بعد أن يشرح لنا «كولنجوود» فكرته التي لخصناها لك وضربنا لها أمثلة توضحها، وهي أن طبيعة التفكير الفلسفي تتميز باندماج الاختلافين معا في سلم واحد، اختلاف النوع واختلاف الدرجة، يحدد الفرق بين «الدرجة» واختلافها في موضوعات الفلسفة، وبين «الكمية» وقيامها في المدركات العلمية، فيقول إن الفرق بين هذه المفاضلة «هذا الرجل أفضل من ذلك»، وبين هذه المقارنة «هذا الجسم أكثر حرارة من ذلك»، هو أن القياس الكمي ممكن في الحالة الثانية وغير ممكن في الحالة الأولى؛ وهكذا تتميز المدركات الفلسفية بأنها وإن تكن قابلة للتفاوت الدرجي، إلا أنها مستحيلة على القياس الكمي، فيجوز أن نقول عن التصوير إنه أعلى في سلم الجمال من النحت، لكننا بعد ذلك لا نستطيع أن نقيس مقدار هذا التفاوت بينهما كما نقيس مقدار التفاوت بين حرارتين أو بين مسافتين أو فترتين من الزمن. كذلك يجوز أن أقول عن المعرفة الحدسية إنها أعلى في سلم الحق من المعرفة الاستنباطية، لكنني عاجز بعد ذلك أن أقيس مقدار التفاوت بينهما كما أقيس الفرق بين ارتفاع الهرم الأكبر وارتفاع المقطم. وكذلك يجوز أن أقول إن لذة الفكر أعلى في سلم الخير من لذة الجسد، لكن القياس الكمي للفرق بينهما محال كما هو محال في حالتي الجمال والحق.
وتعذر القياس الكمي للفوارق التي تتفاوت بها المدركات الفلسفية راجع إلى أن هذا التفاوت لا يكون في الدرجة وحدها فيمكن قياسه، بل إن اختلاف الكيف ليمتزج به امتزاجا يجعل التفاوت الدرجي اختلافا كيفيا في الوقت نفسه؛ فأنت تستطيع أن تزيد من حرارة الماء درجة بعد درجة دون أن يكون هنالك من التغيرات في الماء غير ارتفاع حرارته، لكنك لا تستطيع أن تدني بدنك من النار ليرتفع شعورك بحرارتها درجة بعد درجة دون أن يصاحب هذا الشعور بالحرارة المتزايدة اختلاف في كيفية الشعور ذاتها؛ فقد يكون الشعور بالحرارة في درجة معينة شعورا بدفء ممتع، ثم ينقلب مع ارتفاع الحرارة شعورا بلذع مؤلم، وليس الاختلاف بين المتعة والألم مجرد اختلاف في درجة كمية، بل هو اختلاف في الكيفية أيضا، والاختلافان مندمجان أحدهما في الآخر اندماجا يستحيل الفصل بين عنصريه.
ويخلص «كولنجوود» من عرض فكرته هذه إلى نتيجة يقول فيها إن إدراكنا لطبيعة التفكير الفلسفي على هذا النحو، يجنبنا الخطأ في موضعين؛ فلا نخطئ - أولا - بمحاولة إخضاع المدركات الفلسفية كالخير والجمال لحساب كمي دقيق كأنما هي شبيهة بالمدركات العلمية الخالصة كالحرارة والضوء، ثم لا نخطئ - ثانيا - فنظن أن المدرك الفلسفي الواحد، كفكرة الخير مثلا، يكون دائما على درجة واحدة في كل أوضاعه؛ ذلك لأن المدركات الفلسفية كلها - كما قلنا - لا هي تتمثل في الدرجة وحدها، ولا هي تتمثل في الكيفية وحدها، بل هي دائما تتدرج في سلم تمتزج فيه الدرجة والنوع في آن معا.
ولو صح هذا الذي يقوله «كولنجوود» في طبيعة التفكير الفلسفي لكان للفلسفة خصائصها التي تميزها من العلم ومن الفن جميعا؛ فلا هي من العلم لأن العلم يتميز بتكميم مدركاته وتخليصها من جوانبها الكيفية كلها، ولا هي من الفن لأن الفن يتميز بجانبه الكيفي ولا شأن له بالمقادير الكمية، وحتى إن استخدم هذه المقادير كما نفعل في الموسيقى وفي أوزان الشعر وفي الاحتفاظ بنسب خاصة في النحت والعمارة، فذلك لما يتبع تلك المقادير الكمية من كيفيات هي التي يقصد إليها الفنان.
لكننا نزعم أن ليس للفلسفة قضايا خاصة بها، بحيث لا تصلح تلك القضايا أن تكون من العلم ولا أن تكون من الفن. إننا نزعم أن أي جملة يقولها قائل إما أن تكون علما؛ وبذلك تخضع لمقاييس العلم من طبيعة أو رياضة، وإما أن تكون معبرة عن حالات ذاتية؛ وبذلك تكون فنا وتخضع لمقاييس النقد الفني؛ فإن زعم زاعم لجملة يقولها إنها ذات خصائص تميزها عن العلم وعن الفن، وإنها بهذه الخصائص تكون فلسفة ويكون من العبث محاولة تحويلها إلى علم، تناولنا جملته هذه وحللناها وسننتهي حتما إلى أنها كلام فارغ من كل معنى.
إن دعوي «كولنجوود» بأن عمل الفلسفة الأصيل هو ترتيب الأنواع التي تجسد جنسا معينا ترتيبا تتفاوت درجاته بحيث يكون الأعلى في الترتيب أقرب إلى تمثيل الجنس المقسم من الأدنى في الترتيب، هذه الدعوى تتضمن تقييما خاصا للأنواع يعبر به الفيلسوف عن مزاجه الشخصي؛ ومن ثم فهو تعبير عن ذاته كأنما هو شاعر يعبر عن وجدانه وعن ميوله الخاصة. هذا أرسطو - مثلا - يقسم الدولة إلى أنواعها فيقول إن هذه الأنواع ستة، يرتبها حسب قربها أو بعدها من الكمال فيقول إن أعلاها هي حكومة الفرد الصالح، يتلوها حكومة الأقلية المستنيرة، ثم يتلوها حكومة الكثرة المستنيرة، وبعدئذ تجيء الثلاثة الأنواع الفاسدة، وهي على التوالي أيضا: حكومة الفرد المستبد، فحكومة الأقلية الطاغية، وأخيرا حكومة الطغام من سواد الشعب. وهذا تقسيم وترتيب ظاهره موضوعي، وأما حقيقته فهي أنه تعبير عن ميل أرسطو الخاص به؛ فهو يحب هذا ويكره ذاك، ويفضل هذا على هذا على أساس تمتزج فيه عناصر ذاتية خالصة. وحسبنا أن نلاحظ أن هذا التقسيم من ساسه قائم على افتراض قيام الدولة، وهو افتراض مستمد - فيما أعتقد - من الأوضاع القائمة فعلا في المجتمع الذي نشأ فيه الفيلسوف، ولو قد نشأ في غير مجتمع منظم لجاز ألا يأخذ بقيام الدولة إطلاقا، فضلا عن أن يصنف أنواعها ويرتب تلك الأنواع من حيث صلاحيتها أو فسادها.
لو اكتفى أرسطو بذكر أنواع الدولة الستة على أنها الأنواع التي قامت فعلا في أزمنة مختلفة وأمكنة مختلفة، لكان بذلك شبيها بالمؤرخ، وكان يمكن لقوله هذا أن يخضع لوسائل تحقيق المؤرخين فيظهر صوابه أو خطؤه. ولو ذكر أرسطو هذه الأنواع الستة على أنها التقسيم المنطقي الممكن عقلا وإن لم تقم بعض الأقسام فعلا؛ إذ لا تخرج الدولة نظريا عن أن تكون في قبضة فرد واحد أو فئة قليلة من الأفراد أو في أيدي الشعب كله، ثم لا تخرج كل حالة من هذه الحالات عن أن تكون إما صالحة أو فاسدة، أقول لو ذكر أرسطو تقسيمه هذا على أنه تقسيم منطقي صرف يجمع كل الممكنات، سواء تحقق بعضها بالفعل أو لم يتحقق، لكان قوله من قبيل العبارات المنطقية التي لا تتعرض للكذب أبدا لسبب بسيط، وهو أنها لا تقول شيئا، ومثال ذلك أن تقول عن عدد الطلبة في فرقتك إنه إما زوجي أو فردي، أو أن تقول عن صديق لك إنه إما غائب أو حاضر؛ فهذه وأمثالها صيغ منطقية صدقها مضمون لأنها لا تخبر بشيء عن الحالة القائمة. وهكذا أيضا يكون تقسيم أرسطو لأنواع الدولة مضمون الصدق لو أراد به تقسيما منطقيا صرفا دون التعرض لذكر ما هو قائم منها فعلا، في كلتا الحالتين السالفتين، وهما: (1)
أن يكون القول مستمدا من التجربة لما قد وقع فعلا من أنواع الدولة؛ وبذلك يكون تحقيقه كتحقيق أي قضية تاريخية. (2)
أن يكون القول منطقيا خالصا يعد كل الحالات الممكنة حتى ولو لم يقع بعضها فعلا؛ وبهذا يكون تحقيق العبارة - كتحقيق أي صيغة منطقية - تحقيقا صوريا بحتا؛ أقول إنه في كلتا الحالتين يكون القول مقبولا ومشروعا لأنه ممكن التحقيق، وأما الذي يخرج به عن إمكان التحقيق، وبذلك يخرج به عن عداد الأقوال المشروعة، فهو المفاضلة التي يجريها الفيلسوف بين أنواع الدولة، بأن يجعل نوعا منها «أفضل» من نوع آخر، فها هنا ندخل في مجال القيم. وليس للقيمة التي ينسبها شخص لشيء وسيلة موضوعية لتحقيقها؛ فهي ذاتية، ولمن شاء أن يقول ما شاء من قيم عن هذا الشيء أو ذاك.
وخلاصة القول هي أنه لو صح ما قد ذهب إليه «كولنجوود» من أن الفلسفة بحكم طبيعتها تمزج اختلاف الدرجة باختلاف الكيف، كان معنى ذلك أن أقوالها - إذن - غير ممكنة التحقيق لا على أساس تجريبي، ولا على أساس منطقي خالص؛ وبالتالي فهي أقوال إما أن تدخل في التعبيرات الذاتية الفنية وإما ألا تكون شيئا على الإطلاق.
अज्ञात पृष्ठ