हड्डी का संगीत
موسيقى العظم
शैलियों
عندما جاءت حبيبته في ذلك الصباح وجدت الباب مغلقا كالعادة فاستخدمت مفتاحها الخاص، لما ولجت البرندة الكبيرة سمعت جلبة غير معتادة في داخل المرسم، بل ضجيجا، تعرف عن حبيبها الهدوء، لكنه أيضا قد يمارس الفوضى؛ حيث إنه كثيرا ما يقوم بتحطيم أعماله الفنية بعنف وهمجية إذا لم يرض عنها، وأحيانا يستخدم في ذلك فأسا ورثها عن جده، أو عصا أو حجرا أو كرسيا أو ما شاء، صاحت فيه أن يكف، ظلت الجلبة باقية، فقامت بدفع باب المرسم بكل ما أوتيت من قوة، فلقد كانت من نوع تلك البنيات جيدات التغذية، فانفتح.
لم يمض وقت طويل على حضور الجيران عندما علا صراخها، بل إن البعض قد شاهد النسور الضخمة تخرج مندفعة من باب البرندة لتحلق في السماء فاردة أجنحتها الذهبية اللامعة في هواء يناير الساخن، وفي الداخل كان الهيكل العظمي الحزين يرقد مبللا بالدم الطازج، يحملق عبر خواء العينين نحو الفراغ.
الفاشر
31 / 10 / 2007
أنا، الأخرى، وأمي
عمري الآن خمسون عاما، وهو نفس عمر أمي حينما توفاها الله منذ ثلاثين سنة بالكمال والتمام، وأحكي الآن عنها ليس من أجل تخليد ذكراها الثلاثين، كما يفعل الناس؛ أن يحتفوا بذكرى وفاة أمهاتهم اللائي يحببن، ولو أنني أحبها أيضا، إلا أنني أحكي الآن عنها تحت ضغط وإلحاح روحها الطاهرة، أقول ضغط وإلحاح، وأعني ذلك، على الرغم من أن أمي ماتت منذ أكثر من ربع قرن إلا أنني لم أحس بأنها ميتة؛ لأنها بالفعل لم تك كذلك، إنها أخذت إجازة طويلة ونهائية عن مشاغل الدنيا الكثيرة ومني أنا ابنها الوحيد بالذات، رفيق شقائها وسعادتها، ولكن أمي حالما تراجعت - مع مرور الزمن - عن فكرة الإجازة بعد ثلاثين عاما فقط، وثلاثون سنة في زمن الموتى - كما تعلمون - ليس بالكثير، يقال إن موتهم قد يطول إلى الأبد.
بالأمس القريب بعدما قضيت نهاري الطويل في المدرسة؛ حيث أعمل مديرا في مرحلة الأساس، وأنفقت مسائي البائس في نادي المعلمين ألعب الورق وأثرثر، عدت مرهقا للبيت الذي أقيم فيه وحدي ، بعد أن تزوجت أكبر بنياتي في هذا الأسبوع وذهبت مع زوجها تدب في بلاد الله الواسعة، مثلما فعلت ابنتاي اللتان تصغرانها عمرا في السنتين الماضيتين، وتزوجت زوجتي أيضا قبل أكثر من عشر أعوام من رجل يقولون إنه حبيبها الأول، بالطبع بعد أن طلقتني عن طريق محكمة الأحوال الشخصية بدعوى أنني لا أنفع كزوج أو رجل وأنها كرهتني، ويعلم الله أنني لست بالشخص البغيض، والدليل على ذلك أن بناتي الثلاث اخترن أن يبقين معي في البيت ورفضن أن يذهبن معها إلى بيت والدها ثم إلى بيت زوجها الجديد، فمن منا البغيض والمكروه؟ هذا موضوع لا أحب أن أتطرق إليه إطلاقا، فهي على أية حال أم بنياتي الثلاث، كنت مرهقا، زحفت إلى سريري زحفا، رميت بجسدي على اللحاف الطيب الحنون، فهو آخر ما تبقى لي من أم وزوجة وبنات، كان المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان باحتضانه لجسمي النحيل الهرم، كعادتي أترك إضاءة خافتة فاترة تصدر من لمبة ترشيد استهلاك صينية صغيرة بخيلة إلى الصباح، وكدت أن أغمض عيني حينما سمعت كركرة كرسي على البلاط، ثم رأيت على ضوء النيون الترشيدي الصيني البخيل امرأة شابة تسحبه نحوي ثم تجلس عليه، قرب رأسي مباشرة، تحملق في وجهي بحنية لا تخطئ، ولو أنه كان لوحيد مثلي أن يخاف، بل أن يجن من الخوف، إلا أنني صحت في دهشة وترحاب غريبين: الله! أمي آمنة!
ابتسمت المرأة الشابة الجميلة الحنون، وقد بدأت تتحدث في هدوء، حكت قصة حياتي منذ ميلادي بالدقيقة والثانية، حدثا حدثا، أخذت أستمع إليها في صمت وتعجب كأنما من يحكى عنه ومن يحكى له ليس سوى صنوين لي ضالين، كنت أكتشف تدريجيا أن حياتي كلها معصية، وأنني كنت أجري وراء ملذات الدنيا وسقطاتها، ولو أن بعض الحوادث كانت تشير بوضوح إلى نبلي ونقاء سريرتي إلا أن المحصلة النهائية تبدو كما ذكرت، لا أدري كم من الزمن مكثت تحكي قرب رأسي، ولكنها بلا شك بقيت هنالك زمنا طويلا، ولا أدري كم حكاية حكت، ولكنها بلا شك حكت حكايات شتى، ولا أعرف متى نمت ولكني بلا شك قد نمت متأخرا جدا؛ لأنني لم أستيقظ كعادتي - مثلي في ذلك مثل كل مديري المدارس - عند الرابعة صباحا، بل أيقظني خفير المدرسة مندهشا في فسحة الفطور حوالي العاشرة والنصف صباحا، وثأثأ فيما يعني أن الجميع افتقدني، لقد كان أخرس ذا لغة ملتبثة، بقيت في رأسي جملة واحدة من كلامات أمي: أنا كل يوم معاك لحظة بلحظة.
لم أحك لأحد ما دار بيني وبين أمي خوفا من السخرية والشماتة أو أن أتهم بالجنون، وربما قد أفقد وظيفتي إذا تأكدت الإدارة من أنني جننت، وخاصة أن للبعض مصلحة في أن أبعد، بصراحة لدي أعداء كثر، تكتمت على الأمر، اتصلت بي ابنتي الكبرى أمونة سميتها على أمي، سألتني عن صحتي وعن الوحدة ولمحت لي بأنه يجب علي أن أتزوج ولو من امرأة كبيرة في العمر؛ لأنني - في تقديرها - أحتاج إلى رفيق في وحدتي، وأنها تعرف أربعينية جميلة مطلقة لها طفلان، ادعيت بأنني لم أفهم ما ترمي إليه، ربما لأنني لا أرغب في الزواج؛ فقد أصبحت المرأة عندي كائنا جميلا يصلح لكل شيء ما عدا الزواج، في هذا المساء كنت مستعدا لمحاضرة أمي آمنة، جاءت وكانت في كامل شبابها وجمالها في أثواب نظيفة ملونة زاهية تشع بهجة، قالت لي: ظاهر عليك الليلة جاهز من بدري.
فجأة خطرت لي فكرة غريبة، وشرعت في تنفيذها مباشرة، هكذا أنا أفكاري في أصابعي، مددت أصابعي نحوها متحسسا أثوابها، فإذا بكفي تقبض الهواء، تمام الهواء، أما هي فقد اختفت، سمعت نداءها يأتي من أقاصي الغرفة قائلة بصوتها الذي لم يفقد حلاوته طوال السنوات التي قضتها تحت التراب: أنا صورة وصوت، صورة وصوت فقط.
अज्ञात पृष्ठ