إهداء
طفلان وباتريشيا
ضلاية
فيزياء اللون: إلى صلاح إبراهيم
أنا، الأخرى، وأمي
ذاكرة الموتى
موسيقى العظم
طائر، أسد، وجحوش
وصمة وطن
حناء ... الجسد
زوج خريفية
طقس الذنب
الرجل الميت
فنطاسيا الشبح
الأم
إهداء
طفلان وباتريشيا
ضلاية
فيزياء اللون: إلى صلاح إبراهيم
أنا، الأخرى، وأمي
ذاكرة الموتى
موسيقى العظم
طائر، أسد، وجحوش
وصمة وطن
حناء ... الجسد
زوج خريفية
طقس الذنب
الرجل الميت
فنطاسيا الشبح
الأم
موسيقى العظم
موسيقى العظم
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى السيد المسيح وأمي مريم: لقد غنينا معا، جعنا معا، صلينا معا، صلبنا معا، وها أنا ذا أحتفل بقيامتي وحدي.
عبده بركة
طفلان وباتريشيا
1
كل من في الحي الصغير بقشلاق السجون في مدينة القضارف، تلك الأيام، يتحدث فقط عن السكان الجدد، الذين استغلوا البيت الفارغ المجاور لبيتنا مباشرة، بيننا باب جيران صغير فتحه الساكنون القدامى.
أسرة صغيرة تتكون من زوج فقط، تعمل الزوجة جاويشا بالسجن، يقال إن الزوج يمتهن صناعة كراسي الخيزران، طالما لم يكن بالقضارف خيزران، فإنه لا يعمل شيئا، سيبقى عاطلا عن العمل، إلى أن يتم تجنيده بشرطة السجن.
2
أخي الأكبر وأنا، صغيران، هكذا يتم وصفنا من حين لآخر، ننصح دائما بألا نستمع لونسة الكبار وتعليقاتهم، مما يحرمنا الاستمتاع بالمعلومات القيمة عنهما؛ لذا كنا نحاول جهدنا أن نتحصل على الأخبار بأنفسنا، مباشرة من المصدر: الزوج سانسو وباتريشيا.
وذلك عبر الباب الصغير، التصنت من خلال صريف القصب القديم، عن طريق خرم الجرو، قدة الكديس أو كسرة الشباك.
3
الحوارات في الغالب، تجري بلغة محلية صعبة، عرفنا فيما بعد أنها لغة الباريا، لكنا دائما ما نجد معنى لما لم نفهم، معنى نفهمه، أما الأفعال فما كانت تحتاج منا جهدا كبيرا لفهمها.
4
التقط أخي بأذنيه الوطواطتين، قولا - لعطا المنان مقدرة خارقة في سماع حتى ما يهمس به - قال لي: الليلة باتريشيا عاملة شكلة مع سانسو. - كيف عرفت؟ - أمي قالت لأبوي: باتريشيا مشاكلة سانسو.
بإشارة نستخدمها دائما، نطلقها من عيوننا، مصحوبة بحركة من الشفتين ورفسة سريعة من قدم لقدم ، تعني: أرح نشوف، اتخذنا مواقعنا، أنا عند قدة الكديس، عطا المنان عند خرم الجرو؛ لأنه الأكبر فهو دائما ما يحتفظ لنفسه بالمكان الأفضل.
5
البيت هادئ، لا ينتج شيئا مفيدا، لا، حتى مجرد همسات قد تؤول إلى مقصد لذيذ بقدر بسيط من إعمال الخيال، لا حياة، فجأة خرج سانسو من القطية، في فمه كدوسه، كدوسه الكبير الشهير، ظل واقفا يدخن في قلق، يرسل خيوطا من الدخان في الهواء بهدوء حذر إلى أن أتت باتريشيا، وضعت كرسي الخيزران خلفه مباشرة، جلس دون أن يطلق صوتا، وضع رجلا على رجل، استمر في مهمة إطلاق الدخان، جاءت باتريشيا بكوب ماء قدمته إليه بناء على طلبه - هكذا ظن أخي - أو من تلقاء نفسها - ظننت أنا - لي وله مبرران مختلفان، لنا شك واحد، عندما تناقشنا في الأمر وقد أصبحنا رجلين كبيرين: إنه طقس سري سحري، لم تتح لنا فرصة التعرف إليه إلى الآن.
أمسك بالكوب، نظر في وجهها، كان أسود لامعا به عينان كبيرتان، كبيرتان؛ كل الناس يقولون ذلك، ألقى بالماء كله في وجهها في دفعة واحدة، رمى بالكوب بعيدا، رطن جملة قصيرة أدخلت الخوف في نفسينا، لولا إصرار عطا المنان على البقاء ومتابعة الحكاية للآخر لهربت مهرولا، لم تقم برد فعل ما يظهر غضبها، دخلت القطية، عندما عادت كانت تحمل عودا غليظا، هب سانسو واقفا وبدأت المعركة، في سرعة البرق تجمعت نساء الجيران في متعة معروفة في تلك الأنحاء، كن يشاهدن العراك العنيف الذي يدور بين الساكنين الجدد، لم يقض على متعتهن في إصدار الأصوات التي لا تعني شيئا إلا حضور أبي وجارنا مرجان كافي إلى ساحة المعركة، قضيا على العراك بالفصل بين الزوجين، منقذين سانسو - كما بدا لنا - من جلدة ساخنة.
6
أخي عطا المنان وأنا انتظرنا بعيدا قرب المرحاض العام المهجور، بالرغم من خوفنا منه؛ حيث إنه مسكون بالشياطين، إلا أنه كان النقطة الأمثل لمتابعة ما بعد المعركة مع تجنب الوقوع في قبضة أحد الكبار، خاصة جارنا العم مرجان كافي أو أبي، وفوق ذلك كله يتيح لنا رصد تحركاتهما.
7
باتريشيا تغسل رجليها الطويلتين وهي جالسة على كرسي من الخيزران عال، تلبس ذات الفستان الذي أدارت به المعركة ضد زوجها، كانت صامتة تتجاهل تماما سانسو الجالس على كرسي الخيزران الآخر، قد اعتدل مزاجه فعاود إطلاق الدخان مرة أخرى، عندما فرغت من غسل ساعديها ووجهها مسحت شعرها، قالت لي: تعال.
دق قلبي بشدة، هرب عطا المنان إلى جهة لا أدريها، قد لا يدريها هو نفسه، أما أنا فقد تسمرت في مكاني من هول المفاجأة؛ لأنني ما كنت أظنها ترانا، قلت لها بفم جاف، لسان ثقيل وشفتين باردتين، ما معناه: أنا؟ - أيوا، إنت يا ود مريم.
ودون تفكير أدخلت رأسي كلها في قدة الكديس، زحفت إلى أن مر جسدي كله عبر الخرم، ثم نهضت، نفضت التراب والقش عن ملابسي أمامها فيما يعني: أنا تحت الطلب.
أخرجت من بين ثنيات شعرها جنيها، قالت لي: امشي الدكان، جيب لي حجار بتاع بطارية، يديك أبو كديس، أوعك تجيب أبو نمر سامع؟ أبو كديس.
انطلقت في سرعة البرق نحو دكان صالح اليماني، خلفي عطا المنان الذي لا أعرف من أي جب خرج، قلت له بين أنفاس متلاحقة: وقالت لي شيل الباقي كمان.
8
أجلستنا على عنقريب عجوز تفوح منه رائحة حبال السعف، تحت الراكوبة، ليس ببعيد عن سانسو الذي كلما خلص تباكو كدوسه عبأه مرة أخرى، قدمت لنا طبقا مملوءا بالسمسم المطبوخ بالسكر، ثم أدارت الأسطوانة في أغنية جالو، اختفت لبعض الوقت ثم عادت تلبس فستانا جميلا قصيرا جدا وحذاء له كعب عال، قبل أن نتمكن من أن نندهش أخذت ترقص بجدية وجمال رهيبين، همس أخي في أذني، خائفا: أرح نمشي البيت.
نهضنا في لحظة واحدة متجهين ناحية الباب، لكنها تقدمت نحونا وهي ترقص وفي فمها ابتسامة كبيرة، تبدو من خلالها أسنانها البيضاء بيضاء، أمسكت كل منا بيد وأخذت تطوعنا على رقص أنغام الجالو، مشجعة إيانا بصوتها القوي، مما زاد مخافات عطا المنان، أخذنا نجاريها في الرقص الذي لم يكن غريبا علينا ؛ حيث إن كل من في قشلاق السجون يجيد رقص الجالو، ولكن تخيفنا مناسبة الرقص الغامضة، إنها لم ترق لأخي كثيرا؛ حيث إنه أخذ يعرق بشدة قبل أن يتمكن من انتزاع يده من بين أصابع باتريشيا الطويلة، ويختفي نهائيا، قالت لي برفق وهي ترقص مقربة وجهها من وجهي، مما جعلني أحس بنفسها دافئا في جبهتي، ورائحة عرقها تملأ أنفي تماما، رائحة غريبة لم أشمم مثلها في حياتي، ربما هي التي تحكمت في ردي: عايزة تمشي أنت برضو؟
قلت وأنا أستنشق الهواء المشحون برائحتها: لأ.
قالت وهي تقترب أكثر من وجهي: حترقصي مع باتريشيا؟
قلت: أيوا.
وأخذنا نرقص الجالو، كانت طويلة جدا، لا أدري كم يرتفع رأسها من سطح البحر.
أنا كنت قصيرا صغيرا، ربما في العاشرة من عمري، وقد لا أكون قد تجاوزت المتر طولا، بالكاد يوازي رأسي وسطها؛ لذا كانت تنحني بين فينة وأخرى مشجعة إياي قائلة: هيا، هبا هبا، سوا سوا.
فيندفع نحوي نفسها دافئا، لذيذا وغريبا.
9
سانسو يرسل الدخان في الفراغ متجاهلا رقصنا وإيقاعات الجالو الصاخبة، بدا لي باردا، بل لحد ما حزينا.
لكنه فجأة أصدر صوتا غليظا، نحى صخب الجالو جانبا، اخترق أذني في بحة ثقيلة: يا ود مريم، يلا امشي بيتكم، بلاش كلام فارغ معاكي.
نفض كدوسه واتجه نحونا، قلت له بتحد وأنا أتمسك بأصابع باتريشيا الطويلة: ما ماشي؟
رمقني بنظرة شريرة: يا ود مريم اسمعي الكلام.
أخذتني باتريشيا في صدرها، غمرتني رائحة من جسدها عظيمة، قالت: امشي البيت خلاص يا ود مريم، الأسطوانة خلاص انتهت، يوم تاني نجيب حجار بتاع بطارية، ونرقص سوا سوا.
قلت وأنا ألتصق بصدرها بشدة: ما ماشي البيت.
دون أن تقول كلمة واحدة مشت بي نحو الباب الصغير الفاصل ما بين بيتنا وبيتهما، وفعلت فعلة شنيعة؛ حيث إنها نادت أمي طالبة منها أن تأخذني، عندها سمعت صوت أبي يهتف بغلظة طالبا من أمي أن تسلمني له ومعي الحزام، لكني قفزت من صدر باتريشيا هربا عبر باب الشارع إلى حيث لا يدركني أبي.
10
جاء إلي عطا المنان، وجدني جالسا على مسطبة الماسورة القديمة المتعطلة عند الخور، جوار المدرسة الثانوية، أحاول جاهدا إيجاد تفسير لما فيما مضى من أحداث مرت كالبرق، في الحق كنت أتتبع بقايا رائحة جسدها في أنفي، حيث بدأت واهنة بعيدة غالية، وجدني أتشمم الهواء مثل جرو صغير يبحث عن الاتجاه الذي ذهبت إليه أمه، قال لي مندهشا: قاعد تعمل كدا ليه؟ - الريحة.
قال وهو لا يفهم شيئا أو متجاهلا: دخلوا جو القطية. - متين؟ - هسع، أرح نشوف بكسرة الشباك، أمي قالت لأبوي: سانسو حيضبح مرتو؟ أبوي قال ليها: بطريقتم.
11
عبر قدة الكديس دخلنا على أطراف أصابعنا، تسللنا إلى الداخل، من كسرة الشباك رأينا: سانسو جالسا على كرسي خيزران يرسل الدخان بعيدا، باتريشيا ترقص الجالو بدون موسيقي فعلية، كانت تغني هي بنفسها وترقص، استطعنا أن نرى البيكاب مرميا على الأرض، حوله تتناثر الأسطوانات لامعة جميلة ومهملة، قلت لعطا المنان: إذا طلق سانسو باتريشيا أنا حأتزوجها.
قال لي دون مبالاة: لكنها طويلة. طويلة شديد وسمينة.
لم أهتم بحجته الواهية التي لا تخلو من حسد؛ لأنني كنت واثقا من أنني سوف أكبر وأصبح طويلا مثلها وسمينا، قلت له: الطول ما مشكلة، بس كيف سانسو دا يطلقها لي؟ أنا أكرهو، أنت بتكرهو ولا لأ؟
12
لم أشعر باقتراب الكارثة إلا عندما التفت إلى أخي عطا المنان؛ حيث كنت انتظر منه إجابة ما ولم أجده، لقد استخدم أجهزة إنذاره المبكر وهرب في الوقت المناسب تاركني لأبي الذي بيد خشنة قوية، بغضب، بصمت كريه، سحبني من خلف الشباك، قابضا على أذني بقسوة.
ومثل تيس عاق جرني عبر بوابة الجيران الصغيرة إلى البيت، وباقي القصة معروف لديكم.
الحي الجنوبي
إبريل 2006
المجروح
ضلاية
زوجتي هي التي أصرت على العودة إلى البيت على الرغم من أننا استطعنا أن نأخذ أطفالنا الخمسة جميعا معنا إلى الجبل، الشيء الذي لم ينجح فيه الكثيرون؛ حيث إن ضجيج الطائرتين المقاتلتين أربك الناس كلهم، وجعل الأطفال يهربون في كل اتجاه، مما صعب مهمة الآباء والأمهات في إنقاذ جميع أطفالهم، وخاصة أن بعض الأسر لديها أكثر من عشرة أطفال، وكثير من الأسر لا آباء أو ذكور ناضجين بها، فإما أنهم مقاتلون في الجبهات، وإما أنهم قتلوا، أو مهاجرون في أنحاء السودان الأخرى؛ بحثا عن العمل، طلبت منها أن ننتظر قليلا حتى نتأكد من أن جميع الجنجويد الذين قاموا بالهجوم - بعد أن مضت الطائرتان - قد غادروا القرية، وكنا نرى الدخان من موقعنا ولكنا لم نستطع أن نرى حركة الجنجويد؛ فإنهم يعملون بسرعة، يقتلون من يقع تحت بصرهم؛ إذا كان رجلا، ويغتصبون من كانت امرأة، وهم في ذلك لا يفرقون ما بين من هن طفلات ومن هن ناضجات، أو عجوز، ينهبون ويحرقون القطاطي، ولكن كل شيء يتم بسرعة بالغة، وقد يأتي بعدهم الجيش النظامي أو لا يأتي، ودائما لا يخشى الناس الجيش النظامي كثيرا؛ لأنه في الغالب يتعامل مع المسلحين فقط.
ولا يوجد مسلحون في القرية. ولكنهم أيضا لا ينتظرون من الجيش النظامي أن يحميهم من الجنجويد، المهم أصرت زوجتي أن نعود طالما لم يكن هنالك جنجويد ولا خوف من الجيش النظامي، فهي تخفي إرث أسرتها كله من الذهب في القطية، وتظن أننا قد نستطيع أن ننقذ شيئا من الثروة تساعدنا على العيش في معسكر النازحين إذا استطعنا أن نصل إليه في تخوم مدينة نيالا، حيث لا جدوى من البقاء في ضلاية مرة أخرى، وجدنا عددا كبيرا من الأهل والجيران قد سبقونا إلى القرية، وتوافد آخرون بعدنا، كانوا مثلنا يتخفون من المهاجمين عند الجبل الوعر، كل أسرة تهرول الآن تجاه بيتها أو ما تبقى منه، قليل من القطاطي هي التي سلمت من الحريق، ولكن كل البيوت قد نهبت تماما، وجد بعض الرجال وجلهم من كبار السن قتلى، بعض الصبيات المغتصبات يبكين ويرتجفن من الخوف والإحساس بالعار، كانت «ضلاية» قرية صغيرة تقع غرب مدينة نيالا في إقليم دارفور، بها مائتا أسرة فقط وحوالي ثلاثمائة قطية مبنية من قصب الذرة والقش، محاطة بجبل وعر من جهتي الشمال والشرق، وفي جهة الجنوب يحتضنها أحد روافد وادي «برلي» الكبير، ويطمر بمائه سهلا خصبا يمتد عشرات الكيلو مترات، يستغله السكان القرويون في الزراعة، فوجود القرية على ضفة الوادي، ما فوق السهل وبين هذه المرتفعات جعلها تصبح مثل كومة من البيوت متلاصقة متراصة مع بعضها البعض؛ لذا كان صراخ زوجة آدم التجاني وطلبها المساعدة قد سمع في كل بقاع القرية، وحمل الرجال ما لديهم من أسلحة بلدية ومضوا نحوها تلحق بهم النسوة والأطفال، كانت «أية» زوجة آدم التجاني تقف عند راكوبتها المتهالكة قرب قطيتها المنهوبة وهي تصرخ وتشير بيدها إلى مخلوق لا تبين ملامحه جيدا، يغطيه ركام الراكوبة، تقول إنه جنجويد!
هتف أخي منصور بكل ما لديه من صوت: جنجويد ود البقس!
وأراد ومعه آخرون مهاجمته إلا أنني أوقفته خوفا من أن يكون الجنجويد مسلحا، نصح البعض بأن نحرقه وهو في الراكوبة المتهالكة، آخرون كانوا يفضلون دفعه على الخروج ثم ذبحه أو تقطيعه حيا، وأقسمت امرأة مغتصبة أنها سوف تأكل كبده، هتفنا فيه أن يخرج وإلا قمنا بإشعال النار في الراكوبة وبذلك سيشوى حيا، وكاد البعض أن يفعلها لولا أنه زحف خارجا من القطية، كان سمينا ذا شعر كثيف، له وجه طفولي مستدير، يحيط نفسه بالتمائم والأحجبة، لونه بني، تحت إبطه طفلة صغيرة يبدو أنها مغمى عليها، يضع سكينا كبيرا في نحرها علامة تهديد بأنه إذا هوجم سيقوم بقتلها، كان مصابا إصابة واضحة وبالغة في رجله اليسرى وتبدو عمامته التي يربط بها الجرح حمراء تماما من الدم، ولكن ما استغرب له الناس جميعا هو أن الجنجويد لم يكن سوى آدم راشد، ولد (العم) راشد الأبالي المعروف في كل القرى التي تقع على مسير أو درب العرب الرعاة، كانت تربطه أواصر صداقة وتجارة ونسب بسكان ضلاية، إحدى نسائه هي عمتي سعدية بت أبو علوية، وكان يبيع السمن والجمال الذكور إلى الناس في القرية ويشتري الذرة والعسل والصابون من القرويين، بل إنه كان يترك كثيرا من حيواناته التي كبرت في السن ولا تستطيع المسير إلى بحر العرب في الصيف وبعض الجمال الصغيرة التي لا تتحمل الظعن، يتركها في القرية أمانة في منزل جدي (أبو علوية) الذي يقوم بسقيها وإطعامها طوال فصل الصيف، وأن ابنه آدم راشد، هذا الجنجويد هو أخي في الرضاعة.
طلبت منه شخصيا أن يترك البنت التي تبدو كالميتة الآن ويسلمها لأمها، وذكرته بأننا نعرفه وهو ليس غريبا عن هذه القرية ولا أهلها وأن أباه العم راشد رجل يحترمه الجميع هنا، وذكرته بأنه أخي في الرضاعة، أخي أنا زكريا ود يس، ولكنه اشترط علي أن أحلف قسما على كتاب الله بألا أدع الناس يقتلونه، وإلا قتل الطفلة ومات معها، أحضرت أم الطفلة مصحف قرآن محروق نصفه؛ حيث لم يوجد مصحف سالم في الجوار، حرقت المصاحف مع القطيات، حلفت على المصحف الحريق فترك الطفلة؛ حيث إن أمها خطفتها من بين يديه وهرولت بها بعيدا محاولة إنعاشها أو إحيائها من جديد، حاول الناس الإجهاز عليه إلا أنني وبعض الشيوخ طلبنا من الناس المشورة أولا وأن يحترموا قسمي على المصحف، فعلوا وتفرقوا كل إلى مأساته، أما الجنجويد آدم راشد، حيث إنه لا يستطيع الهرب؛ نسبة لجرحه البليغ؛ قمت بتركه قرب الراكوبة ذاتها مع ربط رجله السليمة على وتد كانت تربط به الجحش، ثم قمنا جميعا - نحن الرجال - بدفن الموتى في قبر واحد كبير؛ حيث لا وقت ولا طاقة لنا بتخصيص قبر لكل واحد من الموتى العشرين، من ثم لحقت بزوجتي وأبنائي الذين وجدتهم يعملون بجد في البحث عن كنز أمهم تحت رماد قطيتنا المحروقة.
الجنجويد (همس)
أنت تحس الآن بالندم، بل بالخوف؛ لأنك ما كنت لتندم لو استطعت الانسحاب مع زملائك الجنجويد بسلام، بدلا من الندم لكنت الآن تستعيد ذكريات القتل والاغتصاب الممتعين مع أصحابك على رائحة شواء الأغنام المنهوبة ولسعة عرقي البلح المنعشة، مثلما حدث عقب عشرات الغزوات التي أنجزتها بنجاح مع رفاقك، والذين يحتفلون الآن في مكان ما، ويذكرونك ضمن الأموات والمفقودين، ووفقا لقانون سري صارم تعملون به، إنه لا رجعة للبحث عن مفقود أو دفن مقتول، ولكنك أيضا بدأت تحس بالندم؛ لأنك هاجمت هذه القرية بالذات، قرية ضلاية واغتصبت الطفلة التي تعرف أمها جيدا وأباها وكل أسرتها، القرية التي جئتها صغيرا مريضا حيث تركك والدك راشد الأبالي في منزل أبي علوية صديقه؛ لأنه لا يستطيع أن يظعن بك وأنت مريض تحتاج إلى علاج لا يوجد في الفلوات والمفازات، ولو أنه ليست هنالك مستشفى أو عيادة بالقرية، إلا أن أبا علوية نفسه يعمل كطبيب بلدي، وهو غالبا ما ينجح في علاج القرويين من أمراض مثل الملاريا والبرجم والحصبة وفقر الدم، وحتى السعال الديكي واليرقان، ولأن أمك مضت مع أبيك نحو بحر العرب؛ طلب أبو علوية من أخته أن تقوم بإرضاعك مع طفلها زكريا ود يس، أنت الآن لا تنسى كل ذلك، تذكره وتذكر طفولتك الأولي ولعبك مع أقرانك في شعاب القرية، الطريق إلى المدرسة في قرية (كويا) البعيدة، والسباحة في الوادي والرقص والغناء مع البنيات والصبايا في ليالي ضلاية المقمرة، ولم تذهب مع والدك إلا وأنت في الثامنة من عمرك، وكنت تحفظ القرآن وتتحدث لغة أهل ضلاية بطلاقة، إلى الآن تجيد التحدث بها، تحس بالخوف؛ لأن جرحك ما لا يزال ينزف وهو يؤلمك بشدة، كما أنك لا تستبعد أن يتسلل إلى مكانك أحد القرويين الذين فقدوا أعزاءهم وممتلكاتهم ويقوم بالانتقام منك بقتلك، أو أن تقتلك أم الطفلة التي اغتصبتها، ربما تكون قد ماتت الآن، وبينما أنت ما بين خوف وندم قفز في ذهنك سؤال عصي: لماذا قمت بما قمت به؟ وهنا مر أمامك شريط طويل من الأحداث، بدأ بالرجل الغريب الذي اجتمع بأبيك، وكيف أن أباك تشاجر مع الرجل، ثم بموت أبيك المفاجئ بعد ذلك، ثم بعودة الرجل الغريب مرة أخرى ومعه غرباء آخرون وبعض شيوخ وشباب رعاة الإبل، كانوا يطوفون على الفرقان ويقنعون الناس بالتدريب على حمل السلاح وفنون القتال من أجل حماية إبلهم وفرقانهم من النهب المسلح واللصوص، وبعد أن تدربوا على حمل السلاح تحدث الغرباء عن الأرض والحواكير والأودية والمراعي والعرب والزرقة ، ولأول مرة تعرف - كنت في العشرين حينها - أنك من العرب وأن سكان ضلاية وغيرها من الزرقة. لقد شرح لكم الغرباء العارفون بكل شيء الذين يوزعون السلاح والمال بكرم وسخاء عظيمين من هم الزرقة ومن هم العرب، واندهشت مرة عندما أكد الغرباء لكم أن قبيلة ما من العرب ثم عادوا مرة أخرى وقالوا لكم إنها من الزرقة؟ قطعت سليل أفكارك حركة أقدام تقترب منك.
زوجتي الشريرة
قررنا جميعا أن نغادر إلى مدينة نيالا حيث معسكرات النازحين؛ بحثا عن الأمن وسبل العيش، فلم تعد هنالك مساكن تئوينا، ولم يعد هنالك سوق نتسوق فيه، وكل أشجار الفاكهة والمزارع تم تدميرها وحرقها بواسطة مادة تلقيها الطائرات عليها فتشتعل، يعرفها الناس بالبدرة، الشيء الوحيد الذي بقي سالما ولم يمس بسوء هي بئر ضلاية الشهيرة المعروفة في تلك النواحي ذات الماء الكثيف الدائم القريب من سطح الأرض، نحن نعرف السبب من ترك هذه البئر سالمة، بعد أن أخذنا من الماء ما وجدنا له أوعية، قمنا برمي الحيوانات النافقة من حمير وإبل وأبقار فيها وما استطعنا نقله من حجارة وأوساخ فيما تبقى لنا من زمن بضلاية، تركناها بئرا لا يمكن أن يشرب منها بشر أو حيوان قبل أن نعود إليها نحن الذين قمنا بحفرها، حتما في يوم ما.
كان يؤرقني مصير أخي الجنجويد آدم راشد، لا يمكن أن نأخذه معنا فالرحلة إلى نيالا بالأرجل، لقد قتلت الحمير أو هربت في الخلاء، ولا سيارات في القرية غير تراكتور حاج إدريس وقد تم حرقه كذلك، وآدم راشد لا يستطيع المشي ولا يمكن حمله، فبالإضافة إلى أنه سمين فهو لا يستحق ذلك؛ لأنه قاتل وناهب ومغتصب، وأيضا لا أستطيع تركه ليموت عطشا ونزفا؛ لأنه بصورة أو بأخرى أخي، كانت تنازعني مشاعر وأفكار متضاربة، وقلت لنفسي: دع الأشياء تمضي وفي اللحظات الأخيرة قد يأتي الحل، حدثتني زوجتي المسرورة التي تحصلت على كنزها أخيرا في قلته المدفونة في وسط القطية سالما أن نستعجل الرحيل، وخصوصا أن الليل أخذ يسدل أستاره وهو الوقت المناسب للرحيل، قلت لها: وآدم راشد؟
قالت لي، بصورة قاطعة: اقتله.
صرخت مندهشا؛ لأنني ما كنت أتوقع مثل هذه الإجابة منها، وهي تعرف علاقتي به، وأنه أخي في الرضاعة: أقتله أنا؟
قالت ببرود: أيوا، اقتله!
وعندما رأتني أستغرب ذلك أكدت لي أنه الحل الوحيد؛ لأنني حلفت أمام الناس ألا أدع أحدا يقتله والناس احترموا حليفتي، ولكني لم أحلف بأنني لم أقتله، وها هي طفلة زينب جبرين التي اغتصبها دون رحمة تموت نزفا، ولا يعلم الناس كم هي الأرواح التي أزهقها هذا الرجل قبل أن تصيبه طلقة طائشة من بندقية رفاقه وتعيقه، فإذا هو نجا الآن فسوف يعود إلى قتل الناس مرة أخرى، وأنا السبب والمسئول، هذا إذا لم تقتلني زينب بت جبرين بنفسها.
قلت لها بأنني لم أقتل إنسانا من قبل.
ردت علي بحزم وهي تنظر إلي في أم عيني: الشيء الذي لم تفعله قبلها أية امرأة من دارفور لزوجها، وقرأت في نظرتها شيئا مرعبا، ثم قالت من بين أسنانها: دا ما إنسان.
ثم أشارت لي بصورة ملتوية ولكنها واضحة تماما، بما يعني: إذا لم تكن رجلا بما يكفي لكي تقتله سوف أقتله أنا، لأول مرة في حياتي أعرف أن زوجتي آمنة هذه الزولة النحيفة الطويلة المنشغلة دائما بالبيت، الزرع، الرضاعة، إنجاب الأطفال وإعداد نفسها للفراش، تلك الرقيقة الحنينة في الفراش، أنها أيضا شر مستطير، والحق يقال: إنني خفت منها.
ورطتي
خرجنا من ضلاية في مجموعات ثلاث، عدد من الرجال الشباب في المقدمة، ثم النساء والأطفال ثم الرجال مرة أخرى، هذه الطريقة جنبتني نظرات زوجتي لحد ما أو لبعض الوقت، على الرغم من أنني أكدت لها بأنني قد قتلته إلا أنها كما هو واضح من رد فعلها لم تصدقني، وكانت تنظر إلي بنظرات الاحتقار ذاتها، ولكن الحقيقة التي سوف تعرفها زوجتي قريبا جدا، أو أنها عرفتها الآن من النساء أن زينب بت جبرين، أم الطفلة المغتصبة، عندما تسللت لقتل آدم راشد، لم تجده.
الخرطوم
22 / 6 / 2008م
فيزياء اللون: إلى صلاح إبراهيم
1
يلتقط الأصداف بأنامل قلقة لكنها بصيرة ماهرة: ترى، تحس وتقرأ في نفس لحظة اللمس، تغوص قدماه في مياه النهر الدافئة، يسمع أنين الرمل تحتها، تهرب صغار أسماك البلطي والكوار التي تطعم على العوالق في ملتقى الماء بالرمل، كان يستهدف الأصداف الكبيرة ذات النهايات التي تشبه منقار النسر، هي كثيرة تقبع في المياه الضحلة، ولكن العثور عليها يحتاج لوقت وخبرة وصبر، هذا هو يومه الأخير في كلية التربية ببخت الرضا وقد ودع تلاميذه بالأمس بعد أن قاموا بإنجاز جدارية تعليمية ضخمة تطل على نهر النيل، تجلت موهبته في رسم حركة الحشرات، السحالي والطيور الشرسة الجارحة؛ لذا خلده تلاميذه في الجدارية برسم ضب نزق يتسلق الحائط برجليه الخلفيتين وذيله، يقبض بقائمتيه الأماميتين على فرشاة تلوين ماركة بلكان - وهي المحببة لديه - وفي الأفق يلوح نسر ضخم.
يقلب صدفة على بطنها، على ظهرها، يضعها هنا، يضعها هنالك، على الرمل، ينظر إليها بعمق، يفكر بحكمة، بجمال، بجنون، يبتسم، يضعها مع الأخريات برفق في الصندوق الخشبي الصغير الذي أعده لهذا الغرض، الآن عليه الحصول على أكبر عدد ممكن من الصدفات الصغيرات والمتوسطات، يحتاجها لصنع أرياش الأجنحة والزغب الناعم على العنق، القوائم والمخالب، يريد أن يفعل شيئا كله من النهر ولا علاقة له بالنهر، يريد أن يقول إن النهر هو سيد الحياة، كانت الجدارية تحملق فيه من بعيد، يبدو الضب ذو الفرشاة نزقا سعيدا وهو يتسلق الحائط مستخدما ذيله وقائمتيه متناسيا تماما النسر الذي يحلق في السماء مترصدا به، ينظر الضب برشاقة إلى النهر، حمل صندوقه الخشبي المملوء بالصدف وذهب إلى منزله، أكل الفول المصري الذي اشتراه في الطريق بمتعة خاصة، كان جائعا مرهقا سعيدا ومستثارا بصيده النهري، لبس هدوم العمل واشتغل في الصندوق، يسكن وحده في منزل يتكون من حجرتين ومرحاض، يستخدم الحجرة الكبيرة كمحترف له، ويستخدم الأخرى كغرفة نوم، أما البرندة التي تحيط بالغرفتين والحمام كأم رحيمة من الأسمنت والحصى والطوب فيستخدمها مضيفة ومطبخ في آن واحد، سكن معه من قبل صديق سكير أدمن رباعي الفناء : الخمر، الحبيبة، الشعر، والجوع، ذات صباح أدهشه بموت صامت في البرندة، منذ ذلك الحين ظل وحده، وهو دائما ما يرغب في أن يكون وحده، حتى البنيات اللائي يستخدمهن كموديل يعيدهن إلى حيث أتي بهن بعد العمل مباشرة، لا يطيق غير صحبة حبيبته فقط، بينما تدور الأشياء في رأسه تعمل معدته في صمت في هضم الفول وقطع الجبنة الصغيرة والرغيفات مستعينة بقليل البيبسي الذي تناوله بعد الطعام، كانت أنامله تتحرك في خفة وهي تصنع النسر الصدفي الضخم، بدأ بالمنقار الحاد الذي هو شبه معطى من الطبيعة، ثم أخذ يشكل العنق من الصدفات الصغيرات اللامعات الذهبيات الصفراوات الخضراوات البنيات الأكثر خفة وبهجة واحتفاء بالضوء، كان يلصق هذه بتلك، هذه تحت تلك، هذه بين تلك وتلك، هذه فوق تلك، هذه يمينها، يسارها، هذه ضد تلك، نفيها، تأكيدها، محو أثرها، يفعل ذلك مستخدما عشرات الحواس التي أعطاه إياها الله في تلك الأيام، حل المساء تدريجيا، أضاء الكشافتين الكبيرتين اللتين توفران إضاءة أفقية تساعده في دقة الرؤية وتحديد اللون، كان يعرف أن اللون ليس في السطح أو الكتلة، ولكنه في العين ذاتها، وتأخذه العين من الضوء؛ لذا كان يحتاج إلى ضوء كثيف مباشر، عندما دقت ساعته الحائطية معلنة الواحدة صباحا كان النسر الأول قد اكتمل، وأخذت عيناه الحادتان الحمراوان تلمعان في ريبة، مما جعله يحس بتوتر في أعصابه، قال لنفسه: إنه الضوء.
أضاء كشافة صغيرة ترسل ضوءا أزرق خفيفا في زوايا حادة، يختلط مع ضوء الكشافتين المائل إلى الحمرة فيغمر المكان ظلا بنفسجيا ساحرا، أزال تأثير الإضاءة الحرة الأفقية المباشرة في عيني النسر، من ثمة تأثير الخدعة في عينيه، ولكنه شكل خدعة خاصة به يفهم الأستاذ قواعدها بصورة جيدة، ويعرف كيف يتعامل معها، لكن النسر الشرس الذي فرغ من صنعه للتو حرك رأسه في اتجاه مصدر الضوء الأزرق كلية، مما جعل الصدفات الرقيقات البهيات التي صنع منهن الصدر وزغب الرقبة تصدر صريرا باهتا وما يشبه صوت تصدع صدفة كبيرة، قفز مرعوبا في الهواء ثم ضحك على نفسه لمجرد التفكير في أنه خاف من شيء ما، حك شاربه الصغير الذي تدب فيه البيضاوات وحملق في النسر البدى الآن ساكنا صامتا وبريئا جدا، وبرقت في عينيه الحمراوين بعض الأدمع البنية، يعرف أن كل ذلك ليس سوى مداعبة اعتاد عليها من الضوء، الكتلة والفراغ من جهة وعينه ومزاجه النفسي من جهة أخرى، إلا أن إحساسه بالخوف كان حقيقيا وأصيلا، أحس بألم الوحدة، أحس بأنه أرهق نفسه أكثر مما يجب وعليه أن يذهب بعيدا وبأسرع ما يمكن من هنا، ترك الكشافات مضاءة، وضع على جسده فانلة تي شيرت صفراء، حبيبته تعشق اللون الأصفر، أهدته إياها قبل شهرين، خرج دون أن يحدد وجهة ما، ذهب في طرقات باردة كسولة، بعض الرجال يعودون إلى منازلهم في عجلة، دوريات الشرطة في كل هنا وهناك، الكلاب والقطط، الفئران الكبيرة، الوطاويط، بومتان.
2
عندما عاد إلى البيت في الفجر وجد كل شيء كما هو، النسر ما يزال على قاعدته ينتظر في سكون، الأنوار مطفأة؛ حيث إن الكهرباء قد نفدت، الكشافات الكبيرة تستهلك قدرا هائلا من الكهرباء، سيشتري مائة كيلو واط أخرى للمرة الثانية في هذا الشهر، أخذ يتمعن نسره، لقد برع في صنعه، وهو يعرف أعماله جيدا، العظيمة المتقنة وتلك العابرة الهشة، هذا النسر عمل متقن، لولا تواضع الفنان لأطلق عليه صفة الكمال، ابتسم، بدأ في صناعة آخر، وآخر، وآخر، وآخر، بعد أسبوعين من العمل الشاق المتواصل والسهر كان بمرسمه الصغير عشرة نسور عملاقة جميلة شرسة وكاسرة تشع أعينها في قلق، سوف يقوم بعرضها في المركز الثقافي الفرنسي كأول معرض تشكيلي من نسور الأصداف في التاريخ كما يعيه، يريد أن يؤكد فيه جدلية: الماء، الهواء، الضوء، النار، وسوف لا يتحدث لأحد عن هذه الفكرة، على الناس أن يقوموا باكتشاف ذلك بأنفسهم، هو الآن أنجز عملا فنيا كاملا، وإذا كانت الروح في متناول يده لنفخ فيها الروح فطارت، ثم أحس بزهو عظيم، بنشوة كبرى، نشوة أسطورية عارمة، أخذ يضحك، يضحك في هستيرية، يضحك في عمق ، يضحك بالقلب كله.
3
عندما جاءت حبيبته في ذلك الصباح وجدت الباب مغلقا كالعادة فاستخدمت مفتاحها الخاص، لما ولجت البرندة الكبيرة سمعت جلبة غير معتادة في داخل المرسم، بل ضجيجا، تعرف عن حبيبها الهدوء، لكنه أيضا قد يمارس الفوضى؛ حيث إنه كثيرا ما يقوم بتحطيم أعماله الفنية بعنف وهمجية إذا لم يرض عنها، وأحيانا يستخدم في ذلك فأسا ورثها عن جده، أو عصا أو حجرا أو كرسيا أو ما شاء، صاحت فيه أن يكف، ظلت الجلبة باقية، فقامت بدفع باب المرسم بكل ما أوتيت من قوة، فلقد كانت من نوع تلك البنيات جيدات التغذية، فانفتح.
لم يمض وقت طويل على حضور الجيران عندما علا صراخها، بل إن البعض قد شاهد النسور الضخمة تخرج مندفعة من باب البرندة لتحلق في السماء فاردة أجنحتها الذهبية اللامعة في هواء يناير الساخن، وفي الداخل كان الهيكل العظمي الحزين يرقد مبللا بالدم الطازج، يحملق عبر خواء العينين نحو الفراغ.
الفاشر
31 / 10 / 2007
أنا، الأخرى، وأمي
عمري الآن خمسون عاما، وهو نفس عمر أمي حينما توفاها الله منذ ثلاثين سنة بالكمال والتمام، وأحكي الآن عنها ليس من أجل تخليد ذكراها الثلاثين، كما يفعل الناس؛ أن يحتفوا بذكرى وفاة أمهاتهم اللائي يحببن، ولو أنني أحبها أيضا، إلا أنني أحكي الآن عنها تحت ضغط وإلحاح روحها الطاهرة، أقول ضغط وإلحاح، وأعني ذلك، على الرغم من أن أمي ماتت منذ أكثر من ربع قرن إلا أنني لم أحس بأنها ميتة؛ لأنها بالفعل لم تك كذلك، إنها أخذت إجازة طويلة ونهائية عن مشاغل الدنيا الكثيرة ومني أنا ابنها الوحيد بالذات، رفيق شقائها وسعادتها، ولكن أمي حالما تراجعت - مع مرور الزمن - عن فكرة الإجازة بعد ثلاثين عاما فقط، وثلاثون سنة في زمن الموتى - كما تعلمون - ليس بالكثير، يقال إن موتهم قد يطول إلى الأبد.
بالأمس القريب بعدما قضيت نهاري الطويل في المدرسة؛ حيث أعمل مديرا في مرحلة الأساس، وأنفقت مسائي البائس في نادي المعلمين ألعب الورق وأثرثر، عدت مرهقا للبيت الذي أقيم فيه وحدي ، بعد أن تزوجت أكبر بنياتي في هذا الأسبوع وذهبت مع زوجها تدب في بلاد الله الواسعة، مثلما فعلت ابنتاي اللتان تصغرانها عمرا في السنتين الماضيتين، وتزوجت زوجتي أيضا قبل أكثر من عشر أعوام من رجل يقولون إنه حبيبها الأول، بالطبع بعد أن طلقتني عن طريق محكمة الأحوال الشخصية بدعوى أنني لا أنفع كزوج أو رجل وأنها كرهتني، ويعلم الله أنني لست بالشخص البغيض، والدليل على ذلك أن بناتي الثلاث اخترن أن يبقين معي في البيت ورفضن أن يذهبن معها إلى بيت والدها ثم إلى بيت زوجها الجديد، فمن منا البغيض والمكروه؟ هذا موضوع لا أحب أن أتطرق إليه إطلاقا، فهي على أية حال أم بنياتي الثلاث، كنت مرهقا، زحفت إلى سريري زحفا، رميت بجسدي على اللحاف الطيب الحنون، فهو آخر ما تبقى لي من أم وزوجة وبنات، كان المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان باحتضانه لجسمي النحيل الهرم، كعادتي أترك إضاءة خافتة فاترة تصدر من لمبة ترشيد استهلاك صينية صغيرة بخيلة إلى الصباح، وكدت أن أغمض عيني حينما سمعت كركرة كرسي على البلاط، ثم رأيت على ضوء النيون الترشيدي الصيني البخيل امرأة شابة تسحبه نحوي ثم تجلس عليه، قرب رأسي مباشرة، تحملق في وجهي بحنية لا تخطئ، ولو أنه كان لوحيد مثلي أن يخاف، بل أن يجن من الخوف، إلا أنني صحت في دهشة وترحاب غريبين: الله! أمي آمنة!
ابتسمت المرأة الشابة الجميلة الحنون، وقد بدأت تتحدث في هدوء، حكت قصة حياتي منذ ميلادي بالدقيقة والثانية، حدثا حدثا، أخذت أستمع إليها في صمت وتعجب كأنما من يحكى عنه ومن يحكى له ليس سوى صنوين لي ضالين، كنت أكتشف تدريجيا أن حياتي كلها معصية، وأنني كنت أجري وراء ملذات الدنيا وسقطاتها، ولو أن بعض الحوادث كانت تشير بوضوح إلى نبلي ونقاء سريرتي إلا أن المحصلة النهائية تبدو كما ذكرت، لا أدري كم من الزمن مكثت تحكي قرب رأسي، ولكنها بلا شك بقيت هنالك زمنا طويلا، ولا أدري كم حكاية حكت، ولكنها بلا شك حكت حكايات شتى، ولا أعرف متى نمت ولكني بلا شك قد نمت متأخرا جدا؛ لأنني لم أستيقظ كعادتي - مثلي في ذلك مثل كل مديري المدارس - عند الرابعة صباحا، بل أيقظني خفير المدرسة مندهشا في فسحة الفطور حوالي العاشرة والنصف صباحا، وثأثأ فيما يعني أن الجميع افتقدني، لقد كان أخرس ذا لغة ملتبثة، بقيت في رأسي جملة واحدة من كلامات أمي: أنا كل يوم معاك لحظة بلحظة.
لم أحك لأحد ما دار بيني وبين أمي خوفا من السخرية والشماتة أو أن أتهم بالجنون، وربما قد أفقد وظيفتي إذا تأكدت الإدارة من أنني جننت، وخاصة أن للبعض مصلحة في أن أبعد، بصراحة لدي أعداء كثر، تكتمت على الأمر، اتصلت بي ابنتي الكبرى أمونة سميتها على أمي، سألتني عن صحتي وعن الوحدة ولمحت لي بأنه يجب علي أن أتزوج ولو من امرأة كبيرة في العمر؛ لأنني - في تقديرها - أحتاج إلى رفيق في وحدتي، وأنها تعرف أربعينية جميلة مطلقة لها طفلان، ادعيت بأنني لم أفهم ما ترمي إليه، ربما لأنني لا أرغب في الزواج؛ فقد أصبحت المرأة عندي كائنا جميلا يصلح لكل شيء ما عدا الزواج، في هذا المساء كنت مستعدا لمحاضرة أمي آمنة، جاءت وكانت في كامل شبابها وجمالها في أثواب نظيفة ملونة زاهية تشع بهجة، قالت لي: ظاهر عليك الليلة جاهز من بدري.
فجأة خطرت لي فكرة غريبة، وشرعت في تنفيذها مباشرة، هكذا أنا أفكاري في أصابعي، مددت أصابعي نحوها متحسسا أثوابها، فإذا بكفي تقبض الهواء، تمام الهواء، أما هي فقد اختفت، سمعت نداءها يأتي من أقاصي الغرفة قائلة بصوتها الذي لم يفقد حلاوته طوال السنوات التي قضتها تحت التراب: أنا صورة وصوت، صورة وصوت فقط.
قلت لها: أنا خايف تكون دي هلوسة، هلوسة ما أكتر؟
قالت لي بذات الصوت الذي أعرفه جيدا وصاحبني طفولتي كلها: أنا كنت دائما قريبة منك.
أمي وأنا كنا صديقين حميمين، مرت بنا سنوات شدة عصيبة وسنوات فرح عظيمة أيضا، أنا ابنها الوحيد ولا أب لي أعرفه إلى اليوم، منذ أن تفتحت عيناي على هذا المخلوق الرقيق النشط، الذي لا يستريح من العمل، الذي يسعي مثل نمل الأرض بحثا عن حبة عيش نطعمها معا، كانت توفر لي كل شيء أطلبه، ومهما كان عصيا، وأذكر أنني طلبت منها ذات مرة أن تشتري لي دراجة هوائية مثلي مثل صديقي في المدرسة والصف والكنبة أبكر إسحاق.
وأذكر إلى اليوم كيف أنها انتهرتني، بل قذفت في وجهي شيئا كان بيدها في ثورة وغضب، وأنها صرخت في مؤنبة: إنت قايل نفسك ود منو؟ ود الصادق المهدي؟
بالطبع ما كنت أعرف من هو الصادق المهدي، ولكن سؤالها أثار في سؤالا آخر.
أنا ود منو؟
ولم أسألها؛ لأن السؤال نفسه لم يكن ملحا بالنسبة لي؛ لأنني لم أعرف قيمة الأب ولا أهميته ولا وظيفته، بالتالي لم أفتقده، والآباء الكثر الذين في حينا لم يقم واحد منهم بعمل خارق تعجز أمي عن القيام به، بل إن أمي هي التي كانت تفعل ما لم يستطع الآباء فعله، فهي تبني وتصون بيتنا بيديها، وتصنع السدود الترابية لكي تمنع مياه الخريف من جرف قطيتنا؛ حيث إن بيتنا يقع على تخوم خور صغير، ولم أر أبا فعل ذلك، كانوا يستأجرون العمال حتى لصنع لحافاتهم ومراتبهم وغسل ملابسهم، إنه لأمر أدهشني كثيرا، أضف إلى ذلك أن أمي تعمل خارج المنزل في وظيفة مهمة، إنها تبيع الشاي والقهوة عند بوابة السجن ويستلف منها الجميع، حتى المأمور نفسه؛ لذا التبس علي الأمر، والآن ولأول مرة أعرف من أمي أن من وظائف أب غامض يسمى الصادق المهدي تقديم الدراجات الهوائية إلى من هم أطفاله، ولكن الشيء الذي أطاح بسؤال الأب نهائيا أن أمي آمنة بعد ثلاثة شهور أو أكثر اشترت لي دراجة هوائية، ولو أنها ليست جديدة تماما مثل دراجة أبكر إسحاق، وأنها مستعملة من قبل، إلا أنني فرحت بها جدا وخصوصا بعد أن أكد لي أصدقائي أنها دراجة جميلة وهي أجود من دراجة أبكر.
أمي تعمل في صنع الزلابية وأقوم أنا ببيعها للجيران في الصباح الباكر وتعمل فراشة في السجن ما بعد بيع الزلابية وشرب الشاي، وعندما تركت العمل في السجن عملت بائعة للشاي عند باب السجن كمحاولة منها لتحويل زملاء الأمس إلى زبائن اليوم، وبالفعل استطاعت أن تكون منافسا حقيقيا لأم بخوت، وهي إحدى زبوناتها في الماضي عندما كانت أمي تعمل فراشة، أما أنا فذلك الولد الذي يطلق الناس عليه (ود أمو) أعني: لا أبرح مجلسها أبدا، بعد نهاية اليوم الدراسي أحضر إلى موقع عملها، أغسل لها أكواب الشاي الفارغة، أحمل الطلبات البعيدة إلى الزبائن، أشتري لها السكر والشاي الجيدين من الدكان، أحكي لها عن التلاميذ، الحصص والمعلمين، وعندما أنعس تفسح لي مرقدا خلفها فارشة لي برشا من السعف، متوسدا حقيبة المدرسة، عجلتي الجميلة قرب رجلي تنتظرني، أنام.
قلت لها في جرأة: أنت وين الآن؟ في الجنة؟ في النار؟ في الدنيا؟ ووين كنت الزمن دا كله؟
قالت لي: أنا هنا.
كانت تجلس في الكرسي كما هو في اليوم الأول، سألتني عن مبررات كل ما قمت به في يومي هذا، وكنت أجيبها بصدق، تعلق أحيانا أو تصمت في أحايين كثيرة، ولكنها بشكل عام كانت تؤكد على أنه ليس مهما أن ما أقوم به مقبولا خيرا أم لا، لكن المهم هو: هل أنا أجد مبررا لما أقوم به أم لا، هل أنا راض عن نفسي أم لا.
سألتني: هل توافق على اقتراح بتك أمونة؟
قلت: أنا ما أظنني بقدر على النساء، كبرت وفقدت الرغبة في المواضيع دي، وأنا الآن قادر أقوم بواجب نفسي بنفسي من طعام وشراب ونظافة، المرأة الحقيقية الوحيدة في حياتي هي أنت وكفاية.
ابتسمت أمي آمنة ابتسامة عميقة وحلوة، ثم تلاشت تدريجيا في فضاء الغرفة، في الصباح الباكر اتصلت بي ابنتي أمونة مرة أخرى وقالت لي بوضوح أنها سوف ترتب لي لقاء مع أربعينية جميلة مطلقة لها طفلان، ومن ثم أنا حر في أن أرتبط بها أم لا، قلت لنفسي: ماذا ستخسر؟ فليكن.
كانت امرأة جميلة، لها ابتسامة دائمة في وجهها، لا تحتاج لسبب وجيه لكي تضحك، فهي تضحك باستمرار، وتستطيع أن تقنع أي إنسان مهما كان متشائما أن يرد على ابتسامتها بابتسامة أخرى حتى ولو كانت باهتة تعبة، ولكن الشيء الغريب فيها والمدهش والمخيف أيضا أنها ترتدي نفس الملابس التي كانت ترتديها أمي آمنة بالأمس، نفس الحذاء، نفس الصوت نفس الطريقة في الكلام، نفس الوجه، نفس الابتسامة، وأستطيع أن أقول إنها نفس المرأة.
الخرطوم
11 / 6 / 2008
ذاكرة الموتى
قالت لي أمي في الحلم: الدنيا زائلة يا ولدي.
قلت لها وأنا نائم: ليس صحيحا، نحن الزائلين، الدنيا باقية.
حاولت أن تبتسم، لكن الموتى في الحلم عادة لا يستطيعون الابتسام؛ لأن هرمونا خاصا بانفراجة الفم في تلك الصورة السحرية لا يتم إنتاجه في الحلم، ثم وقف الموتى صفا واحدا أمامي؛ جدي عبد الكريم، جبران خليل جبران، حبوبة، حريرة، محمد مستجاب، علاء الدين الشاذلي، الكيوكة الصغيرة، قدورة جبرين، نادية، أبو قنبور، محمد عثمان، خديجة، مرجان كافي كانو، محيي جابر عطية، عم موسى، انتصار، أبو ذر الغفاري، علي المك، وولت ويتمان، إخلاص أبو غزالة، عمر إبراهيم، قالوا بصوت واحد: الدنيا زائلة.
قلت لهم: يا أيها الموتى.
قلت لهم اسما اسما: يا أيها الموتى، الدنيا باقية.
وقف سجان نزق بيني ومحمود محمد طه، استل من بين قلبه وعقله محبرة، كان الشيخ نحيفا وجميلا، مكان عينيه الدنيا كلها تزول تدريجيا وتتلاشى، لكن دون انتهاء، قال لي في الحلم: افتتانك بالحق فوت عليك إدراك عين الحق.
قلت له وأنا نائم: سم لي القتلة حرفا حرفا والحق حرفا حرفا، العدل والمظلمة والروح حرفا حرفا.
قال لي في الحلم: اقرأ ذات الشيء يسقط عنك حجاب الشيء حرفا حرفا.
قلت له وأنا نائم: بسم الله الرحمن الرحيم.
قال لي في الحلم وكاد أن يبتسم: إذا ما هو لون الحقيقة؟
قلت له وأنا نائم: أسود.
قال لي في الحلم: إذا ما هو لون العدل والمظلمة والروح؟ ما هو لون مسك الأنفس؟
قلت له وأنا نائم: أسود.
قال لي في الحلم: إذا ، ما هو لون الجهات الست؟
حينها فقط تنزلت علي الأحرف الوسطي من أسماء القتلة، جاءت تعوم في سيل من الدم، أخذ يحيط بي وأنا نائم، أفادني صف الموتى في شيئين: أن الدنيا ليست زائلة، الشيء الآخر: أن الموتى لا يبتسمون. الشيء الآخر: أن ذاكرة الموتى محشوة بالأحياء، قالت لي أمي في الحلم: سوف لن تنجو من الموت، الأشجار، الطين، والهوام كلها لا تحميك، وأنت إذ تهرب من الموت تذهب إليه.
بكيت، عندما استيقظت وجدتهم جميعا يصطفون أمامي، تماما مثلما كانوا في الحلم، لم يهتم أحد بما كنت أثرثر فيه، لم يفسر أحد لي شيئا، ولم يضحكني نداء المنادي: أنت يا أحد الموتى.
الحي الجنوبي
1 / 8 / 2005
موسيقى العظم
انتهت المعركة الصغيرة التي أيضا أمنحها بكرم لقب التافهة، حيث خضناها ضد المسلحين المتمردين غرب جبل مرة بإقليم دارفور، تحت سلسلة جبلية بغيضة لا ماء فيها، لا ظل، لا حتى هواء يحرك عناد أشعة الشمس الحارقة المرابطة على مركز رءوسنا العنيدة الماكرة، ما زالت رائحة البارود تعلق في الهواء، أنين الجرحى وصرخات المصابين تتردد في الفراغ مربكة سخونة الهواء الساكن الثقيل الذي يبدو وكأنه في حداد أبدي لموت كل شيء في المكان، هذا المكان الذي كان جنة حقيقية قبل الحرب، مرهقين وخائفين من كل شيء حتى من نصرنا السريع غير المتوقع واللا مفهوم؛ حيث ظللنا نتوقع الهزيمة أو النصر الصعب، كنا محاصرين ولا خيار لدينا؛ إما الموت البطيء أو الحرب.
كادت أن تنفد ذخائرنا ووقود عرباتنا، نفد ماؤنا وطعامنا ولم يستطع الطيران فك الحصار المضروب علينا من قبل محاربين شرسين ماكرين يعرفون المكان أكثر من ثعابينه وذئابه، نسمع أصواتهم وضحكاتهم، تصيبنا رصاصاتهم ولا نراهم، وفي أول هجوم يائس منا عليهم انتصرنا، لا ندري كيف حدث هذا، ها هي جثث موتاهم، وها هم جرحاهم يصرخون، الجثامين تنتشر في كل مكان، تغرق في برك من الدم المختلط بالرمال الساخنة الصفراء، موتى من كتيبتنا وجرحى أيضا، لم نقم بعمليات الدفن بعد، بل إننا لم نقم باستجواب الأسرى الجرحى بعد، وهو الشيء الذي كان علينا إعطاؤه الأولوية لكي نقرأ ميدان المعركة قراءة جيدة، وأن نتوقع ما سوف يكون عليه الحال، وهو من أبجديات دروس العسكرية، لقد كنا مرتبكين وقلقين وأفكارنا في حالة تشتت تام، قمنا بوضع الجرحى تحت صخرة كبيرة تلتوى في شكل كهف صغير، ولكنه يمتد عميقا في الجبل، ربما استخدمته بعض الوحوش وجرا أيام أن كانت هنالك وحوش وحيوانات برية، تركنا الموتى يستأنسون بالغياب والشمس، رددنا لتأوهات جرحى المتمردين وندائهم ببعض الشتائم القلقة المتوترة، وربما الركلات، لكن موسى أو ما نسميه بموسى الرحيم قام بإسعاف كل الجرحى، لم يفرق ما بين عدو وصليح، دون استثناء، بمهارة، بسرعة، بإتقان، بمسئولية، برحمة معهودة فيه وحده، تعلم ذلك من منظمة الصليب الأحمر الدولية، هكذا كان يقول دائما، وكل شيء كان سيمضي على كل حال لولا أن الجاويش المهدي أصر على قتل أحد الجرحى الأسرى، قال إنه يستحق الموت لسبب يعرفه هو وحده وسوف لا يخبر به: زول.
قيل فيما بعد أن الأسير الجريح أشار إلى المهدي بالأصبع الوسطى.
كالعادة تصدى له موسى الرحيم؛ حيث إنه الشخص الوحيد الذي يتبنى كل الأفكار التي تحرم الإساءة للأسرى، قتلهم أو تعذيبهم أو تركهم للموت بعدم إسعافهم، ويفعل ذلك بقلبه وبلسانه وبيده أيضا، بدآ بمشادة كلامية حادة ثم تدافعا بالأيدي، ثم استخدم الجاويش المهدي دبشك بندقيته، وبركلة بهلوانية ألقى موسى الرحيم على الأرض، وعندما انتبهنا للمعركة الصغيرة الدائرة بين الرجلين النحيفين الطويلين الذين هما من كتيبة واحدة تدخلنا الستة عشر رجلا وامرأتين لفضها والفصل بينهما، كان المهدي قد حمل بندقيته معمرة وفي وضع إطلاق النار، واتخذ موضعا حربيا دفاعيا هجوميا خطيرا بالقرب من صخرة الجرحى، الذين نسوا آلامهم في الحال، توقفوا عن التأوه، الصراخ، طلب الماء وتبادل الوصايا، أخذوا يحملقون بعيون زائغة مفتوحة إلى آخرها فينا، في المهدي، في موسى الرحيم المرمي على الأرض فاقدا الوعي، يصدر الآن أصواتا غير مفهومة، تمثل احتضار فرصتهم الأخيرة في الحياة، طلب المهدي من الجميع الجلوس وإلا : لحستكم كلكم واحد واحد.
جلسنا.
أمرنا بأن نضع أيادينا على رءوسنا وأن ننظر في اتجاه الشمال مقابلين إياه بظهورنا، ويريد أن يحدث ذلك: زي الهوا.
فعلنا.
هددنا بأنه إذا تحرك أي منا أية حركة، مريبة كانت أم صديقة، لأي اتجاه كان سوف: أشربه.
أومأنا برءوسنا أن: فهمنا وأطعنا.
عندما سمعنا هوهوة الرصاصات، بالرغم من كل التهديد والوعيد، اتجهنا جميعا في لحظة واحدة نحوه، كان يدوس برجله على ظهر الأسير الجريح الذي يرقد ميمما وجهه شطر الأرض ورأسه غارق في الرمل الأصفر الحارق تحت ثقل بوت وجسد المهدي.
وفي ناحية قلب الأسير الجريح يطلق المهدي الرصاص: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ.
ست رصاصات قاتلات نافذات من كلاشنكوفه، صمت الأسير الجريح نهائيا في حالة من الموت كاملة تامة فعلية وحقيقية، ولا شك فيها مطلقا: مات كما يجب أن يموت أسير جريح، أطلقت ست رصاصات من كلاشنكوف جاويش عجوز في قلبه: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ.
عندما رفع المهدي رجله من رأس الأسير الجريح الميت نهض الأسير الجريح الميت؛ أغبر أشعث طويلا مرعبا وصامتا، وقف المهدي مندهشا فاغرا فاه في بلادة بينة بائسة، مع عجز كامل عن النطق أو التعبير، عاجل الأسير الجريح الميت المهدي بلكمة واحدة قوية في رأسه فأرداه صريعا على الأرض، بحركة أخرى جيدة قام الأسير الجريح الميت بقلب المهدي على ظهره، ببطء وضع رجله اليمني على ظهر المهدي، أحنى الأسير الجريح الميت جسده في شكل قوس عملاق رهيب فوق جسد المهدي المسجي على الرمال، أمسك الرأس بكفتيه الكبيرتين الملوثتين بالتراب، أدارها ناحية اليمين في رفق وعناية فائقتين، ثم بذات الرفق والعناية الفائقتين، أدار الرأس ناحية الشمال بهدوء وصبر، كأنه نطاسي عليم يدرس حركة عنق مريضه، ثم في سرعة البرق وبمهارة شيطان رجيم حنى الرأس للوراء في زاوية حادة، ليجعلنا نستمع إلى فرقعة عظام رقبة المهدي وهي تتحطم مصحوبة بشخير عميق وقح وما يشبه نغمة دو وازا منفلتة، ظل طنينها عالقا في الهواء لزمن طويل، بينما كانت بعض أطيار الكلج كلج تغرد عابرة السماء العارية نحو الشرق، رقد الرجل الأسير الجريح الميت، تمطى في متعة خاصة، وضع يديه في حزية مع جسده الطويل الثقيل الهادئ ثم مات مرة أخرى.
الفاشر
20 / 4 / 2007
طائر، أسد، وجحوش
إذا شيئ لي أن أقدر عددنا في ذلك اليوم فإننا قرابة الستين طفلا، تتراوح أعمارنا ما بين السابعة والثامنة، بعضنا وأنا واحد منهم، لا تزال قنابيرنا في مقدمة رءوسنا مبللة بالزيت وعلى أعناقنا تتدلى التمائم التي تحفظنا من العين والحسد وتبارك أيامنا وتهبنا الحظ الجيد والخير الوفير، كنا نتحدث جميعا في آن واحد بأعلى ما وهبنا من أصوات، كل يريد أن يوصل صوته للآخر في خضم غابة الحناجر التي تزأر في فوضوية، كنا نتحدث عن الكرة، الطيور، الحمير، حسونة المجنون، صيد الجراد، جلب القراقير من جبل تواوا، التشعلق في الكواري ولقيط الفول السوداني من الزرائب، المطر، الحرب التي دارت مؤخرا ما بين أولاد حي السجون وأولاد حي البوليس، والذين استعانوا بثلة من أولاد ديم النور لرد هجوم أولاد السجون على ضفاف خور مقاديف، لم ينتبه أي منا للأستاذ وهو يدخل الفصل إلا عندما صاح بصوت غليظ أجش: انتباه!
صمتنا، أشار علينا بيديه علامة أن نقف، ودعمها بالقول: قيام.
قمنا واقفين.
صاح: جلوس.
جلسنا، ولكنه هتف مرة أخرى: قيام!
قمنا. - جلوس!
جلسنا وكثير منا يصدر أصواتا تنم على عدم الرضا؛ حيث إنه لم نفهم الضرورة من هذا القيام والجلوس، ولكن ألم نأت للمدرسة لتعلم الأشياء التي لا نعرفها؟ شخبط الأستاذ في السبورة بطباشير أبيض شيئا، عرفنا فيما بعد أنه: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم من أشياء كثيرة يحملها، أخرج صورة كبيرة لأسد ضخم، علقها على مسمار دق في أعلى السبورة، كان أسدا جميلا كبيرا ينظر إلينا جميعا في آن واحد، أشار الأستاذ إليه بالمسطرة الطويلة وصاح فجأة: ما هذا؟
فصحنا خلفه: ما هذا؟
نظر إلينا الأستاذ في استغراب، ولكن في فمه ابتسامة صغيرة مخفية بإتقان؛ وذلك للحفاظ على هيبته.
قال: يا أولاد، ما هذا معناها: دا شنو ، لمان أقول ليكم: ما هذا؟ يعني أنا بسألكم دا شنو، فاهمين؟
هززنا رءوسنا أن: نعم، فصاح مشيرا بالمسطرة إلى الأسد الذي لا يزال ينظر إلى كل واحد منا ويكاد أن يبتسم لنا طفلا طفلا، لقد كان أسدا جميلا: ما هذا؟
هتفنا بصوت واحد: دا أسد.
قال في نفاد صبر: لا، مش دا أسد، قولوا: هذا أسد.
أشار إلى الأسد وصاح مرة أخرى: ما هذا؟
صحنا: هذا أسد.
قال مصححا إيانا ومستدركا خطأ ما قد وقع هو نفسه فيه: هذا أسد.
عرفنا الآن أشياء كثيرة جديدة، أهمها أن الأسد اسمه «أسدن»، وليس «أسد» كما يطلقون عليه في البيت خطأ، وهذه نعمة التعليم، وسوف أخبر حبوبتي حريرة بذلك بمجرد أن أصل إلى النزل، همس جاري عبادي كافي وهو جارنا أيضا في قشلاق السجون، بينما يلعب بقنبوره القصير: شايف الطيرة؟
كان طائر ود أبرق صغير الحجم أرقط يرك أعلى السبورة، وعندما رفع المعلم المسطرة الطويلة للمرة الثانية، طار نحو عمق الفصل، ورك على النافذة التي قرب ود حواء زريقا، فحاول ود حواء زريقا الإمساك به ولكن الطائر كان الأسرع فحلق فوق رءوسنا باحثا عن مخرج، فتسابقنا جميعا دون فرز للإمساك به، صعد بعضنا على الأدراج، صعد البعض على أكتاف البعض على وعد تقاسم ملكية الطائر ما بين الحامل والمحمول، استخدم البعض الرمي بالكتب والكراسات في محاولة إصابة الطائر في الهواء؛ حيث لا توجد حجارة أو سفاريك في الفصل، تشعلق البعض على أعمدة السقف في محاولة جنونية للإمساك بطائر ود أبرق الشقي، لا أحد يدري شيئا عن الأستاذ، هاج الفصل وماج، أبرق وأرعد، ضج ضجيجا عنيفا، ولكني استطعت أن أنهي الصراع بقفزة موفقة في الهواء مستعينا بكتف جاري عبادي ورأس أوشيك الكبير؛ حيث وضعت عليه ركبتي وأنا أهبط على الكنبة والطائر المسكين يصوصو في يدي، قمت بسرعة بتجنيحه حتى لا يطير أو يجري ورميت به في الدرج إلى أن نعود إلى البيوت لنذبحه ونشويه ونأكله مناصفة مع أوشيك وعبادي، ولم يصمت الفصل إلا حينما سمعنا ما يشبه زئير الأسد أو هزيم الرعد، بل قل نهيق ألف حمار متوحش في لحظة واحدة في الفصل، كان ناظر المدرسة يقف عند باب الفصل وحوله كل المدرسين والمدرسات والخفراء وبائعات الطعام وحتى عم الخير العميان الذي يسأل الناس عند باب المدرسة من حق الله، كان الناظر السمين يدق على السبورة بكل ما أوتي من قوة بكفه وهو يجعر كالثور، صمتنا، مضى زمن من الصمت طويل وثقيل، كانت أنفاس المدير تعلو وتهبط دون سبب وجيه نعرفه ولا نظن أنه يتعلق بالطائر، فالطائر ملك لمن اصطاده ولمن شارك في اصطياده، كان غضبان وحانقا يتطاير الشرر من عينيه، لا بد أن هنالك مكروها ألم به: هل ماتت أمه أم مات أبوه؟ كنا ننتظر في قلق للاستماع على ما يود المدير قوله، الشيء الذي أحضر له كل هؤلاء الناس؛ عاملين بالمدرسة ومعلمين، وأخيرا صاح وهو يحملق بعينين شريرتين نحونا ويضرب بكفه على السبورة ضربة أخيرة قاسية تطير الأسد المسكين في الهواء فيسقط ومعه قلوبنا على الأرض مثيرا عاصفة من الغبار: ما هذا يا جحوش؟
أجبنا بصوت واحد منغم: هذا «أسدن».
الفاشر
3 / 11 / 2007
وصمة وطن
توغلنا في مجاهل سوق ليبيا، بين الأكشاك المتهالكة المملوءة بالبضائع الكاسدة، أقمشة، أوان، مأكولات فاسدة وأخرى طازجة، خردوات، أحذية، إكسسوارات مفبركة، بطيخ وغيرها، وكلما طال بنا الدوران وطالت بنا الأزقة حاصرتنا الجموع البشرية الذاهبة إلى كل مكان والآتية من كل مكان، وكلما لاحظ صديقي علي نصر الله أنني ضجرت كان يقول لي بصوته الهادئ المطمئن: اصبر يا أخي قربنا.
ونحن ننهي آخر صف طويل لحلاقين بلهاء تفوح من جنوبهم رائحة الدم مختلطة مع الشعر ممزوجة بكلونيا خمس خمسات، إذا به يدلف إلى زقاق ضيق تملؤه عربة كارو يجرها حماران، استطعنا أن نتجاوزهما عن طريق احتكاكنا بالحائط الترابي القبيح، ولحسن الحظ المكان ينتظر بعد الكارو مباشرة، كان دكانا عجوزا من الزنك وصاج البرميل، يديره عم سيف السبعيني الأصلع الذي يكح في الدقيقة مرتين ويحمد الله، استقبلنا هاشا باشا، تربطه بصديقي علي نصر الله علاقة قديمة حميمة، عرفني به وعرفه بي، أضاف وفي وجهه ابتسامة عملاقة بسعة فم علي نصر الله الكبير وبغلظة شفاهه الغليظة، قائلا: صديقي بركة دا عايز يدخل معاينة.
مشيرا إلي بأصابعه الخمسة.
قال عم سيف وهو يتفحص وجهي من على قرب مريب: ظاهر عليك يا ولدي ما بتصلي.
ضحك، ضحك علي نصر الله، ضحكت، ضحكنا.
قال له علي نصر الله: دا ما بيعمل أية حاجة، لا كويسة ولا كعبة: لا بصلي ولا بصوم ولا بسكر ولا بزني ولا بسف صاعوط ولا بدخن سيجار، لا يعد ولا يفي، الكويسة إنه حافظ كل السور والآيات اللي أخدها في المدرسة.
علق عم سيف ضاحكا: لو كان الناس دي كلها بتصلي من وين نحن نعيش؟!
كان يشغل نفسه بإعداد شيء ما، يسمع، يوجه الأسئلة ويكح في نفس اللحظة، بالرغم من عمره المديد إلا أنه كان رشيقا خفيفا كالكديس، يخطو بسرعة وخفة في المساحة الضيقة التي لا تتعدى الاثني عشر مترا مربعا، يقفز على الأشياء، يمر بينها، يسحبها بعيدا عن طريقه، يتحدث معها، معنا، مع نفسه، كح، غسل وجهي بماء تفوح منه رائحة الديتول، كح، مسح جبهتي بقطنة مشربة بمادة لها رائحة - مع بعض التحفظ أستطيع أن أقول إنها سيئة - كح، كان طويلا منحنيا وسيما عجوزا ماكرا ووناسا، علي نصر الله يجلس قربي يأكل بليلة لوبة عدسية اشتراها من مريم السيدة الشابة التي تبيع العدسية قرب محل عم سيف، تركني أسترخي على الكرسي الهزاز البائس وأنا أهيم في العالم الذي يمعن في الغموض، مسح وجهي بعطر الكلونيا، كح ثم أخذ يعمل، برفق، بصمت، بحب، بأدب، بمهارة في جبهتي، سألني فيما يشبه الهمس بلغة فصيحة وكأنه حفظها من كتاب مطالعة: أتريدها دائمة أم مؤقتة؟
قبل أن أجيبه أجابه صديقي علي نصر الله: لا، مؤقتة، يمكن ما ينجح في المعاينة، وكان نجح حيجي مرة تانية يعمل واحدة دائمة، مش كدا يا بركة؟
حاولت أن أقول شيئا، ولكن يداه القويتان أبقتا رأسي على وضع حرج لا يسمح بإنتاج الكلمات.
بدون أي تعليق من قبله واصل عمله في جبهتي، بعد ما يقارب ربع الساعة سألني مرة أخرى ما إذا كنت أحتاج إلى علامات في الركب والمناكب وعظمة الشيطان.
أجابه علي نصر الله قائلا: الآن لأ، خلينا نشوف بعد المعاينة.
قال مخاطبا علي نصر الله: على ما أعتقد أنت قلت لي إن واسطته قوية، يعني الشغل ضمان ضمان، وكل الناقص هو موضوع الصلاة، وإن شاء الله تطلع حاجة زي الليل.
رد علي نصر الله في قلق: نعم واسطته قوية، ولكن كل الناس اللي في «الشورت لست
short list » عندهم ضهر، ولكن نحنا نعمل العلينا والباقي على الله، الضمان عند الله.
قال بصوته الهادئ: كح، كح، كح، نعم!
لم يمض وقت طويل بعد كحته الأخيرة هذه حتى قال لي وهو يتأملني من بعيد؛ يتفحصني كفنان يتمعن لوحته التي خلص منها للتو: بسم الله ما شاء الله، إمام جامع بالتمام والكمال!
ثم مد لي المرآة، كان وجهي ليس بوجهي، أقرب منه إلى وجه دمية، على أحسن تقدير وجه مهرج مخبول، كانت العلامة السوداء التي صنعها على جبهتي السوداء أكثر سوادا، ليس سوادا آدميا جميلا كسواد وجهي الذي أورثني إياه جدي عبد الكريم إدريس، كان سوادا يشبه غبينة مرة أحس بها تمزق أحشائي، سوادا مثل حرقة تأكل كرامتي كإنسان، تنشئ في مملكة العبودية والتمييز السلبي مملكة الحزن، تثير فظاعة القبلية، الولاء الحزبي والثلة، توقظ كهوف الظلم مثل نار أوقدتها لتدفئك فالتهمتك، مثل بيضة تفقس في روحك شظايا من نار، مثل جحيم يصبح وطنك الذي تحبه، مثل أن تخون أنت وعيك وثقافتك التي ارتضيتها سلوكا، أحسست بها جرحا عميقا في تاريخي وحضارتي وإنسانيتي، رددت إليه المرآة، قال لي وهو لا يزال طويلا عجوزا مكحاحا ملحاحا: ما رأيك؟
أجابه صديقي علي نصر الله وهو يعطيه مالا: جميلة.
توغلنا في مجاهل سوق ليبيا بين الأكشاك المتهالكة المملوءة بالبضائع الكاسدة الفاسدة؛ أقمشة، أوان، مأكولات تالفة وأخرى طازجة، خردوات، أحذية، إكسسوارات مفبركة، بطيخ، وغيرها، وكلما طال بنا الدوران والتوت بنا الأزقة حاصرتنا الجموع البشرية الذاهبة إلى كل مكان والآتية من كل مكان.
الخرطوم
2 / 6 / 2008
حناء ... الجسد
شرحت له: أنه منذ أن أعلنت عن رقم تليفوني الجوال في الصحافة لم يصمت من الرنين ساعة واحدة، وكنت لا أرفض إلا الطلبات التي يسكن أصحابها بعيدا عن وسط المدينة وليست لديهم عربة تأخذني إلى حيث يسكنون أو الذين لا يقبلون بالسعر الذي أضعة مقابل الخدمات، وأنا لا أبالغ في الأسعار، فغيري يجهز العروس بمبلغ لا يقل عن خمسمائة جنيه، وحنة المناسبات لا يقبلون فيها أقل من خمسين جنيها، أنا أطلب ثلاثمائة جنيه فقط للعروس وثلاثين جنيها لحنة المناسبات وثلاثين أخرى فقط لدلك الجسد بالحلوى؛ لذا كان الطلب علي عاليا، بالرغم من أن (شكار نفسه إبليس) إلا أنه لا توجد امرأة تفوقني خبرة وإجادة وسرعة وإتقانا في تجهيز العروس، وليست هنالك من تستطيع أن ترسم أجمل مما أرسم، أخذت شهرتي ومكانتي في عالم التجميل والنسوانيات تزيد وتتسع يوميا، قال مقاطعا شروحاتي: أعرف أعرف.
قلت له: عشان كده ما سألتك كيف جبت تليفوني وما خفت منك، وركبت معاك العربية مطمئنة.
قال محاولا تجريمي: ولكن أنا اللي اتصلت بيك ما زوجتي!
قلت له: نسوان كثيرات يتصلن بي عن طريق رجالهم، والمسألة عندي عادي.
وطلبت منه أن يطلق سراحي.
قال لي: ولكنك ما استجبت لي. - استجبت؟
قال لي بوضوح ووقاحة وهو يبحلق في صدري: أنا عايزك أنت في نفسك.
قلت له في مراوغة مكشوفة: ما فاهمة؟
كنا في بيت في وسط المدينة، بيت كبير، ويبدو أنه لأثرياء، عبر حديقة صغيرة دخلنا بهوا متسعا تفوح من جنوبه رائحة عطر الصندل، به عدد من كراسي الجلوس الفارهة وكنبة واحدة يتعدى طولها ثلاثة الأمتار، تتدلى من سقوفه النجفات زاهيات كالجواهر، كانت تترامى التحف هنا وهنالك، على الأرض الموكيت الناعم الحلو، تهب نسمات المكيفات الراقيات المنعشات من كل الأصعدة، كنت أتوقع أن تظهر امرأة جميلة سمينة ذات شعر طويل مسدل على كتفيها تتبختل في غنج، أن تنطلق صيحة طفل سعيد من ركن ما، أن تغمرنا ابتسامة أم ثرية طيبة، طلب مني أن أجلس على الكنبة، جلس قربي، وفاجأني قائلا: ما في هنا مرا، أسكن أنا وحدي!
تجادلنا كثيرا، وعندما ألح علي سألته: النساء كثيرات واللي يقبلن عرضك أكثر، ليه أنا بالذات؟
قال في برود: شفتك مرة وأعجبت بيك.
قلت له: ولكن أنا ما شفتك ولا أعجبت بيك، وأنت ما من النوع اللي يعجبني.
قال لي منفعلا: ما هو النوع اليعجبك؟ - أنا أعرفه.
قال وهو يبتسم في مكر: لو شفتيه حيعجبك!
في الحق كان رجلا وسيما، يبدو في بداية الأربعين من عمره، له بشرة قمحية ناعمة وشفتان غليظتان حمراوان، يعلوهما شارب حلق باهتمام خاص، تفوح منه رائحة طيب جميلة، شفتاه كانتا الأكثر إثارة، ولكنه قصير سمين وأنا لا أفضل الرجل السمين، ولكن ليست هي المشكلة، المشكلة أنه اختطفني ولم آت معه برغبتي، وربما إذا لم نلتق بهذه الطريقة الغريبة لكان الأمر مختلفا؛ لأنه ليس بهذا الرجل ما يجعله بغيضا، بالعكس كثيرات منا نحن النساء يفضلن الرجل الثري، قلت له: من الأحسن تخليني أمشي.
قال في إصرار وهو يحرك يديه في الهواء بقلق: لو ما نمت معاي ما حسيبك تمشي.
لم يكن الموقف بالنسبة لي مرعبا ولم أخف، بل لحد ما كنت لا أخشاه كثيرا، بالرغم من أنني أعرف أن مثل هؤلاء الرجال قد يرتكبون جرائم القتل إذا لم تلب رغباتهم، وقد يصبحون عنيفين وخطرين، وأعرف زميلة لي في العمل كادت أن تفقد حياتها، وأنا لم أك عذراء ولو أنني لم أمارس الجنس كثيرا ولا مع رجال عدة، الرجل الوحيد الذي مارست معه كان هو الشخص الذي أحببته ذات يوم ووهبته نفسي، لم نتزوج، افترقنا قبل أيام، ولست ندمانة على شيء، قالت لي نفسي الأخرى: أطيعيه، ولحظتها نهضت من على الكنبة وحاولت الانصراف، مسكني من يدي، كان قويا، حدق في عيني بقسوة ممتزجة بضعف ورغبة قاتلة، ضمني إلى صدره، لم أقاوم، كانت ملابسي تتساقط من على جسدي مثل أوراق شجرة في ريح صيفية، وجدتني وإياه عاريين في غرفة نوم شاسعة، على سرير ناعم ربما قد لحافه من ريش النعام، كان مثل قط شبق يأتي أنثاه، وكنت مثل قطته التي تستسلم في كبرياء، الأمر لم يكن مؤلما، لقد أحسست بمتعة الشيء يغوص في لحمي، ودفء جسده العملاق، ورقة أنفاسه في عنقي وأذني، كان رجلا يعرف كيف يجعل امرأة تفقد وعيها في الفراش، يعرف كيف يجعل جسدها يطير كفراشات في الفضاء، لا أدري كم مرة بلغت ذروة النشوة ولا كم مرة أصبت برعشة عميقة لذيذة تمنيتها أن تدوم للأبد، قضينا زمنا طويلا نتقلب في السرير كقطين نزقين، عندما رن جرس تليفوني كانت أمي في الطرف الآخر تسأل لماذا تأخرت، الساعة الآن الثانية عشرة منتصف الليل، قلت لها وأنا أبحلق في عينيه أنني سوف أبيت في بيت العرس، هنالك نساء كثر ينتظرن دورهن في الحناء.
في طريقنا إلى بيتنا عند العاشرة صباحا طلبت منه أن ينزلني في تقاطع شارعين، ذكرني بالموعد الذي اتفقنا على أن نلتقي فيه، نزلت ومضى، كانت في الركن الشرقي من الشارع نقطة بوليس، وفي الطرف المقابل لها أي الغربي محل الكوافير الذي أعمل عنده أحيانا في المواسم والأعياد، أسرعت الخطى نحو الركن الشرقي.
الخرطوم
7 / 7 / 2008
زوج خريفية
عمتي خريفية ظلت صامدة متمسكة بالجملة التي عرفت بها، عندما يكون الحديث عن المال، أو عندما يبدي أحدهم عشما مستحيلا ويطلب منها ولو قدرا قليلا من المال سلفة: يسمني ويحرقني لو عندي قرش واحد، القروش اللي بيجيبها اللبن تأكلها البهايم علف.
وظلت صامدة أيضا إلى أن تبقى يوم واحد على الوقت الذي حددته الحكومة كآخر يوم لاستبدال العملة القديمة (الجنيه) بالعملة الجديدة (الدينار)، وكنت أظنها لا تتذكر هذا اليوم، إلا أنها في الصباح الباكر عندما جئت لأصبح عليها وأساعدها في فك وثاق الأغنام قبل أخذها للراعي الذي أخذت صفافيره تعلو الآن في الشارع الخلفي، دعتني ولأول مرة أن أدخل قطيتها، وذلك خلال العشر سنوات الماضية منذ أن طلبت مني أمي وأنا طفلة في الخامسة من عمري أن أساعد عمتي خريفية وأن أستجيب لها وقتما طلبتني؛ لأنه لا أطفال لها، عرفت عمتي خريفية بالبخل في كل مناحي الحي الجنوبي، بالبخل الشديد، كانت بخيلة حتى على نفسها؛ حيث إنها لا تشتري من الأسواق شيئا غير الذرة التي تقوم بسحنها في البيت على المرحاكة وتعمل منها كسرة الخبز، تأكلها بالسمنة أو اللبن أو الروب الرائب، وأحيانا بالويكة أو البامية أو الخضرة، وكلها منتجات أغنامها وجبراكتها، وحتى اللحم الجاف هو لحم تخزنه لشهور من آخر حمل اضطرت على ذبحه لسبب أو لآخر، وهي أيضا تأكل وحدها، ولا تهب أية شيء ما عدا الروب، إلا أنها كانت تعاملني - لحد ما - بصورة مختلفة.
عمتي تمتلك قطيعا كبيرا من الضأن والماعز، ينتج ما يقارب الخمسين رطلا يوميا، وتبيع من قطيعها سنويا ثلاثين خروفا وعشرين تيسا، وذلك في موسم الأضحية، وهذه الأرقام ثابتة ولم تتغير حتى في فترة الجفاف في الثمانينيات من القرن الماضي، والسبب في ذلك العقلية التجارية البحتة التي تتمتع بها عمتي خريفية؛ حيث إنها تمتلك مخزونا من علف المواشي يكفي لعام بأكمله، كان بيتنا عبارة عن زريبة كبيرة محاطة بالشوك وأشجار الكتر، مقسمة في الداخل إلى بيوت؛ بيت جدي، بيت عمتي، بيت أبوي وبيت خالنا جبرين، وكل بيت تلحق به زريبة للماشية صغيرة وعدد قطيتين، ما عدا بيت عمتي؛ حيث إنه يحتوي على زريبة للمواشي وقطية واحدة وزريبة أكبر للعلف، وكانت أسرتنا هي الأسرة التي تمتلك أكبر قطيع من المواشي في الحي الجنوبي كله، وتقريبا تشرب نصف المدينة من اللبن الذي تنتجه أغنامنا وبالذات أغنام عمتي خريفية، بالبيت ما لا يقل عن عشرين طفلا وأربع أمهات، حبوبة واحدة، جد واحد، خال واحد، وأب واحد أيضا، كل هؤلاء الناس لم يحظ واحد منهم بدخول قطية عمتي، ولأول مرة أدخلها أنا نفسي، وكنت متشوقة للدخول فيها على الرغم من تلك الشائعات التي تثير الرعب من مجرد الفكرة في الدخول، كانت تؤلف القصص المرعبة عن هذه القطية الغامضة، ولكن عندما طلبت مني عمتي الدخول لم أتردد إطلاقا، عمتي نفسها كانت وما زالت امرأة جميلة طويلة القوام نشيطة، ممتلئة الجسد، لها فم منقوش باللون الأخضر المائل للسواد وعينان دائما مكحولتان، كانت في بداية الأربعين من عمرها، ترتدي قربابا من الفوطة الهندية، في الغالب لا ترتدي شيئا آخر غير ثوب تغطي به الجزء الأعلى من جسدها، بالذات صدرها ونهديها المنتصبين دائما، ويقال إنها إلى اليوم عذراء ولم يمسسها رجل أبدا ما عدا فيما يقال بين الناس: الجان.
لم يكن في داخل القطية أي شيء غريب أو يثير الدهشة، كانت مثل قطية أمي وحبوبتي أو أية قطية أخرى دخلتها، قدمت لي مديدة دخن بالسمنة وبلح عطن في زيت السمسم، وهي تفعل ذلك من أجلي بين حين وآخر، وهو السبب الذي جعلني أبدو أكبر حجما من رصيفاتي في العمر، قالت لي: شايفة البرميل داك؟
مشيرة إلى برميل يستخدم في تخزين المياه لم أره سوى الآن، كان خلف عنقريب ضخم، ربما كان أكبر عنقريب يمكن أن يراه إنسان، ثم أضافت: عايزة أغير العملة، مش الليلة آخر يوم؟
أشرت لها برأسي إيجابا وأنا أبتلع بلحة كبيرة لذيذة، أضافت: أنا عندي قروش عايزة أستبدلها إلى دينارات.
قلت لها وأنا أبحلق في البرميل: وين القروش؟
مشت في خطوات سريعة نحو عنقريبها الضخم ومن تحته سحبت حقيبة من الحديد يستخدمها الجيش في نقل الذخائر، ثم سحبت حقيبة أخرى في ذات الحجم، ثم حقيبتين أخريين من ذات الحجم الكبير، فتحت كل الحقائب في آن واحد أمامي، فذهلت؛ لأنني أول مرة في حياتي أرى هذا الكم من الجنيهات، كانت مرصوصة في عناية ونظام مدهش، لا أدري كم عددها إلى الآن، بل ما كنت أظن أن أحدا يستطيع عدها، أطلقت صوتا ينم عن الدهشة وأنا أضع أصبعي في فمي: إييييك!
قالت لي في حزم: قولي: ما شاء الله. - ما شاء الله.
قلتها مرارا وتكرارا حتى لا أسحرها، وأجعلها تطمئن.
قالت لي: جيبي لينا كارو عم النعيم عشان نشيل فيه القروش دي للبنك ونغيرها .
كانت عمتي تحمل عصاها الغليظة، وهي ترتدي قربابا جميلا، وهي تمشي خلف عربة الكارو، وكنت أنا أركب قرب السائق، أما الحقائب الكبيرة فإنها مغطاة بمشمع من الكنفاز كانت عمتي تحتفظ به منذ سنوات كثيرة ربما لمثل هذا اليوم، ولا أعرف كيف عرف أطفال الحي الجنوبي بالكنز؛ لأنهم الآن يجرون على بعد مسافة كافية من عصا عمتي وهم يسألونها أن ترمي لهم بعض النقود، أما الكبار وعلى الرغم من علمهم بما نحمل في الكارو إلا أنه لا يجرؤ أحدهم على الاقتراب من عمتي، كل ما يمكنهم فعله هو إلقاء التحية من بعيد، بالتأكيد كان شكلها غريبا وهي ترتدي القرباب وحول خصرها الخنجر تخفيه تحت الفوطة التي تستخدمها كبلوزة وتوب في آن واحد، وهي ليست كبيرة في العمر بالصورة التي تجعل الناس يصنفونها كبقايا قرون سابقة، كانت جميلة وطويلة، ولكنها اختارت أن تلبس مثل جدتي حريرة وأن تعيش في زمانها كراعية للماشية، كان الناس يقتربون منا أكثر كلما قربنا للسوق الكبير، وعندما وصلنا البنك كنا وسط غابة من الفضوليين الذين تجمعوا ليروا المرأة الراعية صاحبة الملايين، بدأ رجال البنك بالحساب، وهم في غاية التذمر لكثرة ما سوف يحسبون ودقة عمتي التي كانت تعطيهم ربطة واحدة وتنتظر إلى أن يحصوها عددا ثم يقوموا باستبدالها، تضعها في الحقيبة الفارغة التي أتت بها، ثم ربطة أخرى وأخرى وأخرى إلى أن أتوا على الحقائب الأربع كلها، تأكدوا من صحة حسابهم عن طريق الحاسب الآلي، حينها قالت لهم عمتي وهي تغلق حقائب المال جيدا وتتأكد من أنها قد أغلقت جيدا بسحبها بشدة: حأمشي للبيت عشان أجيب الفكة.
صاح موظفان في آن واحد: الفكة! - أيوا عندي برميل واحد بس. - برميل!
خالي جبرين، أبي، أمهاتي الأربع، أخواي الكبيران محمد والشفيع، خضر ولد النعيم صاحب الكارو، عمتي ذاتها، كنا جميعا نصارع البرميل الثقيل المقفول بصورة تامة محاولين أن نخرجه من القطية لكي نرفعه على سطح الكارو، البرميل الثقيل ثقيل، أخيرا اتبعنا فكرة أبي بأن نفرغه في جوالات من الخيش ليسهل نقله إلى البنك، ولكن فاجأتنا عمتي بما لم يتوقع أحد منها، حينما قالت: شيلوا المال الفي البرميل دا كله كرامة، اتقاسموه ناس البيت كلكم.
فسرت هذه الخطوة من قبل الكثيرين بأن عمتي قد تعبت من معالجة البرميل وعملية الحساب والعد وهي الآن تتخلص من كل ذلك: هذا مشكوك فيه؛ لأن عمتي لا تغضب لا تتضجر لا تمل لا تشتكي من المال.
وفسرت أيضا أن ذلك حدث بإيعاز من الجان الذي يتزوجها: هذا جائز، فللجان أحوال كأحوال البشر.
وفسرت أيضا أن عمتي ستموت قريبا جدا: هذا خيال جامح؛ لأن عمتي ليست من ذلك النوع الذي يعطي انطباعا للآخرين بأنه سيموت قريبا، الذين تحس بهم جنازة تمشي على الأرض، بل العكس: من قال إن عمتي ستموت؟ عمتي خلقت لتحيى للأبد، أو هكذا تبدو لكل من يراها.
أما السناريو الذي لم يضعه أحد في الحسبان هو الذي حدث، كنت وعمتي نجلس في القطية، كان البرميل الفارغ يقبع في مكانه خلف العنقريب الضخم، بدت عمتي سعيدة وحزينة في نفس الوقت، كنا نأكل البلح بالزيت، وبين حين وآخر كنت أنتبه إلى أن عمتي تهيم بأفكارها بعيدا، ظننت في بادئ الأمر أنها مريضة، ولكنها أكدت لي أن صحتها على أتم ما تكون وأنها فقط تسمع أصواتا، سألتني: بتسمعي الأصوات دي؟
كانت الأصوات تأتي من بعيد جدا كصليل الأجراس، ثم أخذت تعلو وتعلو. - دا شنو؟
أكدت لي أنها مثلي لا تدري عن أمر الأصوات شيئا، وأثناء ما نحن نتداول الأمر إذا بالنقود تتساقط في البرميل كالمطر، كانت عملة معدنية لها بريق، ظلت عمتي تنظر في صمت وهي تمسك بيدي لكي لا أخاف أو أهرب، ولم تجب على سؤالي المتكرر لها: دا شنو يا عمتي، دا شنو؟
إلى أن امتلأ البرميل تماما، واختفى الصوت، حينها قالت لي عمتي: القروش رجعت!
في البيت الكبير وجدت الأسرة كلها تجلس للغداء، كانوا يشكون من الاختفاء المفاجئ للنقود التي وهبتها إليهم عمتي، يعرفون أن النقود رجعت إلى عمتي، ويلومون في ذلك الجن الذي يسكن معها في قطيتها، وحذرتني أمي من دخول القطية مرة أخرى، مؤكدة لي أن الجان الذي يتزوج عمتي قد يتخذني أنا أيضا زوجة ثانية له.
الخرطوم
16 / 7 / 2008
طقس الذنب
في هذه المرة قالت أمي لأبي بالحرف الواحد: الولد دا ما ولدك.
بالتأكيد كانت تشير إلي، وأنا بدوري أخذت أبتعد تدريجيا عن أبي وألتصق بأمي أكثر وأكثر حتى أصبحت ما بين رجليها، وحجبني ثوبها تماما عن الرؤية، كان عمري في ذلك الوقت سبع سنوات، ما زلت أرى نفسي الآن قصيرا ألبس جلبابا من التيترون، كان في السابق أبيض اللون، صار فيما بعد بنيا أو رماديا أو ما بين هذين اللونين، لم أدخل المدرسة بعد؛ لأنني في ذلك الحين لم أكن أستطيع أن أنطق بعض الحروف بالصورة السليمة أو الطبيعية، فكنت أنطق حرفي الراء والياء ياء، والسين والذال والزاي والصاد شينا، وحرف الألف عينا، أما الألف الممدودة فما كنت أنطقها أصلا، مما جعل كلامي مضحكا وغريبا، ولأن الأطفال الآخرين والكبار أيضا يهزءون مني ويضحكون علي حينما أتكلم؛ رأت والدتي أنه إلى أن أتمم الثامنة ويتم خنقي بمصران خروف الأضحية لكي تزول عني اللجنة، فإنها تفضل بقائي في البيت قربها؛ حفاظا على سلامتي وسلامة الآخرين؛ لأنني كنت لا أتردد في ضرب كل من يضحك على أحرفي العجيبة بأقرب حجر أصادفه، والأرض عندنا كلها حجارة.
قال أبي لأمي وهو ينظر إليها في احتقار: كذابة، الولد دا ولدي أنا، وإذا طلعت من البيت دا حتسلميني ولدي وتمشي بيت أبوك وحدك زي ما جبتك هنا وحدك.
على الرغم من أن أبي كان منفعلا وتفوح من فمه وعرقه رائحة الخمر، إلا أن أمي كانت تتحدث في هدوء، كانت تشرح له كيف أن الجد برمبجيل، الأب الأكبر المؤسس لعشيرتها، جاء إليها قبل أن تحبل بي، وأنه وضعني في رحمها وأعطاني الاسم الذي أسمى به الآن وذهب، حدث ذلك قبل أن تتزوج أمي من أبي، وأكدت له أنني كنت أنتظر في بطنها إلى أن تزوجته، بالتالي أنا ملكها هي فقط .
عبر صريف القصب نادى أبي صديقه جارنا الأستاذ حسن دوكة، وهو رجل طيب سمين له بشرة سوداء لامعة وعينان كبيرتان حمراوان، ذو شارب كث وشعر قصير، هو من الأشخاص الذين يتحدثون بسرعة تجعلني في الغالب لا أفهم ما يقولون، إلا أن الناس يقولون إن في كلامه حكمة، ثم نادى أبي جارتنا الداية نفيسة بت الميرم، وجاءت ستنا بت الجاويش دون دعوى، فاليوم كان جمعة والجميع بمنازلهم، قالت أمي لهم ما قالته لأبي، لم يهتم الناس كثيرا بدعوى أمي، ولكنهم عملوا على أن يصلحوا بينهما، وفعلا نجحوا في ذلك، وهكذا هم دائما ينجحون، ولكن أبي في اليوم التالي أخذني وأمي في رحلة طويلة استغرقت أسبوعا كاملا، انتهت في قرية صغيرة ترقد تحت حضن جبل تغطيه الأشجار الكثيفة، هي قرية عشيرة أبي، كنت أول مرة أراها في حياتي، وهي أيضا المرة الأخيرة، استقبلنا أهل أبي بالسلام والطعام والشراب، بالحب، كان جدي والد أبي رجلا مسنا قويا يلبس جلبابا كبيرا متسعا أسود، يبدو أوفر صحة من أبي وأكثر شبابا، حملني بكفيه ورفعني عاليا وأطلقني في الهواء ثم قبل أن أسقط أمسك بي، فعل ذلك مرارا وتكرارا وهو يضحك في بهجة ويضحك الناس من حوله، كانوا يتحدثون بلغة لا أفهمها وأنا أتحدث بلغة لا يفهمونها، ولأن أمي ليست من قبيلة أبي فكانوا يتحدثون إلي وأمي بلغة عربية خاصة بسكان تلك المناطق، وعندما سألني جدي عن اسمي قلت له: يييش.
ضحك جدي وضحك كل من كان حوله، وانطلقت أنا أفتش عن حجر، ولحسن حظنا جميعا أن الحجارة التي كانت متاحة هي حجارة كبيرة، وحاولت حمل أحدها ولكني فشلت، فسأل جدي عما أريد أن أفعل، قالت له أمي أنني أبحث عن حجر لكي أقاتل به، فاعتذر جدي لي، سالت أدمعي غضبا.
علق جدي على أنني مثله ألثق في طفولته، وأن وجهي كوجه أبيه، ثم تحدث أبي لجدي حديثا طويلا بلغة عشيرتهم، كان جدي يسمع في اهتمام، ترتسم في وجهه ملامح الغضب حينا، وحينا آخر يبدو عليه ملمح غريب، لم يترك في انطباعا ما، ولكنه لا ينسى، شيء مثل الخوف أو الألم، يردد جدي بين الفينة والأخرى: آآآآها.
إلى أن وصل حدا قاطع عنده أبي قائلا كلاما مختصرا انتهى في صوت مبحوح لا يشبه الصوت الذي كان يتحدث به عندما استقبلنا، وباللغة العربية: نشوف.
همس أبي لأمي طالبا منها شيئا، ولكنها قالت بوضوح وبصورة قاطعة: لأ، حأمشي مع ولدي أي مكان، سوا سوا.
قال الجد: أرح نمشوا قريب، تعالي معانا، ما في مشكلة.
مضينا عبر طريق عشبي، صعدنا الجبل، كان أبي يمسك بيدي وهو يهرول بي خلف جدي، أمي وجدتي تمشيان في الخلف صامتتين، في الحقيقة كلنا صامتون، الصوت الوحيد الذي يصدر منا هو وقع أحذيتنا على العشب والحجارة، إلى أن توقف جدي أمام قطية كبيرة خلفها قطيتان، أتى نحونا صبي في عمري تقريبا، تحدث إليه الجد فجرى نحو قطية صغيرة، جاء في معيته رجل عجوز صافحنا جميعا في أكفنا، سأل أبي أسئلة كثيرة عن العمل والصحة والحياة، هي طريقتنا في السلام، ولكن بعد أن قدم لنا شرابا وطعاما تحدث إليه جدي بصوت خفيض ولو أن التوتر الذي به لا يخفى، كانت أمي تحملق في وهي تريد أن تقول لي شيئا بعينيها فشلت أنا في فهمه تماما.
أراد أبي خلع ملابسي، وعندما قاومت قال لي: ما تخاف، جدك عايز يشوفك.
نظرت إلى أمي، أشارت إلي بأن أقبل، ولأن أبي وأمي كانا يتحدثان عن ختاني؛ ظننت أنهما سوف يفعلان، مما جعلني أخاف مرة أخرى، وسألت أمي ما إذا كانوا سيختنونني، فأكدت لي أمي أنني سوف أختن في العيد وليس الآن، وعن طريق الطبيب، خلع أبي ملابسي كلها، جاء الرجل العجوز بزيت في إناء زجاجي متسخ الجنبات، قالت لي أمي فيما بعد أنه زيت من شحوم المرفعين، جلس القرفصاء أمامي على فراء من جلد أظنه لعجل أو حيوان كبير.
قال أبي لأمي في تحد وهو ينظر إلي: حنشوف الولد دا ولدي أنا ولا لا.
أمي لم ترد، ظلت هادئة ، طلب مني والدي أن أقف منتصبا وأنظر إلى الرجل العجوز في عينيه، فعلت، أمسك الرجل العجوز بعضوي وسحبه إلى الأمام بيده اليسرى بشدة، ثم أدخل كفه مبسوطة في إناء الزيت، أخرجها، قال شيئا لم أفهمه، صفعني فجأة بكفه في سرتي فأحسست أن شيئا ما قد برز فجأة متزامنا مع الصفعة من نهاية سلسلتي الفقرية، هنا هتف أبي فرحا، أما جدي فبكى من الفرح، قالت جدتي بصوت مرح: ما شاء الله.
أخذ الرجل العجوز يدي مبتسما، جعلني أتحسس ذنبي القصير الصغير بأنامل كفي، كان شيئا أملس قصيرا دافئا قبل أن يصفعني العجوز مرة أخرى ويختفي الذنب، ظلت أمي الشخص الوحيد الذي لم يكن سعيدا وهي تبتسم في ألم.
الخرطوم
4 / 9 / 2008
الرجل الميت
اقتسم المقاتلون حاجياته القليلة؛ أخذوا حذاءه وبذلته الحربية، حيث إن زيهم العسكري هو نفس ما يرتديه جنودنا، ولم يبقونه سوى بلباسه الداخلي المبتل بالدماء، ويبدو أنه قد جرح في إليته أو مكان قريب من هنالك، كان يقف بصعوبة بوجه منكفئ نحو الأرض، لم يرفع رأسه مطلقا لينظر إلي في عيني، أو ربما أنا الذي لم أستطع أن أرفع رأسي لأتفرس وجهه، كما أدركت فيما بعد.
لأسباب أمنية استخباراتية احتفظوا لي بموبايله، كان جهازا بسيطا من ماركة نوكيا يسمونه ريبكا، وهو منتشر بين العساكر لسعره الرخيص، ويشاع أنه قوي البنية وله بطارية تحتفظ بالطاقة الكهربائية لزمن أطول، ويستخدم أيضا للإضاءة الليلية في وسط محدود، وضعته في جيب بذلتي العسكرية مع بطاقته، دونت اسمه ورتبته العسكرية في دفتر أحوال الميدان، وهو دفتر صغير أحتفظ به وأسميه بهذا الاسم المريب، أستخدمه في حياتي اليومية كمدونة لما تمر بي من أحداث وتراوغني من أفكار، كالعادة طلبت منهم أن يحتفظوا بالأسير في مؤخرة الصندوق، ولكن الجنديين ضحكا من سذاجتي، وقال لي أكبرهم رتبة: بلكنته المحلية فيما يعني: ماذا نفعل به، لا يوجد مكان للأسرى، ليس بآخر الصندوق أو أوله، وإذا لم نقتله نحن سيقتله الآخرون.
ووضع في أذني الجملة الكريهة التي مللت سماعها، وأصاب بالغثيان كلما فكرت فيها وهي: إكرام الأسير قتله.
ثم أضاف: دعنا نتخلص من هذا الرجل الميت.
وركله بسخرية بمقدمة بندقيته، بينما ظل الرجل كما هو بائسا منكسا رأسه، يرتجف قليلا، يسيل الدم من تحت لباسه القصير في شكل خيط رفيع أحمر، شديد الاحمرار.
قلت مندهشا، محاولا ألا تلتقي عيناي بعينيه: الرجل الميت؟ - نعم، إنه ميت ميت. - إنه يمشي ويتنفس ويرتجف، كيف يكون ميتا؟
قال لي وهو يركله مرة أخرى: صدقني إنه ميت، ألم تر ميتا يمشي في حياتك ويتنفس ويرتجف؟
إذا لم تر ذلك من قبل فإنك تراه الآن، تكلم معه فإنه لا يسمعك ولا يرد، خلينا نتخلص منه عشان نشوف أشغالنا الأخرى.
نظرا إلي فيما يعني أيضا أن عينة هؤلاء الضباط جبناء، لا يفقهون في الحرب شيئا، لا يفهمون في الموت، يعني أنني أخاف أن أرى شخصا يقتل أو أقتل شخصا أو آمر بقتله أو أشاهده ميتا، وأنهما سيتوليان أمره بطرائقهما الخاصة، كررت أوامري بأن يتم سحبه إلى مؤخرة الصندوق وأن يعودا إلي بأسرع ما يمكن، ولولا خفت من أن أتهم بالخيانة والعمالة لطلبت منهما أن يعرضاه لطبيب مستشفى الطوارئ الميداني بأسرع ما يمكن، كما لو أنه كان واحدا من جنودنا الجرحى، وقد يبدو كأي مواطن عادي طالما لم يحمل بندقية ولا يرتدي الزي العسكري، لا يستطيع أحد أن يميز أنه من المتمردين، لا شيء يميزه إطلاقا، إلا إذا صادف أحدا من أقاربه أو معارفه الأقربين في المستشفى الميداني، وكانت بينهما ضغائن لم يمحها الزمن، وإذا أطلقا سراحه فهو أيضا يستطيع أن يتدبر أمر نفسه وينجو.
كنت مشغولا بوضع خطة هجوم جديدة بعد أن نجحت الأولى نجاحا باهرا نسبة لعنصر المفاجأة الذي صممت عليه، لم يكن جيش العدو بعيدا عنا، لقد اعتصموا بخنادقهم خلف الغابة، عند خور المرفعين، وكان الحل العسكري الوحيد هو ضربهم بالمدفعية والراجمات من وراء مؤخرة الصندوق، مع الزحف البطيء بالمدرعات والمشاة نحو دفاعاتهم الأمامية، كنت أنا قائد «جماعة» المقدمة، معي ضابطان آخران، عددنا جميعا ثلاثة وثلاثون فردا، لم يتم اختيارنا عشوائيا لقد كنت أعرف المكان جيدا، إنه أحد ميادين لعبي وأنا طفل، وعندما كبرت قليلا صرت أخرج مع أصدقائي الصبيان من بين ترابه الذهب، يقولون معرفة ميدان المعركة كسب لنصف الحرب، علينا أن نحافظ على أرواحنا ونستطلع قوة مقدمة العدو، ونقترح تكتيك الهجوم، كان من المفيد في هذا الشأن أن يتم اختيار ضابط ميداني غيري؛ لأنني قبل كل شيء غير مقتنع بالأسباب الأساسية لهذه الحرب، وأنني أيضا لا أرى مبررا منطقيا من قتل جندي ليست بيننا أية مشكلة أو سوء تفاهم، بالعكس إذا كنا قد التقينا في ظرف آخر غير هذا المكان البغيض لنشأت بيننا علاقة رائعة، وربما سكرنا معا، غنينا ورقصنا على أنغام الكلش وتشاجرنا شجارا حميما في بنت جميلة، إنني أيضا لا أرى سببا منطقيا يجعلني أضحي بحياتي من أجله، أنا سوداني أحارب سودانيين آخرين، لهم قضية معروفة يناضلون من أجلها، أتفق فيها معهم أم أختلف ليست هي القضية، أنا لا أفهم فيم أحارب ولأجل ماذا، لم يستشرني أحد في الحضور، بل كلفت بسرعة ووضعت جماعة بكامل عتادها العسكري تحت إمرتي وتوجهت لميدان المعركة، وكنت أتمنى أن أموت في بيتي أو في الدفاع عن وطني، وأعرف أن كثيرا جدا من الأراضي السودانية محتلة من قبل دول الجوار، ربما كنت أجد مبررا معقولا لخوض معركة ضد عدو احتل أرضي، والأدهى والأمر أنني من ذات المجموعة القبلية التي أحاربها وأهزمها الآن، وقد تهزمني في دورة أخرى، وربما إذا كنت دقيقا فإن المدفعية التي تعمل منذ أكثر من ساعتين تسقط قذائفها في القرية التي ولدت فيها بعد أن هرب أهلي بالطبع إلى دولة مجاورة كلاجئين، بقدر ما أنا أعي حقيقة الأشياء بقدر ما أمضي قدما في وضع الخطط الفاعلة من أجل أن ننتصر، فلا يعني أنني أفهم جوهر الحرب أن يفهما ما نسميه العدو بنفس الطريقة، أقصد الذين نحاربهم وهم الذين إذا وقعت في يدهم أسيرا أو جريحا سيذبحونني في الحال؛ لأنهم يعتبرونني خائنا لشعبي، وطني وعشيرتي ، وأنهم يعرفون أيضا، أنني أنا الذي يضع الخطط العسكرية الهجومية والدفاعية في هذه المنطقة بالذات للقضاء عليهم، لا أحد غيري من الجنود والضباط ولد هنا، عندما تكون في ميدان المعركة يصبح دافعك الوحيد هو أن تظل حيا، وتفعل كل ما يمكنه أن يحقق لك تلك الرغبة الإنسانية المتأصلة، وهي ذاتها التي تصير في غاية الوحشية عندما تدفعك لقتل الآخر دون تردد؛ لأنك تظن أنك إذا لم تقتله فإنه سيقتلك، وهو أيضا يحمل ذات الظنون الشيطانية ولا يرى فيك سوى بندقية تطلق الرصاص.
مرت تلك الأيام بمراراتها وانتهت تلك المعارك التي انتصرنا فيها وعدت إلى المدينة حزينا، احتفل المنتصرون السياسيون الذين لم يذهبوا لميدان معركة في حياتهم بالنصر، أنشدوا، غنوا، رقصوا، ذبحوا الثيران البائسة، كتبت في دفتر الميدان الذي أحمله معي أينما ذهبت:
أحسست بأنني إحدى تلك النعاج السمينة التي قدمت لنا في الغداء، وشاهدت فيها دم ذلك الرجل الميت النازف من بين ساقيه، كان يغطي اللحم مثل كريمة من الطماطم الطازجة.
وهذا السطر أعاد لي ذكراه مرة أخرى، أعادها بعنف وإلحاح عظيمين، عندما عدت للمنزل بدأت أبحث في حاجياتي عن موبايله وبطاقاته، كانت صورته تبين وجهه العريض وعينيه السوداوين الضيقتين، ويبرز شاربه بصورة حادة وكأنما كان يعتني به عناية خاصة، يبدو أنه شخص ما، ليس إنسانا عابرا، قرأت رتبته العسكرية مرة أخرى، رقيب إدارة، ولكنه بدا كقائد ميداني أو رجل استخبارات، كان الذكاء يشع من عينيه وتفاصيل وجهه، نظرت لقائمة الأسماء والأرقام المسجلة في ذاكرة موبايله؛ بعض الأشخاص تسبقهم رتبهم، وأسماء بغير ألقاب، إلى أن عثرت على ضالتي، وهو الرقم المسجل باسم «الأولاد»، وهذا يعني رقم زوجته، كانت لدي رغبة ملحة في أن أتعرف على ما إذا كانت له زوجة وأطفال أم لا، لا أعرف ماذا سأفعل من أجلهم أو أفعل بهم، لكن الرغبة في معرفة أحوالهم كانت تدب في قلبي مثل النمل، في الحقيقة الرغبة في تتبع أخباره هو، التي تعمل في أحشائي كالمنجل، استفسرت عن الرصيد الذي بالشريحة للاتصال وجدته صفرا، أرسلت لرصيد وأضفته للشريحة، كما أنني تعرفت على رقم شريحته، عندما اتصلت على نفسي من موبايله، الآن علي أن أتصل بأسرته، لا أعرف ماذا أقول لهم؛ لأنني كنت مرتبكا جدا، تصرفت بغباء بالغ، اتصلت بذات موبايله بدلا من أن أتصل من تليفوني الخاص أو أي تليفون عام بالشارع، وكانت النتيجة مذهلة، بعد الجرس الأول فقط سمعت صوتا يهتف من الجانب الآخر بل يصرخ في شدة، لدرجة أنني اضطررت لإبعاد الموبايل عن أذني: أبي، أمي أبي يتصل، أبي، أبي يتصل، أمي أسرعي.
كان الطفل يصرخ باللغة المحلية، هي ليست لغتي الأم لكنني أجيدها أيضا، قمت بإنهاء المكالمة وإغلاق الموبايل مباشرة، أستطيع أن أقول إن ذلك حدث بطريقة لا إرادية تماما، كأنما ليس أنا الفاعل، عرفت أنهم لم يعلموا بعد أن والدهم رجل ميت، أحسست بتأنيب الضمير؛ لأنني زرعت في أسرته أملا زائفا مربكا، بل قد أكون أصبتهم بالرعب عندما أنهيت المكالمة بهذه الطريقة البائسة وأغلقت الموبايل، لماذا لم أكن بالشجاعة التي تجعلني أتحدث لأمهم وأخبرها بما حدث لزوجها، سيكون ذلك نبيلا شهما كريما جدا وإنسانيا، احتقرت نفسي، كيف لي أن أتصرف كما الأطفال وأنا ما فوق الأربعين من عمري ضابط في الجيش برتبة محترمة، وقائد حربي، أعتبر نفسي أيضا ذا ثقافة لا بأس بها، فأنا قارئ جيد في شتى مجالات المعرفة الإنسانية، مما يؤهلني أن أتصرف تصرفا يليق بي كإنسان، قررت أن أعمل على تصحيح الوضع، وقمت بالتقصي عن مكان سكن الأسرة، كانوا في مدينة لا تبعد كثيرا عن مكان إقامتي، وقررت أن أذهب إليهم وأحمل معي موبايله، بطاقته العسكرية، بعض الزاد من المواد التموينية والهدايا لزوجته، ولديه وبنته الكبرى، وهي حسب المعلومات في السادسة عشرة من عمرها، الولدان في العاشرة والرابعة، قدرت أن الذي رد على التليفون وصرخ مناديا أمه هو طفل العاشرة.
في أول الشهر، أي بعد أسبوعين من حادثة المحادثة قدت عربتي بنفسي، مضيت طالبا أسرته، كان منظره لم يبرح عيني، منكسا رأسه، في لباس قصير، يسيل خيط رفيع من الدم من تحته، وحوله الجنديان يتشهيان قتله.
وصلت في منتصف النهار، كانت الشمس ساخنة، البيت يقع في حي شعبي مكتظ بالسكان، عبر طرق ضيقة غير معبدة تضج بالحفر والمجاري المائية الصغيرة، استطعت أن أوقف عربتي أمام باب البيت، كان بيتا مبنيا من الطين اللبن، له بوابة صغيرة مبنية جوانبها بالطوب الأحمر، مطلية بالجير الأبيض، ويبدو الطلاء جديدا، تجمع بعض الصبية والصبيات الصغار حول العربة، بعضهم أخذ يستفسر ما لو أنني أريد بيت الحاجة علوية، وهي زوجته، في الأحياء الفقيرة نسبة لغياب الآباء الطويل تعرف الأسر بأسماء الأمهات، أهز رأسي أي نعم وأنا أطرق الباب، لحظات وانفتح، كان نحيفا كما هو، يرتدي جلبابا نظيفا أبيض، شاربه معتنى به جيدا، ولأول مرة أنظر إليه في وجهه وعينيه السوداوين الدقيقتين، وهو يمد يده مصافحا، قال لي مبتسما باللغة المحلية: أظننا تقابلنا من قبل.
هززت رأسي إيجابا، بينما كان هو يفسح لي الطريق لكي أتقدم بالدخول إلى فناء بيته الفسيح.
الدمازين
16 / 12 / 2011
فنطاسيا الشبح
(يرفع الستار: تظهر في الخلفية مبان وبيوت محروقة يتصاعد منها الدخان، تسمع أنات وصرخات تأتي من كل أنحاء المكان، صوت تفجيرات وبعض قعقعة الرشاشات الخفيفة، يظهر وسط المسرح رجل ضخم يرتدي الزي العسكري، على كتفيه عدد كبير من الأنواط والعلامات العسكرية، يقف على كومة من المعدات والآليات العسكرية المعطوبة، وترى تحته أيضا بعض الأدوات المنزلية وبقايا جثث بشرية، أحذية جنود، أحذية مدنيين، جلود حيوانات، قذائف فارغة، وبعض قطع السلاح، ويظهر في خلفية المسرح أيضا، ويبدو بعيدا بعض الشيء، جبل كبير مخضر كثيف الأشجار، يتصاعد خيط خفيف من الدخان من تحت قدمي الجنرال، متسربا من بين الأشياء، يبدو الجنرال منتفخا ومزهوا، ويغمره إحساس بأنه نبي، أو رب صغير استثنائي، عندما يكتمل رفع الستار، ينظر إلى البعيد وكأنه يخاطب أشباحا لا وجود لها في الواقع، يصرخ بصوت غليظ مبحوح.)
الجنرال (ينظر يمينا وشمالا، ثم إلى الأمام وكأنه يبحث عن شيء ما) :
يا أهل سوبا. (يصمت قليلا، يسمع الصدى مكررا صوته: يا أهل سوبا) ، يا أهل سوبا، ماذا ترون أني؟ (الصدى يرد بذات الصوت يملأ الأمكنة كلها: «يا أهل سوبا ماذا ترون أني ني ني»، وتسمع الكلمات الثلاث الأواخر واهنات، وتكرر الأخيرة عدة مرات.)
الجنرال (يضحك بصوت ساخر ومرعب) :
ها ها ها ها ها ها (تعلو ضحكاته تدريجيا إلى أن تصبح مثل هزيم الرعد، ويكررها الصدى).
صوت (يسمع هدير طائرة تعبر السماء بمستوى منخفض جدا، يطغى صوتها على كل الأصوات الأخرى، يختفي تدريجيا، يتبعه صوت امرأة في شكل آهة ممطوطة) :
آآآآآآه يا رب؟
الجنرال (يلتفت في عدة اتجاهات في تعجب) :
هل من مناد؟ أنا سمعت صوتا ينادي، أيوجد شخص حي هنا، هل هنالك من يحتاج لمساعدة؟ شخص جريح، أسير، ميت، منته؟ خائن أو صديق أو أي شيء؟ أنا سمعت صوت شخص يناديني. (يصرخ بكل ما أوتي من قوة) : يا ناس هل من مناد! (يصمت قليلا، يتحدث بصوت منخفض مبحوح) : على ما أعتقد أنا الآن وحدي، وحدي، وترقد المدينة المشاكسة تحتي، تحت قدمي، تحت حذائي، (بصوت أعلى قليلا) : تحت بوتي أنا وحدي، (يضرب بشدة برجله على كومة الأشياء تحت قدميه، فتسمع آهة عميقة ممطوطة، تخرج من تحت قدميه. يقفز من أعلى البقايا التي يقف عليها، يتعثر مرارا، يتمالك نفسه، يقوم ببعثرة الأشياء بسرعة وبدون تركيز؛ بحثا عن مصدر الآهة، وهو يطنطن بكلام غير مفهوم، يرمي بالأشياء في كل الاتجاهات، منتباب، بقايا أطعمة، أحذية، قطع أثاث، عقد سيدة، شاشة تلفاز، قدم جندي في البوت، جثمان امرأة، يهزه قليلا ليتأكد من أنها ميتة، يرمي به جانبا، قط ميت، جركان ماء نصفها محروق، ريش دجاج، كتاب كبير الحجم، كتابان صغيران، لوحة تشكيلية، يرميها سريعا يقذف بها لأبعد ما يكون، ينصت، دجاجات ميتات، يرمي بالدجاجة بعيدا في قرف، فتصدر صوتا غريبا، يذهب نحوها في حذر، يمسك بها، تبدو في تمام النفوق، يرمي بها بنفس الطريقة الأولى، فتصدر ذات الصوت كأنها تقول: آآآآآآآه يا رب. يأخذها مرة أخرى ليتأكد من أن الصوت يصدر عنها بالذات ، يضعها تحت رجله اليمنى، يضغط عليها بشدة، فلا تصدر أية أصوات، يدور بها، وبكل ما أوتي من قوة يرمي بها بعيدا، وبعد لحظات تعود إليه مقذوفة بشدة وبقوة في اتجاهه، يميل بجسده في حركة رياضية للخلف متجنبا جثة الدجاجة، تسقط قريبا منه، يركلها برجله في قرف لا يخلو من الخوف.)
صوت :
آآآآآآآآآآه يا رب.
الجنرال (منزعجا) :
أنا سمعت صوتا، أيوجد شخص حي في مكان ما؟ شخص يحتاج لمساعدة، شخص جريح أو محروق أو يحتضر، شخص محتاج لكي ينجو، ينجو من الموت أو من أي شيء آخر، واحد من الخونة أو الأصدقاء، (يعبث بالبقايا التي تنتشر حوله، يخرج ساقا لجندي لا يزال البوط مربوطا جيدا على قدمها، وبقايا البنطال العسكري ملوثة بالدماء، يتمعنها جيدا، يتمتم) : واحد من الخونة. (يتفحصها مرة أخرى) : لا، لا، على ما أعتقد، واحد من جنودنا البواسل، أنا أعرف عينة هذه الأبواط، ولكن الخونة أيضا يمكنهم الحصول على ذات الأبواط، نعم الفرق بيننا وبينهم في مصدر البوط فقط، إنهم يتلقون البوط كهدية من دولة الكيان الصهيوني، ونحن نستقبله من جمهورية إيران الإسلامية كهدية أخوية إنسانية، لا علاقة لها بالحرب، إنها دليل على الترابط الإنساني بين شعبينا، أما إسرائيل فإن لديها أهداف شريرة وراء كل عون تقدمه للخونة والمارقين، إنهم يحولون دون القضاء المبرم والنهائي عليهم، يريدونهم أن يظلوا شوكة حوت تقف في حلق الأمة، سحقا! (يعبث بكلتا يديه في البقايا، يعثر على بندقية كلاشنكوف بحالة جيدة، يقلبها، يقرأ
Made in China
يبتسم، يضعها على كتفه) : صاحبها الآن في الجنة مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا، (يعبث مرة أخرى تحت قدميه، يحرر حذاءه العسكري من بعض العوالق، تسقط أنواطه على كومة الأشياء، يسمع صوت طائرة تمر قريبا يتبعه إطلاق رصاص، يرتبك، يتعثر، يسقط، تسقط البندقية من كتفه، ينهض، يمسح الأوساخ عن ملابسه، تظهر بقعة دم كبيرة على صدره، يحاول أن يزيحها بكفه فتكبر أكثر، يمسحها بكفتيه فتكبر أكثر، وهكذا إلى أن تعم كل بدلته العسكرية، تصبح حمراء، فيقوم بخلعها ورميها بعيدا ، ويبقى بنصفه الأعلى عاريا.)
صوت :
آآآآآآآآه يا رب!
الجنرال (ينتبه، يسترق السمع) :
من؟ سمعت صوتا، هل من مناد؟ هل سمعت اسمي، أيوجد شخص يريد مساعدة ما، صديق أو خائن؟ (يخرج مسدسا من بين جنبيه ويعمره). (تتساقط على خشبة المسرح قطع وأشياء متعددة ومتنوعة؛ بقايا أسلحة، قذائف فارغة، ملابس جند، أوان منزلية، أحذية نسائية، ملابس نساء، وفاكهة قريب فروت متعفنة، يعيد المسدس إلى موضعه، يلتقط قطعة ملابس داخلية، لباسا كبيرا لسيدة، يطرحه أمامه في مستوى وجهه، حاجبا إياه من الجمهور، تظهر بقعة دم كبيرة على اللباس، تتسع قليلا قليلا إلى أن تعم القطعة كلها، تنقط دما على الأرض، يرمي به بعيدا، تأبى القطعة إلا أن تبقى في كفه، ينفضها بقوة ولكنها تظل عالقة بكفه، يدوس عليها برجله جاذبا إياها للأسفل محاولا تخليص كفه، ولكن القطعة تظل عالقة بأصابعه، يقف محتارا، فتسقط على حذائه من تلقاء نفسها، يمسح الدم على بنطلونه، تسمع أصوات إطلاق الرصاص، يدخل المسرح عدد كبير من النساء والأطفال في هلع، يلبسون ملابس ممزقة، يحملون بعض الأدوات المنزلية والمتعلقات الشخصية على رءوسهم وظهورهم، بعض الأطفال مربوطين على ظهور أمهاتهم، يصدرون أصواتا ويصرخون، يعم المسرح هرج ومرج، ولا يحسون بوجود الجنرال الذي يرتفع للأعلى وحوله بقايا الأشياء التي تحيط به، وهو يقف مثل الصنم لا يبدي أية حركة، ينظر بعيدا نحو عمق المسرح، يسمع صوت طائرة تعبر السماء، يرقد الناس كلهم على الأرض، يحتمون بما يحملون، ويصمتون في خوف، يظل الجنرال واقفا منتصبا مثل صنم منسي في صحراء، لا خرائط تقود إليها، يسمع صوت إطلاق رصاص، ينظر الجنرال للبشر الذين تحته، يحتمون برفع أياديهم على رءوسهم، أو يجعلون من متعلقاتهم مصادر حماية وساتر) : من أين جاء هؤلاء الناس، ألم يرسلهم جنودنا البواسل للجحيم؟ (عندما يختفي صوت الطائرة نهائيا يعود الأشخاص إلى الهرج والمرج، يعالجون متعلقاتهم؛ النساء يرضعن أطفالهن، الأطفال الأكبر عمرا يتجولون حول المكان يكتشفون مفرداته، الرجال وهم قلة يتناقشون في جماعة بجدية، ويظهر على الجميع الوهن والخوف وضعف البنية الجثمانية ، تبدو ملابسهم متسخة ممزقة وملوثة بالدماء، يتدلى الجنرال من أعلى الركام، يتجول بين الأشخاص الذين لا يظهرون أية علامة على أنهم يرونه) : الله! هل أنتم عميان؟ ألا تحسون؟ أم أني أتوهم مجرد توهم؟ (يلمس طفلا صغيرا يلعب ببقايا بندقية، لا يظهر الطفل اهتماما به) : إذا أنا أتوهم، ماذا أصابني! (يجري بين الأشخاص، يعثر على البعض، يضرب البعض، يتمتم بكلام غير مفهوم) : آآآآه هل أنا الوهم؟ هل أنا شبح وهؤلاء أحياء أم أنا حي وهم مجرد أشباح، أشباح حرب تافهون لا أكثر؟ هل هم الخونة الذين قتلناهم؟ (يسمع مارش عسكري يأتي من بعيد ويعلو تدريجيا. يبدو الارتباك على الأشخاص، ويقومون باتخاذ الساتر، يخفون أوجههم بأكفهم، البعض يضع أصابعه في أذنيه وهم يختفون خلف كومة الأشياء، يصعد الجنرال إلى أعلى كومة، يحيي تحية عسكرية وهو منتصب كالصنم، ويعلو صوت المارش إلى أن يبدو وكأن الموسيقيين يعزفون المارش في داخل المسرح، ويستمر إلى ما يقارب الدقيقة، ثم يأخذ في الاختفاء تدريجيا، وعندما يختفي تماما ينزل الجنرال يده من صدغه مبتسما ابتسامة صفراء):
أنا قوي إذا أنا موجود، (يعبث بالركام تحت قدميه، يخرج أسطوانة معدنية كبيرة، كتلك التي تستخدم لحفظ غاز الأكسجين، يتهج ما هو مكتوب عليها بطريقة طلاب المدارس) : مبيد لقتل الأشباح. (يضيف مبتسما) : معقول، هل يوجد مبيد لقتل الأشباح؟ (يتهج مرة أخرى بذات الطريقة) :
Made in soooooba
حسنا، إنه صناعة محلية، صنع هنا في سوبا، وهل يمكن صناعة هذا الشيء في غير هذه المدينة التي نصفها غابة ونصفها الآخر جبل وسكانها ينعمون في قبورهم؟ آن الأوان أن نتخلص من الحشرات الشبحية بمبيد أنتج محليا. (مخاطبا الأشخاص) : آن الأوان للتخلص منكم أيتها الأشباح الآدمية، (ينظر الأشخاص في ازدراء وهو يفتح قفل الأسطوانة الضخمة، تنفتح مصدرة صريرا مخيفا، تخرج من الأسطوانة سحابة كبيرة مثل الدخان تعم المسرح كله تدريجيا حتى تنعدم الرؤية ويظلم المسرح تماما، ثم تبدأ في الانقشاع التدريجي، يظهر الأشخاص وهم يقومون بعمل دمى لجنرالات من القماش المحشو بالقطن، إلى أن تتضح الرؤية أخيرا وينجلي الظلام؛ حيث تظهر عشرات النسخ من الجنرال في شكل دمى كبيرة من القماش المحشو بالقطن بأحجام مختلفة، لها ألوان بيضاء وسوداء وحمراء وصفراء وبرتقالية معلقة على سقف المسرح متدلية برأسها للأسفل، وأمام المسرح على اليمين قليلا طفل يضع اللمسات الأخيرة للوحة يرسم فيها الدمى المعلقة على سقف المسرح رءوسها مدلاة للأسفل، وفي مقدمة المسرح عن الوسط قريبا جدا من الجمهور يجلس رجل ضخم على كرسي دوار وهو يعطي ظهره للمشاهدين، فجأة يدور بكرسيه دورة كاملة، ثم يتوقف وهو في وضع المواجهة الكاملة للجمهور، وجهه هو ذات وجه الجنرال، يرتدي ذات ملابسه، في صدر بذلته العسكرية مريلة بها بقعة دم كبيرة، يصمت لثوان، يحملق في المشاهدين، من ثمة ينفجر بالضحك بأعلى صوته، يتجاهله الطفل وبقية الشخصيات الذين بخشبة المسرح تجاهلا تاما كأن لم يكن، يستمر في الضحك بينما يسدل الستار تدريجيا، أو يسقط الستار من أعلى.)
11 / 11 / 2011
الأم
مثله مثل كثير من أبطال القصص التي أكتبها، كان الرجل لصيق الصلة بأمه، ليس لأنه وحيد أو أنه أصبح كذلك فيما بعد، ولكنه هكذا وجد نفسه وبقي على هذه الحال، هذا اليوم سوف يصبح نقطة تحول في حياته، هو يعرف ذلك ويعيه جيدا، سوف يفقدها فيه، وهذا ليس من علم الغيب بالنسبة لطبيب متمرس وخبير في مسألة الموت والحياة، أمه تحتضر الآن، وستموت في ساعة ما في اليوم، كما مات في يديه مئات الأشخاص رجال ونساء وأطفال، لم يخطئ قط في تقدير وقت وفاتهم، ولكن احتضار الأم ليس كاحتضار الآخرين، كان حزينا جدا وبائسا جدا، ولم يستطع أن يبقى معها للحظة الحاسمة التي تحتاج فيها إلى من يقبض على يدها ويهمس في أذنها بكلمة قد لا تسمعها، ولكنها تجعلها تغادر هذا العالم في سلام، طلب من أخوته أن يقوموا بهذه المهمة وهرب هو بعيدا لا يدري إلى أين، ركب عربته ومضى في الطريق الذي صادفه في الاتجاه بالسرعة، ومضى، ولكنه في وقت لاحق من سفره قرر أن يذهب إلى مدينة تقع على بعد خمسمائة ميل في الاتجاه الذي تسير فيه العربة، أغلق موبايله، انطلق لا يلوي على شيء.
وصل في منتصف الليل، لم يذهب إلى منزل أقاربه أو أصدقائه، إنما ارتكن إلى فندق عجوز وحشر نفسه في قراءة الكتب ومشاهدة الأفلام، كانت تطوف بذهنه أفكار كثيرة متضاربة، ولكن سيطرت عليه فكرة أن أمه سوف لا تموت، وأنها قد احتضرت عدة مرات من قبل واستطاعت أن تبقى حية وتمارس حياتها وحبها له لسنوات، لكن تلك ليست كهذه؛ فهي ما فوق الثمانين، وليس للمرأة كلية عاملة على الإطلاق، وإنها لم تستجب لعملية غسيل الكلية بصورة مطلوبة، بل إن عقلها قد بدأ يموت تدريجيا، ولكنه استطاع أن يصبر على هذه الأفكار ليوم، ثم ليومين ثم لثلاثة ثم لأربعة، ثم رضخ أخيرا إلى فكرة أن يفتح موبايله وينتظر مكالمة من أحد أصدقائه أو أسرته ليبلغه بأنهم قد حضروا الدفن، وأنهم افتقدوه وأن أسرته كلها كانت هنالك ما عدا هو، كانت ترعبه فكرة الوداع، ولكن قد يتقبل مسألة الموت.
الساعة تشير إلى الخامسة مساء، عندما فتح موبايله لم تمض دقيقة واحدة حتى رن جرس الموبايل، كان رقم البيت، قبل أن يفتح الخط هيأ نفسه لأحد الأمرين: إما أن يبشروه بحياة أمه أو يخبروه بموتها، وهو مستعد للاثنين معا.
في الطرف الآخر كانت هي نفسها، بدا صوتها ضعيفا، ولكنه ينضح بقوة الحياة وجمالها ببحته الحلوة، قالت له أنها تعرف أنه هرب حتى لا تموت بين يديه، فهي تقدر ذلك، وطمأنته بأنها سوف لا تموت قريبا، وما أصابها ليست سوى إغماءة وفاقت منها، وأنها عادت من غسيل لكليتها ناجح قبل قليل، وختمت مكالمتها قائلة: تعال، الناس في انتظارك.
انطلق بسرعة البرق نحو المدينة، كان الطريق جميلا وساحرا، والعالم كله يغني حوله مع إيقاع ماكينة العربة، هو نفسه يغني ألحانا لا يدري لها كنها فنان أو ملحن، تلك التي يسمونها هبة الطبيعة، اشترى خروفا من البدو الذين يرعون أغنامهم حول المكان، وضعه في الدرج الخلفي، «كرامة وسلامة» لأمه التي قال عنها في سره: طالما نجت من هذه الميتة فسوف لا تموت مرة أخرى أبدا، وأنه سوف يعطيها إحدى كليتيه، سوف تعيش مثل جدها الذي ناهز المائة والأربعين ولم يمت لولا أن سقط من على ظهر حماره وكسر عنقه.
كان البيت كما تركه هادئا، بعض الصبية يلعبون بعربات من الصفيح صنعوها بأنفسهم، عندما دخل الحوش الكبير كان إخوته الصبيان هنالك تحت راكوبة كبيرة، نهضوا جميعا في آن واحد يعزونه في وفاة والدتهم التي هرب منها يوم موتها، وقالوا له فيما بعد أنها سألت عنه قبل أن تطلق زفيرها الأخير.
الخرطوم
15 / 4 / 2009
अज्ञात पृष्ठ