73

मुस्तफा नहास

مصطفى النحاس

शैलियों

وكان محمد فريد الشخصية الفذة بين الأنصار، والرجل البارز الخليق برياسة الحزب بعد صاحبه، فكان انتخابه عقيب وفاة مصطفى كامل بالإجماع، وراح من ذلك الحين يجاهد ويغترب ويطوف، ويشرف على الصحف الثلاث: «اللواء» وأخويه «لاتندار» و«الاستاندارد»، ويبذل فيها من حر ماله كلما احتاجت إلى المعونة والغياث، ولكن الصحيفتين الأخيرتين استنفدتا أموالا كثيرة بغير جدوى، ومتاعب جمة بغير نجاح.

وكان خلف كرومر على السياسة البريطانية في مصر يجري على أسلوب غير أسلوبه، وهو سير إلدون غورست، فبدأ الضغط على الحزب الوطني يحس شيئا فشيئا، ولكن وطأة أساليبه لم تقتل الحركة القومية، بل كانت عاملا جديدا على تنميتها، وظل فريد في رياسة الحزب يكافح كما كافح صاحبه، وإن لم يكن قد أوتي براعته الخطابية وحماسة لغته.

وحدث في أوائل سنة 1912 أن نشر فريد بك مقالا في صحيفة الحزب عن السياسة الإنكليزية وأساليبها في مصر؛ فاستدعته النيابة للتحقيق معه، وخشي هو المعتقل، فنزح إلى الأستانة قبل أن ينال منه. وقد لبث في أوروبا يومئذ مجاهدا بآخر ما عنده، شريدا في الغرب ، محروما من الأوبة إلى بلاده، حتى نشبت الحرب العظمى وهو في ألمانيا، فقاسى خلال أعوامها السود أشد درجات الألم، وقد نفدت موارده من طول إنفاق على قضية وطنه، وسخي بذل وتفان وإخلاص ووفاء.

وقد شاهده بعض بني وطنه في آخر أيامه يسكن غرفة في سطح بيت، وقد أملق وأدنف وحط السقام على بدنه، وهصر الشقاء عوده، وسمعنا روايات كثيرة عن حياة الشظف التي كان يعيشها في تلك الأيام، وكيف كان يقاسي الخصاصة والفاقة معتزا بكرامته، حريصا على إبائه، شديد الأنفة؛ ولكنا نجد الألم في تردادها، ويحزننا قص تفاصيلها؛ لأنها تدل على مبلغ قسوة العصر على بطل وطني شجاع كريم، إذ كان ينبغي أن ينتشله من تلك المخالب الكاسرة التي نشبت في نفسه، وكان بلا ريب غير عادم سبيلا إلى البر به سدادا لبره، والوفاء له كما كان لوطنه من أكبر الأوفياء.

لقد قضى فريد شهيدا، ولسنا نعلم شخصية سياسية في ذلك الدور من الثورة المصرية كانت أنزه ولا أطهر من شخصية ذلك الوطني الذي أفنى حياته في سبيل بلاده، فقد جاد لها بكل ما ملك، وقضى لأجلها مملقا غريبا نازحا في نسيان مطلق من الناس، وإن ذكراه اليوم لعطرة أريجة، عباقة بنفح ذلك الروح السامي الرفيع الذي ضفا على حياته السياسية في عهد كان يمكن أن يسلم بنفسه، ويرتع في بحابح ثرائه، وينكمش لأثرته، ولا يستمع لوسواس إيثاره دون أن يلام أو يجد عاتبا؛ إذ كذلك كان العصر، وهكذا كانت الحياة، ولكنه كان فوق مستوى البيئة، وأسمى من وهدة الجيل، فما من عجب أن يروح في الشهداء والناس له شهود، والحياة ذاتها متفرجة، والجيل نفسه في كنود وجحود. •••

ومن بعد مصطفى وفريد لم يقم على ذلك الحزب رئيس من طراز أحدهما، ولا كفو شخصيتهما، ولا نظير أو ضريب إخلاصهما، وحين يفقد حزب سياسي مهما تكن رفعة مبادئه الرأس الصالح له والقائد الحريص عليه، لا شك يتحطم جملة واحدة، أو يأخذ في الضعف والخمول والانحطاط.

ولسنا ننكر أن الحزب الوطني بقي بعد فريد أعواما، واحتوى أفرادا أخيارا، وأشخاصا إخوان نزاهة وسمو أحاسيس؛ ولكن هؤلاء إنما جاءوا على فترة من السنين، وظهروا على شتيت متفرق وحزب مبعثر منتثر، فلم يستطيعوا أن يهدوه إلى سواء السبيل.

ومنذ أصيب هذا الحزب بنكبته في رئيسيه الأولين، جعلت الأهواء تتلقفه، والمنازع الشخصية تتلاعب به، وأيدي الشر والسوء تتناوله؛ فلم يلبث أن فقد اتجاهه، وضل على الطريق، وذهب أفراده ضاربين في كل ناحية.

وقد تلاشت هذه الجماعة كحزب من زمن بعيد وعهد طوال، وإن بقي ثم أشخاص يتشبثون بأنهم حملة تراثه ووراث تركته؛ ولكن هؤلاء إذا صح ما يدعون، كانوا أسوأ الوارثين.

لقد أصبح هؤلاء المتشبثون ببقاء النسبة فيهم لمبادئ مصطفى وفريد في أدوار متعاقبة وظروف محن طارئة، أدوات في أيدي الوزارات المتحكمة، وذيولا للطغاة والمعتدين.

अज्ञात पृष्ठ