كما أسلفنا، ومن هذه الفئات الثمانية يمكن تكوين 2
8
فئات من فئات الأفراد (256)، ومن هذه المجموعة من فئات الفئات يمكن تكون 2
256
من فئات لفئات فئات الأفراد، وهكذا إلى غير نهاية؛ فإذا سألنا أنفسنا السؤال الذي سبق لنا إلقاؤه وهو: هل هنالك عدد هو أقصى عدد يمكن أن نعد به ما في الكون؟ كان الجواب هو أن ذلك ممكن لو حصرنا أنفسنا في كل درجة من تلك الدرجات على حدة، فيمكن - منطقيا - أن أتصور عددا أقصى لما هنالك من أفراد جزئية، وعددا أقصى لما هنالك من فئات تتألف من تلك الأفراد، وعددا أقصى لما هنالك من فئات تتألف من فئات الأفراد، وهكذا، لكنه مستحيل إذا أردنا عددا أقصى يعد كل ضروب الأفراد والفئات على اختلاف درجاتها؛ لأن هذه الدرجات تعلو إلى غير نهاية. ولما كان «الكون» في مجموعه الكلي المطلق هو هذه الدرجات اللانهائية كلها، كان حصر القضايا التي تحكم على عناصره كلها محالا؛ وبالتالي كان محالا أن نلخص الحكم عليه في قضية عامة واحدة، أو في مبدأ أول واحد.
4
ها نحن أولاء قد رأينا أن كل حديث عن الكون هو حديث فارغ لا يعني شيئا، وسننتقل الآن بحديثنا خطوة أخرى لنقول إن كل قول يقوله قائل عن شيء ما، لا يعني به ظواهر ذلك الشيء، هو أيضا قول فارغ لا يعني شيئا.
فمنذ القدم القديم وإلى يومنا هذا والناس تخدعهم لغاتهم التي خلقوها لأنفسهم بأنفسهم، بحيث إذا رأوا في التركيب اللغوي مبتدأ وخبرا ظنوا أن المبتدأ شيء غير الخبر المقول عنه، كأنما الانفصال المحتوم في أجزاء الجملة يقابله بالضرورة انفصال محتوم أيضا في أشياء العالم كما تقع؛ فإذا قلت هذه البرتقالة صفراء أو هذه البرتقالة مستديرة، سبق إلى وهمي أن البرتقالة شيء غير لونها الأصفر وغير استدارتها. أو بعبارة عامة، فإنني أتوهم أن وراء هذه الصفات كلها «برتقالة» هي التي توصف بتلك الصفات، أو هي التي تحمل تلك الصفات، حتى لقد أطلقوا في الاصطلاح المنطقي اسم «المحمول» على أمثال هذه الصفات التي نفرض فيها أنها محمولة على شيء ما، ثم يمضي بي الوهم إلى افتراض وجود هذا «الجوهر» الخفي الذي يحمل على ظهره مجموعة الصفات، حتى ليخيل إلي أنني إذا ما جردت هذه الصفات عن حاملها واحدة بعد واحدة، بقي الحامل خالصا من صفاته أو جوهرا صافيا. قل هذا في كل شيء؛ قله في الفرد من الإنسان إذ تراه يحمل مجموعة صفاته الظاهرة، لكنك تضيف من عندك حاملا خفيا هو الذي يحمل تلك الصفات، وقد تفنى الصفات وتزول ويبقى الحامل أو الجوهر، وهو ما نسميه في هذه الحالة «روحا» أو «نفسا». وقد ترى هذا الفرد من الإنسان «يفكر» في مسائل عدة؛ يفكر تارة في علم، وتارة في قضاء شئونه العملية؛ فتقول لنفسك - جريا على سنتك - ما الذي يفكر هذه الأفكار كلها؟ هل يبقى شيء هناك إذا ما جردنا هذا الإنسان عن مواقفه الجزئية التي يفكر فيها هذه الفكرة أو تلك؟ إن جوابك سيكون: إن عقلا خالصا سيبقى، وسيكون هو «الجوهر» الذي ما كانت تلك الأفكار الجزئية إلا حالاته الظاهرة.
ويقول القائلون بهذا «الجوهر» يفترضونه في كل شيء كامنا وراء الظواهر، والكثرة الغالبة من الفلاسفة هم من القائلين به، يقول هؤلاء إنه بغير افتراض هذا «الجوهر» الذي تجيء شتى الصفات فتصفه، وتجيء شتى العلاقات فتصله بغيره، إنه بغير افتراض هذا «الجوهر» مجردا عن صفاته وعلاقاته، فلا يمكن تصور طريقة أخرى يتوحد بها الشيء الواحد؛ فما الذي جعل هذه البرتقالة «واحدة» رغم كثرة صفاتها وكثرة علاقاتها بغيرها من الأشياء؟ وما الذي جعل هذا الفرد من الإنسان «واحدا» رغم كثرة حالاته المتآنية والمتعاقبة؟ والسؤال نفسه تسأله عن «الكون» كله، ما الذي يجعله كونا «واحدا» رغم كثرة ما فيه من أشياء وما لها من صفات وما بينها من علاقات؟ هل يمكن أن يتوحد كل واحد من هذه الآحاد إلا إذا فرضنا فيه مشجبا خفيا تتعلق به هذه الصفات الكثيرة فتصير على كثرتها شيئا واحدا؟ ولكن ماذا عسى أن يكون هذا «الجوهر» الذي نفترضه في الشيء لنفسر وحدته؟
لعل أقرب إجابة إلى القبول هي تلك التي أجاب بها رواد الفلسفة الحديثة ديكارت ولك وغيرهما، وهي الإجابة التي تجعل «جوهر» الشيء طائفة من صفاته، هي التي أطلقوا عليها اسم «الصفات الأولية »؛ فعلى هذه الصفات الأولية تنبني صفات الشيء الأخرى، التي أسموها ب «الصفات الثانوية»؛ فاستدارة الشيء المستدير صفة أولية فيه، وكل جانب من جوانب الشيء يمكن قياسه قياسا كميا رياضيا هو كذلك من صفاته الأولية، لكن هذه الصفات الأولية إذا ما تأثرت بها الحواس، تولدت عنها صفات أخرى كاللون والطعم، هي صفات الشيء الثانوية؛ فلئن كان للشيء جانب موضوعي يمكن أن يكون هو مدار التفكير العلمي الثابت الذي لا يختلف عند شخص عنه عند شخص آخر فذلك هو صفاته الأولية كشكله وحجمه، وهو هو نفسه ما يجوز لنا أن نسميه «جوهر» الشيء. وأما الصفات التي يتم تكوينها داخل الذات المدركة بناء على تلك الصفات الأولية، فهي من الشيء جانبه الذي لا يصلح أن يكون موضوعا لتفكير علمي، وهو هو الذي نسميه «أعراضا» تطرأ على «الجوهر».
अज्ञात पृष्ठ