68

मुश्किलात माका ग़ुरबा

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

शैलियों

إذن فالأمر الإلهي - شأنه شأن الأمر المطلق عند كانط - يخلو تماما من المضمون، فهو كعبارة القديس أوجستين «أحب وافعل ما شئت.» فهو يشير باقتضابه إلى سمو الرب عما هو بشري، فمن السمو ألا يفرض الرب أوامر مقيدة على مخلوقاته كما تفعل الأنا العليا السادية المبالغة في عدم واقعيتها لأنه لا يحتاج إليها. فحبه - باختصار - خال من الرغبة. إن هذه - وليس القانون الأخلاقي عند كانط - هي الصورة الحقيقية لعدم المشروطية؛ فالحب الإلهي يعني عدم انتظار مقابل؛ ولهذا تكون مشاركتنا في هذا الحب في أعمق صورها عندما نتمكن من أن نحب دون شكر أو من طرف واحد. فإن كان يهوه في العقيدة المسيحية اليهودية ليس هذا المستبد المتعالي الذي يفرض قيودا شديدة الثقل على كاهلنا؛ فذلك يرجع من بين أسباب أخرى إلى أنه لا يحتاج إلى العالم؛ وهو ما يعني أنه خلقه دون أن ينتظر مقابل، بدافع الحب لا الاحتياج؛ فالخلق هو الفعل المجاني الأول، فهي مسألة «متعة»؛ وهو ما يعني أنها مسألة لذة «لا طائل منها» بعبارة لاكان، فالوجود هبة وليس قدرا؛ فلا ضرورة عند الرب لخلق أدق جسيم مادي، بل إنه بعد إعادة النظر الناضجة في الأمر ربما يندم على فعلته هذه أشد الندم. وإن كان الآخر الكبير عند لاكان ذا رغبة في ذاته، فإن الرب في العقيدة المسيحية اليهودية ليس كذلك؛ وحيث إنه بالتبعية ليس لديه احتياجات عصابية فهو لا يأمر بأن نتقرب إليه بالقرابين التي تأكلها النار أو الأوامر المتعلقة بالطعام والشراب أو السلوك المعصوم أخلاقيا، بل علينا أن ننحي جانبا هذه المساومات الرديئة ونتقبل الحقيقة التي لا تحتمل، وهي أنه يغفر لنا دائما. فلسنا بحاجة إلى الانغماس في القلق البروتستانتي من أجل استيضاح ما يأمرنا به؛ إذ إنه لا يأمرنا بشيء أكثر من الحب. ولأن الحب أمر عملي ومحدد فيجب أن يكون بالإمكان صياغته صياغة قانونية، إلا أن الذين يعرفونه بتلك الصيغ يخطئون بقدر الذين يجعلونه مفهوما مجردا.

لا تنبع القيمة الأخلاقية - عند كانط شأنه شأن سبينوزا - من تأمل بعضنا بعضا في إطار خيالي، ناظرين إلى الآخرين من خلال ثنايا الذات المتقدة، بل تعتمد على النظر إلى النفس من الخارج، من المنظور اللاعاطفي للقانون الأخلاقي نفسه؛ وهو ما يعني النظر إلى النفس باعتبارها ذاتا عامة؛ ومن ثم معاملة النفس كمعاملة الآخرين. يرى كانط أنه لا يوجد فرق واضح بين الغرباء والأقرباء. فإن تعاملت مع الآخرين كما لو كانوا مكاني، فأنا أنظر لنفسي باعتباري غريبا نوعا ما. ومن الناحية الأخلاقية، فإننا أصدق ما نكون على حقيقتنا عندما نتصرف كما لو كنا أي شخص. إنني عندما أنقسم إلى شخصين وأنظر لنفسي من موقع النظام الرمزي نفسه، متفحصا ذاتي بنظرة الغريب المحايدة، عندها فقط أكون مطابقا لنفسي حقا. وهذه الرؤية أبعد ما يكون عن الرؤية الأخلاقية العاطفية عند هيوم أو سميث، وإن كان كل منهما مثاليا على طريقته الخاصة. إن لمح أنصار مذهب الخير في حالات التعاطف نعيما يعد كعيد حافل مثالا للمدينة الفاضلة، فإن بعضا من خلفائهم الأقل توهما عند مواجهتهم نظاما اجتماعيا مفككا لا يشجع التواصل الاجتماعي اضطروا إلى النزول بمدينتهم الفاضلة إلى مستوى أكثر عمقا حيث منطقة البديهة الغائمة التي هي الوطن المثالي للذوات العاقلة الحرة ولغاياتهم المتكاملة المتناغمة.

بل إنها تتشكل على مستوى أعمق من هذا، فإن كان كانط الذي هو متشائم في المجمل تجاه الإنسانية يحتاج إلى فكرة الرب؛ فذلك لأسباب ليس أقلها أن احتمال اجتماع الفضيلة والسعادة في العالم الآخر أكبر بكثير من هذا العالم، إلا إن كنا ننظر إلى عالم الرواية الذي برز حديثا؛ فالفجوة بين ما هو مثالي وما هو واقعي تتضح في تعليقه بأن الأمر المطلق يظل ملزما حتى وإن لم ينجح أي شخص في الالتزام به. في حقيقة الأمر، إن نجاح أي شخص في الالتزام فعلا به من عدمه يظل مسألة غير محسومة، فكيف يمكننا التأكد أصلا من أن تصرفاتنا كانت من دون أدنى قدر من الدافع «المرضي»؟ فهل نحن غير مذنبين أمام الرب؟ إن القانون الأخلاقي - كما يعلم كانط - شيء مستحيل، وهي سمة يشترك فيها، كما سنرى، مع النظام الواقعي عند لاكان.

تتشابك المتعة والقيمة الأخلاقية، وحب الذات والتعاطف، والتجريبي والمثالي في كتابات هتشسون وهيوم. أما مع كانط فيجب إبعاد المدينة الفاضلة أكثر وأكثر عن عالم دنيوي حسي لدرجة تظل معها كيفية تحقيق المدينة الفاضلة فيه - أي كيف للوجود البديهي أن يحل محل الوجود الحسي - شيئا غامضا. يبدو الأمر وكأنه يجب حماية القيمة المطلقة من شرور النظام الواقعي بإبقائها مدفونة دائما. إذا فمن المفارقة أن القانون الأخلاقي - الذي ينظر للرجال والنساء باعتبارهم أفرادا يمكنهم التعامل بتجرد فيما بينهم - يقوم في معظمه على الواقع التجريبي؛ على عين مجتمع السوق الذي ينتقده بشدة، فالفعل الأخلاقي حقا - كالسلعة - هو نموذج للتبادل؛ لكن هذا في السياق الأخلاقي يعني معاملة النفس والآخرين باعتبارهم غاية في ذاتهم، وهي عقيدة تختلف كل الاختلاف مع منطق السوق، ففي مقابل المصلحة الذاتية التي تحكم المعاملات التجارية، يقدم أنصار مذهب الخير البريطانيون العاطفة والشعور. أما الفيلسوف الألماني فهو يقلب منطق السوق على عقبيه.

تتشابه الرؤية الأخلاقية المتجردة لكانط - بكل تقشفها المرهق - من بعض النواحي مع المفهوم المسيحي للحب أكثر مما تتشابه مع عالم شافتسبري وهتشسون المتناغم؛ إذ يصر كانط على أن عمل الخير حيثما أمكن واجب لا اختيار. وقد أصاب في رؤيته أن الحب ليس قضية عاطفية بالأساس؛ أي إننا إن اعتمدنا على مثل هذه الرغبات الطارئة فنحن على الأرجح نقيد عملنا الخيري بدائرة ضيقة كثيرا. وفي المقابل يتحدث - وهو يستحضر العهد الجديد في ذهنه - عن «الحب الذي يمكن السيطرة عليه» ويفرق بينه وبين هذا الحب المنعدم الأساس الذي هو تلقائي و«مرضي». ويستبعد سورين كيركجارد بالمثل الحب المبني على نزعات الحنان الطارئة لصالح حب يتمتع بالثبات الأبدي للقانون. ويكتب «لما يصبح الحب واجبا، عندها فقط يأمن الحب كل تغير إلى الأبد ...»

17

ويميز القديس بولس بين القانون والنعمة، مهاجما الأول، لكنه يفرق كذلك بين النعمة باعتبارها قانون الرب - الذي يرضيه - وقانون الخطيئة. ويقوم إنجيل مرقس على التصور اليهودي العام لقانون الرب باعتبار أنه يتحقق بحب الإنسان لرفاقه. وعند متى - الذي ألف إنجيله بالقرب من مرقس - فكل الوصايا أساسها حب الإنسان لجاره. أما عند يوحنا - إذ يكتب عن تقليد الحكمة - فحب الجار هو القانون كله. ويظهر الحكمدار في مسرحية شكسبير «الصاع بالصاع» - وهي المسرحية التي سنتناولها بعد قليل - فهما إنجيليا تقليديا للعلاقات بين القانون والحب عندما يتحدث عن أنه «ملزم بعمل الخير».

وفيما يتعلق بالحب باعتباره قانونا، يقدم كانط الإجابة الصحيحة الأكثر تطرفا على السؤال الذي يؤرق فلاسفة الخير البريطانيين: «كيف نتعامل مع هؤلاء الملايين من المجهولين لنا فيما وراء نطاق عواطفنا؟» بإنكار أن العاطفة هي العامل الفاصل هنا من الأساس، فالأمر المطلق كما رأينا لا يميز بين الغرباء والجيران. إن عدم أهمية هويتك مطلقا عند كانط - عندما يتعلق الأمر بالأخلاق - يمثل من ناحية ثغرة في طريقته المجردة في التفكير، ويمثل من ناحية أخرى نقطة قوة كبيرة. ففي المسيحية، على نحو مشابه، ليست الصلات المحلية ولا الهوية الثقافية العامل الأهم؛ فالمعتقد الديني لا يتعلق بالنسب ولا العادات الضيقة ولا الطقوس الغذائية الخاصة ولا المعبودات المنزلية ولا التراث الوطني ولا الهويات التقليدية؛ فالإنجيل هو نقد لسياسة الهوية من قبل أن يظهر هذا المصطلح.

لا يعنى هذا إنكار أن العهد الجديد يمنح أحيانا أفضلية خاصة لحب «الإخوة» المسيحيين بعضهم بعضا. لكن بما أن ذلك لا يسعه سوى دعم مهمتهم الكونية، فليس له أن يتعارض بشدة مع حب الغرباء؛ فالخط الفاصل بينهما ضبابي، يتوارى كما لو كان وراء أقنعة تلبس في حفل كبير، والتي - كما تقول باربرا إرينرايك - «تذيب الفوارق بين الغريب والقريب، لتحيل القريب غريبا لبعض الوقت ولا يكون الغريب أجنبيا أكثر عمن سواه.»

18

अज्ञात पृष्ठ