العالم قوامه وقائع، ويصور كل واقعة منها في كلامنا جملة، أو يمكن أن تصورها جملة. أما الواقعة الواحدة البسيطة التي لا تنحل إلى ما هو أبسط منها فنقول عنها إنها جملة «ذرية»، وأما الجملة الواحدة البسيطة التي تصورها فنقول عنها إنها جملة «ذرية» كذلك. والواقعة الذرية الواحدة لا تكون أبدا من جزئية واحدة كلمعة ضوء أو نبرة صوت؛ إذ لا بد - لكي تكون واقعة - أن تتصف هذه الجزئية الواحدة بصفة ما، أو أن تتصل بغيرها من الجزئيات في مركب واحد يكون ذريا ما دمنا لا نستطيع حله إلى أكثر من واقعة واحدة، والجزئي الواحد من جزئيات الطبيعة يقابله في اللغة اسم العلم، والصفة التي تصفه في الطبيعة يقابلها في اللغة كلمة نسميها باصطلاح المنطق «المحمول»؛ فإن كان بين الجزئي الواحد وغيره من الجزئيات علاقة تربطهما معا في واقعة ذرية واحدة، كان في اللغة كلمات دالة على هذه العلاقات لتربط بين الأسماء الواردة في الجملة ربطا يجعل منها جملة ذرية واحدة.
فلو كان ما أشير إليه من وقائع العالم الخارجي هو هذه الورقة التي أمامي ولونها الأبيض، كانت الجملة التي تقابل ذلك هي «هذه الورقة بيضاء». هذه قضية بسيطة، وتحقيقها يكون بالرجوع إلى الواقعة البسيطة التي جاءت القضية مصورة لها. وفي مثل هذه الحالة نستطيع القول عن هذه الجملة إنها ذات «معنى»؛ لأن مدلولها هناك يشار إليه إشارة مباشرة، وتنطبع به الحواس انطباعا مباشرا . قارن ذلك بجملة وصفية أخرى يظن أن بينها وبين الجملة المذكورة شبها في الصورة، كقولنا مثلا «مدنية الغرب علمية»، وانظر هل يكون لهذا الكلام «معنى» بالمعنى الذي حددناه، وهو أن يكون للقضية مدلول في عالم الوقائع، فاسأل: أين هو الشيء المسمى ب «مدنية الغرب»؟ فإذا أشير لك إليه فانظر هل هو متصف بصفة العلمية، تماما كما جاز لك أن تسأل أين هو الشيء المسمى ب «هذه الورقة»، وأن تنظر في صفة البياض التي وصفت بها. وواضح أنك لن تجد جزئية من جزئيات الواقع اسمها «مدنية الغرب»؛ لأن هذه كلمة أريد بها أن تطلق على مجموعة كبري من مجموعات ضخمة؛ فهي مجموعة تضم الدين والفن والعلم والحكومة والتربية والاقتصاد ... إلخ إلخ، وكل كلمة من هذه الكلمات في ذاتها تعود فتضم ملايين الجزئيات؛ فالدين كلمة تطلق على آلاف الجمل في مئات الصفحات، والفن كلمة تطلق على آلاف وآلاف من قطع الموسيقى وقصائد الشعر والصور والتماثيل ... إلخ إلخ، ويستحيل أن ترجع في العالم الخارجي الواقع إلا إلى مفرد واحد من هذه المفردات ثم تعقب عليه بمفرد ثان فمفرد ثالث؛ وعلى ذلك فلو أردنا أن يكون طريق التحقيق لكلامنا ميسورا، وجب أن ينحل هذا الكلام إلى عبارات لا تشير كل واحدة منها إلا إلى مفرد واحد من جمل النصوص الدينية أو إلى مفرد واحد من الآثار الفنية، وهكذا؛ وإذن فليس قولنا «مدنية الغرب علمية» هو من الأقوال ذوات «المعنى» المباشر؛ لأنه قول لا يشير إلى واقعة ذرية واحدة، ولا يكون له معنى إلا إذا تحول إلى جمل ذرية تتحدث كل منها عن شيء واحد جزئي يمكن الرجوع إليه بالحس المباشر.
قارن هذا التحليل بما قد ذهب إليه أرسطو وأتباعه من أن وحدة التحليل التي لا يمكن للتفكير أن ينحل إلى ما هو أبسط منها هي جملة تتحدث عن نوع بأسره؛ أي عن فئة بأسرها من الأفراد، كأن يقال - مثلا - «الإنسان عاقل» و«الشعر كلام مقفى» وما إلى ذلك. إنه لو كانت كلمة «الإنسان» أو كلمة «الشعر» هي الوحدة الأولية التي يرجع إليها للتحقق من أنها تتصف ما يدعي المتكلم أنها تتصف به، لوجب أن أبحث عنها - لا في عالم الأشياء الخارجية - بل في رأسي وفي عالم فكري؛ لأنه ليس في عالم الأشياء «إنسان» بصفة عامة، ولا «شعر» بصفة عامة. ولو أخذت بهذه النظرة لانتهيت إلى أن أقبل كلام المتكلم سواء أشار إلى دنيا الأشياء أو لم يشر؛ ومن ثم يستطيع المتكلم أن يتوهم ما شاء من كائنات ثم يتحدث عنها بما يشاء، ولا يكون لي الحق - أنا السامع - في مراجعته على دنيا الواقع؛ ذلك لأنني لو جعلت دنيا الواقع هي الفيصل بيني وبينه، لما كان لي بد من الرجوع إلى أفراد بأعيانها؛ فلا «إنسان» هناك إلا زيد وعمرو وخالد، ولا «شعر» هناك إلا هذه القصيدة المعينة أو تلك.
كلا، لم يوفق أرسطو في تحليله إلى الصواب؛ إذ جعل الأنواع آخر مراحل التحليل، وإذ جعل القضايا التي تكون موضوعاتها كلمات كلية هي الوحدات البسيطة الأولية؛ فالجملة التي يكون موضوعها فئة لا فردا، مثل «الطائر ذو جناحين» و«بعض من أتموا دراستهم الثانوية يدخلون الجامعة»، ليست في الحقيقة قضية كاملة يمكن الحكم عليها بصواب أو خطأ، بل هي ما يقولون عنه في المنطق الحديث «دالة قضية»؛ أي إنها عبارة ناقصة فيها ثقب شاغر يحتاج إلى اسم جزئي ليملأه فتكمل العبارة وتصبح صالحة للتحقيق؛ فبدل قولي «الطائر ذو جناحين» أضع مكان «الطائر» اسم طائر بعينه يمكن الإشارة إليه، فتصبح العبارة «هذا الببغاء ذو جناحين»؛ وعندئذ فقط يمكن مراجعة القول على الواقعة التي يشير إليها.
أضف إلى هذا النقص في التحليل الأرسطي لوحدات الفكر نقصا أخطر وأفدح؛ وذلك أنه قد ظن أن كل الأفكار مهما يكن نوعها فهي في النهاية يمكن ردها إلى جملة تصف موضوعا ما بصفة معينة؛ أي يمكن ردها - بلغة المنطق - إلى موضوع ومحمول، إلى موضوع وما يحمله ذلك الموضوع من صفات، ولكن هذا النوع الذي ظنه أرسطو شاملا لكل ضروب الفكر إن هو في الحقيقة إلا نوع واحد من أنواع كثيرة أخرى؛ فإلى جانب الجملة التي تتحدث عن موضوع واحد بصفة معينة، هنالك الجملة التي تتحدث عن موضوعين في آن واحد واصلة بينهما بصلة تربطهما، كقولي عن بروتس إنه قتل قيصر؛ فالحديث هنا ليس حديثا عن بروتس أكثر منه حديثا عن قيصر، هو حديث عنهما معا بما قد وصل بينهما من علاقة هي علاقة القتل. واللغة نفسها تمكنك من أن تبدأ الحديث بأي الطرفين شئت؛ فلا بأس من قولك «قيصر قتل بفعل من بروتس»، فتصف بذلك نفس الواقعة التي تصفها بقولك «بروتس قتل قيصر»؛ ومعني هذا أن ليس قوام هذه العبارة موضوعا وصفته، بل قوامها موضوعان وما بينهما من علاقة. وقد يكون في الواقعة الواحدة أكثر من طرفين، فيكون فيها ثلاثة أطراف مثلا أو أربعة أو أكثر من ذلك؛ وعندئذ تأتي العبارة المخبرة عنها ذات ثلاثة موضوعات أو أربعة أو أكثر، بحيث يتساوي عدد الموضوعات في الجملة مع عدد الأطراف في الواقعة التي هي موضوع الحديث. وفي اللغة كلمات أعدت للتعبير عن العلاقة ذات الأطراف الثلاثة والعلاقة ذات الأطراف الأربعة وهكذا؛ فقولي - مثلا - إن العدد 3 يقع بين العددين 2، 4 هو قول ذو موضوعات ثلاثة هي «2، 3، 4» ربطت بينها كلمة «بين»، وهكذا.
قد تقول: وماذا يترتب على هذا التحليل الجديد للفكر مما لم يترتب على تحليل أرسطو؟ ما الفرق بين أن أقول إن عبارة «بروتس قتل قيصر» هي قضية ذات موضوع هو «بروتس» ومحمول هو «قتل قيصر»، وبين أن أقول عنها إنها قضية مؤلفة من موضوعين هما «بروتس، قيصر» ربطت بينهما علاقة؟ ونجيب لك عن سؤالك هذا بقولنا إن الفرق عميق في تكوين وجهة النظر إلى العالم؛ فالتحليل الأرسطي منته بصاحبه إلى أن الكون حقيقة واحدة وله هذه الصفة أو تلك، وأما التحليل الجديد فينتهي بصاحبه إلى أن الكون حقائق عدة؛ ذلك لأني إذا أخذت بوجهة النظر الأرسطية فسأظل أصعد في سلم الموضوعات من أدناها إلى أعلاها، وفي شتى هذه المراحل الصعودية لا يكون لدي ما أقوله عنها إلا صفات تحملها تلك الموضوعات، حتى أنتهي في غاية الشوط إلى موضوع واحد يضم كل ما تحته من فروع، ولا يكون لدي ما أقوله عن ذلك الموضوع الواحد إلا صفاته التي يحملها. وأما الآخذ بالتحليل الجديد فلن يشترط بادئ ذي بدء أن تكون وقائع الكون من صنف معين، بل سينتظر التجربة وما تأتيه به من معلومات؛ فآنا تقول التجربة عن شيء ما إنه ذو صفة معينة، وآنا تقول عن شيئين أو عن ثلاثة أشياء إنها مرتبطة برباط لا يجعل واحدا منها أعلى تعميما ولا أقل تعميما. وأهم من ذلك كله أن التحليل الجديد للفكر يحتم على صاحبه أن يجعل الوقائع الجزئية هي وحدها المرجع الذي يرتد إليه المفكر في تحقيق أفكاره وأفكار الآخرين.
4
تريد الفلسفة التحليلية أن تبلغ بتحليل الفكر إلى حده الأدنى، شأنها في ذلك شأن العلم الطبيعي حين يتناول مادة الأشياء بالتحليل إلى غايته القصوى، فينتهي به إلى الذرات الأولية وإلى طريقة بناء الذرة الواحدة من هذه الذرات الأولية. وإنما ينشد التحليل الفلسفي والتحليل الطبيعي هذه الوحدات الأولية في عالم الفكر أو في عالم الطبيعة؛ أملا في أن يعرف المركب إذا عرف بسائطه الذي يتكون منها.
وقد انتهى رجال التحليل الفلسفي المعاصرون - وعلى رأسهم رسل - إلى ما قد أسموه بالقضية الذرية وحدة أولية بسيطة، مخالفين بذلك أرسطو الذي ظن أن القضية التي تتحدث عن فئة بأسرها وحدة فكرية أولية. والقضية الذرية الأولية - كما أسلفنا لك القول - هي التي تقابلها في عالم الأشياء واقعة ذرية أولية، كل منهما في مجاله لا يقبل التحليل والانقسام؛ فالواقعة الذرية الأولية قد تكون جزئية واحدة وصفة تنعتها، وقد تكون جزئيتين أو ثلاث جزئيات أو أكثر مع رابطة تصل هذه الجزئيات لتجعل منها بناء واحدا، بحيث لو انحلت الرابطة وانفرطت الأطراف لم يعد لأي طرف منها على حدة شيء من المعنى الذي كان للبناء وهو متصل. وكذلك القضية الذرية الأولية - على غرار الواقعة التي تقابلها - إما أن تكون اسما واحدا وصفة تنعته، أو اسمين أو ثلاثة أسماء أو أكثر تصلها كلمة علاقية تجعل من هذه الأسماء وحدة واحدة، بحيث لو أزلنا كلمة العلاقة وانفرطت الأسماء لم يعد لأي منها شيء من المعنى الذي كان للقضية وهي بناء متصل.
ونريد الآن أن نمضي في التحليل خطوة أخرى، فنقول إنه حتى الجملة التي تكون مكونة من اسم جزئي وصفة تنعته مثل «هذا أحمر» التي نقولها مشيرين إلى بقعة لونية حمراء قائمة أمام الحس (وهذه القضية الوصفية هي أقرب الأنواع إلى القضية كما عرفها أرسطو وأسماها القضية الحملية)، أقول إنه حتى هذه القضية الوصفية الأولية يمكن تحليلها لبيان أنها هي الأخرى قضية دالة على بناء ذي أطراف وما بينها من علاقة. ولو تحقق لنا ذلك لانتهينا إلى نتيجة عامة، وهي أن كل فكرة من أفكار الإنسان، مهما تكن ذرية بسيطة أولية، فهي مكونة من أطراف جزئية وعلاقة تربطها؛ وبهذا نستغني استغناء تاما عن «الصفات» أو عن «الكيفيات»، ولا يعود لدينا من العالم الخارجي من جهة، واللغة أو الفكر من جهة أخرى، سوي جزئيات ذرية وعلاقات تربطها.
अज्ञात पृष्ठ