नगरत इघ्रिद
نضرة الاغريض في نصرة القريض
وقد رُويَ عن جماعةٍ من الصّحابةِ أشعارٌ كثيرةٌ حتى دوّنوا لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ﵁ ديوانًا، ورَوَوْا فيه أشعارًا حِسانًا. فأما النبي ﷺ فقد قال اللهُ تعالى فيه: (وما علّمناهُ الشِّعرَ وما ينْبَغي له) ليكونَ ذلك أبلغَ في الحُجّةِ على من زعَم أنه كاهِنٌ، ومرةً ساحِرٌ، ومرة (شاعرٌ نتربّصُ به ريْبَ المنون)، (وقالوا أساطيرُ الأوّلينَ اكتَتبَها)، وقالوا (أضغاثُ أحلامٍ بل افتراهُ بل هو شاعِرٌ) . فمنعَهُ الله تعالى من الشعر تكْرِمَةً له لمّا كان الشّعرُ ديْدَنَ أهلِ عصرِه الذي بُعِثَ فيه، وحُظِرَ عليه ذلك دَلالةً على صِدقِه وشهادةً على بُطلانِ قوْلِ المُبْطلينَ في حقِّه، وتنزيهًا له من افترائِهم عليه، وزيادةً في الحجّةِ له. وأنزلَ عليه القرآنَ المجيدَ الذي (لا يأتيه الباطلُ من بين يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِه) الذي لو اجتمَعَتِ الإنْسُ والجنُّ على أن يأتُوا بمثلِه، ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيرًا ما أتَوْا. فأقبل ﷺ يتحدّاهُم فريقًا فريقًا بأن يأتُوا بمثلِه، فلا يَقْدِرونَ عليه. ولو كان شعْرًا وطالبَهم بمثلِه لسهُلَ عليهم، وكان موجودًا لديهم. وما كان منْعه ﷺ من الشعر إلا فضيلةً ومصلحةً وإكرامًا وتطهيرًا. وليس على الشعرِ بذلك نقيصةٌ ولا عارٌ، ولو كان كلُّ ما منَعَهُ الله تعالى منه حتى لا يرتابَ المُبطلونَ نقيصةً لذلك الفنِّ لكانَتِ الكتابةُ نقيصةً لمّا جعلَهُ اللهُ أمِّيًا لا يكتبُ ولا يقرأ؛ ليكونَ أوْكَدَ سببًا، وأعلى شأنًا، وأشهرَ مكانًا، ولذلك قال الله ﷿ تعالى: (وما كنتَ تتْلو من قبْلِه من كتابٍ ولا تخُطُّه بيَمينِكَ إذًا لارتابَ المُبْطلونَ) . فإن كان منْعُه من الشِّعرِ مذمةً ونقيصةً للشعرِ والشُعراءِ، فمنْعُهُ من الكتابةِ مذمّةٌ ونقيصةٌ للكتابةِ والكتّابِ، ومعاذَ اللهِ أن يقولَ ذلك عاقلٌ، والله تعالى يقول: (اقرأْ وربُّكَ الأكْرَم الذي علّمَ بالقلَم) وقال تعالى: (كِرامًا كاتِبين) يعني الملائكةَ.
وقد جعلَ اللهُ تعالى أهلَ بيتِ رسولِه ﷺ وأصحابه وإخوانه كُتّابًا وحُسّابًا، كما جعلَ منهم شُعراء ورُجّازًا. وكان من أزواجِه ﷺ مَنْ يكتبُ ويقرأ؛ وهنّ حَفْصَةُ بنتُ عُمر، وعائشةُ بنتُ أبي بكر، وأمُّ سَلَمة، رحِمَهُم الله تعالى جميعًا.
ورَوَوْا عنه ﷺ أنه كان يومَ الأحزابِ ينقلُ الترابَ ويقول:
اللهمَّ لولا أنتَ ما اهْتَدَيْنا ... ولا تصَدّقْنا ولا صلَّيْنا
ورووْا عنه ﵇ أنه كان يومَ حُنَيْن على بغلتِه البيضاءَ وهو يقول:
أنا النّبيُّ لا كَذِبْ ... أنا ابنُ عبدِ المطّلِبْ
ورووْا أنه ﷺ أصابَ إصْبَعَهُ الشريفةَ حجَرٌ فدَمِيَتْ، فقال:
هل أنتِ إلا إصبَعٌ دمِيتِ ... وفي سبيلِ اللهِ ما لَقيتِ
وأقول: إنّ هذه الأخبارَ إذا صحّتْ فإنه ﷺ كان يتمثّل بها ولا يُقيمُ وزْنَها تصديقًا وتسليمًا لِما أخبرَ الله تعالى به وهو أصدقُ قيلًا. فإنهُ يمكنُ أنهُ قد كان يقول: اللهمّ ما اهتدَيْنا لولا أنتَ ولا صلّيْنا ولا تصدّقْنا، ويقول: أنا النبيّ لا كَذِبا، أنا ابنُ عبدِ المُطّلِب، ويقول: هل أنتِ إلا إصبعٌ دمِيَتْ، وفي سبيل الله ما لقِيَتْ. أو ما يقاربُ هذا، وإنْ كانت هذه الأخبارُ غيرَ متَّفَقٍ عليها، فقد سقط التعليلُ.
1 / 72