المظفّر بن الفضل العلوي
الحمد لله الباهرةِ آياتُه، القاهرةِ سَطواتُه، القديمِ إحسانُه، العظيمِ سلطانُه، السابغةِ مواهبُه، السايغةِ مشاربُه، الواسعِ جودُه، القامعِ وعيدُه، الجزيلِ حباؤُه، الجميلِ بلاؤُه، الجليلِ ثوابُه، الوبيلِ عقابُه، العزيزِ كتابُه، الوجيزِ حسابُه، لا تُحيطُ به المشاهِدُ، ولا يُدرِكُه المُشاهدُ، ولا تحجبُه الحواجز، ولا يوصَفُ بأنه عاجز. أرسلَ محمدًا نبيَّهُ، وصفوَته وصفيَّه، صادِعًا بالحق، وصادِقًا في النطق، وموضِحًا جَدَدَ الطرق وناصحًا لجميع الخَلْق. فقام َ وأعلامُ الهُدى دارسةٌ، ومعالمُ التُقى طامِسة، والجهالةُ جائلة، والضلالةُ شاملة، فصدَعَ بما أُمِر، وصدّ عمّا أُنكِر، وهَدى الى الرّشاد، وهدّ ما أسّس الكُفْرُ وشاد. صلّى الله عليه وعلى آله مصابيح الظُّلَم، ومفاتيح النِّعَم، وشآبيب الحِكَم، وجلابيبِ الكَرَم، وعلى أصحابه المُنْتَجبين، وأحزابِه المُنتَخَبين، صلاةً دائمةً الى يومِ الدين. وبعد: فإني كنتُ بعضَ الأيام بمجلس مولانا صدر صدورِ الأنام، ملِكِ وزراء الشرقِ والغربِ، النافذةِ أوامرُه في البُعدِ والقُربِ، مؤيّد الدين رضيّ أميرِ المؤمنين أبي طالب محمّد بن أحمد أيّدَ اللهُ دولتَه، وأيّد كلمتَهُ، فلقد سجَدَتْ لآدابِه جباهُ المناقبِ وقبّلت أخامِصَ هِمَمِهِ شفاهُ النجومِ الثواقب.
هِمَمٌ مُحلِّقةٌ على هامِ السُّها ... طلبًا لمركزِ عُنْصُرٍ ونِجارِ
ولكلِّ شيءٍ عُنْصُرٌ يأوي الى ... غاياتِ مركزِهِ بغيرِ نِفارِ
فأدبُه يُفرِجُ عن الفَقْر من أسْرِ الأفكارِ، ومواهبُه تسْتَخرجُ الدُّررَ من سُررِ البحارِ، وأسواق الفضائلِ لديه قائمةٌ على سوقها، وأيْنُقُ الفواضل من بين يديهِ تساقُ بوسوقِها، وغَلْوةُ خاطرِهِ لا تصل إليها غاياتُ الطّوق، وإذا قيسَ به سواهُ قيلَ: شبَّ عمروٌ عن الطّوْق، دارُه بأرَجِ الأدبِ دارِين، ومحلُه بحلولِ البركةِ قَمين.
دارٌ تَسيلُ بها سُيولُ فضائلٍ ... وفواضِلٍ لمُسائلِ أو سائلِ
فالعُذْرُ مقبوضٌ بها عن آمِلٍ ... والعِلْمُ مبسوطٌ بها للجاهِلِ
وقد جرى حديثُ الشِّعر وصِفاتِه، وتولُّجِ أبوابه وقَدْحِ صَفاتِه، وما يجوزُ فيه ويمتنعُ منه، وذِكرُ الفضيلةِ التي مُدِحَ بها والرذيلةِ التي ذُمَّ بسببِها، والبحثُ عن منافِعِه ومضاره، ونقائه وأوضاره، وهل تَعاطيهِ أصلحُ، أم تركُهُ أوفرُ وأرجَحُ. فكلٌّ من الحاضرين أتى بأغربِ ما سمعه، وأعجبِ ما ابتدعَهُ، وأطرفِ ما فَهمَهُ، وألطفِ ما علِمَهُ، فكان مع الإعذار فيه أخا تعذيرٍ، وبعد الإسهاب رَذيَّ رُزوحٍ وتَقصير.
فأمرَ مولانا، وأمرُه مُطاعٌ، وخلافُه لا يُستطاع، أن أُثْبِتَ له في ذلكَ أوراقًا، واستمطِرَ من سُحُبِ خواطرِ المتقدمين أرواقًا، ولا أحْوِجَ فيه الى الاسترشادِ بغيرِه، ولا الى الاستضاءةِ بسواه. فبادرتُ الى اتّباعِ مُرادِهِ، وانتجاعِ مَرادِه، " ولو شاءَ لكان زَنْدُهُ إذا استقدحَهُ وَرَى، والصيدُ كلُّ الصيد في جوْفِ الفَرا ".
وقدأجَبْتُ عن ذلك في خمسةِ فصولٍ، عاريةٍ من الهذَرِ والفضولِ، مائلًا الى الاختصار، وقائلًا بالاقتصار. فإن الاستيعابَ لما وردَ فيهِ، وصُنِّفَ في معانيه، يحتاجُ الى تأليفِ كُتُبٍ عدّة، وفراغٍ له في طويلٍ من المدّة، والوقتُ عن ذلك يَضيق، والعلائقُ عنه تصُدُّ وتَعوق.
وأُقسِمُ لوْ شيءٌ أتانا رَسولُهُ ... سواكَ، ولكنْ لم نَجِدْ عنكَ مَدْفَعا
وقد وَسمنا هذا الكتاب بنَضرةِ الإغريضِ في نُصْرةِ القَريض إذ أصَّلناهُ على الانتصار للشعرِ والشُّعراء، ونصّلناهُ لمناضلةِ المُناظرِ والنُّظَراء، ونرجو من الله تعالى أن نوردَ في فصولِه، ونُرْهِفَ من نصوله، ما يَكونُ للغلّةِ ناقِعًا، وللعلّةِ نافعًا، وللحاسرِ من الأدبِ مُقَنِّعًا، وللناظرِ في معانيهِ مُقْنِعًا، وإن كان ذُروةً قد فُرِعَتْ، وعُذْرةً قد افتُرعَتْ، فنحن بعونِ القديمِ ﷻ نجتهدُ أن لا نُقَصِّرَ في ذلك الرهانِ، ولا نُسْتَصْغَرَ عن مواقفِ تلكَ الفُرسان، ومنه ﷾ نستمدُّ التوفيق ونَسْتَدُّ الطريق، وهو حسْبُنا ونعم الوكيل.
الفصل الأول: في وصفِ الشعرِ وأحكامِه، وبيانِ أحوالهِ وأقسامِهِ.
1 / 1
الفصل الثاني: فيما يجوز للشاعرِ استعمالُه وما لا يجوزُ، وما يدرَكُ به صوابُ القوْلِ ويجوزُ.
الفصل الثالث: في فضلِ الشعرِ ومنافعِهِ، وتأثيرهِ في القلوبِ ومواقعِهِ.
الفصل الرابع: في كشْفِ ما مُدِحَ به، وذُمَّ بسببهِ، وهل تعاطيهِ أصلح، أم رفضُه أوفرُ وأرجح.
الفصل الخامس: فيما يجبُ أن يتوخّاه الشاعِرُ ويتجنّبه ويطّرِحه ويتطلبَه.
الفصل الأول
في وصف الشعر وأحكامه
وبيان أحواله وأقسامه
أوّل ما أبدأ به في هذا الفصلِ فأقولُ إنّ اشتقاقَ لفظةِ الشِّعرِ من العلمِ والإدراكِ والفطنةِ تقول: ليْتَ شِعْري هلْ أصابَ صوْبُ السماءِ منازِلَ أسماءَ، أي ليت علمي. قال الشاعر - أنشده ابنُ الأعرابي:
يا ليْتَ شِعْري والمُنى لا تَنْفَعُ ... هلْ أغْدونْ يوْمًا وأمري مُجْمَعُ
وتحتَ رَحْلي زَفَيانٌ مَيْلَعُ ... حرْفٌ إذا ما زُجِرَتْ تبَوَّعُ
كأنّها نائحةٌ تفجَّعُ ... تبْكي لمَيْتٍ وسواها الموَجعُ
زَفَيان: ناقةٌ تَزيفُ في مَشيِها، وميلعٌ: سريعةٌ ناجية.
وسُمّي الشاعرُ شاعرًا لعلمه وفطنتِهِ.
وأما كونُهم سمّوا الشعرَ قريضًا فلأنّ اشتقاقه من القَرْضِ وهو القطْعُ لأنه يُقْرَضُ من الكلامِ قرْضًا، أي يقطعُ منه قَطْعًا كما يُقْرَضُ الشيءُ بالمِقْراض. قال الله تعالى: " وإذا غَرَبَتْ تَقرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمال " أي تجوزُهُم وتَدَعُهُم على أحدِ الجانبين. قال عبد العزيز بن حاتم بن النعمان ابن الأحمر، وكان يهاجي الفرزدق:
أنفي قَذَى الشِّعرِ عنهُ حينَ أقْرُضُه ... فما بِشعْريَ من عيْبٍ ولا ذامِ
كأنّما أصْطَفي شِعري وأغرِفُه ... من مَوْجِ بحْرٍ غزيرٍ زاخرٍ طامِ
منهُ غرائِبُ أمثالٍ مُشهَّرةٍ ... ملمومةٍ، إنها رَصْفي وإحكامي
وأما القصيدُ، وهو جمْعُ قصيدةٍ مثل سَفين جمع سَفينة، فإنما اشتُقّتْ لفظتها من القِصْدَة وهي القِطْعة من الشيء إذا تكسّرَ كأنها قِطعةٌ من الكلام. ومن ذلك رُمْحٌ قِصَدٌ وقد تقصّدَ إذا صار قِطَعًا. قال المُسيَّبُ بنُ عَلَس:
فَلأُهدِيَنّ مع الرِّياحِ قصيدةً ... مني مُغلْغَلَةً الى القَعْقاعِ
ترِدُ المياهَ فلا تزالُ غريبةً ... في القَوْمِ بين تمثُّلٍ وسَماعِ
وأما تسميتُهُم القصيدةَ قافيةً فلأن القافيةَ تقفو البيتَ أي تتبعُهُ وسمّوا الجميعَ باسم واحدٍ إيجازًا واختصارًا كما سمّوا القصيدةَ بجملتها كلمةً، والكلمةُ اللفظةُ الواحدة، ميلًا الى اختصار الكلام وإخلادًا الى ما يدلُ فيه على التمام. قالت الخنساء:
وقافيةٍ مثل حدِّ السِّنانِ ... تبْقَى ويهلِكُ مَنْ قالَها
نطقتَ ابنَ عمروٍ فسهّلْتَها ... ولمْ ينْطِقِ الناسُ أمْثالَها
وأقول: إنّ الشعرَ عبارةٌ عن ألفاظٍ منظومة تدلُّ على معانٍ مفهومة، وإن شئتَ قلت: الشعرُ عبارةٌ عن ألفاظ منضودة، تدلُ على معانٍ مقصودة. فإذا قيسَ به النثرُ كان أبرعَ منه مطالِعَ، وأنْصَعَ مقاطع، وأجرى عِنانًا، وأفصحَ لسانًا، وأشردَ مثلًا، وأعضدَ مُنْصُلًا، وأسدَّ سِهامًا، وأشدَّ خِصامًا، وأنْوَرَ نجْمًا، وأزهر نَجْمًا، وأبقَى مياسِمَ، وأنْقَى مباسِمَ، وأذكى مناسِمَ، وأزكى معالِمَ، وأرشقَ في الأسماع، وأعلَقَ بالطِّباع.
وقال الأصمعي: الشعرُ ما قَلّ لفظُهُ، وسهُلَ ودَقّ معناه ولَطُفَ، والذي إذا سمعْتَهُ ظننْتَ أنك تنالُه، فإذا حاولته وَجدتَه بعيدًا، وما عدا ذلك فهو كلامٌ منظومٌ. وقال بعض البُلغاء: الشِّعرُ عبارةٌ عن مثَلٍ سائرٍ وتشبيه نادرٍ واستعارةٍ بلفظٍ فاخر.
وروى لي الغزنويّ عن هبةِ الله المعروفِ بابنِ الشجريّ قال: حدّثني أبو زكريا التبريزي قال: كنتُ أسألُ المعرّي عن شعرٍ أقرؤُه عليه فيقول لي: هذا نظمٌ جيّدٌ. فإذا مرّ به بيتٌ جيدٌ قال يا أبا زكريا هذا هو الشِّعر.
وأما الشِّعرُ فيحتاجُ الى آلات، وفيه ألقابٌ وله صفات. ونحن نذكرُ ذلك مجملًا، ونشرحُه مفَصَّلًا، ولا نقصدُ فيه الترتيب، إذ تقديمُ فصلٍ على فصلٍ غير مفتقر الى التهذيب.
في الشعر:
1 / 2
١ - النحو ٢ - والبلاغة ٣ - والفصاحة ٤ - والحقيقة والمجاز ٥ - والصنعة والمصنوع ٦ - وإقامة الوزن ٧ - والقوافي ٨ - والألقاب وهي أ - الإشارة ب - والكناية وتسمى التتبيع، ٩ - والموازنة وهي المماثلة ١٠ - والتجنيس، ومنه المحض والمطلق وهو تجنيس اللفظ، والمغاير والمقارب، وتجنيس المعنى، والمُطْمِع والمُبْدَل والمُختلِف، وتجنيس الخط ويسمّى التصحيف، وتجنيس البعض، والمُتَمَّم، وتجنيس القوافي، والمماثِل وفيه ١١ - الطباق ١٢ - والتصدير وهو ردُّ أعجازِ الكلامِ على صُدورِه ١٣ - والالتفات ١٤ - والاستطراد ١٥ - والتقسيم ١٦ - والتسهيم ١٧ - والترصيع ويسمى التفويف ١٨ - والترديد ١٩ - والمقابلة ٢٠ - والاستثناء ٢١ - والإيغال ويسمى التبليغ ٢٢ - والاستعارة ٢٣ - والتشبيه ٢٤ - والحشو السديد في المعنى المفيد ٢٥ - والمتابعة ٢٦ - والمَخْلَص ٢٧ - والتضمينُ وهو التسميطُ والتوشيح ٢٨ - وتجاهلُ العارف ٢٩ - والمماتنة وهي الإنفادُ والإجازة ٣٠ - والسرقةُ وأقسامُها المحمودَةُ والمذمومة ٣١ - والنقدُ. وغير ذلك مما سنُبيِّنُهُ ونوضِحُهُ، ونعيّنُه ونشرحُه على سبيل الاختصار دونَ الإكثارِ، لافتقارِ الإسهاب الى زمانٍ طويلٍ وعُمْرٍ مديد وقوْل بسيطٍ واللهُ الموفقُ لجَدَد الهدايةِ بمشيئتِه وكرَمِه.
١ - فأما النّحو فإنه من شرائطِ المتكلمِ سواءً كان ناظمًا أو ناثرًا، أو خطيبًا أو شاعرًا، ولا يمكن أن يَستغنيَ عنه إلا الأخرسُ الذي لا يُفصِحُ بحرفٍ واحد. وكان بعضُ البُلغاء يقول: إني لأجدُ للّحنِ في فمي سُهوكةً كسُهوكةِ اللحمِ. وقال ﷺ: " رحم الله امرءًا أصلحَ من لسانه " وهذا حَثٌ على تقويم اللِّسان وتأدُّبِ الإنسان. وقال عليٌ ﵁: تعلموا النحو فإنّ بني إسرائيل كفروا بحرفٍ واحدٍ كان في الإنجيل الكريمِ مسطورًا وهو: أنا ولّدتُ عيسى بتشديد اللام، فخففوه فكفروا. وما قد ورد في الحث على تعلُّمِ النحوِ وفي شرَفِ فضيلتهِ وجلالةِ صناعتِه، لو تعاطينا حكايتَهُ لاحتجنا فيه الى كتابٍ مفردٍ، إذْ بمعرفتِهِ يُعْقَلُ عن اللهِ ﷿ كتابُهُ وما استوعاهُ من حكمتِهِ، واستودَعَه من آياتِهِ المُبينةِ، وحُجَجِهِ المنيرةِ، وقرآنِهِ الواضحِ ومواعظِهِ الشافيةِ، وبهِ يُفهم عن النبي ﷺ آثارُهُ المؤديةُ لأمرِهِ ونهيهِ وشرائعِه وسُنَنِه، وبه يتسعُ المرءُ في منطقِه، فإذا قالَ أفصَحَ وإذا احتجّ أوضحَ، وإذا كتبَ أبلغَ وإذا خطب أعجبَ.
1 / 3
ومعنى النحو انتحاءُ سمْتِ كلامِ العربِ في تصرفِهِ من إعرابٍ وتثنية وجمْع وتكسيرٍ وتحقير وإضافة ونسبٍ وغير ذلك. وهو في الأصل مصدرٌ شائعٌ من قولكَ نحوتُ نحْوًا، أي قصدتُ قصدًا، ثم خُصّ به انتحاءُ هذا النوعِ من العِلْمِ فصار كالمقصور عليهِ دونَ غيرِهِ كما أنّ الفِقْهَ في الأصل مصدرُ فَقِهْتُ الشيءَ أي عرفتُهُ. ثم خُصّ به علم الشّريعة من التحليل والتحريم، وكما أن بيتَ اللهِ خُصّ به الكعبةُ وإنْ كانت البيوت كلها لله تعالى. ونظائرُ ما كان شائعًا ثم قُصِرَ في جنسِه على أحد أنواعِهِ كثيرةٌ. وحُكِيَ عن أعرابيٍّ أنّه قالَ إنك لتَنظُرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ فشبّهها بعُتُوٍّ وهو قليلٌ في كلامِهم. والوجهُ في مثلِ هذه الواو، إذا جاءتْ في جَمع، الياءُ كقولهم في جمْع حَقْوٍ حُقِيٌّ. وأول من نطَق بالنحوِ عليٌ رضي الله تعالى عنه والحكايةُ في ذلك معروفة، ولمّا وضحَ بمثالِه المنْهَج، واتّضحَ بمقالِه المستقيمُ والأعوجُ، تشعّبتِ السبلُ فيه، واتّسعتِ العِللُ في معانيه. والأصل ثلاثُ كلِمات: اسمٌ وخبرٌ وأداةٌ تدلُّ على معنى. فالاسمُ كلُّ موصوفٍ من الخَلْقِ. والخلقُ ثلاثةُ أشياءٍ: إما جسمٌ أو لونٌ أو فِعْلٌ. وأما الخبَرُ فكلُّ ما أثْبَتَ مجهولًا أو أقامَ وصفًا من اسمٍ أو غيره. إلا أن الكلمة التي خَصَصناها به الكلمةُ التي لا يقعُ لفظُها إلا خبرًا، وهيَ كلُّ كلمةٍ دلّتْ على حدوث حركةٍ مؤقتة، من نحو قولِك فعَلَ ويفعَل، أو فُعِلَ أو يُفْعَلُ. وأما ما كان يقع مرة خبرًا ومرة مُخبَرًا عنه، فكرهنا أن نُسمّيهُ خبرًا إذ لم تدُم حالُه. وأما الأداةُ فكل ما عَدا أن يكون اسْمًا أو خَبرًا. وهي كلمةٌ لا تقعُ وصْفًا ولا موصوفًا. والكلمة التي سمّيناها خبرًا هي في تسمية النّحويينَ فعلٌ وذلك خطأ. لأن قولك فَعَل أو يفعَلُ أو فُعِلَ أو يفْعَلُ إنما هو إخبار بحدوثِ الفِعل ووقوعِه، والإخبارُ بحدوثِ الشيء خلاف الشيء، ولو كان فَعَلَ أو يَفْعَلُ فِعْلًا، لأمكنك أن تصِفَه فتحمدَه أو تذُمَّه كقولِكَ نِعْمَ الفِعْلُ آمَنَ وأصلح، وبِئسَ الفِعْلُ كفَرَ وأفسدَ. فهذه جملةُ تفسيرِ الكلمِ الثلاث التي حصَرَ بها عليٌ ﵁ الألفاظَ وجمعَ بها المعاني، ولكلّ ضَرْبٍ من هذه الثلاثةِ الأضربِ، ضروبٌ مختلفةٌ وشُعَبٌ متفرقةٌ ومعانٍ متباينةٌ قد فرغَ منها النحويونَ في كتبهِم. وما أورده فعليهِ اعتراضاتٌ قد أجابَ عنها أبو علي علي عللِ المنطقِ ولكلامهِ حكَيْتُ، وعنه رَوَيْتُ.
والشعرُ فلا يسلمُ أديمُهُ من النَّفَلِ، ولا يصِحُّ مريضُهُ من العللِ إلا بمعرفة النحو وامتدادِ الباعِ فيه، والوقوفِ على غامضِهِ وخافيهِ، كما قال المُحْدَث:
وإذا أردتَ من العلومِ أجلَّها ... فأجلُّها منها مُقيمُ الألْسُنِ
وفي هذه النُّبذَةِ كفاية.
1 / 4
٢ - وأما البلاغةُ فهي الفصاحة. يُقالُ بلُغَ الرّجلُ بضم اللامِ فهو بليغٌ، ولا فرقَ بين البلاغة والبيان إلا في اللّفظِ. وسُئِلَ بعضُهم عن البلاغة فقال: كلامٌ وجيزٌ معناهُ الى قلبكَ أقربُ من لفظِه الى سَمْعِك. وقال جعفر بن محمد الصادق ﵁: إنما سُمِّي البليغُ بليغًا لأنه يبلُغُ حاجَتَهُ بأهونِ سعيهِ. وقال ابن الأعرابي: قال المفضلُ الضبّيُّ: سألتُ أعرابيًا عن البلاغةِ فقال: الإيجازُ في غير عجْزٍ، والإطْنابُ في غير خَطْلٍ. وقيلَ للعتّابي: ما البلاغةُ؟ فقال: مَنْ أفهمَكَ حاجتَهُ من غيرِ إعاقةٍ ولا حُبْسةٍ ولا استعانَةٍ. وسُئِلَ بعضُ الحكماءِ عن البلاغةِ فقال: مَنْ أخذَ معانيَ كثيرةً فأدّاها بألفاظٍ قليلةٍ، وأخذَ معانيَ قليلةً فولّد منها ألفاظًا كثيرةً فهو بليغٌ. وقيلَ: البلاغةُ ما كان من الكلامِ حسَنًا عند استماعِهِ، موجَزًا عند بديهتِهِ. وقيلَ: البلاغةُ لمحة دالّةٌ على ما في الضمير. وقيلَ: البليغُ الذي يبلغُ ما يريدُ، أطالَ أم قصّرَ. وقال بعضُهم: البلغةُ تصحيحُ الأقسامِ، واختيارُ الكلام. وقيلَ: البلاغةُ معرفةُ الفَصْلِ من الوَصْلِ. وأقول أنا: إن تركيبَ ب ل غ معناه إدراك ما يحاولُه الإنسان عن قوّة، وتمكُّنٍ من قدرةٍ. فمن ذلك بلَغْتَ الأمرَ والغرَضَ إذا وقفتَ على غايتِه، وأشرفتَ على نهايتِه، ولولا قوّتُك عليه لما وصلتَ إليه. ومن ذلك البلاغةُ، فإنّك إذا وقفتَ على غاياتِ الكلام ونهايات المعاني، دلّ ذلك على قُدرتِكَ في الأدب وتمكّنِك من لُغةِ العرب. فإنْ أوْجَزْتَ أو أسهبتَ كنتَ فيه بليغًا وكان ما أتيتَ به بلاغةً. ومن ذلك غ ل ب، فإنّ الغَلَب لا يكون إلا عن قوة وتمكّن وقُدرة. ومن ذلك ل غ ب اللُّغُوبُ هو التعبُ ولا يكون ذلك إلا عن دأبٍ وشدةِ حركة تدلُ على قوّةٍ وقدرةٍ على الحركات وتمكنٍ من السعي العنيفِ في سائرِ الأوقات. ومن ذلك ب غ ل يقالُ بغّلَ الفرسُ إذا سارَ بين العَنَق والهَمْلَجَة، ومنه التبغيلُ وهو مشْيٌ سريعٌ فيه اختلافٌ ولا يكون ذلك إلا عن قوة وقدرةٍ على السّعي.
ومنْ أعلى درجات البلاغةِ وأرفعِها في الكلام المنثور قولُه تعالى: " وقيلَ يا أرضُ ابلَعي ماءَكِ ويا سَماءُ أقْلِعي، وغِيضَ الماءُ وقُضِيَ الأمرُ واسْتَوَتْ على الجوديِّ وقيلَ بُعْدًا للقَوْمِ الظالمين ". وقوله تعالى: فاصْدَعْ بِما تُؤمَرُ) . ومن البلاغةِ في الكلام المنظوم قول امرئ القيس:
قِفا نبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل ... ............
فإنّه وقفَ واستوقَفَ، وبكى واسْتَبْكى، وتغزّل بذكرى الحبيبِ والمنزلِ في نصفِ بيْتٍ. وقال طرَفَة:
ولستُ بحلاّلِ التِّلاعِ مَخافَةً ... ولكنْ مَتى يسْتَرفِدِ القومُ أرْفِدِ
المعنى أكثر من اللفظِ. يقولُ لستُ أحُلُّ بالمواضعِ الخفيةِ مخافةَ القِرى، ولكني أحُلُّ بالمواضع الظاهرةِ التي لا تَخفى على الضّيْفِ الطارقِ. فإذا استُقريتُ قَرَيْتُ. فأوردَ كلامًا يدلّ على نفيهِ عن نفسِه نزولَ التِّلاعِ خوفًا فقط. فلما ذكرَ في النصفِ الثاني الرِّفْدَ، دلّ على أنّ المخافةَ في القِرَى، ولم يقابل اللفظَ بأن يقول: ولكن أحُلُّ باليَفاع بارزًا وأشجُعُ، فاكتفى بمعرفةِ السامِعِ وبما دلّ الكلامُ عليه. وهذه بلاغةٌ ناصِعةٌ.
٣ - وأما الفصاحةُ فإنّ الكلامَ عليها يحتاجُ الى شرحٍ طويلٍ يخرُجُ بنا عمّا نحنُ بصددِه والاقتصارُ عليه غير شاف ولا كاف. وقد استوفَيْنا أقسامَ ذلك في الرسالة العلويّة، وحَذَوْنا فيه حذْوَ عبد الله بن سِنان الخَفاجي في صدر كتابِه الموسوم بسرِّ الفصاحةِ. والفصاحةُ مشتقةٌ من الكَشْفِ وارتفاع اللَّبْسث. يُقالُ أفصحَ اللبنُ إفصاحًا إذا ذهبَ اللِّبَأ عنه، وخلَصَ اللبنُ منه. وأفصحَتِ الناقةُ فهي مُفْصِحٌ إذا انقطعَ لِبَؤُها وخلَصَ لبَنُها. وفصُحَ اللبنُ إذا كشَفْتَ رُغْوَته عنه. قال الشاعر:
............ ... وتحتَ الرُّغْوَةِ اللبنُ الفصيحُ
وأفصحَ الصُبْحُ إذا انكشفَ وبَدا. وكلُّ واضحٍ مُفْصِحٌ. وعلى ذلك فكلُّ ناطق فصيحٌ، وما لا يَنطِقُ فهو أعجَمُ. فهذه نُبْذةٌ يسيرةٌ في هذا الموضع كافية.
1 / 5
٤ - وأما الحقيقةُ والمجازُ، فإن الحقيقة ما أُقِرَّ على أصل وضعِه في اللغة عند استعمالِه. والمجازُ ما كان بضدِّ ذلك. وقال علي بن عيسى الرُّماني: الحقيقةُ الدِّلالةُ على المعنى من غير جهةِ الاستعارةِ، والمجازُ تجاوزُ الأصلِ الى الاستعارة. وإنما يُعْدَلُ عن الحقيقة الى المجاز لمعانٍ ثلاثةٍ وهي: الاتساعُ، والتوكيدُ، والتشبيهُ، فإن عُدِمَتْ هذه الأوصافُ كانت الحقيقةُ أولى بالاستعمال. قال الله تعالى: " وأدْخَلناهُ في رَحْمَتِنا "، هذا مَجازٌ وفيه الأوصافُ الثلاثة. أما السَّعةُ فإنه زادَ في أسماءِ الجهات، والمحلُّ اسم وهو الرّحمة. وأما التشبيهُ فإنّهُ شبّهَ الرحمةَ، وإن لم يصِحَّ دخولُها، بما يجوزُ دخولُه، ولذلك وضَعَها موضِعَه. وأما التوكيدُ فإنه أخبَرَ عن العَرَض بما يخْبَرُ به عن الجوهر. وهذا تَعالٍ بالعَرَض وتفخيمٌ له، إذ صُيِّرَ في حيّز ما يُشاهَدَ ويُلمسُ ويُعايَنُ. ومن المجاز في أشعارِ العربِ كثيرٌ لا يُحصى. فمنه قولُ الأول:
غَمْرُ الرِّداءِ إذا تبسّم ضاحكًا ... غَلِقَتْ لضِحكتِه رِقابُ المالِ
وقال طَرَفة:
ووْجهٌ كأنّ الشمسَ ألقَتْ رِداءَها ... عليهِ، نقيُّ اللونِ لم يتخدَّدِ
جعل للشمسِ رداءً وهو جوهرٌ لأنه أبلغُ من النورِ الذي هو عَرَضٌ. وكلّ ما كان من هذه الاستعاراتِ فإنهُ داخلٌ تحت المجاز. وقال ﷻ: " فمَنْ يكْفُرْ بالطّاغوتِ ويؤمنْ باللهِ فقدِ استَمْسَك بالعُرْوَةِ الوُثْقى لا انفصام لها واللهُ سميعٌ عليم ". فبدأ في الآية بحقيقة الكلام، ثم جعلَ الجوابَ مجازًا واستعارةً لوقوعِه آكَدَ منَ الحقيقة. والمرادُ تشبيه المُتَمَسكِ بشرائط الإيمان بالمتمسكِ بالعُروةِ الوثيقة من عُرى الحبْلِ لأنه يستعصِمُ بها من المزالِّ المُزْلِقة، والمهابِط الموبِقة. ثم قال تعالى: " لا انفصامَ لها "، تبعيدًا لها من شِبْهِ العُرَى المعهودةِ التي ربما انفصمَتْ على طولِ الجَذْبِ أو بَلِيَتْ قواها على مرِّ الدّهر.
٥ - وأما الصَنعةُ والمَصنوع، فإن الصّنعةَ هي عبارةٌ عن الحوادِثِ في المصنوعات مثل الإصلاح والإفسادِ، والطول والقِصَر، والضخامةِ والنحافة، والخُضرةِ والحُمرةِ، والحركةِ والسكون، والأشياء التي يسمّيها المتكلمون الأعراضَ. وأما المصنوعات فهي الأشياء التي تتعاقبُ عليها هذه الأعراض. فالصّنعةُ والمصنوعات محْدَثَتان. فمن المصنوعات الحيوانُ الذي يصنعه اللهُ تعالي، وصُورٌ في الجَمادات نفعلُها نحن فالإشارات التي في الصور من حِذْقِ المصوِّرين في أفعالِهم فيها يُخيَّلُ إليكَ أن بعضها ناطقٌ وإن كان لا ينطِقُ، ومنها ما يخيَّل إليك أنّه متحرِّك وهو ساكن. فأنت تُسمي الجسمَ مصنوعًا على حقيقة اللّغة، وتُسميه صَنعةً على الاتساع والمجاز، ألا ترى أنك تقولُ هذا جسمٌ مصنوعٌ حسَنُ الصّنعةِ، أو قبيح الصنعَةِ وكاملُ الصنعةِ أو ناقصُ الصنعَةِ، وإن كان أصل اللفظتين فيهما واحدًا. وإنما قدّمتُ ذلك توطئةً لتعلمَ أن الصنعةَ في الشعر عبارةٌ عن النظم الذي خلّصه من النثر، وجمع أشْتاتَه بعدَ التبدُّدِ والصّدْع. وأن المصنوعَ هو الشعر الذي عنصرُهُ الكلامُ المنثور. والمصنوع لا يُسمّى مصنوعًا حتى يخرُجَ من العدم الى الوجود. فإذا كان موجودًا سُمّي مصنوعًا لمُشاهَدَتِه والعلم بهِ، ثم يعْتَورُهُ بعد ذلك النقد فيقالُ فيه كاملٌ وناقصٌ، وحسنٌ وقبيح، وسقيمٌ وصحيح، وجيدٌ ورديء.
ورأيت قومًا من المُصنّفين قد خلطوا الصنعةَ بالنقدِ والنقد بالصنعة ولم يفرقوا بين المصنوع والصنعة وهذا غلطٌ وشطَط. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقولَ في شعرٍ لم تسمعْه ولم يتصلْ بك، جيدٌ ورديء، حتى تقفَ عليه وتكرر النظرَ إليه؟. فقد عرفتَ بهذه الإشارة اللطيفة، والعبارة الخفيفة، ما الفرقُ بين المصنوع والصَنعةِ وبين الصنعةِ والنقد، واللهُ الموفق.
٦ - وأما إقامةُ الوزن فهوَ عبارةٌ عن ذوْقٍ طبيعي حفِظَ فصولَه من الزيادةِ والنُقصان وعدّلها تعديلَ القِسْطِ بالميزان. ولو أن كلّ ناظمٍ للشعر يفتقرُ في إقامة وزنهِ، وتصحيحِ كسْرِه، وتعديلِ فصولِه الى معرفةِ العَروض، والقوافي، لما نظَمَ الشِعرَ إلا قليلٌ من الناس. على أن الشاعر إذا عرَفَهما لم يستغن عنهما.
1 / 6
فأما العَروض، وهي مؤنّثة، فهي ميزانُ الشعرِ يُستخرجُ بها صحيحُه من مكسوره. والشعر كلّه مرَكّبٌ من سَبَبٍ، ووتدٍ وفاصلة والسبب سببان والوتد وتدان والفاصلة فاصلتان، وتقطيعُ الشعر على اللفظ دون الخطّ، وكلّ حرفٍ مشددٍ بحرفين: الأول ساكنٌ، والثاني متحرّك. والفرقُ بين الساكن والمتحركِ أنّ الساكنَ تتعاقبُ عليه الحركاتُ الثلاث، والمتحرك قد اختصّ بإحداهُنّ. والأمثلة التي يُقَطَّع بها الشعرُ ثمانية: اثنان خُماسيان وهما فَعولُن، فاعِلن، وستةٌ سباعية وهم: مفاعيلُن، مُسْتَفْعِلُنْ، فاعلاتُن، مُفاعَلَتُن، مُتَفاعِلن، مَفْعولاتُ، وما جاء بعد ذلك فهو زِحافٌ لهُ، أو فرْعٌ عليه. والزحافُ جائز كالأصل والكَسْر ممتنعٌ، والزحافُ لا يقعُ إلا في الأسباب، والخَرْمُ والقَطْعُ لا يقعان إلا في الأوتاد. والعروضُ اسمٌ لآخر جزء في النصف الأول من البيت، والضربُ اسمٌ لآخر جُزء في النصف الآخر من البيت. وكل بيتٍ مَصَرَّعٍ فعَروضُه على زِنَةِ ضربِه أو ما يجوز في ضربه. والتصريعُ مُشبّهٌ بمصراعي الباب، وإذا خلا البيت من التصريع سُمّي المُصْمَت. والشّعرُ كلُه أربعٌ وثلاثون عَروضًا، وثلاثة وستون ضربًا وخمسة عشر بحرًا، وشرْحُ ذلك قد فرَغَ منه العَروضيون في كتبهم، فاعرفْهُ.
٧ - وأما القوافي، فإن القافية مختلَف فيها: فعند أبي الحسن الأخفش ومن تابَعَه من المُقَفّين: أن القافيةَ آخرُ كلمة في البيت. وقال: إنما سُمّيت قافيةً لأنها تقفو البيت. وعند النَّضْر بن شُمَيْل ومؤرّج وأبي عمر الجَرْمي، أنها النصفُ الأخير من البيت. وقيلَ بل هي البيت بكمالِه، وقيل بل القصيدةُ بجُملتها. وعند الخليل بن أحمد: أنّ القافية من آخر البيت الى أول ساكنٍ يليه مع المتحرِّك الذي قبل الساكن، وعلى قوله الاعتمادُ، فإن القول ما قالت حَذام. والقافية تنقسمُ الى ثلاثة أشياء: أصول، وحروف، وحركات.
فالأصول: مُتكاوسٌ، مُتراكبٌ، مُتدارِكٌ، مُتواتِرٌ، مُترادِف.
والحروف: الدخيلُ، والتأسيسُ، والرِّدف، والخروج، والوصل، والرويّ.
والحركات: التوجيهُ، والإشباعُ، والرَّسُّ، والحَذْو، والنَّفاذُ، والمَجْرى.
ويعرُضُ في القافية عيوبٌ أربعة وهي: الإكفاءُ، والإقواء، والإيطاء، والسِّنادُ، والتضمين وهو أن البيت لا يتمّ إلا بالذي يليه وهو من عيوب الشعر المكروهة. وقد نُظِمَ هذا شِعرًا. قال الشاعر:
القوافي مُخَمّساتٌ ثلاثٌ ... حرَكاتٌ وأحرُفٌ وفَسادُ
فابتِداها رَسٌ وحَذْوٌ وإشبا ... عٌ ومجرىً، وفي النّفاذِ العَتادُ
والحروف: الرّويُّ والرِّدفُ والتأ ... سيسُ والوَصْلُ والخروجُ العِمادُ
والعيوب: الإيطاء والإقوا والإك ... فا وفيها التضمينُ ثمّ السِّنادُ
وقال الآخر:
حروفُ القوافي ستّةٌ مُستبينةٌ ... يُجمِّعُ أشتاتًا لهنّ نظامُ
رَويٌّ ووصْلٌ والخُروجُ ورِدفُها ... وتأسيسُها ثمّ الدخيلُ تمامُ
ويلزمها من بعدِ ذا حركاتُها ... كذلك سِتٌّ صاغَهنّ إمامُ
فمَجْرًى وتوجيهٌ وحَذْوٌ ورسُّها ... وإشباعُها ثمّ النّفاذُ دِعامُ
وجميع حروف المعجم تكون رويًّا إلا الواو والياءَ والألفَ، الزوائد السواكنَ اللواتي تَتْبَعْن ما قبلهنّ، فإنهنّ لا يكنّ رويًّا البتّةَ، وألِفُ التثنيةِ وواوُ الجمْعِ وياءُ ضمير المؤنث، لا يكنّ رويًّا، والألف المُبْدَلةُ من التنوين في نحو قولك رأيتُ زيدًا لا يكون رويًّا والنون الخفيفة نحو قولك اضْرِبَنْ، والهمزة المُبْدَلةُ من ألِف التأنيث في الوقْف نحو قولِك هذه حُبلاء، وهاءُ الوقفِ، وهء الإضمار، وهاءُ التأنيث، كلّ هذه لا تكون رويًّا. فإن سكَن ما قبلَ هذه الهاءات كنّ رويًّا، والهاء الأصلية يجوز أن تكون رويًا، سكن ما قبلها أو تحرّك، كقوْل رؤبة بن العجّاج:
قتلتْ أُبَيْلَى لي ولم أُشبّهِ ... ما العيْشُ إلا غَفْلَة المُدَلّهِ
لما رأتْني خلَقَ المُمَوَّهِ ... برّاقَ أصْلادِ الجَبين الأجْلَهِ
بعدَ غُدافيِّ الشّباب الأبْلَهِ
1 / 7
وسُمّي حرف الرويّ رويًا لأنه من الرِّواء وهو الحبْل الذي يُشَدُّ على الأحْمال والماعِ ليضُمَّها. وروى في كلامهم للضمّ والجمع والاتصال، وكذلك حرف الرويّ، تنضمّ وتجتمع إليه جميعُ حروف البيت. فالقوافي على ذلك خواتيم على عنوان الشعر جامعةٌ لأطراف معانيه، قابضةٌ على أزمّةِ مَهاريه.
٨ - وأما الألقاب، فإنها تنقسِم الى أقسام ولكل قسم منها باب، فمنها:
باب الإشارة
والإشارة من محاسن البديع، ومعناه اشتمالُ اللفظِ القليل على المعاني الكثيرة وإنْ كان بأدْنى لمْحٍ يُستدلّ على ما أُضمِرَ من طويل الشرحِ كقولِ امرئ القيس:
على هيكلٍ يُعطيكَ قبلَ سؤالهِ ... أفانينَ جرْيٍ غير كزٍّ ولا وانِ
تأمّل ما تحت لفظة أفانين، وما اقترنَ بها من جميع أصناف الجوْدة، ثم نفى عنه الكزازة والوَنى وهُما أكبر معايب الخيْلِ.
وقال زهير:
فلو أني لقيتُك واتّجَهْنا ... لكانَ لكلِّ منكرةٍ كفيلُ
فهذا لفظٌ قليلٌ يدلّ على معنى كثير. وكما قال بعض الأعراب:
جعلْتُ يدَيَّ وِشاحًا لهُ ... وبعضُ الفوارِسِ لا يعْتَنِقْ
قولهُ: جعلتُ يديَّ وِشاحًا له، إشارة بديعةٌ الى المعانقةِ بغير لفظِها وهي دالّة عليها.
وقال الأعشى:
تسْمَعُ للحَلْيِ وسْواسًا إذا انصَرَفَتْ ... كما استعانَ بريحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ
أشار بذلك الى دقة الخصرِ والرّشاقةِ والهَيَف لأن حركة الوُشْحِ تدلّ على ذلك. فأما الخلاخلُ والأسْورةُ والبُرى، فإنها توصفُ بالصمتِ والخرَس. وفي البيت إشارة أخرى الى شدّة الحركة وهي قولُه، كما استعانَ بريحٍ عِشْرِقٌ زجِلُ، وذلك أن العِشرِقَ وهو شجرٌ شديدُ الحركة في ضعْفِ النسيم، فكيفَ إذا استعانَ بريحٍ.
وقالت الخنساء:
يذكّرُني طُلوعُ الشّمسِ صخْرًا ... وأذكرُهُ لكلِّ غُروبِ شمسِ
إشارة حسنة الى وقت الغارة، ووقت الميْسِرِ وإطعامِ الضيف.
وقال القُحَيْف:
أتاني بالعقيقِ دعاءُ كعبٍ ... فحنَّ النّبْعُ والأسَلُ النِّهالُ
إشارة حسنة الى إغاثته بالجيش. وقال آخر:
وزَيدٌ ميِّتٌ كمَدَ الحُبارَى ... لأن ظَعَنتْ سُكَيْنَةُ والرَّباب
إشارة حسنة الى شدّة الهمِّ وذلك أن الطير تجتمعُ في مواضع بعيدةٍ من الأناسيّ فتطرحُ ريشها هناك وفيها الحُبارى، ثم ترتعي الى أن ينبُتَ ريشُها، فإذا نبتَ ريشُ تلك الطيرِ كلِّها تخلّف الحُبارى عنها لأن ريشَها بطيءُ الطلوع فينهضُ جميع الطير وتبقى الحُبارى فيموتُ أكثرُها كَمَدًا.
وأنشد ابن الأعرابي:
مَشيْنا فسوّيْنا القُبورَ بعاقلٍ ... فقد حسُنَتْ بعْدَ القُبوحِ قُبورها
أي قتَلْنا بقتلانا فاستوى عددُ قتلانا وقتلاهم. وهذه إشارة عجيبة لطيفةٌ الى أخذ الثأر. وفي هذا الباب سَعة وجهدُنا أن نختصِرَ.
وقريبٌ من معنى الإشارة وإن تغايَرَت العبارة:
باب الكناية
وربما سمّاها قومٌ التتبيع لأن الشاعر يقول معنى ويأتي بلفظٍ تابعٍ له، فإذا دلّ التابعُ أبانَ عن المتبوع. فمِنْ ذلك قوله تعالى: (وبلَغَتِ القلوبُ الحَناجِرَ)، كناية عن شدّة الأمر والحرب، ومعنى ذلك أن القلوب ارتفعَتْ عن مواضعِها فنفرتْ كأنها تريدُ الخروج عن الأجسامِ مفارقةً لها. وقولُهُ تعالى: (وما جعلْناهُم جَسدًا لا يأكلون الطّعام) . في ضِمْن هذا الكلامِ كنايةٌ عن الشُرب ولم يُذكَرْ لدلالةِ الأكلِ عليه، وكنايةٌ عن النّجْو والبَول لأن من أكل احتاج أن يشرب، ومن أكل وشرِب احتاج أن ينْجو ويبول.
وأنشد المبرِّد:
تقول وقد أبْدى البُكاءُ بعينِه ... نُدوبًا: ألا داويتَ عيْنَكَ بالكُحْلِ
فقد رأيتُ الكُحْلَ يشغَلُ قَدْرُهُ ... من العينِ قدرًا لم يكُنْ عنكِ في شُغْلِ
كناية عن أنه لا يحِبُّ أن يشغَلَ عينَهُ عن النّظرِ إليها، لأن الزمان الذي يذهبُ في الاشتغال بالكُحْلِ لم يكن قبل الكُحْلِ مشغولًا بغير النّظر إليها فهو يكرهُ أن لا يكون على ما كان عليه من تلك الحال.
وقال بَلْعاءُ بن قيس الكِناني:
معي كلّ مسترخي الإزارِ كأنّه ... إذا ما مشى في أخمصِ الرِّجْلِ ظالِعُ
كناية عن التّرف والنعمة. وقال المِنْهال:
1 / 8
إذا كان حَرٌّ قدّموني لحَرِّه ... وإنْ كان برْدٌ أخروني عن البَرْدِ
كنّى عن الشرِّ بالحرِّ، وعن الخيرِ بالبردِ. وأنشدوا:
بالمِلحِ يُدْرَكُ ما يُخشى تغيُّرُه ... فما دَوا المِلحِ إنْ حلّتْ به الغِيَرُ
كنايةٌ عن الأمر الذي يُرجى لكشْفِه السلطانُ فَيُبْتَلى ذلك السلطانُ بأمرٍ يشغَلُهُ عن القيام بما يُرجى له. وقال النابغة الذبياني:
سِتّةُ آباءٍ همُ ما هُمُ ... هُم خيْرُ من يشرَبُ ماءَ الغَمامِ
كناية عن أنهم خيرُ الناس كلِّهم لأن الناس كلّهُمُ يشربون ماءَ الغَمام.
وقال معقِّر البارقيّ:
وكل طَروحٍ في الجِراءِ كأنّها ... إذا اغْتَسَلَتْ بالماء فتْخاءُ كاسِرُ
يصف فرسًا شبّهها، إذا عرِقَتْ من الرّكض والتعب، بالعقاب الكاسر وهي الفَتْخاءُ، والفتخُ لينٌ في الجناح محمود.
وهذه كناية بالماء عن العَرَق وأراد أنها في هذه الحال التي يضعُفُ فيها أمثالها هذه حالها، فكيف تكون في ابتداء جريها! والسابقُ الى هذا المعنى امرؤ القيس حيث يقول:
كأنها حينَ فاضَ الماءُ واحتفلَتْ ... صقعاءُ لاح لها بالمَرْقَبِ الذيبُ
في هذا البيت زياداتٌ لم يصِلْ بيتُ معقّرٍ إليها وهو قولُه فاضَ الماءُ، والفائِضُ أعظمُ مما يُغتَسَلُ به لأن الاغتسال حصل من الفائض وزيادة وقوله احتفلت مبالغة في الجهدِ والتعب، وقولُه صقعاء لاح لها بالمرقبِ الذيبُ الصقعاءُ العُقابُ في وجهها بياض، وإذا لاح لها الذئب كان أشد لانقضاضها. وإذا كان انقضاضُها من مَرقَب كان أشدّ لانحدارِها. وقال عمر بن أبي ربيعة:
بعيدةُ مَهْوى القُرْطِ إمّا لنوْفَلٍ ... أبوها، وإمّا عَبدِ شمسٍ وهاشِمِ
كنى بذلك عن طول الأعناق. ومثلُه قولُ حُمَيْد الأرقَط:
طوالُ مَهْوى توَمِ الأقراط
وقال عمرو بن قِعاسٍ الغُطَيْفي:
وسوداءِ المحاجرِ إلْفِ صخْرٍ ... تلاحظني الترقُّبَ، قد رمَيْتُ
كنى بذلك عن ظبية.
ولحْمٍ لم يذُقْه الناسُ قبْلي ... أكلت على خَلاءٍ وانتقَيْتُ
قال الأصمعي، وأبو عمرو الشيباني، وابن الأعرابي كنى بذلك عن لحم ولده، فإنه جاع فذبحه وأكله. وقال غيرُهم كنى بذلك عن ملِكٍ هَجاه ولم يهجُه أحد قبلَه، فكأنه أكل لحمَه ميتًا.
وماءٍ ليس من عِدٍّ رَواءٍ ... ولا ماءِ السماءِ قد استَقَيْتُ
كناية عن دموعه.
وجاريةٍ تنازعُني رِدائي ... وراء الحيّ ليس عليّ بيْتُ
كناية عن الريح.
ونارٍ أُوقِدَتْ من غير زَنْدٍ ... أثرتُ جَحيمَها ثم اصْطَلَيْتُ
كناية عن الحرب.
وبيتٍ ليس من وبْرٍ وشعْرٍ ... على ظهرِ المطيّة قدْ بنَيْتُ
كنى عن بيت شِعرٍ نظمَه على ظهر راحلتِه.
وقال ذو الرُّمّة:
وحاملة تسعينَ لمْ تلْقَ منهمُ ... على موْطِنٍ إلا أخا ثِقَةٍ صِفْرا
كنى بذلك عن الكِنانةِ وما فيها من السِّهام يعني أنّه لم يجدْ لها ولدًا إلا أخا ثقة، يَصفُ سِهامَها بالجودة والإصابة والنّفاذ.
وحديثُ خَوّات بن جُبَيْر الأنصاري مع ذاتِ النِحْيَيْن لما أتاها يبتاعُ منها سَمْنًا فوجدَها وحدَها فطمِعَ فيها فحلّت نِحْيًا فذاقهُ ودفَعُه إليها. وحلّ آخرَ فذاقَهُ فلم يرْضَه، فقال: أمْسِكيه فقد شردَ جملي، فقالت أمْهِلْ حتى أشُدَّ رأسَ هذا النِّحْي فقال: إن أمسكتيهِ، وإلا ألقَيْتُهُ عن يدي، فأمسكَتْه فلما شغل يدَيْها ساورَها فلمْ تقدِر على دَفعِه، فقضى وطَرَهُ منها، مشهورٌ. وكان ذلك في الجاهلية، فلما أتى الإسلامُ أسلمَ خَوّاتُ وشهِدَ بدرًا، فقال له يومًا رسول الله ﷺ وهو يبتسمُ: يا خَوّات ما فعلَ جملُكَ الشرود؟ فقال: يا رسول الله عقَلَهُ الإسلامُ. ورُوي أنه قال له يا خوّات كيف شِرادُك، فقال يا رسول الله قد رزقَ الله خيرًا منه، وأعوذُ بالله من الحَوْرِ بعدَ الكَوْرِ. فكنى ﷺ عما سلَف من فِعله أحسنَ كنايةٍ وألطفَها. وقول خوّات: عقلَهُ الإسلامُ، كنايةٌ حسنةٌ عن التوبة ولزوم حُدود الإسلام، والعِلم بالحلالِ والحرام. وهذا مثال في هذا الباب كاف إن شاء الله تعالى، ومنها:
باب الموازنة
1 / 9
وذلك أن يأتي الشاعرُ ببيتٍ يكون عدد كلمات النصف الأول منه كعدد كلماتِ النصف الأخير وتكون الأجزاء متساويةً. ومتى تغيّر شيءٌ من أجزائه إذا تقطّع، أو زادَ فيها أو نقصَ، لم تحْصُلْ الموازنة. وكذلك إذا استوتِ الأجزاءُ وتغيرتِ الكلماتُ بزيادةٍ أو نقيصة، وهذا لا يكادُ يحصُلُ للشاعرِ إلا بعد معرفةِ العَروضِ. وأما أن يقع اتفاقًا من غيرِ قصدٍ له فغيرُ معْتَدٍّ بوقوعه وقد اتفق وقوعُ ذلك في أشعارِ العرب من غير قصد له كثيرًا. قال معقّر البارقيّ:
ومرّوا بأطنابِ البيوتِ فردّهُم ... رجالٌ بأطرافِ الرماحِ مساعرُ
تقطيعُه: ومَرْروا بأطنابلْ بُيُوتِ فَرَْدَهُم فعولُنْ مفاعيلُنْ فعولُ مفاعِلُن رِجالٌ بأطرافِر رماحِ مساعِرُ فعُولُنْ مفاعيلُنْ فَعولُ مفاعِلُن وقال الكِنْدي:
لَنا غنَمٌ نُسوّقُها غِزارٌ ... كأنّ قُرونَ جِلَّتِها عِصيُّ
تقطيعهُ: لَنا غَنَمُنْ نُسَوْوِقُها غِزارُن مفاعَلَتُن مُفاعَلتُن فَعولُنْ كأن نقرو نَجِلْلَتِها عِصيْيوُ مُفاعلَتُن مفاعلتُن فعولُنْ وقال آخر:
لَمِنْ دِمْنَةٌ أقْفَرَتْ ... لسَلْمى بذاتِ الغَضا
تقطيعه: لَمِنْ دِمْ نَتُنْ أقْفَرَتْ فَعولُنْ فَعولُنْ فَعَلْ لسَلمى بذاتِلْ غَضا فَعولُنْ فَعولُنْ فعَلْ ومن أشجار الجِن:
أشَجاكَ تشَتُّتُ شعْبِ الحيْ ... يِ فأنتَ لهُ أرِقٌ وَصِبُ
هذا البيتُ قد تساوَتْ كلماتُهُ وأجزاؤهُ، إلا أن نصفَه الأول في الياء الأولى منَ الحيّ، وبقيتْ الياءُ الثانية مع النصفِ الأخير فخرجَ عن شرْطِ الموازنة. وتقطيعه: أشَجا كَتَشَتْ تُتُشَعْ بِلْحَيْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فعْلُنْ يفَأَنْ تَلَهُو أرِقُنْ وَصِبُو فَعِلُنْ فعِلُنْ فعِلُنْ فعِلُنْ ولو تساوت الكلماتُ وتماثلَ نصفا البيتِ وتغيرَ شيءٌ من الأجزاء لبطَلَتْ الموازنة كقول الشاعر:
أفادَ فجادَ، وسادَ فقادَ ... وقادَ فزادَ، وعادَ فأفْضَلْ
فعَولُ فعُولُ فعُولُ فَعولُ ... فَعولُ فَعولُ فَعولُ فَعولُنْ
فخرج عن الشرط لانتقال فَعولُ الى فَعولُنْ، وكذلك لو تساوت الأجزاءُ وزادَ في الكلمات أو نقَصَ لبَطُلَ اشرطُ. كما قال الشاعر:
إذا لم تسْتَطِعْ شيئًا فدَعْهُ ... وجاوِزْه الى ما تستطيعُ
النصفُ الأول أكثرُ من الأخير بكلمة وأجزاؤه متساوية. تقطيعه: إذا لمْ تَسْ تَطِعْشَيْأَنْ فدَعْهُو مفاعيلُنْ مفاعيلُنْ فعُولنْ وجاوِزْهُ الى ما تَسْ تَطِيعو مفاعيلُنْ مفاعيلُنْ فعولُنْ وهذا مثالٌ في هذا الباب مُقنِعٌ. ومنها:
باب التجنيس
وهو أن يأتي الشاعرُ بكلمتين مُقترنتين متقاربتين في الوزْنِ، غير متباعدَتَيْن في النظم، غير نافرتين عن الفهْم، يتقبّلُهما السّمْعُ، ولا ينبو عنهما الطبعُ. فإن زادَ في التجنيس فثلّثَ كان ذلكَ فسادًا في الصّنعةِ لأن الكلمتين تتقابلان وتنفردُ الأخرى بغير قرينة، وربما استحسنَ قومٌ من ذلك شيئًا لكثرة استعمالِه وأُنس السّمْعِ به، كقول الطائي:
سلّم على الرَّبْعِ من سَلْمَى بذي سَلَمِ
فقوله: سلّم وسَلَم كلمتان متقابلتان، وانفردتْ لفظةُ سَلمي بغير قرينةٍ وإنما لأُنسِ السّمعِ باسم سَلْمى والسّلام والسَّلَم صار كأنه شيءٌ واحدٌ، ولوْ ربّعَ لصحّتِ المُقابلة، وإن ثَقُلَتْ الألفاظُ على السّمْعِ والقلبِ، وعاد التكلفُ ظاهِرًا عليها. مثالُ التربيعِ أنه كان يقول:
سلّمْ سَلمْتَ على سَلْمى بذي سَلَمِ
كما قال مسلم بنُ الوليدِ في صفةِ الخمْرِ:
سُلَّتْ وسُلّتْ ثم سُلَّ سَليلُها ... فأتى سَليلُ سَليلِها مسْلولا
يريدُ أنّها سُلّتْ من كرمِها عِنَبًا، ثم سُلّتْ من عِنَبِها خمرًا، ثم سُلّتِ الخمرُ من دنِّها. وقيلَ بل أراد رقَّتَها وأنها قد صارتْ مسلولةً من السِّلِّ الذي هو العِلّة. وليس على قُبْحِ هذا البيت زيادة. وقد كان الأصمعيّ يستَبْشِعُ قولَ الشاعر:
فما للنّوَى، جَدَّ النّوى، قَطعَ النّوى ... كذاك النّوى قطّاعةٌ لوِصالِ
ويقول: لو سلّط الله على هذا البيت شاةً لأكلتْ نواهُ، وأراحتِ الناسَ منه. وأنشد إسحاق المَوْصِلي الأصمعيَّ قولَه:
1 / 10
يا سَرْحَةَ الماءِ قد سُدّتْ موارِدُهُ ... أمَا إليكِ طريقٌ غيرُ مَسدودِ
لِحائِمٍ حامَ حتى لا حِيامَ به ... مُحلأٍ عن طريقِ الماءِ مطرودِ
فقال الأصمعي: أحسنتَ في الشعر غير أنّ هذه الحاءات لو اجتمعت في آيةِ الكُرسيّ لعابَتْها. وروَيْنا عن بعض المشايخِ أنه كان يقول: مثَلُ التجنيسِ في البيت الخالُ الواحدُ في الخدِّ، فإذا كثُرَ انتقلَ من الاستحسان الى الاستقباح، وربّما طَمَسَ محاسِنَ الوجْهِ. وفي بيت الطائيّ صنعةٌ جيدةٌ وهي ردُّ عروضِهِ على صدرِهِ.
والتجنس ينقسم الى أقسام، فمنه: أ - التجنيس المَحْض. ومعنى المَحْض الخالِصُ وكأنّه من أصل واحدٍ في مسموعِ حروفِه، وسُمّي اللبنُ الحليبُ مَحْضًا لأنه لم يخالِطْهُ الماءُ.
قال أبو حيّةَ البَجَليّ:
يُعِدُّها للعِدَى فتيانُ عادِيةٍ ... وكلُّ كَهْلٍ رَحيبِ الباعِ صِهْميمِ
قولُه: العدى وعادية تجنيسٌ محضٌ، وقولُه: يُعدُّها للعدى تجنيس مُشابِه. والصِّهميمُ الذي لا يُثنى عن مُرادِه. وقال مِسْكينُ بن نضر البَجَلي:
وشُبِّهَ موضِعُ الأحْلاسِ منها ... صَفاةَ مُعَبَّدٍ جدَدِ الصَّفاءِ
الصفاةُ الصخرةُ الملساءُ، والصفاءُ الطريقُ الواضحُ. وقال أيضًا:
فقلتُ له طالَ الوقوفُ وسامَحَتْ ... قَرونَةُ من قارَنْتَ والظِّلُّ آلِفُ
وإنْ لَقِيَ النَّعْماءَ لاقَتْ بساكِنٍ ... كريمٍ وزَوْلٍ إن ألمّ الجوارِفُ
وقال الفرزدَق:
وإنّ تميمًا لمْ تكُنْ أمُّهُ ابتغَتْ ... لهُ صِحّةً في مهدِهِ بالتّمائِمِ
وقال عنترة:
كأنّها يومَ صدّتْ ما تُكَلِّمُنا ... ظَبْيٌ بعُسفانَ ساجي الطَّرْفِ مَطروفُ
وقال سُدَيْف:
بالصدورِ المُقَدَّماتِ قديمًا ... والرؤوسِ القَماقِمِ الرُّؤاس
دَعَموا الدينَ بالطِّعانِ فأضْحى ... واضحَ النّهْجِ بعدَ ميلِ الأواسي
وقال يزيد بن جدعاء:
وهم صَبَّحوا أخرى ضِرارًا ورهْطَهُ ... وهُمْ تَرَكوا المأمومَ وهوَ أميمُ
المأموم الذي يهذي من أمّ رأسه، والأميمُ حجر يُشْدخ به الرأس. وقال يزيدُ بن عبدِ المَدانِ الحارثيّ:
أحالَفْتُمُ جَرْمًا علينا ضَغينةً ... عَداوتُكم في غيرِ جُرْمٍ ولا دمِ
كفانا إليكُم حَدُّنا وحَديدُنا ... وكَفٌّ متى ما تطلبِ الوِتْرِ تَنْقَمِ
جَرْمٌ قبيلةٌ، وقولُهُ في غير جُرْمٍ أي في غير ذنْبٍ وحدّنا يعني بأسُنا مأخوذٌ من حدّ السّيفِ، وحديدُنا أي قوّتنا، وكفانا وكفّا من بابِ التجنيس المُغايرِ، وسيأتي ذكرُه.
وقال آخر:
بانَتْ رميمُ وأمْسى حبْلُها رِمَمَا ... وطاوَعَتْ بكَ من أغرى ومَنْ صَرَما
رميمُ اسمُ امرأة.
ومنه: ب - تجنيسُ اللفظِ وربما سمَّوْهُ المُطْلَق.
قال جرير:
حلأّتِ ذا سَقمٍ يَرى لشِفائِهِ ... وِرْدًا ويمْنَعُ إنْ أرادَ وُرُودا
فيه جناسٌ وطباق. وقال ذو الرُّمّة:
تَرى القِلْوةَ الحَقْباءَ منها كفارِكٍ ... تصدّى لعَينَيْها فصدّتْ حليلُها
حليلُها فاعل، تصدّى وصدّت تجنيسٌ باللفظِ مُطابق بالمعنى لأنّ التصدي خلافُ الصُّدود.
وقال الأفْوَهُ الأوْدِيّ:
وأقْطَعُ الهَوْجَلَ مُستأنِسًا ... بهَوْجَلٍ عَيْرانَةٍ عَنْتَريسِ
الهَوْجَلُ البَرّيةُ الواسعةُ، والهَوْجَلُ الناقةُ السّريعة.
وقال النابغة:
وأقْطَعُ الخَرْقَ بالخَرْقاءِ قد جعلَتْ ... بعدَ الكَلالِ تَشكّى الأيْنَ والسّأَما
وقال مِسكين الدارميّ:
وأقطعُ الخَرْقَ بالخَرْقاءِ لاهيةً ... إذا الكواكبُ كانت في الدِّجى سُرُجا
الخَرْقُ البَرِّيةُ العظيمةُ والخَرْقاءُ الناقةُ التي تتخرّقُ في الجَري.
وقال القُطاميّ:
صَريعُ غَوانٍ راقَهُنّ ورُقنَهُ ... لدُنْ شَبَّ حتى شابَ سُودُ الذّوائِبِ
فشبَّ، شابَ، تجنيسُ لفظ، وهو طِباقٌ لأنهما ضِدّانِ من الشَبابِ والشَّيْبِ. وقال عليُّ بنُ جَبَلة:
ورَدّ البِيضَ والبيضَ ... الى الأغْمادِ والحُجُبِ
1 / 11
يقول: كَفا الحربَ بهيبتِهِ وصانَ النسوانَ بسطوتِه. وهذا بيتٌ حسنٌ المقابلةِ لأن البيضَ الأولى هي السيوفُ، فبدأ في المصراعِ الثاني بذكرِ الأغمادِ، والبيضُ الثانية هي النساءُ فأخّر ما يتعلق بِهنّ وهي الحُجُب.
وقال ابن أحْمَر:
لَبِسْنا حِبْرَهُ حتّى اقْتُضينا ... بأعمالٍ وآجالٍ قُضينا
قيل فيه الاقتضاء طلبٌ، والقضاء أداء. فاللفظُ تجنيس، والمعنى تطبيقٌ. ويجوز أن يكون قضين قُدِّرن وعُلمْنَ، فيكون تجنيسًا لفظيًا فقط، وهو عندي أمْثَل من الأوّل.
وقال القُحَيْف:
وكيف ولا يَجري غُرابٌ بغُرْبَةٍ ... ولا تُذكَرُ الأُلاّفُ إلا تَبَلّدا
وقال أسْماءُ بنُ خارجة:
إني لسائِلُ كُلِّ ذي طِبِّ ... ماذا دَواءُ صَبابةِ الصَبِّ
وقال أيضًا:
إذ ليسَ غيرُ مَناصِلٍ نَعصا بها ... ورِحالِنا وركائِبِ الرّكْبِ
وقال القُحَيْف:
حيًا وحَياةٌ ما تَضُرُّ جُنودُهُ ... بريئًا وتختصُّ الأثيم المُعتلا
وقال سعدُ بن الغُرَيْر الأنصاري:
أحُرٌّ هِجانٌ أم هَجينٌ مُعَلْهَجٌ ... تُغادي الشروبَ أمُّهُ وتُراوِحُ
وقال أبو جِلدة:
وتجنّيْتُمُ الذُّنوبَ ضَلالًا ... وبكَيْتُمْ للظّالِم المظلومِ
الظالم ضد المظلوم وهُما مُشتقانِ من الظُّلمِ تجنيسٌ وطباقٌ.
وقال القُطاميّ:
وعليكِ أسماءَ بنَ خارجةَ الذي ... علِمَ الفَعالَ وعلّم الفِتيانا
علِمَ وعلّمَ تجنيسٌ باللّفظ مُطابقٌ من أجل أنّ علِمَ قبولُ شيءٍ وعلّم بذْلُه، والبذلُ ضدُّ القبول لأن هذا أخذ وهذا أعطى. وقال عُقال بن هاشمي القَيْني:
فجهدُ الناسِ غيرُ بنى عَليٍّ ... علَيّ إذا رمى الضَرَمُ الشَرارا
ومنه: ج - التجنيسُ المغايرُ: وهو أن يأتي الشاعرُ بكلمتين: إحداهما اسمٌ والأخرى فعلٌ، كقوله تعالى: " وأسْلَمْتُ معَ سُلَيْمان "، وكقولهِ تعالى: " إني وجّهتُ وجهي " وقوله تعالى: " أزِفَتِ الآزِفَة "، وقوله تعالى: " أنا آتيكَ به قبْلَ أن تقومَ من مَقامِكَ "، وقوله تعالى: " فلا نُقيمُ لهُم يومَ القِيامةِ وَزْنا "، وقوله تعالى: " وإذا أنْعَمْنا على الإنسانِ أعْرَضَ ونأى بجانبِه وإذا مسّه الشرُّ فذو دُعاء عريض ". فأعرضَ وعريض تجنيسٌ مُغايرٌ. وهذا التجنيس يستحسنُه أهلُ البديعِ في الشِّعرِ وهو كثيرٌ جدًا، وإنما نذكرُ منهُ طَرَفًا يسيرًا للتأنُّسِ به والاستراحةِ إليه. وقال امرؤ القيس:
لقد طمِحَ الطَمّاحُ من بُعْدِ أرضِهِ ... ليُلْبِسَني من دائِهِ ما تلَبَّسا
وقال الشّنْفَرى:
فَبِتْنا كأنّ البيتَ حُجِّرَ فوْقَنا ... بريحانةٍ رِيحَتْ عِشاءً وطُلَّتِ
وقال الأقرعُ بنُ مُعاذ:
وأنتَ رَهينُهُنّ وكلُّ حَيٍّ ... الى أجلٍ ستشَعبه شَعوبُ
شَعوبٌ اسمٌ من أسماء المنيّةِ. وقال ذو الرّمّة:
كأنّ البُرَى والعاجَ عِيجَتْ مُتونُه ... على عُشَرٍ نَهّى بهِ السَّيْلَ أبطَحُ
وقال عَمرو بن خالد التّغلبيّ:
لحِقوا على لُحُقِ الأياطلِ كالقَنا ... قُودٍ تُعَدُّ لكل يومِ غِوارِ
وقال عِقالُ بنُ هاشم القَيْنيّ:
الشّيْبُ يَنْهى من يكونُ له نُهىً ... والحِلْمُ يزْجُرُ جهلَهُ فيوقَّرُ
وقال أيضًا:
حَوْراءُ مثلُ مَهاةِ وحشٍ صارَها ... بمكانِسِ الصِّيرانِ طفلٌ أحْوَرُ
صارَها أمالَها، صُرْتُ الشيءَ أصُورُه، وأصَرْتَهُ أمَلْتهُ، والاسم الصَّوَر. والصيران بقرُ الوحش. وقال العَرْجي:
وأسري إذا ما ذو الهَوى هالَهُ السُّرَى ... وأُعمِلُ ليلَ الناجياتِ العواملِ
وقال دُرَيْد بن الصِّمّة:
أُقَدِّمُ العُودَ قُدّامي فأتْبَعُهُ ... وقد أراني ولا يَمشي بي العُودُ
وقال الآخر:
جَرّى الخيول ابنُ ليلى وهي ساهِمةٌ ... حتى أغَرْنَ مع الظلماءِ إذ ظُلِما
وقال الآخرُ وهو من بني عبس:
أبلغْ لديكَ أبا سعْدٍ مُغَلْغَلَةً ... أنّ الذي بينَنا قدْ ماتَ أو دَنِفا
1 / 12
وذلكم أنّ ذُلَّ الجارِ حالَفَكُمْ ... وأن أنْفَكُمُ لا تأنَفُ الأنَفا
وقال آخر:
وقد باكَرَتْنا أمُّ بكْرٍ تلومُنا ... وليسَ علينا اللومُ فيه كبيرُ
وأنشدَ ثعلبُ عن عما بن أبي تمام الأعرابي:
تَفَقْعَسَ حتى فاتَهُ المجدُ فَقْعَسٌ ... وأعْيا بنو عَيّا وضَلّ المُضَلِّلُ
هذه قبائل. ومنه:
التجنيسُ المُقارب
ومعناهُ أنه يُقاربُ التجنيسَ وليس بتجنيس، كما قال محمدُ بن عبد الملِك الأسَديّ:
ردَّ الخليطُ أيانِقًا وجِمالا ... وأرادَ جيرتُك الغَداةَ زِيالا
ردّ وأراد يُشبهُ التجنيس للتقارب وليسَ بتجنيس.
وقال القِطاميّ:
كأنّ الناسَ كلَّهُمُ لأمٍّ ... ونحنُ لعلّةٍ علَتِ ارتفاعا
وقال الأعرابي:
أخو شُقّةٍ يشتاقُه المجدُ فُرصةً ... الى أهلِهِ أو ذمةً ليس تُخْفَرُ
وقال أبو قيسٍ بن الأسلت:
أعدَدْتُ للأعداءِ فَضْفاضَة ... مَوضونَةَ كالنّهْي بالقاعِ
ومثلُهُ قولُ قيس بن زهير:
يُعدّونَ للأعداءِ كُلَّ طِمِرّةٍ ... وأجردَ محبوكِ الخصائلِ صِلْدِمِ
وقال لبيد:
لو كان غيري، سُلَيْمى، اليومَ غيّرهُ ... وقعُ الحوادثِ إلا الصّارمُ الذَّكَرُ
سُلَيمى، اسم امرأة وهو مُنادَى، ومعناهُ: لو كان غيري، غيْر الصارم الذكر، غيّرَهُ وقعُ الحوادث. فرفع الصارمَ الذّكرَ على الصفة. كما قيل:
وكلُّ أخٍ مُفارقُهُ أخوهُ ... لعمرُ أبيكَ، إلا الفَرْقَدانِ
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان:
تلافيت عثْرَتَه بعد ما ... تمالى الموالي على قَتْله
وقال كعبٌ الأشقريّ:
ودُرْنا كما دارَتْ على قُطبِها الرَّحا ... ودرّتْ على هامِ الرجالِ الصفائحُ
وقال زهيرُ بن أبي سُلمى:
كأنّ عيني وقد سالَ السَّليلُ بهِمْ ... وجيرَةٌ ما هُمُ لو أنّهُمْ أمَمُ
هذا البيت أدخلَهُ ابنُ المعتز في المجنَّس المَحْضِ. وأنا ما رأيته من ذلك الباب لأن السّليل من الانسلالِ وهو الخروج من الشيء، كما تقول انسلّ الرجلُ من ثوبِه إذا خرج منهُ، وسالَ الماءُ يسيلُ من السيلان وهو الجَرْي، ومنه السّيْلُ وهو الماءُ المُتدافِع. وهذا التجنيسُ متقاربٌ متشابهُ غير محضٍ. وابن قُدامة تبعَ ابن المعتز في ذلك. وقال ركّاضٌ الأسدي:
رأتْكَ تُسيرُ العِيرَ في سَوْرَةِ الضُّحى ... إليها فقالتْ سمْعُ أذنيَ قائِلُهْ
تسيرُ وسَوْرة مُقارِبٌ للتجنيس ومنه:
تجنيس المعنى
وهو أن يأتي الشياعر بألفاظٍ يدلّ معناها على الجناس وإن لم يذكره. قال الشاعر يمدحُ المُهلَّب:
حَدا بأبي أمِّ الرِّيال فأجفلتْ ... نَعامتُه من عارِضٍ يتهلَّبُ
يذكرُ فِعْلَ المهلَّبِ بقَطريّ بن الفُجاءةَ، وكان قَطَريّ يلقبُ أبا نعامة فأراد أن يقول: حَدا بأبي نعامة فأجْفَلتْ نعامتُهُ أي روحُه فلم يستقِمْ له فقال بأبي أم الرئال النعامة، وهو جمع رأْل. وقال حُريثُ بن مُحَفِّض المازني:
فإنْ يأتِنا يرجِعْ سُوَيْدٌ ووجهه ... عليهِ حِبابا غُبرَةٍ وقَتامِ
أراد أن يقول: سَواد فلم يمكنه فقال غُبْرَةٌ وقَتامُ، وهما أسودان. وقال الشّمّاخ:
وما أرْوى وإنْ كرُمَتْ علينا ... بأدنى من موقّفةٍ حَرونِ
ويُروى حَزون أي هي بالحَزَن من الأرضِ وهو ما غلُظَ وارتفع من الأرض، وأرْوى امرأة، والموقَّفةُ الحَرون أروى من الوحشِ وبها سُمّيت المرأةُ، فلم يمكنْهُ أن يأتي باسْمها فأتى بصفتِها كأنّه قال: وما أروى هذه بأدنى من أرْوِيّة الوحشِ. وقال الكندي:
قولا لدودانَ عَبيدِ العَصا ... ما غرّكُمْ بالأسدِ الباسلِ
دُودان من بني أسد، يُقال لهم عَبيدُ العَصا فكأنه أرادَ قُولا لبني أسد، ما غرّكُم بالأسَدِ البايل. وقال المطرودُ الخُزاعي:
الضاربينَ الكَبشَ يَبْرُقُ بَيْضُهُ ... والمانعينَ البيضَ بالأسيافِ
1 / 13
هذا البيتُ فيه عدةُ وُجوه: منها التلميعُ وهو الضاربين والمانعين، ومنها تجنيسُ اللفظ وهو البَيْضُ والبِيضُ، وتجنيس المعنى وهو البِيض يعني النساء، والأسيافُ جمع سَيْف في القلةِ، والأسياف البيضُ. فكأنه أراد أن يقولَ: والمانعين البِيضَ بالبيض فلم يَسْتَوِ له فقال: والمانعينَ البيض بالأسيافِ. ومنه:
المُجَنَّسُ المُطْمع
وهو أن يأتي الشاعرُ بكلمة ثم يبدأ في أختها على وفْقِ حُروفِها فيُطمِعَ في أنه يجيءُ بمثلِها فيُبدِل في آخرِها حرفًا بحرف، وهو حسَنٌ في التجنيس. قال الحطيئة:
مطاعينُ في الهَيْجا مطاعيمُ في الدُّجى ... بَنى لهُمُ آباؤهمْ وبنى الجدُّ
وقال مُزَرِّد:
تُراوِحُ سَلْمى دارَها كلُّ رَعْلَةٍ ... غَرابيبُ كالهندِ الحوافي الحَوافِدِ
وقال أبو كَدْراء العِجْلي:
نهضتُ الى حديدٍ مَشْرَفيٍّ ... حديثِ الصّقلِ مأثورٍ حُسامِ
وقال الخَطيمُ المحرزيّ:
لَياليَ شهرٍ ما أُعرِّسُ ساعةً ... وأيامَ شهرٍ ما أعرِّجُ دائِبِ
أطمَعَ أنه يُجنس أعرِّس فقال أعرِّج فأبدلَ الجيمَ من السّين. فاللفظ تجنيسٌ ممُطمِع، والمعنى تطبيق، لأن التعريسَ في آخر الليلِ والتعريجَ في آخر النهار. وقال أبو بكر بن حَنظَلة العَنْزيّ:
مُفيدٌ مُفيتٌ ما تجيءُ دراهمي ... إذا جِئنَ إلا عابراتِ سبيلِ
هذا مُجنَّسٌ مطمِع مطابِقُ المعنى واللفظ، وذلك أنّ المفيد الجامع والمفيت المفرِّق، ومنه:
التجنيس المُبذَل
وهو قريب من المُطْمِع. قال الزِّبْرَقان بن بدر:
فُرْسانُ صِدْقٍ في الصباحِ إذا ... كثُرَ الصِّياحُ ولُجَّ في النَّفْرِ
أبدلَ الياءَ من الباء. وقال علْقَمةُ بن عَبَدَة:
أطعْتَ المُشاةَ والوُشاةَ بصَرْمِها ... فقد وهنتْ أسبابُها للتّقَضُّبِ
أبدلَ الواوَ من الميم. وقال العُدَيْل:
أخا شُقّةٍ قد شفّهُ دَلَجُ السُّرَى ... يَبيتُ يرومُ الهَمَّ كلَّ مَرامِ
أبدلَ الفاء من القافِ. وقال خُفافُ بن نَدْبَة:
بالضّابِطِ الضابعِ تقريبُهُ ... إذْ وَنَتِ الخيلُ وذو الشاهِدِ
أبدلَ العينَ من الطاء. وقال جوّاسُ بنُ القَعْطَل:
شهدتُ لها وغابَ أبو بُرَيْدٍ ... مجالسَ لو رآها الشيخُ غارا
غابَ وغارَ أبدلَ الراءَ من الباء. وقال عمرو بن شَأس:
نحنُ الذينَ لحِلْمِنا فضْلُ ... قِدْمًا وعندَ خطيبنا فَصْلُ
أبدل الصادَ من الضادِ. وقال عِمْران بن حِطّان:
إنْ تَقُدْهُ تقُدْ شَديدًا سَديدًا ... فهو يمشي كمِشْيَةِ المُخْتالِ
أبدلَ السّينَ من الشين. وقال كعبُ بن جُعَيْل:
فتسْمَحُ لي بالدمعِ حُزْنًا لذكرِهِ ... وتسفحُ منه لا بكيئًا ولا نَزْرا
أبدلَ الفاءَ من الميم. وقال أبو حيّة النُّمَيْريّ:
وكأنّما جُعِلَتْ لهُنّ رَوادِفًا ... كُثُبٌ رواجفُ من سَماءِ جُرادِ
جُرادُ اسمُ رملةٍ. أبدلَ الجيمَ في رواجف منَ الدال في روادف.
وقال المُلَيْحُ الهذليّ:
أفي أربُعٍ فيهنّ للريحِ مَدْرَجٌ ... ومَغْدًى على معروفهِنّ ومَدْلَجُ
أبدلَ اللامَ في مَدْلجٍ من الرّاء في مَدْرَجٍ. وقال معْنُ بن أوسٍ:
وقد قُلتُ إذ قامَتْ وقالتْ فأعْرَضَتْ ... تجُرُّ قَشيبًا من حَبيرٍ ومِجْسَدا
أبدل اللامَ في قالت من الميم في قامَتْ.
والشعرُ في هذا الباب كثيرٌ وفيما نذكرُه من الأمثلةِ وفي غيره مَقْنَعٌ لمن أراد، إنْ شاءَ اللهُ تعالى. ومنه:
المجنس المختلف
أنشدَني اليَزيديّ:
بكرومٍ وبدورٍ وقَنا ... تتثنّى فوقَ كُثْبانِ النَّقا
قنا ونقا مجنَّس مختلف.
وقال الحارثُ بن خالد المخزومي:
وكَلِفْتُ منهنّ الغَدةَ بغادةٍ ... ممْكورةٍ جُدِلَتْ كجَدْلِ عِنانِ
وقال أبو دَهْبَل:
قد كانَ في آلِ موسى قبْلَهُ جسَدٌ ... عِجْلٌ إذا خارَ فيهم خَوْرَةً سَجَدوا
وقال حُمَيْد بنُ ثوْرٍ:
نضعُ الزيارةَ حيثُ لا يُزري بنا ... شَرَفُ المُلوكِ ولا يَخيبُ الزُوَّرُ
1 / 14
قِيلَ للأصمعي: إن أبا تمام الأعرابي قال: إنما هو سَرفُ الملوك بسين غير معجمة، قال الأصمعي: أخطأ الرجلُ، أما تعلَم أنّه يكونُ شرفٌ دون شرفٍ دونَ أزرى بنا، قلت هذا شرحٌ كما تراه. والذي ذهب إليه أبو تمام الأعرابي وجْهٌ مقبول. ومن أجودِ ما يُروى في هذا الباب قول الطائي وهو:
بِيضُ الصفائِحِ لا سودُ الصحائِفِ في ... مُتونِهِنَّ جلاءُ الشكِ والرِّيَبِ
ومنه:
تجنيسُ الخَطّ
ويُسمى التصحيف وهو أن تردَ الكلمتان فلا يفَرَّق بينهما إلا بالنقْط. قال الله تعالى: (وهُمْ يحسَبون أنهم يُحسِنون صُنْعًا) وقال عُرْوةُ بن جَندل الفَقْعَسي:
لياليَ أسبابُ المودةِ بيننا ... على البُخْل أحلى عندنا من جَنى النَحْلِ
البُخْل والنَحْل تجنيسُ الخَط. وقال الفرزدق:
عزَفْتَ بأعشاشٍ وما كِدْتَ تعزِفُ ... وأنكرْتَ من حَدراءَ ما كنتَ تعرِفُ
تعزفُ وتعرفُ تجنيس الخط. وقال أبو دُؤاد الإيادي:
ورَدْتُ بعَيْهامةٍ جَسْرةٍ ... فغبَّتْ سِمالًا وهبّتْ شِمالا
وقال الأفْوَهُ الأوْدي:
حتى حنَى منّي قَناةَ المطا ... وقنّعَ الرأسَ بلَوْنِ خَليس
وقال ابنُ قيس الرُّقَيّات:
رَجَعوا منكَ لائمينَ فكلٌ ... راحَ من عندِكم حزينًا حَريبا
وقال بَلعاءُ بنُ قيس:
إلى رَوْضٍ به نفَلٌ وبقْلٌ ... يُغنّي في أسرّتِه الذُّبابُ
نفلٌ وبَقْل تجنيس الخط. وقال عبَيْدُ بنُ ماوِيَةَ الطّائي:
ونُعْمُ بما أرْسَلَتْ بالَها ... ونالَ التّحيّةَ مَنْ نالَها
وإني لَذو مِرّةٍ مُرّةٍ ... إذا ركِبَتْ حالةٌ حالَها
وقال الفرزدق:
وما وجدَ الشّافونَ مثلَ دمائِنا ... شِفاءً ولا الساقون من عسَلِ النّحلِ
ومنه تجنيس البَعْض: قال القُطاميّ:
بأحسنَ من جُمانةَ يومَ رَدّوا ... جِمالَ البَيْنِ واحْتَملوا نهارا
جُمانة وجِمال تجنيسُ البَعض. وقال أيضًا:
وكانتْ ضَرْبةً من شَدْقَمِيٍّ ... إذا ما اسْتنّتِ الإبلُ استِناعا
استنّتْ واستناعًا مُجنَّس البعض. وقال الطمّاح العُقَيْلي:
مَخَبُّ مَخاضِ ابنَيْ قُشَيْرٍ كأنّها ... نَعامٌ بجِزّان الحَزابيِّ توسَقُ
وقال عبدُ الله بن عبد الأعلى:
وكمْ منْ حديدٍ قدْ تخوَّنَهُ البِلى ... ومنْ مَعْقِلٍ خانتْ قِواهُ القَواعدُ
وقال مالك بنُ عوفٍ النَّصْري:
مِخْرادِ دَلٍّ فلا عِيٌّ ولا سَنَةٌ ... والخَلْقُ مثلُ عَسيبِ الغابةِ الغادي
وقال العُجَيْرُ السَّلوليّ:
تَروّى منَ البَحْرَيْنِ ثم تروّحَتْ ... بهِ العينُ يُهديهِ لظَمياءَ ناقِلُهْ
تروّى وتروّحَتْ مُجنَّسُ البعض، وتروّى وظَمْياء تطبيق. وقال أبو الجُويريَة:
ومُسْتأسِرٍ للبَردِ قوّمْتُ رأسَهُ ... مُكارهةً والليلُ مستأنفٌ طِفْلُ
مُستأسِرٌ ومستأنفٌ مجنّس البعض. وقال أبو الطَّمَحان القَيْني:
ألا ليتَني أوْدَيْتُ إذ أنا صالِحٌ ... وإذْ أنا جانٍ للعدوِّ وجارِحُ
جانٍ وجارحٌ مجنَّسُ البعض. وقال أسدُ بنُ كُرْزٍ البَجَليّ:
صناديدُ أيْسارٌ مداعيسُ بالقَنا ... مساعيرُ في الهَيْجا مَسافيكُ للدَّمِ
مساعيرُ ومسافيكُ مجنسُ البعض. وقال القُطامي:
حتى تَرَى الحُرّةَ الوجْناءَ لاغِبَةً ... والأرْحَبيَّ الذي في خَطْوِهِ خَطَلُ
خطوه وخطلُ مُجنس البعض.
ومنه
المجنسُ المُتَمَّم
وهو أن يأتي الشاعرُ بكلمة ثمّ يأتي بأُخْتِها إلا أنه يتمِّمُها بحرف أو حرفين من غير حُروفهما. قال حمَلُ بنُ بَدْر:
لَقينا ولاقَونا بجُرْدٍ معَدَّةٍ ... تكنَّفُ فيهنَّ القَنا والقَنابلُ
القَنا والقَنابلُ مجنسٌ متمَّم. وقال حسّان في مثلِه:
وكنّا متى يَغْزُ النبيُّ قبيلةً ... نصِلْ حافَتَيْهِ بالقَنا القَنابِلِ
وقال عمرو بنُ شأس:
تذكّرتُ ليلى والرِّكابُ كأنّها ... قَطا مَنْهَلٍ أمَّ القَطاطَ فلَعْلَعا
وقال عُقبةُ بنُ كعب بن زهير:
1 / 15
وكَرّتْ بألحاظِ المَها وتبسّمَتْ ... بعَجْفاءَ عن غُرٍّ لهُنّ غُروبُ
غرٌّ وغروبٌ تجنيسٌ مُتمم. وقال النابغةُ الجَعْدي:
لها نارُ جِنٍّ بعْدَ إنسٍ تحوّلوا ... وزال بهم صرْفُ النّوى والنوائِب
وقالت الخنساء:
إنّ البُكاءَ هوَ الشِّفا ... ءُ منَ الجَوى بيْنَ الجوانِحْ
وقالت أيضًا:
فقَدْ فقَدَتْكَ رَعْلَةُ واستراحَتْ ... فليْتَ الخيلَ فارسُها يَراها
وقال الأخنسُ بنُ شِهاب:
وحامي لواءٍ قد قتَلْنا، وحامِلٍ ... لواءَ منَعْنا، والرماحُ شَوارعُ
فقولُه حامي وحامِل جناسٌ متمَّم، وفي البيت ترصيع. وقال كعبُ بن زهير:
ولقَدْ علِمْتِ وأنتِ غيرُ حَليمةٍ ... ألاّ يُقرِّبُني الهَوى لهَوانِ
ومن مَليحِ هذا القِسْم من التجنيس قولُ الطائي؛ أخْبَرني عبدُ الرحمن الواسطي بقراءتي عليه قال: أنبأَني ابنُ خَيْرون عن الجَوْهَري وابنِ المُسْلمة قالا: أخبرَنا المرزباني عن شُيوخه قال: استَنْشَدَ عُمارةُ بن عَقيل بن بلال بن جرير أصحابَ أبي تمّام شيئًا من شِعْرِه فأنشَدوه:
إذا ألْجَمَتْ يومً لُجيْمٌ وحولَها ... بنو الحِصْنِ نجْلُ المُحصَناتِ النّجائِبِ
فإنّ المَنايا والصّوارِمَ والقَنا ... أقاربُهُم في الرّوعِ دونَ الأقاربِ
إذا الخيلُ جابَتْ قسْطَلَ النّقعِ صدّعوا ... صُدورَ العَوالي في صُدورِ الكتائبِ
يمدّون من أيْدٍ عَواصٍ عَواصمٍ ... تَصولُ بأسْيافٍ قَواضٍ قواضِبِ
فقال عُمارة: لله دَرُّه! كأنّ ردّاتِه ردّاتُ جرير، فسمّى التجنيس ردّاتٍ. قوله: عواصٍ وعواصم، وقواضٍ قواضِب من مستحسن التجنيس المُتمم. ومنه:
تجنيسُ القَوافي
قال النابغة الذبياني:
ترى الراغبينَ العاكفينَ ببابِه ... على كل شِيزَى أُترِعَتْ بالعَراعِرِ
لهُ بفناءِ البيت دهماءُ جَوْنَةٌ ... تلَقّمُ أوصالَ الجَزورِ العُراعِرِ
العَراعر الأسْنمة، والعُراعر الضّخْمَة الكبيرة. وقال قيسُ بن زهير:
أظنُّ الحِلْم دلّ عليّ قومي ... وقد يُسْتَجْهَلُ الرّجلُ الحليمُ
وكم مارَسْتُ في دهري رِجالًا ... أُباةً لا تُغِبُّهُمُ الحُلومُ
الحليمُ: الرجلُ ذو الحِلْمِ، والحُلوم: جمع حِلْم، ولما اختلفَ المعنى حسُنَتْ المُقاربةُ بين الكلمتين. وقال العَرْجيّ:
سمَّيْتَني خَلَقًا لحُلّةٍ خلقَتْ ... ولا جديدَ إذا لم يُلبسِ الخَلَقُ
ارجِعْ الى الحَقِّ إمّا كُنتَ قائِلَهُ ... إنّ التخلُّق يأتي دونَهُ الخُلُقُ
وقال أعشى بني أبي ربيعة:
أبو العِيصِ والعاصي وحرْبٌ ولم يكنْ ... أخٌ كأبي عَمروٍ يُشَدُّ به الأَزْرُ
صَفَتْ منهمُ الأعراضُ من كلِّ ريبةٍ ... تُخافُ وطابت في معاقدِها الأُزْرُ
وقال عمرو بن امرئ القيس الأنصاري:
خالَفْتُ في الرأيِ كلَّ ذي فجَرٍ ... يا مالِ والحقُّ غيرُ ما نَصِفُ
نمشي الى الموتِ من حفائِظِنا ... مَشْيًا ذَريعًا وحُكمُنا نَصَفُ
نصِفُ من الوصف، ونَصَفٌ من النَّصَفة. وقال أشيمُ بن شَراحبيل:
إذا سألتَ تميمًا عن شِرارِهِمِ ... فاطلُبْ أُسيِّدَ حتى تُدرِكَ السَّلَفا
مثل الإماءِ إذا ما جُلْبةٌ أزِمَتْ ... لا يَيْسَرون ولا تَلْقى لهم سُلَفا
السَّلَفُ الماضي والسُّلَفُ الطعام اليسيرُ يُقدَّم قبلَ الغَداء، واحِدتُهُ سُلَفَة بالضم، ومن ذلك قولهم سلَّفْتُ الرَّجُلَ تَسْليفًا، وإذا أطعَمْتَهُ شيئًا معَجَّلًا قبلَ غدائِهِ. وقال ابنُ عبْدَلٍ الأسَدي:
وإنّي لأستَغْني فما أبْطَرُ الغِنَى ... وأعرِضُ معْروفي على مُبْتَغي عَرْضي
وأُعْسِرُ أحيانًا فتَشْتَدُّ عُسْرَتي ... وأدرِكُ ميْسورَ الغِنى ومعي عِرْضي
وقالت جُمانةُ العَبْسيّة:
أبي لا يَرى أن يُسلَبَ اليومَ دِرْعَهُ ... وجَدّي يَرى أنْ يأخُذَ الدِرعَ من أبي
1 / 16
فرأيُ أبي رأيُ البخيلِ بمالِهِ ... وشيمةُ جدّي شِيمةُ الحالفِ الأبي
وأنشدَ ابنُ الأعرابي:
شِرابُه كالحَزِّ بالمَواسي ... ليسَ برَيّانَ ولا مُواسِ
أراد بشِرابِهِ مُشاربَتَه. وقال أبو دهْبَل:
أليس عزيزًا أن تكوني ببَلدَةٍ ... كِلانا بها ثاوٍ ولا نتكلّمُ
مُنعَّمَةٌ لو دبَّ ذَرٌّ بجِلْدِها ... لكادَ دَبيبُ الذَرِّ بالجِلْدِ يُكْلَمُ
وقال عمرو بن قَميئة:
أولئكَ قومي آلُ سعْدِ بنِ مالِكٍ ... تمالَوْا على ضِغْنٍ عليّ وإلغافِ
فكلّ أناسٍ أقربُ اليومَ منهُمُ ... إليّ ولو كانوا عُمانَ أولي الْغافِ
الإلغاف الجَوْر والظلم، وقوله: أولي الغاف أي أصحاب الشجر وأنشدَ المدائني للخليل بن أحمد:
يا وَيْحَ قلبي من دواعي الهوى ... إذْ رحَلَ الجيرانُ عندَ الغُروب
أتْبَعْتُهم طَرْفي وقدْ أمْعَنوا ... وفَيْضُ عيْنيَّ كفيْضِ الغُروبْ
بانوا وفيهم حُرّةٌ طَفْلَةٌ ... تفْتَرُّ عن مكنونِ حَبِّ الغُروبْ
الغروبُ الأول غروبُ الشمس، والثاني جمْعُ غَرْب وهو الدلو الكبيرة، والثالثُ الكُفُرَّى وهو الطّلْع.
وأنشد أبو العبّاس ثعْلَب:
أتعرِفُ أطلالًا شَجَوْنَكَ بالخالِ ... وعيْشَ زمانٍ كان في العُصُرِ الخالي
لياليَ ريْعانُ الشبابِ مسلَّطٌ ... عليّ بعِصْيانِ الأمارَةِ والخالِ
وإذْ أنا خِدْنٌ للغَويّ أخي الصِّبا ... وللغَزل المرّيحِ ذي اللهوِ والخالِ
ليالي تُكْنَى تسْتَبيني بِدَلِّها ... وبالنّظرِ الفتّان والخدّ والخالِ
إذا سكنَتْ رَبْعًا رَئِمْتَ رِباعَها ... كما رَئِمَ المَيْثاءَ ذو الرَّيْثةِ الخالي
ويقتادني منها رخيمٌ دلالُهُ ... كما اقتادَ مُهْرًا حين يألفُه الخالي
الخالُ الأول موضع، والثاني الماضي، والثالث العُجْب، والرابع الذي لا زوجةَ له، والخامس النّقطةُ السوداء، والسادسُ الذي ليسَ له مُعين، والسابع الذي يسوسُ الدّوابّ. ومنه:
التنجيسُ المماثل
وهو أن تكونَ الكلمتان اسْمَيْن أو فِعلين كما قال الله تعالى: " فَرَوْحٌ ورَيْحان "، اسمان، وكقوله تعالى: " وجنا الجنّتَيْن دانٍ "، وقوله تعالى: " يا أسَفي علي يوسفَ " وكقول النبي ﷺ: " الظُّلْمُ ظُلماتٌ يوم القيامة "، وقوله ﷺ: " لا يكونُ ذو الوجهين وجيهًا يوم القِيامة " وقال جرير:
فما زالَ معقولًا عِقالٌ عن النّدى ... وما زالَ محبوسًا عن الخيرِ حابسُ
وقال النابغة الذبياني:
قالتْ أراكَ أخا رَحْلٍ وراحِلةٍ ... تَغْشى مَتالِفَ لنْ ينظِرْنَكَ الهَرَما
وقال سُحَيْم بنُ وَثيلٍ الرِّياحيّ:
وإنّي لا يعودُ إليّ قِرْني ... غَدةَ الغِبِّ إلا في قَرينِ
أي ومعَهُ آخر. وقال آخر:
لياليَ ليْلَى لم يُشَبْ عذْبُ مائِها ... بمَلْحٍ وحَبْلاها متينٌ قُواهُما
يعني حبْلَ مودّتِها له وحَبْل مودّته لها. وقال العجّاج:
وابنةُ عبّاسٍ قريعِ عبْسِ ... في قِنْسِ مجْدٍ فوقَ كلِّ قِنْسِ
القِنْس مَنبتُ كل شيء وأصلُهُ. وقال العُدَيْل بن الفَرْخ العِجْليّ:
بخالَةَ زارَتْنا فهاجَ خيالُها ... وزارَتْ بحُوّارينَ وهو شآمُ
وقال يزيدُ بنُ حُذَيْفَة الأسديّ:
دفَعْنا طَريفًا بأطْرافِنا ... وبالرّاحِ عنّا ولمْ يدْفَعونا
قد أوردنا من أقسامِ الجِناس ما فيه كفايةٌ واستدلالٌ به على غيرِه، فقِسْهُ واقتبِسْهُ إن شاءَ اللهُ تعالى.
ومن الألقاب التي قدّمْنا ذِكرَها في الشِّعر:
باب المطابقة
قد اختلفَ العُلماءُ في الطِّباق. قال الأخفشُ وقد سُئِلَ عنه: أجدُ قوْمًا يختلفون في الطِّباق، فطائفةٌ، وهي الأكثر، تزْعُمُ أنّه ذِكرُ الشيء وضدِّه يجمعُهُما اللفظُ بهما لا المعنى. وطائفةٌ تخالِفُ ذلك فتقول: هو اشتراكُ المعنيين في لفْظٍ واحد كقول زياد الأعجَم:
1 / 17
ونُبِّئْتُهُمْ يسْتَنْصِرون بكاهِلٍ ... وللُّؤمِ فيهم كاهِلٌ وسَنامُ
فقولُه بكاهل: يعني القبيلة، وقولُه كاهل للعُضْوِ هو المطابقة عندهم. وقال: هذا هو التجنيس. وقال: من ادّعى أنه طِباقٌ فقد خالفَ الأصمعيَّ والخليل. فقيلَ له: أفكانا يعرفان هذا؟ فقال: سُبحان الله وهل مثلهما في عِلْمِ الشعرِ وتمييز خَبيثه من طيّبِهِ!. وقد أدخلَ قومٌ في الطباقِ نوْعًا من التقسيم، كقوْلِ كعبِ بن سعد:
لقدْ كان أمَّا حِلْمُهُ فمُرَوَّحٌ ... عليْنا وأمّا جهْلُه فعَزيبُ
لما رأوا ذكرَ الحِلم والجهلِ، ومروّح وعزيب، جعلوه في المطابق ولم يكن ببعيد منه، ولكنّه الى باب التقسيم أقرب. وقال الأصمعي: أصلُ الطِّباق أنْ يضعَ الفرَسُ رجلَهُ في موضِعِ يدِه وأنشد:
وخيْلٍ يُطابِقْنَ بالدارعي ... نَ طباقَ الكلابِ يطأنَ الهَراسا
وقال الخليل: طابقتُ بين الشيئين إذا جمعَهُما على حَذْوٍ واحدٍ وألصقَهُما. وأقول: إنّ الطِّباقَ من أحسَن محاسِن البديع؛ وهو أن يأتي الشاعر في البيت بالشيء وضدِّه. قال عبد الله بن الزبير الأسَدي:
رمَى الحدَثانُ نِسوَةَ آلِ حرْبٍ ... بمِقْدارٍ سمَدْنَ له سُمودا
فردّ شُعورَهُنّ السّودَ بِيضًا ... وردّ وجوهَهُنّ البيضَ سُودا
وقال زُهير:
ليثٌ بعَثَّرَ يصطادُ الرجالَ إذا ... ما اللّيثُ كذّبَ عن أقرانِه صَدَقا
وقال الفرزدق:
لعنَ الإلهُ بني كُلَيْبٍ إنّهمْ ... لا يغْدِرونَ ولا يَفونَ لِجارِ
يَستَيقِظونَ الى نُهاقِ حَميرِهِمْ ... وتنامُ أعينُهُمْ عنِ الأوْتارِ
أخذَهُ الفرزدق من قول ثُمامة الذُهلي:
قوْمٌ تنامُ عن الأوتارِ أعينُهمْ ... ولا تُنوَّمُ نوْكاهُمْ عن السَّرَقِ
وقال عمرو بن كلثوم:
بأنّا نورِدُ الرّاياتِ بِيضًا ... ونُصْدِرُهُنّ حُمْرًا قد رَوينا
لو قال عمرو:
منَ الأسَلِ الظِّماءِ يرِدْنَ بيضًا ... ونُصْدِرُهُنّ حُمْرًا قد رَوينا
لكان مُجيدًا مُبدعًا في الطِباق بينَ الإيراد والإصدار، والبَياض والحُمْرةِ، والظِّماء والرِّيّ. وقد أخذ أبو الشّيصِ معنى بيت عمرو فتمّمَ منهُ ما نقصَ وقال:
فأوْرَدَها بِيضًا ظِماءً صُدورُها ... وأصْدرَها بالرِّيِّ ألوانُها حُمْرُ
فصار أخذهُ مُسْتَحْسَنًا بكمالِ معناهُ وزيادةٍ بالجناسِ في: صُدورِها وأصدرَه. وقال الغطَمّشُ الضَبّيّ:
إذا نحنُ سِرْنا بينَ شَرْقٍ ومَغْرِبٍ ... تحرّكَ يقْظانُ الترابِ ونائِمُهْ
وقال الكُمَيت بن زيد:
وأرى الشَيْبَ والشَبابَ رِدائَي ... نِ مصونًا وبِذْلَةً مَنْشورا
الشّيْبُ والشبابُ، والمَصونُ والمبتذلُ تطبيقٌ، وفيه استعارةٌ واحدة. وقال أبو صخْر الهُذَليّ:
أمَا والذي أبْكى وأضحكَ والذي ... أماتَ وأحْيى والذي أمْرُهُ الأمْرُ
وقال أوسُ بنُ مَغْراء:
فأخلَقَ حبْلُ الوُدِّ بيني وبينَها ... وكلُّ جديدٍ سوفَ يُصبِحُ بالِيا
وقال أبو دَهْبَل:
وصارَتْ قناةُ الدّينِ في كفِّ ظالِمٍ ... إذا اعْوَجّ منها جانِبٌ لا يُقيمُها
فيه طِباقٌ واستعارَةٌ حسَنة. وقال أبو جِلْدة اليَشْكُري:
إذا عدَلَتْ بالصّرْمِ والوَصْلِ عاقَها ... عن الصّرْمِ ميزانٌ من الحُبِّ راجِحُ
فيه طِباقٌ واستعارة. ولمّا جعلَ للحُبِّ ميزانًا جعلَ القرينةَ لفظيةً، وهي قوله راجِح. وهذا القِسم واسعٌ كثيرٌ يدلُّ عليه القليلُ اليَسير. ومنها:
باب التصدير
ويُلَقِّبُه قومٌ: ردَّ إعجازِ الكلامِ على صُدورِه، وهو أن يَبْتَدئ الشاعرُ بكلمة في البيت ثم يُعيدَها في عَجْزِه، أو نِصْفِه ثم يرُدّها في النصفِ الأخير. وإذا نُظِمَ الشعرُ على هذه الصّفةِ، تيسّرَ استخراجُ قوافيه قبلَ أن تطرُقَ أسماعَ مُسْتَمعيه. قال الأصمعي: من حسَنِ التصدير قولُ عامر بن الطُّفَيْل، وكذا قال جماعةٌ من نُقّاد الشِعر:
فكنتَ سَنامًا في فَزارَةَ تامكًا ... وفي كلِّ حيٍّ ذِرْوَةٌ وسَنامُ
وقال قومٌ: بل من جيّدِ التصدير قول جرير:
1 / 18
سَقى الرّمْلَ جوْنٌ مُستَهِلٌّ رَبابُهُ ... وما ذاكَ إلا حُبُّ مَنْ حَلّ بالرَّمْلِ
وقال آخرون: بل قولُ الأول من حسَنِ التّصدير:
سَريعٌ الى ابنِ العمِّ يشْتُمُ عِرضَهُ ... وليسَ الى داعي النّدَى بسَريعِ
وقال أناسٌ: قول ابنِ أحمر من جيّدِ ما قيلَ في التصدير وهو:
تغمَّرتُ منها بعدَ ما نفِدَ الصِّبَى ... ولمْ يَرْوَ من ذي حاجةٍ من تَغَمَّرا
التغَمّر الشُّرب القليل. وقال الفرزدق:
أصْدِرْ هُمومَكَ لا يقْتُلْكَ واردُها ... فكلُّ واردَةٍ يومًا لَها صدَرُ
ومنها:
باب الالتفات
وهو انصِرافٌ عن مخاطبةٍ الى إخبارٍ وعن إخبارٍ الى مخاطبة، وهو من بديع البديع. وقال جرير:
متى كان الخيامُ بذي طُلوحٍ ... سُقيتِ الغَيثَ أيَّتُها الخيامُ
أتذكرُ يومَ تصْقُلُ عارضَيْها ... بعُودِ بَشامةٍ، سُقِيَ البَشامُ
ويُروى:
أتَنْسى إذْ تُودِّعُنا سُلَيْمَى ... بعودِ بَشامَةٍ، سُقِيَ البشامُ
ومن الالتفات البارع قول النابغة:
ألا زَعَمَتْ بنو عَبْسٍ بأنّي ... ألا كَذَبوا، كبيرُ السنِّ فانِ
وقال آخر:
فإني إن أفُتْكَ يَفُتْكَ مني ... فلا تُسْبَقْ به، عِلْقٌ نفيسُ
وقال كُثَيِّر:
لوَ انّ الباخِلينَ، وأنتِ منهُم، ... رأوْكِ تعلّموا منكِ المِطالا
ومن هذا القِسْمِ اعتراضُ كلامٍ في كلامٍ لم يتمّ معناه، ثم يعود الشاعرُ إليه فيُتمُّهُ مرّة واحدة، وهو من جيّد الالتفات. قال طَرَفة:
فسَقى ديارَكِ، غيرَ مُفسِدِها، ... صوْبُ الربيعِ ودِيمةٌ تَهْمي
فقدْ تمّ المعنى بقولِه: غيرَ مُفسِدِها. وقال نافع بن خليفة الغَنَويّ:
رِجالٌ، إذا لمْ يُقْبَلِ الحقُّ منهمُ ... ويُعْطَوْهُ، عاذوا بالسيوفِ القواضِبِ
فتمّم المعنى بقوله: ويُعْطَوْهُ. ومنها:
باب الاستطراد
ومعنى الاستطراد خروج الشاعر من ذمٍّ الى مدحٍ أو من مدحٍ الى ذمّ. وللمُحدَثين في هذا الباب أشعارٌ كثيرة عجيبة. قال زهير:
إنّ البخيلَ ملومٌ حيثُ كان ول ... كنَّ الجَوادَ على عِلاّتِه هَرِمُ
استطردَ الكلامَ الي مدْحِ هرِم. وقال الفرزدق:
كأنّ فِقاحَ الأزْدِ حوْلَ ابنِ مِسْمَعٍ ... إذا عَرِقَتْ، أفواهُ بكرِ بنِ وائِلِ
استطرد الكلام الى ذمّ بكرِ بن وائل. وقد حَثا جريرٌ التّرابَ في وجه السابقِ الى هذا المعنى فضلًا عمّن تلاهُ، فإنّه استطرد باثنين في بيتٍ واحد وهو:
لمّا وضَعْتُ على الفرزدقِ ميسَمي ... وضَغا البَعيثُ جدَعْتُ أنفَ الأخطلِ
الضَّغُو والضُّغاءُ صوتُ الذليلِ المقهور وقال آخر:
أنتَ ابنُ بِيضٍ لعَمْري لستُ أُنكِرُهُ ... حقًّا يقينًا، ولكن مَنْ أبو بِيضِ؟
وقال بكرُ بنُ النطّاح في مالِك بن طَوْق وهو استطرادٌ من مدحٍ الى مدح:
عرضْتُ عليها ما أرادَتْ من المُنى ... لتَرْضَى فقالَتْ قُمْ فجِئْني بكَوْكَبِ
فقُلتُ لها: هذا التّعَنُّتُ كلُّهُ ... كمن يتَشهّى لحمَ عَنقاءَ مُغرِبِ
سَلي كلَّ أمرٍ يستقيمُ طِلابُه ... ولا تَذْهَبي يا دُرُّ، في كل مذْهَبِ
فأُقْسِمُ لو أصبحتُ في عِزِّ مالكٍ ... وقُدْرَتِهِ أعْيا بما رُمْتِ مَطْلَبي
فتىً شَقِيَتْ أموالُهُ بنَوالِهِ ... كما شَقِيَتْ قيسٌ بأرماحِ تغْلِبِ
وشبيهٌ بهذه الأبيات ما ذكرَهُ الأصفهاني في كتابه قال: قال أحمدُ بن عُبيد اللهِ بن عمّار: كنا عندَ المُبرِّد يومًا وعندَه فتىً من وُلْدِ أبي البَختريّ وهْب بن وهب القاضي، أمردُ حسَنُ الوجه، وفتىً من وُلْدِ أبي دُلَف القاسم بن عيسى العِجْلي شبيهٌ به في الجمال، فقال المبرد لابن أبي البَختري: أعرفُ لجَدِّكَ قِصةً طريفةً من الكرَم حسنةً لم يُسْبَقْ إليها، فقال الفتى: وما هي؟ قال: دفعِيَ رجُلٌ من أهلِ الأدبِ الى بعض المآدبِ فسقَوْهُ نبيذًا غير الذي كان يشربون، فقال:
نَبيذانِ في مجلسٍ واحدٍ ... لإيثارِ مُثْرٍ على مُقْتِرِ
1 / 19
فلو كانَ فِعلُكَ ذا في الطّعامِ ... لَزمتُ قياسَكَ في المُسْكِرِ
ولو كنتَ تفعَلُ فِعْلَ الكِرامِ ... صنعتَ صَنيعَ أبي البَخْتَري
تتبّعَ إخوانَهُ في البلادِ ... فأغْنى المُقِلَّ عن المُكثِرِ
فبلغتِ الأياتُ جدَّكَ فبعث الى الرّجل خمسمائة دينار. قال ابن عمّار: فقلت: وقد فعلَ جدُّ هذا الفتى في هذا المعنى ما هو أحسنُ من هذا، قال المُبرّد: وما هو؟ قلت: بلغني أن ابنَ أبي فَنَنٍ افْتَقَر بعد ثروةٍ، فقالت له امرأته: افْتَرِضْ في الجُنْدِ، فأنشأ يقول:
إليكِ عني فقد كلَّفْتِني شَطَطًا ... حَمْلَ السِّلاحِ وقوْلَ الدّارِ عينَ قِفِ
تمشي المنايا الى قومٍ فأكرَهُها ... فكيف أمشي إليها عاريَ الكتِفِ
حَسِبْتُ أنّ نفاد المالِ غيّرني ... أو أن قلْبيَ في جَنْبَيْ أبي دُلَفِ
فأحضرهُ أبو دُلَف وقال له: كم أمّلَت امرأتُكَ أن يكون رزقُك؟ قال: مائةَ دينار، قال: وكمْ أمّلْتَ أن تعيشَ؟ قال: عشرين سنة، قال: فلكَ عليّ الذي أمّلْتَ وأمّلَتِ امرأتُك في مالي دون مالِ السلطان. وأمرَ بدفعِ ذلك إليه. قال: فرأيتُ وجهَ ابن أبي دُلَف يتهلّل، وانكسر ابن أبي البَختري. وقال الآخر:
أسَرْنا كما قد عوّدَتْنا رِماحُنا ... لدَى مَعْرَكِ الخيلينِ، والنَّقْعُ ثائِرُ
أخبر أنه أسَرَ عدوًا واستطرد الكلامَ الى أنه معوَّدٌ لذلك. ومنها:
باب التقسيم
قال نُصَيْب:
ولمْ أرضَ ما قالتْ، ولم أُبدِ سَخْطَةً ... وضاقَ بما جَمْجَمْتُ من حُبِّها صدري
فقال فريقُ الحيِّ لا، وفريقُهُم ... نعَمْ، وفريقٌ قال ويْحَك ما نَدري
وليس في جوابِ من سألَ عن شيء غير ما ذكرَهُ. وهذا البيتُ رواهُ الأخفشُ على ما أثبتُّه وأعرِفُه من شِعرِه:
فقال فريقُ القومِ لمّا نشدتُهم ... نعَمْ وفريقٌ لَيْمُنُ اللهِ ما نَدري
وقال الشمّاخ يصفُ صلابةَ سنابِكِ الحمارِ وشدةَ رهْصِهِ الأرض:
متى ما تقَعْ أرساغُهُ مُطمَئنّةً ... على حجَرٍ يرفضُّ أو يتدحْرَجُ
وليس في وصفِ الوطء الشديد إلا أن يكون الذي يوطأ رخْوًا فيرفَضُّ، أو صُلبًا فيتدحرج. وقال زهير:
يطْعَنُهُمْ ما ارتَمَوْا، حتى إذا اطّعنوا ... ضارَبَ، حتى إذا ما ضارَبوا اعْتَنَقا
وقال عنترة:
إنْ يَلْحقوا أكرُرْ، وإن يسْتَلْحِموا ... أشْدُدْ، وإن يُلْفَوْا بضَنْكٍ أنزِلِ
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
تَهيمُ الى نعمٍ، فلا الشملُ جامعٌ ... ولا الحبْلُ موصولٌ، ولا الحبُّ مُقْصِرُ
ولا قُرْبُ نُعْمٍ، إنْ دنَتْ، لك نافِعٌ ... ولا نأيُها يُسْلي، ولا أنتَ تَصْبِرُ
فأخذ الخارجيّ هذا المعنى فقال:
وكذّبتُ طَرْفي فيكِ والطرفُ صادِقٌ ... وأسمَعْتُ أذني فيكِ ما ليس تسمعُ
ولم أسكُنِ الأرضَ التي تَسْكُنينَها ... لكَيْلا يقولوا: صابِرٌ ليس يجْزَعُ
فلا كمَدي يفْني، ولا لكِ رحمةٌ ... ولا عنكِ إقْصارٌ، ولا فيكِ مطْمَعُ
وقال قيسُ بن ذَريح:
فإنْ تكُنِ الدُّنيا بلبْنى تقلّبَتْ ... فللدّهْرِ والدنيا بطونٌ وأظْهُرُ
لقد كان فيها للأمانةِ موضِعٌ ... وللقلبِ مُرْتادٌ وللعينِ منْظَرُ
وللحائمِ الصَّدْيانِ رِيٌّ بقُرْبِها ... وللمَرحِ الذّيّالِ طِيبٌ ومَسْكَرُ
وقد استحسن أهلُ الصناعةِ في هذا الباب قوْلَ بشّار بن برد، وهو:
بضَرْبٍ يَذوقُ الموْتَ من ذاقَ طعْمَهْ ... وتدركُ من نجَّى الفِرارُ مثالِبُهْ
فراحوا، فريقٌ في الإسار، ومثلُهُ ... قتيلٌ، ومثلٌ لاذَ بالبحرِ هارِبُهْ
وقالوا: ليسَ في وصفِ من وقع به الظّفرُ ودارَتْ رحَى الحربِ عليه زيادةٌ على ما ذكرَهُ، ومنها:
بابُ التسهيم
1 / 20