تلك نظرة أخذ بها فريق من الوضعيين المنطقيين لا نؤيدهم فيها، ونأخذ برأي الفريق الآخر الذي لا يري مناصا في نهاية الأمر من اللجوء إلى الخبرات الحسية نصدق بها العبارات اللغوية أو نكذبها، ما دامت تلك العبارات قد سيقت سياق الإخبار عن العالم الخارجي وما يجري فيه؛ فالجملة الإخبارية إذا لم تشر إلى شيء واقع خارج حدودها، لم تعد تؤدي المهمة التي إنما خلقت اللغة لكي تؤديها.
2
قلنا إن تحقيق القضية الإخبارية يقتضي حتما أن يكون موضوعها جزئيا لكي يتسنى لنا مراجعتها على الواقعة الخارجية التي تقابلها؛ وذلك لأن الوقائع لا تكون إلا جزئية المقومات، فلن تجد في العالم الخارجي «إنسانا» بصفة عامة بل ستجد أفرادا، ولن تجد «لونا» بصفة عامة بل ستجد هذه البقعة الحمراء وتلك البقعة الصفراء؛ فإذا كانت القضية التي نحن بصدد تحقيقها كلية، وجب تحليلها أولا إلى ما ينضوي تحتها من قضايا فردية، وها هنا تأتي مشكلة عسيرة؛ إذ ما كل قضية كلية يمكن تحليلها إلى قضاياها الفردية تحليلا كاملا.
فالتحليل ممكن إذا ما قصدنا بالتعميم في القضية تعميما محدد الأعضاء، بحيث يمكن أن نفرد لكل عضو على حدة قضية تتحدث عنه وحده؛ فإذا قلنا - مثلا - عن طلبة كلية الآداب بجامعة القاهرة اليوم إنهم جميعا تزيد أعمارهم عن السادسة عشرة، كان هذا قولا عاما يمكن تحليله عند التحقيق إلى قضايا جزئية فردية موضوع كل منها فرد واحد، بحيث يكمل تحليل القضية العامة إلى كل القضايا الفردية التي تنضوي تحتها، لكن ما هكذا تكون الحال إذا قلنا تعميما كهذا: «كل غاز يقل حجمه إذا زاد الضغط الواقع عليه»، أو «كل شعاع ضوئي ساقط على سطح مستو مصقول ينعكس بزاوية تساوي زاوية السقوط». فها هنا محال أن أحصي الحالات الفردية التي منها يتكون قولنا «كل غاز» أو قولنا «كل شعاع ضوئي»، وليست الاستحالة قاصرة على أن الحالات القائمة فعلا مستحيل حصرها، بل تجاوز ذلك إلى استحالة أخرى، وهي أن التعميم يشمل حالات الماضي وحالات المستقبل مما يستحيل الرجوع إليه تحقيقا للقضية العامة؛ فإذا عرفنا أن قوانين الطبيعة كلها هي من هذا القبيل، أدركنا أن مثل هذا التعميم المطلق تجب العناية بالنظر في أمر تحقيقه على الواقع كيف يكون.
إن هذه الاستحالات كلها التي تحول دون تحليل العبارة العامة بالمعنى اللامحدود تحليلا كاملا يترجمها إلى جميع القضايا الفردية الداخلة فيها، هي التي حدت ببعض رجال التحليل الحديث - مثل «وتجنشتين» و«رامزي» و«شليك» - ألا يجيزوا من ضروب القول إلا القضايا الذرية، والقضايا المركبة من عدد من القضايا الذرية،
3
كقولنا مثلا: «إذا كان هذا الشعاع الضوئي ينعكس على سطح مصقول فإنه ينعكس بزاوية تساوي زاوية سقوطه.» (هذه القضية مركبة من قضيتين ذريتين ربطت بينهما كلمة «إذا».) وذلك لأن أمثال هذه القضايا التي تحدثنا عن شيء واحد فرد - كهذا الشعاع المعين من الضوء - هي وحدها التي يمكن مقابلتها مع عالم الواقع مقابلة تتيح لنا تحقيقها تحقيقا حاسما، على خلاف القضايا الكلية غير المحدودة الأعضاء؛ فإن مثل هذه المقابلة فيها محال أن تكون كاملة وقاطعة.
ولا شك أن هذه الوجهة من النظر تستتبع نتائج خطيرة في التفكير العلمي؛ لأنك إذا لم تجز القول حين يكون تعميما مطلقا غير محدد الأفراد، أنكرت بالتالي إمكان التحدث عن كل فكرة تتناول عددا لا نهائيا من الأفراد ، فلا تجيز مثلا أن أقول عن الخط المستقيم إنه عدد لا نهائي من النقط. وأنكرت كذلك إمكان التحقيق المقنع في كل قوانين العلوم الطبيعية؛ لأن كل قانون منها هو قول يشمل حالات لا نهائية في تطبيقه. أم تقول إن القانون العلمي لا ينبغي له أن يجاوز حدود القضايا المركبة من قضايا ذرية، تصف ما قد لوحظ في المعامل وصفا محددا جزئيا يمكن العودة إليه عند تحقيقها؟ إنك إذا قلت هذا أنكرت أهم جوانب القانون العلمي، وهو إمكان التنبؤ بما عساه أن يحدث في حالات مستقبلة إذا ما توافرت ظروف معينة؛ أي إنك في مثل هذه الحالة ستقتصر على وصف ما قد وقع، مع أن قوة القانون العلمي هي في انطباقه على حالات جديدة غير التي وقعت فعلا ولوحظت في إبان البحث العلمي.
لهذا لجأ شليك إلى مهرب آمن ينجيه من هذا الاعتراض؛ وذلك أن يعد القانون العلمي - لا قضية كلية تقرر عن العالم شيئا محددا معينا - بل يعده قاعدة من قواعد السلوك، كأنما هو خطة إرشادية تهدي الناس بعدئذ ماذا يصنعون في الظروف والمواقف الفلانية. إنني إذا زعمت أن في الظروف الجوية المعينة يكون عمود الزئبق في البارومتر مشيرا إلى الدرجة الفلانية، فأنا لا أقول بهذا الزعم شيئا عن وقائع العالم كما هي قائمة؛ لأن تلك الظروف الموصوفة قد لا تقع أبدا؛ وإذن فصدق القانون العلمي لا يعتمد مباشرة على مطابقته لشيء من الواقع، بل إن القانون العلمي في صيغته العامة لا يوصف بصدق؛ إذ هو أقرب إلى الجملة التي تحدثنا عن مجهول، مثل: «س حرارته خمسون درجة مئوية.» لا يقال عنها إنها صادقة إلا إذا وضعت مكان «س» قيمتها؛ أي مدلولها. فهكذا القانون العلمي، هيكل لا يملؤه مضمون معين محدد؛ ولهذا يظل الحكم عليه بالصدق معلقا حتى ترد حالة جزئية فتملأ ذلك الهيكل، وتبين عندئذ إذا كان القول بعد امتلائه بالمضمون المحدد مطابقا للحالة الواقعة أو غير مطابق لها.
القانون العلمي قول عام غير محدد المضمون؛ ولذلك فهو ما نسميه في المنطق الحديث «دالة قضية»؛ أي إنه صيغة رمزية فيها ثغرة، وإلى أن تمتلئ هذه الثغرة باسم جزئي معين المسمى لا نستطيع الحكم عليها بالصواب أو بالخطأ. وهكذا قل في كل عبارة عامة مطلقة؛ فهي دالة قضية لا قضية، هي عبارة فيها رمز لمجهول وليست هي بالعبارة الكاملة، ولا بد من تحويلها إلى قضية كاملة قبل الحكم عليها، وهذا التحويل لا يكون إلا إذا أحللنا مكان الرمز المجهول القيمة اسما جزئيا معروف المسمى في دنيا الأشياء المحسوسة؛ فهل قولي عن الذهب إن وزنه النوعي مقداره كذا قول صادق أو غير صادق؟ الجواب: هذا قول ناقص لا يحكم عليه إلا إذا كمل؛ فهو بصورته هذه تحليله: س قطعة من الذهب، ووزنها النوعي هو كذا. ولا يمكن الحكم على مثل هذه العبارة بأنها صادقة إلا إذا وجدت ما يملأ مكان «س»؛ أي إلا إذا وجدت قطعة من الذهب وأجريت عليها التجربة لأستيقن من صدق العبارة أو عدم صدقها. هل القول بأن الشعر الجاهلي مصور لحياة البادية قول صواب؟ الجواب: الحكم هنا محال إلا إذا رجعت إلى قصائد بعينها من الشعر الجاهلي؛ فهذا القول السالف صورته المنطقية هي هذه: س قصيدة من الشعر الجاهلي، وهي مصورة لحياة البادية؛ فإلى أن أجد القصيدة المعينة التي تجعل الرمز المجهول الدلالة معلومها، لا يمكن الحكم لأنه ليس هنالك ما يحكم عليه.
अज्ञात पृष्ठ