فالحركة الفلسفية الراهنة تضيف إلى كلمة «وضعية» كلمة أخرى هي «منطقية»، بحيث تجعل اسمها «وضعية منطقية» لا على سبيل اللهو والعبث، بل عن قصد ودراية؛ فلو سأل سائل: لماذا يجب الكف عن النظر إلى ما وراء الحس؟ كان جواب «أوجيست كونت» هو: لأنه لا يفيد. أما جوابنا نحن فهو: لأن الكلام عندئذ سيخلو من المعنى. فالمذهب الوضعي عند «كونت» يجعل للعبارات المتحدثة عما وراء عالم الحس معني، وغاية ما في الأمر هي أن معناها لا يفيدنا في حياتنا العملية شيئا، وأما نحن فنرفض تلك العبارات على أساس «منطقي» لا على أساس النفع وعدمه؛ إذ يبين لنا التحليل المنطقي لتلك العبارات أنها أشباه عبارات تخدع بتركيبها النحوي السليم، لكنها في حقيقة أمرها لا تؤدي مهمة الكلام، وهي الإخبار؛ لأنها لا تحمل معني على الإطلاق تخبر به.
وكذلك لا تنظر «الوضعية المنطقية» إلى الأفكار نظرة تاريخية كما فعل «كونت»؛ فليست الفكرة عندها معتمدة على ظروفها التاريخية، بحيث تصلح اليوم بعد أن لم تكن صالحة بالأمس، بل الأمر موكول كله إلى تحليل اللفظ الدال على الفكرة تحليلا منطقيا لا يعرف فوارق الزمن؛ فلا مانع - مثلا - من تناول فكرة ميتافيزيقية من فلسفة أفلاطون، كقوله بخلود الروح، وتحليل لفظها تحليلا ينتهي إلى أنه لفظ فارغ بغير معني، مهما يكن من صلاحية مثل هذا القول في زمنه.
4
كان «هيوم» بفلسفته التجريبية، و«ليبنتز» بمنطقه الذي يفرق به بين حقائق العقل وحقائق الواقع، و«كانت» بتحليله للعقل وقوله باستحالة الميتافيزيقا التي تستنبط من مبدأ أول، و«كونت» بمذهبه الوضعي، كان هؤلاء جميعا من الرواد الذين مهدوا الطريق، كل من جانبه، لكي ينتهي إلى ما انتهى إليه في القرن العشرين من حركة فلسفية عرفت أول ما عرفت باسم «الوضعية المنطقية» تمييزا لها من «وضعية» كونت وغيره، وإنما سميت بهذا الاسم لأنها ترفض ما ترفضه وتقبل ما تقبله على أساس «المنطق» وحده؛ أي على أساس تحليل العبارات والألفاظ تحليلا يبين حقيقة بنائها. ولا يزال فريق من أتباع هذه الحركة الفلسفية يحتفظون لها باسمها الأول، لكن فريقا آخر أخذ يطلق عليها اسم «التجريبية العلمية» وما يدور حول هذا المعنى من أسماء، ولن أستطرد الآن في الحديث عن هذه «الوضعية» الجديدة؛ لأن مكان الحديث عنها تفصيلا هو الفصل التالي من هذا الكتاب.
ولكن «الوضعية المنطقية» إن تكن قد وجدت في هؤلاء الرواد مقدمات لها من حيث وجهة النظر العامة، إلا أنها قد اعتمدت في طرائقها التحليلية الخاصة على فريق آخر من علماء الرياضة ورجال المنطق؛ فهؤلاء هم الذين أمدوها بالأدوات التي تستخدمها في تحليلها الذي تريده لعبارات اللغة وألفاظها، تحليلا انتهى بها إلى مجموعة النتائج التي انتهت إليها حتى اليوم، وما تزال ماضية في طريقها تحلل وتحلل، فتوضح الغامض وتحل المتشابك وتلقي الضوء على الزوايا المعتمة، وهي أثناء ذلك كله لا تظل جامدة على أدوات تحليلية بعينها، بل ما تنفك تشحذ من تلك الأدوات وتصلح منها بحيث تلائم ما قد يعترض طريقها من صعاب.
فقد حدث حول منتصف القرن الماضي أن بدأت حركتان تسيران في اتجاهين متضادين، ولكن كلا منهما - مع ذلك - كانت تنفع الأخرى؛ فمن جهة أراد بعض علماء الرياضة أن يقفوا وقفة طويلة عند أساس علمهم الرياضي - وهو العدد - لعلهم مستطيعون أن يردوه إلى أصوله الأولية؛ ذلك أن فكرة أي عدد من سلسلة الأعداد فكرة مركبة وليست هي بالفكرة البسيطة؛ وإذن فعلينا أن نسأل: من أي العناصر البسيطة ركب العدد؟ وطفق علماء الرياضة يحللون العدد الذي هو أساس علمهم الرياضي كما قلنا، وما زالوا به تحليلا وردا إلى أصوله الأولية حتى انتهوا به إلى جذوره في المدركات المنطقية الخالصة. ومن جهة أخرى كان بعض المناطقة قد لفت أنظارهم قصور المنطق الأرسطي؛ ذلك المنطق الذي أدار اهتمامه كله على نوع واحد من القضايا، ألا وهو القضية التي يكون قوامها موصوفا وصفته، أو موضوعا ومحموله كما قد جرى الاصطلاح المنطقي، مع أن هنالك من الوحدات الفكرية ما يستحيل أن يصب في هذا القالب - قالب الموضوع والمحمول - لأنه تعبير عن علاقات وليس تعبيرا عن أشياء موصوفة بصفات، وفي مقدمة الصور الفكرية التي تعبر عن علاقات، والتي تأبى لهذا السبب أن تنساق مع المنطق الأرسطي، القضايا الرياضية؛ وإذن فالمنطق الأرسطي بحاجة إلى مراجعة وإلى زيادة في دقة التحليل لكي يتسع فيسع صور التفكير المختلفة، سواء كان ذلك التفكير قائما على «أشياء» أو على «علاقات»، ومن هنا أخذ المناطقة المحدثون يعملون في طريق يبدأ من المدركات المنطقية الخالصة، مثل «إما ... أو ...» و«و» و«ليس» و«إذا ... إذن ...» و«كل» و«بعض» ... إلخ، أقول إن المناطقة المحدثين أخذوا يعملون في طريق يبدأ من هذه المدركات لينتهي إلى القضايا الرياضية، كما كان زملاؤهم علماء الرياضة يعملون في طريق مضادة بادئين بالقضايا الرياضية لينتهوا إلى مدركات منطقية خالصة؛ وبهذا التقى الفريقان عند هدف واحد، وهو أن المنطق والرياضة كليهما امتداد لبناء فكري واحد، قوامه القضايا التحليلية التي يستنبط بعضها من بعض دون أن تكون دالة على حقائق الوجود الطبيعي.
كان هذان الفريقان؛ علماء الرياضة من جهة، وعلماء المنطق من جهة أخرى، فيما قاما به من تحليلات كل في موضوعه، بحيث التقيا عند غاية واحدة، بمثابة من هيأ للتحليل أدواته، فجاءت الجماعة التي أطلقت على نفسها اسم «الوضعيين المنطقيين» واستغلت تلك الأدوات التحليلية استغلالا أخذ يتشعب ويتفرع، وما يزال إلى يومنا هذا ماضيا في سبيله ، حتى نتج لنا ما قد نتج من تحليلات تملأ الكتب والمجلات الفلسفية المعاصرة، وسنسوق لك مثلا لكل من هذين الفريقين رجلا كان في فريقه إماما؛ إذ نسوق «فريجه» مثلا لفريق الرياضيين الذين عنوا بتحليل المدركات الرياضية حتى ردوها إلى أصول من المنطق الخالص، و«رسل» مثلا لفريق المناطقة الذين عنوا بتحليل المدركات المنطقية حتى أظهروا علاقتها المباشرة بالعلوم الرياضية.
كان «جوتلوب فريجه»
6 (1848-1925م) أستاذا للرياضة في جامعة بينا، وقد أصدر عام 1879م كتابا صغيرا جعل عنوانه «ترقيم الأفكار»،
7
अज्ञात पृष्ठ