أعيد ما قلته في عبارة أخرى فأقول: إن كلمة «حق» (وكذلك كلمة «باطل») لا تدل على شيء في عالم الواقع؛ ولذلك فهي رمز بغير مرموز إليه، ليس هنالك كائن معين اسمه «حق» بحيث أراه أو ألمسه أو أحمله على كتفي، ولا فرق أبدا بين أن أقول جملة ما، كأن أقول مثلا «المعري شاعر ضرير» وأقف عند ذلك، أو أن أقولها وأهز رأسي هزة أؤكد بها لمن أحدثه إثبات هذا المعنى ، أو أن أقولها مصحوبة بكلمة «حق»؛ كل هذه حالات من القول متساويات؛ فلا هزة رأسي ولا إضافتي لكلمة «حق» إلى الجملة التي قلتها بمغيرة شيئا من المعنى لا زيادة ولا نقصا. ولو جاز لفيلسوف أن يتأمل في طبيعة «هزة الرأس» ماذا عساها أن تكون، لجاز له كذلك أن يتأمل في طبيعة «الحق». «إن الأمر ليوشك أن يكون أوضح من أن يستحق ذكرا، ومع ذلك فاهتمام الفلاسفة بما يسمونه «مشكلة الحق» يدل على أن هذه الحقيقة الواضحة قد غابت عن أبصارهم.»
1
فقد رأوا كلمة «الحق» ترد في كلام الناس على نحو يوهم بأنها تدل على كائن فعلي في الوجود الواقع خارج نطاق اللغة وعباراتها، فراحوا يبحثون عن طبيعة ذلك الكائن ليحددوها، ولكن نظرة - لا أقول فاحصة عميقة - بل النظرة السريعة كافية لنعلم أن كلمة «حق» أينما وردت، يمكن رد الجملة التي وردت فيها إلى صورة كهذه: «الجملة الفلانية صادقة.» وما دام الأمر كذلك فالمشكلة كلها تزول من أساسها، فلا تعود أمامنا مشكلة عن «الحق» ما هو، بل يصبح سؤالنا هو: كيف يمكن الوثوق من صدق هذه الجملة التي نقول عنها إنها صادقة؟ والفرق بين الموقفين واسع شاسع؛ فلم يعد هدفي أن أبحث عن «حق مطلق» لا يتعلق بجملة معينة أو بفرض معين، بل يصبح ذلك الهدف محصورا في دعوى محددة معينة وطرائق إثباتها.
هات ما شئت من أمثلة ترد فيها كلمة «الحق» ورودا يوهم بأنها كلمة ذات معني خاص بها، وحلل تلك الأمثلة تجدها كلمة ترتد إلى إثبات قضية معينة. قل مثلا: «الحق فوق القوة.» تجدها مساوية في التحليل لقولنا: إذا كانت هنالك قضيتان متناقضتان، إحداهما تقرر «ق»، والأخرى تقرر «ليس ق»، ثم إذا بين قائل الأولى صواب قضيته بالرجوع بها إلى الشواهد التي تثبت صدقها، على حين اكتفى الثاني بإرغام الناس على قبول دعواه، أخذ الناس بقول القائل الأول، ورفضوا - بالتالي - قول القائل الثاني؛ فهل بقي لمشكلة «الحق» وجود في هذا التحليل، أم إن كل ما هنالك هو الشواهد التي سيثبت بها قائل القضية الأولى صدق قضيته؟ وخذ مثلا آخر، قولنا «الحق أحق أن يتبع»، تجد تحليله هو: إذا كانت هنالك دعويان متناقضتان، إحداهما يمكن إثباتها بالشواهد، على حين يتعذر ذلك بالنسبة للثانية، كان قبولنا للدعوى الأولى أضمن لبلوغ غاياتنا المنشودة من قبول الدعوى الثانية؛ فهل ترى هنا أيضا أن قد بقي بين أيدينا شيء من «الحق» باعتباره كائنا مطلقا قائما بذاته، أم إن الأمر كله يرتد إلى قضية معينة وطريقة إثباتها؟
فإذا كانت المذاهب الفلسفية التي تبحث في «الحق» إنما تتوقع من بحثها هذا أن تجد في العالم صفة معينة قائمة هناك، أو علاقة معينة كائنة بين الأشياء نفسها، اسمها «الحق»، كانت تلك المذاهب كلها في بحثها ذاك تطلب محالا؛ لأنها تطلب ما ليس له وجود، وما ليس يمكن أن يكون له وجود، لكن ما يجوز البحث فيه - وهو ما تبحث فيه فعلا مذاهب فلسفية كثيرة - هو الشروط الواجب توافرها في قضية معينة لنحكم عليها بالصدق، أو بعبارة أخرى ما هي طرائق تحقيق القضايا؟ ولسنا نزعم بطبيعة الحال أن كل قضية تتحقق على نفس الصورة التي تتحقق بها سواها، بل الأمر على خلاف ذلك، فما يكفي لبيان وجه الحق في قضية تحليلية منتزعة من مقدمات كانت تحتويها، لا يكفي لبيان وجه الحق في قضية تركيبية نغترف مضمونها من التجربة بواقع العالم؛ فالأولى صدقها صوري بحت، يكفي فيه سلامة استدلالها من مقدماتها، ويكون بطلانها متوقفا على ما قد يكون فيها من تناقض بين أجزائها أو بينها وبين تلك المقدمات، وأما الثانية - التجريبية - فقد تخلو من التناقض، ومع ذلك تكون باطلة لأنها لا تساير الواقع التجريبي.
مصدر الخلط في المشكلة التي يسمونها مشكلة «الحق» هو الخطأ في تعيين الموصوف الذي يوصف بهذه الصفة؛ فما الذي نصفه بأنه «حق»؟ الظاهر أن الفلاسفة الذين يورطون أنفسهم في هذه المشكلة الوهمية، يصرفون صفة «الحق» هذه إلى الأشياء الخارجية وإلى العالم بصفة عامة؛ فكأنما هم يمسكون بأيديهم صخرة أو شجرة قائلين: هذه هي «الحق». أو كأنما هم يحيطون الكون بنظرة منهم قائلين إنه «الحق». هكذا تراهم يجعلون «الحق» صفة تصف واقعا، ولكن ذلك خروج بالصفة عما يجوز لها أن تصف، فكأنهم يريدون أن يصفوا الفضيلة - مثلا - بأنها خضراء، أو يصفوا الإنسان بأنه مثلث الأضلاع؛ فصفة «الحق» لا يجوز أن تصف «الشيء» الواقع نفسه، ولو فعلت لأصبحت هراء وخلطا. إن ما هو واقع واقع، ولا معنى لوصفه بأنه حق أو باطل، وإنما الذي يوصف بالحق أو بالبطلان هو «الاعتقاد» أو الرأي الذي يحمله الواحد منا عن أمور الواقع؛ فإن كان اعتقادا أو رأيا مطابقا لما هنالك، قيل إنه اعتقاد حق، وإن لم يكن قيل إنه باطل. وهذا الاعتقاد الذي يجوز أن يوصف بالحق أو بالبطلان لا يصبح موضع اهتمامنا العلمي إلا إذا وجدناه في عبارة لفظية؛ أي وجدناه في جملة تعبر عنه؛ فعندئذ يتاح لنا أن نوازن بين الجملة من ناحية وبين الواقعة التي جاءت الجملة لتصورها من ناحية أخرى، موازنة تجيز لنا الحكم على الدعوى بالصواب أو بالخطأ.
2
ليس الاعتقاد في ذاته أمرا مقصورا على الإنسان؛ فللحيوان حالات يسلك فيها على نحو قد يدل على أنه أقدم على بيئته ب «اعتقاد» خاطئ، كالطائر الحبيس في غرفة أغلقت نوافذها الزجاجية الشفافة، فيحاول الطيران من فتحات النوافذ غير حاسب لحواجز الزجاج حسابا حتى يصطدم بها؛ ف «الاعتقاد» - كما يقول برتراند رسل
2 - كلمة نشير بها إلى حالة عقلية أو إلى حالة بدنية أو إلى حالة عقلية بدنية معا، يسلك فيها الحيوان سلوكا متعلقا بأمر غائب عن الحواس؛ فإذا ما ذهب مسافر إلى محطة السكة الحديدية متوقعا أن يجد قطارا معدا للسفر إلى الجهة المقصودة في ساعة معينة، فهو إنما يذهب بناء على «اعتقاد» معين عنده خاص بالقطارات ومواعيدها، وهو في هذه الحالة يعبر عن اعتقاده ذاك في سلوك، وإن لم يعبر عنه في عبارات لفظية. ولا فرق في هذه الحالة بين مثل هذا السلوك الإنساني المنبني على اعتقاد معين، وبين سلوك حيوان كالكلب مثلا يشم رائحة لا يرى مصدرها لكنه يسلك وكأنما هو قد رأي ثعلبا. ولما كان الكلام نفسه ضربا من السلوك يؤديه الإنسان بناء على اعتقاد يريد إخراجه فيما ينطق به من عبارات في المواقف المختلفة، فإنه لا يشذ عن تعريفنا العام للاعتقاد عند الإنسان والحيوان على السواء، من أنه حالة يسلك فيها صاحب الاعتقاد سلوكا ينم عنه.
من ذلك ترى أن «الاعتقاد» وثيق الصلة ب «المعنى»؛ فالكلمات التي أقولها لأضع فيها اعتقادا لدي عن أمور الواقع، ستجد من هذه الأمور الواقعة ما يثبت صوابها أو بطلانها؛ فقد أكون على اعتقاد بأن توفيق الحكيم قد أخرج مسرحية منظومة، وأقول لصديقي ما يقرر له هذا الاعتقاد، حتى إذا ما رحت أبحث في الواقع عن هذه المسرحية لأطلع صديقي عليها لم أجد ما يدل على صواب اعتقادي ذاك. وقد أزعم لهذا الصديق أن للعقاد ثمانية دواوين من الشعر، فيمضي الصديق إلى المكتبات باحثا عنها حتى يجدها جميعا، ولا يجد له سواها، فيدله الأمر الواقع على صواب ما زعمته له؛ وبالتالي يكون هذا الواقع دليلا على صدق اعتقادي أو إن شئت فقل صدق فكرتي.
अज्ञात पृष्ठ