولم يعلم الجبرتي، ولم يفهم الشيخ المهدي الذي حرر ذلك البلاغ المسجع، الغرض من العبارة التي روى فيها المنشور قتل أكثر من أربعة آلاف من عسكر الجزار بالسيف وبالبندق، وإلا لو علم الكاتب أو الناقل كيف كان ذلك أو على أية حالة، ولأي سبب قتلوا، لارتجف القلم في يد الأول ولاستعاذ بالله، ولما تركها الثاني تمر دون أن يعلق عليها بكلمة استهجان واستنكار! ويسأل كيف يتفق ذلك العمل الوحشي مع وصفه نابوليون ومقدار شفقته ومزيد رأفته ورحمته!!
5
ونحن وإن كنا وعدنا أن لا نطيل الكلام في أخبار الحملة السورية لاعتبارها صفحة من تاريخ قطر غير قطرنا، إلا أنه لا يمكن المرور بها دون الوقوف أمام ذلك الحادث العظيم التي امتلأت به صفحات الكتب الأوروبية، وكان موضوع مناقشة ومناظرة، واضطر نابوليون أن يبرر عمله فيه في الأيام الأخيرة من حياته.
وحكاية هذه المسألة أن نابوليون لما فتح يافا أباح لجنده تلك المدينة مدة يومين كاملين يفعلون بها وبأهلها ما يشاءون، وما أدرى لماذا فعل ذلك نابوليون، وهو يريد استجلاب الخواطر واكتساب ميول أهل الشام من مسلمين ونصارى؟ ولعله قد غاظه ما فعل حاكمها برسوله، أو لعله خسر في الواقعة بعضا من جند جيشه، وهو حريص عليه لقلة عدده، أو لعله أراد أن يعوض على الجنود ما قاسوه من المشقة في قطع فيافي الصحراء والاحتراق بشواظها، لكيلا يدب دبيب التذمر والشكوى من جراء ما يلاقونه من النصب والعناء، ولقد فعل جنده في تلك البلدة البائسة من الشرور والفضائح ما تقشعر له الأبدان حتى إن نابوليون نفسه كتب في تقريره الذي بعث به لحكومة الديركتوار: «إنه لم تتصور له فظائع الحرب مثلما ظهرت له في يافا»! وقد كتب الشيخ الدحداح، فيما عربه عن تاريخ فرنسا، وهو من المحبين للفرنساويين المادحين لهم فقال: «فإن شدة الحر وعتاد المحصورين أضرا بالفرنسيين وحملاهما أثقالا شديدة؛ ولذلك لما دخلوا المدينة حدث فيها ما تقشعر الأبدان من ذكره، فإن القتال الذي جرى في أسواق يافا كان قتالا لا يسوغ أن نسميه بشريا، فإن الشياطين لا تقدر أن تقوم بشر أعظم منه.»
فلما رأى نابوليون الشرور التي تجري في البلدة وخزه ضميره، وأرسل ضابطين من ضباطه لمنع الجنود عما يفعلون، فوجدوا أن طائفة كبيرة من جند الجزار ومن غيرهم قد تحصنوا في بعض المنازل والخانات وصاروا يدافعون عن أنفسهم دفاع المستميت، فطلب إليهم أولئك الضباط الفرنسيون أن يسلموا فأبوا إلا أن يؤمنوا على حياتهم، فأمنوا فسلموا سلاحهم وقبض عليهم كأسرى، وهنا اختلفت الروايات في عدد أولئك الأسرى، ففي رواية أنهم كانوا أربعة آلاف، وفي رواية أخرى أنهم كانوا ألفين فقط، والرواية الأولى أقرب إلى الصحيح بدليل ذكر هذا العدد في بلاغ نابوليون للمصريين.
6
وإلى القارئ حكاية ما جرى نقلا عن مذكرات بوريين: قال:
كنت أتمشى مع الجنرال بونابرته أمام خيمته، وإذ به قد أبصر ذلك الجمع المحتشد من الأسرى يسوقه الجند، فقبل أن يقع نظره على الضابطين اللذين بعث بهما أركان حربه التفت إلي بصوت يتهدج من الحزن قائلا: «ماذا يريدون مني أن أفعل بهؤلاء الرجال؟ هل عندي من الزاد ما يكفيهم؟ ألدي من السفن ما يلزم لنقلهم إلى مصر أو إلى فرنسا؟ لماذا أوقعوني في هذا المشكل.» وبعد أن أصاح بونابرته سمعا لما قاله الضابطان وهما بوهارنيه وكروازيه وبخهما توبيخا شديدا على سلوكهما، ولكن لا ينفع اللوم إذا لواقع أنه أصبح أمامنا أربعة آلاف أسير ويجب البت في أمرهم، ودافع الضابطان عن نفسهما بأنه أمرهما أن يوقفا تيار القتال، فكان جواب بونابرت «إنما أردت أن تمنعوا التعدي على النسوة والأطفال والعجزة والمستسلمين من الأهالي، ولكن لم أرد بذلك الجنود المسلحة، فلقد كان الأولى بكما أن تقتلاهم بدلا من أن تأتياني بهذا القدر من الأسرى المنكودي الحظ! فماذا تريدون أن أصنع بهم؟
قال كتاب الفرنساويين: إنه عقد مجلس حربي للبت في أمر أولئك الأسرى، وانقض على أنه لم يقرر رأيا حاسما، وانعقد مجلس آخر ولم يوفق لقرار، وطال الجدال والأخذ والرد، وانتهى الأمر بأن تقرر إعدامهم جميعا رميا بالرصاص وهم عزل من السلاح!!
ووصف «ميو» في تنفيذ ذلك القرار في أولئك البؤساء، مما تقشعر له الأبدان ويفتت الأكباد، ويندى له جبين الإنسانية خجلا، ويبقى ذكره في التاريخ وصمة عار للذين قاموا بذلك الجرم الفظيع والعمل الوحشي، حقا إن دفاع نابوليون عن نفسه في سانت هيلانة وجيه ومنطقي، وربما كان فيه شيء من العذر إذا لوحظ مركز الفرنساويين في ذلك الظرف، وإذا لوحظ أيضا أن بعض أولئك الأسرى، كانوا من الذين أقسموا بشرفهم العسكري أن لا يحاربوا الفرنساويين مدة عام بعد أن سمح لهم بونابرت بالخروج سالمين بسلاحهم من قلعة العريش، وسيرهم إلى داخلية البلاد، وأنه إذا أخلى سبيلهم ؛ لأنه لم يكن في استطاعته أن يبعث بهم إلى مصر، ولا إلى غيرها، ولا أن يعطيهم الغذاء اللازم لهم، فإنهم لا يعودون لقتال جيشه وتقوية عدوه، وفي دفاع نابوليون أو تبريره لذلك العمل قوله: «وإني مستعد أن أعيد ذلك العمل إذا وجدت في نفس الظروف التي كنت فيها، وكذلك كان يفعل الدوق ولنجتون الإنكليزي وغيره من القواد اللذين يوجدون في مثل ما وجدت فيه من الظروف.» ولكن على الرغم من كل دفاع وظروف حربية اضطرارية، فإن ذلك العمل إنما ينظر إليه، ويحكم عليه، من الوجهة الإنسانية، وحكمها في ذلك واحد لا يتغير، وهو أن قتل الأسرى العزل من السلاح الذين أمنوا على حياتهم، على لسان ضباط من الجيش، جريمة لا تغتفر وعار لا يمحى! وغريب دفاع بعض الكتاب الفرنساويين الذين كانوا مع الحملة مثل فيجوروسويون
Vigo-Rousillon
في دعواه «إننا لما كنا في الشرق اتبعنا عادات الشرقيين»! فلو سلمنا جدلا أن الشرقيين كانوا يفعلون بالأسرى مثل ذلك الفعل، فأين الفرق، على دعواكم، بين المدنية والهمجية، يا أبناء الثورة الفرنسية، ورافعي راية الإخاء والمساواة والحرية؟
إن يكن العدل الإلهي قد قضى، ولا راد لقضائه، أن يسلط الفرنساويين على أولئك الجند من رجال الجزار الظالم وغيرهم من الأرنئوط، والمماليك الظالمين، لما ارتكبوه من الشرور وهتك الأعراض، وقتل البريئين من عباد الله، سواء في سورية أو في مصر، فإن ذلك العدل الإلهي قد قضى أيضا أن يتفشي الطاعون في يافا ويفتك بالجنود الفرنساويين فتكا ذريعا حتى مات بسببه، في أيام قلائل، مئات من الجنود، وكاد يفضي الأمر إلى انتقاض الجيش وثورته على ضباطه، وحتى امتنع الأطباء عن العناية بالمرضى خوفا من العدوى، ولولا جرأة نابوليون «أو اعتقاده في طالع سعده» على الدنو من المطعونين ومحادثتهم، مما شجع قلوب الجند والضباط والأطباء، لقضي على تلك القوة الفرنسية في يافا وضواحيها قضاء مبرما.
6
بقيت الصفحة الأخيرة من تاريخ الحملة الفرنسية في سورية وهي حصار عكا، وفشل نابوليون بونابرت وعوده من آسيا بخفي حنين!
تفصيل الحصار وما أظهره الطرفان من آيات البسالة والإقدام ليس من موضوع كتابنا كما سبق لنا ذكر ذلك، ولكن أمورا كثيرة لها علاقة بتاريخ مصر، وتاريخ النزاع بين فرنسا وإنكلترا على وادي النيل، بدأت في حصار عكا وكان لها شأن يذكر في حوادث القرن التاسع عشر الميلادي، وهناك رجال كانت لهم اليد الطولى في التأثير على مركز الفرنساويين في مصر، بل وجلائهم عنها، لا نجد بدا من النظر في أمرهم، والحديث بشأنهم فنقول:
كان من أغراض نابوليون في حملته على الشام كما ذكر ذلك هو في تقريره لحكومة الديكتوار، بتاريخ 10 فبراير سنة 1799، «منع تموين الأسطول الإنكليزي من الموانئ السورية» فكان من مقتضى ذلك أن تبذل إنكلترا غاية جهدها في وقف تيار التقدم الفرنساوي في سورية، وكان ذلك من دواعي اتحادها مع الدولة العثمانية؛ ولذلك كلف السر سدني سميث قائد الأسطول الإنكليزي في الشرق أن يذهب إلى عكا ليساعد في الدفاع عنها، ولبذل كل الوسائل للقضاء على نابوليون وحملته، وكان للسر سدني سميث هذا الفضل الأول في فشل الحملة الفرنسية في المشرق باعتراف نابوليون نفسه.
وجدت في كتاب تاريخ الأمير حيدر الشهابي صورة فرمان بعث به سلطان تركيا إلى أهالي طرابلس الشام، وفيه ذكر للاتفاق مع الدولة البريطانية وللمهمة التي عهدت إلى السر سدني سميث هذا، والفرمان مكتوب بعبارة عربية مسجعة، وغريب في بابه، حتى لم أجد بدا من الإتيان على نصه، مثلا للمكاتبات الرسمية في ذلك الزمن وها هو نصه:
أقضى قضاة المسلمين نائب أفندي بطرابلس الشام وأعيانها عموما زيد قدرهم فليكن معلوما كما لا يخفى أن الفرنساويين الأوغاد قد هجموا على أخذ مصر القاهرة، وما يليها من البلاد، والآن قد احتلوا يافا وغزة والرملة وملحقاتها، وعلى زعمهم الفاسد يريدون تدمير أمة الإسلام، وهدم كعبتها وجوامعها فاقتضت صداقة المحب الصادق، والخل الموافق، أجل الأحباب، وكريم الأنساب، سعادة أخينا المحترم سلطان الإنكليز المفخم، المتحد معنا بإخلاص الطوية، على تدمير الأمة الفرنساوية، إنه لغزير مكارمه، ووافر مراحمه سير مع عمارتنا الهمايونية، عمارة إنكليزية، وأقام عليها ساري عسكر افتخار الأمراء الكرام في الطائفة المسيحية، وعظيم الكبراء الفخام في الملة العيسوية، جناب محبنا المحترم السير بلمام
7
سدني سميث الأكرم فوجهناه من لدنا بالتفويض الخاقاني، والتوقيع السلطاني، مشيرا مطلقا في تلك الديار، كما يراه بعين الاعتبار، فعليكم أن تحبوه ومهما مر عليكم من مراكبه وحاشيته، فقدموا لهم الإكرام، وحفظ الحرية والمقام، وليعلم الخاص والعام، حسن صداقته مع الإسلام، والإعانة لنا على الدوام، اعلموا ذلك واعتمدوه غاية الاعتماد والسلام. ا.ه بحروفه.
بعد أن احتل الجيش الفرنساوي ثغر حيفا استمر في طريقه حتى وصل عكا في 19 مارس سنة 1799، وكان الجزار قد تحصن فيها وقد دام الحصار الفرنساوي حولها ستين يوما كاملة، عجزت فيها الفنون العسكرية، والحيل الحربية، والتدبيرات الهندسية، والشجاعة الفردية والعمومية، عن تدويخ ذلك الحصن وإسقاطه حتى ضرب بذلك الحصار المثل في الشرق والغرب، ولا زال المصريون لهذه الساعة يقولون لمن يباهي بنفسه: «هل فتحت عكا»!
والسبب في فشل نابوليون وقواده وجيشه الباسل راجع إلى البسالة التي حاربت بها جنود الجزار، وإلى الدولة العثمانية بإرشاد إنكلترا وتحريضاتها، لم تتأخر عن إمداد حامية عكا بالقوات الكافية في الوقت المناسب، وفوق كل هذا أن قيادة وإدارة الدفاع عن المدينة كانت في أيد أوروبية لا تقل كفاءة وخبرة وعلما عن مثل ما يوجد من هذه الصفات في القوة المحاصرة، بل لقد كان تهور نابوليون، وثقته بنفسه، واعتقاده في طالع سعده، من الأسباب المهمة لفشله في إخضاع ذلك الحصن المنيع، فقد روى الكتاب الفرنساويون الذين لم تبهرهم أقوال نابوليون أن «كليبر» انتقد خطة الهجوم وأسلوب الحصار حتى لقد رووا عنه أنه قال: «إننا هاجمنا عكا على الطريقة التركية، بينما كان الدفاع عنها على الطريقة الفرنساوية.» والمراد بهذا أن خطة الهجوم كانت عن جهل وطيش، في حين أن الدفاع عن الحصن كان مرتبا منظما على القواعد العلمية.
فمن أين كان للجزار وجنوده ذلك النظام العلمي الذي صد نابوليون وأذاقه طعم أول فشل في حياته العسكرية، والجواب على هذا يقتضي التصريح بأن الدفاع عن عكا كان في يد الإنجليز تحت إرشاد السر سدني سميث، ذلك الرجل الذي قضى على نابوليون وأحلامه في الشرق؛ إذ لو تيسر لنابوليون فتح عكا، لما وقف في تيار فتوحاته في آسيا عائق، ولأدى به الحال إلى الإضرار الصحيح بمركز الدولة العلية، فقد كانت ولايات الشام والعراق والأناضول تابعة بالاسم وكثيرون من أمراء سوريا كانوا ينتظرون سقوط عكا لينضموا إلى نابوليون، كما اعترف بذلك فيما بعد الأمير بشير الشهابي كبير أمراء جبل لبنان.
8
ومن غريب الحوادث في تصاريف الإرادة الإلهية أن السر سدني سميث هذا كان مسجونا في باريس في الوقت الذي برح فيه نابوليون بحملته فرنسا قاصدا مصر، قال بوريين في مذكراته: «برحت باريس برفقة نابوليون في 3 مايو سنة 1798 «قاصدين طولون للسفر إلى مصر» وقبل هذا الموعد بعشرة أيام فقط فر أحد المسجونين في سجن التامبل
Temple
وكان ذلك الرجل هو السر سدني سميث الذي قدر أن تكون له اليد الطولى في إحباط مشروع تلك الحملة، وكان فراره بواسطة أمر مزور باسم مدير البوليس - ورقة مزورة منعت الانقلاب في الشرق.»
وكان السر سدني سميث هذا رجلا غريب الأطوار، جمع بين البسالة والإقدام والجرأة والصراحة والتهور والغرور والطيش! ولما كان الإنكليز محتلين طولون في سنة 1793 أحرق الأسطول الفرنساوي، وصادف في سنة 1796 وقوعه في يد الفرنساويين فحبسوه في ذلك السجن، وبقي سجينا فيه نحو سنتين حتى ساقت له المقادير رجلا فرنساويا اسمه فيلبيو
ساعده على الفرار بواسطة ذلك الجواز المزور، وكان فيليبو هذا مهندسا حربيا من كبار المهندسين الذين نقموا على الثورة الفرنساوية وهجر بلاده ثم عاد إليها في الوقت الذي ساعد فيها السر سدني سميث على الفرار فتوطدت بين الرجلين صداقة جمعت بينهما في الخير والشر حتى إنه جاء معه إلى عكا، وكان له الفضل الأول في تدبير الدفاع عن المدينة وإحباط كل الخطط الحربية والهندسية التي كان يديرها نابوليون وكفريللي، ولم يكن فيليبو أقل من كفريللي خصمه كفاءة، ومن غريب المقادير أن الاثنين ماتا في ذلك الحصار، الأول خارج الأسوار، والثاني داخلها! ولم يكن فيليبو غريبا عن نابوليون أيضا، فقد كان قرينه في المدرسة الحربية في باريس، وتلقى الاثنان دروسهما الرياضية على «مونج» أحد علماء البعثة العلمية في مصر، وأمضيا الامتحان معا تحت رياسة لابلاس
Laplace
واندمج في نفس السنة التي اندمج فيها نابوليون في الطوبجية، والآن جمعت الظروف الغريبة، حول أسوار عكا داخلا وخارجا، جميع أولئك الرجال!!
وكان للسر سدني سميث نوادر ومشاغبات مع نابوليون تظهر منها أخلاق الرجلين الذين وقف الشرق بينهما حائرا في تلك الأيام العصيبة، فمن ذلك أن السر سدني سميث علم أن أمراء جبل لبنان المسيحيين يظهرون الميل للفرنساويين، على فكرة أنهم مسيحيون مثلهم، وأنهم سيخلصونهم من مظالم الجزار وولاة الدولة العثمانية، وكان نابوليون في سوريا أمام المسيحيين يظهر المسيحية، كما كان شأنه مع المسلمين في مصر، فقد روى المؤرخون الثقات أن نابوليون بعد معركة «طابور» التي قهر فيها بأقل من ستة آلاف جندي، جيشا مؤلفا من ثلاثين ألفا من المماليك والإنكشارية والترك، سار إلى الناصرة ونزل في دير الرهبان الفرنسيسكان وطلب من رئيس الدير أن يقيم الصلاة بصفة رسمية شكرا لله على ذلك الانتصار العظيم، ودخل نابوليون الكنيسة وجثا على ركبتيه وقت الصلاة.
فلما علم السر سدني سميث بمساعدة المسيحيين للفرنساويين واغترارهم بهم، بعث لهم بمجموعة من منشورات نابوليون التي وزعها على المصريين، وخصوصا منشوره الأول الذي يقول فيه إنه هدم أركان الدين المسيحي وثل عرش البابوية، فاندهش الموريون المسيحيون، وامتنع اللبنانيون عن توريد الخمر والبارود وعن تقديم المساعدات للفرنساويين.
ولم يكتف السر سدني سميث بذلك، بل كتب أوراقا باللغة الفرنساوية ونثرها بين جنود نابوليون، وقد نشر «ميو» في مذكراته نص تلك المنشورات التي يقول لهم فيها: إنه قد سدت عليهم السبل، ولم تبق لديهم سفينة تعيدهم إلى بلادهم ، وإن من أراد منهم أن يعود إلى وطنه فإنه مستعد لنقله في السفن الإنكليزية، وإن حكومة فرنسا نفتهم إلى هذه الديار النائية لتقضي عليهم وعلى قوادهم، إلى غير ذلك من الأقوال التي يقصد بها التحريض على شق عصا الطاعة، فلما وقعت تلك الأوراق في يد نابوليون حنق على السر سدني سميث ونشر منشورا على الجند قال فيه: «لا شك أن الكومودور الإنكليزي قد أصيب بداء الجنون.» فعد السر سدني هذا القول طعنا في شخصه وكتب إلى نابوليون يطلبه إلى المبارزة!
فأجابه نابوليون جواب استهزاء واستصغار!
وللسر سدني سميث حكايات غريبة عن بسالته وإخلاصه وجرأته في حوادث هذه الحرب، وهو الذي يقال إنه أنقذ «محمد علي» من الغرق بعد واقعة أبي قير البرية، كما سنذكر ذلك في مكانه، وله رسائل موجودة باللغة العربية في تاريخ الأمير حيدر الشهابي مع الأمير بشير الشهابي يظهر منها أن أحمد باشا الجزار لم يقم للسر سدني بحق الولاء مع أنه لولاه لقضى نابوليون على سلطة الجزار في عكا وسورية، كما قضى على سلطة أخواته وأسياده مراد وإبراهيم في مصر، ولا غرابة فإن من أظهر أخلاق المماليك عدم الوفاء وقلة الإخلاص.
ولنعد إلى حصار عكا وحوادثه الغريبة فنقول: إنه إذا ضم إلى علم «فيليبو» وحسن إدارته في الدفاع، أن الإنكليز بعثوا بجنود وضباط كثيرين لتحصين المدينة، كما يظهر ذلك من أسماء الضباط الإنكليز الذين قتلوا في ذلك الحصار، وإذا ضم إلى ذلك أيضا أن المدافع التي بعث بها نابوليون من مصر في السفن وقعت في أيدي الإنكليز، واستعملت في الدفاع عن عكا، وأن نابوليون ارتكب غلطات كثيرة بشهادة الفرنساويين، وأن الدولة العثمانية في آخر وقت بعثت بالإمدادات الكثيرة، وأن الطاعون كان يفتك بالجيش الفرنساوي فتكا ذريعا، وأن الذخائر اللازمة لموالاة الحصار قد نفدت إلا قليلا - إذا ضم كل هذا إلى بعضه عرفنا كيف فشل نابوليون أمام حصن صغير كحصن عكا، فتحه بعد ثلاثة وثلاثين سنة، إبراهيم باشا بجيش من الفلاحين المصريين!
7
وعلى الرغم من الانتصار الباهر الذي ناله الفرنساويون على جيش الدولة عند جبل طابور، وعلى الرغم من تعضيدات بعض أمراء سوريا وبعض المسيحيين والدورز لنابوليون وجيشه، فقد رأى نابوليون للأسباب التي ذكرناها في الفقرة السابقة، ضرورة الانسحاب من حصار عكا والعودة إلى مصر، ولم يذكر التاريخ انسحابا مقرونا بالفشل والخسائر والمشاق، مثل انسحاب نابوليون من موسكو في الروسيا في عام 1812، ولا يزال يضرب به المثل في عظم الفشل الحربي، وكانت عودة نابوليون من سورية صورة مصغرة لذلك الانسحاب من الروسيا ... ناب في هذا العطش والقيظ والشمس المحرقة في الصحراء الفاصلة بين آسيا وإفريقيا، مناب الثلج والبرد القارس والزمهرير في روسيا! وناب الطاعون في فتكه بالجند الفرنساوي، مناب القوزاق في مطاردتهم للمنقطعين من ذلك الجيش الذي دوخ أوروبا في عدة وقائع فاخرة باهرة!
وكان نابوليون مع شديد عزمه، وبالغ صبره وجلده، أسفا كئيبا يحرق الأرم على الإنكليز الذين قضوا على آماله، وسدوا الطريق على أحلامه، وقطعوا بينه وبين الوصول إلى بلاده، وكان الجيش لتغيظه وانحطاط قواه المعنوية كلما وصل إلى بلدة أو قرية من قرى الشام يمعن فيها قتلا ونهبا وسلبا، ثم يشعل فيها النار خوفا من انقضاض القوم على الجند بدعوى أن ذلك خير وسيلة حربية مشروعة لتعطيل العدو عن تعقبه ومطاردته ...
وروى المؤرخون من فرنساويين وإنكليز أن نابوليون وجد في يافا عددا كبيرا من جنوده المصابين بالطاعون وأمراض أخرى فتحير في أمرهم، ولم يرد أن يتركهم فريسة في يد أعدائهم، اعتقادا منه بأن جنود الجزار لا يبقون عليهم ولا يرحمون ضعفهم ومرضهم، ولا غرابة أن يعتقد نابوليون ذلك الاعتقاد؛ إذ إنه هو لم يرحم الأسرى العزل من السلاح، ولم تسلم النسوة ولا الشيوخ ولا الأطفال من اعتداء جنوده، وكذلك لم تكن لديه وسائل لنقل أولئك المرضى إلى مصر، فاقترح نابوليون على الأطباء أن يجرعوهم السم ليموتوا موتة هينة بدلا من تعريضهم، على ظنه لقساوة أعدائهم والتمثيل بهم! فكان جواب الأطباء: «إن صناعتنا تقضي علينا أن نبرئ لا أن نميت»!
وهنا اختلاف كبير في هذه الرواية فكثير من الكتاب يؤكدها، وكثير منهم ينفيها وينكرها، ونابوليون نفسه في سانت هيلانة ينكر أشد الإنكار أنه أصدر أمره بتسميم المرضى، ولكنه من جهة أخرى يقول: إنه لو وجد نفسه في مثل ذلك الحال؛ أي: لو كان كواحد من أولئك المرضى، لفضل أن يتجرع السم ليموت موتة هادئة سريعة، وإنه لو أصدر أمره للتعجيل على حياة المرضى الذين قضى عليهم الموت، لما وبخه ضميره ولكان في عمله محقا.
والظاهر من اختلاف الروايات، ومن أقوال بعض قواد نابوليون، ومن دفاعه هو عن نفسه في مذكرات سانت هيلانة، أن نابوليون اقترح على الأطباء تجريع المرضى نوعا من السم أو الأفيون، وأنه لما رأى شدة معارضتهم له، ترك مع المرضى بعض الجند لحراستهم، ونقل من أمل فيه الشفاء معه، بدليل أنه ورد في أخبار الانسحاب أن نابوليون كان يمشي على قدميه في الصحراء واقتدى به الضباط والخيالة تاركين للمرضى الخيول والدواب.
والخلاصة أن حملة الشام قد فشلت فشلا ذريعا، ولم يعد من القوة التي سار بها نابوليون، وهي كما ذكرنا ثلاثة عشر ألفا، غير سبعة آلاف على تقدير الكتاب الإنكليز قد انحلت عزائمهم، وانحطت قواهم، ولكن بعض الكتاب الفرنساويين يؤكدون أن الجيش الفرنساوي عاد من سورية وكان عدده في الصالحية 11.123 فيكون القنص ألفين فقط، قتل منهم خمسمائة في ساحات القتال ومات في المستشفيات 700 وترك في معسكرات العريش وقطية نحو ستمائة ونحو مائتين تقدموا الجيش إلى مصر، فتكون الخسارة الحقيقية للجيش لا تزيد عن ألف ومائتين إلى ألف وخمسمائة على تقدير أولئك الكتاب، وفرق كبير بين هذا العدد وسبعة آلاف كما يقول الإنكليز، وفي رأي «بيريه» أن الحملة الفرنسية في سورية فقدت ثلث رجالها؛ أي: نحو أربعة آلاف بين قتيل وجريح ومطعون، وربما كان هذا التقدير أقرب إلى الصواب، وهذا يوافق ما نقله المعلم نقولا الترك في رسالته؛ إذ ذكر أن الفرنساويين «خسروا ثلاثة آلاف وخمسمائة «صلدات» على أسوار عكا ومات بالطاعون نحو ألف وزيادة.»؛ أي: أن الخسارة كانت حوالي أربعة آلاف وكسور .
وكيفما كانت الخسارة فنابوليون مع هذا لم يرد أن يفهم جيشه أنه عاد من سورية بالخيبة والفشل، ولذلك نشر بينهم منشورا طويلا قال فيه: أيها الجنود، إنكم قد قطعتم القفار الواقعة بين آسيا وإفريقيا بسرعة تحاكي سرعة مسير جيش من العرب على خيولهم، وبددتم الجيش الذي كان ذاهبا ليهاجم مصر، وألزمتم الجيش الثاني الذي كان يقصد به الإغارة على وادي النيل، أن يأتي إلى عكا لإمدادها، وقد فتحتم العريش وغزة ويافا، وهدمتم قلعة عكا! فالآن سنذهب إلى مصر؛ لأن العدو مصمم على مهاجمتها ... إلى غير ذلك من الأقوال التي قصد بها طبعا تقوية عزائم الجند على اجتياز تلك الصحاري المحرقة مرة ثانية.
وكذلك لم يرد نابوليون أن يدرك المصريون أنه قد باء بالخيبة والخسران في حملته السورية، فبعث قبل مقدمه إلى مصر بمنشور للديوان الخصوصي قال فيه:
إلى محفل ديوان مصر، نخبركم عن سفري من بر الشام إلى مصر، فإني بغاية العجلة بحضوري لطرفكم بعد ثلاثة أيام تمضي من تاريخه، ونصل عندكم بعد خمسة عشر يوما وجايب معي جملة محابيس بكثرة ومحقت سراية الجزار وسور عكا، وبالقنبر هدمت البلد، ما أبقيت فيها حجرا على حجر، وجميع سكانها انهزموا من البلد إلى طريق البحر والجزار مجروح، ودخل بجماعته داخل برج من ناحية البحر وجرحه يبلغ لخطر الموت، ومن جملة ثلاثين مركبا موسوفة عساكر الذين حضروا يساعدون الجزار ثلاثة غرقت من كثرة مدافع مراكبنا. ا.ه بحروفه.
ومما تجب ملاحظته على هذا الكذب والتضليل أنه لا توجد صورة لهذا المنشور بأية لغة أوروبية، وليس له أصل فرنسي؛ لأنه - مع هذا التضليل - أعقل من أن ينشر هذه السخافات في لغة أوروبية يحاسب عليها من قوم يفهمون ويعملون!
وختم خطابه هذا بالعبارة الآتية «نقلا عن الجبرتي»: «وإني مشتاق إلى مشاهدتكم؛ لأنكم عملتم غاية جهدكم من كل قلبكم لكن جملة «فلانية» «كذا» دائرون بالفتنة لأجل ما يحركون الشر في وقت دخولي، كل هذا يزول مثل ما يزول الغيم عند شروق الشمس وقنتورة
9
مات من التشويش ، وهذا الرجل صعب علينا جدا والسلام.»
ولكن على الرغم من هذا الخطاب، وعلى الرغم من الاحتفال الفخيم العظيم الذي أعده الفرنساويون، ونظمه نابوليون على طريقة التهويل والإرهاب، فإن المصريين لم يخف عليهم أن نابوليون وجيشه قد فشلا في الشام وعادا منها بخفي حنين، وهذا الشيخ الجبرتي يقول: «وأقاموا على حصار عكا أربعة وستين يوما حربا مستقيما ليلا ونهارا، وأبلى أحمد باشا الجزار وعسكره بلاء حسنا شهد له الخصم.» وكتب الشعراء في سوريا ومصر قصائد الابتهاج بخلاص عكا وفشل الجند الفرنساوي في تدويخها.
هوامش
الفصل الخامس عشر
العودة لمصر من سورية
في اليوم الثاني من شهر يونيه سنة 1799 وصل الجيش الفرنساوي إلى العريش، واتخذت الاحتياطات الكافية لتحصين تلك البقعة وفي يوم 4 يونيه عسكر الجيش في قطية، وفي يوم 7 وصل الجيش إلى بلدة الصالحية وهي أول حدود مصر من جهة الصحراء الشرقية، وهناك استراح الجيش، وأصدر نابوليون أمره للجنرال كليبر بالسفر مع فرقته إلى دمياط للإقامة بها، وكان غرض نابوليون من ذلك إبعاد كليبر عن القاهرة، ليتيسر له الاستعداد للسفر إلى فرنسا، قبل أن يعلم به كليبر وذلك لأسباب كثيرة سنأتي عليها في مكانها.
قال الجبرتي في حوادث شهر محرم سنة 1214 «وفي يوم الثلاثاء «يوافق 11 يونيه» حضر جماعة من العسكر بأثقالهم وحضرت مكاتبة من كبير الفرنساوية أنه وصل إلى الصالحية وأرسل دوجا الوكيل (Dugua)
ونبه على الناس بالخروج لملاقاته بموجب ورقة حضرت من عنده يأمر بذلك.»
ومن لنا بالوقوف على التعليمات الخاصة التي بعث بها نابوليون إلى الجنرال «درجا» مع أولئك الرسل بقصد الاستعداد العظيم للاحتفال بقدومه احتفال القائد الظافر، ليوهم المصريين أنه قد ملك سورية ودوخ أهلها، وقضى على الجيوش التي أشيع في طول البلاد وعرضها أنها قادمة لخلاص مصر من أيدي الفرنساويين؟؟ ولكن وإن لم نعرف تلك التعليمات فإننا نعرف أن في صبيحة يوم الجمعة 10 محرم «14 يونيه» جمع الفرنساويون في القاهرة أهل المدينة من شيوخ وأعيان وموظفين وعامة وسوقة، وأقيمت الزينات ودقت الطبول وعزفت الجوقات الموسيقية عربية وإفرنكية، وتوشح كل ذي حيثية بالملابس المزخرفة، وتألف من الجنود والأهالي موكب عظيم، خرج من الأزبكية في صباح ذلك اليوم، يستقبل نابوليون بونابرت خارج المدينة، وكان هو قد عسكر بجيشه في المنطقة الواقعة بين سراي القبة والعباسية، وكانت تسمى هذه الجهة بالعادلية واليوم يقال لها الوايلية التي هي في الحقيقة جزء منها، وقد وصف كثيرون من كتاب الفرنساويين، ذلك الموكب المنظم والاحتفال الفخم الذي قوبل به نابوليون بعد عودته من سورية لمصر وبالغوا فيه، وكان هو أول المبالغين في وصفه لحكومة الديركتوار! وليس لدينا في اللغة العربية غير أقوال الشيخ الجبرتي والمعلم نقولا، والأول لا يزيد في الوصف على كلمات موجزة، والثاني لم يذكر شيئا عن الهدايا الفاخرة التي قدمها التجار بالقاهرة وأعيانها وأشرافها لنابوليون وذلك بالطبع، كما نعرف أمور بلادنا، بناء على تحريضات أوامر من الحكام الفرنساويين، وكان أكثر الناس تملقا وتزلفا لنابوليون الشيخ خليل بكري الذي لم يزل نقيب الأشراف، مع حضور السيد عمر مكرم من يافا، فقد قدم الشيخ خليل من أنواع الهدايا جوادا عربيا كريما يقود زمامه «رسم» ذلك المملوك الذي اشتهر في أوروبا وبقي ذكره في التاريخ خالدا بجوار اسم نابوليون؛ لأنه سافر معه إلى فرنسا وبقي معه مرافقا له في غدواته، وروحاته، وغزواته وانتصاراته، حتى كان يلقب «مملوك الإمبراطور»، وكانت له في قصر النوباري مكانة معروفة، ولم يكن رسم هذا هو ذلك المملوك الذي كان له مع الشيخ البكري حكايات مر بها الجبرتي مرور النسيم! بل كان واحدا من مماليك كثيرين للشيخ البكري الذي قدم لنابوليون عدا الجواري والمملوك هدايا كثيرة فاخرة ثمينة، فكان سرج الجواد مطرزا بالذهب واللآلي واليواقيت، وأهداه أيضا عددا من الهجن السريع الخطا، وقدم له أيضا الجواري الحسان، من الجركس والحبشان، والشيلان الكشميرية والأسلحة ذات القبضات المحلاة بالذهب والجواهر الكريمة، إلى غير ذلك من العطر والعود والصندل والأقمشة الحريرية من صنع الهند والصين.
والخلاصة أن الشيخ خليل البكري، غفر الله له وتجاوز عن سيئاته، لم يدخر وسعا في إرضاء الفرنساويين، فجاد بخير ما عنده ، وتجاوز الأمر حتى قالوا إنه جاد بعرضه!! فقد روى ثقاة المؤرخين أن ابنة الشيخ خرجت عن حدود الحشمة وسلكت مع الفرنساويين مسلكا شائنا فوصمت بيت البكري بوصمت عار لا تمحى، وقد روى الشيخ الجبرتي، وهو عفيف القلم ، تلك الرواية وهو يتململ غيظا، وقال: إن أعداء الشيخ اتهموه بأن خروج ابنته مع الفرنساويين كان بعلمه ورضاه، والعياذ بالله، وروى بعضهم أنها كانت تسقي أباها وضيوفه من كبار القواد الفرنساويين الشراب فكان ما كان، ولكن هذا على ما أعتقد غير صحيح، وأغرب ما في حكاية هذه الفتاة وقصتها الغربية التاريخية ما روته الكاتبة «جيهان ديفري» في كتابها عن نابوليون في مصر، فقد أكدت أن ابنة البكري «وذكرت أن اسمها زينب البكرية» كانت معشوقة نابوليون بونابرت نفسه، ونحن ننقل روايتها هذه بكل تحفظ؛ لأننا لا نعرف على أي المصادر اعتمدت هذه الكاتبة الباحثة؛ إذ من الجائز أنها اعتمدت على مذكرات أو مصادر لم نوفق إلى العثور عليها.
ورواية جيهان ديفري هي أنه كان لنابوليون بونابرت في مصر معشوقة اسمها بولين فوريس
وكانت من قبل خاطئة من بلدة كاركاسون
Carcassone
في فرنسا وتزوجت من الضابط فوريس، وكان رجال الجيش يعلمون بعلاقة القائد العام بها، وكذلك كان يعرف المصريون وكانوا يسمونها «ست السلطان الكبير»، فحدث في زيارة ابنة البكري وأمها لتلك السيدة الفرنسية أن وقع نظر نابوليون على الفتاة العذراء ابنة سليل بيت الصديق، فأعجب بظرفها وشكلها الشرقي، وكانت الأخبار قد وردت إليه من فرنسا بسوء سلوك زوجه جوزيفين وأخبار علاقاتها ببعض الضباط في باريس، ومهدت له بولين الاجتماع بزينب واتخذها خليلة أخرى له، وكان الفرنسيون يسمونها (La petite Egyptienne du Général)
كما كانوا يسمون بولين فوريس (Notre Dame de l’Orient)
وروت كاتبة هذه الرواية أن حب نابوليون لزينب لم يدم طويلا؛ لأن بولين مكرت بالفتاة وغيرت ملابسها الشرقية بملابس باريسية وقامت لها بالتطرية الغربية، ففقدت ميزتها وغرايتها لدى نابوليون ومال قلبه أكثر إلى بولين.
واتخذ كاتب إنجليزي من كتاب الروايات الخيالية الممزوجة بالحوادث التاريخية حادثة ابنة البكري جزءا من موضوع رواية اسمها «المملوك المفقود »
1
تتداولها الأيدي في كل مكان وزمان، ولكن مؤلف هذه الرواية وصف الشيخ البكري بأنه كان متألما، وأنه كان يسير في شوارع القاهرة ليلا نادما صاخبا على ما أصاب ابنته وذكر مؤلف الرواية اسم تلك الفاجرة، وقال إنها هامت بحب كولونيل الفرنسي وكيفما كان الحال فقد لاقت جزاءها بعد خروج الفرنسيس وعودة المماليك والأتراك؛ إذ قطعوا رقبتها أمام والديها.
ومن أغرب الأمور أن ذلك يحصل ونابوليون بونابرت وهو شبه ملك لفرنسا «القنصل الأول» لا يستطيع أن يخلص الفتاة التي عبث بعفافها من القتل!!
وإن قال قائل أما كان الأولى التجاوز في هذا الكتاب عن ذكر هذا! كان جوابنا أن لنا غرضا في وصف أخلاق القوم في ذلك الزمن، والإشارة إلى من لا يكرمون أنفسهم ولا أمتهم ولا دينهم، أمام الغاصب الأجنبي «ومن لا يكرم نفسه لا يكرم».
وقال المعلم نقولا الترك عن ساعة الاستقبال والسلام: «واقبلوا عليه وهنوه بقدومه وبعد الجلوس قال لهم: لقد بلغني أن بعض المفسدين والأعداء الكاذبين قد أشاعوا عني الأخبار، أنني مت في تلك الديار، فأمعنوا بي النظر، لتتحققوا الخبر، وانظروا هل أن بونابرته مات، أم لا يزال بعد في الحياة، وقولوا للمفسدين: لا يتأملوا بهذا الأمل وبونابرته قد جاء سالما غانما، وبإذن المالك العزيز لا يموت بونابرته حتى يدوس جميع الممالك.» فأجابوه «لا بأس على أمير الجيوش قد كذب كل من قال أطال الله لنا بقاك، ولا شمت بك أعداك، وجعلنا من الدنيا فداك.»
وهكذا يقول الناس لكل ذي قوة وسلطان! وما نظن إلا أن نابوليون وهو يقول لهم هاتيك الأقوال الطنانة كان يتصور أمام مخيلته السر سدني سميث في بارجته، وهو يشير إليهم بإصبع الاستهزاء، يذكره بالفشل أمام عكا، وعودته من سوريا منكوبا مهزوما، فيقول نابوليون في نفسه:
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
ثم تحرك الموكب على نظام رتبوه وعلى شكل يقصد به إلقاء الرعب وإظهار الأبهة وجلال الملك وعظمة السيادة في نفوس المصريين، حتى لقد استمر ذلك الموكب - على رواية الجبرتي - خمس ساعات متوالية في شوارع القاهرة إلى أن وصل إلى داره بالأزبكية، وقد ذكر لنا «ميو» في مذكراته الصريحة «أن نابوليون سير الجند في موكب دخوله القاهرة صفوفا منفردة حتى يوهم القوم بأنه لم يخسر كثيرا من جيشه كما أشاعوا عنه في مصر» ... ولهذا استمر الموكب خمس ساعات!
ومع ذلك لم يخف عن المصريين، كما روى الجبرتي أن العساكر قد تغيرت ألوانهم واصفرت وجوههم، وقاسوا مشقات عظيمة من الحر والسغب.
ولم يكتف نابوليون بذلك الموكب العظيم، بل أراد أن يجعل دخوله في القاهرة عيدا كبيرا أو مولدا من الموالد، استمر ثلاثة أيام متوالية، وفي هذا يقول الجبرتي: «فلما وصل ساري عسكر الفرنساوية إلى داره بالأزبكية تجمع هناك أرباب الملاهي والبهالوين، وطوائف الملاعبين، والحواة والقرادين، والنساء الراقصات والخلابيص، ونصبوا أراجيح مثل أيام الأعياد والمواسم، واستمروا على ذلك ثلاثة أيام، وفي كل يوم من تلك الأيام يعملون شنكا وحراقات ومدافع وصواريخ، ثم انقضى الجمع بعدما أعطاهم ساري عسكر دراهم وبقاشيش.»
من للتاريخ بمن يشرح للأجيال الخالفة ما كان يجول بخاطر نابوليون وهو ينظر من نافذة بيت الألفي، في ليلة من تلك الليالي المقمرة، إلى أولئك المهاويس من الحواة وملاعبي القردة والنسوة الراقصات؟ وهو يعلم أنه في أحرج المراكز، وأن جيشه قد قل عددا، وأن مراكبه قد حطمت، وأن دول أوروبا العظيمة قد تجمعت لمحاربته، وأن الجيش العثماني، تعضده الأساطيل الإنكليزية والروسية والعثمانية، قادم لمحاربته من طريق البر والبحر، وأن الحكومة في باريس قد خذلته، وأنه لا بد له من الهرب من هذه الديار المصرية ليصل إلى فرنسا لينال فيها ما تطمح إليه نفسه من المجد والفخار، ويفكر كيف يهرب وسفن الإنكليز في البحر الأبيض المتوسط ذاهبة وآتية!!
لا نزاع في أن كل هاتيك الأفكار المقلقة كانت تجول في رأس نابوليون فتتعاقب فيها الآمال بالآلام، وتمتزج الأوهام بالأحلام، فكان لا شك يبتسم تبسمة صفراء لأولئك اللاعبين الصاخبين، ويقول لهم: «العبوا العبوا يا عبيد الأوهام، وآلات الحكام»! ولو أجابه واحد من أولئك البهاليل الرقصين اللاعبين، لقال له على لسان الفلسفة الشرقية: «نحن أحسن منك حالا، وأنعم منك بالا، وأفضل في النتيجة مآلا! ما لنا ولأمواج سانت هيلانة، تدوي في آذاننا، وتذيب من أرواحنا، وتفتت في أكبادنا، بعد الهيل والهيلمان، والتاج والصولجان ؟؟ ومن لم يقامر بالدنيا أبدا، كان كمن قامر بها، فكسبها في يوم، وخسرها في آخر!! وملك كسرى تغني عنه كسرة»!
يقول هذا ويرقص!
يقول «بوريين» في مذكراته: إن نابوليون ما كاد يستقر في القاهرة حتى أصدر منشورا من تلك المنشورات التي سداها الكذب ولحمتها التلفيق ولا ينخدع بها إلا ذوو البلاهة والجنون، وعن هذا المنشور أو البلاغ يقول الشيخ الجبرتي: «إنهم في تاسع عشر من الشهر «محرم» كتبوا أوراقا وطبعوها وألصقوها بالأسواق، وهي من ترصيف وتنميق أحد الفصحاء.» فإذا لاحظنا أن نابوليون دخل القاهرة في 10 من الشهر رأينا أنهم قضوا نحو أسبوع في تعريب وترصيف وطبع ذلك البلاغ الذي يدل إنشاؤه على قلم مصري، ولعله من ترصيف وتنسيق الشيخ المهدي الذي يقول عنه المؤرخون في كتاب الحملة: إنه كان ينظم منشورات القائد العام شعرا، مما يدل على أن نابوليون أو من معه من المستشرقين ينزلون النثر المسجع منزلة الشعر الموزون المقفى، والمنشور المشار إليه مكتوب على لسان أعضاء الديوان.
وقد كنا عزمنا على الاكتفاء من هذا المنشور المطول بشذرات تدل على أسلوبه وتركيبه، ولكن عثرنا في الوقت الأخير على صورة مأخوذة بالفوتوغرافية من أصل لذلك المنشور، فرأينا إتماما للفائدة أن ننقل تلك الصورة، وأن نأتي على نص المنشور نقلا عنها ليسهل على القارئ مطالعته، ومقارنته بنصه في الجبرتي:
الجمهور الفرنساوي
من محفل الديوان الخصوصي بمحروسة مصر
خطابا لأقاليم مصر الشرقية والغربية والمنوفية والقليوبية والجيزة والبحيرة
النصيحة من الإيمان
قال الله تعالى في محكم القرآن:
ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، وقال تعالى:
ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، فعلى العاقل أن يتدبر في الأمور قبل أن يقع في المحذور.
نخبركم معاشر المؤمنين أنكم لا تسمعوا كلام الكذابين فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
وقد حضر إلى محروسة مصر المحمية أمير الجيوش الفرنساوية، حضرة بونابرتة محب الملة المحمدية، ونزل بعسكره في العادلية، سليما من المطب والأسقام، شاكرا الله موحدا للملك العلام، ودخل إلى مصر، من باب النصر، يوم الجمعة عاشر شهر محرم الحرام سنة ألف ومائتين وأربعة عشر من هجرته عليه السلام، في موكب كبير عظيم، وشنك جليل فخيم، وعسكر كثير جسيم، وصحبته العلماء الأزهرية والسادات والبكرية، والعنانية والدمرداشية، والحسينية والأحمدية والرفاعية والقادرية، والوجاقات السبعة السلطانية، وأرباب الأقلام الديوانية، وأعيان التجارة المصرية، وكان ذلك اليوم يوما مشهودا عظيما لم يقع نظيره في المواكب السابقة قديما، وخرجت سكان مصر جميعا لملاقته «كذا» فوجدوه هو الأمير الأول بونابرته بذاته وصفاته، وظهر لهم أن الناس يكذبون عليه، شرح الله صدره للإسلام، ونظر بعين لطفه إليه، والذي أشاع عنه الأخبار الكاذبة، العربان الفاجرة، والغز الهاربة، ومرادهم بهذه الإشاعة هلاك الرعية، وتدمير أهل الملة الإسلامية، وتعطيل الأموال الديوانية، لا يحبون راحة العبيد، وقد أزال الله دولتهم من شدة ظلمهم، إن بطش ربك لشديد، وقد بلغتنا أن الألفى توجه إلى الشرقية مع بعض المجرمين من عربان «يلي» والعبايدة الفجرة المفسدين، يسعون في الأرض بالفساد وينهبون أموال المسلمين، إن ربك لبالمرصاد، ويزورون على الفلاحين المكاتيب الكاذبة الفاجرة، ويدعون أن عساكر السلطان حاضرة، والحال أنها ليست بحاضرة، فلا أصل لهذا الخبر، ولا صحة لهذا الأثر، وإنما مرادهم وقوع الناس في الهلاك والضرر، مثل ما كان يفعل إبراهيم بك في غزة حين كان، ويرسل فرمانات بالكذب والبهتان، ويدعي أنها من طرف السلطان، ويصدقوه أهل الأرياف خسفاء العقول، ولا يقرءون العواقب، فيقعون في المصائب، وأهل الصعيد طردوا الغز من بلادهم، خوفا على أنفسهم وهلاك عيالهم وأولادهم، فإن المجرم يؤخذ مع الجيران، وقد غضب الله على الظلمة، ونعوذ بالله من غضب الديان، فكانوا أهل الصعيد أحسن عقولا من أهل بحري بسبب هذا الرأي السديد، ونخبركم أن أحمد باشا الجزار، سموه بهذا الاسم لكثرة قتله الأنفس ولا يفرق بين الأخيار والأشرار، وقد جمع الطموش الكثيرة من عسكر العثملي ومن الغز والعرب وأسافل العشيرة، وكان مراده الاستيلاء على مصر وأقاليمها، وأحبوا اجتماعهم عليه لأخذ أموالها وهتك حريمها، ولكن لم تساعه الأقدار، والله يفعل ما يشاء ويختار.
ألطافه خفية، والكلام على صفو النية، وقد كان أرسل بعض هذه العساكر إلى قلعة العريش، ومراده يصل إلى قطية، فتوجه حضرة ساري عسكر أمير الجيوش الفرنساوية وكسر عسكر الجزار الذين كانوا في العريش، ونادوا الفرار الفرار، بعد ما حل بأكثرهم القتل والدمار، وكانوا نحو ثلاثة آلاف، وملك قلعة العريش وأخذ ما فيها من ذخائر الجزار بلا خلاف، ثم توجه صاري عسكر إلى غزة فهرب من كان فيها من عسكر الجزار، وفروا منها كما يفر من الهرة العصفور والفار، ولما دخل قلعة غزة نادي في رعيتها بالأمان، وأمر بإقامة الشعائر الإسلامية وأكرم العلماء والتجار والأعيان، ثم انتقل إلى الرملة وأخذ ما فيها من ذخائر الجزار، من بقسماط وأرز وشعير وخرب أكثر من ألفين قرية عظام كبار، كان جهزها الجزار، لذهابه إلى مصر ولكن لم تساعده الأقدار، ثم توجه إلى يافا وحاصرها ثلاثة أيام ثم أخذها وأخذ ما فيها من ذخائر الجزار بالتمام، ومن نحوسات أهلها أنهم لم يرضوا بأمانه، ولم يدخلوا تحت طاعته وإحسانه، فدور فيهم السيف من شدة غيظه وقوة سلطانه، وقتل منهم نحو أربعة آلاف أو يزيدون بعدما هدم سورها، فعل الله الذي يقول للشيء كون «كذا» فيكون، وأكرم من كان فيها من أهل مصر وأطعمهم وكساهم وأنزلهم في المراكب إلى مصر وغفرهم بعسكر خوفا من العربان، وأجزل عطاياهم، وكان في يافا نحو خمسة آلاف من عسكر الجزار، هلكوا جميعا وبعضهم ما نجاه إلا الفرار، ثم توجه من يافا إلى جبل نابلس فكسر من كان فيها من العساكر بمكان يقال له: فاقوم وحرق خمسة بلاد من بلادهم، وما قدر كان، سبحان مالك الملك الحي القيوم، ثم أخرب سوق عكا، وهدم قلعة الجزار التي كانت حصينة لم يبق فيها حجر على حجر حتى إنه يقال: كان هناك مدينة، وقد كان بنى حصارها وشيد بنيانها في نحو عشرين من السنين، وظلم في بنياتها عباد الله، وهكذا عاقبة بغيان الظالمين.
ولما توجه إليه أهل بلاد الجزار من كل ناحية كسرهم كسرة شنيعة، فهل ترى لهم من باقية، نزل عليهم كصاعقة من السماء، فإن قال أهل الشام لما قلنا كما «كذا» ثم توجه راجعا إلى مصر المحروسة لأجل سببين «الأول» أنه وعدنا برجوعه إلينا بعد أربعة أشهر، والوعد عند الحر دين، «والسبب الثاني» أنه بلغه أن بعض المفسدين من الغز والعربان يحركون في غيابه الفتن والشرور في بعض الأقاليم والبلدان، فلما حضر سكنت الفتنة، وزالت الأشرار مثل زوال الغيم عند شروق الشمس وسط النهار، فإن همته العلية، وأخلاقه المرضية، متوجهة في البكرة والعشية، لإزالة الأشرار والفجرة من الرعية، وحبه لمصر وإقليمها شيء عجيب، ورغبته في الخير لأهلها ونيلها وزرعها بفكره وتدبيره المصيب، يحب الخير لأهل الخير والطاعة، ويرغب أن يجعل فيها أحسن التحف والصناعة، ولما حضر من الشام، أحضر معه جملة أساري من خاص وعام، وجملة مدافع وبيارق اغتنمها في الحروب من الأعداء والأخصام، فالويل كل الويل لمن عاداه، والخير كل الخير لمن والاه، فسلموا يا عباد الله لقضاء الله، وارضوا بتقدير الله فإن الأرض لله، وامتثلوا لأحكام الله، فإن الملك لله يؤتيه من يشاء من عباده، هذا هو الإيمان بالله ولا تسعوا في سفك دمائكم، وهتك عيالكم، ولا تتسببوا في قتل أولادكم ونهب أموالكم، ولا تسمعوا كلام الغز الهاربين الكاذبين، ولا تقولوا إن في الفتنة إعلاء كلمة الدين، حاشا لله لم يكن فيها إلا الخذلان التام، وقتل الأنفس وذل أمة النبي عليه الصلاة والسلام، والغز والعربان يطمعوكم ويغروكم لأجل أن يضروكم فينهبوكم، وإذا كانوا في بلد وقدمت عليهم الفرنسيس فروا هاربين منهم كأنهم جنود إبليس، ولما حضر ساري عسكر إلى مصر أخبر أهل الديوان من خاص ومن عام، أنه يحب دين الإسلام، ويعظم النبي عليه السلام، ويحترم القرآن، ويقرأ فيه كل يوم بإتقان، وأمر بإقامت «كذا» شعائر المساجد الإسلامية، وإجراء خيرات الأوقاف السلطانية، وسلم عوائد الوجاقلية، وسعى في حصول أقوات الرعية، فانظروا هذه الألطاف والمزية، ببركة نبينا أشرف البرية، وعرفنا أن مراده يبني لنا مسجدا عظيما بمصر لا نظير له في الأقطار، وأنه يدخل في دين النبي المختار، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام».
ويرى القراء في الصورة الفوتوغرافية أسماء أعضاء الديوان الخصوصي كالآتي: السيد خليل البكري نقيب السادة الأشراف، الفقير عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان، الفقير محمد المهدي كاتب سر الديوان، الفقير مصطفى الصاوي خادم العلم، الفقير سليمان الفيومي خادم العلم، علي كتخدى باش اختيار مستحفظان، يوسف باش جاوش تفتكجيان، السيد أحمد المحروقي.
2
يلاحظ القارئ أن جميع أعضاء الديوان الخصوصي الذي شكل في «16 رجب سنة 1213 / 25 ديسمبر سنة 1799»؛ أي: قبل هذا الموعد بنحو ستة شهور، وسبق لنا الكلام بشأنهم، لم يوقعوا كلهم على هذا المنشور، واكتفي بوضع إمضاءات العلماء والسيد أحمد المحروقي سر تجار القاهرة، واثنين من الضباط الأتراك ضباط الوجاقات، ولم يكن قد ورد اسمهما في الأسماءالتي ذكرها الجبرتي عند تشكيل الديوان، ولا في كتاب الحملة كما هو موضح في كتابنا، هذا فلا بد إذن من أنه حصل تغيير أو زيادة عضوين من ضباط الوجاقات بقصد إرهاب المصريين؛ لأنهم، كما قال عنهم المشايخ للفرنساويين عند دخولهم، لا يخافون إلا من الحكام المماليك، ثم يظهر أن نابوليون ارتأى إخلاء المنشور من أسماء الأعضاء غير المسلمين؛ لأن أسماء مثل بودوف وكاف ولطف الله وكحيل وولمار لا تتفق مع دعاوى «قراءة القرآن بإتقان، واحترام النبي عليه الصلاة والسلام، والعزيمة على الدخول في دين الإسلام»!!
نص المنشور العربي.
وقد خصص مسيو كرسيتان شرفيس في كتابه الحديث المسمى «بونابرت والإسلام» بحثا خاصا عن هذا المنشور ومتى كتب ومن كتبه، وهو الذي نقلنا عنه الصورة الفوتوغرافية التي حصل على صورتها الأصلية من وزارة الحربية، وظاهر من التحقيقات التي عملها على الأصل الخطي أن نابوليون هو الذي أملى عبارة المنشور على كاتب يده بوريين، وأنه بعد ذلك أخذ ما كتبوه وأدخل عليها بخطة تصليحات وزيادات ثم أمر به فنسخ ، وإن كان ذلك حصل بين 15 و16 يونيه؛ أي: ثاني يوم لدخوله القاهرة، والجبرتي يقول لنا: إنه في التاسع عشر من محرم كتبوا أوراقا وألصقوها «19 محرم الموافق 23 يوليو» ولم يك من السهل ترصيف وتسجيع عبارة المنشور لموافقتها للأصل الفرنساوي في مدة قصيرة بسبب ما يدور من المناقشات والأخذ والرد بين المترجمين والمصححين.
نص المنشور الفرنسي.
بقي علينا أن نذكر أن العبارة العربية قريبة جدا من الأصل الفرنساوي، ومن الغريب أنه لم يرد في النص المطبوع في الصورة الفرنسية ذكر للقب «السلطان الكبير» وكذلك لا يوجد لهذا اللقب أثر في النص العربي الموجود في الجبرتي ولا في المعلم نقولا، ولا في الأصل الصحيح المنقول بالفتوغراف، ولكن ورد في كتب الفرنساويين، وورد في الصورة الخطية الفرنسية المنقولة بالفتوغراف في كتاب شرفيس، فيظهر من ذلك جليا أن نابوليون أراد لنفسه ذلك اللقب، وأملاه على كاتب يده، ولكن معارضة المشايخ مثلا، أو عدم قبولهم وضع إمضاءاتهم على منشور يلقب فيه نابوليون بالسلطان الكبير، أو غير ذلك من أغراض لبعض المستشرقين أو القواد الآخرين، أدى إلى رفع ذلك اللقب من المنشور العربي والفرنسي، ومع وجود الصورة الأصلية، في اللغتين كما يراه القارئ في الصورتين المأخوذتين بالفتوغراف، فلا يزال بعض كتاب الفرنسيين يؤكد أن نابوليون كان يلقب في مصر بالسلطان الكبير!!
وأما ما ورد في هذا المنشور من دعوى اعتناق الدين الإسلامي وتلاوة القرآن وإنشاء مسجد كبير إلى غير ذلك من موضوع لفكرة الإسلامية لدى نابوليون - فسنفرد له فصلا خاصا لإماطة النقاب، عن كل ما قيل في هذا الباب.
وكنا نود أن نقف بالقلم عند هذا الحد فيما يختص بالحملة السورية لولا إننا عثرنا على رسالتين، بعث بهما على لسان أعضاء الديوان الخصوصي، إلى نابوليون وهو في سوريا، وهاتان الرسالتان نقلهما مسيو كرسيتان شرفيس في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه ليتخذها دليلا على ثقة المسلمين بنابوليون وحبهم له ومدحهم إياه، مع أن أولئك المشايخ كانوا يمضون ما يكتب لهم، وذلك باعتراف مسيو شرفيس نفسه، فقد قال في خلال تحقيقاته عن المنشور الآنف الذكر: إن نابوليون كان لا يكتب فقط ما سيوقع عليه باسمه، بل كان يكتب أيضا ما سيمضيه سواه، ولذلك أملى وكتب ذلك المنشور الذي أمضاه بعض العلماء بعد تحوير وتلطيف، ونريد بهذا أن نقول إن وجود تلكما الرسالتين اللتين بعث بهما إلى نابوليون في سوريا، بل والثالثة التي بعث بها إليه وهو الحاكم الأول في فرنسا، لا يثبت أبدا أن المسلمين اعتقدوا في نابوليون بونابرت مثلما تصور هو أنهم يعتقدونه فيه.
والرسالتان المشار إليهما لهما أهمية عظيمة في نظرنا؛ لأن أصلها غير موجود باللغة العربية، لا في الجبرتي ولا في المعلم نقولا، ومع أن ثالثهما بعث بها بعد هذا التاريخ بنحو سنة ونصف؛ أي: في مدة رياسة الجنرال «منو» وكان الشيخ عبد الرحمن الجبرتي قد صار عضوا في الديوان وإمضاءاته موجودة بين الذين أمضوا تلك الرسالة الثالثة، فإنه لم ينشر لنا نصها العربي، بل ولم يشر إليها إشارة صغيرة مما يثبت دون أقل شك أن المشايخ لم يكونوا يعترفون بأن تلك الرسائل صادرة منهم عن اعتقاد ويقين، وإن كانت إمضاءاتهم عليها وأسماؤهم واردة فيها.
ومع اعتقادنا هذا الذي نقرره مع الأسف لما فيه من نسبة الضعف الأخلاقي لأكبر مشايخ المسلمين وعلمائهم في ذلك الزمن، نرى من الضروري للفائدة التاريخية أن نأتي على تعريب تلك الرسائل من المصادر الفرنسية، ونكتفي هنا بالرسالتين اللتين بعث بهما إلى نابوليون في سوريا، ونترك الثالثة إلى حوادث المدة الأخيرة من تاريخ الفرنساويين بمصر.
وقبل أن نأتي على تعريب الرسالتين المذكورتين نقول: إن مسيو كرستيان سرفيس قد نقلهما وغيرهما من الرسائل التي لا أصل لها في العربية، من مجموعة رسمية، ولم يذكر لنا عن أصلهما العربي شيئا بخلاف الثالثة التي روى عنها أن سلفستر ده ساسي، العالم المستشرق الكبير هو الذي ترجمها من العربية إلى الفرنسية.
وقد يخطر بالبال أن الرسالتين المشار اليهما لم تكتبا بالعربية قط، وإنهما وضعتا بالفرنسية في القاهرة وأفهم المشايخ ما فيهما ووضعت إمضاءاتهم عليهما، ولكن أسلوب عبارتهما في الفرنسية يدل على أنهما مترجمتان من العربية، ونحن مع فقد النص العربي لا نجد، كما قلنا مناصبا من تعريبهما ثانية، وإن كنا لا نطمع في أن نعيدهما إلى ما يقرب من نص ألفاظهما، مجتهدين في تقليد أسلوب ذلك العصر.
وليس في إحدى الرسالتين تاريخ زمن وضعهما، ولكن يظهر أن الأول كتبت لنابوليون في أول زمن الحملة الشامية، وهذا نصها:
كتاب من ديوان القاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
من أعضاء الديوان الخصوصي بالقاهرة المعزية، إلى نصير الضعفاء والمساكين، وحامي العلوم والمتعلمين، وصديق الدين الإسلامي ومن به يدين، وذخر اليتامى والمساكين، ومنظم شئون الممالك والجيوش، الأجل الأمجد، ساري عسكر الجيش الفرنسي القائد العام بونابرت، حياه الله بصنوف السعادة، بشفاعة أشرف الخلق سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
بعد الدعاء بدوام بقائكم، وتمني عودتكم الميمونة والوجود بيننا، وإذا أردتم الوقوف على أحوال القاهرة والجهات البحرية والقبلية، والأقاليم الشرقية والغربية فهي على أحسن حال من الهناء والرفاهية، بعيدة عن الاضطراب، وصنوف العذاب، والمساجد والأسواق على نظام يدعو إلى الإعجاب، والأعيان والتجار والأهالي يحفظون الجميل ويعترفون بالمنة لذلك الذي أغدق عليهم هذه الخيرات، ولا يكفون عن التضرع للعزة الإلهية بدوام عزه ومجده.
ولما كانوا قد غمرتهم النعم الإلهية، وتمتعوا بالراحة والرفاهية، فقد أصبحوا يعجبون بحكمة القائد الذي باسمه يحكم القطر المصري، ويرون في اختياركم هذا القائد دليلا على عطفكم السامي.
أما حاكم الخط فقوي العزم، يعمل بقواعد العدل والحزم، والمدير العام للمالية على جانب عظيم من النبل والرأفة والحلم، ونقيب السادة الأشراف الشيخ البكري لا يزال دائما على عهد الولاء مقيم، ورئيس الديوان الشيخ الشرقاوي يصرف الأمور تصريف حكيم، والشيخ المهدي يحفظ لكم المنة والشكر، والناظر قوسقيار كيخيا، هو دائما زينة الدنيا، وأخيرا فإن سكان مصر كلهم لا يرغبون غير عودتكم التي ستكون إن شاء الله عودة قريبة ميمونة، ويسألون الله عز وجل أن يحفظ جيوشكم من كيد الظالمين، ويفتح لكم أبواب النجاة والسلامة.
وفي غداة سفركم جمع الجنرال دوجا الأعضاء الستين، الذين يؤلفون الديوان العام وأوصاهم أن يراقبوا الحوادث بعين الانتباه والحذر، وزاد على ذلك قوله إن الذين يسلكون سبيل العدل والحكمة يستحقون عفوك ورحمتك، ولكن الذين يريدون بذر بذور الشر والاضطراب، عليهم تقع المصائب والويلات التي تأتي مما عملت أيديهم ، فأظهر الناس إعجابا بهذه النصائح الحكيمة، وفي اليوم نفسه عاد واستدعى مشايخ الحارات والأسواق ووجهاء المدينة والأعيان، وأنذرهم بأنه إذا أقدم أحد على تعكير السلام والأمن في الأحياء والأسواق، فإنه ينزل العقاب على الرؤساء الذين لا يمنعون ذلك وأوصاهم بمعاقبة الوشاة الذين يروجون الأخبار الكاذبة التي هي منبع الشر.
وكان لهذه النصيحة وقع عظيم على سكان القاهرة ووزعت فرماناتكم الشريفة في الأقاليم، وبفضل ما سبق أن اتخذتموه من التدابير الحكيمة انطبعت في العقول مقاصدكم الكريمة ومحت إلى الأبد كل أثر من أثار العصيان والاضطراب.
وتنازلوا بإفادتنا عن ما يجري من الحوادث، وطمنونا عن صحتكم وليحفظكم الله بحق شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام.
السيد خليل البكري (نقيب الأشراف)
عبد الله الشرقاوي (رئيس الديوان)
محمد المهدي (كاتم سر الديوان)
علي كخيا المجدلي (عضو الديوان)
السيد أحمد المحروقي (عضو الديوان)
يوسف فرحات (عضو الديوان)
بودوف (عضو الديوان)
يوسف باش جاويش (عضو الديوان)
ميخائيل كحيل (عضو الديوان)
لطف الله المصري (عضو الديوان)
ولمار (عضو الديوان)
جورج نصار (ترجمان)
ذو الفقار كخيا (قومسير الديوان)
وهذا تعريب الرسالة الثانية:
قال الله تعالى وقوله الحق
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقي .
من ديوان مصر المحمية إلى القائد العام للجيوش الفرنسية، صاحب العظمة التي لا تحد والروية، وجامع الخلال السنية المرضية، أدامه الله ذخرا للضعفاء والمساكين، والعلماء المتقين، وأظله بحمايته السرمدية.
بعد الدعاء بدوام مجدكم، وطول بقائكم، وتمنى عودتكم الميمونة إلينا والسلام، نتشرف بإخباركم إننا تلقينا كتابكم الشريف المتضمن أخبار الحوادث التي جرت حينما وقعت يافا في أيدي جيوش الجمهورية الفرنسية، وما أصاب أعداءكم من الذل والاندحار، وكان الأفضل أن يكفوا عن مقاومة أوامر العالية، ويقلعوا نهائيا عن وسائل الحيلة والخداع، والكذب والنفاق، التي كانت سبيلا لهلاكهم، ولكن متى حم القضاء عمي البصر، ولا تنفع القوة والحيلة في دفع ما كتب في لوح القدر.
وقد كتبنا أخبار هذه الحوادث وطبعناها، وأفهمنا الأمة المصرية فحواها، وجعلناها تشعر بأن لو دخل الجزار الظالم أرض مصر لما أبقى على أحد، ولا ميز بين الصالحين والأشرار، وظلمه لشعب سوريا أقوى دليل، وذكرنا لهم أن هذا الطاغية من جنس المماليك وهم أصل نعمته ورفعته، ولكن الله الذي يقرأ ما في الصدور، فلا تخفى عليه خافية، قد أنقذهم من جوره، ولذلك فإن الأمة المصرية تشكر بعد الله سبحانه وتعالى كبار علمائها الذين أسرعوا لاستقبالكم في الجيزة حين مقدمكم السعيد، والذين حصلوا لهم على حمايتكم العالية، والنعم التي أغدقتموها عليها وهم يحمدون الله عز وجل على أنه لم يلهمهم ما ألهم أهل يافا من التمرد والعصيان؛ لأن أهل مصر من غير شك أحسن عباد الله، وهكذا أذعنا هذه الأخبار التي تشهد بحلمكم ورأفتكم.
وقد أقمنا لاستقبال الأعلام التي غنمتموها في يافا احتفالا عظيما، وكان النظام فيه بديعا، وهرع إلى هذا الاحتفال جميع الأعيان والعلماء والتجار، وسكان مصر حتى كان هذا اليوم فرحا للعامة والخاصة، وحملنا هذه الأعلام إلى الجامع الأزهر ورفعناها مع المصحف فوق المنابر والأبواب، ويا ليت أهل يافا اقتفوا أثرنا ونسجوا على منوالنا، فكانوا يدركون عظيم مكارمكم ولكن إذا أراد الله قصاص شعب ظالم فلا راد لمشيئته، والويل لمن يخالف إرادته.
وإذا أردتم الوقوف على حال مدينتا السعيدة فهي في غاية السرور والاطمئنان والإخلاص، والجنرال دوجا، وقائد الموقع، ومدير المالية العام، والعلماء والشعب، يعيشون على أتم وفاق، بعيدين عن الاضطرابات والوشايات، ولا ينقصهم شيء غير وجودكم الميمون، ولا ينفكون عن التضرع لله عز وجل أن يعيدكم قريبا إلينا رافلين في حلل المجد والعز.
ونقدم ألف سلام للجنرال ألكسندر برتيه الذي نعرف مزاياه ورأفته، ولصديق المساكين الشفوق العادل الترجمان الأول فنتور، ولولدنا «إلياس»
3
حفظه الله بشفاعة ابن عباس، ولولدكم وتلميذكم أرجين،
4
الذي هو عندكم أعز من حدقة العين، ولصرافكم استيف المعروف بغيرته وإخلاصه في خدمتنا، ولكاتم أسراركم بوريين ذو الصفات الممدوحة حفظهم الله جميعا.
وإننا إن لم نكن بحاجة للتوصية، نوصيكم بالعطف على أولاد مصر وسوريا المساكين الذين أظهرتم لهم تلك الرأفة العظيمة، وليحرس الله سلامتكم ويعيدكم إلينا محفوفين بعنايته الربانية بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام.
السيد خليل البكري (نقيب الأشراف)
محمد المهدي (كاتم سر الديوان)
عبد الله الشرقاوي (رئيس الديوان)
ذو الفقار كخيا (قومسير)
علي كخيا المجدلي (عضو الديوان)
يوسف باش جاويش (عضو الديوان)
أحمد المحروقي (عضو الديوان)
ميخائيل كحيل (عضو الديوان)
يوسف فرحات (عضو الديوان)
لطف الله المصري (عضو الديوان)
بودوف (عضو الديوان)
ولمار (عضو الديوان)
جورج نصار (ترجمان)
هوامش
الفصل السادس عشر
الأحوال والحوادث في مصر أثناء الحملة السورية
أي من 10 فبراير-14 يونيه سنة 1799
سرنا وراء نابوليون في غزوته للبلاد السورية إلى أن عاد إلى الديار المصرية، كما هو مفصل في الباب السابق، ولم نرد أن نقطع سلسلة التاريخ في ذلك الباب بذكر ما وقع في مصر من الحوادث والشئون التي لها أهمية تاريخية، واخترنا أن نخصص لها بحثا يؤلف منثورها ويجمع شتاتها.
وقبل أن نأتي على الحوادث المختلفة نذكر أن نابوليون قد أحسن اختيار نائبه، أو وكيله في مصر، ونعني به الجنرال «دوجا» إذ يظهر من الخطة التي سلكها ذلك الرجل في إدارة شئون مصر، ومن تناوله الحوادث المختلفة، وتصريفه أمورها، أنه كان على جانب عظيم من القدرة السياسية، مع تؤدة وأناة وحلم وحسن روية ويقظة تليق بالحاكم الحكيم، ولقد كان سلوكه مع أهالي المنصورة والمنزلة بعد ثورة الشيخ حسن طوبار، جديرا بالثناء والإعجاب، ولعل سياسته في ذلك الظرف هي التي أهلته في نظر نابوليون ورشحته لتولي الزعامة في غيبته، وكان الفرنساويون في حاجة إلى رجل لين في غير ضعف، شديد في غير عنف، مثل الجنرال دوجا، في الوقت الذي غادر فيه نحو نصف الجيش الفرنسي أرض مصر إلى سوريا، والذي هدد فيه المماليك وعرب الحجاز، بل وعرب الغرب، أرض مصر من جميع الجهات، فكان من المحتم على مديري الأمور منهم، ولاة وحكاما، أن يتوددوا ويتلطفوا مع المصريين وأن يعاملوهم بأحسن أساليب المعاملة، مع المحافظة الدقيقة على تقاليدهم وعاداتهم.
وكان من خير المساعدين للجنرال دوجا في مهمته الشاقة، مسيو بوسيلج مدير الأمور المالية الذي كان يسميه الجبرتي «بوسليك الروزنامجي» والجنرال دوستين، الذي كان حاكما للقاهرة، وكان يلقب بالقائمام.
وكانت إدارة أمور الوجه القبلي وملاقاة حوادثه العصيبة ومحارباته العتيقة مع مراد بك وحسن بك الجداوي وعثمان بك الشرقاوي، وعرب الحجاز تحت زعامة الشريف الجيلاني، موكولة إلى الشجاع الباسل الجنرال ديزيه الذي وطد سلطة الفرنساويين في الوجه القبلي من الجيزة إلى أسوان.
وقد أحسن الجنرال دوجا السياسة مع المصريين في العاصمة، واهتم بالأمور الصغيرة والكبيرة حتى اكتسب ثقة المشايخ والأعيان والمصريين عامة، فمن ذلك أن نابوليون لما برح مصر إلى سوريا في الخامس من شهر رمضان اجتهد الفرنساويون بإرشاد الجنرال دوجا في أن يسلكوا مع المسلمين سلوكا لائقا بالآداب الإسلامية في ذلك الشهر، وأصدروا الأوامر المشددة للمسيحيين من أقباط وشوام بأن يحافظوا على التقاليد المرعية في السنوات السابقة، وبأن لا يتجاهروا بالأكل والشرب في الأسواق، ولا يدخنوا التبغ، ولا يلبسوا العمائم البيض والشيلان الكشمير؛ إلى غير ذلك من التقاليد المرعية في تلك الأيام، ثم أخذ الفرنساويون يزورون المسلمين في ليالي رمضان «ويدعون أعيان الناس والمشايخ والتجار للإفطار والسحور ويعملون لهم الولائم»، ويقدمون لهم الموائد على نظام المسلمين وعاداتهم، ويتولى ذلك الطباخون والفراشون من المسلمين تطمينا لخواطرهم، ويذهبون أيضا ويحضرون عندهم الموائد ويأكلون معهم وقت الإفطار، ويشاهدون ترتيبهم ونظامهم ويحذون حذوهم، ووقع منهم من المسايرة للناس، وخفض الجانب، ما يتعجب منه، وقال الشيخ الجبرتي صاحب الكلمة المتقدمة: «وانقضى شهر رمضان ووقع فيه السكون والطمأنينة وخلو الطرقات من العسكر واختفائهم بالليل جملة كافية، وانفتاح الأسواق والذهاب والمجيء وزيارة الإخوان ليلا، والمشي على العادة بالفوانيس ودونها، واجتماع الناس للسهر في الدور والقهاوى ووقود المساجد وصلاة التراويح وطواف المسحرين والتسلي بالرواية والنقول وترجي المأمول وانحلال الأسعار.» ثم قال: «ولما كان يوم العيد أطلق الفرنساويون المدافع تكريما وإجلالا، وطافوا على أعيان البلد للتهنئة والتبريك والمجاملة» ... إلى غير ذلك من الحال الاجتماعية التي تدل على تلطف الفرنساويين، وسلوكهم مسلك الحكمة والسياسة بفضل دهاء الجنرال دوجا وفطنته.
ومما يجب ذكره في باب الأعمال الطيبة التي تمت في تلك المدة إنشاء أول جسر على نهر النيل بين الجيزة والقاهرة، وقد أنشئ ذلك الجسر في النقطة التي يوجد فيها الآن كبري عباس، قال الجبرتي: «وضع الفرنساويون جسرا من مراكب مصطفة، وعليها أخشاب مسمرة من بر مصر بالقرب من قصر العيني إلى الروضة قريبا من موضع طاحون الهواء تسير عليه الناس بدوابهم وأنفسهم إلى البر الآخر، وعملوا كذلك جسرا عظيما من الروضة إلى الجيزة.»
وكذلك نذكر مع الثناء على الجنرال دوجا ورجاله تلك الاحتياطات الصحية الشديدة لمنع انتشار الطاعون وتفشيه في البلاد؛ إذ أصدروا الأوامر الصريحة للأهالي ونشروا المنشورات في الطرق والجهات المختلفة وقرروا العقوبات الصارمة لمن يتهاون في أمر الطاعون وعدواه، ولعل تلك الاحتياطات الصحية كانت الأولى من نوعها في هذه الديار لوقاية أهلها من أوبئة الطواعين التي فتكت بأهلها فتكا ذريعا في أوقات عديدة.
1
ويجمل بنا أن نقول هنا: إنه كان من المحتمل، لو ترك الفرنساويون وشأنهم مع المصريين، ولم توجد لهم إنجلترا القلاقل والمشاكل وساروا بالقطر سيرة دوجا خلال الحملة الشامية، أن تتوطد بين الفريقين دعائم الوفاق والتفاهم.
أما الحوادث المهمة التي وقعت في مصر في الحملة السورية فتنحصر في المسائل الآتية: (1)
ثورة أمير الحج. (2)
ثورة المهدي بمديرية البحيرة. (3)
المخابرات مع أمراء المسلمين. (4)
حروب ديزيه مع مراد بك والمماليك وعرب الحجاز في الصعيد.
وسنشرح مع الإيجاز المفيد تلك المسائل واحدة واحدة. (1) مسألة أمير الحج
كانت وظيفة إمارة الحج من الوظائف الكبرى في القطر المصري، وكان لا يتقلدها إلا كبار الأمراء من المماليك، ولهذه الوظيفة مرتبات ثابتة وأوقاف كثيرة، فلما قدم الفرنساويون إلى مصر كان أمير الحج صالح بك من أتباع مراد بك، قادما بالمحمل والحجاج المصريين من الأقطار الحجازية، وحاول نابوليون أن يستدعيه إلى القاهرة كما سبق لنا ذكر ذلك فرفض، وانضم إلى إبراهيم بك عند بلدة بلبيس وسافر معه إلى الأقطار الشامية وتوفي بها في تلك السنة، ولكي يؤكد نابوليون للمصريين أنه محافظ على تقاليدهم الدينية وعاداتهم الإسلامية، ارتأى أن يسند وظيفة إمارة الحج للمدعو مصطفى بك الذي كان في وظيفة كتخدائية الباشا أو وكيله أو نائبه، قال المعلم نقولا الترك في حوادث الأيام الأولى من احتلال الفرنساويين: «ثم إن أمير الجيوش أحضر مصطفى أغا كتخدا باكير «بكر» باشا وأمنه وألبسه فروا، وجعله أمير الحاج وأمره أن يباشر لوازم الحج وما يحتاج إليه، وقال له: لماذا الوزير فر هاربا مع المماليك؟ ألم يعلم أننا متحدون مع الدولة العثمانية، ونحن ما حضرنا هذه الديار إلا بإذن السلطان، ثم أمر أن يحرر إلى بكر باشا وأن يرجع إلى القلعة كما كان، وله الكرامة والأمان.» وظاهر من هذا أن نابوليون تعطف على مصطفى بك وأحسن إليه وقلده أكبر المناصب.
وقد بحثت كثيرا لعلي اهتدي إلى ترجمة لمصطفى بك هذا في مجلدات الجبرتي أو في سواه فلم أعثر على اسمه إلا في وقت اختياره لإمارة الحج، ويغلب على الظن أنه كان من المماليك، وأنه كان في وقت من الأوقات أغات الإنكشارية «قومندان وجاق؛ أي: فرقة الإنكشارية» ثم تولى كتخدائية الباشا، وبقي بعد دخول الفرنساويين مقربا منهم، وقد عهدوا إليه تشغيل الكسوة الشريفة ومنحوه مرتبات ومخصصات إمارة الحج وجعلوه أمينا على ممتلكات الباشا الوالي التي لم يمسوها بسوء، فلما قصد نابوليون الغارة على سوريا اختار كما ذكرنا من المشايخ مصطفى الصاوي وسليمان الفيومي والدواخلي والعريشي لمرافقته، واختار معهم مصطفى بك أمير الحج وأدهم أفندي بجمقشي زاده قاضي القضاة، وكان النظام الذي رسمه لهم نابوليون هو أن يسبقهم بمرحلة، فلما وصل إلى الصالحية كانوا هم في بلبيس، ولما برح الصالحية طلب إليهم أن ينتقلوا إليها، قال الشيخ الجبرتي: «فبلغهم وقوف العرب بالطريف فخافوا من المرور فذهبوا إلى العرين «كذا» فأقاموا هناك، وأخذ عسكر الفرنسيس جمالهم فأقاموا مكانهم فقلق المشايخ الدواخلي والصاوي والعريشي ، وخافوا سوء العاقبة ففارقوهم وذهبوا إلى العرين، وتخلف الفيومي مع كتخدا الباشا والقاضي.» وذكر الجبرتي أيضا «أن الشيخ الصاوي والعريش والدواخلي وآخرين خافوا عاقبة الأمر، وذهبوا إلى القرين «بالقاف» وحصل الدواخلي توعك وتشويش.» وقال أيضا: «واتفق أن الشيخ الصاوي أرسل إلى داره مكتوبا، وذكر في ضمنه أن سبب افتراقهم من الجماعة أنهم رأوا من كتخدا الباشا أمورا غير لائقة، فلما حضر ذلك المكتوب طلبه الفرنساوية المقيمون بمصر وقرءوه، وبحثوا عن الأمور غير اللائقة فأولها بعض المشايخ أنه قصر في حقهم والاعتناء بشأنهم فسكتوا وأخذوا في التفحص، فظهر لهم خيانته ومخامرتهم عليهم» ... وزاد الجبرتي على ما تقدم إيضاحا لحوادث 17 منه، إلا أنه لم يذكر لنا عرضه من عبارة تخوف المشايخ الثلاثة «سوء العاقبة» سوى قوله: «إن الفرنساويين ظهرت لهم خيانة مصطفى بك وعصيانه.»
وحقيقة ما وقع من مصطفى بك، كما يؤخذ من أقوال المؤرخين الفرنساويين ومن عبارات الجبرتي المتقطعة، ومن روايات المعلم نقولا المبعثرة، أن مصطفى بك لما كان في جهة الشرقية وصلت إليه أنباء من أحمد باشا الجزار، ومن رئيسه السابق بكر باشا يخبرانه فيها أن الجيش العثماني قادم لتخليص مصر من جهات شتى، وخيل له أن نابوليون قد ذهب بجيشه إلى سوريا، وأنه يستطيع لما له من مركز إمارة الحج، ومن صفة الوكالة عن والي الدولة في مصر، أن يثير على الفرنساويين حربا عوانا، فأثر على القاضي الذي سبق لنا وصفه بالضعف والخور في حوادث ثورة القاهرة، وأراد أن يؤثر على المشايخ الأزهريين، وهم حريصون دائما على رعاية صوالحهم، فلم يتأثر بعض التأثر إلا الشيخ سليمان الفيومي وعاد الثلاثة الآخرون للقاهرة، وانتقل مصطفى بك والقاضي والشيخ الفيومي وبعض التجار والجند الوجاقلية الذين كانوا معهم، ونادوا بالجهاد وخلاص البلاد، وفي حوادث يوم 17 شوال، يقول الجبرتي: «إن مصطفى بك انتقل ومن معه إلى كفور نجم، ثم إلى منية غمر ودقدوس وبلاد الوقف، وانضم إليه الجبالي وبعض العرب العصاة، فأكرمهم وخلع عليهم وأخذ يفيض الأموال، وحين كانوا على البحر «يريد على نهر النيل في جهة ميت غمر» مرت بهم سفن تحمل الميرة والدقيق إلى الفرنسيس بدمياط، فاغتصبوا تلك السفن وأخذوا ما فيها قهرا.»
والخلاصة أن مصطفى بك قلب للفرنساويين ظهر المجن وبادأهم بالعدوان اعتمادا على قدوم جيش الجزار وإبراهيم بك من سوريا، فأمتد لهيب الثورة في مديريتي الشرقية والدقهلية، قال لاكروا «وهو ناقل عن كتاب برتران بإملاء نابوليون»: إن مصطفى بك أمير الحج وصلت إليه رسائل من الجزار بأن بونابرت قد قتل، وإن الجيش العثماني محيط بالجيش الفرنساوي، فرفع مصطفى بك راية العصيان جهارا، وأصدر منشورا يحرض أهالي مديرية الشرقية على الثورة، وذكر في ذلك المنشور، أن بونابرت قتل وأن جيشه قد تبدد، فانضم إليه بعض الأهالي حتى بلغت قوته نحو خمسمائة من المشاة ومثلها من الخيالة، فلما وصلت الأخبار إلى القاهرة، أصدر الجنرال دوجا أمره إلى الجنرال لأنوس حاكم إقليم المنوفية بمطاردة مصطفى بك والقضاء عليه، فصدع بما أمر، وبعد عناء ومشاق ومقابلات عديدة، تفرقت قوة أمير الحج شذر مذر، وفر هو هاربا إلى دمياط، وبحث لأنوس عن القرى التي اشتركت في الثورة وأحرقها، لتكون لغيرها مثالا وعبرة، وقد قال نابوليون في خطابه إلى حكومة الديركتوار المؤرخ 18 يونيه، رأى بعد أربعة أيام من وصوله إلى القاهرة، «وهكذا فقد ذلك الرجل - يريد مصطفى بك - في يوم واحد جميع الخيرات التي نالها على يدنا، وأصبح مشردا مطرودا من وطنه، بعيدا عن أسرته التي لا تزال بالقاهرة، وفقد كل كرامة واحترام».
وذكر الجبرتي في حوادث 24 شوال، أن الفرنساويين صادروا ممتلكات مصطفى بك وقبضوا على كتخدا الذي كان ناظرا على الكسوة، وأخذوا ما تركه بكر باشا من الأمتعة والملابس والسروج والخيل والجمال، قال: «فانقبضت خواطر الناس لذلك لأنهم كانوا مستأنسين بوجوده ووجود القاضي، ويتوسلون بشفاعتهما عند الفرنسيس وكلمتهما عندهم مقبولة وأوامرهم مسموعة» ... فليتأمل القارئ في الغرض من قول الجبرتي: «وكان الناس مستأنسين بوجود القاضي وأمير الحج.» كأنما كان وجود هذين الرجلين الممثلين للسلطة العثمانية خير ضمان للمصريين من الاحتلال الفرنساوي!! أو كأنما كان وجودهما يمثل في نظر القوم في ذلك الزمن ما كان يمثله وجود الغازي أحمد مختار باشا في زمن الاحتلال الإنجليزي! أم ليت شعري ماذا أراد الجبرتي من معنى الاستئناس بوجود ذينك الرجلين؟ وقد سبق لنا ذكر القاضي وأخلاقه، فلنضرب عنه صفحا، وأما مصطفى بك هذا فلم يكن من أهل المروءات ولا من ذوي الكفايات، يدلك على هذا بقاؤه في مصر وعدم سفره مع رئيسه، كما يدلك على انحطاط نفسه وجبنه، أن المنشورات التي بعثت بها الدولة إلى مصر، وهي التي جئنا على نصها العربي وصلت إلى مصطفى بك فأخذها هذا وذهب بها إلى نابوليون يتقرب إليه ويتملق،
2
ومن دلائل سخافته وضعف خلقه أنه بعد أن أغرى القاضي وأضر به وبأولاده وأسرته، وبعد أن سبب الأذى للأهالي الذين عضدوه، وحرقت قراهم، وصودرت أملاكهم، يكتب إلى الفرنساويين متملقا مستعطفا، فقد ورد في حوادث يوم الثلاثاء 26 شوال في الجبرتي ما نصه حرفيا «وفيه حضر إمام كتخدا الباشا «الإمام الذي يصلى به» ومعه مكتوب فيه الثناء على الفرنساوية، وشكر صنيعهم واعتنائهم بعملهم موكب الكسوة والدعاء لهم، وأنه مستمر على مودته ومحبته معهم، وفي آخر المكتوب وإن بلغكم من المنافقين عنا شيء فهو كذب ونميمة.» قال فقرئ كتابه بالديوان فلما فهمه الفرنسيس كذبوه ولم يصغوا إليه، وقالوا: إن خيانته تثبتت عندنا فلا ينفع الاعتذار، وكتبوا له أنه إن كان صادقا في مقالته فليذهب إلى ساري عسكر بونابرت بالشام، وأمهلوه ست ساعات بعد وصول الجواب إليه، وبعدها يأمرون العساكر بمطاردته والقبض عليه، ثم أصدر الجنرال دوجا منشورا للمصريين يعلنهم بعزل أمير الحج، ويثني على المصريين لعدم اشتراكهم في تلك الفتنة ويشير على الحجاج بمرافقة الكسوة والصرة ... إلخ.
ولم يعرف الجبرتي ما جرى على مصطفي بك سوى أنه ذكر أنه ربما رحل إلى الشام، ولكن المعلم نقولا روى أن مصطفى بك فر إلى غزة ومنها إلى عكا، فلما دخل على الجزار، قال: أنت الذي كنت أغاة الإنكشارية وأمير الحج «يريد عند الفرنساويين» قال: نعم ولكني هربت منهم وأتيت اليك ، فقال الجزار: ما أنت إلا جاسوس ثم أمر بقتله.
وهكذا كانت خاتمة مصطفى بك كتخدا الباشا وأمير الحج وزعيم هذه الثورة، أما الشيخ سليمان الفيومي الذي اشترك مع مصطفى بك أمير الحج في هذه الثورة أو سار معه شوطا بعيدا فيها، فلم أعثر على ما يثبت أن الفرنسيين عاقبوه أو عنفوه، لا سيما وأنه عضو في الديوان الخصوصي ومن كبار هيئة العلماء، ولم يذكر الجبرتي عند ذكره الفيومي في وفيات سنة 1225 هجرية - وهي السنة التي توفي فيها الشيخ سليمان الفيومي؛ أي: بعد هذا التاريخ بنحو ثلاثة عشر عاما - شيئا عن هذه الثورة وانضمامه إلى القائم بها، بل بالعكس قال عنه: «إنه لما طوقت الفرنساوية البلاد المصرية وأخرجوا منها الأمراء وخرج النساء من بيوتهن، وذهبن إلى داره أفواجا أفواجا حتى امتلأت داره وما حولها من الدور بالنساء، فتصدى لها وتداخل الفرنساوية ودافع عنهن، وأقمن بداره شهورا، وأخذ أمانا لكثير من الأجناد، وأحبه الفرنساوية وقبلوا شفاعاته ويحضرون إلى داره، ويعمل لهم الولائم، وساس أموره معهم وقرروه في رؤساء الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام.» وقال أيضا:
ولما نظموا أمور القرى والبلدان المصرية على النسق الذي جعلوه، ورتبوا على مشايخ كل بلد شيخا ترجع أمور البلدة ومشايخها إليه، جعل الشيخ سليمان الفيومي شيخا للمشايخ، مضافا ذلك لمشيخة الديوان وحاكمهم الكبير فرنساوي يسمى «ابريزون» فازدحمت داره بمشايخ البلدان، فيأتون إليه أفواجا ويذهبون أفواجا، وله مرتب خاص خلاف مرتب الديوان، واستمر معهم في وجاهة إلى أن انقضت أيامهم وسافروا إلى بلادهم، وحضرت العثمانية والوزير يوسف باشا كان الشيخ في عداد العلماء المتصدرين. ا.ه.
وغرضنا من نقل هذه الشذرات، من ترجمة حياة الشيخ سليمان الفيومي، إظهار حالة العلماء وتصرفهم مع الفرنسيين، واستفادتهم من تلك الظروف، وأردنا كذلك أن نلفت النظر إلى الفقرة الخاصة بالنظام الذي وضعوه لمشيخة البلاد، فإن هذا البيان الذي ذكره الجبرتي عفوا، في ترجمة الشيخ سليمان الفيومي، لم يذكر في الكتب الفرنسية ولا في غيرها، حتى لقد صعب علينا رد الاسم الفرنسي - «أبريزون » - إلى أصله.
3 (2) ثورة المهدي في مديرية البحيرة
دعوى المهدوية قديمة العهد في الإسلام، ولطالما جلبت على المسلمين من أسباب المشاكل والحروب والرزايا والتحزبات والانقسامات، ما لا تزال ذكراه مؤلمة لنفوس المسلمين، وقد حدث في أواخر شهر ذي القعدة من سنة 1213 هجرية، أن رجلا مغربيا لم يذكر لنا واحد من المؤرخين اسمه، وكل ما ذكره الجبرتي عنه لا يتعدى بضع سطور نأتي على نصها قبل شرح ثورته ودعاويه الطويلة العريضة ومحارباته للفرنساويين أياما عديدة، قال الجبرتي في ختام أخبار شهر ذي القعدة: «ومن حوادثه أن طائفة من عرب البحيرة يقال لهم: عرب الغز، جاءوا وضربوا دمنهور وقتلوا عدة من الفرنسيس وعاثوا في نواحي تلك البلاد حتى وصلوا إلى الرحمانية ورشيد، وهم يقتلون من يجدونهم من الفرنسيس وغيرهم، وينهبون البلاد والمزروعات.» ثم قال في حوادث 2 من شهر ذي الحجة: «وتجمع كثير من الفرنسيس وذهبوا إلى جهة دمنهور، وفعلوا بها ما فعلوا في بني عدي من القتل والنهب لكونهم عصوا عليهم بسبب أنه ورد عليهم رجل مغربي يدعي المهدوية، ويدعو الناس ويحرضهم على الجهاد، وصحبته نحو الثمانين نفرا، وكان يكاتب أهل البلاد ويدعوهم للجهاد، فاجتمع عليه أهل البحيرة وغيرهم وحضروا إلى دمنهور وقاتلوا من بها من الفرنساوية، واستمر أياما كثيرة يجتمع عليه أهل تلك النواحي وتفترق، والمغربي المذكور تارة يغرب وتارة يشرق.» ا.ه.
هذا كل ما ذكره الجبرتي عن ثورة المغربي المدعي المهدوية في مديرية البحيرة، واضطراب روايات الجبرتي ونقصها راجع إلى أنه مقيم في القاهرة، وأن الفرنساويين، لمقتضى السياسة، يمنعون تسرب الأخبار الصحيحة عن الثورات والحوادث في داخلية البلاد، والظاهر من رواية المؤرخين الفرنساويين أن ثورة هذا المغربي استفحل أمرها وعظم شأنها حتى اضطربوا لأمرها، أما المعلم نقولا فلم يذكر كلمة واحدة عن حوادث هذه الثورة.
وخلاصة ما كتب الفرنساويون في هذا الصدد هو أن ذلك الرجل المغربي كان من أهالي «دونه» من ولاية طرابلس الغرب، وأنه اشتهر بالتقوى والصلاح بين قومه حتى كبر اعتقادهم فيه فادعى المهدوية، وكان رجلا جريئا فصيح اللسان، قوي الجنان يدعي أنه لا يأكل ولا يشرب، وأن الملائكة تغذيه وتحميه، وخرج ذلك الرجل من بلدته وليس معه إلا خمسة وعشرون رجلا، فلما وصل إلى واحة سيوة وجد بها قافلة من الحجاج المغاربة فيها نحو أربعمائة رجل من الأشداء الأقوياء والمسلحين، فخطب فيهم وحرضهم على الجهاد ضد الكفار.
قال أولئك المؤرخون إنه في هما بين 24 و25 إبريل سنة 1799 «الموافق 18 القعدة» انقض ذلك المغربي على رأس نحو ستمائة رجل على مدينة دمنهور فاستولى عليها بغتة، وقبض على من فيها من الجنود الفرنساويين وفتك بهم قتلا وذبحا من أولهم إلى آخرهم، واستولى على سلاحهم وعلى مدافع كانت معهم، فلما أشيع أمر انتصاره هذا في مديرية البحيرة هرع إليه الناس من كل فج، وكبر اعتقادهم فيه فاستفحل أمره، وعظم شأنه، وغلا في دعاواه، فكان يقول: إن رصاص الكفار وسيوفهم لا تنال منه شيئا وإنه يذر الرماد في عيون الفرنساويين فيقتلهم، إلى غير ذلك من دعاوى الكرامات التي بنى عليها أمثاله ترهاتهم وخزعبلاتهم وشهرتهم، وبلغ عدد الذين انضموا تحت لوائه، على رواية الفرنساويين، أكثر من أربعة آلاف مقاتل، ولكن ليس فيهم سوى خمسمائة رجل مسلحين، وكان في الرحمانية فرقة من الجند الفرنساوي تحت قيادة الضابط لفيفر “Lefebvre”
فلما اتصلت به أخبار استيلاء المهدي على دمنهور وقتله حاميتها الصغيرة، سار بقوة مؤلفة من خمسمائة جندي بسلاحهم الوافر لملاقاة المهدي والقضاء عليه، فوقعت بين الفريقين معركة كبيرة بين دمنهور والرحمانية، فقتل من الفلاحين العزل من السلاح خلق كثير إلا أن الثائرين تمكنوا بكثرتهم من الالتفاف حول القوة الفرنساوية وقتلوا منها عددا كبيرا، فاضطر الضابط «ليفيفر» بعد معركة دامت عدة ساعات إلى الانسحاب والالتجاء إلى الطابية المقامة في الرحمانية.
ولما وصلت أخبار هذه الثورة إلى القاهرة اضطرب الجنرال دوجا وأصدر أمره للجنرال لأنوس الذي كان مكلفا بمطاردة مصطفى بك أمير الحج، بأن ينتقل بالقوة التي معه إلى البحيرة، وأصدر أمرا ثانيا للجنرال فوجير “Fugiere”
حاكم إقليم الغربية بالسير بقوة كافية إلى الرحمانية، فوصل إلى تلك النقطة في 5 مايو، وبرح الجنرال لأنوس ميت غمر في ذلك اليوم، وانضم إلى القوة المحاربة في الرحمانية يوم 9 من ذلك الشهر، وتولى لأنوس قيادة الجند التي تحت رياسة فوجير وليفيفر وسار بتلك القوة الكبيرة قاصدا دمنهور، فدخلها في اليوم التالي «10 مايو» وكان الجند الفرنساوي قد بلغ منه الحنق والغيظ مبلغا شديدا، فأخذ يفتك بالأهالي فتكا ذريعا، انتقاما على رأيهم للذين قتلوا من حامية دمنهور، قال «لاكروا» ما نصه: «ولما كان أهالي دمنهور قد اشتركوا في الثورة وضربوا مثلا سيئا لأهالي البحيرة لذلك قضي عليهم رجالا ونساء وأطفالا بالفناء قتلا بحد السيف، وأشعلت النار في دمنهور حتى احترقت عن آخرها، ولم يبق من دورها ومساكنها غير أطلال قائمة، وأحجار قاتمة، وجثث هامدة.»
وكان أول الهاربين الفارين من تلك الواقعة المحزنة ذلك التقي الورع صاحب الكرامات، والآيات البينات، الذي تحرسه الآلهة! وتغذيه الملائكة! ولا تميته السيوف! ولا تحرقه النيران! انتهز ذلك الكاذب المنافق فرصة دفاع الأهلين عن أولادهم وأعرضهم وما يمتلكون من حطام الدنيا، وفر مع جماعة من أتباعه على ظهور الخيل إلى حدود الصحراء من شمال مديرية البحيرة، تاركا وراءه أولئك المساكين يتجرعون غصص الموت، ويرون بأعينهم حشاشات أفئدتهم، وفلذات أكبادهم تذبح على شفار السيوف وتحترق في لهيب النار!
وجرم جره سفهاء قوم
فحل بغير جانيه العقاب
ولكن ذلك المفتون لم يسلم من يد القصاص العادل؛ لأن الجنرال لأنوس لم يكتف بتبديد شمل تلك القوى المهدوية، بل سار بقوة كافية لمطاردة الفارين حتى أدرك في العشرين من شهر مايو «المهدي المنتظر» عند الصحراء، وهناك اخترقت صدره رصاصة فسقط يتضرج في دمائه.
ومن غرائب مقتضيات الجهل أن أولئك المغاربة والعربان المفتونين بمهديهم لم يريدوا أن يعتقدوا عن قائدهم قد مات بل تفرقوا شذر مذر عصابات وجماعات في أنحاء البلاد يوهمون الناس أن المهدي لم يمت، وإنما قد اختفى وهو يحارب بسيفه البتار، من وراء ستار ... ا.ه رواية الفرنسيين. •••
ما تقدم من رواية ذلك المغربي الثائر ضد الفرنسيين مستقى من المصادر الفرنسية التي لم يكن لدينا سواها، ولكني عثرت في اللحظة الأخيرة على بيان من مصدر موثوق بصحته وروايته؛ لأنه أولا مصدر محايد، وثانيا شاهد عيان، وصاحب هذه الرواية هو الكولونيل روبرت توماس ويلسون الإنجليزي أحد ضباط الحملة الإنجليزية التي قدمت لمصر تحت قيادة الجنرل أبو كرومبي للاشتراك مع الجيش التركي في إخراج الفرنسيين من أرض مصر.
فقد وضع الكولونيل ويلسون كتابا ذا قيمة تاريخية عظمى عن تلك الحملة
4
روى فيه أن الذي يسميه الفرنسيون «المهدي» صاحب الثورة في البحيرة لم يقتله الفرنسيون، وأنه اجتمع بالجيش الإنجليزي بالقرب من الرحمانية وسار معه حتى وصل إلى القاهرة، وأنه لم يكن شخصا عاديا، بل كان أحد أمراء المغرب الأقصى واسمه مولاي محمد، وقد أطال الكولونيل ويلسون في وصف ذلك الرجل فقال عنه: إنه اجتمع به وإنه رجل مهيب الطلعة، حسن البزة، نبيل النزعة، وإنه رأس الحركة الثورية التي قامت في دمنهور في غيبة نابوليون في سورية، قال: «وكان يركب فرسا عربية من أجمل الجياد التي وقعت العين عليها، وكانت عمامته وجبته ناصعتي البياض، موشاة حوافيها بالذهب وتتدلى على كتفيه شراريب من الدمقس الأحمر، إلى غير ذلك من جميل الملبس وجليل الخلق.»
فمن يكون هذا الأمير المغربي مولاي محمد، ذلك ما لم أتمكن من تحقيقه وغاية ما وصل إليه بحثي أنني عثرت على الرواية الآتية في الجبرتي، وهي قبل قدوم الفرنسيين إلى مصر بنحو سبع سنوات؛ إذ قال في أخبار 13 رمضان سنة 1206 هجرية ما يأتي:
وفيه حضرت صدقات من مولاي محمد صاحب المغرب ففرقت على فقراء الأزهر وخدمة الأضرحة والمشايخ المفتيين والشيخ البكري والشيخ السادات والعمريين على يد الباشا بموجب قائمة ومكاتبة.
وهذا النبأ وحده من بين أنباء الجبرتي ورواياته في مجلداته الأربعة يثبت أنه كان هناك من أمراء المغرب أمير يدعى «مولاي محمد»، وأنه كانت له صلة بمصر، وأنه كان يرسل الصدقات إلى العلماء والمشايخ وطلاب العلم في الأزهر الشريف، فإذا ضم هذا إلى رواية ويلسون الذي قابله ورآه وحادثه ووصفه كما عرفه، كان من المحقق أنه لم يكن رجلا مشعوذا، وأنه قدم مصر بغتة بجماعة من عرب الصحراء الغربية وأهل الغرب لمحاربة الفرنسيين عن غيرة دينية، وأنه لم يقتل كما روى كتاب الفرنسيين الذين أجمعوا على الخلاصة التي تقدم بيانها.
وكان من سوء حظ الفرنساويين أن عصابة من تلك العصابات المفتونة طوحت بها خاتمة المطاف، بعد ذلك التاريخ بنحو شهر من الزمان، إلى جهة بحيرة أدكو، وكان الجنرال دومارتين “Doumartin” «وهو من أكبر القواد الفرنساويين ورئيس فرق الطوبجية ومن كبار المهندسين، وهو الذي أخضع ثورة القاهرة الأولى كما يذكر القراء بمدافعه التي سلطها على المدينة من تلال البرقية والمرتفعات المحيطة بها» - يسير في قارب مسلح ووجهته الإسكندرية للوقوف على كيفية تحصينها وخطط الدفاع عنها، ويظهر أنه كان موفدا من قبل نابوليون لأداء هذه المهمة بعد عودتهما معا من سورية؛ أي: بعد 14 يونيه بقصد التثبت من قوة الدفاع عن شواطئ مصر خوفا من الأساطيل الإنجليزية والعثمانية القادمة بجيش لمصر، كان ذلك القائد الكبير يسير في ذلك القارب فالتقت به عصابة مشردة من عصابات ذلك المهدي، فصبت عليه ومن معه في القارب نارا حامية قضت على أكثر من نصف البحارة وأصيب «دومارتين» بعدة رصاصات، فنقل بها جريحا إلى رشيد ومات بسببها في التاسع من شهر أغسطس، فخسر الفرنساويون بموته خسارة كبيرة، وتولى مكانه في رياسة الطوبجية الجنرال سونجي “Songis” .
ولا نجد مناصا من تذكير القراء بما كتبناه عن ثورة القاهرة وما يجلبه أولئك الأفاقون مثل بدر المقدسي السوري، وذلك المهدي، أو الأمير المغربي، على الأهالي الآمنين المطمئنين، من البلايا والمصائب، كما حصل لأهالي دمنهور، وكما وقع لسكان القاهرة من قبلهم، ولا زلنا نقول ونكرر إنه مع شديد رغبة الناس في الخلاص من الحاكم الأجنبي، فإن مصلحتهم وظروفهم تقضي عليهم بالتزام السكينة والابتعاد عن القلاقل ما لم تتكافأ القوى ويضمن الفوز، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وكانت تلك المصلحة وتلك الظروف تقضيان على الحاكم الأجنبي من جانب آخر أن يدرك شعور العامة، ولا يمكن المهيجين المفتونين من إثارة الخواطر بالضرب على الأوتار الحساسة من العواطف القومية، وأن يسلك مع الذين قدر عليهم القضاء بالوقوع تحت سيطرته مسلك الحكمة والعدل والإنصاف، وأن يدع إدارة أحكام البلاد في أيدي أبنائها حتى لا يشعر الأهلون بثقل وطأة السلطة الأجنبية، فبذلك - وبه وحده - يقفل باب التحريض والتهيبج في وجوه طلاب الصيد في المياه العكرة، ممن لا ناقة لهم في البلاد ولا جمل. (3) المخابرات مع أمراء المسلمين
كانت حملة نابوليون على سورية مدعاة للتأثير العظيم على العالم الإسلامي؛ لأن محاربة الدولة العثمانية في سوريا بجيش مدرب تحت قيادة رجل مثل نابوليون بونابرت كان من شأنه أن يبعث الوجل والاضطراب في قلوب أمراء المسلمين، الذين كانوا تابعين للدولة العثمانية اسما، وكانوا يتحينون الفرص للخلاص من سيطرتها المركزة في القسطنطينية - تلك السيطرة التي كانت تخول لها إرسال الولاة الظالمين المتغطرسين الضالين إلى ولاياتها المختلفة، ولهذه الأسباب كان كبار الأمراء وذوي العصبية من ولايات الدولة العثمانية ينظرون إلى نتيجة الحملة الفرنسية في سوريا لينضموا، أو ليشايعوا، أو ليظهروا الولاء للغالب، أملا في الخلاص، ووسيلة للاستقلال عن الآستانة، وكان من هؤلاء الأمير بشير الشهابي وأمثاله في فلسطين وسوريا، ومنهم أيضا أمير مكة الشريف مسعود بن غالب.
وقد سبق لنا أن ذكرنا أن نابوليون انتهز فرصة موسم الحج فأرسل خطابا لشريف مكة يذكر له فيه استيلاءه على مصر ويدعوه إلى المصادقة، ويظهر أن الشريف غالب لم يحفل بالرد على نابوليون، ولكنه حين علم أن الفرنسيين قاموا بحملة على سورية وأخذوا يهاجمون عكا، وأنه مما يدخل في حيز الممكنات أن تتفكك عرى الدولة العثمانية، بعث بخطاب مطول إلى القاهرة يظهر فيه التودد نحو الفرنسيين ويعدهم بالمعونة والتأييد.
وقد نشر الجبرتي نص هذا الخطاب؛ لأن الفرنسيين أذاعوه في مصر ليقيموا البرهان على أن أمراء المسلمين يراسلونهم ويظهرون العطف نحوهم.
وقد رأينا من الواجب إثبات صورة ذلك الخطاب في هذا الكتاب، لما له من القيمة الأثرية التاريخية ولإظهار أسلوبه العربي في ذلك العهد، وصورته كما يأتي:
من الشريف غالب بن مساعد شريف مكة المشرفة إلى عين أعيانه، وعمدة إخوانه «بوسليك» مدير أمور جمهور الفرنساوية، وممهد بنيان السياسة بسداد همته الوفية؛ وبعد: فإنه وصل إلينا كتابك، وفهمنا كامل ما حواه خطابك، مما ذكرت من وصول «قنجتنا» وأنك أرسلت هجانا برفع العشور عن البن، وبذلت الهمة في شأن التصرف في نفاذ بيعه، وتأملنا في كتابك فوجدنا من صدق مقاله ما أوجب تمسكنا بوثاق الاعتماد عن تموه غياهب الشك في كل المراد، ووجب الآن علينا تكوين أسباب المصادقة، والمبادرة فيما ينظم مهمات تسليك الطرق بيننا وبينكم عن الوعث وزوال المناكرة، وشهلنا الآن إلى طرفكم خمسة مراكب مشحونة من نفس بندرنا جدة المعمورة في هذا الأوان، ولا أمكن لنا خروج هذا المقدار إلا بمشقة علاج مع سلب اطمئنان التجار؛ لأن كثرة أكاذيب الأخبار، أوجبت لهم مزيد الارتياب والأعذار، بحيث ما بيننا وبينكم إلا العربان المختلفة رواياتهم على ممر الأزمان، وأما نحن فقد جاءتنا منكم قبل هذا المكاتيب، التي أوجبت عندنا من خطاب كتبكم زوال تلك الظنون والأكاذيب، فخاطرنا مستقر بالطمأنينة من قبلكم، لما ثبت عندنا من ألفاظ كتبكم، والمطلوب في حال وصول كتابنا إليكم إرسال عسكر من لديكم إلى بندر السويس لأجل حفظ أموال الناس، ويصلوا بالأبنان إلى مصر، ويبيع التجار، ويزول وقف الأسباب والبأس، وتهتموا في رجوعهم كذلك قبل بأوان، ليكون ذلك سببا في كثرة وفود الأبنان، وعند رجوعهم يعد البيع من مصر إلى السويس كذلك تصحبوهم بالعسكر من طرفكم الوثيق، ليكونوا محافظين لهم من شرور الطريق؛ لأن هذه المرة ما أرسل إليكم هذا المقدار إلا تجربة واستخبارا من أعيان التجار، وعند مشاهدة الإكرام والاحتفال بهم، في كل حال يرسلون إليكم نفائس أموالهم، ويهرعون بالجلب لطرفكم، ويزول الريب عن قلوبهم، ونرجو الله بهمتنا تسليك الطرقات، وتنجيح المطالب، وتحصيل الميراث بأحسن مما كانت من الأمان، وأعظم مما سبق في غابر الأزمان، ويكثر بحول الله الوارد إليكم من الأسباب الحجازية، وكذلك لنا بن في المراكب، فمأمولنا منكم إلقاء النظر على خدامنا، وبذل الهمة على ما هو من طرفنا، وأنتم كذلك لكم عندنا مزيد الإكرام في كل مرام، ولا يخفاك أنه ورد علينا قبل بأيام كتب من طرف أمير العسكر الفرنساوية، محبنا بونابرته، فما كان لنا منها فتأملناه، وصار إليه الجواب فوصله إليه، وما كان منها معولا في إرساله علينا إلى نواحي الهند وابن حيدر وإمام مسكت، ووكيلكم الذي في المخا، فجميعا أصدرناها من طرفنا مع من نعتمده إلى أربابها، وإن شاء الله عن قريب يأتيكم الجواب والسلام.
تحريرا في ثمانية عشر شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وثلاثة عشر. •••
وظاهر من هذا أن مخابرات نابوليون لم تكن قاصرة على شريف مكة، بل اتخذه أيضا واسطة لإيصال كتبه وأغراضه إلى حيدر آباد في الهند، وإلى إمام «مسقط» على الخليج الفارسي، وإلى القنصل الفرنسي في المخا، أو موخا، باليمن.
أما حوادث محاربة الفرنسيس للمماليك في الصعيد فقد أجملناها تحت عنوان المحاربات الفرعية من هذا الكتاب.
هوامش
الفصل السابع عشر
المدة الأخيرة لنابوليون في القطر المصري
من 14 يونيه-22 أغسطس سنة 1799 (1) مسألة القضاء الشرعي
كانت المدة التي قضاها نابوليون في القطر المصري بعد عودته من سورية إلى مبارحته هذه الديار «من 14 يونيه إلى 22 أغسطس سنة 1799» مملوءة بالحوادث الهامة، منها ما هو محلي موضعي، ومنها ما هو عام دولي، فمن الحوادث المحلية التي كان لها شأن هام واهتمام في الهيئة الاجتماعية المصرية حادثة ابن القاضي التي فتحت باب القضاء الشرعي في مصر، وقد سبق للقارئ أن علم من الفصل السابق في الحوادث التي وقعت أثناء الحملة السورية، أن مصطفى بك أمير الحج قد استغوى إبراهيم أفندي أدهم قاضي قضاة القطر المصري المعين بأمر جلالة السلطان، خليفة المسلمين صاحب السلطة الشرعية، فأصبحت مصر في ذلك الحال بغير قاض شرعي تصدر باسمه الأحكام ويأذن للقضاة بالنظر في الدعاوى، ويظهر أن الجنرال دوجا لما تغيب القاضي خاف من اضطراب القضاء، فساس الأمور بحكمة ودهاء، وترك مركز القاضي لولده المدعو ملأ زاده أفندي، ويظهر أن العلماء والمشايخ والأعيان لم ينكروا عليه ذلك بل سرهم ورضوا به ، كما يتبين لنا من تمسكهم بابن القاضي واهتمامهم بأمره كما سيجيء بيانه، ولا أدري كيف كان تصور القوم في ذلك الزمن، ألمجرد أن إياه كان متواليا للقضاء بفرمان سلطاني، يكون لذلك الفتى ما كان لأبيه من السلطة الشرعية؟ أم لمجرد أنه تركي وابن تركي يكون له حق النظر في شئون المسلمين والفصل في قضاياهم وخصوماتهم؟
وعلى كل حال فإن الذي ارتضاه الجنرال دوجا لم يرضه نابوليون، وأراد البت في مسألة القضاء الشرعي في مصر حتى يقطع الصلة بينها وبين السلطنة العثمانية بعد كل الذي أظهر من رغبة الاتفاق مع الدولة العلية، وبعد علمه بأن تركيا قد اشهرت عليه الحرب، وأن الجيوش العثمانية بالاتفاق مع إنكلترا، قادمة للنزاع معه على السلطة في هذه الديار! فلم يكد يفرغ نابوليون من حفلاته وزياراته، وتوزيع منشوراته، حتى أصدر أمره في 22 محرم سنة 1214 بإلقاء القبض على ملأ زاده، ابن القاضي، وسجنه في القلعة، فأحدث عمله هذا ضجة في الدوائر الأهلية، كما يظهر ذلك من رواية الجبرتي الذي يقول: «فلما اجتمع أرباب الديوان حضرت إليهم ورقة من كبير الفرنسيس فقرئت عليهم، ومضمونها أن ساري عسكر قبض على ابن القاضي وعزله، وأنه وجه إليكم أن تقترعوا وتختاروا شيخا من العلماء يكون من أهل مصر ومولودا بها يتولى القضاء ويقضي بالأحكام الشرعية، كما كانت الملوك المصرية يولون القضاء برأي العلماء، فلما سمعوا ذلك أجاب الحاضرون بقولهم إننا: جميعا نتشفع ونترجى عنده في العفو عن ابن القاضي، فإنه إنسان غريب ومن أولاد الناس، وإن كان والده قد وافق كتخدا الباشا «مصطفى بك أمير الحج» في فعله فولده مقيم تحت أمانكم.»
فانظر كيف أهمل المشايخ الأفاضل المسئولون عن إقامة العدل وإرشاد الناس أمر مسألة القضاء التي فتح بابها عليهم نابوليون، واهتموا بادئ ذي بدء بأمر ابن القاضي وخلاصه! ذلك لأن الهيبة التركية ونفوذها متأصلان في نفوس القوم، ولم تكن جلسة الديوان هذه قاصرة على أعضائه كما يؤخذ ذلك من رواية الجبرتي عن وجود السيد السادات، فقد روى أنه كان حاضرا في المجلس وأغلظ القول للفرنساويين، ولم يذكر الجبرتي شهودا آخرين من العلماء والأعيان، ممن ليسوا أعضاء هذه الجلسة التي قصد فيها الفصل في مسألة القضاء الشرعي، ولكن يؤخذ من العريضة التي قدمها المجتمعون لنابوليون، والتي عثرنا على صورتها بالفرنسية في كتاب شرفيس، أنه حضر تلك الجلسة التاريخية، عدا السيد السادات، المشايخ الأمير الشيخ الحريره «كذا في الأصل وصوابه الحريري» والدسوقي الجوهري والسرسي والعريشي والعناني، وكثير من أعيان القاهرة وقد شدد السيد السادات في طلب العفو عن ابن القاضي وقال للمندوبين الفرنساويين الحاضرين «كيف تفعلون هذا وأنتم دائما تقولون إن الفرنساوية أحباب العثمانية، وهذا ابن القاضي من طرف العثماني فهذا الفعل مما يسيء الظن بالفرنساوية ويكذب قولهم خصوصا عند العامة.»
قال الشيخ الجبرتي: «فلما ترجم هذا الكلام للوكيل الفرنساوي قال: لا بأس بالشفاعة، ولكن بعد تنفيذ أمر ساري عسكر في اختيار قاض خلافه.» ثم هددهم بقوله: «ولا تكونوا مخالفين يلحقكم الضرر بالمخالفة فامتثلوا، وعملوا القرعة فطلعت لأكثرية باسم الشيخ أحمد العريشي الحنفي ثم كتبوا عرضحالا بصورة المجلس والشفاعة.»
فيظهر من هذه الرواية أنه لولا تهديد الفرنساويين للمشايخ لما قبلوا انتخاب واحد منهم من علماء مصر لتولي القضاء في الديار المصرية، ولفضلوا أن تنتقل تلك الوظيفة السامية من الوالد إلى ابنه، ولو كان الابن فتى غير عالم بالشرع الشريف، وذلك لمجرد أنه تركي وابن تركي! وهذه العاطفة جديرة بالنظر، وكان لها ولا يزال لها شأن مهم في أمور هذه الديار، ويجب أن تبقى دائما موضع اهتمام وعناية من يتم له الأمر على ضفاف وادي النيل.
ولما علم نابوليون بما دار في المجلس من الكلام والأخذ والرد حنق على السيد السادات واستدعاه إليه ولامه وعنفه، ولولا تلطف الشيخ المهدي وحيلته ونيله ثقة نابوليون وحسن ظنه، لاتسعت مسافة الخلف، ولربما صودر السيد السادات وعوقب كما وقع له بعد ذلك في مدة الجنرال كليبر.
وواجب علينا أن نقول في هذا الموقف أن السيد محمد أبا الأنوار شيخ السجادة الوفائية في ذلك الزمن، كان من ذوي الكفاية والجرأة وكان له من النفوذ والمنزلة في العالم المصري، ما جرأه مرارا وتكرارا على مقاومة النفوذ الفرنساوي والاحتفاظ بالكرامة الإسلامية، وكان على جانب عظيم من العلوم الدينية وتلقى دروسه على أكبر مشايخ ذلك العصر؛ قال عنه الجبرتي، وهو قليل المدح، إنه لما انتظم أمره أحسن سلوكه بشهامة وحكمة ورياسة وتؤدة، مع التباعد عن الأمور المخلة بالمروءة، ومع أنه كان صديقا للشيخ عبد الرحمن الجبرتي بدليل قوله عنه: «ولما قدمت الفرنساوية لم يتعرضوا له في شيء وراعوا جانبه وقبلوا شفاعاته وتردد إليه كبيره وأعاظمهم وعمل لهم الولائم وكنت أصاحبه في الذهاب إلى مساكنهم والتفرج على صنائعهم ونقوشهم وتصاويرهم وغرائبهم» ... إلخ ... فإنه لم يخله من الانتقاد واللذع اللذين كان يميل إليهما الجبرتي بطبعه، وكانا سببا في نكبته في آخر عمره، فوصف الشيخ السادات بالشره في حب المال، وبالكبرياء والدعاوى الكاذبة، فمن قوله عنه، إنه ترفع على العلماء والأقران وصار يلبس قلووقا بعمامة خضراء، متشبها بالأكابر من الأمراء، وبعدا عن التشبه بالمتعممين والمقرئين والفقهاء، ولما طالت أيامه، وماتت أقرانه، الذين كان يستحيي منهم ويهلبهم، غالى في دعواه وصار في داره كبيت حاكم الشرطة يضرب ويجلد، ومدحوه على منبر الخطابة في صلاة الجمعة في زاويتهم المعروفة أيام الموالد، حتى إن الجبرتي سمع قائلا يقول بعد الصلاة لم يبق على الخطيب إلا أن يقول: اركعوا واسجدوا واعبدوا الشيخ السادات، إلى غير ذلك من الصفات التي حفظ بها هيبة ذلك البيت القديم، وألبسه بها هالة من المجد والوقار، ولكن خلطهم لأنسابهم، وامتزاج دمائهم بأبناء السراي من النسوة الرقيقات من الجراكس والأرمن والأروام، أدخل في خلفهم بذور الفساد والانحلال، فانقرض ذلك المجد وهوى ذلك الجلال!
وقلد الشيخ أحمد العريشي قضاء مصر، ولم يذكر لنا الجبرتي ولا سواه صورة المكاتبة التي بعث به المشايخ يرجون العفو والإفراج عن ابن القاضي، وقد رأيت صورتها باللغة الفرنسية فيما نقله كرستبان شيرفيس في كتابه «نابوليون والإسلام» وخلاصة تلك العريضة أن أعضاء الديوان قد انضم إليهم في جلسة خصوصية المشايخ السادات ، والأمير، والحريري، والدسوقي، والجوهري، والسرسي، والعريشي، والعناني، ,كثيرون من أعيان المدينة قد اختاروا بالاقتراع بناء على طلب الجنرال بونابرته الشيخ أحمد العريشي لتولي قضاء مصر مكان ابن القاضي المعزول، وأن أولئك المجتمعين من أعضاء الديوان والعلماء والأعيان يرجون بونابرته في الصفح أو الإفراج عن ابن القاضي الذي لم تكن له علاقة بعصيان أبيه وانضمامه إلى أمير الحج، ثم ذكروا له أن الأهالي تولاهم الكدر والحزن على ما أصاب القاضي وولده، وأن أمه وجدته وأخته في غم شديد واضطراب عظيم قلقا عليه، ومما قالوه أيضا: إنه لو عين للبلد كل يوم قاض جديد فإنه لا يرتاح لهم بال، ما دام الذي كان متوليا للقضاء معتقلا مسجونا، وإن أعضاء الديوان يتكلفون بابن القاضي ويضمنون حسن سيره وولاءه للحكومة، وذكروا له أن واجبهم هو الذي قضى عليهم بهذا الطلب لكي يوقفوا بونابرته على عواطف الأمة وشعورها، إزاء ذلك الحادث، ودعوا له بطول العمر والسلامة! فلما وصل هذا الخطاب إلى نابوليون أصدر أمره بإعداد حفلة لتولية الشيخ العريشي قضاء مصر، وخلع عليه خلعة ثمينة وسار في موكب كبير إلى دار المحكمة الكبرى بين القصرين، ثم أصدر أمره بإطلاق سراح ابن القاضي، وكان الرجل الطيب الوجيه السيد أحمد المحروقي كبير تجار مصر قد أخذ أسرة القاضي إلى داره تطمينا لخواطرهم، وانتهى ذلك الحادث الذي أظهر فيه المشايخ والأعيان تضامنا يحمدون عليه.
ويظهر حقيقة أن الشعب المصري كان متأثرا من اعتقال ابن القاضي حتى إن الفرنساويين رأوا من الضروري، على رواية الجبرتي، عندما أفرجوا عن ذلك الفتى، «أن يركب مع أرباب الديوان والأغا وساروا به وسط المدينة ليراه الناس ويبطل القيل والقال».
وسرعان ما فعل ذلك نابوليون حتى أتبع خروج ابن القاضي من سجن القلعة بمنشور طبعه ووزعه وألصقه بالأسواق كرد على خطاب العلماء، وقد ترك لنا الجبرتي صورة هذا المنشور كعادته في جمع ما طبع ووزع، وعدم وصول يده إلى غير ذلك، مما كتبه أعضاء الديوان، ولما كان هذا المنشور على جانب من الأهمية؛ لأنه يشرح سياسة نابوليون ورأيه في مسألة القضاء الشرعي رأينا أن نأتي على أهم ما جاء فيه، قال:
من ساري عسكر الكبير بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية محب أهل الملة المحبوبة، خطابا إلى السادات العلماء أنه وصل لنا مكتوبكم بشأن القاضي فنخبركم أن القاضي لم أعزله، وإنما هو هرب من إقليم مصر وترك أهله وأولاده وخان صحبتنا من المعروف والإحسان الذي فعلناه معه، وكنت استحسنت أن ابنه يكون عوضا عنه في محل الحكم في مدة غيبته، ولكن ابنه لم يكن قاضيا متواليا للأحكام على الدوام؛ لأنه صغير السن وليس أهلا للقضاء، فأنا لا أحب مصر خالية من حاكم شرعي يحكم بين المؤمنين، فاستحسنت أن يجتمع علماء المسلمين ويختاروا باتفاقهم قاضيا شرعيا من علماء مصر وعقلائهم لأجل موافقة القرآن العظيم باتباع سبيل المؤمنين، وكذلك مرادي أن حضرة الشيخ العريشي الذي اخترتموه جميعا أن يكون لابسا من عندي وجالسا من المحكمة، وهكذا كان فعل الخلفاء في العصر الأول باختيار جميع المؤمنين ... وسبب رفعنا لابن القاضي «رفعه للقلعة؛ أي: اعتقاله» سكون الفتن والإصلاح بين الناس، وأعرف أن أباه ما كان يكرهني، ولكنه ذهب عقله وفسد رأيه، وأنتم يا أهل الديوان تهدون الناس إلى الصواب والنور من جنابكم لأهل العقول، فعرفوا أهل مصر أنه انقضت وفرغت دولة العثمانلي، من أقاليم مصر وبطلت أحكامها منها، وأخبروهم أن حكم العثمانلي أشد تعبا من حكم الملوك وأكثر ظلما، والعاقل يعرف أن علماء مصر لهم عقل وتدبير وكفاية وأهلية للأحكام الشرعية يصلحون للقضاء أكثر من غيرهم في سائر الأقاليم، وأنتم يا أهل الديوان عرفوني عن المنافقين المخالفين أخرج من حقهم
1
لأن الله تعالى أعطاني القوة العظيمة لأجل ما أعاقبهم فإن سيفنا طويل ليس فيه ضعف، ومرادي أن تعرفوا أهل مصر أن قصدي بكل قلبي حصول الخير والسعادة لهم مثل ما هو بحر النيل أفضل الأنهار وأسعدها، كذلك أهل مصر يكونون أسعد الخلائق أجمعين، بإذن رب العالمين. ا.ه.
ومع أن نابوليون قد أكد على المشايخ في خطابه الذي وجهه إليهم أن يكون القاضي الذي ينتخبونه من أهل مصر ومولودا بها، فإن الشيخ أحمد العريشي لم يكن مصري الأصل؛ لأنه في الواقع ونفس الأمر سوري، ولد في بلدة خان يونس واسمه أحمد اللجام الخانيونسي أو اليونس، وقدم إلى الدار المصرية عام 1187ه؛ أي: قبل هذه الحوادث بنحو اثنين وعشرين سنة، وتلقى الدروس بالأزهر والتصق بابن بلدته الشيخ عبد الرحمن اليونسي الملقب بالعريش أيضا، وحضر الفقه على الشيخ حسن الجبرتي، والد الشيخ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ، ثم تولى بعد الشيخ عبد الرحمن العريشي مشيخة رواق الشوام، وكان يسكن في دار واسعة بسوق الزلط، وقال عنه الجبرتي: إنه كان فصيحا مستحضرا منضلعا من المعقولات والمنقولات وتوفي سنة 1218 هجرية. (2) استعداد الإنكليز والترك
لم يكن ليكفي إنكلترا إخفاق نابوليون في غاراته على سوريا، أو فشله في مشروع تأسيس مملكة شرقية يسطو بواسطتها على الهند، بل بقيت إنكلترا مصممة على إخراج مصر من سلطة الفرنساويين، ولم تكن إنكلترا وحدها بقادرة على ذلك لصغر جيشها، وعدم إمكانه مجاراة الجيش الفرنساوي المدرب الذي يقوده نابوليون، نابغة الحرب في ذلك الزمان.
صحيح أنها سدت في وجهه السبل، وحطمت سفنه، وحالت بينه وبين بلاده إلا أن نابوليون قد أظهر في غارته على سوريا، ومقدرته على البقاء في مصر، أنه قادر بمن معه من الجيوش والقواد والعلماء أن يغير مركز مصر، ويرقي مواردها الطبيعية، ويصلح من شئونها الإدارية، بحيث يستطيع أن يوجد على ضفاف النيل دولة جديدة قوية ينشئ فيها السفن في البحر الأحمر، ويغير على الهند أو غيرها متى توفرت معداته، هذا عدا أن وجوده في مصر معطل لسير التجارة الإنكليزية، ولمشروعات إنكلترا الإمبراطورية، وإذا كان محمد علي الأمي، بلا قواد عظماء ولا علماء فضلاء، ولا مشرعين ولا مخترعين، استطاع بعد ذلك بعشرين عاما أن يوجد من مصر الأساطيل والجيوش، فهلا كان في استطاعة نابوليون ومن معه، إذا بقوا في أرض مصر، أن يفعلوا فعله؟ لا شك في أن ذلك هو ما كان يفكر فيه نابوليون بعد واقعة أبي قير البحرية، كما صرح بذلك في كثير من أقواله.
ولم يكن لدى إنكلترا من الوسائل إلا استخدام الفكرة الإسلامية، وتحريض الدولة العثمانية والمماليك الذين اغتصب نابوليون الحكم من أيديهم، لمقاومة الفرنساويين وتكدير صفو عيشهم في أرض مصر حتى يتركوها، إما بالقهر وإما بالرضا والصلح، فلما تم اتفاق إنكلترا مع الدولة العثمانية وعاد نابوليون بالفشل من سوريا وضعت إنكلترا خطة لاحتلال مصر بواسطة الجيوش العثمانية في البر، وأسطولها تحت قيادة السر سدني سميث في البحر.
وكانت تلك الخطة تقضي بأن تبعث الدولة العثمانية جيشين، أحدهما تنقله السفن العثمانية والإنجليزية من رودس والموانئ العثمانية إلى أبي قير، والجيش الثاني يزحف من سوريا وتكون مقدمته مؤلفة من إبراهيم بك ومماليكه، ومن ينضم إليه من جيش الجزار، وإتماما لضمان نجاح هذا المشروع تقرر الاتفاق مع المماليك الموجودين في مصر تحت إمرة مراد بك وغيره من كبار الزعماء، مثل عثمان بك الطنبرجي وعثمان بك الشرقاوي وحسن بك الجداوي وغيرهم، ووضعت لذلك خطة مقتضاها أن يكون مراد بك مستعدا بجيشه في مديرية البحيرة وأن يكون عثمان بك الشرقاوي بعزوته ومماليكه في الشرقية، فالأول يلتقي بالجيش العثماني القادم بحرا إلى أبي قير، والثاني ينضم إلى الجيش القادم من سوريا عن طريق العريش.
وربما سأل سائل: وكيف كان يمكن الاتفاق والمخابرة مع المماليك في الوجه القبلي، والفرنساويون في جميع بلاد القطر المصري قد سدوا في وجوههم السبل وضيقوا عليهم المذاهب؟ والجواب على هذا هو أن طرق الصحراء شرقا وغربا، كانت في أيدي العربان، وهم موالون للمماليك والأتراك، فأولئك كانت مهمتهم إيصال الأخبار والمراسلات بين مصر وسوريا وشواطئ طرابلس الغرب حيث تلقي السفن الإنكليزية مراسيها، ويلتقي ضباطها بالعربان، ويزودونهم بالرسائل والأموال لرؤساء البدو والمماليك، فيسير أولئك في الصحراء من واحة سيوه إلى وادي النطرون ثم إلى الفيوم وغيرها.
فلما تم وضع نظام تلك الخطة تحرك مراد بك بمن معه من المماليك من الصعيد إلى مديرية البحيرة، وانحدر محمد بك الألفي وعثمان بك الشرقاوي على الضفة اليمنى من النيل ومعهما نحو ثلاثمائة من فوارس المماليك، وانضم إليهم نحو ثلاثمائة أخرى من عرب الصحراء الشرقية، وعسكر هذا الجيش في البقعة المسماة «سبع آبار» بين السويس ومصر، وكان ذلك في 7 يونيه سنة 1799 «الموافق يوم الأحد 3 صفر سنة 1214» وأخذت الرسل تذهب وتجيء بين ذلك المعسكر وأهالي الشرقية لتحريضهم على الثورة في وجه الفرنساويين، فتنبه لذلك الجنرال لاجرانج
Lagrange
المتولي القيادة في الشرقية، فزحف بفرقة من الخيالة ونصف أورطة من الهجانة وباغت ذلك الجيش الصغير من المماليك والأعراب واحتاط به في ليلة «22 يوليه/8 صفر» ودارت بين الطرفين معركة غير منتظمة انتهت بتشتت المماليك وقتل كثيرين منهم، وغنم الفرنساويون عددا وافرا من الجمال، وجميع ما كان مع تلك القوة من الميرة والذخيرة وأسروا نحو ثلاثين مملوكا جيء بهم إلى القاهرة، وهذه الرواية عن المصادر الفرنسية، لا تختلف كثيرا عن رواية الجبرتي التي سردها في حوادث 11 صفر، «أي: بعد أربعة أيام من حدوث الواقعة»، وإنما ذكر الجبرتي أن القوة التي داهمت المماليك كانت مؤلفة من «جماعة من العسكر المنضمة إليهم» ثم قال: «فلما داهموهم بادروا بالفرار وركب عثمان بك بقميص واحد على جسده وطاقية فوق رأسه، وتركوا متاعهم وحملتهم، ووجدوا على فراش عثمان بك مكاتبة من إبراهيم بك يستدعيهم للحضور إليه بالشام.»
والحقيقة أن عثمان بك ومن معه استدعوا لانتظار إبراهيم بك ومماليكه وجيش الجزار، بناء على التعليمات الواردة من رسل الإنكليز، فأما إبراهيم بك - وهو دائما شديد الحرص - فكان يسير من غزة على مهل لكيلا يدخل مصر قبل قدوم الجيش العثماني من رودس، وذلك خوفا من الوقوع في أيدي الفرنساويين، فلما جاءه خبر تلك الهزيمة لعثمان بك والألفي بك عاد أدراجه إلى سوريا، وأما الجزار الخبيث فاكتفى بعودة الفرنساويين من سوريا، واستخلاصه هو عكا، وامتداد نفوذه في الولايات السورية، ثم قلب للدولة العثمانية وللإنكليز ظهر المجن، ولم يحفل بفرمانات الدولة، ولا برسائل يوسف باشا الصدر الأعظم، الذي قدم بجيش عظيم إلى سوريا قاصدا مصر، وكذلك لم يحفل بخطابات السر سدني سميث صاحب الفضل الأكبر عليه، ذلك الذي أنقذه من مخالب الفرنساويين وأبقاه سلطانا مستبدا في عكا وسوريا، فلم يبعث ذلك الطاغية بما وعد به من الجند، ولا ما وعد به من الميرة والذخيرة إلى الجيش العثماني القادم بحرا، ولذلك حنق عليه السر سدني سميث وعزم على التنكيل به، كما يؤخذ ذلك صريحا من نص خطاب عثرت عليه في كتاب تاريخ الأمير حيدر الشهابي، مكتوب من السر سدني سميث إلى الأمير بشير الشهابي بعد هذا التاريخ بستة أشهر،
2
وأما مراد بك فتحرك بمن معه من الممالكي والعربان من الفيوم سائرا في طريق الصحراء إلى أن وصل إلى جهة وادي النطرون في مديرية البحيرة، وهناك وقعت بينه وبين الجنرال «مورات» قائد الخيالة المشهور في تاريخ الحروب النابوليونية في أوروبا، موقعة انتهت بهزيمة مراد بك ورجوعه بمن معه من فوارسه إلى مديرية الجيزة جنوبا، وفي رواية أخرى أن الجنرال «مورات» سبق مراد بك إلى وادي النطرون فلما قدم هذا ورأى قلائل في أثناء تعقب الفرنساويين له، وتجد أخبار الذين أسروا من المماليك في حوادث الأسبوع الأول من شهر صفر من يوميات الجبرتي.
ونقل لاكروا عن المذكرات التي أملاها نابوليون في سنت هيلين أن مراد بك لما عاد من البحيرة إلى الجيزة وصل إلى جهة الأهرام وصعد إلى قمة الهرم الكبير في يوم 13 يوليو، وأخذ يتبادل الإشارات مع زوجته السيدة نفيسة وهي فوق سطح منزلها، قال: ولما تناقل الناس في القاهرة خبر هذه الإشارات قلقت السيدة المذكورة، وخافت أن يلحق بها الفرنساويون أذى، فذهبت إلى منزل الجنرال بونابرت وطلبت مقابلته، فتلقاها بكل احترام وإكرام، وأكد لها أنه لم يحفل بما وجه لها من التهم ثم قال لها: «ولو أنك تريدين الاجتماع بزوجك لما تأخرت عن أن أهادنه أربعة وعشرين ساعة لكي تلتقيا، إذا كان في هذا ما يسرك ويسره.» ولولا أن سند هذه الرواية قوي ومصدرها مما يجب الوثوق به، لما حفلنا بها ولما اعتقدنا صحة وقوعها على تلك الصورة، وكيفما كانت حقيقتها فمما لا شك فيه هو أن نابوليون كان شديد الميل - وخصوصا في ذلك الوقت - إلى الاتفاق مع مراد بك، ولا يبعد أنه أراد أن يتخذ من منزلة السيدة نفيسة ومكانتها لدى زوجها، وسيلة للصلح والتحالف معه، ولقد كانت السيدة نفيسة دائما موضع إكرام الفرنساويين وإجلالهم، وكان يحتمي في نفوذها نسوة أمراء المماليك وغيرهن من كبار وصغار.
3
ولقد أدرك نابوليون بثاقب فكره أن تلك الحركات المتوافقة في الشرق والغرب، وتلك التنقلات في الصحارى المحرقة في فصل الحر الشديد، ليست إلا مقدمة لحركة حربية من جانب أعدائه، ولذلك انتقل بجزء كبير من الجيش في 14 يوليه إلى جهة الجيزة، وأصدر أمر الجنرال برتبة رئيس هيئة أركان الحرب بأن يجهز حملة بالبطاريات والمدافع وينتقل بها إلى جهة الأهرام، وقضى نابوليون ليلته معسكرا في تلك البقعة، وإلى هذه الفترة تنسب الإشاعة التي رواها بعض المؤرخين الذين قالوا إن نابوليون استدعى مشايخ المسلمين إلى الجيزة وسار بهم إلى الأهرام، ثم أعلن إسلامه هناك، وإنه دخل الهرم الكبير، وقد نفى «بوريين» في مذكراته هذه الرواية، وقال: إن نابوليون لم يستدع المشايخ ولم يعلن إسلامه، بل ولم يدخل الهرم أبدا!
وفي اليوم التالي «15 يوليه» عند الساعة الثانية ظهرا أبصر نابوليون فارسيا ينهب الأرض نهبا فتلقاه، ووجد معه رسالة من الجنرال مارمون (Marmont)
قومندان حامية الإسكندرية، وفي هذه الرسالة ينبئه بأن ثلاث عشرة سفينة كبيرة وتسع فرقاطات وثلاثين غرابا (Chaloupes)
مسلحة، وتسعين نقالة محملة بالجنود العثمانية وقد ألقت مراسيها في مساء 12 يوليو في مياه خليج أبي قير، وأنها استطاعت أن تنزل جنودها إلى الساحل في يوم 14، وأنها استولت على الطابية المقامة في تلك النقطة. (3) قبل معركة أبي قير
فلما تلقى نابوليون هذا الخبر أدرك في الحال عظيم أهميته؛ إذ لم يخف على مثله، ولا سيما وقد قتل المسائل فكرا وتمحيصا بعد عودته من سوريا وعرف حرج مركزه في هذه الديار، أن المعركة الفاصلة بينه وبين الإنكليز في مصر قد حان وقتها، فإذا استطاعت القوة العثمانية التوغل في أرض مصر، واستطاع الإنكليز والترك الاستيلاء على الثغور المصرية، فقد قضي على نابوليون وجيشه، وقضي على هاتيك المطامع الكبرى القضاء المبرم.
ولقد أدرك نابلوين بثاقب فكره وخبرته العسكرية، أن الجيش العثماني الذي جيء به إلى أبي قير هو بقية الجيش الذي كان في رودس، والذي أخذ منه جزء لإمداد عكا، وأن هذه البقية لا تزيد عن خمسة عشر ألف مقاتل، مع فئة من الضباط الإنكليز، وإن هذا الجيش إنما جاء معتمدا على أمرين:
أولهما:
تعضيد المماليك الذين يقومون مقام الخيالة لهذا الجيش الذي لم تكن معه الخيول الكافية.
وثانيهما:
قيام الأهالي والعربان في وجه الفرنساويين في جميع جهات القطر المصري، فإذا استطاع نابوليون أن يحول بين اتصال الجيش العثماني بالمماليك، ويمنع حدوث الاضطرابات في داخلية البلاد، فقد استطاع أن يخلص من ذلك المأزق الحرج.
ولقد أجمع كتاب المذكرات الخصوصية، ورواة الأخبار العمومية، ومؤرخو هذه الفترة من المتقدمين والمتأخرين، أن نابوليون لم يبد في حياته نشاطا وذكاء وقادا، وبعدا في النظر، مثلما أظهره في ذلك الحين، فإنه ما كاد يتلقى نبأ نزول الجنود العثمانية في ساحل أبي قير حتى أخذ يصدر الأوامر تباعا بسرعة البرق، وبحيث لم تكد تمضي أربعة وعشرين ساعة، حتى كان جميع الجيش الفرنساوي المتشتت في وادي النيل، شرقا وغربا، وجنوبا وشمالا، يسير إلى نقطة معينة وهي الرحمانية، فالجنرال «ديزيه» في الصعيد صدرت له الأوامر بالتخلي عن جميع الوجه القبلي ليقدم بجيشه إلى القاهرة، والجنرال «رينيه» المعسكر في لبيس أمر بترك ثلاثمائة جندي في الصالحية لمراقبة الحدود الشرقية، وأن يسير هو بجميع الجنود الفرنساوية، من أقرب طريق إلى نقطة الرحمانية، وكذلك تلقى الجنرال كليبر الأوامر بالتحرك من دمياط إلى جهة أبي قير، وكذلك تلقى الجنرال كليبر الأوامر بالتحرك من دمياط إلى الإسكندرية، وكذلك تلقى الجنرال منو الأوامر بالسير من رشيد.
والخلاصة أن نابوليون لم يبت تلك الليلة في الجيزة حتى كان الجيش الفرنساوي من جميع الجهات يسير قاصدا نقطة واحدة.
ولم تمض ثلاثة أيام حتى كانت جميع القوى الفرنساوية مجتمعة في الرحمانية، وهناك أصدر نابوليون منشورا للمصريين يعدهم ويهددهم ويحذرهم ويتملقهم ويتقرب منهم، موجها فيه الخطاب إلى أعضاء الديوان، وقد حفظ الجبرتي ونقولا الترك ذلك المنشور باللغة العربية وهذا نصه:
لا إله إلا الله محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، نخبركم يا محفل الديوان بمصر المنتخب من أحسن الناس وأكملهم بالعقل والتدبير، عليكم سلام الله تعالى ورحمته وبركاته، بعد مزيد السلام عليكم، وكثرة الأشواق إليكم، نخبركم يا أهل الديوان، المكرمين العظام، بهذا المكتوب إننا وضعنا جماعات من عسكرنا بجبل الطرانة، وبعد ذلك سرنا إلى إقليم البحيرة لأجل أن نرد راحة الرعايا المساكين، ونقاصص أعداءنا المحاربين، وقد وصلنا بالسلامة إلى الرحمانية وعفونا عفوا عموميا عن كل أهل البحيرة حتى صار الأقاليم في راحة تامة، ونعمة عامة، وفي هذا التاريخ نخبركم أنه وصل ثمانون مركبا صغارا وكبارا حتى ظهروا بثغر الإسكندرية، وقصدوا أن يدخلوها فلم يمكنهم الدخول من كثرة البنب وجلل المدافع النازلة عليهم، فرحلوا عنها وتوجهوا يرسون بناحية أبي قير وابتدءوا ينزلون إلى البر، وأنا الآن تاركهم وقصدي أن يتكامل الجميع في البر، وأنزل عليهم أقتل من لا يطيع وأخلي بالحياة الطائعين، وآتيكم بهم محبوسين تحت السيف لأجل أن يكون في ذلك شأن عظيم في مدينة مصر، والسبب في ذلك في مجيء هذه العمارة إلى هذا الطرف العشم بالاجتماع على المماليك والعربان، ولأجل نهب البلاد وخراب القطر المصري، وفي هذه العمارة خلق كثير من «الموسقو» الإفرنج الذين كراهتهم ظاهرة لكل من يوحد الله، وعداوتهم واضحة لمن كان يعبد الله، ويؤمن برسول الله، يكرهون الإسلام، ولا يحترمون القرآن، وهم نظرا لكفرهم في معتقدهم يجعلون الآلهة ثلاثة، وإن الله ثالث تلك الثلاثة، تعالى الله عن الشركاء، ولكن عن قريب يظهر لهم أن الثلاثة لا تعطي القوة، وإن كثرة الآلهة لا تنفع، بلى إنه باطل؛ لأن الله هو الواحد الذي يعطي النصرة لمن يوحده، هو الرحمن الرحيم، المساعد المعين، القوي للعادلين الموحدين، الماحق رأي الفاسدين المشركين، وقد سبق في علمه القديم، وقضائه العظيم، أنه أعطاني هذا الإقليم وقدر وحكم بحضوري عندكم إلى مصر لأجل تغييري الأمور الفاسدة، وأنواع الظلم، وتبديل ذلك بالعدل والراحة، مع صلاح الحكم، وبرهان قدرته العظيمة، ووحدانيته المستقيمة، إن لم يقدر الذين يعتقدون أن الآلهة ثلاثة قوة مثل قوتنا؛ لأنهم ما قدروا أن يعملوا الذي عملناه، ونحن المعتقدون وحدانية الإله ، نعرف أنه العزيز القادر، القوي القاهر، المدبر للكائنات، والمحيط علمه بالأرضين والسماوات، القائم بأمر المخلوقات، هذا ما في الآيات، والكتب المنزلات، ونخبركم بالمسلمين إن كانوا بصحبتهم، يكونوا من المغضوب عليهم لمخالفتهم وصية النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، بسبب اتفاقهم مع الكافرين الفجرة اللئام؛ لأن أعداء الإسلام، لا ينصرون الإسلام، ويا ويل من كانت نصرته بأعداء الله! وحاشا الله أن يكون المستنصر بالكفار مؤيدا، أو يكون مسلما ساقتهم المقادير، للهلاك والتدمير، مع السفالة والرذالة، وكيف لمسلم أن ينزل في مركب تحت بريق الصليب، ويسمع في حق الواحد الأحد، الفرد الصمد، من الكفار، كل يوم تخريفا واحتقارا، ولا شك أن هذا المسلم في هذا الحال، أقبح من الكافر الأصلي في الضلال.
نريد منكم يا أهل الديوان أن تخبروا بهذا الخبر جميع الدواوين والأمصار، لأجل أن يمتنع أهل الفساد من الفتنة بين الرعية، في سائر الأقاليم والبلاد؛ لأن البلد الذي يحصل فيه الشر يحصل لهم مزيد الضرر والقصاص، انصحوهم يحفظوا أنفسهم من الهلاك خوفا عليهم أن نفعل فيهم مثل ما فعلناه في أهل دمنهور، وغيرها من بلاد الشرور، فإنهم بسبب سلوكهم المسالك القبيحة قاصصناهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحريرا بالرحمانية في يوم الأحد 15 صفر 1214، طبع بالمطبعة الفرنسية العربية.
ولقد قصد نابوليون بهذا المنشور عدة أمور: أولها وأهمها، إلقاء الرعب في قلوب المصريين ليخلدوا إلى السكينة، وليخافوا عاقبة الفتك بهم، كما حصل لأهالي دمنهور عقب ثورة المهدي، أو مولاي محمد، وأراد نابوليون أن يفهم المصريين أن القادمين ليسوا أتراكا مسلمين، بل هم روسيون مسيحيون لا يعتقدون بالوحدانية مع أنه لم يكن مع الجيش العثماني الذي نزل في أبي قير جند من الروس، ولا من الإنكليز، ولم يثبت التاريخ سوى وجود بعض الضباط الإنكليز الذين قدموا مع الأسطول البريطاني ليكونوا في هيئة أركان حرب المشير مصطفى كوسة باشا قائد ذلك الجيش، وما قصد نابوليون بذلك الاختلاق إلا الإيهام والتغرير بالعقول، وتلك خطة تبررها السياسة في أيام الحروب، ولكن المعلم نقولا الترك أراد أن يعتذر عن هذا الاختلاق - أي: دعوى أن الجيش القادم معظمه من الروس المسيحيين - فقال:
وخشي أمير الجيوش من العامة في مصر وغيرها من البلدان، فكتب فرمانا إلى علماء مصر وأرباب الديوان يخبرهم بورود المراكب وخروج عساكرها إلى البر، وإنها مراكب نصارى، ولكن ربما معهم بعض المسلمين، وتعريفه بذلك استنادا على الفرمان الذي ورد من الدولة العثمانية إلى الجزار والأقطار الشامية حيث يقول: «قريبا نحضر لكم الدونتمة الهمايونية مع دونتما الدولة المسكوبية المتحدة مع دولتنا بالحب والصداقة، ونحضر لكم عشرين ألف مقاتل في البر مع الدولة القوية غير العساكر البحرية، لأجل طرد الملة الفرنساوية.» وهذا الفرمان قد حضرت صورته إلى أمير الجيوش وأطلع عليه العلماء والأعيان وأهل تلك البلدان. ا.ه.
والمعلم نقولا يشير بالطبع إلى المنشور الذي سبق لنا الكلام عنه وليس فيه شيء مما يقوله المعلم نقولا، اللهم إلا إذا كان يشير إلى منشور لم نقف له على أثر في الكتب الفرنسية ولا الإنكليزية ولا العربية، ومع ذلك فإن ذكر العمارة الروسية وقدومها مع الجيش العثماني ليس معناه إنزال جنود روسية مع العساكر التركية في أرض مصر، ولكن يظهر أن المعلم نقولا أراد أن يعتذر لنابوليون بما لم يعتذر به نابوليون عن نفسه!!
وأغرب من هذا تعليق المرحوم مخائيل بك شارويم على هذا المنشور في كتابه «الكافي» بالعبارة الآتية:
قلت: وفي هذا الخطاب، إن كان صحيحا، من النقد على بونابرته والتعيب، ورميه بالغش والخديعة، ما يزري به ويحط من عظمته ويذهب بشهرته.
ولماذا لا يكون ذلك المنشور صحيحا ونصه في الجبرتي ورسالة المعلم نقولا وصورته المطبوعة محفوظة في أوراق نابوليون المحفوظة،
4
ثم لماذا يزري من نابوليون ويحط من عظمته ويذهب بشهرته الأبدية الخالدة، وهو إنما فعل ما تقضي به السياسة وأساليبها، وأكاذيبها أيضا!!
ولقد أحدث قدوم ذلك الجيش العثماني حركة في نفوس المصريين فانتعشت أرواحهم، وانتشت آمالهم وخيل لهم الخلاص من الاحتلال الأجنبي، مع أن القادمين عليهم لا يريدون لهم خلاصا، ولا يودون لهم حرية واستقلالا، ولكن هذا نظر المصريون على أنهم والأتراك أمة واحدة، وإن لم يرض الأتراك باعتبار المصريين كذلك، ولا سيما في ذلك الزمن إذ الجندي جندي، والفلاح فلاح!! ولذلك خشي الفرنساويون عاقبة هيجان المصريين، وقيامهم عليهم فترك نابوليون في القاهرة الجنرال «دوجا» الذي اشتهر بدهائه ولينه وحسن تصرفه مع المصريين أثناء الحملة السورية، وترك له قوة كبيرة من الفرنساويين في القلعة عدا قوة أخرى من الأروام الذين جندوهم ودربوهم، وكلف الجنرال ديزيه بالتخلي عن الصعيد والقدوم بجيشه إلى القاهرة.
ولقد كانت ساعة الفرنسيين عصيبة والجو أمامهم مظلما قاتما؛ لأنه مع هذه الاحتياطات الكثيرة، ومع ذلك المنشور الذي أكثر فيه نابوليون من التزلف للمصريين ودعوى الإسلام والطعن على المسيحية، فإن الحركة التي دب دبيبها بين المصريين كانت تشعر بما داخل نفوس القوم من الفرح والسرور بقدوم الجيش العثماني، فقد روى الجبرتي الحادثة الآتية: قال في حوادث يوم 16 صفر:
ولما تحققت هذه الأخبار «نزول الجيش العثماني في أبي قير» كثر اللغط بين الناس، وأظهروا البشر وتجاهروا بلعن النصارى، واتفق أنه تشاجر بعض المسلمين بحارة البرابرة بالقرب من كوم الشيخ سلامة مع بعض نصارى الشوام، فقال المسلم للنصراني: إن شاء الله بعد أربعة أيام نشتفي منكم، وكلام من هذا المعنى فذهب ذلك النصراني مع عصبة من جنسه إلى الفرنسيس، وأخبروهم بالقصة وزادوا وحرفوا وعرفوهم أن قصد المسلمين إثارة فتنة، فأرسل قائمقام إلى الشيخ المهدي وتكلم معه في شأن ذلك وحاجه وأصبحوا فاجتمعوا بالديوان، فقام المهدي خطيبا وتكلم كثيرا ونفى الريبة وكذب أقوال الخصوم، وشدد في تبرئة المسلمين عما نسب إليهم، وبالغ في الحطيطة والانتقاص من جانب النصارى، وهذا المقام من مقاماته المحمودة، ثم جمعوا مشايخ الأخطاط والحارات وحبسوهم.
فهذه الحادثة البسيطة تمثل لنا صورة مجسمة للشعور القومي في تلك الفترة، وهي حال يجب على المؤرخ أن لا يفوتها، والدليل على تخوف الفرنساويين أنهم زادوا في الحيطة فجمعوا، كما ذكر الجبرتي، مشايخ الأخطاط والحارات واعتقلوهم.
فلنترك أهل القاهرة في آمالهم وتصوراتهم، ولنتبع نابوليون وجيشه إلى تلك المعركة الهائلة التي وقعت بينه وبين الجيش العثماني، وكانت عاقبتها وبالا على العثمانيين تلك الواقعة التي قال عنها نابوليون للجنرال مورات: «على هذه الواقعة سيرتب مستقبل العالم بأسره.» ولكن نابوليون وحده هو الذي كان يدرك السبب في ذلك، ويعلم أن انتصاره في تلك المعركة يمهد له سبيل العودة إلى فرنسا، وعلى جبينه إكليل الفوز والنصر، فيستطيع أن يقبض على السلطة في تلك الديار، ويستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه من الملك والمجد والفخار. (4) واقعة أبي قير
أخطأ سرهناك باشا وغيره من المؤرخين الذين قالوا: إن نابوليون قهر الجيش العثماني الذي نزل في أبي قير بستة آلاف مقاتل، والحقيقة التي أثبتها الكتاب الفرنساويون أن الجيش الذي جمعه نابوليون في الرحمانية وسار به إلى أبي قير كان لا يقل عن عشرين ألف مقاتل من خيرة الجنود المشاة المدربين عدا ثلاثة آلاف من الخيالة، ولم يكن الجيش العثماني يزيد عن ثمانية عشر ألفا من الجنود، وليس معهم سوى مائتي جواد للقائد وأركان حربه، وبعض الضباط، وذلك باعتراف نابوليون في المذكرات التي أملاها في سانت هيلانة.
قلنا: إن القائد العثماني أنزل جنوده في يوم 14 يوليو على ساحل أبي قير، ونقول: إنه كان يؤمل أن تصل إليه المماليك بالخيول والإمدادات، وروى المعلم نقولا في رسالته أن المشير مصطفى كوسه باشا لما أنزل جنوده واستولى على القلعة التي أقامها الفرنساويون، أرسل المنشورات إلى المصريين والعربان يستنهضهم للقيام في وجه الفرنساويين، وأن كبار القوم ذهبوا إليه وخلع عليهم الخلع الثمينة، ولا أثر لهذه الرواية، لا في المصادر العربية ولا في المصادر الفرنساوية، وكل ما ذكره الجبرتي من علاقة الجيش التركي بالمصريين، قوله في حوادث 18 صفر: «إنه وردت أخبار وعدة مكاتيب لكثير من الأعيان، وكلها على نسق واحد تزيد عن المائة مضمونها أن المسلمين وعسكر العثمانيين ومن معهم ملكوا الإسكندرية، فصار الناس يحكي بعضهم لبعض ... إلى آخره.»
ولا شك في أن السرعة التي جمع بها نابوليون جيشه وهاجم العثمانيين لم تمكنهم، لا من الاجتماع بالمماليك، ولا من دعوة سواهم، وكان ذلك سر فوز نابوليون في تلك الموقعة، وفي كثير من المواقع الكبيرة التي كسبها في أوروبا، ولو أن الجنرال منو، بعد هذا التاريخ بنحو سنتين، قلد رئيسه في السرعة والنشاط وعدم إضاعة الوقت، لما استطاع الجيش الإنكليزي الذي قدم تحت قيادة الجنرال «أبركرومبي» أن يحصره في الإسكندرية، وينتهي بالاشتراك مع الجيش العثماني بالوصول إلى القاهرة، وإخراج الفرنساويين منها.
وكان نابوليون يتصور أن الجيش العثماني لا يبقى في أبي قير بعد أن احتل قلعتها أكثر من يوم واحد، وأنه سيزحف في داخلية البلاد فيجتمع عليه المماليك المشتتون في الوجه البحري، ويلتف عليه عربان البحيرة وسواها، ولذلك عسكر نابوليون عند الرحمانية في يوم 19 يوليو، فلما وصلت إليه الأخبار بأن الجيش العثماني لا يزال مرابطا في أبي قير أسرع في نقل مركز جيشه من الرحمانية إلى بركة غطاس الواقعة بالقرب من بحيرة المعدية، وعلى مسافة قريبة من الإسكندرية وأبي قير، فمنع بذلك الجيش العثماني من التحرك إلى داخلية البلاد، أو إلى محاصرة الإسكندرية دون أن يلتقي مع الجيش الفرنساوي في معركة فاصلة.
وفي 24 يوليو اتخذ نابوليون الإسكندرية مقرا للمعسكر العام، ولم يكن قد رأى ذلك الثغر منذ احتله عند قدومه منذ سنة وشهر، ولما التقى نابوليون بالجنرال مارمون (Marmont)
قومندان حامية الإسكندرية، لامه وعنفه على تمكين الجيش العثماني من النزول إلى البر، وكان هذا الجنرال قد خرج بألف ومائتي مقاتل لمقاومة العثمانيين، فلما رأى أنه لا يقدر على مقاومة ذلك الجيش الكبير عاد أدراجه إلى الإسكندرية وتحصن فيها، ولو أسرع القائد العثماني، ولم ينتظر قدوم نابوليون من الرحمانية لكان من الممكن أن تكون النتيجة غير ما كانت، ولكن الجيش العثماني بقي في أبي قير من يوم 14 إلى يوم 24 حتى تمكن نابوليون من الوصول إلى الإسكندرية والوقوف في وجه خصمه، كل ذلك والجيش العثماني لا يظن أن الفرنساويين قد أصبحوا أمامه وجها لوجه، وأن المسافة بين الفريقين لا تزيد على بضع كيلومترات.
ولقد سبق لنا أن قلنا إن وصف الحركات العسكرية في المواقع الحربية ليس من اختصاص المؤرخ المصري الذي يقصد تدوين تاريخ أمته، وأما وصف المعارك الحربية من الوجهة الفنية فهو من اختصاص كتاب الإفرنج الذين يهمهم وصف المعارك لأسباب فنية وقومية، ولهذا نكتفي بأن نقول: إن الجيش العثماني في هذه المعركة لم يكن مستوفيا الأسباب التي تساعده على الفوز لعدم وجود قوة كافية من الخيالة، ولأن المماليك الذين اعتمد على مساعدتهم لم يستطيعوا تقديم تلك المساعدة، ولأن سرعة نابوليون ونشاطه لم تمكن الأتراك من التحصن اللازم واستعمال الوسائل التي يستطيع بها شل حركات الجيش الفرنساوي.
وخلاصة ما يمكن ذكره من وصف هذه المعركة التاريخية أنه في فجر 25 بدأ الجيش الفرنسي في الزحف، وكان الجنرال «مورات»
Murat
على رأس جيش عدده 2300 فارس في المقدمة، والجنرال «لان»
Lannes
ومعه 2700 في الميمنة والجنرال «لانوس»
Lanusse
ومعه 2400 رجل لحفظ خط الرجعة، والجنرال دافو
Davout
ومعه ثلاثمائة من فرسان يقوم بحفظ المواصلات بين الجيش والإسكندرية، وبمنع الأعراب من دخول شبه جزيرة أبي قير.
وتلاقى الجيشان وجها لوجه ومكثا ساعتين وقد لزما السكون، ثم بدأت المدافع الكبيرة تقذف نيرانها على مراكب صغيرة للأتراك دخلت بحيرة ادكو فغرق بعضها وانسحب البعض الآخر، وتقدم الجنرال مورات بفرسانه وبأربعة بطاريات من المدفعية ونزل الأتراك إلى السهل حيث كان الفرسان الفرنسويون ينتظرونهم، وقذفت المدافع عليهم النار، وفغرت البنادق أفواها تمطرهم الرصاص فحاولوا العودة والنزول إلى المراكب.
وكانت النتيجة أن نابوليون تمكن في يوم واحد «25 يوليو» من القضاء على ذلك الجيش العثماني المؤلف من خيرة الجنود الإنكشارية بسالة وإقداما، وقتل منهم في هذه الواقعة عدد كبير، واختل نظام الجيش العثماني فأركن جنوده إلى الفرار طالبين النجاة بالالتجاء إلى القوارب في مياه أبي قير، ولكن الجزء الأكبر منهم لم يتمكن من اللحاق بالسفن فغرق منهم خلق كبير.
وقد ذكر الفرنساويون أن نحو عشرة آلاف من الجنود الإنكشارية غرقوا في محاولتهم الفرار، وذكروا أيضا أن السر سدني سميث أميرال الأسطول الإنكليزي كان في البر مع فئة من ضباط الإنكليز هيئة أركان حرب المشير مصطفى باشا، فلما رأى هزيمة الجيش العثماني، وبعد أن كاد يقع أسيرا في يد الفرنساويين، أسرع بالنزول في القارب للحوق بسفينته، وهنا ذكر المؤرخون رواية لا أجد ما يدعو إلى عدم تصديقها، وإن كنت لم أجد ما يثبتها أو ينفيها في المصادر الأخرى، تلك الرواية هي أنه كان بين الجنود العثمانيين الذين ألقوا بأنفسهم في البحر فرارا من الفرنساويين، جندي من الباشبوزق قد غلبته الأمواج، وحامت حوله رسل الموت، وهو يطفو مرة ويرسب أخرى، حتى ألقته المقادير بجوار قارب السر سدني سميث الذي أبصر ذلك الجندي المشرف على الهلاك فمد يده لإنقاذه، وتمكن بمساعدة من معه من رفعه إلى القارب فلم يكن من المغرقين.
أفتدري أيها القارئ، أو كنت تعلمين أيتها المقادير، من كان ذلك الجندي المشرف على الهلاك الذي طرحته أمواج القدرة الإلهية بجوار ذلك القارب الذي يحمل بحارة من الإنكليز؟ ولم ترمه بجوار قارب من القوارب التي وصل إليها بعض أولئك الجند الذاهلين عن إخوانهم في الملة والدين، وكل منهم قد ذهل عن أخيه، وفصيلته التي تأويه؟
ذلك الجندي هو محمد علي من بلدة قولة الحقيرة، قدم مع القادمين المتطوعين لخلاص مصر من أيدي الفرنساويين، وما كان هو يدري، ولا المنجم يدري، أنه جاءها وسيجيئها ليستخلصها لنفسه، ولأولاده من بعده، سواء من أيدي الفرنساويين، ثم المماليك، ثم الإنكليز، ثم الأتراك ... ولكن إلى حين!! وهل كان يدري السر سدني سميث، وهو يمد يده إلى ذلك الجندي البائس الضائع الذي يكاد يلفظ النفس الأخير، أن هذا الرجل، بعد ثمانية أعوام بالضبط من هذا التاريخ 1807، تحت قيادة الجنرال «فريزر» ويلحق بها العار والشنار، ويباع بعض جنودها الأسرى من الإنكليز، بيع السلع والمماليك والعبيد في سوق الرقيق؟ أتراه لو كان يدري ماذا كان يفعل؟ أظنه كان ينقذه من الغرق، ولكن ما أظنه كان يسمح له بالعودة إلى أرض مصر في الحملة العثمانية الثانية؟! ولو غرق ذلك الجندي في تلك اللحظة، لتغيرت صحائف التاريخ، ولما رأت مصر نبوغ محمد علي وهمته، ولا بسالة إبراهيم وبطولته، ولا إسراف إسماعيل ومهارته، ولا ذكاء عباس وكارثته!
أما قائد الحملة العثمانية السر عسكر مصطفى كوسة باشا فإن الجنرال مورات - قائد الخيالة الفرنساوية التي أبلت بلاء حسنا في هذه الواقعة وكانت لها اليد العليا في ذلك الفوز الذي أنعش قلوب الفرنساويين وأحيا ميت آمالهم - أسره بيده بعد أن أطلق عليه القائد العثماني رصاصة من غدراته أصابت يده، وجاء به إلى نابوليون فأحسن وفادته وأكرم مثواه.
وكان مع المشير مصطفى كوسة باشا أحد أولاده فامتنع مع نحو ثلاثة آلاف من الإنكشارية وتحصن في طابية أبي قير، وأبى التسليم على الرغم من النصائح التي أسداها إليه أبوه، وقد كلف الجنرال منو، الذي قدم بفرقة من الجند الفرنساوي من رشيد واشترك في المعركة، بأن يوالي حصار ذلك الحصن حتى يسلم من فيه، وقد سلموا فعلا بعد قليل من الزمن.
ولما وصلت أخبار هذا الفوز الفرنسي إلى القاهرة طرب الفرنساويون وشاركهم في أفراحهم وسرورهم جميع الذين كانوا يخشون قدوم الأتراك، سواء في ذلك النصارى وبعض أفراد المسلمين الذين انحازوا للفرنساويين، وارتبطت مصالحهم بوجودهم معهم، فقد روى «ميو» في مذكراته: أنه لما أذيع في القاهرة انتصار الفرنساويين في واقعة أبي قير كان النصارى يعانقون الفرنساويين فرحا وطربا، وأقيمت الاحتفالات والزينات ثلاثة أيام متوالية، وقال الشيخ الجبرتي في حوادث شهر صفر: «وفي عشرينه أشيع أن الفرنساوية تحاربوا مع العساكر الواردين على أبي قير، وأخذوا مصطفى باشا أسيرا وكذلك عثمان خجا وغيرهما، وأخبر الفرنسيس أنه حضرت لهم مكاتبة بذلك من أكابرهم، فلما طلع النهار ضربوا مدافع كثيرة من قلعة الجبل، وباقي القلاع المحيطة بصحن الأزبكية وعملوا في ليلتها «أعني ليلة الأربعاء» حراقة بالأزبكية من نفوط وبارود وصواريخ تصعد في الهواء» ... ولم يذكر الجبرتي صورة الخطاب الذي بعث به الجنرال دوجا إلى المشايخ واكتفى بقوله ... «وفي يوم الجمعة تاسع عشرينه «صفر» حضر مكاتبة من الفرنسيس بحكاية الحال «عن موقعة أبي قير» التي وقعت لم أقف على صورتها.» ولكن المعلم نقولا الترك حفظ نص ذلك المنشور الذي طبع في المطبعة الفرنساوية في القاهرة وتاريخه 2 ربيع الأول، وهذا نصه حرفيا من رسالة المعلم نقولا:
من حضرة ساري عسكر الجنرال «دوكا» قائمقام أمير الجيوش بمصر حالا: إلى علماء الإسلام، وكافة أرباب الديوان:
بعد السلام عليكم، وكثرة الأشواق إليكم، لا يخفاكم أنه وصلني خبر صحيح بأن العساكر الفرنساوية ملكت قلعة أبو قير في 14 ترميدور الموافق شهر صفر سنة 1214، وأنهم استأسروا فيها ثلاثة آلاف نفر ومن الجملة مصطفى باشا، وغاية ما وقع أن العمارة التي نزلت في أبو قير كانت بها عساكر خمسة عشر ألف لم يخلص منهم أحد بل الكل تلاشوا وهلكوا، ثم أخبركم عن لسان حضرة الساري عسكر الكبير بونابرته أنكم في الحال تظهرون هذا الخبر بين الخاص والعام، وتشهروه في الأقاليم المصرية فإنه خبر فيه سرور وفرح، وألزمكم أن تعرفوني في الحال عن إشهار هذا الخبر الفاخر المعتبر، وأخبركم أن حضرة الساري عسكر الكبير بونابرته يحضر إليكم عن قريب، والله تعالى يحفظكم والسلام ختام.
تحريرا في 22 ترميدور سنة السابعة لمشيخة الفرنساوية الموافقة إلى 2 ربيع الأول سنة 1214.
وأما عثمان خجا أو خواجة الذي ذكره الجبرتي، فقد كان من المماليك الذين تولوا الأحكام في مدة مراد بك، وكان من أتباع صالح بك الذي كان أميرا للحج عند قدوم الفرنساويين، وكان مولى من قبله على ثغر رشيد فسام أهلها سوء العذاب ظلما واستبدادا، وكان مع صالح بك في حجته الأخيرة، فلما مات هذا بالشام ذهب عثمان خجا إلى الآستانة وجاء مع المشير مصطفى باشا وجيشه.
ومع أن نابوليون أحسن معاملة مصطفى باشا وولده توددا للعثمانيين وتقربا منهم، ورغبة منه في اتخاذ أسيره العظيم واسطة في الصلح والمخابرات مع رجال الدولة، فإنه أراد، من جهة أخرى، أن يفهم المصريين والعثمانيين أنه لا يعفو عن المماليك ولا يعاملهم كما يعامل الأتراك ، فأصدر أمره بقتل عثمان خجا، وفي رواية الجبرتي، أنهم ذهبوا به إلى رشيد «وطافوا به في البلدة يزفونه بطبولهم وهو مكشوف الرأس حافي القدمين حتى وصلوا به إلى داره، فقطعوا رأسه وعلقوه على شباك داره ليراها الناس أجمعين» ... وهذه الرواية ناقصة؛ لأن نابوليون ما كان ليأمر بقطع رقبة كبير من أمراء المماليك بعد أن وقع في يده أسير حرب، كما وقع مصطفى باشا وولده وغيره، إلا بناء على تهمة توجه إليه، وحكم يصدر عليه، وقد وفق المعلم نقولا الترك في رسالته، إلى الحصول على صورة التهمة التي وجهت إلى عثمان خجا، والفتوى بالحكم عليه بالإعدام، وقد طبعت تلك الفتوى في المطبعة الفرنساوية، ولأهميتها التاريخية ولعدم تداولها في المصادر العربية نأتي على نصها:
هذه صورة الفتوى حكم الشرع الشريف الذي صدر من محكمة رشيد دام جلالها على عثمان خجا «خواجة» خطابا إلى حضرة الجنرال الحاكم في البلد المذكورة مؤرخ في أربعة وعشرين من شهر ترميدور من إقامة الجمهور الفرنساوي، الموافق 8 ربيع أول سنة 1214:
وصلتنا مكاتبتكم بالأمر أننا نستخير ونكشف عن جميع الأعمال التي حدثت من طرف عثمان خواجة كردلي، وننظر إن كان حصل منه الشر أكثر من الخير، وبموجب هذا الأمر بحضور حضرة سيدنا شيخ الإسلام العالم المتورع الشريف أحمد الخضري مفتي حنفي، ونقيب الأشراف المكرم المحترم الشريف بدوي، وقدوة الأعيان الحاج أحمد أغا السلحدار، والمكرم علي شاويش كتخدا، وقدوة النجار أحمد شحال، والمكرم إبراهيم الجمال والشريف على الجماني «لعله الحمامي» والشيخ مصطفى ظاهر والشريف إبراهيم سعيد والمكرم محمد القادم والحاج باشي سليمان وبحضور جماعة من المسلمين خلاف المذكورين أعلاه.
ثم حضر رمضان حمودي ومصطفى الجبار وأحمد شاويش وعبد الله والحاج حسن أبو جودة والحاج بدوي المقرالي وعلي أبو زرازين، وبدوي دياب وحسن عرب، وثبت من إقرارهم ومن شهادتهم أن عثمان الخواجة المذكور كان ظلمهم ظلما شديدا بالضرب والحبس من دون حق، ونهب أملاكهم وخلاف ذلك، سئل جماعة من المسلمين الحاضرين في المجلس إن كان حصل من عثمان خواجة الشر أكثر من الخير فكلهم قالوا بلسان واحد: إنه حصل من طرف عثمان خواجة الشر أكثر من الخير، وبسبب ذلك انقطع رأس عثمان خواجة حاكم رشيد سابقا.
مطابق لأصله ومعناه باسم حاكم رشيد الآن، طبع بالمطبعة الفرنساوية بمصر المحروسة.
فهل كانت تلك المحكمة الغريبة تصدر هذا الحكم على عثمان خواجة حاكم بلدتهم سابقا، لو أتيح للعثمانيين الظفر والفوز في واقعة أبي قير؟ أو ما كان أولئك المشايخ والأعيان يستقبلونه بالطبول والزمور، ويقيمون له الولائم، ويمدحونه بالقصائد، ويذكرون ما كان عليه من عدل وكرم وسماحة؟؟
ألا إنها الأيام أبناء واحد
وهذي الليالي كلها أخوات
إن في ذلك لعبرة!
ومع أن انتصار الفرنساويين في واقعة أبي قير قد كان عظيما وحاسما، إلا أنهم ابتاعوا ذلك الفوز بثمن غال وبأرواح ثمينة عزيزة خصوصا لدى جيش سدت في وجهه السبل وصار إمداده بالرجال مستحيلا، فقد خسر الفرنساويون في هذه الوقعة - على رواية نابوليون في تقريره لحكومة الديكتوار «ولاحظ أنه كان في جميع هاتيك التقارير يخفف من ذكر الخسارة ويباهي بانتصاره ويبالغ في خسائر أعدائه» - خمسمائة قتيل وخمسمائة جريح، ومات من قواده وضباطه الجنرال لاتورك (Letureq)
والقائد دوفيقية (Duvivier)
والقائد كريتين (Cretin)
5
ومن أركان حربه الضابط (Guilbert)
وجرح الجنرالان لان ومورات وفوجيبر والضابط مرانجيه.
ومما يدل على سرور الفرنساويين بنتيجة تلك الواقعة، ذلك المنشور الذي أصدره الجنرال نابوليون إلى جيشه في اليوم التالي وفيه يقول:
إن اسم أبي قير كان شؤما لدى عموم الفرنساويين، ولكن يوم 7 ترميدور «25 يوليو» جعل ذلك الاسم مقرونا بالفخار، وأن الانتصار الذي حازه الجيش في هذا اليوم سيساعد على عودته إلى أوروبا في وقت قريب، لقد فتحنا «ماينيس» وامتلكنا حدود «الرين» بإغارتنا على جزء من ألمانيا ونعيد اليوم فتح أملاكنا في الهند وأملاك حلفائنا، وهكذا تمكنا بواسطة معركة واحدة من أن نضع في يد حكومة بلادنا الوسائل اللازمة لإجبار حكومة إنجلترا، على الرغم من انتصاراتها البحرية، على عقد صلح تفتخر به الجمهورية، ولقد تكبدنا كثيرا من المشاق وقاتلنا أعداء من جميع الأجناس والعناصر، وسنضطر أن نقهر غيرهم ولكن النتيجة ستكون جديرة بفخارنا، وجديرة بتقدير الوطن لأعمالنا حق قدرها.
وبدأ نابوليون في تنشيط رجاله بمكافأتهم على أعمالهم ومجهوداتهم فأصدر أمره لقومندان الطوبجية بأن يسلم إلى فرقته الجنرال مورات الخيالة المدفعين اللذين كانت الحكومة الإنجليزية أهدتهما للباب العالي وغنمهما الفرنساويون في هذه المعركة، وأمر أن يحفر على ذينك المدفعين اسم الأورط الخيالة التي اشتركت في الواقعة، وأن يحفر عليهما كذلك اسم الجنرال مورات والأدجونات جنرال «رواز» وأن يكتب على حافة كل مدفع «واقعة أبي قير»، ثم أصدر أمره بأن تسمي ثلاث قلاع من قلاع الإسكندرية بأسماء كريتين ودوفيفيه ولاتورك؛ تذكارا لأولئك القواد والضباط الذين قتلوا في المعركة، وقد ورد ذكر أسماء هذه القلاع في حصار الإنجليز للإسكندرية في الحرب الأخيرة مدة الجنرال منو، وأصدر كذلك نابوليون أمره بترقية الجنرال فولتريه والجنرال برتران، ومنح الأطباء الذين عالجوا الجرحى ثلاثة آلاف جنيه.
ومما هو جدير بالذكر، فيما له مساس بتأثير الظروف والحظوظ أو المقادير على بني الإنسان، أن واقعة أبي قير هذه أثرت في تاريخ الجنس البشري، وفي حياة الأشخاص الذين اشتهر اسمهم فيها، ولا سيما نابوليون بونابرت وصهره «فيما بعد ذلك» الجنرال مورات، فواقعة أبي قير مهدت لنابوليون العودة إلى فرنسا متوجا بنار الفوز والانتصار والشهرة الحربية، فمكنه ذلك من القبض على صولجان الحكم في فرنسا، وواقعة أبي قير الذي أظهر فيها مورات من المهارة العسكرية في حركات الخيالة، ومن الجرأة والإقدام ما جعل نابوليون ينسى، أو يتغاضى عما نسب إلى مورات من العلاقات الغرامية مع زوجته جوزيفين أثناء معارك إيطاليا، فقد كان مورات فتى رشيق القوام، حلو الشمائل، محبوبا لدى السيدات، وكانت له منزلة خاصة لدى «مادام تاليان» ولدى «جوزيفين» وطن في أذن نابوليون نبأ هذه العلاقات النسائية مع مورات فغضب عليه وأساء معاملته في إيطاليا، وما قبله في حملة مصر إلا مضطرا بتأثير مادام تاليان، أو رغبة من نابوليون في إبعاده عن فرنسا خلال غيبته في حملة مصر، ومع أن مورات أبلى بلاء حسنا في واقعة إمبابة، فإن قلب نابوليون لم يصف له إلا بعد ذلك الفوز الحاسم في أبي قير - ذلك الفوز الذي اشتراه مورات بتعريض حياته للخطر والهلاك.
وكان ذلك سببا في توطيد علائق المحبة بين الرجلين! وكانت أبو قير سببا في زواج مورات «بكارولين» أخت بونابرت، ثم إلى ما وصل إليه حتى صار ملكا لنابولي في إيطاليا ... وهكذا الأقدار!! •••
ولما وصلت أنباء تلك الواقعة إلى أوروبا اهتزت لها جوانب فرنسا طربا وسرورا سيما وقد كانت فرنسا في ذلك الوقت مخذولة في حروبها مع النمسا وغيرها من الدول المعادية.
وأما الباب العالي فإنه أظهر السخط على السر سدني سميث الذي كان سببا في المجازفة بتلك الحملة، وتعريض جيش كبير من عساكر الدولة العثمانية للانكسار، دون اتخاذ الوسائل الكافية للنصر، وانتهز أحمد باشا الجزار حاكم عكا فرصة انخذال السر سدني سميث فأكثر من التشنيع عليه ليبرر لدى رجال الدولة تأخره عن المخاطرة برجاله في تلك الحملة المشئومة.
وكان أميرال الأسطول العثماني يدعى باترونابك، فلما فشلت الحملة اتهمه الإنكشارية في رودس بأنه مالأ أعداء الإسلام وقصر في واجباته فحكموا عليه بالإعدام وقتلوه أشنع قتلة، ومن آراء نابوليون في هذه المعركة قوله في مذكراته التي أوحى بها للجنرال برتران في سانت هيلانة:
ليت شعري ماذا كان يؤمل السر سدني سميث من تقرير تلك الحملة والإشارة بها؟ أكان يؤمل الاستيلاء على مصر بواسطة ثمانية عشر ألف رجل من المشاة عديمي الخبرة والدربة، ولا خيول عندهم ولا مدافع ولا آلات حربية تحمي ظهورهم؟ أم كان يرجو من وراء ذلك أن يحمل الجيش الفرنسي على فتح باب المخابرات لكي يعود إلى أوروبا؟ فهل نسي أن بونابرت كان قائد ذلك الجيش وبطله المغوار؟ لا يوجد إلا جواب واحد على هذه الأسئلة، وهو أن جهل ذلك الضابط البحري بشئون الحرب البرية هو الذي برر عنده مشروع تلك الحملة، ولقد ارتكب مثل هذه الغلطة الفظيعة حين ألقى في يد الهلاك والفناء، على سواحل دمياط، بضع مئات من أحسن الجيوش الإنكشارية بعد هذا التاريخ بشهور قلائل . ا.ه.
ولكن هناك جوابا آخر غير جهل السر سدني سميث القائد البحري، بالحرب البرية ... ذلك الجواب الذي أثبته تاريخ إنكلترا الاستعماري في جميع حوادث القرن الماضي، هو أن الإنكليز لا يبالون بمقدار ما يعرضون من الرجال للموت والفناء، ما دام أولئك الجنود من جنس غير جنسهم، وطينة غير طينتهم، فلهم الغنم وعلى غيرهم الغرم، ووقائع السودان، وحملة هيكس باشا، وحوادث الحرب الأخيرة في شمال فرنسا، أعظم برهان على هذا الرأي، والسياسة لا قلب لها ولا ضمير، وهكذا فعلت فرنسا بأهل مراكش والجزائر في الحرب الأخيرة وهكذا تفعل جميع الأمم والدول. (5) استطلاع أخبار فرنسا
وفي صبيحة اليوم التالي للواقعة «26 يوليو»، وقبل أن يعود نابوليون إلى الإسكندرية أوفد اثنين من ضباطه لمقابلة السر سدني سميث في بارجته المسماة «تايجر» «النمر» بحجة المخابرة معه في تبادل الأسرى من الفريقين؛ إذ كان عند الأميرال الإنكليزي نحو ثلاثين من الجند الفرنساوي الذين أسروا في حصار عكا، كما أنه كان عند الفرنساويين كثير من أسرى الأتراك، ولم تكن رغبة تبادل الأسرى هي التي حملت نابوليون على إيفاد ذينك الضابطين لمقابلة عدوه اللدود، بل كانت له من وراء ذلك غاية أخرى، وهي الوقوف من السر سدني سميث على أخبار فرنسا وأحوالها، بعد أن انقطعت أخبارها عن نابوليون عدة شهور، وربما كانت له غاية أخرى، وهي الوقوف على حركات خصمه وسكناته، لعله يتمكن من الإفلات من يده، خصوصا وقد صمم نهائيا على مغادرة القطر المصري والعودة إلى فرنسا بعد أن تحقق لديه أن الحملة الفرنساوية في مصر مقضي عليها بالفشل، لضعف الحكومة المركزية في باريس، ولانقطاع المواصلة والمدد بين فرنسا ومصر بعد تحطم الأسطول الفرنساوي، وعجز البحرية الفرنساوية عن مجاراة الإنكليزية، فلما وصل الضابطان المشار إليهما آنفا إلى البارجة الإنكليزية، استقبلهما السر سدني سميث بالحفاوة والتكريم، وذكر «بوريين» في مذكراته أن نابوليون بعث مع رسوليه بهدايا نفيسة للسر سدني سميث، فأهدى هذا مثلها للضابطين ولاطفهما كثيرا وقبل منهما ما جاءا لأجله من تبادل الأسرى.
ولم يكن ليخفى على مثل السر سدني سميث أن وراء فكرة تبادل الأسرى وزيارة أولئك الضباط غاية أخرى لنابوليون، ولكن لم يثبت لنا التاريخ في مذكرات أو معلومات ما كان ينويه الأميرال الإنكليزي حين أعطى الضابطين الفرنساويين، فيما أعطاهم، بضع نسخ من الجرائد الإنكليزية ومجموعة من أعداد جريدة «لاجازيت فرنسيز ده فرانكفورت» الصادرة في المدة الواقعة بين أول إبريل وآخر يونيو من تلك السنة، وقد كانت أعداد هاتيك الصحيفة والصحف الإنكليزية مشحونة بأخبار انخذال الجمهورية الفرنساوية وخسائرها في حروب ألمانيا والنمسا وإيطاليا.
ويرى فريق من كتاب الإنكليز أن السر سدني سميث أراد، بإرسال تلك الصحف لنابوليون، إيقافه على أحوال بلاده واختلال شئونها ليحمله على فكرة الانجلاء عن مصر والعودة إلى فرنسا، وكانت نظرية عقد صلح، مع قائد الجيش الفرنسي في مصر، يقضي بجلاء ذلك الجيش عن وادي النيل، جلاء مقرونا بالحقوق العسكرية، أو ما يسمونه «شرف الحرب»، فكرة قائمة برأس السر سدني سميث، والدليل على ذلك أن قرر تنفيذها مع الجنرال كليبر ووضعت لذلك معاهدة وافية بعد سفر نابوليون، دون أن تكون لدى السر سدني سلطة تخول له ذلك العمل من حكومة بلاده، ويرى فريق من كتاب الفرنساويين أنه أراد أن يحرك في نفس نابوليون فكرة الفرار من مصر حين يعلم باختلال الأحوال في فرنسا ونضوج الثمرة التي كان يتطلع إليها، وربما كان يؤمل السر سدني سميث من وراء ذلك أن ينقض على نابوليون ويأسره في البحر، ويأخذ كل ما معه من التحف والطرف غنيمة باردة!!
ويرى غير هؤلاء أن السر سدني سميث أراد مجرد النكاية بنابوليون حين أرسل له تلك الصحف، كأن يقول له: «كيفما كانت انتصاراتك في البر فأنت في قبضة يدي، وبلادك مخذولة في حروبها مضطربة في داخليتها» وربما أراد الأميرال الإنكليزي كل هاتيك الأغراض، ولكن ما لا نزاع فيه، والذي عليه ثقاة المؤرخين، هو أن نابوليون لم يكن جاهلا بأحوال بلاده واضطراباتها، فقد ثبت من التحقيقات التاريخية أن يوسف بونابرت، شقيق نابوليون، بعث له برسائل وصلت إليه، على رواية بعضهم، وهو في حصار عكا، وعلى رواية آخرين، وصلت إليه في القاهرة، شرح له فيها حالة فرنسا وحثه على الإسراع في العودة إليها، وقد روى «ميو» في مذكراته حكاية غريبة، وهي أن أسرة نابوليون في فرنسا استأجرت رجلا يونانيا اسمه «بورباكي» وكانت له سفينة راسية في ميناء «ليفورنو» بإيطاليا، واتفقت معه على مبلغ أربعة وعشرين ألف فرنك تدفع له إذا هو استطاع إيصال الخطابات التي كتبها شقيقه إلى يده في مصر، وذكر «ميو» أن بورباكي وصل إلى الإسكندرية وتواترت إشاعة في الجيش الفرنساوي، بعد عودته من سوريا بقدوم رجل يوناني في بعثة سرية من فرنسا، وشك «ميو» في وصول خطاب من حكومة الديركتوار لنابوليون يدعوه إلى العودة إلى فرنسا لتولى قيادة جيوشها، ولكن المؤرخين المعجبين بنابوليون، ذكروا نص ذلك الخطاب وتاريخه من باريس في 21 مايو سنة 1799، فيكون وصوله إلى القاهرة في أواخر شهر يونيو معقولا.
وعلى كل حال فلا نزاع في أن نابوليون لم يكن في حاجة إلى صحف السر سدن سميث ليصمم على العودة بنفسه إلى فرنسا، فإنه قبل أن يتولى قيادة الحملة على مصر كان متطلعا إلى السيادة على فرنسا، ولا يخفى على ذكاء مثله الوقاد أن مصر لا تكون إلا في يد صاحب السيادة البحرية، وأن اتصاله بفرنسا قد أصبح مقطوعا، وأن آماله في الشرق قد قضي عيها القضاء المبرم في عكا، فعودته لبلاده في ذلك الوقت كانت ضربة لازب، وإنما اتخذ ما ورد في تلك الصحف واسطة للتأثير على من أراد أن يعود بهم من القواد، وليبرر خطته أمام بقية ضباط الجيش وقواده ورجال البعثة العلمية الذين جاء بهم، ثم تركهم وانسل إلى وطنه.
قال بويين في مذكراته ما نصه:
لما وصلت الصحف التي أرسلها السر سدني سميث انكب نابوليون على تلاوتها طول الليل.
ومن حديثه بعد ذلك مع بوريين قوله:
لقد وقع ما كنت أخشاه! لقد خسر أولئك البلهاء إيطاليا، وذهبت انتصاراتنا هباء منثورا، فلا بد لي من مبارحة مصر حالا.
ثم أمر بأن يستدعى إليه الجنرال الكسندر برتييه، فلما حضر أمره بالجلوس وقال له: «إن الأمور في فرنسا سائرة من رديء إلى أردأ، ولا بد لي من السفر، وأحب أن تكون معي.» ثم اجتمع نابوليون بالأميرال «غانتوم» واستدعوا إليهم «بوريين» ناقل هذه الرواية، واتفق الأربعة فيما بينهما على كتم السر، وأمر غانتوم بإعداد البارجتين لامويرون ولاكاريير
La carrier, La Muiron
وإعداد سفينتين آخريين صغيرتين وهما لارافانش ولافورتون «الانتقام والحظ»، وأن تكون بحارة هاته السفن لا يزيدون عن 400 إلى 500، وأن يعد ما يلزم من المئونة والمياه ما يكفي لمدة شهرين، واختلى نابوليون بغانتوم وتباحث معه في طريق الفرار والتحيل للخلاص من الوقوع في أيدي السفن الإنكليزية.
وأصدر نابوليون أمره بالسفر إلى القاهرة، وذلك أولا لكي يوهم السر سدني سميث الذي كان واقفا بالمرصاد في بارجته «النمر»، بأنه مصمم على البقاء في مصر، وثانيا ليدعو معه من يشاء من خاصة رجاله، وليأخذ إلى فرنسا كل هاتيك الجواهر الثمينة، والمقتنيات الفاخرة، والطرف النادرة، التي جمعها من دور المماليك ومن نسائهم ... ولا نقول هذا القول الذي سبقت لنا الإشارة إليه جزافا، فقد ذكر المعلم نقولا الترك العبارة الآتية بحروفها «ودبر بونابرته أمر السفر، وهيأ ثلاث مراكب وأرسل لهم ليلا عدة صناديق مملوءة بالجواهر الثمينة، والأسلحة العظيمة، والأمتعة والقماش، والأمور التي كان اكتسبها.» (6) آخر عهد القاهرة بنابوليون بونابرت
ففي الخامس من شهر أغسطس سنة 1799، الموافق يوم الاثنين 3 ربيع الأول سنة 1214 برح نابوليون الإسكندرية قاصدا القاهرة، فبات يوم 6 في الرحمانية، وفي مساء يوم السبت 10 أغسطس وصل إلى القاهرة، قال الشيخ الجبرتي في حوادث ذلك اليوم: «وفي ليلة الأحد تاسعه حضر ساري عسكر الفرنساوية بونابرته ودخل إلى داره بالأزبكية، وحضر صحبته عدة أناس من أسرى المسلمين وشاع الخبر بحضوره، فذهب كثير من الناس إلى الأزبكية ليتحققوا الخبر على جليته، فشاهدوا الأسرى وهم وقوف في وسط البركة ليراهم الناس، ثم إنهم صرفوهم بعد حصة من النهار فأرسلوا بعضهم إلى جامع الظاهر خارج الحسينية واصعدوا باقيهم إلى القلعة، وأما مصطفى باشا ساري عسكر فإنهم لم يقدموا به لمصر بل أرسلوه إلى الجيزة مكرما.» ا.ه.
وفي نفس ذلك اليوم الذي كان يتفرج سكان القاهرة على أسرى الأتراك الذين اختار الجبرتي أن يسميهم «أسرى المسلمين» - مما يدل على أن المسلمين لا يميزون في الدين جنسية - كان المشايخ العلماء والأعيان في القاهرة وسراتها يسمعون من فم نابوليون، على لسان تراجمته، مر الكلام وقاذع اللفظ توبيخا لهم على ما أظهره المصريون من السرور والاستبشار بقدوم العثمانيين، وقد نقل لنا الجبرتي كلمات قليلة من العبارات التي فاه بها نابوليون في ذلك الموقف، إلا أن المعلم نقولا الترك جاءنا بخلاصة خطبة نمقها قلمه بعبارات مسجعة، كأنما كتبها لنابوليون ليلقيها بذلك النص!! والمؤرخون الجبرتي ونقولا الترك، إنما جمعا شتات كلمات سمعها كل واحد منهم على حدة من أفراد من الذين حضروا ذلك المحفل، ولا يبعد أن يكون كل واحد منهما حاضرا؛ لأن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي وإن لم يكن إذ ذاك عضوا من أعضاء الديوان، إلا أنه كان من كبار العلماء، وشيخ رواق الجبرتية، فله حق الذهاب مع العلماء والأعيان للسلام على نابوليون، كما أن المعلم نقولا الترك قد كان بالطبع من الأدباء المعروفين، وقد مدح نابوليون بقصيدة، وله صلات بالمستشرقين والسوريين المترجمين من أبناء جنسه، فمن الممكن أن تكون روايته لأقوال نابوليون أصدق وأوفى من عبارة الجبرتي، خصوصا وأن في عبارات نابوليون شيئا من التعريض بمنزلة النبي
صلى الله عليه وسلم ، فلا يرضى الجبرتي أن يثبتها في كتابه.
لهذا نرى من الضروري أن نثبت العبارتين، ولا سيما أن المسيو «كرستيان شرفيس» صاحب كتاب «بونابرت والإسلام» اهتم بعبارة المعلم نقولا ونقل صورة فوتوغرافية للصحيفة الواردة فيها، من النسخة المطبوعة في باريس.
وإلى القارئ عبارة الشيخ عبد الرحمن الجبرتي: قال: «ولما استقر ساري عسكر بونابرته في منزله ذهب للسلام عليه المشايخ والأعيان وسلموا عليه، فلما استقر بهم المجلس قال لهم على لسان الترجمان: إن ساري عسكر يقول لكم: إنه لما سافر إلى الشام كانت حالتهم طيبة في غيابه، وأما في هذه المدة فليس كذلك ؛ لأنكم كنتم تظنون أن الفرنسيس لا يرجعون، بل يموتون عن آخرهم فكنتم فرحانين مستبشرين، وكنتم تعارضون الأغا في أحكامه، وأن المهدي والصاوي ما هم «بونو»؛ أي: ليسوا بصليبيين ونحو ذلك، وسبب كلامه الحكاية المتقدمة التي حبسوا بسببها مشايخ الحارات فإن الأغا الخبيث
6
كان يريد أن يقتل كل يوم أناسا بأدنى سبب، فكان المهدي والصاوي يعارضانه ويتكلمان معه في الديوان ويوبخانه ويخوفانه سوء العاقبة، وهو يرسل إلى ساري عسكر فيطالعه بالأخبار ويشكو منها، فلما حضر عاتبهم في شأن ذلك فلاطفوه حتى انجلى خاطره، وأخذ يحدثه على ما وقع له من القادمين إلى أبي قير والنصر عليهم وغير ذلك.» ا.ه.
وأما عبارة المعلم نقولا الترك فهي كما يأتي «وفي خامس شهر ربيع أول «هذا خطأ وصوابه عاشر» حضر أمير الجيوش إلى مصر، ودخل بالعز والنصر، وبليت أعداؤه بالذل والقهر، وصحبته مصطفى باشا وولده مأسورين مع جملة الأسارى «وهذا أيضا غير صحيح؛ لأن مصطفى باشا وابنه أرسلا للجيزة قبل قدوم نابوليون بعدة أيام» وفي ثاني يوم من وصوله حضرت لعنده جميع الحكام والعلماء والأعيان وأرباب الديوان، وهنئوه بقدومه وانتصاره، فنظر إليهم بعين فراسته واختباره، وقد وجدهم في حزن شديد، وقد بلغه الهرج الذي حصل في غيابه، وعزمهم عليه في انقلابه، والكتابات التي أتت إليهم من مصطفى باشا وعثمان خواجة حين حضروا إلى أبي قير فقال لهم: «لقد أخذني منكم العجب أيها العلماء والسادات إذ إنني أراكم تغتمون وتحزنون من انتصاري، حتى الآن ما عرفتم مقداري، وقد خاطبتكم مرارا عديدة وأخبرتكم بأقوالي بأنني أنا مسلم موحد، وأعظم النبي محمد، وأود المسلمين، وأنتم إلى الآن غير مصدقين، وقد ظننتم أن خطابي هذا خشية منكم مع أنكم شاهدتم بأعينكم، وسمعتم بأذنكم، قوة بطشي واقتداري، وحققتم فتوحاتي وانتصاري، فقولي لكم إني أحب النبي محمد، ذلك لأنه بطل مثلي، وظهوره مثل ظهوري، بل وأنا أعظم منه؛ إذ إنني غزوت أكثر منه، ولي باقي غزوات غزيرة، وانتصارات كثيرة سوف تسمعونها بآذانكم وتشاهدونها بأعينكم، فلو كنتم عرفتموني، لكنتم عبدتموني وسوف يأتيكم زمان به تذلون، وعلى ما فعلتم تندمون، وعلى أيامنا تتحسرون وتبكون، فأنا قد بغضت النصارى ولاشيت ديانتهم وهدمت معابدهم، وقتلت كهنتهم، وكسرت صلبانهم، ورفضت إيمانهم، فهل تريدون أن أرجع نصرانيا ثانيا، فإذا رجعت فلا تجدون في رجوعي فائدة ، فدعوا عنكم هذه الأحوال، وامتثلوا لأمر الله المتعال، وكونوا فرحين مطمئنين، ليحصل لكم النجاح والصلاح، وقد نبهتكم مرارا عديدة، ونصحتكم نصائح مفيدة، فإن كنتم تعرفونها وتذكرونها فتربحوا وتنجحوا، وإن كنتم رفضتموها تخسرون وتندمون.» ا.ه كلام نابوليون، وقال المعلم نقولا: «ثم انصرفت العلماء وهم منذهلون من هذا الخطاب، ومتعجبين كل الإعجاب، ولم يقدر أحد أن يرد له جواب.» ا.ه.
ونحن نترك مناقشة ما كتبه مسيو شرفيس تعليقا وبحثا في هذه الأقوال المنسوبة إلى نابوليون بونابرت، إلى الباب الذي سنخصصه في الكلام على مسألة بونابرت وإسلامه، وقد وعدنا بذلك في مواقف سابقة، ولكن لا بد لنا من القول هاهنا بأن عبارة المعلم نقولا مبالغ فيها، وأن نابوليون ما كان ليخطر له ببال في تلك اللحظة، أن له بقية من «غزوات غزيرة وانتصارات كثيرة» ولعل المعلم نقولا كتب رسالته، أو أعاد تنقيحها، بعد أن ذاعت شهرة نابوليون وغزواته في أوروبا فاختلق من دماغه ما اختلق.
وكان من نتائج فوز الفرنسيين في واقعة أبي قير، كما هو ظاهر من عبارات نابوليون التي أذاعها في طول البلاد وعرضها، أن يقوى النفوذ الفرنسي، وأن يجنح الذين أظهروا الميل والولاء للفرنسيين إلى التغالي والتعالي على المصريين، وعدم المبالاة بشعورهم، ولا سيما بعد أن بدت من المصريين بوادر الشماتة والاستبشار بقدوم الأتراك، وما كان المصريون في ذلك الزمن يظنون أو يتخيلون أن الجيش التركي يقهر ويذل على أيدي جماعة كالفرنسيس، ومن العبارة الآتية التي ننقلها عن الجبرتي، دليل جلي على الحالة السياسية والشعور المصري في تلك الفترة، والعبارة على بساطتها لها دلالة قوية على ما كان يحس به المصريون بارزا، في صورة أبقتها لنا ريشة الجبرتي: قال بمناسبة الاحتفال بحفلة وفاء النيل عقب عودة نابوليون للقاهرة :
خرج النصارى البلدية من القبطة والوشام والأروام وتأهبوا للخلاعة والقصف والتبرج واللهو والطرب، وذهبوا تلك الليلة إلى بولاق ومصر العتيقة والروضة واكتروا المراكب ونزلوا فيها وصحبتهم الآلات والمغاني، وخرجوا في تلك الليلة عن طورهم، ورفضوا الحشمة، وسلكوا مسلك الأمراء سابقا من النزول في المراكب الكثيرة المقاديف وصحبتهم نساؤهم وقحابهم وشرابهم، وتجاهروا بكل قبيح من الضحك والسخرية وغير ذلك، وأجرى الفرنساوية المراكب المزينة وعليها البوارق وفيها أنواع الطبول والمزامير في البحر، ووقع في تلك الليلة في البحر وسواحله من الفواحش والتجاهر بالمعاصي والفسوق ما لا يكيف ولا يوصف ... إلى آخره ...
ونترك للقارئ ما يستنتجه من مغزى هذه العبارة، وننتقل إلى بقية أعمال نابوليون في مصر قبل مبارحته أرضها. (7) محاولات سياسية مع تركيا
كانت المدة التي قضاها نابوليون بونابرت في القاهرة بعد معركة أبي قير عبارة عن أسبوع واحد «من يوم الأحد 11 أغسطس إلى الأحد 18 منه» وصادف يوم 11 ربيع الأول الموافق 13 أغسطس المولد النبوي، فاحتفل السيد خليل البكري بالمولد كعادته احتفالا كبيرا أقام له مهرجانا فخما في الأزبكية، ودعا إليه نابوليون بونابرت إلى منزله فلبى الدعوة، وإلى القارئ رواية الجبرتي في هذا الصدد، قال: «دعا الشيخ خليل البكري ساري عسكر الكبير مع جماعة من أعيانهم وتعشوا عنده، وضربوا ببركة الأزبكية مدافع وعملوا حراقة وصواريخ، ونادوا في ذلك اليوم بالزينة وفتح الأسواق والدكاكين ليلا وإسراج قناديل واصطناع مهرجان.» ا.ه. وهكذا شارك نابوليون في احتفال المولد النبوي للمرة الثانية والأخيرة في حياته، وهو مشغول البال بالاستعداد للسفر، أو بعبارة أصح للهرب من القطر المصري.
وفي هذه المدة حاول نابوليون الصلح مع الدولة العثمانية، خصوصا وقد علم أن الصدر الأعظم يوسف باشا ضيا قد برح الآستانة وحضر بنفسه إلى الأناضول وسوريا ليجمع جيشا يهاجم به مصر من طريق الشرق، وأراد نابوليون أن يتخذ من وجود الشيخ مصطفى كوسة باشا في القاهرة أسيرا، واسطة في المخابرة مع الصدر الأعظم فكتب خطابا طويلا، لا تزال صورته باللغة الفرنساوية محفوظة في أوراق وزارة الحربية، وفي مكاتبات نابوليون بنمرة 436، وتاريخه 17 أغسطس؛ أي: قبل سفره من القاهرة لإسكندرية ومنها لفرنسا بيوم واحد، ولما كان هذا الخطاب على جانب عظيم من الأهمية السياسية، رأينا أن نأتي على تعريبه من الأصل الفرنساوي، قال بعد الديباجة مخاطبا الصدر الأعظم:
أريد بواسطة هذا الخطاب أن أوقفكم على مركز مصر الحقيقي لعلي بذلك أساعد على فتح باب المخابرات بين الباب العالي والجمهورية الفرنساوية فيما عساه يؤدي إلى وضع حد للحرب القائمة بين الأمتين، تلك الحرب التي لا تعود إلا بالخسارة على الجانبين، وأني لا أدري أي طالع نحس قضى بشبوب نار الحرب بين أمتين عاشتا طول الزمان على صفاء ووفاق لبعد ما بينهما من الشقة، ولعداوة فرنسا للروسيا، وعداوة هذه الأبدية لتركيا، وكيف لا ترى دولتكم أن كل جندي تخسره فرنسا، هو خسارة للأمة العثمانية؟ وكيف خفي على فطنتكم السياسية، وخبرتكم بشئون ممالك العالم أن الروسيا وألمانيا طالما اتفقتا على تجزئة المملكة العثمانية، ولم يمنعها عن ذلك إلا معارضة فرنسا؟
إن مثل دولتكم لا يخفى عليه أن العدوة الحقيقية للإسلام هي الروسيا! أوليس القيصر بولس الأول رئيس فرسان مالطة يعلن أنه يحمل شعار الصليبيين ضد الإسلام؟ أوليس هو حامي ذمار الأرثوذكسية الرومية وأتباعها أكثر أعداء المسلمين عددا وأشدهم حقدا؟
وأما فرنسا فإنها بالعكس من ذلك قضت على فرسان مالطة وأفرجت عن الأسرى الأتراك الذين اعتقلهم المالطيون، وفرنسا هي التي تعتقد الآن كما يعتقد المسلمون أن الله واحد فرد صمد.
ومعنى هذا كله أن الباب العالي قد أعلن الحرب على أصدقائه الأوفياء، وحالف عليهم أعداءه الألداء، ومن الغريب أن الباب العالي يبقى صديقا لفرنسا وهي مسيحية حتى إذا خلعت رداء المسيحية، وقاربت في معتقداتها دين الإسلام، قلب لها الباب العالي ظهر المجن وبادأها بالشر والعدوان! فلا نزاع إذن في أن روسيا وإنكلترا قد خدعتا الباب العالي، ومنعنا وصول رسلنا الذين بعثنا بهم للآستانة ليشرحوا لحكومتها فكرة وخطة الحملة الفرنساوية على مصر، تلك الخطة، التي صرحت مرارا وتكرارا من أنها لا ترمي إلا للقضاء على المماليك والإضرار بمصالح إنكلترا، دون التعرض إلى حقوق صديق فرنسا جلالة السلطان سليم، وأن المعاملة التي عاملت بها جميع رجال الدولة العثمانية الذين وجدتهم في مصر، وكذلك معاملتنا للسفن التي تحمل الراية العثمانية لأصدق برهان على حسن نيات الجمهورية الفرنسية، ولكن مع كل هذا أعلن الباب العالي الحرب على فرنسا في أول يناير، ومع علمي بذلك فإنني لم أيأس من إمكان إعادة المياه إلى مجاريها، فبعثت بالستوين «بوشان» قنصل الجمهورية الفرنساوية رسولا للباب العالي فقوبل بالقبض عليه وسجنه، وقوبلت مساعي بحشد الجيوش في غزة وأمرها بالزحف على مصر، فاضطررت أن أحاربها في سوريا، بدلا من أن تحاربني في وادي النيل.
ولا يخطرن على بالكم أنني أكتب هذا خوفا وتزلفا! كلا فإن جيشي قوي مدرب جامع لكل الصفات التي تؤهل لقهر أعدائه، وقد أقمت القلاع والحصون على الحدود وعلى شواطئ البحار فأصبحت في أمن، وأضحت جيوشي لا تغلب، ولكني مع كل هذا رأيت من واجبي نحو الإنسانية، ونحو السياسة الرشيدة الصحيحة، ونحو أقوم وأصدق حليف لفرنسا، أن أسعى هذا المسعى.
وإني واثق من أنه لا يمكن للباب العالي أن يدرك بالحرب وإراقة الدماء، ما يناله بالمسالمة والصفاء، وإني لعلى قدم الاستعداد لسحق أي جيش يقصد به الإغارة على مصر، ولكني مستعد من جهة أخرى أن أقابل كل مسعى للتوفيق بأحسن ما تريده الدولة العثمانية من التساهل، فعليكم بعد هذا أن توقفوا تيار هذه الاستعدادات التي تبذلون فيها نهاية جهدكم عبثا، ولتعلموا أن أعداء تركيا ليسوا في مصر، بل هم على مقربة من البوسفور، وهم الآن في جزيرة كوفو تمخر سفنهم في مياه الأرخبيل بسبب سوء تصرفات رجال الدولة «يشير إلى وجود السفن الروسية في البحر الأبيض وخروجها من البوسفور».
على تركيا أن تقوي جيوشها وتكثر من بناء السفن وتسليحها، ولتدعو المسلمين تحت ظل البيرق النبوي، لا لمحاربة فرنسا، بل لمحاربة الروس والألمان الذين يريدون جميعا إضعاف تركيا ونيل أغراضهم، وإن قلتم: إن تركيا تريد مصر، نقول لكم: إن فرنسا لم ترد ولا تريد أن تسلبكم إياها.
فإما أن تبعثوا بسفراء مفوضين لباريس، وإما أن تبعثوا برسول منكم إلى القاهرة، وإني أؤكد لكم أنه لا تنقضي ساعتان من الزمان في المناقشة والإيضاح، حتى يتم الاتفاق على الصلح والسلام، ونحن مستعدون أن نقفل البحر في وجه الروسيا ونقاوم تلك الدولة التي تتخذنا جميعا ألعوبة لأغراضها ومطامعها، فليس من مصلحة فرنسا أن توجه مهارة جيوشها وبسالة جنودها ضد المسلمين، بل بالعكس تقضي مصلحتها بالاتفاق على الدوام ضد أعدائها وأعداء الإسلام، وأظن أنني وفيت المقام حقه من الشرح والبيان، فإن أردتم المخابرة، ففي إمكانكم استدعاء الستوين بوشان الذي بلغني أنه محجوز عندكم، وفي إمكانكم اتخاذ أية وسيلة أخرى، وأني أؤكد لكم أن أسعد أيام حياتي هو اليوم الذي أستطيع فيه إيقاف تيار العداوة بين تركيا وفرنسا، والقضاء على هذه السياسة العقيمة ... إلخ.
الإمضاء «بونابرت»
7
وبعث نابوليون هذا الخطاب مع أحد الضباط العثمانيين المأسورين، باتفاق وتعليمات من المشير مصطفى باشا، ولا علم لمولانا الشيخ الجبرتي بهذه المساعي؛ لأنه لم يشر إليها بحرف واحد، ولكنها اتصلت بالمعلم نقولا الترك فأشار إليها بقوله: «وابتدأ «بونابرت» يكاتب الدولة على يد مصطفى باشا، ويذكرهم صداقة الفرنساويين ويحذرهم من باقي الدول، وأن الأوفق لهم إقامة الفرنساوية في مصر، وأنهم أنسب من الغز وتبقى الخطبة والسكة باسم الدولة العثمانية، ويمشي الحج كعادته القديمة ويدفعون الأموال المعتادة للخزينة، وأرسل مصطفى باشا هذا الخطاب مع أحد أتباعه.»
ومثل هذه البيانات لا بد أن يكون قد سمعها المعلم نقولا من المحيطين بالمشير العثماني من السوريين التراجمة، ومثل هذا لا يتيسر طبعا للشيخ الجبرتي.
ولا شك في أن هذه المساعي النابوليونية، لم تلق من الأتراك آذانا صاغية؛ لأن نفوذ إنكلترا كان بالغا حده في الآستانة بواسطة الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا، الذي كانت صلاته مع السر سدني سميث على غاية الإحكام والوفاق، وكان مع ضيا باشا عدد كبير من الضباط الإنكليز، كما يظهر ذلك جليا من أخبار متقطعة، وجمل متفرقة، يراها القارئ في تاريخ هذه الفترة من كتاب الأمير حيدر الشهابي، وكان السر سدني سميث تعرف بالأمير بشير الشهابي في بيروت وسعى للتوفيق والصلح بينه وبين أحمد بشا الجزار، فلم يحفل به ذلك الطاغية، فأراد الأميرال الإنكليزي الاستعانة بنفوذ الصدر الأعظم فلم يحفل به الجزار أيضا.
وليس هذا مجال البحث في تلك الآراء النابوليونية فيما يختص بعلاقات تركيا مع فرنسا السياسية، ولا سيما فيما له علاقة بمصر وبقاء السيادة العثمانية مع الاحتلال الفرنسي فإن أحوال الزمان قد تغيرت، ومراكز الدول قد تبدلت، إلا أن ذلك لا يمنع أن نقول إن ما قرره نابوليون من عداوة الروسيا لتركيا - تلك العداوة الدائمة الأبدية التي قضت بها صوالح الدولتين وتجاورهما، وتعارض أغراضهما - لا يختلف فيه اثنان، ولكن مع هذا وقفت بينهما السياسة الإنجليزية في ذلك الزمن كما وفقت بين فرنسا وتركيا ونفسها ضد الروسيا في حرب القريم، وكما وفقت بين فرنسا وروسيا ونفسها أيضا ضد ألمانيا وتركيا في الحرب الأخيرة الكبرى! فهل معنى هذا أن السياسة الإنكليزية أرقى وأدق وأمهر من جميع سياسات الدول الأخرى؟ وهل أوتي الإنكليز من الحكمة والدهاء وبعد النظر ما لم يؤته غيرهم؟ الحقيقة في رأينا القاصر أن الفضل في نجاح السياسة الإنكليزية في جميع الأدوار، راجع إلى تماسك أجزاء الأمة البريطانية، وتوحيد أفكار القائمين فيها بإدارة الأمور وتدبير مهام الملك، وإلى الكثير من الحظ الذي لا يزال طالعه ملازما لهذه الدولة البريطانية. (8) الاستعداد للسفر
في اليوم الذي كتب فيه نابوليون بونابرت ذلك الخطاب إلى صاحب الدولة الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا كتب خطابا بعث به إلى أعضاء الديوان من المشايخ والأعيان، لم يذكر نصه الجبرتي، ولا المعلم نقولا سوى ما قاله الأول: «وفي ثالث عشر أشيع أن كبير الفرنسيس سافر إلى جهة بحري، ولم يعلم أحد أي جهة يريد، وسأل أحدهم بعض أكابرهم فأخبر أن ساري عسكر المنوفية «الجنرال لأنوس» دعاه إلى ضيافته بمنوف، وراج ذلك على الناس وظنوا صحته.»
وإلى القارئ نص خطاب نابوليون معربا عن المصادر الفرنسية:
إلى أعضاء الديوان الموقرين
غدا أسافر إلى منوف حيث أنوي التنقل في جهات الوجه البحري لأقف بنفسي على المظالم التي يمكن أن يكون قد ارتكبها الحكام، وأتفقد الأحوال وأتعرف بأهالي البلاد، ولذلك أطلب منكم أن توطدوا دعائم الثقة عند الخاصة والعامة، وأكدوا للأمة المصرية، أنني أحب المسلمين، وأسعى في خيرهم وسعادتهم، وأفهموا الناس أن لدي من الوسائل ما أنفع به الأصدقاء، وأنكل بواسطته بالأعداء، وأحب أن تبعثوا لي دائما بأخباركم، وتوقفوني على حقائق الأمور ومقتضيات الأحوال. ا.ه.
الإمضاء «بونابرت»
وظاهر أن نابوليون إنما قصد بهذا الخطاب التعمية والإبهام لكيلا يذيع سر سفره من القطر المصري.
وروى بعض المؤرخين أنه قد كان في نية نابوليون قضاء أسبوع آخر في القاهرة لكثرة ما لديه من المهام التي تقضي وضع خطط ونظامات، ولأنه كان يود أن يأخذ معه صديقه الجنرال «ديزيه» فاتح الصعيد ليكون من أكبر أنصاره وأعوانه فيما يطمع إليه من الأغراض في فرنسا، ولكن «ديزيه» كان في أقاصي الصعيد وتلزم لحضوره مدة طويلة، وما منع نابوليون من انتظاره إلا ما ورد إليه من الأخبار التي بعث بها الأميرال غانتوم من الإسكندرية يخبره فيها بابتعاد السفن الإنكليزية عن المياه المصرية، أنه إن لم تسافر السفينتان اللتان ستقلان نابوليون وحاشيته 24 أغسطس، فلا يبعد أن تعود البواخر الإنكليزية، ويكون السفر إلى فرنسا مهددا بالخطر إن لم يكن مستحيلا.
ففي 18 أغسطس برح نابوليون القاهرة قاصدا منوف، وكان القواد الذين صمم على أخذهم معه الجنرالات مورات، وبرتران، وأندريوسي، ومارمون، ولان، ومن رجال البعثة العلمية مونج وبرتلو ودنوني وبرسفال، وروى بوريين سكرتير نابوليون في مذكراته قال: «وبقي سر السفر إلى فرنسا مكتوما، إلا أن الجنرال «لانوس»، قومندان مديرية المنوفية، لما نزل عنده في يوم 19 لم تخف عليه وجهتنا، فقال لي: «إنكم مسافرون إلى فرنسا» ولم يزده جوابي بالنفي إلا زيادة في الشك.»
وفي يوم 22 وصل نابوليون ومن معه إلى الإسكندرية، وقد قال برتران في مذكرات سانت هيلانة عند اختياره للجنرال كليبر في قيادة الجيش الفرنساوي في مصر ما نصه: «كان الجنرال ديزيه أكفأ ضابط لتولي رياسة جيش الشرق، ولكن وجوده في فرنسا كان أنفع، ويليه في الدرجة كليبر، ثم الجنرال رينيه، ولقد فكر نابوليون في استصحاب أولئك الثلاثة معه إلى فرنسا، وفي أن يترك القيادة في مصر للجنرال لاونس، ولكن لما فكر في أخطار السفر في البحر، فضل أن يترك رياسة الجيش في مصر في يد ضابط ذي كفاية ووقع اختياره على الجنرال كليبر.»
وهذه العبارة كتبت بعد ستة عشر عاما من هذا التاريخ، وأراد بها نابوليون تبرئة نفسه مما وجه إليه من التهم، مع أنه لم يكن يحب الجنرال كليبر، ولم يرد أن يقابله قبل سفره من مصر خشية من جرأة كليبر ولسانه المر، وتحاشيا من أن يقول له: «إما أن نسافر معا وإما أن نبقى معا»، وإلا لو أراد أن يجتمع بالجنرال كليبر قبل سفره، لضرب له موعدا مناسبا، بل وما كان ليكلفه مشقة العودة إلى دمياط بعد أن حضر إلى أبي قير بعد نهاية الواقعة، والدليل على هذا الرأي أنه اختار لمقابلته وإعطائه الرسائل والتعليمات التي كتبها لخلفه، الجنرال منو المعروف بوداعته وخضوعه وولائه لنابوليون.
8
وكان نابوليون لما وصل إلى الإسكندرية أقام خيمته في الجهة المعروفة الآن في الرمل بمحطة «كامب سيزار» «معسكر القيصر» فلما اجتمع به منو أعطاه كتاب التعليمات التي وضعها لكليبر، وترك معه أيضا عدة رسائل منها واحدة إلى ديزيه بدعوة إلى السفر لفرنسا بأقرب فرصة، ورسالة أخرى لصديقه الحميم «جونو» يعتذر فيه لعدم تمكنه من أخذه معه، وفي هذه الفترة، وفي تلك البقعة الأثرية، صرح نابوليون للجنال منو، لأول مرة، بما تتوق إليه نفسه من التطلع إلى ملك فرنسا؛ إذ قال له كما ورد في مذكرات سانت هيلانة:
سأصل إلى باريس وأطرد أولئك المحامين «أعضاء حكومة الديركتوار» الذين يهزءون بنا، والذين لا يصلحون لإدارة أحكام الجمهورية، وعند ذلك أضع نفسي في رياسة الحكومة وأجمع حولي الأحزاب المتنافرة، وأعيد الجمهورية الإيطالية، وأثبت قدم فرنسا في هذه المستعمرة الفاخرة (مصر).
رسالة بونابرت لكليبر خليفته
ترك نابوليون كليبر خلفا له في القيادة العامة على الجيش الفرنساوي في مصر، وبعبارة أخرى حاكما عاما مطلق التصرف في شئون القطر المصري، وكتب له خطابا مطولا له قيمة تاريخية عظمى؛ لأن نابوليون رسم في ذلك الخطاب أو في تلك المذكرة السياسية، الخطة التي يسلكها الجنرال كليبر في الأمور الداخلية والخارجية.
وهذا الكتاب محفوظ بالنص الأصلي في وزارة الحربية الفرنسية «وثيقة نمرة 4374»، ولأهمية هذا الخطاب، وعدم وجود أثر له في اللغة العربية، رأينا أن نأتي هنا على تعريبه بدقة وإتقان، قال:
تجد أيها القائد المواطن طي كتابي هذا أمرا تستلم بموجبه قيادة الجيش العليا، فإني قد عزمت على تقديم موعد سفري يومين أو ثلاثة أيام خوف عودة السفن الإنجليزية، وقد اصطحبت معي القوادبرتيه وأندريوسي ومورات ولان ومارمون والمواطنين مونج وبرتواليه، وتجد مع كتابي هذا بعض الأوراق التي ترى منها أننا قد خسرنا إيطاليا، وأن مدن ماتو وتورين وتوتون محصورة،
9
على أنه يوجد مجال للأمل بأن المدينة الأولى تتحمل الحصار إلى نهاية شهر نوفمبر المقبل، وأنا أرجو أن أصل إلى أوروبا - إذا ابتسم لي الحظ - قبل ابتداء شهر أكتوبر.
وتجد أيضا لغة اصطلاحية للمخاطبة مع الحكومة ولغة أخرى للمخاطبة معي أنا.
أرجو لا أن تسفر في شهر أكتوبر «جونو» ومعه خدمي وجميع حوائجي التي تركتها في القاهرة، ولا مانع أن تبقى لديك من تريده منهم.
ترغب الحكومة في سفر الجنرال ديزيه إلى أوروبا في شهر نوفمبر ما لم تطرأ حوادث مهمة، وستعود لجنة الفنون إلى فرنسا في شهر نوفمبر؛ أي: حالما تنتهي مهمتها وأعضاؤها يهتمون الآن في إنجاز الأعمال الباقية التي تقوم بها في زيارة صعيد مصر، على أنه يجوز لك أن تستبقي منها من تتوسم فيه المنفعة لك.
سافر الأفندي الذي أسرناه في أبي قير إلى دمياط، وقد كتبت لك لترسله إلى قبرص فهو يحمل إلى الصدر الأعظم كتابا تجد طيه نسخة منه.
إن وصول أسطولنا إلى برست وطولون، ووصول الأسطول الإسباني إلى قرطجنة مما لا يدع مجالا للشك في إمكان إرسالنا إلى مصر البنادق والسيوف والمسدسات وباقي المهمات التي تحتاجها، والتي سأرسلها لك مع قسم من الجيش الاحتياطي لتعويض الخسائر التي أصابتنا في الموقعتين، وستعلمك الحكومة حينئذ عن نياتها، وأنا شخصيا بصفتي العمومية وبصفتي الخصوصية سأعد الإجراءات اللازمة لإرسال لك ما يهمك من الأخبار من آن إلى آخر.
وإذا لم تنجح الوسائل التي سنستعملها للاتصال بك لطروء حوادث ليست في الحسبان، ولم يصلك من الآن إلى شهر مايو أية نجدة وأي خبر من فرنسا، وإذا تفشى الطاعون في مصر على الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذت هذه السنة، وقضى على 1500 جنديا من جيوشك مما يعد خسارة كبرى، فعليك والحالة هذه أن لا تركب متن الخطر في إثارة المعركة المقبلة، بل إنك مفوض في عقد الصلح مع الباب العالي العثماني، حتى ولو كان الجلاء عن مصر من شروط الصلح الأساسية، إنما يجب أن ترجئ تنفيذ هذا الشرط إلى حين عقد الصلح العام.
وإنك تقدر أكثر من أي شخص آخر، أيها الجنرال المواطن، أهمية امتلاك مصر وبقائها في يد فرنسا، إن السلطة التركية المتداعية الأركان تتهدم شيئا فشيئا وسيكون إجلاء فرنسا عن مصر من المصائب التي تعظم نتائجها؛ إذ قد نرى في أيامنا هذه البلاد تنتقل إلى يد أوروبية أخرى.
وعندما تضع خططك يجب أن تراعي الأنباء التي ترد إليك عن انتصار أو انكسار الجمهورية في أوروبا.
إذا أجابك الباب العالي قبل أن تصلك أنبائي من فرنسا، وقبل فتح باب مفاوضات الصلح التي اقترحتها عليه، فيجب أن تصرح أنك حائز على كافة السلطات التي أحوزها أنا، وباشر المفاوضة، وأبد بما سبق وصرحت أنا به من أن فرنسا لا تنوي اقتطاع مصر من أملاك الباب العالي، وأطلب انفصال الباب العالي عن التحالف، ومنحه إيانا حق التجارة في البحر الأسود، واطلب هدنة ستة أشهر نتبادل في أثنائها المصادقة على المعاهدة.
وإذا فرض أن الظروف حملته على أن تعقد أنت بنفسك المعاهدة مع الباب العالي، فيجب إشعاره بأنه لا يمكنك تنفيذها قبل التصديق عليها، وحسب المتبع بين كافة الدول تكون المهلة بين إمضاء المعاهدة والمصادقة عليها هدنة لا يحدث فيها أي عمل عدائي.
وإنك تعرف، أيها القائد المواطن، ما هي نظريتي في سياسة مصر الداخلية، فإنك مهما تفعل فستجد المسيحيين دائما أصدقاءنا، إنما يجب منعهم على كل حال من الاستخفاف بمواطنيهم حتى لا يتعصب الأتراك ضدنا، كما هم متعصبون ضد النصارى فتصبح العلة لا شفاء لها، ويجب أن تحذر روح التعصب، وتنومها إلى أن تتمكن من استئصالها، إذا حزت ثقة كبار مشايخ القاهرة فإنك تجمع حولك أفكار مصر بأجمعها، وأفكار كل زعيم من زعماء الشعب، لا شيء أقل خطرا علينا من المشايخ الذين يرهبون القتال ولا يعرفون طرقه، ولكنهم مثل القسيسين يوحون بالتعصب دون أن يكونوا هم أنفسهم متعصبين.
من جهة التحصينات فإن الإسكندرية والعريش هما مفتاحا مصر، كان لدي مشروع لإقامة متاريس من النخل في الشتاء المقبل، منها متراسان من الصالحية إلى القطية، ومتراسا من القطية إلى العريش، وأحد المتراسين الآخرين يقام حيث وجد الجنرال مينو مياها صالحة للشرب.
يطلعك الجنرال سانسون قائد فرقة الهندسة والجنرال سونجي قائد مدفعية الجيش على كل ما يتعلق بأمور جيشهما.
المواطن بوسيلج قد عهد إليه بالشئون المالية فقط، وعهدي به رجل جد وعمل، وقد صار لديه الآن بعض المعلومات عن الإدارة المصرية المرتبكة، كنت أفكر في إنشاء طريقة جديدة لجمع الأموال الأميرية فيما إذا لم يحدث أمر جديد مما يغنينا عن استخدام الأقباط تقريبا، وإني أوصيك بالتفكر مليا في هذا الأمر قبل الإقدام عليه، فالأفضل أن تبتدئ بمثل هذا العمل متأخرا قليلا، من أن تبتدئ به قبل أوانه.
ستظهر السفن الحربية الفرنسية بلا ريب في هذا الشتاء أمام الإسكندرية أو البرلس أو دمياط، يجب أن تتبنى برجا في البرلس، اجتهد في جمع 500 أو 600 شخصا من المماليك حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفرهم إلى فرنسا، وإذا لم تجد عددا كافيا من المماليك فاستعض عنهم برهائن من العرب، ومشايخ البلدان، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يحجزون مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة، ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يضم إليه غيرهم.
كنت قد طلبت مرارا جوقة تمثيلية وسأهتم اهتماما خاصا بإرسالها لك؛ لأنها ضرورية للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد.
إن المركز السامي الذي ستشغله بصفتك رئيسا أعلى، سيفسح المجال أمام المواهب التي خصتك بها الطبيعة، واعلم أن ما يجري هنا لذو أهمية كبرى، وستكون نتائجه عظيمة على التجارة فنحن في عهد ثورات كبيرة.
لقد اعتدت على أن أرى مكافأة أعمال الحياة ومتاعبها في أفكار حكم الأجيال الخالفة فإني أبرح مصر مع أسقف كبير؛ لأن مصلحة الوطن ومجده، الطاعة الواجبة علي نحوه، والحوادث الاستثنائية التي وقعت أخيرا، هي وحدها التي تحملني على المرور بين أساطيل الأعداء في ذهابي إلى أوروبا، ولكني سأبقى بقلبي وأفكاري بينكم، وسأفخر بنجاحكم مقدار فخري بنجاح ما أباشره بيدي، وأني أعتبر الأيام التي تمضي دون أن أعمل فيها عملا نافعا للجيش الذي أترك لكم قيادته، تعد من الأيام التي أسأت التصرف فيها، وقد عهدت إليكم إشادة البناء العظيم الذي وضعنا أحجاره الأساسية.
إن الجيش الذي أتركه في عهدتكم مؤلف جميعه من أبنائي فقد شاهدت علامات الإخلاص والتعلق بي على وجوههم حتى في أشد أيام محنتهم، فدعهم يسيرون في هذا السبيل، وسنقوم بهذه المهمة نحوهم نظرا للاعتبار الخاص الذي أكنه لك ونظرا لتعلقي الحقيقي بهم وسلام عليك.
بونابرت
وقع الخبر في مصر
دهش الناس في مصر من فرنسيين ومصريين حين وصل إلى القاهرة نبأ ارتحال بونابرت من مصر، فروى الجبرتي فقال:
وفي ثامن عشرينه «أي 28 ربيع الأول» ورد من بونابرته ساري عسكر الفرنساوية كتاب من الإسكندرية خطابا لأهل مصر وسكانها، فأحضر قائمقام دوجا الرؤساء المصرية وقرأ عليهم الكتاب، ومضمونه أنه سافر يوم الجمعة حادي عشرين الشهر المذكور إلى بلاد الفرنساوية لأجل راحة أهل مصر وتسليك البحر، فيغيب نحو ثلاثة أشهر، ويقدم مع عساكره ليصفو له ملك مصر ويقطع دابر المفسدين، وأن المولى على أهل مصر وعلى رياسة الفرنساوية جميعا هو كليبر، ساري عسكر دمياط.
ونحن لا نعلم ما إذا كان الجنرال دوجا قد اكتفى بقراءة خطاب نابوليون لأعضاء الديوان من المشايخ، أو أنه أمر بترجمته وطبعه ونشره؛ إذ لو فعل ذلك لجاز لنا أن نعتقد أن الجبرتي كان يحرص على نصه، كما أن المعلم نقولا لم يشر إليه مطلقا، وإن يكن قد حفظ لنا صورة الخطاب الذي وزع بإمضاء المشايخ، وهو ما لم يأت به الجبرتي على نصه، ولهذا فإننا نأتي على تعريب نص آخر خطاب بعث به نابوليون إلى أعضاء الديوان نقلا عن كتاب الكابتن لاجونكيير.
10
من القائد العام بونابرت إلى ديوان القاهرة المنتخب من خيرة الرجال وأوسعهم معرفة وأكثرهم حكمة:
القيادة العامة بالإسكندرية في 22 أغسطس سنة 1799
لما كنت عالما أن أسطولي على قدم الاستعداد، وأن جيشا كبيرا سيسافر، وكنت أعتقد كما قلت لكم مرارا بأنني إذا لم أضرب أعدائي ضربة شديدة أسحقهم بها فلا أستطيع أن أتمتع هادئا بامتلاك مصر التي هي أجمل بلاد الدنيا، فقد عولت على أن أكون على رأس أسطولي تاركا القيادة العامة أثناء غيابي للجنرال كليبر، وهو رجل ذو مزايا خاصة، وقد أوصيته أن يحفظ للمشايخ العلماء ما كنت أحفظه لهم من المحبة والود.
فابذلوا جهدكم ليثق به الشعب المصري ثقته بي، ومتى عدت بعد شهرين أو ثلاثة أكون مسرورا؛ لأني أحمل لهذا الشعب المدح والثناء، وللعلماء حسن الجزاء.
بونابرت
وكتب نابوليون الخطابين الآتيين للجنرال «دوجا» ولبوسيلج الروزنامجي:
من القائد العام بونابرت إلى الجنرال دوجا
القيادة العامة بالإسكندرية في 22 أغسطس سنة 1799
حينما تقرأ هذا الكتاب أكون أيها المواطن الجنرال في وسط البحر؛ لأن أحوال فرنسا توجب علي السفر إليها، وفضلا عن ذلك فإن سفري هو الوسيلة الوحيدة لتأمين هذه السفن ورجال الجيش.
إن كليبر يحفظ لك حبا واحتراما، وأنت واثق أن بعض السفن الحربية الفرنسية ستصل في الشتاء، وتستطيع أن تبحر عليها للعودة إلى منصبك في القسم التشريعي لتتمكن من استخدام مهارتك وحزمك لحفظ السكينة في هذه المدينة العظيمة وفي مصر والجيش.
وتأكد أنه مهما كانت الظروف التي يحكم علينا بها القدر فإنني أحفظ لك دائما من الاحترام والود مثل ما تشعر به نحوي.
بونابرت •••
من القائد العام بونابرت إلى المواطن بوسيلج
القيادة العامة بالإسكندرية في 22 أغسطس سنة 1799
إن الحوادث التي جرت في أوروبا منذ 15 يونية تجعل من واجبي الإسراع في السفر، وأرجو أن أصل قبل سقوط مدينة مانتو.
إن الجنرال كليبر الذي تولى قيادة الجيش يجلك ويحبك.
وسأطلع الحكومة يباريس على ما تقدم لهذه البلاد من الخدم الجليلة في كل يوم، ومهما كانت الظروف فإنك تستطيع أن تعتمد على نيتي في أن أقوم بتأدية كل عمل يسرك.
بونابرت •••
قلنا إن المعلم نقولا الترك حفظ لنا في رسالة نص الخطاب الذي وزع بإمضاء المشايخ عن سفر نابوليون؛ وهذا نصه:
من محفل الديوان الخصوصي، خطابا إلى سائر الأقطار المصرية، من الأقاليم القبلية والبحرية، وكامل الرعايا وفقهم الله!
نخبركم أنه حضر إلى الديوان مكتوب من حضرة الجنرال «دوكا» القائم مقام، بأن سري عسكر بونابرته الكبير، أمير الجيوش الفرنساوية، توجه إلى البلاد الفرنساوية لأجل حصول الراحة الكاملة إلى الأقطار المصرية، وأنه كان حضر له استعجال من الجمهور في بلاده، لطول غيابه، أقام عوضه رجلا كاملا عاقلا فيه شفقة ورحمة عامة على الرعية، جعله أميرا على الجيوش الفرنساوية، وأخبرنا القائم مقام أننا نكون في غاية الأمان والاطمئنان، على ديننا وعرضنا ومتاجرنا، وأموالنا وأسباب معاشنا، وكما كنا في زمان حضرة الساري عسكر الكبير بونابرته، ننصحكم يا أيها الرعايا لا تطيعوا أهل الفساد، واتركوا الفتن والعناد، وامتثلوا أمر خالق العباد، والسلام عليكم ختام.
الفقير السيد خليل البكري (نقيب الأشراف)
الفقير عبد الله الشرقاوي (رئيس الديوان)
الفقير محمد المهدي (كاتم سر الديوان)
الفقير مصطفى الصاوي الشافعي
الفقير سليمان الفيومي المالكي
الفقير السيد أحمد المحروقي
الفقراء: علي كتخدا، يوسف باش شاويش،
لطف الله المصري، يوسف فرحات،
جبران سكروج، ولمار بودوفز ذو الفقار كتخدا.
نظر وعلم: وكيل الفرنساواية «جاوتيه»
طبع بمطبعة الفرنساوية بمصرالمحروسة
ثم قال المعلم نقولا: «ثم حضر الجنرال كليبر من دمياط إلى بولاق والتقاه القائم مقام دوكا (Dugua)
وشيخ البلد دوسطين (Dustin)
ودخل مصر بالعز والنصر، وقدم السلام عليه القواد والحكام والعلماء والأعيان.»
وقال الجبرتي في ختام روايته عن سفر نابوليون:
فتحير الناس وتعجبوا في كيفية سفره ونزوله البحر مع وجود مراكب الإنكليز ووقوفهم بالثغر ورصدهم الفرنساوية من وقت قدومهم الديار المصرية صيفا وشتاء، ولكيفية خلاصه أنباء وحيل لم أقف على حقيقتها.
ونحن سنكمل لمولانا المرحوم الشيخ الجبرتي هذه الأنباء والحيل التي لم يقف على حقيقتها نقلا عن أقوال الذين رافقوا نابوليون في سفره، ومجازفته لتتم بهذه الصورة، ونختم الرواية.
وقع الخبر على كليبر
عرف القارئ من الفصل السابق أن نابوليون لم يكن ينوي الاجتماع بكليبر، ولذلك ترك أوامره وتعليماته للجنرال منو في ضواحي الإسكندرية، أما كليبر فإنه وصل إلى رشيد انتظارا لمقابلة نابوليون، فعلم من منو أن القائد العام سافر من الإسكندرية ولم يذهب إلى مكان المقابلة في رشيد، عند ذلك أحس كليبر بأن نابوليون خدعه، وأنه سافر قبل أن يقابله أو يستشيره في قبول تلك المهمة الشاقة في تلك الظروف العصيبة، كيف لا وقد كانت حالة الفرنسيين في مصر مما لا يغتبط به بحال من الأحوال على الرغم من انتصارهم في واقعة أبي قير؛ إذ لم يبق من الثلاثين ألف من الجنود الذين احتل بهم نابوليون مصر أكثر من عشرين ألفا، وكانت الأحوال المالية في غاية الحرج، ومرتبات الموظفين والجنود متأخرة مما ساعد على الانحطاط الأدبي، وتمشى هذا الشعور بين طبقات الجيش وأسلحته المختلفة.
وإذا ضممنا إلى كل هذا استعداد الأتراك، بالاشتراك مع الإنجليز، للهجوم على مصر، وشعور المصريين بالاشمئزاز من الفرنسيين وسلوكهم وآدابهم ومعاملاتهم الشخصية والعمومية، ونفور المصريين أيضا من الحاكم الأجنبي، ولو كانت حكومته أحسن نظاما وأوفر عدلا من حكم المماليك أو الأتراك.
نقول إذا ضممنا كل هذه الأمور بعضها إلى بعض، أدركنا حالة الجنرال كليبر النفسية، وتغيظه من بونابرت وسفره وتركه له هذه المهمة الشاذة القاسية، على الرغم من الظهور بمظهر الرياسة والسلطة الكبيرة التي كانت لسلفه نابوليون بونابرت.
روى منو فيما كتب من مذكراته بعد، أن كليبر حين وصل إلى رشيد - حيث تلقاه منو ليسلمه أوامر نابوليون - وعلم بسفر القائد العام، وأنه لم ينتظر مقابلته ووقف على أسماء القواد الذين اختارهم نابوليون للسفر معه أظهر منتهى الحنق والغيظ وسلق نابوليون بألسنة حداد.
وكان من أثر حقده وغيظه أنه أصدر أوامره في الحال بتسفير خليلة نابوليون «بولين فورس» كيما تتبعه إلى باريس وكيما تعلم بأمرها جوزفين، وفي ذلك من النكاية ما فيه، ولكيما يفهم نابوليون أنه «أي: كليبر» رفض الهدية التي أهداها له!
سفر نابوليون من مصر
كان سفر نابوليون بونابرت من مصر أشبه بالقصص الخيالية وأساطير الأولين منه بالحقائق التاريخية والحوادث الواقعية، فإنه كان يعلم علم اليقين أن السفن الإنكليزية الكثيرة العدد والعدد واقفة له بالمرصاد، وأن أعظم ما تتوق إليه نفس السر سدني سميث، أو أي ربان سفينة من سفن الأسطول الإنجليزي، هو أن يلقي القبض على نابوليون بونابرت رجل فرنسا وعدو إنكلترا اللدود، وكان يعلم فوق ذلك أن القابضين على زمام الأحكام في باريس يغارون منه ولا يريدون وجوده بينهم؛ لأن الشعب الفرنسي متحمس له، معجب به، والعقلاء من القوم لا يريدون الخلاص من استبداد الملوك ليقعوا في يد استبداد حربي، أشد نكاية وأثقل وقعا.
فنابوليون الرجل المملوء بالآمال كان يعلم كل ذلك، فلا الطريق مأمونة، ولا أصحاب السطوة في بلاده يرغبون في وجوده، ومع كل هذا صحت عزيمته على اقتحام الأخطار والمقامرة بكل شيء في الوجود، ولا أعز فيه من الحياة، التي خاطر بها؟ فلما للسماك وإما للسمك!
ونحن لا نريد أن نتبع نابوليون في سفره المحفوف بالأخطار، فتلك صحيفة من تاريخ الرجل وأخرى من تاريخ فرنسا، ونحن إنما نكتب تاريخ مصر، ويكفينا في هذا المقام أن نذكر ما له مساس بسفره من حوادث هذه الديار فنقول:
إن نابوليون اتفق مع الأميرال غانتوم على أن تكون تحت أمرته السفينتان لاكاريير
La Carriére
ولاميرون
La Muiron
وركب في الأولى بونابرت والجنرالان «برتيه ومونج» ومعهما «برتللو» العالم الرياضين و«بوريين» سكرتير نابوليون، وركب في الثانية الآخرون، وقد روى «بوريين» لنا في مذكراته أن عدد الذين ركبوا السفينتين كان يبلغ من أربعمائة إلى خمسمائة بين قواد وضباط وعلماء وأتباع، وكان ممن سافر مع نابوليون رستم المملوك المشهور الذي أهداه إليه السيد خليل البكري وسبقت لنا الإشارة إلى تاريخه معه، ومما رواه سافاري «كونت ده رفيجو» في مذكراته، أن نابوليون ومن معه غادروا ضواحي الإسكندرية ليلا بحيث لم يعلم بهم أحد، ولما نزلوا البحر من نقطة على الشاطئ «لا بد وأن تكون برج العرب قرب المكس»، تركوا الخيول التي كانوا يركبونها فعادت أدراجها جافلة إلى الإسكندرية فذعرت الحامية وارتفعت أصوات الأبواق، وهب الحراس ظنا منهم أن هناك حملة فاجأتهم على غرة، حتى إذا أبصروا الخيل بلا فوارس لها، ظنوا أن كمينا من الأعراب فتك بشرذمة من الجنود الفرنساويين، فأصدر قائد الحامية أمرا بإعداد حملة للاستكشاف، وعرف جواد نابوليون وأخبر بعض الخدم العائدين بما جرى.
ولما كنا قد وعدنا أن نكمل لمولانا الشيخ الجبرتي عبارته بذكر أنباء الحيل التي استطاع بها نابوليون بونابرت الوصول إلى فرنسا «مع وجود مراكب الإنجليز ووقوفهم بالثغر ورصدهم الفرنساوية» فلا مندوحة لنا من نقل بيان موجز للوسائل التي اتخذت للتملص من الأساطيل البريطانية، ولدينا في مذكرات بوريين، كاتم أسرار نابوليون ورفيقه في هذه الرحلة المحفوفة بالأخطار، العبارة الآتية:
قال بوريين:
وفي يوم 23 أغسطس سنة 1799 ركبنا في السفينتين «لاموبرون، ولاكاريير» وكان عددنا يتراوح بين 400 و500 وكانت الليلة حالكة الظلام بحيث كنا نلتمس الوصول إلى السفينتين تحت نور النجوم الضئيل.
ولم يكن الأميرال غانتوم حرا في تصرفاته، واتخاذ السبل البحرية التي يراها موصلة بنا إلى الشواطئ الفرنسية؛ لأن نابوليون استبد بالأمر، وقال للأميرال بصراحة وصرامة: إن إرادتي هي أن تسير بمحاذاة الشواطئ الإفريقية إلى أن نصل إلى جنوبي جزيرة سردينيا ... إن معي بضعة أفراد من الرجال الأبطال ومعي كمية من الذخائر والمدافع، فإذا انقض علينا الإنجليز ونحن بجوار الشاطئ الإفريقي، فإني أستطيع أن أنزل إلى الأرض اليابسة وأشق طريقي بهؤلاء الشجعان الصناديد إلى وهران، أو إلى تونس، أو إلى أية فرضة بحرية أخرى لعلنا نستطيع الحصول على ما يوصلنا إلى بلادنا.
تلك كانت إرادة نابوليون وعزيمته الصارمة!
ثم استمر بوريين في وصف الرحلة والقلق الذي كان يساور نابوليون ومن معه من انقضاض السفن الإنجليزية عليهم، حتى أراد الله الذي اختار نابوليون بونابرت لعرش فرنسا لينفذ على يديه إرادته العالية في أوروبا، أن تصل السفينتان الفرنسيتان إلى خليج «مريجوس» في جنوب فرنسا في الثامن من شهر أكتوبر من تلك السنة. •••
وهنا نقف بالقلم بعد أن وصلنا بنابوليون بونابرت إلى بلاده.
وإلى هنا ينتهي أمرنا مع نابوليون بونابرت وينتهي هذا الكتاب.
هوامش
ذيل أول
بحث في رواية إسلام نابوليون
كثيرا ما أشرنا في مواقف عديدة من هذا الكتاب إلى رواية إسلام نابوليون أو رغبته في اعتناق الدين الإسلامي، أو اعتقاده الشخصي في دين محمد عليه الصلاة والسلام، ووعدنا بأن نخصص بحثا في هذا الموضوع لما له من الأهمية العظمى من الوجهة التاريخية، ومن وجهة رأي رجل من أعظم عظماء الرجال، في الدين الإسلامي، رجل فتح مصر للعالم الأوروبي، وتولى الحكم فيها، بل وضع أسس النظامات والمباحث التي سارت في طريقها مصر، منذ ذلك العهد إلى يومنا الحاضر، وسنحاول التحقيق والتدقيق ما استطعنا، معتمدين في هذا المبحث العويص على تصريحات نابوليون وآرائه الشخصية في منفاه بسانت هيلانة، وكذلك على آراء الذين عاشروه في مصر وفي أوروبا، أو في منفاه أيضا، فنقول:
تناقل بعض المؤرخين رواية إسلام نابوليون بونابرت في مصر، وردد هذه الرواية كثيرون ممن لا يمحصون الحقائق، بحيث صارت، بغير حذر ولا تحفظ، كأنها حقيقة تاريخية، على الرغم من أن حياة نابوليون، بعد مبارحته أرض مصر نهائيا، معروفة مفصلة، وتمسكه بالمسيحية، وتتويج البابا له، وزواجه من ماري لويز بجميع المظاهر والطقوس المسيحية، من الحوادث المقررة المعروفة في صحائف التاريخ، ونحن نقرر هنا قبل الدخول في الموضوع، أو إطالة البحث:
أولا:
أن نابوليون بونابرت لم يعتنق الدين الإسلامي مطلقا.
ثانيا:
أن نابوليون ابن الثورة الفرنسية لم يكن له اعتقاد صحيح في دين من الأديان.
ثالثا:
أنه كان ينوي التظاهر باعتناق الدين الإسلامي إذا استحالت عليه العودة إلى فرنسا.
رابعا:
أنه كان يرى في سهولة الدين الإسلامي وموافقته للفطرة الإنسانية ما حببه فيه وأمال قلبه إليه.
ولدينا تصريحات نابوليون نفسه فيما أملاه على الجنرال برتران في مذكرات سانت هيلانة عن فتح مصر، وعن فكرة اعتناق الدين الإسلامي، وهي الحجة القاطعة في هذا الباب.
قال عن لسان برتران ما تعريبه: «كان دهاة السياسيين الذين خبروا مصر ووقفوا على أحوال سكانها وطباعهم يعدون الدين أكبر عقبة تعترض توطيد أقدام الفرنسيين في مصر، وقد قال «فولتي» الرحالة في سنة 1788: «للبقاء في مصر تجب مواجهة حروب ثلاثة أولاها ضد إنجلترا، والثانية ضد الباب العالي، والثالثة - وهي أشد صعوبة - ضد المسلمين الذين يتألف منهم شعب مصر.» وقد سببت هذه الأخيرة للفرنسيين بلاء شديدا، وكبدتهم خسائر جساما، وكانت أشد العقبات التي يصعب تذليلها.
وضع الفرنسيون أيديهم على الإسكندرية والقاهرة، وانتصروا في شبراخيت وإمبابة، ومع ذلك بقي مركزهم مزعزعا يعبث به المسلمون الذين أذهلتهم سرعة الحوادث، فخضعوا واستسلموا أمام القوة، ولكنهم لبثوا ينظرون بعين الكراهية والمقت إلى فوز «الكفار» الذين دنسوا بوجودهم مياه النيل المقدسة، وكان المسلمون يعدون من الفضيحة والعار وقوع الطريق الأول لبلد الكعبة المقدسة، بيد غير المؤمنين، وظل العلماء والأئمة يرددون الآيات التي تنص على مقاومة الكفار.
ومن المبادئ الأساسية التي سار عليها الأتراك والمماليك في سياستهم، أنهم أبعدوا المشايخ عن المناصب الإدارية والقضائية، ولذلك دهش العلماء والمشايخ الأجلاء، حينما رأوا أنفسهم في «زمن الفرنسيين» يولون القضاء والمناصب الإدارية، ويحكمون بين الناس، وعلا مقامهم في أعين الشعب ولم يمر شهر واحد من دخول الجيش الفرنسي إلى القاهرة، حتى تغير إحساس المشايخ نحو الفرنسيين، وتعلقوا تعلقا شديدا «بالسلطان الكبير»!! وأخلصوا له الود، وما كانت أشد دهشتهم حينما رأوا الفرنسيين الذين انتصروا في موقعة إمبابة يظهرون اهتماما كبيرا بقرى هؤلاء المشايخ وأملاكهم الخاصة ، ويحافظون عليها محافظة كبيرة، ولم يتمتع أولئك المشايخ من قبل بمثل الاحترام والإنصاف والرعاية التي تمتعوا بها تحت حكم الفرنسيين، بل سعى الناس إلى العلماء يطلبون حمايتهم، لا المسلمون وحدهم فحسب، بل المسيحيون أيضا من الأقباط واليونانيين والأرمن الذين كانوا يقيمون في مصر.
وكان المسيحيون قد انتهزوا فرصة دخول الجيش الفرنسي، وأرادوا أن يطرحوا عن أعناقهم النير القديم، وأن يخرجوا عن تقاليد البلاد وعاداتها وأن يحتقروا المسلمين أو يناوئوهم، فلما بلغت هذه الأخبار آذان القائد العام عنف أولئك المسيحيين، وأغلظ لهم القول، وأكرههم على مراعاة العادات القديمة وعدم الإخلال بها،
1
فقوبل عمله هذا من المسلمين بالفرح، ونال القائد العام ثقتهم التي لا حد لها.
لم يحفل الجيش الفرنسي بالدين منذ الثورة، ولم يدخل رجاله الكنائس في إيطاليا، ولم يغشوا كذلك كنائس مصر، ولم تغب هذه الملاحظات عن أعين العلماء والمشايخ الذين كانوا يغارون على الدين الإسلامي، وطربوا لهذا الأمر، واعتقدوا أن الفرنسيين، إن لم يكونوا من المسلمين، فهم على الأقل ليسوا من الكافرين، وأن «السلطان الكبير» من غير شك يحميه النبي! وجعلوا يذيعون هذه الفكرة، ويعملون على ترويجها بين الشعب، ويقولون للناس: إن الفرنسيين لم يكونوا لينتصروا على المؤمنين ويقهروهم، لو لم يكن قائدهم متمتعا بحماية النبي ورعايته، وأن جيش المماليك، وهو أقوى جيش في الشرق دون جدال، لم يستطع أن يقف أمام الجيش الفرنسي إلا لأن المماليك كانوا من الملحدين، وأن هذا الانقلاب ورد ذكره عدة مرات في القرآن.
وجعل نابوليون بعد ذلك يضرب على الوتر الحساس ويتكلم عن الوطنية العربية، قائلا: «لماذا تخضع الأمة العربية للأتراك؟ وكيف تكون مصر، جنة الله في أرضه، وبلاد العرب المقدسة، مهبط الوحي، خاضعتين لشعب يخرج من القوقاز؟ وإذا هبط الآن النبي من السماء فإلى أين يذهب؟ أيذهب إلى مكة، وهي لم تبق عاصمة المملكة الإسلامية؟ أم يذهب إلى الآستانة وهي مدينة دنسة يزيد فيها عدد الكافرين على المؤمنين؟ ولو ذهب إليها لكان في وسط أعدائه!! إنه بلا شك يفضل مياه النيل المقدسة ، وينزل في الجامع الأزهر وهو أول مفتاح للكعبة المقدسة.»
وكان المشايخ الأجلاء يسمعون هذه الأقوال وعلى وجوههم علامات الفرح وأيديهم مشتبكة على صدورهم وهم يتمتمون «طيب! طيب!».
ولما فر مراد بك من أمام نابوليون إلى الصعيد قال لهم نابوليون: «إنني أريد أن أعيد مملكة العرب، ومن يمنعني من ذلك؟ لقد أهلكت المماليك وجيشهم أقوى جيش في الشرق بأسره، ومتى تفاهمنا وعرف المصريون ما أريده من الخير لهم، فإنهم سيظهرون إلى الود والإخلاص، وحينئذ أعيد إلى مصر مجد الفاطميين.» وكان هذا الحديث الذي فاه به نابوليون موضوع سمر كبار المصريين في القاهرة، وكان الذين شاهدوا منهم موقعة الأهرام يعززون ذلك القول، ويقولون للناس: إنه سهل هين على الفرنسيين.
وكان الشيخ المهدي أفصح المشايخ لسانا، وأوسعهم معرفة، وأصغر علماء الأزهر سنا، وأكبرهم ثقة بنابوليون، فعرب أقواله هذه ونظمها شعرا حفظه الناس وتغنوا به في صحاري إفريقيا وبلاد العرب!!!
وكان يرد على العلماء الذين كانوا يؤلفون الديوان الكبير، تقارير من الأقاليم تنبئ بانتشار الفوضى التي كان سببها سوء التفاهم، ولأن الناس كانوا يسمون الفرنسيين بالكافرين، وبدأ «السلطان الكبير» يشكو مر الشكوى في حديثه مع العلماء مما كان ينشره أئمة المساجد، ويذيعونه بين الناس وتحريضهم إياهم على الفتنة.
وفي ذات يوم وجد نابوليون الفرصة سانحة فقال لعشرة من كبار المشايخ الذين كان يثق بهم: «يجب وضع حد لهذه الحال، ولا بد إذن من فتوى تصدر من الجامع الأزهر تأمر الناس أن يقسموا لي يمين الطاعة.»
فاصفرت وجوه المشايخ، وتولاهم رعب شديد، وارتبكوا في أمرهم، وارتج عليهم القول، وكان الشيخ الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، أربطهم جأشا فقال لنابوليون «إنك تريد حماية النبي وهو يحبك، وتريد أن يسرع المسلمون للانضواء تحت بنودك، وتريد إعادة مجد العرب، وتقول: إنك لست من الكافرين، فاسلم إذن وادخل في دين النبي، وحينئذ يهرع إليك 100 ألف من المصريين و100 ألف من العرب يأتون من مكة والمدينة، وينضم الجميع تحت لوائك ويلتفون حولك، ومتى مرنتهم على أساليبك، ودربتهم على القتال، استطعت أن تفتح بهم الشرق كله، وتنقذ وطن النبي.» فانبسطت أسارير المشايخ وركعوا جميعهم على الأرض يطلبون المعونة من السماء ... ودهش نابوليون وأخذه العجب؛ لأنه كان يرى أن الإنسان يجب أن يموت على دينه، ولكنه أدرك بثاقب فكره وسرعة خاطره أنه يستطيع أن يستغل ذلك القول لفائدته، فأجاب:
إن عقبتين من أصعب العقبات تعترضاني ورجالي لنصير مسلمين، أولاهما الختان، والثانية الخمر الذي تعود جنودي منذ الصغر احتساءه، وأنا لا أستطيع أن أقنعهم بالعدول عنه.
فاقترح الشيخ المهدي أن يعرض المسألة على ستين عالما من علماء الأزهر للمناقشة فيها، وذاعت الإشاعة في كل الجوامع أن كبار المشايخ يعملون ليلا ونهارا لتعليم «السلطان الكبير» وقواده قواعد الدين الإسلامي، وأنهم يريدون إصدار فتوى يسهلون بها اعتناق الفرنسيين للدين الحنيف، فطرب المسلمون وفرحوا وأذيع أن الفرنسيين يعجبون بالنبي محمد، وأن القائد العام يحفظ القرآن، ويعتقد أنه مذكور فيه الماضي والحاضر والمستقبل، وأن الكتاب يحوي كل الحكمة، وأنه يريد اعتناق الدين الإسلامي، ولكن تحول بينه وبين بغيته مسألة الختان وشرب الخمر، وظل أئمة المساجد والمؤذنون متحمسين مدة أربعين يوما لهذا الخبر، وأفادت هذه الحادثة الفرنسيين فائدة كبيرة؛ إذ لم يعد المصريون يعدونهم من الكافرين.
وذاعت أشاعات كثيرة بين الشعب، فمن قائل: إن النبي محمد ظهر «للسلطان الكبير» وقال له: «إن المماليك لم يحكموا إلا طبق أهوائهم، ولذلك أعنتك عليهم وأنت تحفظ القرآن وتحبه، وقد أعدت السلطة للعلماء والمشايخ، ولكن يجب عليك أن تتم ما بدأت به فاعتنق مبادئ شريعتي واعمل بها، إنها مبادئ الله نفسه، إن العرب لا ينتظرون غير هذه الإشارة وسأعهد إليك بفتح آسيا كلها.»
وقد اغتنم نابوليون فرصة رواج هذه الإشاعات، ورد على العلماء قائلا: إنه طلب من النبي أن يمهله سنة لتهيئة جيشه، وإعداده للدخول في دين الإسلام، فأجابه النبي إلى ما طلب، وأنه وعد ببناء جامع كبير، وأنه سينجح في حمل جيشه كله على اعتناق الدين الإسلامي، وأنه منذ الآن يعده الشيخان السادات والبكري كذلك.» ا.ه. •••
هذا ما أملاه نابوليون بونابرت بنفسه على الجنرال برتران لينشره في كتابه الذي سبقت إليه الإشارة في هذا الكتاب، وفي هذه الأقوال يصف نابوليون نفسه «بالسلطان الكبير» حين كان بمصر، مع أن هذا اللقب كان كبيرا عليه أيام وجوده في هذه الديار، حتى إننا شككنا في أنه خوطب في مصر بهذا اللقب الذي لم يذكره الجبرتي، ولا المعلم نقولا الترك وهما معاصران، والأخير منهما سوري مسيحي ممن مالئوا الفرنسيين في ذلك الزمن، وله في مدح نابوليون قصيدة كلها مبالغة وإغراق وفيها يقول:
الشهم بونابرته
ليث الوغى والاقتدار
من فاق قدرا وارتقى
أوج العلام وسما الفخار
إلى غير ذلك من مبالغات الشعراء، ومع ذلك لم يذكر ذلك اللقب! والخلاصة هي أن هذه التصريحات الصريحة من نابوليون بونابرته، وهو في منفاه في سانت هيلانة وعلى حافة القبر، بعيدا عن مظاهر السياسة ومطالبها وأكاذيبها، دليل قاطع على أن نابوليون لم يعتنق الإسلام، وإنما كان يفكر فيما يفعله لو قضت عليه الظروف بالبقاء في مصر مقطوع الصلة بفرنسا، وهو ما كان يريد طبعا إلا أن يتخذ من اعتناق الدين الإسلامي هو وجيشه في مصر، وسيلة للتغرير بالمصريين والمسلمين في الشرق.
فإذا ضممنا إلى هذه التصريحات الغريبة، ما ورد في بعض منشورات نابوليون في القاهرة عن معتقداته الدينية، وإشاراته العديدة إلى الدين الإسلامي، تحقق لدينا أن نابوليون، ابن الثورة الفرنسية، لم يصح له اعتقاد في دين من الأديان.
فقد ورد في منشور المشايخ الذي صدر بعد عودة نابوليون من حملته على سوريا قول المشايخ:
ولما حضر ساري عسكر إلى مصر
2
أخبر أهل الديوان من خاص وعام، أنه يحب دين الإسلام، ويعظم النبي عليه السلام، ويحترم القرآن، ويقرأ فيه كل يوم بإتقان ... وعرفنا أن مراده يبني لنا مسجدا عظيما بمصر لا نظير له في الأقطار، وأنه يدخل في دين النبي المختار، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وهذا القول ينطبق تمام الانطباق على ما رواه نابوليون، فيما نقلناه آنفا، عن نفسه في سانت هيلانة، بعد تاريخ هذا المنشور بواحد وعشرين عاما!
أما اعتقاد نابوليون في الأديان وخاصة في الدين الإسلامي، فأمر يرجع فيه إلى تصريحات نابوليون وآرائه الخاصة التي نطق بها في أوقات مختلفة من حياته، وخصوصا في الجزء الأخير منها؛ أي: في السنوات الست التي قضاها في جزيرة سانت هيلانة منفيا، وحين كان يعتقد بقرب انفراط عقد الحياة ودنوه من حافة القبر، وقد لخص اللورد روزبري معتقدات نابوليون الدينية، من أحاديثه المختلفة مع لاس كاس، وانتوماراشي وجوجو وغيرهم
3
فقال ما تعريبه: «ولقد كان من أهم النقط التي تدور حولها أحاديث نابوليون في منفاه مسألة الدين، وكان الإنجيل من الكتب التي كان نابوليون يحب تلاوتها بصوت عال ...
وليس من الغريب أن تتجه أفكار نابوليون في تلك الساعات المظلمة إلى مسائل الاعتقادات الدينية ... ويؤكد «برتران» بلهجة صارمة أنه لم يحدث قط أن سمع نابوليون - سواء أكان ذلك في فرنسا أم في جزيرة ألبا، أم في جزيرة سانت هيلانة، - ينكر وجود الخالق، أو يشك في «ألوهية» المسيح، وكان نابوليون على الدوام يمنع المناقشات التي تدول حول موضوع معتقده الديني، ويقول: إنه يؤمن بما يؤمن به قسيس كنيسته!
ولكن العالم لا يقتنع بهذه المواربة، ويحب أن يقف على حقيقة اعتقاد نابوليون ورأيه في الدين، ولا نظن أن «جورجو» اخترع من عنده جميع ما كتبه في مذكراته عن أحاديث نابوليون وآرائه الدينية في سانت هيلانة.»
ثم انتقل اللود روزبري إلى بيان موجز عن اعتقاد نابوليون فذكر فيما ذكر أنه كان يميل إلى الدين الإسلامي، ويعترف أن علماء الأزهر في مصر زعزعوا أفكاره بآرائهم وحججهم، وأقنوعه بأن من يعبد ثلاثة آلهة لا يكون إلا وثنيا ... ومن معتقدات نابوليون في المسيح أنه لم يوجد، وغاية ما في الأمر أن واحدا من الناس الكثيرين الذين يتحمسون ادعى أنه نبي أو مسيح - وفي كل زمان كثيرون من هذا الطرارز - وأنه قتل أو صلب لذلك السبب، وكان يعتقد نابوليون في موسى كزعيم شعب وقائد، ولكن اليهود كانوا قساة وجبناء، وبلغ اعتقاد نابوليون في المسيح إلى درجة أنه كان يقول: إنه لا يستطيع أن يتصور أو يصدق أن رجلا ذكيا مثل البابا ليوس السابع يعتقد حقيقة في المسيح! وأما الدين الإسلامي فإنه بعكس ذلك سهل، وأرقى من المسيحية؛ لأنه افتتح نصف العالم في عشر سنوات، في حين أن المسيحية لم توطد قدمها قبل ثلاثمائة عام، وصرح نابوليون في وقت آخر بأن الدين الإسلامي أحلى وأظرف الديانات الموجودة، وقال عن نفسه مرة: «نحن المسلمون»! •••
ويرى القارئ من هذه المعلومات المستقاة من مصادرها الأصلية ما يؤيد بجلاء آراءنا التي أثبتناها في صدر هذا البحث، وأن ما ادعاه بعضهم، من أن نابوليون أسلم، لا حقيقة له على الإطلاق، وأن الرجل لم يكن إلا من أصحاب الآراء الحرة، المتشككين في جميع الأديان.
هوامش
ذيل ثان
مكتبة الكتاب، أي: مصادره
يهتم كتاب الغرب بذكر المصادر التي اعتمدوا عليها في تأليف كتاب من الكتب وخصوصا التاريخية منها، فينشرون بيانا للكتب والتقارير والمذكرات وجميع المصادر التي استقوا معلوماتهم منها، ويسمون ذلك مكتبة الكتاب
Bibliographie ؛ أي: مصادره، وقد زاد بعضهم اهتماما بالمصادر إلى درجة أن خصص لها بحثا مستفيضا عن أصحاب تلك المصادر ومبلغ ما لهم من القيمة في تصوير الحقائق وتقريرها، ومن هؤلاء اللورد روزيري في كتابه عن نابوليون في سانت هيلانة؛ فإنه خصص الفصول الأولى من كتابه للبحث في المصادر ووصفها بأنها كالأساس الذي يبنى عليه المنزل.
ولقد أعجبني هذا الرأي حتى إنني قلت عنه في رسائل «من والد إلى ولده»، في باب دراسة التاريخ، ما يأتي:
ومما تجب العناية به في دراسة التاريخ والاشتغال به، تمحيص المستندات والمصادر التي اعتمد الكاتب المؤرخ عليها، وتقدير ما لتلك المستندات والمصادر من القيمة الحقيقية، ولم أر من المؤرخين من فحص مصادر مؤلفه وعرضها على القراء بنقد صحيح، ليكون القارئ على بصيرة بقيمة ما يسند إلى تلك المصادر، مثل اللورد روبري في كتابه العظيم عن نابوليون بونابرت في منفاه بجزيرة سانت هيلين، فإنه بدأ بذكر المصادر التي اعتمد عليها، وهم أولئك القواد والضباط ورجال حاشية الإمبراطور المنفي الذين كتبوا عنه ونقلوا أقواله أو أحاديثه وتصريحاته، وما كان بينه وبين حاكم الجزيرة من المشادة والخلاف والمشاكل، فبعد أن وصف منزلة كل كاتب منهم لدى الإمبراطور، وكيف كان من الممكن أن يكون موضع سره، وإلى أي حد يصح الاعتماد على رواية للكاتب في موقف من المواقف ، ومسألة من المسائل وما هو ماضي ذلك الكاتب، وما هي صفاته وأخلاقه، وما هي آراؤه السياسية والحزبية، كيما تقدر قيمة الثقة التي يحق له التمتع بها، وعلى هذه الطريقة وضع اللورد روزبري قاعدة جديدة في كتابه التاريخ، وقد عولت إن شاء الله أن اسلك هذه الطريقة في مقدمة الكتاب
1
الذي وضعته عن تاريخ الحملة الفرنساوية ونابوليون في مصر؛ إذ يتحتم أن يقف القارئ على القيمة الحقيقية لأكبر المصادر العربية في تلك الفترة التاريخية، وهو كتاب الشيخ عبد الرحمن الجبرتي وإلى أي حد تمكن الثقة بروايته، وكيف كانت علاقة ذلك المؤرخ بالمماليك أولا، وبالفرنساويين ثانيا، وما هي منزلته في درجة التحقيق وصدق الرواية، وما يصح الاعتماد فيه على قوله، وما لا يصح منه، في الظروف المختلفة، ثم مقارنة ذلك بالمصدر العربي الآخر، وهو رسالة المعلم نقولا الترك، وبيان الفارق بينهما من وجهة نظر الشيخ الأزهري المسلم، والمسيحي اللبناني، إلى تلك الحوادث والحالة السياسية، ويتبع ذلك مقابلة هذين المصدرين العربيين بالمصادر الفرنسية رسمية وغير رسمية ... •••
على هذا النحو كنت أطمع في دراسة، ووصف وتحليل، المصادر التي اعتمدت عليها في هذا الكتاب، ولكن أراني عاجزا عن تناول هذا البحث وإيفائه حقه كما تصبو إليه نفسي.
ولا ينكرن القارئ علي أنني تعرضت في متن الكتاب للحكم على أشخاص المؤلفين الذين اعتمدت عليهم، ونقلت عنهم، واستشهدت بهم، فيما كتبته عن عبد الرحمن الجبرتي والمعلم نقولا الترك وعن الشيخ الشرقاوي، وعلى غيرهم من الكتاب الإفرنج، ولكن تلك الإلمامات البسيطة الخفيفة لا تشبع مطمعي الأدبي.
فأمام هذا المطمع، ومع الشعور بذلك العجز، لا أرى مناصا من التوسط بين الممكن والمستعصي، فاكتفي بكلمات موجزة عمن لا مناص من التكلم عنهم لإيضاح قيمتهم التاريخية، ومكانتهم في التحقيق والتدقيق، مع بيان لتاريخ حياتهم ولظروفهم الخاصة.
ولست من رأي الذين ينشرون في مقدمة الكتاب أو في آخره، قائمة بأسماء الكتب التي قرءوها أو اعتمدوا عليها كمصادر لكتابهم، ما داموا قد أشاروا إلى تلك المصادر وذكروها في ذيل الصحائف أو في متنها ، وإنما أردت في هذا البحث أن أبين للقارئ قيمة المصادر وتاريخ أصحابها، ومنزلتهم في درجة تقرير الحقائق، وبعدهم أو قربهم من الأشخاص الذين كتبوا عنها فأقول: إن المصدر الذي يصح الاعتماد عليه، والثقة به أو الاقتباس منه والنقل عنه واحد من اثنين: إما معاصر وشاهد عيان - حتى ولو كان متحيزا أو ضالعا مع فريق دون فريق - وإما حجة ثقة، وباحث مفكر ممتاز بعبقرية خاصة.
فالأول من دون الحوادث والوقائع التي رآها بعينه، أو سمعها من معاصريه بأذنه، وأهل المعرفة لا يعدون ما يضعه المعاصرون من المذكرات والأخبار تاريخا بالمعنى الصحيح، لأسباب كثيرة أهمها قربهم من الحوادث، وتأثرهم بالأشخاص، واقتصارهم على تدوين الحوادث، دون إبداء الآراء، أو استنتاج الأحكام، ويصفون كتب المعاصرين بأنهم مذكرات تصلح لأن تكون مادة أو غذاء كما وصف «ميو» مذكراته متواضعا بقوله:
Memoires pour servir a l’histoire .
وأما الثاني فهو الباحث المدقق المفكر المشهود له بسعة الاطلاع والنبوغ، والذي تهيئ له الظروف، الوقوف على المعلومات والمخطوطات والمحفوظات، من الوثائق الرسمية وغير الرسمية، مما لا يتيسر لسواه من الكتاب، فإذا قيل مثلا إن «إدوارد جيبون» أو أن «اللورد ماكولي» قال كذا وكذا في تاريخه، أو إن موتتسكيو أو جيزو أو تيير، قال كيت وكيت، وأبدى رأيه في حادث أو أمر «لم يقع في زمانه»، فلا مناص من الثقة بذلك الرأي، وإحناء الرأس إجلالا لمنزلة قائله؛ لأنه حجة ثقة وآراؤه نتيجة بحث عويص مستفيض.
وليس لدينا في اللغة العربية، عن الفترة التي كتب عنها هذا الكتاب، من الفريق الأول سوى الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري والمعلم نقولا بن يوسف الترك «أو التركي» البيروتي اللبناني:
وليس عندنا في هذه الفترة، مع الأسف الشديد، واحد من الصنف الثاني.
حقيقة أنه يوجد معاصر آخر وضع رسالة جاء فيها على شيء من تاريخ الحملة الفرنسية في مصر ونعني به الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر في ذلك الحين، وصاحب رسالة «تحفة الناظرين فيما ولي مصر من الولاة والسلاطين».
وقد سبق لنا أن جئنا على ترجمة حياة الشيخ الشرقاوي، وأشرنا إلى رسالته التي لا قيمة لها على الإطلاق، اللهم إلا من وجهة صدورها من رجل كانت له صفة العلماء، وكان شيخا للجامع الأزهر، ورئيسا للديوان في أيام الفرنسيين، ولما كانت رسالته لا تعتبر من المصادر التاريخية، وسبق لنا الكلام عنها فليس لها دخل في بحث تقدير المصادر التاريخية.
بقي الكلام عن المصدرين الآخرين وهما كتاب «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» للشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وكتاب «ذكر تملك الفرنساوية للديار المصرية» تأليف المعلم نقولا الترك اللبناني.
هذان هما المصدران العربيان اللذان يصح الاعتماد عليهما؛ لأن صاحبيهما عاشا في تلك المدة، وشهدا بأعينهما، وسمعا بآذانهما، الحوادث التي دوناها، وإن كان كل واحد منهما يختلف عن الآخر اختلافا بينا؛ لأن الأول «الجبرتي» كان من علماء الأزهر وشيخ رواق الجبرتية، وكانت له علاقات وصلات بكبار المماليك، وأما الثاني فقد كان سوريا لبنانيا نزيلا في هذه الديار، وكانت له صلات بالتراجمة والمستشرقين من رجال الحملة الفرنسية.
ولننته أولا من المعلم نقولا لقصر موضوع الكلام في شأنه، فنقول: كل ما استطعت أن أحصل على معرفته من تاريخ هذا الرجل، هو أنه ولد في دير القمر بلبنان سنة 1763 وتوفي سنة 1828؛ أي: أنه كان يبلغ من العمر نحو 35 سنة حين كان في مصر أيام الحملة وأصل عائلته من الآستانة، واسم أبيه يوسف الترك أو التركي، ويظهر أنه حضر لمصر قبل الحملة بزمن قصير، وأنه كان في خدمة الأمير بشير الشهابي الدرزي الذي أرسله لمصر، وأذكر أني قرأت له أبياتا من الشعر في مدح الأمير بشير الشهابي في كتاب تاريخ الأمير حيدر.
أما رسالته عن الحملة الفرنسية فقد سبقت الإشارة إلى وصفها في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وعبارتها مسجعة، وفيها ركاكة، والغريب أنها لم تطبع في مصر ولا في سوريا كرسالة مستقلة ذات قيمة تاريخية، ولولا أن مسيو «ديجرانج إينية» حفل بها وطبعها في باريس مع ترجمتها الفرنسية لضاع أثرها بتاتا، وقد ذكر ديجرانج أنه نقل هذه النسخة من ثلاث؛ واحدة بخط المؤلف، أهداها لأحد مشايخ المارونية، والثانية أعطاها له مسيو كوسين ده برسيفال، والثالثة وجدها في المكتبة الملكية في باريس.
والرسالة في رأيي جديرة بالثقة في مواضع كثيرة، وخاصة في الحوادث والمسائل التي كانت في الجانب الفرنسي، والجالية الأجنبية في مصر، حيث البيئة التي يعيش حولها مثل المعلم نقولا الترك، وفضلا عن ذلك فإنه من مزايا هذه الرسالة أن صاحبها حفظ لنا بعض المنشورات التي أهملها الجبرتي عمدا أو سقطت من أوراقه.
ولا أدري بالضبط متى كتب المعلم رسالته، وما أظن أنه كان يكتبها في أثناء وقوعها حوادثها وهو في مصر، ولكن يظهر أنه جمع مذكرات وأوراقا ومنشورات، وصنف رسالته بعد عودته إلى سوريا حيث ترك النسخة الخطية لدى أحد شيوخ الموارنة، ولم يذكر في مقدمة رسالته شيئا عن تاريخ وضعها، ولا إشارة إلى أنه شهد حوادثها بنفسه، ولا متى حضر لمصر، ولا متى برحها، فإن من الجائز أنه لم يحضر الأيام الأولى من الاحتلال الفرنسي، ولم يشهد بنفسه واقعة إمبابة، وإن كانت روايته عن اجتماع المماليك في دار إبراهيم بك في القصر العيني، عند وصول خبر نزل الفرنسيين في الإسكندرية، تدل على أنه كان بالقاهرة وعارفا بأسماء كبار المماليك الذين شهدوا تلك الجلسة التاريخية.
ويؤكد ديجرانج مترجم رسالة المعلم نقولا إلى الفرنسية وطابعها بالعربية أنه قابل المعلم نقولا الترك في دير القمر بلبنان قبل وفاته، ولم يذكر لنا في أي وقت بالضبط قدم المؤلف القاهرة، ولكنه أكد لنا أن الذي أوفده إلى مصر هو الأمير بشير الشهابي حوالي عهد الحملة الفرنسية
2 «كذا» وأنه بقي في مصر مدة الحملة الفرنسية لغاية دخول الترك مع الإنجليز، كما هو ظاهر من الرسالة إذ ورد في آخرها ثناء على الأتراك «بعد الثناء على الفرنسيين»، وبعض أبيات قالها في مدح يوسف باشا الصدر الأعظم القائد للجيوش التركية.
أتى صدر الصدور لأرض مصر
بنصر أشرقت فيه الديانة
بعام قد كساه النور أرخ
به فتحت بيوسف الكنانة
وكما مدح من قبل نابوليون ورثى كليبر، مدح يوسف باشا!!
وفي رواية «كاردين»
3
إن الأمير بشير الشهابي زعيم الدروز أوفد المعلم نقولا الترك لإيقافه على حوادث مصر واحتلال الفرنسيين لها؛ لأنه كان يتوقع حملتهم على الشام، وكان يرغب الانضمام إلى الفرنسيين لو أن نابوليون نجح في الاستيلاء على عكا «كما انضم فعلا الأمير بشير إلى إبراهيم باشا بعد سقوط عكا في يد المصريين» وذكر «كاردين» أن الأمير بشير لما أوفد المعلم نقولا أمره بالإقامة في دمياط لموافاته بالأخبار منها، ولكني أعتقد أنه برح دمياط وجاء إلى القاهرة في خلال الحوادث التي كتب عنها، وذكر «كاردين» أيضا أن أحمد باشا الجزار ضبط كتابا من الكتب التي كان يبعث بها المعلم نقولا لمولاه الأمير بشير، فكان ذلك سببا في إلحاق الأذى بأخ المعلم نقولا كان مقيما في عكا.
ومما رواه كاردين أيضا عن المعلم نقولا أنه بعد جلاء الفرنسيين عن مصر عاد إلى دير القمر، وفقد بصره في أواخر أيامه فكان يملي شعره على ابنته «ورده»، وليس في مقدمة الرسالة ولا في ختامها إشارة إلى زمن وضعها، ولا إلى السبب الذي دعاه للحضور إلى هذه الديار، وكيفما كان الحال فإنه كتب عن حوادث شهدها بنفسه ورآها بعينه.
ومن هذه الملاحظات وما نقدمها بحق للقارئ والباحث المدقق والمؤرخ المحقق، أن يقدر منزلة رسالة المعلم نقولا الترك من الوجهة التاريخية.
وكنت أتصور أن المعلم نقولا الترك يعرف الفرنسية حتى إن الأمير بشيرا أوفده لمصر للاختلاط بالفرنسيين، ولموافاته بأخبارهم، وإيقافه على حقيقة أحوالهم، ولكن «ديجرانج» الذي قابله في دبر القمر وترجم رسالته، يؤكد أن المعلم نقولا لم تكن له أدنى معرفة باللغة الفرنسية، وهذه نقطة ذات أهمية؛ لأنها تفسر لنا كثيرا من أسباب غلطاته وسقطاته.
ومما هو جدير بالذكر عن المعلم نقولا الترك أن قصيدته في مدح نابوليون ترجمها مسيو مارسل المستشرق الذي سبقت الإشارة إليه في هذا الكتاب، وأذكر إنني أطلعت على ديوان شعر له بخط اليد في مكتبة المرحوم مخلع باشا، ولا أدري ماذا جرى له.
ومما هو جدير بالذكر أيضا وصف المعلم نقولا لنابوليون بونابرت كما رآه بعينيه في مصر، وهي صورة يحرص عليها المؤرخون لمقارنتها بالصورة التي صار إليها نابوليون حين أصبح إمبراطورا عظيما، قال المعلم نقولا: «وكان نابوليون قصير القامة رقيق الجسم، أصفر اللون، باعة اليمين أطول من اليسار، مملوءا من الحكمة، مشمولا بالسعد والنعمة، يبلغ من العمر ثمانية وعشرين سنة.» •••
والآن ننتقل إلى المصدر التاريخي الثاني وهو كتاب «عجائب الآثار في والتراجم والأخبار» لمؤلفه الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، أحد علماء الأزهر، وشيخ رواق الجبرتية في مدة الاحتلال الفرنسي، وما بعده حتى زمن محمد علي.
ولد الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في مدينة القاهرة سنة 1167 هجرية «1754م»، وكان جده السابع يدعى أيضا الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وهو أول من قدم مصر من الجبرتية «نسبة إلى جبرت إحدى المقاطعات الإسلامية في بلاد الحبشة» في أوائل القرن العاشر الهجري، فتكون أسرة الشيخ عبد الرحمن الجبرتي قد قضت في هذه الديار أكثر من ثلاثمائة عام، وانقرضت بوفاة المؤرخ في 27 رمضان سنة 1237ه «18 يونيو سنة 1823م.» لأن الشيخ عبد الرحمن لم يعقب من الأسر الجبرتية غير ابن وابنة، توفي الولد بعد وفاة والده ببضع سنوات، وعمرت الابنة ولا يعرف عنها ولا عن ذريتها شيء.
وأهم من اشتهر من الأسرة الجبرتية بالعلم والفضل، الشيخ حسن الجبرتي والد المؤرخ، فقد كان ممن يشار إليهم بالبنان في زمانه، وتلقى العلم عليه كثيرون من العلماء الذين ذكرت أسماؤهم في هذا الكتاب، وكانوا أعضاء في الديوان الذي أنشأه نابوليون، وصور بعضهم لا تزال معلقة في متحف في فرساي، مثل المشايخ الشرقاوي والمهدي والصاوي والفيومي وتوفي الشيخ حسن سنة 1188ه، ولم يترك من الذرية، على كثرة ما ولد له من الذكور والإناث، وعلى كثرة من تزوج من الحرائر وتسرى من الرقيقات الجركسيات والحبشيات ، غير المؤرخ عبد الرحمن، ويظهر أن والدة المؤرخ كانت واحدة من تلك السراري التركية أو الجركسية الأصل، وذكر الذين ترجموا كتاب الجبرتي إلى الفرنسية أن والده ترك له ثروة كبيرة، وكانت له ضيعة في بلدة إبيار ذهب إليها - كما يقول كاردين - عند احتلال الفرنسيين، ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد مدة من الزمن، وهي رواية إذا صحت فإنها تثبت أن الشيخ عبد الرحمن لم يشهد بنفسه كثيرا من الحوادث التي وقعت في أوائل دخول الفرنسيين، ويكون ما كتبه عنها منقولا من أفواه الناس، ويضعف الثقة بكثير من رواياته.
أما عن الكتاب «كتاب عجائب الآثار» فأقول: إن الكثيرون من الأدباء وأهل الفضل لا يقدرون كتاب الشيخ عبد الرحمن الجبرتي حق قدره، كأثر تاريخي عظيم، وعمل أدبي مجيد، ومذكرات يومية ذات قيمة كبرى للمؤخر، والسبب في النظر إليه بهذه العين يرجع إلى أن الناس لا يميلون إلى هذا النوع من الأسلوب من جهة، ولأنه مجموعة من عبارات وروايات وحوادث غير متمازجة ولا متناسقة، من جهة أخرى!
ولكن الذين لا يأخذون الأمور بظواهرها، والذين يتعمقون في البحث، عن حوادث تلك الأيام وظروفها وأحوالها، لا يسعهم إلا الإعجاب بذلك السفر الجليل وواضعه، فالشيخ عبد الرحمن الجبرتي هو بلا نزاع مؤرخ هذه الفترة وجامع شتات أخبارها، بإخلاص وحسن نية ومجهود كبير، بل هو كاتبها العظيم وصحافيها الأمين، والذي لولاه لبقي تاريخ هذه الفترة، التي تبلغ نحو خمسين سنة - أي: من نهاية القرن الثاني عشر الهجري إلى أوائل القرن الثالث عشر - صحيفة بيضاء، أو قطعة جرداء، في اللغة العربية.
والذي يهمنا في كتابه «من حيث علاقته بهذا الكتاب» هو القسم الواقع في الجزء الثالث، وقليل مما تقدمه من أخبار كبار المماليك في النصف الأخير من الجزء الثاني، ومهمتنا في هذا البحث تنحصر في قيمة الأخبار الواردة فيه، وصدق الوثائق المحفوظة به من منشورات وتعليمات وغيرها، وقرب ذلك أو بعده من الحقيقة التاريخية.
ولا تردد مطلقا في الحكم على أن الصدق في الرواية كان رائد الشيخ في كل ما كتبه، ولم يكن يحابي ولا يداجي، إلا في النادر من ميوله الشخصية وعلاقاته الخاصة بكبار المماليك كميله إلى إبراهيم بك ووقاره، ونفوره من مراد بك وطيشه وجرأته.
أما من وجهة أن كتاب عجائب الآثار، كتاب تاريخي فلا ندحة من الاعتراف بأنه ليس من التاريخ ، على أسلوبه الصحيح، في شيء وإنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها، بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ، مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء.
وكتاب الجبرتي في نظري أشبه بالتلول الأثرية لا تكاد تحفر فيها، أو تزيل الأتربة من جانب، حتى تعثر بجوهرة ثمينة، أو تحفة ناردة، وقد لا تعثر بشيء مطلقا في جزء كبير منها، وهكذا لا تمكن الاستفادة من كتاب الجبرتي إلا إذا عالجته حفرا، وبحثا وغربلة، ومقارنة ومقابلة، واستخرجت الدر من الصدف، والمعدن من التراب، وميزت بين ما له قيمة وبين ما ليست له قيمة، ولا يسهل هذا إلا بعناء ومقارنة بينه وبين المصادر الأخرى، في اللغات الأجنبية - وهي قليلة ونادرة جدا في الجزء الخاص بالمماليك قبل الاحتلال الفرنسي - وكثيرة فيما يختص بالحملة من مذكرات ومؤلفات، وأوراق رسمية، وغير رسمية.
وليس من السهل معرفة كيف كان يكتب الجبرتي مذكراته هذه، ولكن المعقول المستنتج من كثير من رواياته أنه كان يجلس لنفسه بعد مرور بضعة أيام فيدون ما يكون قدره أو سمعه أو وصل إلى علمه، وهو يعترف في مقدمة كتابه فيقول:
كنت سودت أوراقا في حوادث آخر القرن الثاني عشر، وما يليه وأوائل القرن الثالث عشر الذي نحن فيه، جمعت فيها بعض المواقع إجمالية، وأخرى محققة تفصيلية، وغالبها محن أدركناها، وأمور شاهدتها، واستطردت في ضمن ذلك سوابق سمعتها، ومن أفواه الشيخة تلقيتها، فأحببت جمع شملها وتقييد شواردها في أوراق منسقة النظام، مرتبة على السنين والأعوام ... وما بعدها إلى التسعين أمور شاهدناها ثم نسيناها وتذكرناها، ومنها إلى وقتنا أمور تعقلناها وقيدناها وسطرناها، وسنورد أن شاء الله تعالى ما ندركه من الوقائع، بحسب الإمكان والخلو من الموانع، إلى أن يأتي أمر الله، وأن مردنا إلى الله، ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير، ولم أداهن فيه دولة بنفاق، أو مدح أو ذم مباين للأخلاق، لميل نفساني، أو غرض جسماني.
والشيخ الجبرتي نفسه يعترف في كتابه أنه ابتدأ في جمع أوراق كتابه وتنسيقه في السنة السادسة والعشرين، بعد المائتين والألف؛ أي: بعد ثلاثة عشر عاما من خروج الفرنسيين من مصر، فتأمل مقدار الأغلاط التي يقع فيها رجل أزهري يجمع أوراقه المتناثرة بعد مرور ثلاثة عشر عاما على الحوادث التي يكتب عنها! وليكن ذلك منك على بال، لتقدير روايات الجبرتي حين تنقل عنه، أو تعتمد عليه.
ومما تجب ملاحظته أن كتاب الشيخ عبد الرحمن، عن الفترة التي شهدها بنفسه، إنما هو تاريخ للقاهرة، أكثر مما هو تاريخ لمصر؛ لأنه لم يقف إلا على النادر جدا من الحوادث التي وقعت خارج القاهرة في الوجهين القبلي والبحري، فهو لم يذكر ثورة «المهدي» في البحيرة إلا بكلام لا قيمة له، كما أوضحنا ذلك عند الكلام عليها، ولم يعرف أكان المهدي هو «مولاي محمد» من أمراء الغرب، الذي سبق له ذكره في الجزء الثاني من كتابه، أم كان شخصا آخر؟ مع أن «مولاي محمد» دخل القاهرة مع الإنجليز والأتراك عند جلاء الفرنسيين، ولا يعقل أن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي لم يقابله ولم يتعرف به.
ومما يثبت أن معلومات الجبرتي لم تتعد القاهرة أنه لم يشر إلى محاربات الصعيد ولا غيرها إلا بعبارات قصيرة متقطعة، ليس فيها شيء من المعلومات الصحيحة.
ومع أنه من كبار العلماء في القاهرة، فإنه لم يذكر اسم الشيخ المسيري كبير علماء الإسكندرية، الذي كان موضع ثقة نابوليون، وكانت كلمته النافذة في ذلك الثغر، ولم يشر إليه إلا حين جاء ذكره في أيام حكم محمد علي،
4
والشيخ عبد الرحمن معذور في قصر أخباره على ما يصل إلى علمه، وهذا هو شأن المذكرات أو اليوميات التاريخية، ولكن ليس للمؤرخ في هذا الزمن أدنى عذر في قصر اعتماده على ما كتبه الجبرتي، وهذا شأنه. •••
بقي علينا أن نشير إشارة موجزة إلى خاتمة صاحبنا الجبرتي وموته مقتولا في طريق شبرا، فقد ذكروا أنه وظف إماما في سراي محمد علي باشا بشبرا، وأن محمد بك الدفتردار حقد عليه فسلط عليه من أودى بحياته وهو عائد من شبرا إلى القاهرة على حماره، وليس بصحيح ما ادعاه «كاردين» من أن الذي قتل بطريق شبرا هو ابن الشيخ عبد الرحمن وليس هو، وهذا غريب من «كاردين» مع أنه كان موظفا بقنصلية فرنسا في القاهرة حوالي سنة 1830؛ أي: بعد وفاة المؤرخ بنحو سبع سنين
ولا صحة لما يذاع أيضا من أن هناك جزءا خامسا من كتاب «عجائب الآثار» لم يصرح بطبعه لما فيه من الطعن على محمد علي باشا؛ لأنه توجد نسخة خطية من تاريخ الجبرتي في مكتبة وزارة الحربية الفرنسية في باريس، ولو كان فيها شيء لم ينشر في الطبعة المصرية، لما خفي أمره على المستشرقين.
وفضلا عن ترجمة الجزء الخاص بالحملة الفرنسية في مصر إلى اللغة الفرنسية بواسطة مسيو «كاردين» فقد ترجم كتاب الجبرتي إلى اللغة الفرنسية بأكمله في ثمان مجلدات جماعة من فضلاء المصريين، وعلى رأسهم المرحوم شقيق بك منصور يكن.
وترجم الجزء الخاص بالحملة الفرنسية إلى التركية مصطفى أفندي بهجت الطبيب الخاص للسلطان سليم الثالث تحت عنوان «إنقاذ مصر من الفرنساوية». •••
وكنت أحب أن أتوسع في بيان المصادر الفرنسية والإنجليزية التي اعتمدت عليها في هذا الكتاب، ولكن المقام يضيق عن ذلك من جهة، ولأني مكتف بالإشارات والتعليقات والبيانات التي كتبتها عن هذه المصادر في متن الكتاب وفي حواشيه، فهي في هذا الباب كافية وافية.
هوامش
अज्ञात पृष्ठ