74

मुस्तफा नहास

مصطفى النحاس

शैलियों

ولكن يلوح لي أن ذلك الحزب الكبير الذي أسسه مصطفى كامل ومحمد فريد كان قد أتم دوره برحيلهما من هذه الحياة كتمهيد لما بعده، وتوطئة للدور الذي يليه في خطة الأقدار، وسياق الحوادث، ومسيرة الزمن، ومراحل الغد المجهول.

لقد أدى مصطفى كامل وصاحبه فريد الشهيد ما عهدت الطبيعة إليهما بتأديته قبل أن تدخل الثورة المصرية في دور نضوجها، وليس أبلغ في هذا المعنى من كلمة قالها مصطفى كامل نفسه في تفسير رسالته وهي: «إنني أريد أن أوقظ في مصر الهرمة مصر الفتاة، هم يقولون إن وطني لا وجود له، وأنا أقول إنه موجود، وأشعر بوجوده بما آنس له في نفسي من الحب الشديد الذي سوف يتغلب على كل حب سواه، وسأجود في سبيله بجميع قواي، وأفديه بشبابي، وأجعل حياتي وقفا عليه.»

وكأنما كان مصطفى كامل يودع دوره الطبيعي في الثورة حين وقف قبل رحيله من هذا العالم ببضعة شهور يقول على الملأ في خطاب سياسي له: «إننا لا نعمل لأنفسنا، بل نعمل لوطننا، وهو باق ونحن زائلون، وما قيمة السنين والأيام في حياة مصر وهي التي شهدت مولد الأمم كلها، وابتكرت المدنية والحضارة للنوع الإنساني بأسره؟! إن العامل الواثق من النجاح يرى النجاح أمامه كأنه أمر واقع، ونحن من الآن نرى الاستقلال المصري ونبتهج به، وندعو له كأنه حقيقة ثابتة، وسيكون كذلك لا محالة؛ إذ مهما تعددت الليالي وتعاقبت الأيام، وأتى بعد الشروق شروق، وأعقب الغروب غروب، فإننا لا نمل ولا نقف في الطريق، ولا نقول أبدا: لقد طال الانتظار! لقد وجهنا قلوبنا وقوانا وأعمارنا إلى أشرف غاية اتجهت إليها الأمم في ماضي الأمم وحاضرها، وأعلى مطلب ترمي إليه في مستقبلها، ولو تخطفنا الموت من هذه الدار واحدا بعد واحد، لكانت آخر كلماتنا لمن بعدنا: كونوا أسعد حظا منا، وليبارك الله فيكم، ويجعل الفوز على أيديكم، ويخرج من الجماهير المئات والألوف بدل الآحاد للمطالبة بالحق الوطني والحرية الأهلية والاستقلال المقدس.»

كذلك قال مصطفى كامل قبل مماته، كأن نبوءته بسعد المعد المهيأ للدور القادم تطل على الغيب من خلال كلماته، وكأنما كان مصطفى كامل بشيرا بسعد ودوره القادم قبل الإيذان بساعة الرحيل.

سعد زغلول في دور التكوين

كان سعد ربيب الثورة من نشأتها وفتاها البكر وهي في شبابها وريعان قوتها، ورسولها عند إيذان نضجتها، وبطلها الأوحد لتأدية أبلغ جزء في سفر رسالتها، وقائدها المدرب الخبير بحاجتها حين هدأت بعد فورتها، ومنظمها يوم احتاجت إلى التنظيم، وحكيمها يوم استوجبت الحكمة، وما من مطلب لها إلا وجدته فيه وافيا.

وفي الوقت الذي كانت الطبيعة تهيئ فيه البيئة لقبول الفكرة، وتعد الجماعة للنهضة والثورة، وتنضج شعورهم لها على هينة، وتنمي في الخاطر عامة إيمانه بها ويقينه، وتكفل لأدوارها التحضيرية الممهدين والمناسبين لها والموفين بحاجتها ولو راحوا يومئذ ضحيتها - في ذلك الوقت كانت الطبيعة أو القوة المحركة لهذا العالم، والعناية المشرفة على هذا الكون، لا تزال تصنع الرجل الأوحد المنتظر في حينه، المرتقب في أوانه، وقد ادخرته لأخطر مراحلها، وحرصت عليه لأكبر أهوالها، وقدرت في حسابها الذي لا يخطئ أن يكون هو قائد قواتها، وبطل أبطالها، وأن يروح ضمان نجاحها به مواتيا.

لقد جاءت به العناية الإلهية فلاحا من أهل القرى لتستكمل فيه لوازم المحيط، ويتناسب مع أغلبية البيئة، ويشب في أقوى أفق وأصح جو وأوفق وسط؛ ولكي ينشأ صلب العود من بدايته، قوي البدن من حداثته، متفتح الصدر للعواصف من طفولته، يمرح في الحقول، ويرتع في الغيطان، ويسبح في الجداول والأقنية، ويجالد الأقران في الصراع غاضبا أو لاهيا.

جاءت به فلاحا قوي العصب، سليم النسب، منتظم حركة القلب، مفتول الذراع، ممشوق القد، شديد الجلد، مضمور الجسد، في عينيه عمق، وفي وجهه أسد؛ لكي يخيف ويثير الرهب إذا ما حان الدور ووجب، وحتى يتحمل مطال المرانة، ومراحل التدرب، إذ جعلت في خطتها ألا تعجل به شابا فتيا، ولا نحيلا ضاويا، وإنما قدرت أن يتولى الأمر وهو شيخ جاوز الكهولة، وعدى الشباب؛ لتكون آيته أنه الشيخ الشاب، قويا على المحنة والمصاب، جلدا على الصدمات والخطوب، لا حافلا بالشدائد ولا مباليا.

وقد جاءت به كذلك «أزهريا»؛ ليدرس القرآن، ويأخذ عنه قوة البيان، ويكتسب قوة التعبير، وجزالة اللفظ، ولغة الجهاد، وأسلوب الإغراء، وسحر الترغيب، وجلال الترهيب؛ بل ألقت به في صحن الأزهر على حرارة اللهفة على العلم؛ لكي ينضج أكمل نضوج، وينصهر فيه أحر منصهر، ويطيب كل مطاب، ويكب على الكتاب، ويتمرن على الجدل والمناظرة، والمعارضة والمحاورة، والنظرية والبرهان.

अज्ञात पृष्ठ