تمهيد
الجزء الأول: إلحاح النظام الخيالي
تمهيد: طور المرآة
1 - العاطفة والإحساس
2 - فرانسيس هتشسون وديفيد هيوم
3 - إدموند بيرك وآدم سميث
الجزء الثاني: سيادة النظام الرمزي
تمهيد: النظام الرمزي
4 - سبينوزا وموت الرغبة
5 - كانط والقانون الأخلاقي
6 - القانون والرغبة في مسرحية «الصاع بالصاع»
الجزء الثالث: سطوة النظام الواقعي
تمهيد: الرغبة المحضة
7 - شوبنهاور وكيركجارد ونيتشه
8 - النظام الواقعي في الأعمال الأدبية
9 - ليفيناس ودريدا وباديو
10 - ابتذال الخير
خاتمة
تمهيد
الجزء الأول: إلحاح النظام الخيالي
تمهيد: طور المرآة
1 - العاطفة والإحساس
2 - فرانسيس هتشسون وديفيد هيوم
3 - إدموند بيرك وآدم سميث
الجزء الثاني: سيادة النظام الرمزي
تمهيد: النظام الرمزي
4 - سبينوزا وموت الرغبة
5 - كانط والقانون الأخلاقي
6 - القانون والرغبة في مسرحية «الصاع بالصاع»
الجزء الثالث: سطوة النظام الواقعي
تمهيد: الرغبة المحضة
7 - شوبنهاور وكيركجارد ونيتشه
8 - النظام الواقعي في الأعمال الأدبية
9 - ليفيناس ودريدا وباديو
10 - ابتذال الخير
خاتمة
مشكلات مع الغرباء
مشكلات مع الغرباء
دراسة في فلسفة
الأخلاق
تأليف
تيري إيجلتون
ترجمة
عبد الرحمن مجدي
مصطفى محمد فؤاد
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إهداء إلى روح تشارلز سوان
رجل الإحسان المطلق والشجاعة اللامتناهية.
تمهيد
إن فكرة هذا الكتاب مباشرة إلى حد كبير، وهي تتلخص في فرضية ترى أن معظم النظريات الأخلاقية يمكن تصنيفها ضمن أحد نظم أو مستويات التحليل النفسي الثلاثة لجاك لاكان؛ الخيالي والرمزي والواقعي، أو مزيج ما من الثلاثة. وباستخدام هذه النظم على نطاق أوسع نسبيا، أحاول تحديد نقاط القوة والضعف في كل من نظريات الفكر الأخلاقي هذه، ومقارنتها بالجانب الأخلاقي الأكثر ثراء في نظري للاشتراكية والعقيدة اليهودية المسيحية.
سينزعج بعض أصدقائي وقرائي لرؤيتي أضيع وقتي مرة أخرى في تناول اللاهوت. صحيح أن الدين ثبت أنه من أكثر المنظومات المضرة بالعقل في تاريخ البشرية، إلا أن ذلك السرد الجدير بالازدراء عن الاضطهاد والخرافة مستبعد من نسخة المسيحية المطروحة في هذا الكتاب. ومن مفارقات عصرنا أنه بينما يغذي الدين أشكالا مختلفة ومقيتة من الأصولية الدينية، فقد أفرز كذلك تيارا من الفكر اللاهوتي الراديكالي؛ تيارا يمثل - للمفارقة - أحد الجيوب القليلة الباقية للفكر المادي في هذه الأيام المضطربة سياسيا، ويعد في الغالب أكثر تمردا في تداعياته السياسية من معظم الفكر العلماني اليساري. وربما من المحزن في هذه الأيام أن يكون علم الدين - دون غيره - هو ما ينبغي أن نلتفت إليه فيما يخص مثل تلك الأفكار التي تقلب الموازين؛ لكن لا داعي لأن نرفض الدين كلية بسبب سلبياته.
يقول لودفيج فتجنشتاين: «إن أتيح لرجل أن يؤلف كتابا في الأخلاق يكون بحق كتابا عن الأخلاق، فسينسف هذا الكتاب كل ما عداه من الكتب في العالم نسفا.»
1
يؤلمني أن أقول إنني عندما رفعت عيناي عن آخر جملة كتبتها في كتابي هذا، ظلت المراجع الموجودة في أرفف مكتبتي حول نفس الموضوع لم يمسسها سوء. وأثق مع ذلك أن هذا العمل يقدم إسهاما جديدا في تناول نظرية الأخلاق، حتى وإن كان السبب هو أن قليلا من تلك الأعمال يتناول كلا من هيوم وليفيناس، وبيرك وباديو. وآمل ألا يعجب الكتاب الفلاسفة الأنجلوساكسونيين بسبب أخذه الباريسيين على محمل الجد، وأن يزدريه الباريسيون بسبب عثوره على بعض الجوانب القيمة في الفكر الإنجليزي. وكما هو الحال دوما، أنقذني أساتذتي في الفلسفة، بيتر ديوز وسايمون كريتشلي وبيتر سيجويك وسلافوي جيجك، باعتباري رجلا مبتدئا في هذا المجال، من بعض زلاتي وأخطائي المعتادة، وأنا أقدر لطفهم وما تحملوه من عناء في سبيل ذلك.
وفي حال ظن أي شخص أن كبار الكتاب في مجال الأخلاق الذين تثار حولهم الشكوك فيما يتعلق بأخلاقهم، هم وحدهم المخولون بالكتابة عن الأخلاق، فلا يسعني سوى أن أستحضر تعليقات ماركس على أعماله - بعد إدخال التعديلات اللازمة - عندما قال إنه لم يكتب رجل عن المال بقدر ما كتب هو، ونال من المال أقل مما نال هو.
تيري إيجلتون
دبلن، 2007
هوامش
الجزء
إلحاح النظام الخيالي
تمهيد: طور المرآة
يبدو أنه لم يخل أي عمل نقدي ثقافي يساري في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين من إشارة إلى نظرية جاك لاكان الخاصة بطور المرآة، وهي لحظة في نمو الطفل الصغير يسر فيها وهو يتأمل صورته في المرآة من التوافق السحري بين حركاته وحركات الصورة المقابلة له.
1
إن التوافق السحري والتشابه الإعجازي هما المادة الخام للأسطورة، وإذا كان مقال لاكان الذي بعنوان «طور المرآة» قد تناول هذه الأسطورة، فقد صار المقال سريعا أسطورة في ذاته؛ فحدود الحقيقة والوهم - كما يقول لاكان - مشوشة في هذه المرحلة المبكرة؛ فالأنا التي هي نافذتنا على ما يسمى بالعالم الحقيقي هي في الواقع نوع من الخيال؛ حيث يتعامل الطفل الواقف أمام المرآة مع صورته باعتبارها حقيقية، مع أنه يعلم أنها وهمية. وهناك لبس مماثل في كلمة «الخيالي» التي تعني عند لاكان «المرتبط بصورة» وليس غير الواقعي أو غير الحقيقي، والتي مع ذلك تتضمن إيهاما وخداعا (مثل نظرية الأيديولوجيا التي اشتهر لوي ألتوسير باستنباطها منه).
وعلى نحو مماثل، أصبح ارتباط أطروحة لاكان بالخيال في مقابل الواقع محل تساؤل، فهل كان يقصد بطور المرآة أنه حقيقي أم مجازي؟ وهل كان هذا الرجل الأكثر تأثيرا من بين المفكرين الفرنسيين يتحدث فعلا عن شيء تجريبي مربك بقدر الأطفال الصغار؟ كيف لنا أن نعرف بحق ما قد يمر به الطفل في هذا الموقف؟ وماذا عن المجتمعات التي لم تتمتع بميزة امتلاك مرايا (وهو ما يثير الاعتراض البديهي الذي لا يمكن أن يطرحه سوى الإنجليز)؟ هل تعوضها البرك أو الأنهار؟ أم أن المرآة الحقيقية للطفل هي والده أو ولي أمره الذي يبني - بتوظيف أجزاء مختلفة من جسمه (كالوجه والفتحات وغيرهما) بدرجات متفاوتة من الشدة - صورة ذاتية جسدية للطفل؟ هل تتشكل رؤيتنا لأجسادنا - مثل رغباتنا - على يد الآخرين؟ وكم من الغريب - على أي حال - أن تنبني نظرية محورية كتلك على أكثر الأنشطة الإنسانية اتصافا بالخيال والبساطة؛ اللعب والتقليد! التقليد بالتأكيد وكذلك اللعب؛ إذ إن الطفل الذي يبتهج بمحاكاة حركاته الخاصة في المرآة هو مقلد، وساحر صغير يمكنه تغيير الواقع بمجرد رفع يده، وممثل يؤدي دوره أمام جمهور ممتن مكون من فرد واحد، وفنان صغير جدا يستمتع بشدة بقدرته على تشكيل منتجه وتحويله بنقرة إصبع أو إدارة رأس. فالتمثيل أمام المرآة يتضمن ارتدادا غير متناه أو تقعيرا من نوع ما، حيث ينعكس الشكل الكلي الموجود في المرآة موافقا جهود الطفل، ومن ثم يحفز ابتسامته، التي تستتبع بدورها مظهرا تشجيعيا آخر من مظاهر السرور في الصورة المنعكسة، وهكذا. وسنرى شيئا في نفس هذا الإطار لاحقا في الفلسفة الأخلاقية للقرن الثامن عشر.
لم يكن الأمر - بالتأكيد - وكأن المنظرين الثقافيين وقتئذ كانوا مهتمين بموضوع تطور الطفل على نحو خاص؛ فأهمية محاضرة لاكان كانت تكمن في توضيحها للنظام الخيالي؛ ذلك العالم الغريب للنفس الإنسانية، الذي يبدو فيه أن الذوات والأشياء (إن كان بإمكاننا أن نتحدث عن هذا التقسيم في هذه المرحلة المبكرة من الكتاب) يتبادلان باستمرار الأماكن، ويعيش كل منهما حياة الآخر. وخلال عملية الإسقاط والانعكاس هذه، يبدو أن الأشياء تدخل وتخرج بعضها من بعضها دون وسيط، ويشعر كل منها بالآخر من الداخل بنفس الصورة الحسية المباشرة التي تدرك بها دواخلها، فكأنك تستطيع أن تضع نفسك في ذات المكان الذي ينظر إليك منه، أو ترى نفسك في ذات الوقت من الداخل والخارج. وعلم النفس ليس إلا في بداية الطريق فيما يتعلق بفهم الآليات العصبية التي يقلد بها الطفل الصغير جدا وهو يلهو، تعبيرات وجه شخص بالغ، في مجموعة معقدة من الانعكاسات من الخارج إلى الداخل ثم إلى الخارج مرة أخرى.
2
وفي هذا الشأن كتب موريس ميرلو-بونتي يقول:
يفتح الرضيع البالغ من العمر خمسة عشر شهرا ثغره إن داعبته بوضع أحد أصابعه بين أسناني والتظاهر بأني أعضه. إلا أنه نادرا ما ينظر إلى وجهه في مرآة، ولا تشبه أسنانه أسناني بأي نحو. والحقيقة هي أن فمه وأسنانه، كما يشعر بهما من داخله، هما في نظره وبصفة مباشرة أداة للعض، وفكي، كما يراه الطفل من الخارج، قادر في نظره مباشرة على الفعل ذاته.
3
إن النظام الخيالي هو عالم تعيد فيه الأشياء نفوسنا إلينا، إن كانت لدينا ذات عازمة بدرجة كافية على تقديره؛ فهو مجال نقي تكون فيه المعرفة سريعة وقاطعة كالإحساس.
وفي هذا التكوين المميز للفضاء النفسي حيث لا يوجد بعد أي ذات أو مركز للوعي واضح التنظيم، لا يمكن أن تكون هناك أي غيرية حقيقية، فمكنوني «موجود بالخارج» نوعا ما باعتباره ظاهرة من بين غيرها من الظواهر، بينما يرتبط ما هو بالخارج برابطة حميمية معي، وهو جزء من مكنوناتي الداخلية. لكنني أشعر أيضا بأن حياتي الداخلية غريبة ومنفصلة، كما لو أن جزءا من كينونتي وقع أسيرا لصورة وتجسد على يديها. ويبدو أن هذه الصورة قادرة على التأثير في ذاتي تأثيرا ينبع من نفسي ولا ينبع منها في الوقت ذاته. إذن، ففي نطاق النظام الخيالي ليس من الواضح إن كنت أنا أم كنت شخصا آخر، إن كنت داخل نفسي أم خارجها، إن كنت خلف المرآة أم أمامها. قد يتصور أي شخص أن هذا يجسد جزءا من تجربة الرضيع الذي ترضعه أمه والذي يستخدم ثدييها كما لو كانت أحد أعضائه؛ لكنها كذلك - كما هو حال الأشياء الملتبسة التي بداخلنا وخارجنا - مسألة تتعلق ب «الأشياء الجزئية»، أي أجزاء الجسم المنبثقة إلى العالم الخارجي (البراز ولبن الرضاعة وما شابه)، وهي التي تصفها ميلاني كلاين بأنها أشياء انتقالية بين النفس والآخر، بين الذات والشيء، والتي يقول لاكان نفسه عنها إنها نفس الأشياء التي تبطن الذات البشرية أو يتصور أنها تملؤها.
وهذا هو السبب في أن النظام الخيالي يتضمن ما يعرف من الناحية المتخصصة بالعبورية، التي فيها - في رابطة تعاطف بسيطة - قد يبكي الطفل عندما يرى طفلا آخر يتعثر، أو يدعي أنه هو نفسه قد ضرب عندما يضرب أحد أقرانه. ولقد حازت هذه الظاهرة على اهتمام فيلسوف ظهر في القرن الثامن عشر وهو آدم سميث؛ إذ تحدث في كتابه «نظرية العواطف الأخلاقية» عن كيف أننا «عندما نرى ضربة موجهة وعلى وشك أن تصيب ساق أو ذراع شخص آخر، فإننا بطبيعتنا ننكمش ونسحب ساقنا أو ذراعنا.» فالعبورية مجرد مثال واضح للمحاكاة المتعاطفة في حد ذاتها، وهو ما يظل إلى حد ما مسألة جسدية حتى لدى هؤلاء الذين نجحوا في التحرر من إغواءات طور المرآة. وهذا هو السبب في أن الابتسام معد، أو السبب - كما يشير سميث - في أن: «المتفرجين عندما يشاهدون راقصا يمشي على حبل متراخ يلوون أجسامهم ويوازنونها كما يرونه يفعل، وكما يشعرون أن عليهم فعله في هذا الموقف.»
4
ويبدو أن سميث يفترض أن هذه المحاكاة التلقائية هي نتيجة لما يسميه لاكان التبادل الخيالي؛ حيث نتخيل إسقاط أنفسنا في جسد الراقص. لكن هؤلاء المشاهدين هم سحرة مستقبليون يسعون لا إراديا للتحكم في حركات الساحر من خلال تمايلهم المتعاطف، مثلما يسيطر الطفل في طور المرآة بصورة كبيرة على صورته المنعكسة في ذات اللحظة التي يخضع فيها لسيطرتها؛ فالجمهور عند سميث يبقى بشخصه في نفس اللحظة التي يتقلد فيها هوية شخص آخر، وهذا الامتزاج مميز للنظام الخيالي.
فالعبورية إذن هي نوع من انطباق أو تناغم الأجسام، فأصحاب التركيب الحساس - حسبما يشير سميث - يشعرون بعدم الارتياح أو بالرغبة في الحك عندما يرون تقرحات في جسم متسول، بينما من الأرجح أن النظر إلى عينين متقرحتين لشخص آخر سيجعل عينيك تفيضان حنانا. وفي النهاية، فإن التصور الوحيد المرضي لهذه الحالة هو وجود جسدين اتحدا معا في جسد واحد، مثلما كان كليم يوبرايت وأمه في رواية توماس هاردي «عودة المواطن» يتحدثان معا كما لو أن «أحاديثهما كانت ... تجري بين اليد اليمنى واليد اليسرى لنفس الجسم.» ويحقق جود فولي وسو برايدهيد في رواية هاردي «جود الغامض» «هذا التفاهم المشترك التام الذي تكون فيه لكل لمحة وكل حركة نفس فاعلية الكلام في نقل المعلومات بينهما، وتجعلهما تقريبا كجزأين لكل واحد.» والرابطة العاطفية بين والتر شاندي والعم توبي في رواية لورنس ستيرن - وهي علاقة تقوم على الإيماءات والبديهة والتواصل غير اللفظي - مثال آخر على ذلك. وستتاح لنا الفرصة للعودة إلى فكرة الجسد باعتباره لغة، لاحقا في هذا الكتاب.
على نحو ما، يمكن النظر إلى الصداقة باعتبارها نسخة البالغين من النظام الخيالي؛ ففي الصداقة - حسبما يشير أرسطو في كتاب «الأخلاق» - يكون الآخر هو أنت وليس أنت؛ بحيث يعيد هذا الامتزاج والتداخل في الهويات صناعة طول المرآة لكن على مستوى أعلى. وكما كتب ميشيل دي مونتين في مقاله الرائع عن الصداقة: «الشيء الوحيد الذي يسعدني في أن يكون لي صديق هو أن ما ليس لي صار لي.»
5
ويضيف أن علاقته بأعز أصدقائه لم تترك لأي منهما شيئا يخصه؛ فلا شيء يخص صديقه أو يخصه هو. ويعلق قائلا: «إن اضطررت لأقول سبب حبي له، فأشعر أن إجابتي الوحيدة يمكن أن تكون: «بسببه، بسببي ...» فمثل هذه الصداقة ليس لها نموذج إلا هي ذاتها، ولا يمكن مقارنتها إلا بنفسها.»
6
فالنظام الخيالي يقاوم ترجمته بصورة عقلانية أو مقارنة. بعكس الرمزي الذي فيه - كما سنرى - التبادل والتناسب هما الأهم، وكل عناصره مميزة بصورة لا يمكن اختزالها.
على العموم، لم يستحضر اليسار الثقافي في سبعينيات القرن الماضي النظام الخيالي إلا كي يشيطنه؛ فمن ناحية لم تكن أطوار ما قبل اللغة محور تركيز المنظرين، الذين أصبح الخطاب شاغلا كبيرا لديهم أكثر من الأطفال الرضع. ومن ناحية أخرى، كان النظام الخيالي متمحورا حول الاتحاد والثبات، والتشابه والتوافق، والاستقلال والمحاكاة، والتصور والتناغم، والوفرة والكلية، ولا يمكن أن توجد مفاهيم أقل شيوعا من هذه المفاهيم لدى طليعة كلماتها الأساسية هي الافتقار والغياب، والاختلاف والصراع، والانقسام والتشتت، والتشرذم والتباين. فيسار ذلك العصر لن يقبل فكرة التصور إلا إن كانت وسائل التصور وظروفه متوفرة معه، وكل هذا مكبوت في طور المرآة للأسف.
7
والأسوأ أن التصور محل الجدل تصور زائف؛ فالصورة المنعكسة من المرآة نسخة موحدة زائفة لجسم الطفل الحقيقي غير المتسق، وفرحته بها تنبع من مقارنة هذا الكل المثالي بحالة جسمه المختلة، فالمرآة تتيح له استقلالا لا يتوفر له في الواقع. ويمكننا التكهن بأنه يقارن كذلك بين هذا الشكل المتماسك على نحو مرض ببعض التخيلات الكلاينية لجسده بوصفه ممزقا ومشوها ومقطعا إلى أجزاء.
إذن، فالبراءة التي تسبق الأنوية في طور المرآة بدت مهيأة للتدمير، اعتمادا على ما كان في الحقيقة مفهوما نموذجيا للهوية. فهذه المرآة هي لوح من زجاج لا نرى فيه، بحسب تعبير سان بول، إلا رؤية قاتمة. إن الطفل المفتتن بصورته في المرآة مثال على الإدراك الذاتي الزائف بقدر الفكرة القائلة إن كل دال - كالأيقونة مثلا - يتقيد برابطة داخلية مع مدلول واحد يمكن القول إنه يمثل معناه، ففي المرآة - كما يقول جون لابلانش وجيه بي بونتاليس - «ثمة نوع من الالتحام بين الدال والمدلول.»
8
والموضع الآخر الذي يفترض أن يحدث فيه هذا هو الشعر الذي يبدو فيه هذان الجانبان من الدلالة - من خلال نوع من الخداع اللفظي - غير قابلين للانفصال.
9
لكن لن يجدي كذلك النظر للكلمات والمعاني على نحو منفصل، طالما أن الفرد لا يزال يتخيل أنهما نفس الشيء تقريبا، «فالكلمة هنا والمعنى هناك» كما يقول لودفيج فتجنشتاين متهكما، «وكذلك البقرة والمال الذي يمكنك أن تشتريها به؛ لكن عليك التفريق بين المال واستخدامه.»
10
فالكلمة عند فتجنشتاين تكتسب معناها من استخدامها؛ وهذا يتضمن الدخول في علاقات خاضعة لقواعد مع الدلالات الأخرى في شكل معين من أشكال الحياة. وهذه، كما يمكن أن نقول، هي نسخته مما سيسميه لاكان بالنظام الرمزي. والفارق أن لاكان يبين أن ما يسري على الدلالات يسري على الذوات البشرية أيضا، فالطفل الذي يتخيل أن صورته في المرآة هي التجسيد الملموس لكينونته هو شخص لم يبلغ مرحلة الإدراك البنيوي ولم يستوعب بعد أن الهوية الإنسانية - كالدلالات - مسألة تفاضلية؛ أي أنها مسألة شغل موضع ما في نظام رمزي، نظام من الأدوار والعلاقات التي تكون فيها وظيفة قابلة للاستبدال وليس حيوانا حيا متميزا لا يمكن استبداله؛ فالطفل إذ يسره وهم أنه متسق كليا مع ذاته، سيدرك مع ذلك أنه - كما يعلق فتجنشتاين في كتابه «تحقيقات فلسفية» - لا يوجد افتراض عديم الفائدة بقدر افتراض تطابق الشيء مع نفسه؛ فالطفل الصغير قد سقط فريسة، إن جاز التعبير، لخطأ فلسفي وهو أن ثمة نوعا من اليقين وإمكانية الوصول فيما يتعلق بالكينونة الإنسانية.
لذا فإن إدراك الطفل لذاته في دائرة النظام الخيالي هو إدراك خاطئ في الحقيقة؛ إدراك يمهد للنسخة الأهم نسبيا من الإدراك الخاطئ التي سيمر بها الطفل في النظام الرمزي. وهويته مستلبة «مغتربة» كذلك؛ حيث تخلط الأنا الناظرة - أو الذات - بين كيانها المراوغ وكيان الأنا المنظورة، التي هي شيء محدود في مرآة انعكاسها الذاتي. ومن ثم تستعصي عليها معرفة حقيقة الذات؛ أي - كما أعاد لاكان صياغة كلمات ديكارت بصورة براقة - «أنا أفكر حيث لا أكون، إذن فأنا موجود حيث لا أفكر.» فالطفل سيدرك أن الذات التي تتطابق مع نفسها ليست ذاتا على الإطلاق؛ فالكينونة التي يعتبرها الطفل النرجسي الصغير الذي في طور المرآة ثابتة ومحدودة هي في الحقيقة منقسمة وغير كاملة، وهي مثل عملية الدلالة نفسها يحركها عدم اكتمالها.
إن معارضة النظام الخيالي، الذي يعتمد فيه كلا الطرفين (الطفل والصورة) اعتمادا تكافليا على الآخر، يجب أن تتحقق في النهاية عنوة أو بإدخال طرف ثالث يمكن أن يتوسط بين الطرفين. وهذه في نظر لاكان هي اللحظة الأوديبية؛ فالنظام الخيالي المغلق يجب أن ينفتح أمام الاختلاف والغيرية؛ فالطفل الصغير عليه أن يكسر مرآة إدراكه الخاطئ ليخرج إلى النطاق البين-ذاتي حيث لا يسعه وحده أن يصل إلا لأجزاء صغيرة جدا من الحقيقة. والتحول في نظر هيجل - الذي استمد منه فكر لاكان الكثير - من حالة إلى أخرى له بعد أخلاقي. فالذات يجب فطامها من الوقوع في خطأ اعتقاد نفسها كيانا مستقلا وأن تبدأ بدلا من ذلك في الاعتراف باعتمادها على الآخرين في النطاق البين-ذاتي، وهو مجال يسميه هيجل الروح، ويطلق عليه لاكان الآخر الكبير أو النظام الرمزي. وكما قال لاكان، يتضمن هذا في أكمل صوره «القبول الكامل للذات من الذات الأخرى.»
11
ولم يكن ذلك أحد مثل المعاملة بالمثل لدى البشر التي كان ليحتفظ بها طويلا؛ إذ علينا أن نتوقف عن استمداد صورتنا الذاتية من الآخر كما نفعل في النظام الخيالي، ونستمدها من الآخر الكبير (عالم الاجتماعية ككل) كما نفعل في النظام الرمزي. ويرى هيجل أن أكثر أشكال الحياة الإنسانية بدائية تتضمن انغماسا غير تأملي في نظام اجتماعي مغلق لا يختلف كثيرا عن مفهوم النظام الخيالي عند لاكان. وحين يتجرأ الفرد على التبادلات البين-ذاتية الخاصة بالنظام الرمزي، عندها فقط يصير مدركا لنفسه باعتباره فردا؛ لكن سنرى لاحقا أن هذا الإنجاز في نظر لاكان لا يبعد كثيرا عن الكارثة.
كان هذا التحول في النظم الأنطولوجية بالنسبة للطليعة الثقافية في سبعينيات القرن العشرين تحولا سياسيا أكثر منه أخلاقيا؛ إذ لم يكن الهدف تعزيز الذات البرجوازية من خلال إلقاء الضوء على رضاها عن نفسها، بل إدخالها في أزمة دائمة؛ فالتحول الأول مرتبط بالأيديولوجيا بينما الآخر مسألة تتعلق بممارسة ثقافية ثورية؛ فالأمور التي تجعلنا ما نحن عليه - أي النقص والنظام الواقعي والكبت والخصاء وقانون الأب والقوانين الخفية للتكوين الاجتماعي - تتجاوز التصور تماما، فهي الشروخ والنقاط العمياء في مرآة الوعي، وهي ظاهرة عادة ما يتم تصورها هي ذاتها في سياق المرآة («الانعكاس»، و«التبصر»، و«التأمل»). وكما يقول إيرل شافتسبري: «أي كائن عاقل أو مفكر قادر بطبيعته على رؤية عقله وأفعاله، وامتلاك تصورات لنفسه ومكنوناته الداخلية وهي تمر أمامه باستمرار وتتضح له وتدور في عقله.»
12
فالتأمل الذاتي بهذا المعنى نظام خيالي داخلي على نحو ما؛ أي مسألة تأمل لذاتنا في مرآة عقلنا، ذلك المسرح العقلي الذي نظهر فيه كممثلين أمام نظرتنا المتفرجة كما لو كنا شخصا آخر. إن هذا الانغلاق الذاتي النرجسي نسبيا هو ما رأى اليسار الثقافي أن من الضروري تحطيمه، وأن تصبح الذات الخيالية غير متمركزة، إذا أردنا أن ينكشف أي شيء من المحددات الحقيقية لوجودنا.
وكتب فتجنشتاين في كتابه «تحقيقات فلسفية» يقول: «الصورة تأسرنا، ولا يمكننا الخروج منها؛ لأنها تكمن في لغتنا، واللغة على ما يبدو تكررها لنا بلا هوادة.»
13
إن كان الطفل عند لاكان رهن أسر صورة أو أنا مثالية، ومضللا مثل العامل المغترب عند ماركس بفعل قوة ما لا يعرف أنها تخصه، فإن البالغ الذي سحرته اللغة عند فتجنشتاين قد وقع فريسة لبنى قواعدنا اللغوية المجسدة بطبيعتها التي تكون هويات زائفة مما لا يتعدى في حقيقته نسيجا من الاختلافات. وكان رأي فريدريك نيتشه مماثلا إلى حد كبير؛ حيث كتب عن الفكر باعتباره أسيرا ل «سحر وظائف لغوية معينة.»
14
فهذه عند فتجنشتاين هي صورة مزمنة من الوعي الزائف حيث تكون اللغة أداة إحداث التجانس فيها، مثلما أن النظام الخيالي عند لاكان ليس مجرد طور يمكن أن نتجاوزه مثل مص الأصابع، بل هو عين الهيكل الداخلي للأنا، وبهذا يكون بعدا غير قابل للمحو للتجربة الإنسانية، فهذا التبجح والزهو الطفولي أمام المرآة يستمر في كل جهودنا الشهوانية اللاحقة، حيث نتماهى مع الأشياء التي تحمل شبها مطمئنا بأنفسنا. فكما يقول لاكان: «إن كل الأشياء الموجودة في العالم «الإنساني» تنتظم وتتركب حول الظل المتجول لأنا الطفل.»
15
فما يحتاجه الطفل في طور المرآة كي يتحول إلى شخص هو ما نحتاجه نحن البالغين المنخدعين لغويا أيضا، وهو احتياج يلخصه اقتباس من مسرحية «الملك لير» رأى فتجنشتاين أن يستخدمه كاستشهاد في مطلع كتابه «تحقيقات فلسفية»: «سأعلمك الفروق.»
إن العلاج الكلامي المطرد الذي عرفه فتجنشتاين باسم الفلسفة هو ما يمكننا من تحطيم أصنام المعاني؛ فالفلسفة في نظره نوع من العلاج يمكننا من تحرير تلك الدوال الجامدة المنعزلة غير الواضحة التي التصقت بنا كالعديد من أعراض الاضطرابات العصبية وإعادتها إلى ملعب الاختلافات الذي يشكل صورة ما من صور الحياة، أو إخراجنا من غياهب الضباب إلى الشمس الساطعة، كما يقول فتجنشتاين في موضع آخر؛ إذ يقول: «عندما يأتي الفلاسفة بكلمة ما - «معرفة» أو «كينونة» أو «شيء» أو «أنا» أو «قضية» أو «اسم» - ويحاولون الوصول إلى «جوهر» هذا الشيء، فعلى الإنسان أن يسأل نفسه دائما: هل تستخدم هذه الكلمة فعلا على هذا النحو في سياق اللغة الذي تنتمي إليه؟ فما نفعله هو إعادة الكلمات من استخدامها الميتافيزيقي إلى استخدامها اليومي.»
16
بالتأكيد ثمة فارق رهيب بين تأملات فتجنشتاين البسيطة - التي لا تتجاوز في أدنى أحوالها التركيز على المألوف - والتأملات المنمقة والمعقدة للاكان. إلا أن هدف المحلل النفسي كذلك أن يستعيد المدلولات الضائعة عند هؤلاء الذين أصبحوا في أزمة والذين صار خطابهم من ثم جامدا ومكررا؛ ففك عقدة أحد الاضطرابات العصبية وكشف مدلول مجسد ليسا شيئين مختلفين، بل قد يشكلان في مجال التحليل جانبين لعملية واحدة؛ فمن بين وظائف التحليل النفسي تحريرنا من أي وهم أو تكرار قهري يصيبنا، وتحويل هذا المأزق أو حجر العثرة الكامن في قلب كيان الفرد إلى حجر أساس لشكل جديد من الحياة.
17
فطور المرآة إذن لم يكن مطلقا حالة من البراءة الفردوسية الخالصة، بل على العكس، يمكن اعتباره لمحة من عملية السقوط من الفردوس وهي تحدث. فمن ناحية، تتضمن النرجسية ذاتها بعض الاشمئزاز والإيذاء الذاتيين، ومن الناحية الأخرى، فإن الحدود المشوشة بين الذوات تغذي المنافسة بقدر ما تغذي التناغم؛ فهي تشبه الجمع بين الهوية والعداء الذي يمكننا ملاحظته في حالات جنون الارتياب التي يكون فيها الطرف المضطهد هو الشخص نفسه وأنا بديلة هلامية. وهي ما يطلق عليه كيركجارد «التعاطف المتنافر» في كتابه «مفهوم الهلع»؛ فالجار - كما يشير فرويد في كتابه «مشروع سيكولوجيا علمية» ويقصد على الأرجح الأخ/الأخت - هو أقرب شخص صديق وعدو لنا في نفس الوقت. فبعض ملامح هذا الشخص (الوجه، على سبيل المثال) كما يقول فرويد ستكون غريبة ومفعمة بالتهديد؛ لكن البعض الآخر - كحركة اليد مثلا - تستدعي التشابه. ومن اللافت في هذا الصدد أن كلمة «يباري» تعني كلا من: «ينازل» و«يحاكي»، «يشبه» و«ينافس». وكما يقول لاكان مقتبسا كلمات أوسكار وايلد دون أن يدري: «الشخص الذي تحاربه هو أكثر من يحوز على إعجابك.»
18
فالأنا المثالية، وهي الصورة التي يرتسم بها انعكاس الطفل أمامه، هي ما ينبغي عليك قتله.
ويسعى الطفل الغارق في هذا التواطؤ اللاعقلي مع صورته والأشياء المحيطة بها إلى كسر حالة الجمود تلك من خلال العدوان. ويمكن تصور الطفل إذ يخضع لسطوة العبورية، وهو ينتقل دون توقف من دور الصياد إلى دور الضحية أو يؤدي كلا الدورين في الوقت ذاته.
19
ويتحدث ماكس هوركايمر وتيودور أدورنو في كتاب «جدل التنوير» عن الرغبة في المحاكاة للاندماج مع العالم؛ لكن يتحدثان أيضا عن الخوف من الوقوع تحت سيطرة قوى خارجية قد تولدها هذه الرغبة. وفي فقرة غريبة ومشئومة إلى حد ما، يكتب مارتن هايدجر عن كيف كان الجنود في الحرب العالمية الأولى من كلا طرفي النزاع قادرين على مواجهة بعضهم لبعض وجها لوجه على الجبهة، فصار بعضهم يتماهى مع بعض، «ممتزجين في جسد واحد» (بتعبير إرنست يونجر).
20
ويتحسر هايدجر قائلا إن مثل هذه المواجهة الخيالية لم تكن ممكنة في المواجهة الآلية في الحرب العالمية الثانية؛ فموقع يجري فيه قتال تلاحمي بالأيدي مشهد تكافلي مرض بقدر أكبر من القتل المجرد الخسيس من عن بعد.
يرى لاكان أن طور المرآة يؤشر لأول ظهور للأنا، وهي وظيفة تعد صورة من صور الاغتراب الذاتي؛ فالوعي ذاته هو بنية من الإدراك الخاطئ؛ إذ يصير انعكاس الطفل المرتسم في المرآة نموذجا لكل الإدراكات الذاتية النرجسية اللاحقة التي تصنع الأنا. في هذا الشأن، يقول لاكان: «إن الأنا التي نتحدث عنها يستحيل تماما فصلها عن الأشياء الخيالية التي تكونها من الألف إلى الياء.»
21
وهذه «البنية الجامدة» - بوصفها قريبة منا لكن خارجة عنا كالدرع المزرد - هي سراب للوحدة والتضامن، وهي بذلك تؤدي إلى إخفاء حقيقة أن الذات يغلب عدمها على وجودها؛ فالنظام الخيالي، باختصار، هو نوع من الأيديولوجيا.
هذا هو النحو الذي يرى من خلاله الفيلسوف الماركسي لوي ألتوسير - أشهر من فشل لاكان في علاجه - النظام الخيالي، مستخدما المصطلح بالمعنى الواسع الذي سنتبناه في هذا الكتاب.
22
فالأيديولوجيا عند ألتوسير هي نوع من الإدراك الخيالي الخاطئ الذي يبدو فيه الذات والشيء، أو النفس والعالم، معدا خصوصا كل منها للآخر. ويبدو العالم في تآلف معنا بدلا من أن يكون غير مكترث تماما بغاياتنا، فيتوافق طواعية مع رغباتنا ويتبع حركاتنا في طاعة بقدر ما يفعل انعكاس الإنسان في المرآة؛ لكن بما أن هذه الصورة متماسكة بقدر مرض، كما الحال في الطفل عند لاكان، يقع خطأ في إدراك كل من الذات والواقع الاجتماعي في نفس الوقت. وتعتبر الذات الإنسانية من الجانب النظري كيانا غير متمركز تماما مثل الطفل الفوضوي الواقف أمام المرآة، أي مجرد شيء مرتبط بهذه البنية الاجتماعية أو تلك ؛ لكن بما أن تلك المخلوقات الفوضوية لن تكون قادرة على العمل الهادف، فإن نظام الأيديولوجيا الخيالي يتدخل ليمنحها إحساسا بالوحدة والاستقلال؛ وبذلك فقط تتحول إلى عناصر فاعلة تاريخية، أيا كان تبعيتها السياسية. ومن هذا المنطلق فإن الثورة البلشفية تتضمن دائرة الأيديولوجيا بقدر الاحتفال بيوم القديس باتريك.
إن وصف ذات الأيديولوجيا بأنها «خيالية» يعني الزعم بأنها - كالطفل أمام مرآة لاكان - تشعر بأن العالم جزء من تكوينها الداخلي، وأنه متمحور عليها، وأنه خاضع لها تلقائيا، وأنه يرتبط بها برباط داخلي؛ فالأيديولوجيا من هذا المنطلق هي نوع بليد من المركزية الأنثروبولوجية. وتكتب جورج إليوت في روايتها «ميدل مارش»: «نولد جميعنا في حالة من الغباء الأخلاقي، معتبرين العالم ثديا يرضع ذواتنا السامية.» فالأيديولوجيا تعيد صياغة النظام الخيالي على مستوى المجتمع ككل عند الأشخاص المكتمل تطورهم الذين ربما يدركون بشيء من التخوف المفاجئ أن العالم لا يدين لهم بأسباب المعيشة، وأنه لا يبالي بهم بقدر ما يبالي بالطقس. وفي ضوء هذا الوهم المريح، يمكن أن تطمئن الذات إلى أن المجتمع سيدعي انتماءها له بنحو خاص ويخصها بتميز وفرادة ويناديها باسمها، إن جاز التعبير. إن الذات العليا للأيديولوجيا؛ إذ تجذبنا من بين حشود المواطنين المجهولين حولنا، وإذ تطل علينا بوجهها الحميد، تغرس فينا إيمانا يبعث على السرور بأن الواقع يمكن ألا يستمر من دوننا، وأنه سيضطرب حزنا إن اختفينا من الوجود، تماما كما نتصور الرضيع وهو يؤمن بأحد الأوهام البيركلية بأنه إذا اختفى، فسيتلاشى معه كل ما سواه في طرفة عين.
هناك بعض المشكلات الشائكة في نظرية ألتوسير؛ لكنني لا أنوي أن أتناولها هنا،
23
بل أريد أن أستكشف أوجه الشبه بين هذه الأفكار الحديثة الخاصة بالتحليل النفسي وما يمكن أن نسميه بالأخلاق الخيالية عند بعض فلاسفة الأخلاق الإنجليز في القرن الثامن عشر؛ لكن قبل ذلك علينا أن نأخذ جولة سريعة في موضوع المذهب العاطفي في القرن الثامن عشر.
هوامش
الفصل الأول
العاطفة والإحساس
من الشائع في يومنا هذا الإقرار بأن القرن الثامن عشر كان عصر العاطفة بقدر ما كان عصر العقل. ومن المؤكد أنه شهد قدرا كبيرا من الصراخ ومشاعر النشوة والألم والاعتراض والإثارة والتوهج والذوبان.
1
فالإحساس - وهو مصطلح ذلك العصر الرئيسي - يمثل نوعا من بلاغة الجسد، ومنظومة سيميائية اجتماعية تقوم على الخجل والخفقان والنحيب والإغماء وما شابه. كما أنه رد ذلك العصر على الثنائية الفلسفية الروح والجسد؛ ففي أيديولوجية العاطفة يكون الجسد والروح في انسجام معا كسترة ضيقة وبطانتها. والإحساس في القرن الثامن عشر - باعتباره نوعا من المادية الأولية - هو خطاب الألياف والنهايات العصبية، والأبخرة والسوائل، والنبضات والذبذبات، ونوبات الاستثارة والتهيج. يقول ويكيسيموس نوكس إن «المشاعر هي كلمة أنيقة ورائجة حلت محل العمليات الذهنية وتسوغ قدرا كبيرا من المادية.»
2
إن كلمة «الشعور» ذاتها - التي تحمل معنيي الإحساس المادي والدافع العاطفي، كاللمس باعتباره فعلا والإحساس به باعتباره حالة - تقدم للعصر رابطا بين إثارة الألياف العصبية وتفاعلات النفس الخفية.
تتحسر الروائية الأيرلندية سيدني أوينسون (ليدي مورجان) في مذكراتها على ما سمته «تركيبي المادي غير السعيد، هذه الحساسية العصبية لكل انفعال يدور في جسمي ويلهب الجسد كله»؛
3
لكنها في الحقيقة ليست إلا تباهي بما تتمتع به من إحساس. وكتب زوجها السير تشارلز مورجان رسالة في الفسيولوجيا، ربما متأثرا بملاحظة زوجته الشديدة الحساسية. وينظر كتاب إسحق نيوتن «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية» - تماما مثل عمل الأسقف بيركلي الغريب «الحلقات» - إلى الوجود في مجمله باعتبار أنه يمتلئ بروح الأثير الخفية، التي تخلق الإحساس بذبذبة الأعصاب؛ فالإحساس هو ملتقى الجسد والعقل، والآن يعد الجهاز العصبي وليس الروح هو ما يتوسط بين العالمين المادي وغير المادي؛ فالأخلاق مهددة بأن يحل محلها علم الأعصاب. ويسخر لورنس ستيرن من العاطفة باعتبارها نوعا من الباثولوجيا الاجتماعية في روايته «رحلة عاطفية»، على الرغم من نشره هو للكثير منها في الرواية. ويرى نقاده الكثيرون أن الافتتان بالعاطفة علامة تميز المهذبين المصابين بوهن الأعصاب،
4
فالرجل الحساس كبجعة أخلاق تتغذى على عواطفها المرهفة.
وبعكس ترفع النبلاء البارد، ظهر عند الطبقة الوسطى افتتان راسخ بالشفقة والخير والمشاركة الوجدانية. يكتب ريتشارد ستيل :
إننا بتأثير سحر خفي نحزن مع الشقي ونفرح مع السعيد؛ إذ يستحيل على القلب البشري أن ينفر من أي شيء يميز الإنسان؛ لكن ملامح السعداء والأشقياء ذاتها تأخذنا إلى حالتهم؛ وبما أن السعادة تنتقل من شخص لآخر، فمن المنطقي أن يكون الحزن كالعدوى، وكلاهما يرى ويحس بنظرة، فعينا الإنسان نافذة لغيره على قلبه.
5
لدينا هنا بعض العناصر الأساسية للنظام الخيالي: إسقاط أو انتقال خيالي إلى داخل جسم آخر، والمحاكاة المادية المذكورة في «ملامح «الآخر» ذاتها تأخذنا إلى حالته»، و«قابلية العدوى» التي يتشارك من خلالها شخصان نفس الحالة الداخلية، والآنية البصرية التي تنتقل من خلالها حالة الآخر الداخلية؛ فيبدو الداخل منقوشا على الخارج، وتبادل المواقع أو الهويات («فعينا الإنسان نافذة لغيره على قلبه»).
أو انظر لهذه الكلمات من مواعظ جوزيف باتلر:
إن البشرية بطبيعتها متحدة تماما؛ إذ ثمة توافق بين الأحاسيس الداخلية لشخص ما ونظيرتها عند شخص آخر، فيصير الخزي مكروها كالألم الجسدي، ويصبح التمتع بالاحترام والحب مرغوبا كأي مكسب مادي ... يوجد مبدأ طبيعي يجذب الإنسان إلى أخيه الإنسان الذي يصبح - بعد أن سلك الاثنان نفس الطريق وتنفسا نفس الهواء، وهما بالكاد مولودان في نفس الضاحية أو المنطقة - فرصة لتكوين المعارف والأشياء المشتركة بعد عدة سنين ... فالناس إلى حد كبير كالجسد الواحد، وهم على نحو خاص يتعاطف بعضهم مع بعض، ويتشاركون مشاعر الخزي والخطر المفاجئ والبغض والشرف والرخاء والبؤس ...
6
مرة أخرى يقدم إلينا بعض المكونات الرئيسة للنظام الخيالي: التوافق، وتبادل الأحاسيس الداخلية، واندماج الجسدين، ومبدأ الجاذبية الشبه السحري، بجانب تجاهل جماعي نوعا ما للاختلاف يفترض أن دواخل الآخرين كدواخل الشخص. إن مثل تلك المشاعر الرقيقة - كما يرى كتاب أرسطو «الأخلاق النيقوماخية» - تعزى للنفس بقدر ما تعزى للآخرين؛ فأصحاب النزعة المحبة لأنفسهم وحدهم - كما يقول أرسطو - هم من يمكنهم حقا أن يحبوا الآخرين، بينما الذين لا يحملون أي حب لأنفسهم «ليس لديهم وعي حساس بمسراتهم وأحزانهم.»
7
والنتيجة اللازمة لمعاملة الآخرين كمعاملة النفس هي معاملة النفس كالآخر. والحالة التي تتم فيها كل منهما من منظور الآخر تعرف عند أرسطو بالصداقة.
لكن قبل أن نغوص أكثر إلى أعماق فكرة باتلر عن التوافق الداخلي، علينا أن نستقصي سياقها الاجتماعي بقدر أكبر قليلا؛ ففي ثقافة العاطفة تسعى فضائل التهذيب وحب الزوجة وتحرر النفس من القلق لإزاحة قيم الطبقة العليا الأكثر بربرية، المتمثلة في النزعة العسكرية والصلف الذكوري.
8
وهي موجهة بنفس الدرجة نحو تزمت البيوريتانيين من طبقة البرجوازية الصغيرة. ويشير آدم سميث إلى أن «فضيلة الود الإنسانية تتطلب إحساسا يتخطى الإحساس البذيء السوقي الذي لدى البشرية.»
9
إن رقة جهازك العصبي صارت مؤشرا موثوقا بقدر معقول للمكانة الاجتماعية. وصار نوع جديد من البطولة المضادة للأرستقراطية - بطولة تتمحور حول الرجل الوديع والزوج العفيف ورجل الأعمال المهذب - هو السائد؛ ليصل إلى ذروته في شخصية الرجل الشديد الالتزام بالمبادئ وقواعد السلوك المتمثل في السير تشارلز جرانديسون - الذي يعد من أهم شخصيات صامويل ريتشاردسون، والذي يشبه المسيح لكن يرتدي البنطال الذي يصل للركبتين المميز لهذا العصر. ويوجد تحول عام نحو البرجوازية في الفضيلة؛ إذ يقدم فرانسيس هتشسون الشخصيات المحمودة التي لا تقتصر على الأمير ورجل الدولة والجنرال، بل تتضمن «التاجر النزيه والصديق الوفي والناصح المخلص الحصيف والجار الكريم المضياف والزوج الحنون والأب العطوف والصاحب الرزين والمرح معا.»
10
فهي بتعبير رايموند ويليامز «مواجهة الشفقة بالأبهة.»
11
فاللين والبسالة والمرح أسلحة تستخدم ضد المنشقين ذوي الأوجه القاسية والهمجيين المولعين بالقتال الذين يشبهون الإقطاعيين القدامى. يعتبر آدم سميث المصلحة الذاتية الاقتصادية نوعا من الإزاحة أو التسامي عن الشهوة ونهم السلطة والطموح العسكري للنظام القديم، بينما يميز فرانسيس هتشسون رغبة «هادئة» في الثروة عن الأهواء الأكثر اضطرابا. ويتحدث إيرل شافتسبري بلطف مذهل عن حيازة الثروة باعتبارها «تلك الرغبة المرموقة باعتبارها «لافتة» على نحو خاص.»
12
بينما يحمل مونتسكيو - الذي يعد كتابه «روح القوانين» مصدر قدر كبير من فلسفة «التجارة الناعمة» هذه - إيمانا مؤثرا بالقوة المهذبة للحوالات المالية.
يتذكر المرء كذلك ملحوظة صامويل جونسون الشهيرة التي تقول إن الإنسان لا يشتغل أبدا ويؤمن أذاه بقدر اشتغاله وهو يجني المال، وهو تعليق يبين أن المغالطة التي تتسم بحجية كافية تبدو عكس ذلك فور قولها. وبقدر ما يخص الحياة الاقتصادية، يصل الفيلسوف التنويري الاسكتلندي جون ميلر إلى حد محاولة دمج طبقة البروليتاريا في المشروع العاطفي؛ إذ يضعهم في نظام حسي اجتماعي أو مجتمع عاطفي واحد، فعندما يتجمع العمال معا في نفس العمل و«نفس مجال التواصل»، بحسب تأكيده، فهم «يمكنون بسرعة كبيرة من التعبير عن كل أحاسيسهم ورغباتهم» وبذلك ترسى دعائم التضامن العامي.
13
وسيثبت للطبقات الوسطى الإنجليزية في حقبة تاريخية لاحقة أن هذا التضامن مصدر توتر أكثر منه مصدر تهذيب.
وفي ظل تسيد تأنيث الثقافة الإنجليزية هذا، أصبحت الشفقة والمسالمة شعارين لطبقة برجوازية بدا أن اللياقة الاجتماعية والسكون السياسي هما أفضل ما يضمن أهدافها التجارية؛ فالإحساس من ضمن أشياء أخرى كان ردا على الطائفية الدموية في القرن السابق، التي ساعدت على صياغة الوضع السياسي القائم، والتي بعد أن أنجزت عملها الهدام صارت كغيرها تراثا ثوريا ينبغي محوه من الذاكرة وإلقاؤه في اللاوعي السياسي. وفي ظل نظام أبوي لم يزل مستبدا، كانت هناك دعوات لتعميق الروابط العاطفية بين الرجل والمرأة، بالتوازي مع إبراز أهمية «الطفولة» وتمجيد الارتباط الروحي في إطار الزواج.
14
وكانت الثقة المتفائلة في العناية الإلهية المسيحية في طريقها لأن تحل محل الجبرية الوثنية القديمة. وصيغ نمط من الاعتدال المهذب على يد الكتاب الاجتماعيين مثل جوزيف أديسون وريتشارد ستيل، نمط بدا للأجيال اللاحقة جوهر الهوية الإنجليزية ذاتها. وأتاح الانغماس كما ينبغي في العاطفة للفرد أن يكون متقد المشاعر أو مبتهجا، مرحا أو بكاء، من دون أي خرق للأعراف. إن هذا هو ما لم تتعلمه بعد ماريان داشوود، الشخصية المشوشة عاطفيا في رواية جين أوستين «العقل والعاطفة».
وفي عالم الأفكار، سعى مذهب تجريبي مغوار إلى تشويه الأنظمة العقلانية المتبلدة، متبنيا في المقابل الجوهر الفطري للحس الذاتي، فكانت المفاهيم تتأصل جذورها في أرض التجربة العملية الثابتة حيث يشعر الرجل النزيه بألفة أكبر مقارنة ببساط التأمل الميتافيزيقي المضطرب. لقد كان ذلك أسلوبا للتفلسف يناسب عصرا شهد ظهور الرواية؛ فالإدراك والحس - بل جسم الإنسان ذاته - كانا مصدر كل تأملاتنا الأوضح. في الوقت ذاته شعر الكثيرون من النخبة المثقفة الذين شجعهم رخاء الأمة الاقتصادي وانتصاراتها السياسية بإمكانية بناء ثقة متفائلة في خيرية الطبيعة البشرية. وغمر جو من الخيرية والإحسان يسوده الرضا عن الذات النوادي والصحف والمقاهي. وعلى الرغم من شيوع الخبث والحقد والمنافسة في المجتمع، فلم يزل الفيلسوف الاسكتلندي آدم فيرجسون مؤمنا بأن «الحب والحنان [كانا] أقوى المبادئ الكامنة في داخل الإنسان.»
15
كان الإحساس والعاطفة - إن جاز التعبير - يمثلان التحول الفينومينولوجي المميز للقرن الثامن عشر؛ المكافئ في عالم المشاعر للتحول إلى مسألة الفردية التملكية والنزعة الداخلية البروتستانتية. وفي المجلات فريدة التأثير مثل «تاتلر» و«سبيكتيتور»، اتخذ الإحساس صورة منهجية حيث يسلم القارئ العادي نفسه لدورة تعليمية مكثفة في اللياقة. مثل هذا الضرب من الصحافة، بمزجه البارع بين الفضيلة والجدية، صورة جديدة من السياسة الثقافية؛ إذ علم عن وعي الجمهور القارئ فضائل اللين والبساطة والاحترام ونبذ العنف والشهامة والحب في إطار الزواج. ويكتب ستيل في العدد الأربعين من مجلة «سبيكتيتور»: «لطالما راودني طموح بجعل كلمة «زوجة» أكثر الأسماء في الطبيعة قبولا وإدخالا للسرور.» لكنه لم يكن نموذجا للفضيلة؛ إذ كان يفرط في شرب الخمر، وقتل رجلا في منازلة، وسجن بسبب الدين، وتزوج أرملة لمالها، واتهم بالتحريض على العصيان، ومثل أمام مجلس العموم. لكن نطاق سلطته الثقافية هو وأديسون امتد من الحديث عن تهذيب الملبس إلى المواعظ التي تنهى عن المنازلة، ومن تناول أنماط الحديث المهذب إلى مدح التجارة.
16
وتضمن معرضهما الصحفي للنماذج الاجتماعية المواطنين ومستنشقي التبغ وكانسي أوراق الشجر والمفكرين الأحرار وذوي الجمال وذوي الجمال الفائق.
كانت الأعراف الأخلاقية تكتسب صبغة جمالية، وتمارس باعتبارها أسلوبا في المعيشة، ومكمنا للفضيلة والذكاء، ومنبعا للخفة والوجاهة، وتجسيدا للصراحة والرشد والعبقرية، ومدعاة لخفة الدم وحب الرفقة والحرية والتباسط وإنكار الذات. ويدرج فرانسيس هتشسون في كتابه «تحقيق عن الخير والشر الأخلاقيين» ضمن القيم الشبه الأخلاقية؛ «الثوب المهندم، والوقار الممزوج بالرحمة، والفرح بإدخال السرور على الآخرين» بجانب اللطف واللين والمرح والرقة وبعض التكلف والتناغم و«صفات يصعب تحديدها.»
17
إن هذه دعوة تختلف تماما عن الفلسفة الأخلاقية لأفلاطون أو كانط. كما هو الحال في روايات ريتشاردسون أو أوستين، يمكن للتفاصيل الملحوظة المفردة أن تكون ذات وزن أخلاقي، فبانحناءة إصبع أو طريقة فتح صديرية يمكن أن تنكشف نزعات الخير أو الشر، وهو مفهوم كان من شأن لايبنتس أن يعتبره سخيفا؛ فالجسد - والوجه بالتحديد - يعتبر عند هتشسون معبرا بصفة مباشرة عن الوضع الأخلاقي لصاحبه، فتصير المكنونات الداخلية والمظاهر الخارجية - كما في النظام الخيالي - سهلة الانعكاس ومتواصلة سلسة. وفي ظل هذا الاتحاد بين السلوك والأخلاق، تصير حالات الوعي أقرب ما يكون للأمور المادية؛ إذ تظهر منقوشة على لوحة السلوك البشري، وتتجسد في مشية ممعنة في التذلل أو في إمالة رأس متكبر. وسيرث ديكنز هذا المذهب المضاد لثنائية الروح والجسد. وتكشف أكثر شخصيات جين أوستين المحبوبة عن حس داخلي باللياقة الخارجية؛ لتنقض التعارض بين الحب والقانون وبين التلقائية والأعراف الاجتماعية.
18
فاللياقة تشمل كل شيء؛ فقواعد الذوق لا تقتصر على عدم البصق في الإناء وحسب، بل تعني أيضا تجنب الفجاجة والغرور وعدم المراعاة الشعورية.
لقد كان الافتتان بالعاطفة هو عامل الرضا في أمة تجارية ناجحة؛ لكنها كانت إحدى القوى الاجتماعية بجانب كونها حالة عقلية؛ فالشعور يمكن أن يدفع عجلات التجارة، وهو ما أتاح للشاعر والروائي الأيرلندي المولد هنري بروك أن يكتب بحماس عن كيف أن التاجر «يجلب أقصى البقاع إلينا ويدخلنا في حوار مع أهلها ... وهو بذلك يجمع في عائلة واحدة ويغزل في شبكة واحدة الألفة والأخوة بين البشرية جمعاء.»
19 (بالنظر إلى أن بروك كان شخصية مرتزقة جشعة ألفت كتيبات مؤيدة للكاثوليكية من أجل الربح، على الرغم من آرائه المناهضة للكاثوليكية؛ فقد علم بعض الأشياء عن السوق.) وهنا تبرز - باختصار - أيديولوجية ما يسمى بالإنسانوية التجارية التي تعتبر أن انتشار التجارة وزيادة التعاطف الإنساني يثري كل منهما الآخر.
20
ويستخدم لورنس ستيرن عبارة «التجارة العاطفية» مع أخذ المعنى الاقتصادي في الاعتبار تماما؛ فالعلاقات الاقتصادية بين الناس تعمق تعاطفهم المتبادل وتهذبهم وتزيد قنوات الاقتصاد سلاسة وفاعلية؛ فالتجارة باعتبارها صورة مادية من الحوار المتحضر تجعل الفرد أكثر انصياعا وأكثر اتفاقا مع الجماعة، وهي عقيدة قد يجد المرتبطون بشخصية مول فلاندرز لديفو أو شخصية السيد باوندربي صعوبة في الإيمان بها؛ فالثروة التجارية بصفتها ذات طبيعة انتشارية متقلبة تتوافق مع تقلبات التعاطف الإنساني، وتمثل نفس هذه الخاصية الزئبقية ثقلا كبيرا يوازن عجرفة السلطة الأوتوقراطية.
إلا أن شعائر القلب هذه كان لها جانب مثالي بالإضافة للجانب الأيديولوجي؛ فالإحساس - دون غيره - كان ربما أثرى نقد لعقلانية التنوير التي تمكنت الثقافة البريطانية فيما قبل الرومانسية من تكريسها. ربما دفع الشعور عجلات التجارة لكنه هدد كذلك بإخراج المشروع برمته عن المسار تحت شعار رؤية متمحورة على الذات وأقل بلادة للمجتمع الإنساني. تعلق جانيت تود قائلة: إن الرجل العاطفي «لا يدخل النظام الاقتصادي الذي يدينه؛ ويرفض العمل في سبيل تحسين نفسه أو المجتمع.»
21
فثمة مسحة من التسكع البنياميني فيما يتعلق بالرجل الحساس الذي يتعارض إحساسه الغزير ورفضه المعتد أو العاطفي للتفكير مع النظام النفعي البليد، فتجاهله المختال للتناغم - وكذلك اعتياده العطاء في سبيل ذلك تماما - يمثلان هجوما ضمنيا على عقيدة قيمة التبادل بصورة تشبه كثيرا المبالغات اللاحقة لأمثال أوسكار وايلد. وفي الوقت ذاته فإن تجاهل التناغم كان بالضبط ما لم يتمكن نقاد المذهب العاطفي من تحمله، فالإفراط في الإحساس يعني العجز عن تمييز الأساسي من الهامشي؛ حيث إن «الشعور» ذاته لن يقدم لصاحبه أي دليل على تلك الفروق الجوهرية، فالمذهب العاطفي - والأدب الذي نتج عنه - يميل نحو الغرابة والاستطراد والتفرد، حيث يفضل البريق الباهت لزهرة الثلج على قضية كإصلاح السجون، فهو نظام أخلاق مترف من جميع النواحي.
إلا أنه ثمة حاجة لمثل هذه «العلاقة» العاطفية في نظام اجتماعي لم يعد يحفظ تماسكه دولة مستبدة، فالمجتمع الفردي يحتاج لإطار من التضامن كي يحتوي نزعاته الفوضوية، وإلا فإن هذه النزعات تمثل خطرا يؤدي لتخريب المؤسسات التي تسمح لها بالازدهار؛ لكنه مع ذلك تضامن يزداد تحقيقه صعوبة نظرا إلى تعرض العلاقات الاجتماعية لخطر اختزالها إلى علاقات عقدية بحتة، والسلطة السياسية إلى مجرد أداة، والأفراد أنفسهم إلى وحدات معزولة. ويقارن آدم فيرجسون على نحو متشائم في عمله «مقال عن تاريخ المجتمع المدني» بين التضامن في الثقافة القبلية والأفراد «المنفصلين والمنعزلين» في الحياة المعاصرة الذين «انقطعت لديهم روابط العاطفة». وفي ظل هذه الظروف، ليس من الغريب أن يلجأ الرجال والنساء إلى العواطف الطبيعية ليضمنوا لأنفسهم درجة من الرفقة في ضوء توفرها المتضائل في العالم الاجتماعي، فما لا يمكن أن نجده في الثقافة الإنسانية يجب الآن إيجاده في الطبيعة الإنسانية.
في ظل نظام اجتماعي يقوم على المصلحة الذاتية، من المنتظر أن تبدو مكامن الفضيلة العامة غامضة. فكما قال آلاسدير ماكنتاير، لم يعد من الممكن في مثل هذه الظروف تناول القواعد والعلاقات الاجتماعية بطرق تشير ضمنيا إلى الالتزامات والمسئوليات الأخلاقية.
22
وعليه تترك مثل هذه الالتزامات معلقة، تماما مثلما تحررت المشاعر - عند العاطفيين الأكثر إفراطا - من الأشياء التي من المفترض أن ترتبط بها لتصير كيانات غريبة قائمة بذاتها شبيهة بالأشياء. وبما أنه لا يوجد في بنية المجتمع ما قد يدفع أفراده إلى المساعدة والعاطفة المتبادلة، فإن القدرة التعاطفية يجب أن تنقل إلى داخل كل رجل وامرأة، وأن تطبع كغريزة تشبه الجوع أو حماية النفس؛ فالإنسان يسر بالخير بقدر ما يستمتع برائحة عطر، أو يشعر بالغثيان بسبب رائحة نتنة. ومن هذا المنطلق يمثل عصر العقل - الذي تزداد فيه أهمية المنفعة والتكنولوجيا والتفكير العقلاني - أيضا ثقافة تنصب على القلب، على البكاء والحنان. وفي مملكة الفردية التملكية، يضطر الحب والخيرية إلى الانتقال من الدائرة الخاصة الداخلية ليصيرا مجازين ذوي مغزى أعم وأشمل. وعلى أكثر التقديرات المتشائمة، العاطفة - تلك الطريقة السريعة الغريبة غير اللفظية في تبادل الإشارات أو الحدس - ربما هي الصورة الوحيدة المتبقية من السلوك الاجتماعي في عالم من الأفراد المنعزلين البائسين.
إن التحول إلى الذات خطوة حكيمة؛ لكنها في الوقت نفسه خطيرة؛ إذ إن تثبيت المجتمع السياسي على دعائم العواطف الطبيعية يعني بوجه ما إمداده بأقوى أساس يمكن تصوره، وتركه من وجه آخر عرضة للخطر على نحو مقلق، فالمجتمع الإنساني عند ديفيد هيوم يظل متماسكا في النهاية بسبب عادات الشعور، وإذا لم يوجد ما هو أشد قسرا من الناحية الروحية فليس هناك ما هو أكثر استعصاء على الإثبات العقلاني؛ فأهمية المشاعر سببها أنها تقدم دوافع للسلوك بشكل قد لا يمكن للقواعد العقلانية وحدها فعله. وكذلك الحال مع العقلانية في الوقت الحاضر، فكما يشير جيه إم بيرنشتاين، فإن الأخلاق التواصلية لدى يورجين هابرماس تجريدية تماما، لكن إن أريد تجسيد قواعدها العامة في صورة دوافع مقنعة، فيجب أن يعاد ربطها بالممارسات اليومية.
23
والعقبة هي أنه قد لا يوجد الآن أي تفسير عقلاني للرحمة أو الكرم، كما كان الحال مع سبينوزا؛ فليس ثمة أساس منطقي براجماتي وراءها؛ إذ من المرجح أن رقة القلب هذه - كما توحي أعمال هنري فيلدنج - ستنتهي بصاحبها بالتعرض لمأزق شديد بدلا من أن توفر له الفوز بضيعة أو بمنصب وزاري في الحكومة. وهذا هو السبب في أن فيلدنج يثني على فضيلة أبطاله بينما يتهكم عليها ساخرا في الوقت نفسه؛ حيث إنها في مثل هذا المجتمع الوحشي لن تبدو إلا ساذجة.
لكن كذلك لا يوجد أي تفسير عقلاني لتذوق ثمرة خوخ أو استنشاق عبير زهرة، وهي تجارب يبدو أنها (كنوبة شفقة أو نفور أخلاقي مفاجئة) تحمل تفسيراتها في ذاتها؛ إذ هي فورية لا تقبل الجدل. وإذا لم يمكننا أن نؤسس للفضائل بأساس منطقي - مثلما سعى الفلاسفة الأخلاقيون أمثال صامويل كلارك وويليام وولاستون - فربما يرجع ذلك إلى أنها أساسية في ذاتها، وجزء لا يتجزأ من الجسم كالكبد والبنكرياس. ربما تشبه من هذا المنطلق الذوق الجمالي أو شيء لا يمكن وصفه لم نعد بحاجة لأن نعرف المزيد عنه؛ فربما يحمل الذوق والحكم الأخلاقي - مثل الرب والأعمال الفنية - أسباب وجودهما في ذاتهما. بالتأكيد يبدو أن فرانسيس هتشسون قد اعتقد ذلك؛ فإن سئل، بحسب قوله، عن السبب في استحساننا للخير العام، فسيجيب: «أتصور أننا لن يمكننا أن نجد «أي سبب» في هذه الحالات أكثر مما يمكننا أن نجده في حبنا لأي فاكهة لذيذة.»
24
فالتفسيرات - كما يعلق فتجنشتاين - يجب أن تنتهي في مرحلة معينة؛ فهي بالنسبة لهتشسون تصل إلى طريق مسدود، بتعبير فتجنشتاين، عندما تصل إلى فكرة معنى أخلاقي هو جزء من طبيعتنا المادية بقدر العطس أو الابتسام.
في كل الأحوال، يبدو أن «جيد» و«سيئ» كلمتان لهما حد، بمعنى أننا إذا استطعنا أن ندعم مثل هذه الأحكام بأسباب غير أخلاقية - كما يزعم العقلانيون أنه واجب علينا - فقد يظل من الممكن دائما أن يزحزح السؤال خطوة أخرى ليكون عن السبب الذي يجعل هذه الأسباب بدورها أسبابا وجيهة، أو لماذا يظن من الجيد الاقتداء بها. فالسؤال يتعلق جزئيا بالدافع، كما قد يوحي أصل كلمة حب الخير باللغة الإنجليزية
Benevolence ، فهتشسون وهيوم وزملاؤهما يخاطبون حضارة ترى أن ما تظنه حقيقيا هو بوجه عام ما يتم الشعور به من خلال النبضات أو العينين، وتشعر بالتبعية بشك طبيعي في التصرف وفقا لمبدأ مجرد. يقول هيوم عن صور الفضيلة القديمة: «إن الفضيلة التي تفصلها عنا تلك المسافة كالنجم الثابت الذي رغم أنه قد يبدو لعين العقل لامعا كما الشمس بعد توسطها في كبد السماء، فإنه على نحو لا متناه أبعد من أن يؤثر في الحواس سواء بالضوء أو بالحرارة.»
25
فمثل تلك المثل الباهرة الخالية من المشاعر تعوزها القوة النفسية. وفيما يتعلق بالدوافع، فإن فلسفة هتشسون وأدب ديفو ينتميان لنفس الوسط الثقافي، فإن أراد أحد أن يجري استقصاء للدوافع الإنسانية بكل تعقيداتها البراجماتية، استقصاء يغوص في أكثر خبايا النفس عمقا، فسينتهي به الحال على الأرجح بكتابة رواية.
كما أنه في ظل مجتمع تبدو فيه الفضيلة شحيحة، ولا يكاد ما بقي منها يتمتع بأي سحر (حسن التدبير والحكمة والعفة والانضباط الذاتي والطاعة والزهد والمواظبة والاجتهاد وغيرها)، فإن الأرجح أن الرجال والنساء في حاجة إلى دافع لحسن التصرف أقوى نوعا ما من الحرص العقلاني على تناغم النظام الكوني؛ فبمجرد أن يتحول حسن الخلق إلى تقليد اجتماعي رتيب، يحتاج الإنسان لمزيد من الحوافز من أجل الالتزام به. على أي حال، ما معنى الزعم بأن أسباب الفضيلة التي يقدمها العقلانيون تتمتع على نحو خاص بقوة أخلاقية؟ ما المبهر، على سبيل المثال، في الاتفاق مع طبيعة الكون؟ تصور الكثير من الأخلاقيين أن الحياة السعيدة تكمن في القيام بالعكس تماما.
يوظف هتشسون نفسه هذا المنطق في كتابه «مقدمة قصيرة للفلسفة الأخلاقية» قائلا إن المذهب العقلاني يفترض مقدما عين المعنى الأخلاقي الذي يسعى لتفسيره. وهذه أزمة مألوفة بدرجة كافية في النظرية الأخلاقية الحديثة؛ فإما أن نتمسك - كما فعل هتشسون وجي إيه مور - بمفهوم بدهي أو لا طبيعي عن الخير، وعندها يمكننا أن نتبنى أساسا من المبادئ على حساب غموضها التام، أو يمكننا أن نترجم فكرة الخير إلى مجموعة من الصفات الطبيعية، وهو ما يبسط المفهوم على حساب فتح المجال أمام تقديم تفسير للتفسير؛ ومن ثم تجريده تماما من عين الدور الذي من المفترض أن يؤديه كأساس.
إن ما يسمى بالحس الأخلاقي عند شافتسبري وهتشسون - وهو ما سنرى بعد قليل أنه نوع من التكهن العفوي بالخير والشر - هو إقرار على نحو ما بالفشل الفلسفي، فهذا الحس الأخلاقي الذي يشبه الشبح - الذي وصفه هتشسون نفسه بأنه «صفة سحرية» والذي اعتبره إيمانويل كانط دون مواربة «غير فلسفي» - ما هو إلا نوع من الافتراض المؤقت لأساس أخلاقي أكثر تماسكا، أو قيمة مبهمة تملأ فراغا ما في المسألة. إن طرح هذا الحس - وهو نوع من إحاطة أعضاء الإدراك الأكبر لدينا بغيمة من الغموض - باعتباره مصدرا للحكم الأخلاقي، يعد على وجه ما بمنزلة القول إن مثل هذه الأحكام لا يمكن تفسيرها على الإطلاق، فهو يصادر على المطلوب بقدر «القوة المنومة» عند موليير. ويبدو أننا لا يمكننا إنكار حقيقة هذا الحس كما لا يمكننا إنكار مذاق البطاطس؛ لكن من المحير معرفة مكمن الأول بقدر تحليل الأخير؛ فالحس الأخلاقي هو نوع من الأشياء التي لا يمكن وصفها - مثل الملكة الجمالية - والتي لا تقبل الجدل بقدر ما لا تقبل التفسير. فالعقل عند هيوم وهتشسون يجب أن يوجه الحس الأخلاقي؛ لكنه لا يمكن أن يؤسسه. وليس هذا غريبا بالنظر إلى أن العقل يفقد كثيرا من مصداقيته عندما يخضع للتعريف على نحو أداتي في عصر من عصور العقل، فإذا كان الحس الأخلاقي سابقا على العقل، فذلك يرجع جزئيا إلى أن العقل الآن يسيطر عليه بنحو كبير أولئك الذين يرون أنه لا يمكن أن تكون له علاقة بالغايات الأخلاقية. وبذلك يصل كل هذا إلى الإقرار بأن الحب والكرم والتعاون المشترك رغم أنها حقا ألمع الفضائل الإنسانية، فلم يعد من الممكن معرفة السبب وراءها.
26
لكن لماذا ينبغي علينا أن نعرف هذا في المقام الأول؟ أليست تلك سوى علامة على أننا وصلنا للقاع ولا مجال لمزيد من الهبوط؟
مع ذلك، وكما أدرك العقلانيون في القرن الثامن عشر، ثمة أسباب تدعو للقلق. صحيح أن تفسير الدوافع الأخلاقية في ضوء التجربة المحسوسة من وجه ما يوفر لها أساسا أبعد ما يكون عن الشك، ووحدها تلك المزاعم التي تخاطب النوازع الإيمانية والعواطف هي التي يؤمل أن تكون مقنعة، كما أدرك أشهر فلاسفة الهيمنة في القرن الثامن عشر إدموند بيرك في الدائرة السياسية؛ فأكثر رعايا السلطة ولاء هو الشخص العاطفي، بالمعنى الشائع في القرن الثامن عشر، إلا أن ربط هذه المزاعم بالذات يعني كذلك المخاطرة بإخضاعها لتقلبات الحظ والنزوات والعرف والأوهام والتحيز؛ إذ كيف يختلف النفور من التعذيب عن النفور من الكرنب؟ وما السمة الأخلاقية تحديدا في مثل هذ النفور؟ وإن لم نسبغ صفة القانون الكوني على النفور من الكرنب، فلم قد نفعل في حالة التعذيب؟ لذا فالفكرة أن السير جون هوكينز - في خضم رحلة من الإعجاب الساخر - يمكنه اتهام العاطفيين بجعل الأخلاق ذاتية: «إن أفكارهم الزاخرة تحل محل الالتزام كله؛ فهي في ذاتها قانون، فامتلاك «قلب طيب» وكثرة «التعاطف مع الآخرين» فوق تلك الاعتبارات التي تلزم الناس بقواعد السلوك التي وضعت في ضوء إحساس بالواجب.»
27
وينزعج هوكينز من المروجين للحس الأخلاقي بنفس الصورة التي يرى بها الديونتولوجيون (علماء أخلاق الواجب) المحدثون شيئا فضفاضا فيما يتعلق بأخلاق الفضيلة. وسجل سورين كيركجارد نفس الرأي لاحقا حيث كتب في دورياته: «دعونا لا نتحدث من الناحية الجمالية [عن الأخلاق] كما لو كانت المسائل الأخلاقية مكرمة سعيدة.»
28
كان كولريدج على نفس القدر من الارتباك؛ إذ يشكو في كتابه «معين على التأمل» من أن ستيرن والعاطفيين قد ارتكبوا إثما أكبر بكثير من هوبز والماديين. واتهم أوليفر جولدسميث - وهو نفسه خبير بالشفقة والرقة - زميله إدموند بيرك ب «بناء فلسفته على مشاعره الذاتية الخاصة.»
29
فالحركة الهادفة لزرع القيم الأخلاقية في الذات الإنسانية هي ذاتها ما قد يقوضها. كما أنه بمحاولة إضفاء الطابع الديمقراطي على الأخلاق (بما أن كل الناس يمكنهم الشعور بالتعاطف التلقائي) هناك خطر بيلاجياني بجعل الفضيلة سهلة وفطرية أكثر مما يجب، فتكون كالتنهد أكثر من كونها صراعا، فهذا الصلاح اليسير هو رد أرستقراطي على القيم غير المحبوبة للبيوريتانيين في الطبقة الوسطى الدنيا بإصرارهم الراسخ على الانضباط الذاتي والهمة؛ فالنبيل لا يصارع ضميره كما لا يصارع خادمه؛ لكن الطبقة الوسطى البروتستانتية لا يرضيها مثل هذا التساهل الأخلاقي، فكما أشارت الكاتبة إليزابيث كارتر في القرن الثامن عشر بحدة: «إن مجرد الشعور بموجة مفاجئة من التعاطف عند رؤية شيء في محنة لا يعد ضربا من الخير أكثر من التعرض لنوبة نقرس.»
30
لا شك أن كارتر وكيركجارد لهما وجهة نظر؛ وجهة نظر ربما تبناها أيضا (كما سنرى لاحقا) شايلوك الشخصية التي صنعها شكسبير؛ فقضية الأخلاق أهم كثيرا من أن تترك لطيبة القلب المتقلبة للقادرين على أن يكونوا لطفاء؛ فالضعفاء يحتاجون إلى رباط مادي أو قواعد للالتزام لتحميهم؛ أي، نص محدد يمكن أن يلوحوا به عندما ينقلب عليهم الكبار. فالقيم المحكومة بقواعد قد تبدو أقل قبولا مقارنة بتلك التي تنتج عن نزعة داخلية، إلا أن المقصود منها هو أن عليك التعامل بإنسانية مع الآخرين مهما كان ما تشعر به، كما أن المقصود منها هو أن الأخلاق تتعلق بالفعل لا بالشعور، والتعاطف غير المصحوب بوهج متقد يظل تعاطفا. لكن المؤمنون بالثنائية الأخلاقية وحدهم يزعمون أن قلوبهم تمتلئ بالحب وهم يشوون الحمل على النار. •••
ترتبط الأخلاق الخيالية التي يشملها مذهب «الحس الأخلاقي» الخاص بالقرن الثامن عشر بالفكرة القديمة المبتذلة المشكوك فيها بأن الإيثار قد لا يعدو كونه انحرافا عن الأثرة، فكما أنه من الصعب في سياق النظام الخيالي تحديد أي المشاعر تنتمي للنفس وأيها للآخر، فكذلك من الصعب - ربما من المستحيل في النهاية - معرفة ما إذا كان سرور النفس بسرور الآخر يرتبط بالآخر أم بالنفس، فمنظومة الأخلاق التي تعتبر التعاطف مع الآخرين هي نوع شبه حسي من إرضاء الذات يجب أن تطرح السؤال عما إذا كان هدفها الحقيقي هو التعاطف المنكر للذات أم إرضاء الذات الأناني، فماذا إن كنت مسرورا بإحساني - باعتباره نسخة مثالية من نفسي - كما يفتتن الطفل بصورته في المرآة المتماسكة ظاهريا؟ يذكرنا هذا بشخصيات ديكنز المخيفة الفاعلة للخير بداية من براونلو حتى بوفين التي تخفي مظاهرهم الفجة قلوبا رقيقة، والتي تثير فيهم صرامتهم العاطفية إثارة أقرب لأن تكون جنسية. يشبه ريتشارد ستيل الروح العطوفة التي تذوب شفقة على أخرى بالعاشق الذي «يرق» للجمال. وفي ثناء لورنس ستيرن العاطفي على «الشهوة المهيبة لفعل الخير»، هل كان التأكيد على «الشهوة» أم على «الخير»؟
يرى الفيلسوف سي إس بيرس أن هذه في الحقيقة إشكالية وهمية؛ فالقول إننا نفعل ما نفعل من أجل اللذة في رأيه لا يختلف عن القول إننا نرغب في فعل ما نفعل.
31
ويرى توماس هوبز - في تهكم مميز - الشفقة على الآخرين من منظور أناني بحت باعتبارها «تخيلا أو تصورا لكرب مستقبلي يصيبنا، نابعا من الشعور بكرب إنسان آخر.»
32
فهي تذكير لأصحاب الاتجاه الرومانسي بأن الخيال ليس ملكة خيرة بالكامل بأي حال. ويكتب معلق آخر أقل تهكما هو أمارتيا سن قائلا: «من الممكن القول إن السلوك المبني على التعاطف من ناحية مهمة أناني، لأن الفرد يسر لسرور الآخرين ويتألم لألمهم، وبذلك قد تتيسر منفعة الشخص من خلال التعاطف.»
33
إن منظومة الأخلاق الخيالية في القرن الثامن عشر ، كما سنرى، تتمحور حول الأثرة؛ لكن النظام الخيالي عند لاكان يكمن في أصل الأنا على وجه التحديد.
ربما يكون التمييز بين مذهب الخير والمذهب العاطفي مفيدا هنا، وإن كان الفرق ضبابيا، فبوجه عام، كان الخير في القرن الثامن عشر قضية مرتبطة بإنكار الذات بينما كانت العاطفة شأنا أكثر ارتباطا بالنفس. فالخير طارد، أما العاطفة فهي جاذبة. فأصحاب مذهب الخير من أمثال جولدسميث وهتشسون وسميث وبيرك أعينهم على الآخر، بينما العاطفيون من أمثال ستيل وستيرن مستهلكون للمشاعر الرقيقة على نحو واع، وغارقون في عواطفهم الخاصة الودودة.
34
فالمؤمن بمذهب الخير يفعل الخير لكن ليس لمجرد عمل الخير، أما دافع العاطفي، فهو رضا النفس، فما يشعر به الفرد في الحالة الأخيرة لا يرتبط بسراء الآخر أو ضرائه بقدر ما هو اندماج معه و«ذوبان» فيه. وتعج خطابات ستيل لزوجته بصرخات ألم ونشوة مهذبة ومنزهة، فزوجته هي «مخلوقه المفضل» و«حاكمه المحبوب» و«أعز كائن على الأرض»؛ وهو يقسم لها: «أموت شوقا من أجلك» رغم أنه لا يملك أقل نية لمغادرة عشاء مع شخصية هامة.
35
لقد صار الآن من الأدب التجرد من الرجولة؛ فالعاطفة هي تدفق الشعور بما يفوق الموقف، فتمر من الشيء كالرغبة الفرويدية لتلتف على نفسها وتعود إلى الذات من جديد؛ أما الخير في المقابل فهو شعور متناسب مع الشيء. يوضح هتشسون هذه النقطة عندما يتحدث في كتابه «بحث حول أصل أفكارنا عن الفضيلة والخير الأخلاقي» عن أننا لا نحب بسبب أن ذلك يسرنا أو ينفعنا، بل لأن شعورنا ينبع من «الشيء المناسب» له.
لقد هنأ جوشوا رينولدز أوليفر جولدسميث على «الشعور بدقة»، وصحيح أن جولدسميث نفسه - وهو من أنصار مذهب الخير لا المذهب العاطفي - وجد شيئا تنظيريا مزعجا عند المفتتنين بالشعور الذي أحاط به، فوحده الإنسان الذي استمد أفكاره من الكتب - كما رأى - «يأتي إلى العالم وقلبه يرق لكل محنة متصورة.»
36
وعادة ما يرى جولدسميث - وهو نفسه مهاجر أيرلندي - العاطفة باعتبارها نوعا من الاستبداد «الاستعماري»: فهناك سمة تسلطية خفية في الكرم الجامح الذي هو طريقة ماهرة لتحميل الآخرين بالجميل، فهو كما يرى صورة محرفة من الأنانية التي فيها ما يبدو أنك تمنحه لغيرك يقدم خلسة لنفسك؛ فالسخاء - عندما يزيد عن الحد - يعتبر الآخرين مجرد أشياء ملائمة، كما يتضح من خلال مسرحية «تيمون الأثيني»، فهو يسلب من الآخرين غنيمة عاطفية ليشبع نهمه الشره. اعتبر جولدسميث - بصفته أحد أنصار حزب المحافظين المعروفين - أن الوفرة كالواردات الأجنبية التي تضعف الاقتصاد المحلي. وبالمثل، لا ينبغي لإنجلترا أن تستنزف اقتصادها العاطفي باستيراد البضائع العاطفية من الفرنسيين. ورغم أنه كان من مؤيدي حزب المحافظين؛ فقد اتفقت نظريته عن الأصول التاريخية للوفرة على نحو مميز مع نظرية المادية التاريخية.
37
وفي مقال بعنوان «العدل والجود» يصر جولدسميث على أن الجود الحقيقي ليس مجرد نزوة من الشعور الجيد بل واجبا يحمل في طياته صرامة القانون بكاملها، فهو قانون يفرضه علينا العقل «الذي ينبغي أن يكون القانون الحاكم للكائن المفكر.»
38
إن اللغة الكانطية كاشفة؛ إذ يريد جولدسميث أن يهدم التناقض بين الحب والقانون بتحويل الأول إلى التزام، وهو في هذا يتفق مع العهد الجديد الذي فيه الحب أمر لا اختيار؛ فالحب في العقيدة المسيحية اليهودية لا علاقة له بشعور الآخر، فإن اعتمدت على عواطفك فسيؤدي ذلك بك إلى عدم الرحمة إلا مع الذين يتصادف أنك تهتم لأجلهم أو فقط عندما تشعر برغبة في ذلك. إن الأخلاق المسيحية اليهودية التي قد يكون المحبوب فيها غريبا أو عدوا من هذا المنظور ليست - كما سنرى - ذات طبيعة خيالية؛ فالخصومة المتأصلة في العهد الجديد تجاه العائلة تتوافق مع انحيازه المضاد للنظام الخيالي. وهذا لا شك أحد أسباب النجاح الساحق لرواية دان براون «شفرة دافنشي»، وهي تحفة أدبية لعينة الأسلوب يتزوج المسيح فيها مريم المجدلية وينجب طفلا. إن نظرة العهد الجديد الفضفاضة تماما تجاه الجنس - بما يتعارض مع رؤى معظم الورعين المتمسكين به على مر العصور - فاضحة بكل وضوح في نظر عصر ما بعد الحداثة المهووس بالجنس. وعليه، كان من الواجب إدخال سرد جنسي مثير في النص، إن أريد له أن يحظى بأقل درجات الاهتمام المعاصر.
يأمل أنصار مذهب الخير ألا يستمروا في شعورهم بعدم الارتياح للشفقة بسبب الذهاب لمساعدة الضحية التي سببت هذا الشعور، أما العاطفيون فهم أقل تطلعا للتخلي عن أحاسيسهم السادية المازوخية المريحة من خلال تضميد جروح الآخرين. يشير شافتسبري إلى أن الشفقة المفرطة قد تمنعنا فعلا من مساعدة الآخر؛
39
إذ يرى أنه من الممكن الإفراط في الحب، أو الحب الجنوني، وهو مفهوم كان سيراه ريتشارد ستيل فظا بلا شك. ويكتب الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد فورديس عن أن العاطفي يجد «نوعا من الألم اللذيذ» في بؤس الإنسان، ألم يتحول إلى «سرور ورضا عن الذات».
40
فكما لا يرجى من الرغبة في وضع نظرية نفسية تحليلية سوى الاستمرار في الرغبة، فإن أكثر ما يشعر به العاطفي هو الحاجة للشعور. وقد اعتبر بعض المحسنين المعاصرين أن الفقر والتعاسة والفروق الطبقية وما شابه هي فرص نزلت من السماء لممارسة الإحسان؛ فالشفقة والمواساة هما دائما استجابتان لاحقتان تشيران إلى أن الفاجعة قد وقعت فعلا. وهذا بلا شك مكمن القوة السياسية لبيت ويليام بليك الشعري العاطفي بالغ الافتعال «ذرف الدموع لرؤية دموع طفل» في مجموعته الشعرية «أغاني التجربة». فالعالم ثابت، وحريتنا تكمن فقط في الاستجابة السلبية لجوانبه الغير المتغيرة. أما عند فلاسفة الحس الأخلاقي الذين يرون أن التعاطف شيء لا إرادي، فحتى استجابتنا لبؤس الإنسان ليست اختيارية.
في غالب الأمر، يتعلق الخير بالضحك بينما تتعلق العاطفة بالبكاء، فالعاطفة هي في الحقيقة تعاطف الشخص مع فعل التعاطف لديه، وهي علاقة آكلة لذاتها، يختزل فيها العالم إلى كمية كبيرة من المادة الخام لشهوة الإحساس لدى الفرد، أو إلى مناسبات عديدة لإظهار سماحة الفرد الأخلاقية. ولذلك يمكنك أن تستبدل الأشياء التي تتعلق بعواطفك من لحظة لأخرى مع الالتفات بالكاد لقيمتها؛ فهي نوعية الشعور الملائمة لغير الغارقين في العاطفة في الحياة اليومية؛ ومن ثم لا يسعهم إلا تقديم صورة مسرحية مبالغ فيها منها في المواقف النادرة التي تستدعي إظهارهم إياها. وهذا لا شك أحد الأسباب وراء نشيج الساسة الأمريكيين لا إراديا على الملأ؛ فالعاطفي يتباهى بمشاعره الجذابة مثل غيرها من الأشياء التي يمتلكها؛ فهي مثل دخله السنوي أو أطيانه جزء مما يؤمن له نافذة على المجتمع الراقي. ويشير جون مولان ببراعة إلى أن «حدة أي تجربة شعورية خاصة كانت بديلا (في القرن الثامن عشر) لمشاعر التعاطف الشائعة والسائدة.»
41
وكما الطفل في طور المرآة يختال بانعكاس صورته المثالي، ينخدع العاطفي في صورة مفخمة لنفسه في ذهابه لمساعدة شخص آخر، فالآخر ما هو إلا مرآة لسروره الذاتي؛ فشخصية يوريك في رواية ستيرن «رحلة عاطفية» - بعبارة بايرون عن كيتس - يستثير خياله على الدوام متصورا مواقف أليمة ليتلذذ بنشوة الشفقة. وفي الوقت الذي لا يرى فيه أنصار مذهب الخير سوى الشيء الذي يستهدفه إحسانهم، فإن العاطفيين ينظرون في فعلهم على استحياء إلى استجابة الآخرين التي تنم عن الإعجاب بهم، فهم رجال ذوو ثروة عاطفية كبيرة يستثمرون مشاعرهم النبيلة آملين، كالمضارب في سوق المال، في الحصول على عائد سخي.
42
وهم من هذا المنطلق يشبهون النرجسيين في الوقت المعاصر - الموجودين في الغالب في الولايات المتحدة - الذين يتعاملون مع أجسادهم بكل اليقظة والحرص، كمن تحمل معها تحفة تبلغ من القيمة وإثارة الاشمئزاز والهشاشة ما لا يمكن وصفه. ويذكر هذا بشخصية ديكنز المنافقة: السيد بيكسنيف الذي يدفئ يديه بالنار بنفس الحرص كما لو كانت يدي شخص آخر؛ فالنرجسية - كالنظام الخيالي - تتضمن معاملة النفس كمعاملة الآخر، وكذلك معاملة الآخر كمعاملة النفس.
هوامش
الفصل الثاني
فرانسيس هتشسون وديفيد هيوم
في معظم الكتابات التي تناولت فلسفة القرن الثامن عشر، ليس لفرانسيس هتشسون مكانة كبيرة مثل الفيلسوف العظيم ديفيد هيوم،
1
إلا أن هذا الرجل القادم من أولستر الذي يعد أبا الفلسفة الاسكتلندية علم هيوم كثيرا مما عرف، كما كان له عميق الأثر في الكتابات قبل النقدية لإيمانويل كانط، كما اعتنق تلميذه آدم سميث مذهبه الاقتصادي، وهو ما ساعد على وضع أسس العالم الحديث. وبوصفه جمهوريا من أتباع هارنجتون حتى النخاع تبنى اتجاها ليبراليا راديكاليا يقف في صف المقهورين للإطاحة بالسلطة الظالمة؛ فقد كان له تأثير كبير في توماس جيفرسون، وبذلك أصبح مشاركا فكريا رياديا في الثورة الأمريكية. وكان كتابه «مقدمة قصيرة عن الفلسفة الأخلاقية» يصدر بانتظام إلى أمريكا عشية الثورة، ونشرت نسخة أمريكية من النص في عام 1788.
أعيد تصدير أفكار هتشسون إلى موطنه أيرلندا في أفكار جمعية الأيرلنديين المتحدين ذات النزعة التمردية. وربما تأثر إدموند بيرك هو الآخر ببعض كتاباته، وهو ما يجعله رائدا من بعيد للقومية الرومانسية، إلا أنه كان من كبار من حملوا شعلة التنوير في أولستر، وهي أكثر الثقافات الراديكالية ثراء من بين ما شهدته أيرلندا، بمزيجها القوي من مذهب لوك العقلي والمذهب الجمهوري الكلاسيكي والمذهب المشيخي الراديكالي والليبرتارية السياسية. قال هتشسون، باعتباره غريما عنيدا لتوماس هوبز، إن حالة الطبيعة كانت أميل للحرية أكثر من الفوضى. ونادى بالمساواة الطبيعية بين كل البشر، وكان إنسانويا مدنيا ذا صبغة تقليدية، وآمن بأن المصلحة العامة هي أسمى غاية أخلاقية؛ إلا أن أكثر إنجازاته تجديدا هو ترجمته للغة المذهب الجمهوري الكلاسيكي - بحديثها عن الواجب وروح الخدمة العامة والمسئولية السياسية - إلى الخطاب المختلف تماما، الخاص بالأخلاق وعلم النفس في القرن الثامن عشر. وناصر حقوق المرأة والطفل والخدم والعبيد والحيوانات، وتحدث عن الزواج باعتباره علاقة شراكة متكافئة، وذكر أن «السلطات الممنوحة للأزواج بموجب القوانين المدنية في عدة بلاد سلطات وحشية.»
2
فالحس الأخلاقي - كما يؤكد في كتابه «نظام الفلسفة الأخلاقية» - ملكة ديمقراطية توجد لدى البالغين والأطفال والأميين والمثقفين على حد سواء. وهناك قاسم من العاطفة الأخلاقية التي تكسر حواجز الفروق الاجتماعية، كما كشف على نحو مميز عن سلوك مستنير تجاه الثقافات غير الغربية، باحثا «عن مظاهر للعاطفة والاحترام والحس الأخلاقي عند أهل المستعمرات البريطانية الذين اعتبروا همجا في السابق.»
3
وعلى الرغم من كل هذا فإن ذكرى المائة الثالثة من ميلاده التي كانت منذ عدة أعوام، مرت دون اهتمام يذكر.
ولد هتشسون في مقاطعة داون عام 1694 حفيدا لرجل اسكتلندي، وبما أنه ليبرالي أو من أتباع المشيخية الجديدة، فقد تعلم في بلفاست وجلاسجو، ودرس لبعض الوقت في أكاديمية منشقة في دبلن؛ حيث أصبح واحدا من زمرة المفكرين التقدميين الذين التفوا حول النبيل والتاجر والدبلوماسي الليبرالي روبرت مولزوورث الذي هو تلميذ لجون لوك. وقد جذبت الليبرالية الدينية لمولزوورث انتباه إيرل شافتسبري التي شكلت كتاباته في الأخلاق والجمال فيما بعد محاور بحث أعمال هتشسون. وفي النهاية، عاد هتشسون إلى جلاسجو ليتولى منصب أستاذ الفلسفة الأخلاقية. كما شغل منصب كاهن لفترة قصيرة في مقاطعة أرما، رغم أن رعيته المشيخية الملتزمة رأت أن مذهبه في اللاهوت أكثر تحررا مما يمكنهم قبوله، وشكا رجل ساخط من تلك الرعية، كان قد هرب من جرعته الأسبوعية من الحديث عن الجحيم والعذاب في ظل الحرمان، من أن هتشسون كان رجلا «خسيسا سخيفا»، وكان «يثرثر» أمامهم طوال ساعة عن رب محسن كريم دون أي كلمة عن المعتقدات القديمة «المعتادة» عن الاختيار الإلهي والرفض الإلهي والخطيئة الأولى والموت.
4
وهذا الخسيس اعتقل مرتين في أثناء تدريسه في أكاديميته بدبلن حيث عمل إلى جانب ابن ويليام درينان، أحد مؤسسي جمعية الأيرلنديين المتحدين. كما حوكم مرة بتهمة الهرطقة في أثناء تدريسه بجلاسجو.
كان شافتسبري - الذي خالف منطق جزء كبير من الفكر الأخلاقي في القرن السابع عشر - هو من استمد منه هتشسون فكرة الحس الأخلاقي؛ رغم أن ما جاء تأكيدا عند الأول أصبح قضية فلسفية متكاملة عند الأخير. كما كان شافتسبري هو من أنقذ مفهوم السرور أو الإحساس باللذة بالمخالطة الاجتماعية بدلا من المصلحة الشخصية، فليس هناك ما هو أحب إلينا - كما يقول - من حالة العقل «تحت تأثير مشاعر حب أو امتنان أو سماحة أو سخاء أو شفقة أو مساعدة أو غيرها من المشاعر ذات الطبيعة الاجتماعية أو الودودة.»
5
وتمثل قضية شافتسبري خط دفاع أرستقراطيا أخيرا أمام أخلاق حب الذات البرجوازية، وكذلك أمام النقد الأفلاطوني الجديد للمذهب التجريبي، فحتى الفاسق - كما يزعم وقد تسلل إليه بعض اليأس - لا يزال به قدر ما من المودة؛ فالفاسق إذن خير من السكير؛ إذ إن الأول على الأقل يشرب حتى الثمالة وهو في صحبة.
إن الفضيلة عند شافتسبري شأن حواري؛ أي مسألة انعكاس متبادل للأفعال، فنحن نستمتع بالخير «بتلقيه، كما لو كان بالانعكاس أو عن طريق المشاركة في نفع الآخرين.»
6
فالمحاكاة مسألة تبادلية أو جدلية؛ فأفعالنا الكريمة هي سبب الاستحسان عند الآخرين الذين يزيد تقديرهم لتلك الأفعال سرورنا نحن. في الحقيقة، إن سلوكنا موجه دائما تقريبا نحو الآخر، وبذلك يتحول إلى واقع: «إن هذا الشعور المريح بالأمل في الصداقة وتوقعها هو ما تتعلق به كل أفعالنا.»
7
إلا أن أثمن أوجه الصداقة ليس مع الآخر بمعنى فردي بل مع الآخر الكبير؛ أي الآخر بمعنى جماعي؛ إذ يتساءل: «أي ثقة يمكن أن توجد في مجرد الهوى العابر أو الانجذاب المتقلب؟ ومن يمكنه الاعتماد على صداقة ليست مبنية على أي قاعدة أخلاقية بل موجهة لشخص مفرد أو جزء صغير من البشرية لا يشمل المجتمع والكل؟»
8
فالأخلاق العاطفية أكثر من مجرد وهم عابر أو نزوة خاصة. وفي النهاية فإن التقدير الذي نسعى إليه ليس تقدير أي شخص منفرد بل تقدير الآخر الكبير أو النظام الاجتماعي ككل. •••
إن كل كتابات هتشسون هي هجوم مركز على الأنانية الفلسفية؛ إذ يعترض في كتابه «تأملات في الضحك» قائلا إن هوبز «أغفل كل ما هو كريم وسمح في بني البشر، ويقدم الناس من وجهة نظر وغد بحق أو جبان يشك في أن كل روابط الصداقة أو الحب أو العواطف الاجتماعية هي نفاق أو مصلحة شخصية أو خوف.»
9
والكتاب نفسه - بعنوانه الباختيني - يقصد به مواجهة نظرة هوبز للضحك باعتباره علامة على المكانة؛ إذ لم تكن الأبحاث التي تتناول الضحك أكثر أنواع الأبحاث انتشارا بين المشيخيين في أولستر. ومن الصعب بنفس الدرجة أن نتصور ديكارت أو فريجه يجري مثل هذه الدراسة، فالفضيلة عند هتشسون ليست متعلقة بحساب مصلحة النفس؛ حيث إنها ليست مسألة حسابية على الإطلاق، بل توجد ملكة خاصة في داخلنا - الحس الأخلاقي - تقر الأفعال الإيثارية وتنكر الأفعال القاسية تلقائيا من دون أدنى إشارة إلى مصلحتنا أو منفعتنا الشخصية. فهناك - كما يقول - «شيء غريزي سابق على العقل المبني على المصلحة يدفعنا لحب الآخرين.»
10
إذن؛ فالحس الأخلاقي - ذلك السرور الفوري المتقد المنكر للذات الذي نجنيه من رؤية فعل فاضل - يعمل عمل ما قبل الفهم عند هايدجر، فهو الشيء الذي يكون موجودا بالفعل بمجرد أن نبدأ في التفكير، ذلك الذي لا يمكننا باعتبارنا عناصر فاعلة أخلاقية أن نعود لما قبله؛ حيث إنه يعرف ما نعتبره استجابة أخلاقية في المقام الأول. وقد جرت محاولات مؤخرا لإعادة إحياء هذه الفكرة وبنائها على أسس تبدو أكثر علمية.
11
يقول هتشسون: «إننا بقوة الطبيعة ذاتها، السابقة على أي تفكير أو تأمل، نسعد برخاء الآخرين ونحزن معهم في محنهم ... من دون أي نظر لمصلحتنا الشخصية.»
12
ويعد الدكتور بريمروز - بطل رواية «قس ويكفيلد» لجولدسميث - متلقيا خبيرا يقدر لفتات الآخرين السخية. أو مرة أخرى:
بمجرد أن نرى أي فعل ينبع من الحب والإنسانية والإحسان والرحمة والنظر في نفع الآخرين والسرور بسعادتهم، حتى وإن كان في أقصى بقاع الأرض أو في زمن قد خلا، فإننا نشعر بلذة بداخلنا ونعجب بالفعل الجميل ونثني على صاحبه. وفي المقابل فكل فعل ينبع من البغضاء والتلذذ بمعاناة الآخرين أو الجحود يثير الاشمئزاز والنفور.
13
تتضمن تلك النظرة الأخلاقية نوعا من الأثر الانعكاسي؛ حيث إن إحساسنا المنزه عن المصلحة بالألم أو السرور يعكس مشاعر الفاعل الذي نشاهده؛ فالتجرد مع الشخص الآخر يؤدي إلى إعادة تجسيده في أنفسنا، فيربع قيمته إن جاز التعبير، فهالة الرضا لدينا التي تنتج من مشاهدة إحسان شخص آخر هي أحد مظاهر عين الإحسان الذي أمامها؛ إذ يوجد نوع من المحاكاة الطبيعية أو التجاذب المغناطيسي بين النفوس؛ محاكاة سابقة على العقل مثل عالم النظام الخيالي ذاته. ومن دون هذه الاستجابة، لا يرقى الفعل عند هتشسون لأن يكون أخلاقيا على الإطلاق. إن ما نشعر به حيال تصرف معين هو ما يساعد على تحديد ما إذا كان تصرفا فاضلا أم لا، مثلما قد يساعد الراصد على وقوع أحداث معينة في عالم فيزياء الكم، فربما لا يعتبر الفعل غير المرصود فعلا فاضلا كالشجرة التي تسقط دون صوت في غابة مهجورة، فما يجعل فعلا ما ذا سمة أخلاقية هو علاقته بالمشاعر والعواطف وليس مجرد تصرف مادي. كما هو الحال بالنسبة لبعض فلاسفة الأخلاق الآخرين في القرن الثامن عشر، فإن هذه أخلاق تعتمد على المشاهد بقدر ما تعتمد على الصورة المرصودة؛ إذ ينظر هتشسون للفضيلة والرذيلة في ضوء استجابتنا لسلوك الآخرين وليس في ضوء سلوكنا نحن في المقام الأول، فقضية الأخلاق عنده لا تعنى ب «ما يجب أن تفعله» بقدر ما تعنى ب «ما تشعر به حيال فعلك أنت.»
يتمنى الرجال والنساء السعادة بطبيعتهم؛ وبما أن ملذات الفضيلة العامة في نظرة هتشسون تمثل أكبر سعادة يمكن نيلها، فلا يمكن أن يوجد أي تمييز على شاكلة تمييز كانط بين الرغبة الشخصية والالتزام الاجتماعي. بل يربط الحس الأخلاقي هاتين الدائرتين معا؛ حيث إن أنماط السلوك النافعة على المستوى الاجتماعي وحدها هي التي تسبب أكبر مشاعر بالسعادة الشخصية، إلا أننا لا نتصرف باسم المتعة الشخصية؛ إذ يكتب هتشسون قائلا: «إن إحساسنا بالسرور سابق على المنفعة أو المصلحة، وهو الأساس الذي تنبني عليه.»
14
وبذلك يفصل مفهوم السرور أو اللذة عن أتباع مذهب اللذة الشخصية، فالخير ليس في مجرد ما يشعرني بالرضا وإن كان الشعور بالرضا أصيلا فيه.
هتشسون إذن هو المثال الأكثر جاذبية لفيلسوف الأخلاق، الفيلسوف الذي يدرك، مثل أرسطو أو توما الأكويني، أن الخطاب الأخلاقي هو استقصاء لكيفية العيش الممتع المتسم بالسعة مع تحقيق أصدق الرغبات التي توجد لدينا. لكن من بين اختلافاته الرئيسية عن أرسطو هو إيمانه بأن الفضيلة نزعة محلها القلب وليس العمل؛ إلا أن ما قاله جاك لاكان عن اللذة عند أرسطو - من أنه «نشاط يشبه التورد الناتج عن نشاط الشباب، فهو إن شئت أن تقول وهج»
15 - يمكن قوله عن هتشسون هو الآخر؛ فالفضيلة عند هذا الفيلسوف المشيخي ذي الفكر المتحرر مسألة ذوق وسماحة واستقامة معيشة كبيرة، لدرجة أن أقرب تشبيه لها هو حضور حفل عشاء ناجح لأبعد حد ، فالفرد يتلذذ بطيبة قلب شخص آخر كما يلتهم صحنا كبيرا من الجمبري اللذيذ. فكما هو الحال بالنسبة لستيرن، الفضيلة نوع من الكوميديا، فهي روح احتفالية تقي من البيوريتانية الجافة، فالكوميديا تبشر بعالم مستقبلي أكثر بهجة، وهي نوع من العلاج عند تحققه. ويبدو أن بعض مفكري القرن الثامن عشر يولون البهجة نفس التقدير الذي يولونه للخير، ويرون بالتأكيد تشابها بينهما، فالضحك عند هتشسون - مثل ميكائيل باختين - نمط من أنماط التضامن الإنساني؛ حيث إننا «نسر بإدخال البهجة على الآخرين ... في الوقت الذي نستمتع فيه بمحادثة سارة منتعشة ببعض الضحك.»
16
فالضحك نموذج من الفضيلة لأسباب ليس أقلها أن الضحك يتم للضحك؛ فنوبات المحادثات هي حالات من انتشار عدوى الفضيلة والنشاط الاجتماعي المفعم بالحيوية، لذة في حد ذاته، في حين أن الفيلسوف الساخر ماندفيل يرى أن الناس يحبون الصحبة من أجل الترويج للذات والمتعة الأنانية.
هذا ربما ما يسوء هتشسون في نظرية هوبز عن الضحك؛ إذ لم يقتصر الأمر على كونها سادية بغيضة - حيث إننا نتهكم على أولئك الأقل حظا منا - بل إنها أيضا تخدم السلطة وليست غاية في ذاتها. ويكتب هتشسون ساخرا في رده على هوبز: «إنه لشيء مؤسف أنه ليس لدينا دار مسنين أو مستشفى للمصابين بالجذام نلجأ إليه في الطقس الغائم لنقضي النهار في الضحك على هذه الأشياء الدونية ...»
17
وبالنظر إلى ما يقوله أتباع هوبز، يتساءل هتشسون: لماذا لا يجمعون الكائنات الأدنى كالبوم والقواقع والمحار «ليضحكوا عليها»؟ ويمكن الزعم بأن هتشسون يرد على هوبز كما قد يشعر الإنسانوي المعاصر حيال كتاب فرويد عن النكات. كما أنه بأسلوبه الجمهوري يعتبر الضحك نوعا من فضح الزيف وتفريغ لفقاعة العظمة الزائفة أو السقوط الاحتفالي من الأسمى إلى الأدنى، فهو يعتبر - كما هو الحال بالنسبة لسلسلة مبجلة من الكتاب الأيرلنديين من سويفت إلى بيكيت - أن ما هو كوميدي هو الهزلي قبل كل شيء. لكن المزحة أو الفكاهة الظريفة إن قيلت فهي أيضا علامة على النظام الخيالي، على ذلك البعد من الحياة الإنسانية الذي يكون فيه التواصل مع الآخرين مباشرا وبدهيا دون أي جهد إدراكي مضن الذي هو عبء العقل، فالفكاهة هي صدى مملكة الرب في الأرض.
إن الإنسان الخير نوع من المبتهج الروحاني لدرجة يصعب معها التمييز بين الإحسان والمخالطة الاجتماعية؛ فهناك سمة هيلينية مبتهجة في تلك المنظومة الأخلاقية، سمة مقيدة ومغرية معا، فمن السهل مشاركة مشاعر شخص آخر إن كنت تتردد معه على نفس المقهى. لكن هتشسون يتجاوز بكثير مرحلة الإنسان الاجتماعي القانع؛ إذ يرد على الذين يتهمون الأخلاق العاطفية بأنها ليست إلا نوعا من الخيال الأخلاقي الطريف مصرا على أن ما يجعل الشخصية فاضلة ليس «بعض التحركات العارضة للعاطفة» بل «إنسانية ثابتة أو رغبة في المصلحة العامة للجميع».
18
وإن كان الحس الأخلاقي الغامض يقترب من الملكة الجمالية، فليس السبب في ذلك أن الفضيلة مسألة ذوق؛ بل لأنه - كالفن - يحمل قيمته في ذاته وليس في قضية عقاب أو ثواب أو التزام أو مصلحة شخصية أو تشريع إلهي. وفي الحقيقة قد تصح هذه المقارنة على نطاق أوسع؛ إذ إن الفضيلة والفن كلاهما يتضمن ملكة تتجاوز نطاق المنطق البحت، وكلاهما يتعلق بالسرور والإشباع الذاتي. وكلا النشاطين يتعاملان مع الحس والإدراك (وهو المعنى الأصلي لكلمة
Aesthetic
أو جمالي في الإنجليزية)، وكلاهما يستحضر الخيال المنزه عن المصلحة أو المتعاطف.
يكتب هتشسون قائلا: «يستحسن الناس الخير الذي يكون دون مقابل أو مصلحة أيما استحسان.»
19
فيقول إنك لو كنت تسعى فعلا للمتعة، فدعك من رضاك الشخصي وانصهر في اتحاد خيالي مع الحياة العاطفية للآخرين. وستكون النتيجة شعورا باللذة أقوى مما عداه طالما فهم أن التعاطف مع الآخرين من أجل تحصيل السرور الناتج عنه وحده يأتي بنتائج عكسية، فهذا يشبه شرب الخمر لمجرد السكر، وهو ما سيذهب على الأرجح لذتك به على المدى الطويل؛ فالفضيلة باختصار تخلو من العائد وتحقق رضا النفس وتحمل غايتها في ذاتها وتتخطى حدود العقل، وهي العدو اللدود للمصلحة الشخصية. وهي بذلك تمثل نقدا للنظام الاجتماعي الذي ترجح فيه كفة النفع على المتعة، ويعتبر فيه التفكير عملية حسابية ، وتكاد اللذة تكون إثما، وتسود فيه المصلحة الشخصية ولا يكاد يفعل فيه شيء لذاته، فمثل هذا المجتمع لا يدرك أن انعدام الغرض - كما قد يقول أوسكار وايلد - ضرب من التقوى. إلا أن علينا أن نضيف أن الفضيلة إن كانت هي المكافأة في ذاتها فهي إذن عقيدة غاية في الملائمة تحظى بإجلال أخلاقي؛ حيث إنها من المرجح أنها تجني جزاء ثمينا آخر في العالم الذي صنعناه؛ فهي كالمتشردين الذين ينتهي بهم الحال في مناصب وزارية، فحصول الصالحين والطالحين كل على جزائه الذي يستحقه يزيد الآن اقتصاره على الرواية، وحتى الرواية غالبا ما تأتي بمفارقة مناسبة حيالها. صحيح كذلك أن النظرية القائلة إن الفضيلة يجب أن تحقق المنفعة صدمت الفكر الأرستقراطي نوعا ما في القرن الثامن عشر باعتبارها نظرية سوقية لا سبيل إلى تقويمها.
إن التنزه عن المصلحة - ذلك الوحش المرعب لدى اليسار الثقافي المعاصر - تحول لشكل من أشكال المقاومة لعالم التجارة على يد هتشسون؛ فالفردية التملكية لا يمكنها تفسير «الأفعال الأساسية التي تشكل أركان الحياة البشرية؛ كالصداقة والعرفان والعواطف الطبيعية والكرم وروح الخدمة العامة والرحمة.»
20
إذ يبين هتشسون أنه في المشاريع المشتركة بين التجار تقاطع للمصالح لكن لا عاطفة بالضرورة؛ فالتاجر عندها لا يعنى بسلوك أقرانه إلا لأن مصالحه نفسها محل اعتبار. أما بين الآباء والأبناء في المقابل فتوجد عاطفة لكن لا تقاطع للمصالح؛ فالأبوان لا يسقيان أولادهما ليرويا عطشهما هما؛ فالتنزه عن المصلحة ليس صورة من التجرد الزائف، بل مسألة إسقاط للنفس بقوة الخيال التعاطفي في احتياجات الآخرين ومصالحهم. وبوصفه شأنا أخلاقيا وإدراكيا معا،
21
فهو يعني عدم المبالاة بالاهتمامات الشخصية وليس اهتمامات الآخرين؛ إذ يتضمن - كما يحدث مع الراوي الذي يعلم كل شيء في الروايات الأدبية - تنحينا الممتع عن التركيز على ذواتنا والدخول في الدوائر الذاتية المنغلقة ظاهرا لدى الآخرين من حولنا، فهو ملكة خيالية بمنظور لاكان. فالأخلاق - كالمحاكاة الفنية - تتضمن تقمص الحالة الداخلية للآخرين أو تمثيلها، كما تمثل نوعا من الحب باعتبارها رغبة إيثارية في فائدتهم. واستحسان وجود نزعة خالية من المصلحة يعني أن نحب من يحب. يقول هتشسون في عمله «تحقيق عن الخير والشر الأخلاقيين»: «إن كلمة الخير الأخلاقي ترمز إلى فكرتنا عن صفة ما تتضح في الفعل تؤدي إلى الشعور بالاستحسان والحب تجاه صاحبه لدى من لا يعود عليهم أي نفع من الفعل.»
22
ويقصد من العبارة الأولى في الجملة أن تكون ردا على مذهب الذاتية؛ إذ لا يزعم هتشسون كما عند أنصار المذهب الانفعالي أنه لا يوجد شيء صحيح أو خطأ، ولكن الشعور هو ما يجعله ذاك أو ذلك.
إن هذه البراءة السمحة في رؤية هتشسون الأخلاقية هي ما نتذكره؛ لكن نظرته للإنسانية لم تكن مفرطة التفاؤل على الإطلاق؛ فقد تحدث - كما ينبغي لمشيخي ملتزم - عن الجنس البشري واصفا إياه بأنه «فاسد ومنحط أخلاقيا» تحظى «شهوانيته ومساعيه الأنانية الخسيسة بانتشار أكبر.»
23
إلا أن كتابات هتشسون تحتوي على ما يكفي للاعتقاد بأنه اعتبر الطبيعة البشرية خيرة في أصلها. إنه لعمل شجاع من رجل مشيخي أن يضع اسم رجل ربوبي سيئ السمعة ومتفائل إلى أقصى حد كشافتسبري في صفحة عنوان أحد كتبه؛ إذ يقول إن «عقولنا» تنحاز بشدة «نحو الخير والعطف والإنسانية والكرم واحتقار المصلحة الخاصة ...»
24
وتبدو الرذيلة في عمله «مقالا عن الطبيعة وسلوك العواطف والمشاعر» مجرد إفراط: «فكل عاطفة بمقدارها المعتدل عاطفة بريئة، وكثير منها ودود بصفة مباشرة وصالح أخلاقيا.»
25
وإن لم تكن إفراطا، فليس هناك أفظع من زيادة حب النفس عن الحد، ويؤكد: «فلنزل العقبات التي يضعها حب النفس وسترشدنا الطبيعة ذاتها إلى الخير.»
26
وهذا ضرب من الهرطقة البيلاجيانية الخطيرة عند رجل مشيخي وإن كان ينتمي للجناح الليبرالي من الكنيسة. إن الحس الأخلاقي عند هتشسون هو - من بين أشياء أخرى - نسخة لا دينية من خطاب الإنجيل الموجه للشعور الداخلي؛ لكن الاختلافات أوضح من التشابهات؛
27
إذ يؤمن هتشسون في سذاجة غريبة قليلا بأن تعذيب الأطفال للحيوانات ليس عن تعمد للأذى، بل ما هو إلا جهل بألمها وفضولا لرؤية أجسامها تلتوي، فهو ليبرالي من النوع رقيق الفكر الذي قد يثير بشدة غضب صحف الإثارة التي تصدر اليوم، فهو يرجع السبب في شعبية قتال المجالدين في روما القديمة ليس إلى إعجاب الجماهير بالشجاعة والبطولة وحسب، بل إلى فرصة الشعور بالتعاطف التي تتاح لهم. ويقر أستاذه شافتسبري - وهو أكثر واقعية منه بقليل - بوجود أشخاص يشعرون ب «متعة وحشية» برؤية الدم والمصائب والمحن لدى الآخرين؛ لكن حتى شافتسبري لا يمكن أن يتقبل فكرة وجود أي إنسان ينقصه كليا الشعور بالتعاطف مع أبناء جنسه.
في هذا الإقرار الأليم بوجود مثل هذه «المتعة الوحشية» - وهو تعبير يمكن أن نعتبره نسخة شافتسبري الخاصة من ترجمة سلافوي جيجك ل «المتعة» عند لاكان ب «اللذة الفاحشة» - يدق شافتسبري أبواب لحظة حرجة تتعلق بما يمكننا أن نسميه النظام الواقعي؛ أو بالرغبة، كما يكتب، «في التغذي نوعا ما على الموت والتلذذ بسكراته.»
28
إن من حدود أي مذهب أخلاقي خيالي أن مازوخية «ثاناتوس» أو دافع الموت، وكذلك فكرة الحقد الخالي تماما من أي دوافع، يكاد يستحيل تصورها، إلا في تلك النسخة المنمقة لما نعرفه بالتراجيديا؛ فالشخصيات التي تشبه دي ساد وإياجو في هذا العالم غريبة عن دائرة النظام الخيالي. ويحرص شافتسبري على أن يلفت إلى أن مثل هذه المتع المرضية لا مكان لها في مكان يحكمه «التحضر ودماثة الأخلاق»، وأن هؤلاء المنغمسين فيها بائسون لأقصى درجة. ويرى هتشسون هو الآخر أن الطبيعة البشرية نادرا ما تطيق «الكراهية الخبيثة التي لا غرض منها» ولا يمكنه تصور أن أي شخص قادر على التلذذ ببؤس الآخرين من دون أي فائدة تعود عليه. وليس فريدريش نيتشه عاطفيا إلى هذا الحد؛ إذ يكتب في عمله «جينيالوجيا الأخلاق» أن «رؤية المعاناة تشعرك بلذة، أما التسبب فيها، فتشعرك بالمزيد من هذه اللذة ... فحتى في العقاب يوجد شيء شديد البهجة!»
29
تردد إنكار هتشسون للشر الخالي من الدافع مجددا على لسان ديفيد هيوم الذي يرى أن «الشر المجرد الذي بلا سبب والخالي من الهدف لا مكان له - ربما - في صدر أي إنسان.»
30
وتنم كلمة «ربما» عن تردد لافت. ويتبنى نفس الرأي جوزيف باتلر الذي يقول في مواعظه إنه لا أحد يؤذي غيره لمجرد الأذى. لكن كلمات باتلر تحمل تذكيرا جاء في حينه لأتباع هتشسون في هذا العالم بأن انعدام الهدف ليس محمودا دائما؛ إذ يكتب: «إن أقصى انحطاط يمكننا تصوره في خيالنا هو القسوة التي بلا هدف.»
31
لكن باتلر أصاب في إدراكه أن الشر بطريقته الخاصة يخلو من الهدف بقدر ما تخلو منه الفضيلة،
32
فالأشرار حقا أعداء للمنفعة بقدر الملائكة، فليس من المصادفة أن يكون الشيطان في السابق ملاكا. فلم يفكر النازيون في كلفة مجهودهم الحربي في إنشاء معسكرات الاعتقال. لكن أي مذهب أخلاق خيالية يجب أن تلتزم الحذر عند الاقتراب من النظام الواقعي، فهو يحطم أنماط عالم يعكس فيه حزن الإنسان أو بهجته شعور غيره طواعية كما لو كانت مرآة لمرآة، فتحصيل اللذة من ألم الغير نقيض النظام الخيالي الأخلاقي.
إن النظرة الإيجابية للطبيعة البشرية في جانب كبير من فلسفة «الحس الأخلاقي» تعكس تفاؤلا قديما بين الطبقة الوسطى، تحول لاحقا - كما سنرى - إلى نظرة أقل إشراقا بكثير. لكن إن كان على هتشسون أن يجعل الحس الأخلاقي جزءا من تكويننا ذاته؛ فذلك لأسباب من بينها أنها الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للفضيلة أن تصمد أمام ضراوة مجتمع جشع. ويرى هنري فيلدنج - الذي تبنى تقريبا نفس نظرية الفضيلة التي تبناها هتشسون - أن مجال الأخلاق لا يمكن التخلي عنه مقابل شيء هش ومزعزع كالثقافة؛ إذ يشدد هتشسون على أن النفور من الرذيلة والنزوع إلى الفضيلة راسخان في طبيعتنا «بحيث لا يمكن لتعليم أو مبادئ زائفة أو عادات فاسدة أن تنزعهما تماما.»
33
وقد تلقت شخصية توم جونز التي ابتكرها فيلدنج بعناية نفس التربية التي تلقتها شخصية بيلفل البغيضة؛ لإثبات وجهة النظر المعارضة لفكرة الثقافة هذه، رغم أنه في حالة فيلدنج تعد هذه أيضا ضربة من محافظ للتقدميين المثاليين الذين أيدوا التطبع على الطبع.
إن كانت هذه أخلاقا مادية على طريقتها الخاصة، فهذا يرجع إلى أن الاستجابات الأخلاقية - كما رأينا بالفعل - متأصلة في الجسد؛ الجسد الذي سيفرض نفوره واستحسانه الفطري على سلوكنا الاجتماعي، ويمكنه من ثم أن يعمل عمل الحكم المثالي عليه. يعلق بيرك - الذي كان رجلا جماليا بالمعنى الأصلي عند الفينومينولوجيين اهتم بوضع خريطة للحياة الحسية في الجسد - قائلا: «الجسم ... أكثر حكمة (من العقل) بطريقته الخاصة البسيطة.»
34
فقبل أن نبدأ التفكير المنطقي، توجد بالفعل ملكة فينا تجعلنا نشعر بمعاناة الآخرين مثلما نشعر بالجرح وتدفعنا للاستمتاع بفرحتهم دون أدنى قدر من الفرح بمصيبة الغير. لكن غرس الحس الأخلاقي في طبيعتنا الجوهرية - بمصطلح ماركس - لا يحميه إلا على حساب تفريغه من مضمونه؛ فإن كانت مشاعر النفور والاستحسان لدينا تلقائية فعلا كما الفعل المنعكس - مثل سحب أصابعنا من اللهب - فهي إذن ليست قضية مميزات شخصية. من المؤكد أنها استجابات لأفعال الآخرين الإرادية؛ لكن هناك محمل ما تجعل فيه فلسفة «الحس الأخلاقي» مشاعرنا أقل جدارة بالثناء في نفس الوقت الذي تجعلها أكثر طبيعية؛ إذ يبدو من خلالها أننا لم يعد بإمكاننا الامتناع عن التعاطف مع المكروبين كما لا يمكننا عدم ملاحظة الأشياء الضخمة التي تكون في نطاق نظرنا.
تجعل هذه الفلسفة إبداء التعاطف مع الآخر أكثر استحسانا وإقناعا عما هو الحال إذا تضمن الإرادة، لكن إن كان هذا هو الحال، فلماذا يوجد الكثير من الأشرار من حولنا؟ هذا ما يمكننا تسميته مفارقة فيلدنج؛ فالخير طبيعي، لكن هناك نقصا شديدا فيه على نحو غريب في المجتمع. وإن كان الخير غريزة طبيعية، وكذلك يصعب نسبيا مصادفته في الواقع، فسيجد الفاضلون أنفسهم - كما في روايات فيلدنج - أقلية ترزح تحت حصار مستمر من دون أن يتسلحوا بالمكر واليقظة اللازمين لصد هؤلاء الأشرار.
35
وهذا ما يجعلهم مضحكين بقدر ما يجعلهم محل إعجاب. لكنهم يمثلون خطرا كذلك؛ لأنهم من الممكن أن يكونوا سببا في رذيلة الآخرين. وإن تأهبوا لحماية أنفسهم، فسيصبح من الصعب التوفيق بين هذه الشدة وبراءتهم، فكلما اضطررت إلى الدفاع عن طبيعتك الخيرة، قل نصيبك منها؛ لكن جون ميلتون كان ليصر على أن البراءة التي لم تختبر ليست براءة فاضلة على الإطلاق.
يمكن وضع هذه النقطة في سياق أكثر اتصالا بالسياسة؛ فعندما يشعر المنتمون للطبقات الوسطى بالرضا المعقول عن أنفسهم تبدو الفضيلة وافرة كمداد البحر؛ لكن ليس عليهم سوى أن ينظروا حولهم إلى الحضارة الأنانية المخيفة التي أقاموها ليدركوا أن هذا لا يمكن أن يكون هو الواقع الفعلي؛ فمن المنظور الأيديولوجي يجب أن يكون الحب والإحسان جذريين؛ أما من المنظور التجريبي فمن الواضح أنهما أبعد ما يكون عن ذلك. وكذلك القول إن الحس الأخلاقي بديهي واضح في ذاته كالصفعة على الوجه، ويصعب تحديد كنهه كرائحة القهوة، هو طريقة أخرى لتأكيد هذه المفارقة. وباعتبار هتشسون تجريبيا بارعا، فيبدو أنه كان عليه الاتفاق مع آدم سميث على أن الحواس «لم ولن تأخذنا لأبعد من شخصنا ذاته، والخيال وحده هو ما يمكننا من تكوين أي تصور عن المشاعر (الخاصة بالآخر).»
36
إذ إن ما يحول بيننا وبين وعي الآخرين هو أجسادنا؛ لذا فبفضل النظام الخيالي وحده - من خلال المحاكاة أو التكرار في داخلنا لما نظن أن الآخرين يشعرون به - يمكن تعزيز التعاطف الإنساني. ولا يختلف الحس الأخلاقي عند هتشسون عن الخيال عند سميث؛ إلا أن هتشسون بدعوته لإضافة «الحس» الأخلاقي للحواس الخمس المعروفة فهو يظل داخل حدود المذهب التجريبي بينما يقلبه على عقبيه، فالحديث عن حس أخلاقي يضيف للحواس الخمس في المذهب التجريبي صورة شبحية منها، وهو ما قد يضفي بدوره على المفاهيم الأخلاقية قطعية اللمس أو التذوق التي لا جدال فيها؛ فيؤدي الحديث عن الحواس لإنقاذ القيم الأخلاقية. كذلك - ونظرا لعدم إمكانية الاعتماد على الحواس - يجب أن نلجأ لهذا النوع من البديهة الحسية؛ ففي عالم تجريبي، يمكن دائما للغة والإدراك والعقلانية أن تنحرف عن مسارها، كما تبين رواية «تريسترام شاندي» بشكل كوميدي، وتأتي الاستعانة بالحس الأخلاقي للتعويض جزئيا عن هذا القصور. وبمجرد أن تتعرض النفس البشرية لخطر الوقوع الذاتوي في أسر أحاسيسها الخاصة، سيكتشف هتشسون في هذه الحواس بالتحديد مفتاح التآلف الاجتماعي؛ ليجد في ملكة خاصة الطريق الذي يفتح الباب أمامنا إلى عالم الآخرين.
إلا أن فكرة العاطفيين المنقوصة عن الجسد وحدها هي ما يجعلهم في حاجة لإمداده بهذا الملحقات الخيالية. لقد عرف القرن الثامن عشر طريقة لتجاوز حدود الحواس - بل تمزيقها إربا إربا - هي السمو؛ لكنها لم تكن جيدة في هذا التجاوز لحدود الجسد هذه، الذي هو الجسد ذاته؛ إذ لم تكن تنظر إلى الجسد باعتباره مشروعا للتسامي الذاتي، بل اعتبرته شيئا كالأرائك والمكاتب لا يختلف عنها إلا في حمله لجوهر متحرك اسمه الروح. لكن صمت الجسم البشري ليس كصمت المكتب؛ فحتى عندما لا تفعل أي شيء سوى النظر إلي، فإنك لست حاضرا أمامي كما إبريق الشاي مثلا؛ إذ يعجز التجريبيون عن استيعاب أن الحديث عن الروح ما هو إلا أسلوب تجسيدي في محاولة تعريف ما يميز الأجساد المتحركة الذاتية التنظيم كالدبابير أو كبار موظفي الخدمة المدنية مقارنة بقطع الأثاث. وقد تكون تبعات هذا من بين الأسباب التي تجعلنا عندما نسمع كلمة «جسد» نفكر في الجثة. فالحواس عند لوك وهيوم مستقبلات سلبية وليست وسائل للتواجد والتفاعل مع العالم. والجسد عند سميث وأمثاله شيء مادي في المقام الأول وليس صورة من صور من الممارسة ومركز ينتظم حوله عالم كامل. فهم لا يرون أنه شيء «خارج» أنفسنا لا يمكننا أبدا أن نفهمه، بل شيء نتجسد في نشاطه التعبيري كما يتجسد المعنى في لفظ.
وفي ضوء هذه النظرة للجسد، لا يمكن للذوات الأخرى أن تمنح وجودها الواقعي إلا بما يناظر الذات. وهذه تقريبا هي النقطة التي طرحها إدموند هوسرل الذي يرى أن الذوات الأخرى بالأساس مخفية عن ذاتي لكنها تجسد في سلوكها ما يمكنني أن أعتبره جزءا من تجربتي الذاتية الداخلية، فالآخر ليس حاضرا أمامي بصورة كاملة أبدا، بل يعرف باعتباره انعكاسا لذاتي. ويرى هوسرل في كتابه «تأملات ديكارتية» كل «أنا» من منظور خيالي باعتبارها كائنا أحاديا يعكس ويحتوي كل الذوات الأخرى مع ما يتأتى من ذلك من إمكانية التناغم والتعاطف والمشاركة والمبادلة فيما بينها. فكما يشبه موريس ميرلو-بونتي الوضع: «أرى استخداما محددا من الناس للأدوات المحيطة بي، (و) أفسر سلوكهم بالتناظر مع سلوكي أنا ومن خلال تجربتي الذاتية، التي تعلمني مدلول الإشارات المدركة ومقصدها.»
37
إذ أدرك - عند هذا الحد - الذوات الأخرى في ضوء نموذج «الأنا»، أي في ضوء عين ما يميزني عنها؛ وبهذا لا يمكنني أبدا أن أحرر ذاتي منها. ويقول ميرلو-بونتي عن هذه النظرية: «إن جسد الآخر - كجسدي - ليس مسكونا وإنما هو شيء موجود أمام الوعي الذي يفكر فيه أو يكونه ... فهناك نوعان من الوجود، وهما اثنان فقط: الوجود في ذاته أو اللاواعي وهو وجود الأشياء المتراصة في المكان، والوجود لذاته أو الواعي وهو الوجود الإنساني الواعي بذاته.»
38
إلا أن الجسد على وجه التحديد - تلك الظاهرة مزدوجة الطبيعة التي ليست مجرد شيء له «وجود لا واع» ولا «وجود واع» على نحو واضح - هو نفسه ما يهدم هذه القطبية السارترية، فجسد الآخر حاضر أمامي بما يسبق الفكر باعتباره شيئا له «وجود لا واع» أو شيئا في نطاق رؤيتي يعبر في جوهره عن شيء له «وجود واع»؛ أي كيان ذي إرادة يحدث حركة تجاه العالم بدلا من أن يظل جمادا كامنا داخل حدوده. فأنا أدرك إرادتك من حركات جسدك وليس من خلال عملية غير مرئية تتخفى وراءها. بنفس القدر، فإن جسدي «يجعلني كالآخر من دون اغتراب» كما يقول إيمانويل ليفيناس؛
39
إذ توجد - كما يرى ميرلو-بونتي - «رابطة داخلية» بين جسدي وجسدك تماما كما توجد بين جسدي و«وعيي». أو رابطة، كما قد نضيف، بين سلسلة من الأصوات ومجموعة من المعاني. ذلك لأن جسدي لا يمكن أبدا أن يكون وجوده عندي كساعة يدي، وكذلك جسدك. فخلال رؤية الأشياء من منظوري الفريد، فمما أدركه هو أن نفس الأشياء حاضرة أمام جسدك من منظور مختلف؛ أي أن كيانينا متداخلان، وأن تلك المساحة المشتركة تشكل المجال المشترك الذي يمكن فيه تأسيس ما يمكننا تسميته بالموضوعية، فعجزي عن «تحويل جسدك إلى شيء» بصورة كاملة، وهو هذا الكيان المزدوج الطبيعة، مرتبط بفكرة أن جسدك أصل عالم يتداخل مع عالمي .
تتخذ هذه الأرضية المشتركة صورة اللغة؛ فالحديث المفرط عن «الذوات الأخرى» افترض أن هذه الكيانات لا تتحدث ولا تنصت. وفي عملية الخطاب كما يقول ميرلو-بونتي «تنشأ بيني وبين الآخر أرضية مشتركة؛ حيث يتداخل فكري وفكره في نسيج واحد ... ويدخلان معا في عملية مشتركة لم يبدأها أي منا، فوجودنا هنا ثنائي، حيث لا يكون الآخر بالنسبة لي مجرد سلوك ما في فضائي السامي ولا العكس؛ فكلانا شريكان في حلقة تبادلية تامة.»
40
وتمس العبارة الأخيرة ما نسميه على نحو فضفاض بالنظام الخيالي. ويتابع ميرلو-بونتي ليصل إلى الحديث عن العملية الشبه السحرية التي يتوقع فيها كل طرف في هذا الحوار أفكار الآخر، أو «يعير» نفسه للآخر؛ إذ يكتب: «إن إدراك الآخرين والعالم البين-ذاتي لا يمثل مشكلة إلا للبالغين، فالطفل يعيش في عالم يؤمن دون أدنى تردد بأنه مفتوح على كل ما حوله.»
41
فالطفل الصغير كما يقول ميرلو-بونتي لا يعرف أي واقع ينقسم بين وجهات نظر، ولا يملك وعيا بأن الذات يجب أن تتقيد بواحدة منها. فالطفل - كما في النظام الخيالي - قد يشغل كل المواقع في الوقت ذاته، متحررا من كل قيود النظام الرمزي. وكما لا يميز الطفل في نموذج لاكان بين ما هو داخلي وما هو خارجي، إلى حد أن تكتسب المشاعر وجودا ملموسا شبه مادي، فكذلك النظرات الإنسانية للطفل الصغير عند ميرلو-بونتي «لها وجود يكاد يكون ماديا، لدرجة أن الطفل يتساءل كيف لا تنكسر هذه النظرات عندما تلتقي ببعضها.»
42
يقترب هتشسون من المعنى الفينومينولوجي للجسد أكثر من آدم سميث؛ إذ تستحوذ عليه فكرة الوجه البشري المتكلم أو ذي الدلالة الذي نستجيب له دونما تفكير، من دون الحاجة إلى «الاستنتاج» أو «الاستدلال على» نوع العاطفة التي تحركه. إن هذه السمة التعبيرية المتأصلة في الجسد - أي أن جسم الإنسان نفسه ذو دلالة - هي ما يبشر بحل لثنائية سميث اليائسة نسبيا، فإن افترض سميث أننا لا يمكننا الوصول إلى الآخرين إلا من خلال ملكة خاصة، فهذا لأنه يتصور أن الحالة الذهنية للآخرين لا يمكن إدراكها في الوضع الطبيعي، حيث تستتر وراء أجسادهم، فشعوري بالغضب مثلا يكمن في أعماقي، أما اللمحات التي يمكنك أن تراها منه فعلا - كإضرامي النار في شعري مثلا تعبيرا عن الغضب الممزوج بالإحباط - ما هي إلا العلامات الظاهرية على حالة داخلية خاصة، فما تراه ليس الواقع. وكذلك كلماتي ما هي إلا إشارات ظاهرية تدل على معان على نفس القدر من خصوصية عواطفي؛ وذلك لأنها صور في ذهني؛ لذا فمن الصعب - بل ربما من المستحيل - معرفة ما إذا كنا نشعر أو نقصد بحق الشيء نفسه، وهي حالة مزمنة من تقاطع الأغراض التي تستخرج منها رواية «تريسترام شاندي» جوهرها الكوميدي الغني. ويقر آدم سميث في عمله «نظرية العواطف الأخلاقية» أنه يستحيل علينا أن نعرف على وجه التحديد ما يشعر به شخص آخر، كما لو كنا بالضرورة سنتعاطف معهم على نحو أكبر إن استطعنا ذلك، فإن تعذر علينا إدراك ما بالآخرين، فمن الصعب إذن إيجاد أساس واع للتناغم الاجتماعي؛ لذا يصبح الميل قويا لتحديد ملكة ما صعبة المنال - كالتقمص العاطفي والحدس والخيال والحس الأخلاقي - تحل محله.
وغني عن القول إن حاجاتنا لتخيل ما يشعر به الآخرون لا تحظى بقبول أكثر من فكرة أن علينا تخيل ما يقصدونه. من المؤكد أن إلين سكاري أخطأت في زعمها أن الخيال ضروري للتعاطف الإنساني؛
43
فالتفهم لا يتعلق بإسقاط أنفسنا من منظور متعاطف في الأغوار الروحية للآخرين، التي يفترض أن محتوياتها تتمتع بالخصوصية في جوهرها؛ فالآخرون يمكنهم بالتأكيد إخفاء مشاعرهم عنا أو تحريف معانيهم عن عمد؛ لكن ذلك يتطلب منهم آليات أكثر تعقيدا بعض الشيء، وهذه الآليات تكتسب دائما في المجال العام؛ فنحن ندرك أنفسنا بنفس الطريقة التي ندرك بها الآخرين؛ فالاستبطان المطلق لا طائل منه هنا؛ إذ لا يمكن بالاستبطان وحده أن أدرك ما إذا كنت أشعر بالحقد أو الخوف مثلا.
يكتب ميرلو-بونتي: «إن إمكانية أن يكون شخص آخر واضحا بذاته تتوقف على أنني لست واضحا أمام نفسي وأن ذاتي تلقي جسدها وراء ظهرها عند استيقاظها ... فالشخص الآخر ليس كائنا شخصيا أبدا، هذا إن كنت أنا كذلك، وإن كنت أرى نفسي بينة واضحة بذاتها.»
44
وسيبدو الآخرون مبهمين حتما إن كنا مضللين بالقدر الكافي لنعتقد أننا واضحون تماما لأنفسنا. •••
لم يشارك ديفيد هيوم فرانسيس هتشسون ثقته في كرم القلب الإنساني الفطري؛ فقد كان على أية حال محافظا متشككا وليس ليبراليا جمهوريا يعتقد أن حب الذات هو القوة الأساسية المحركة للشئون الإنسانية، فإن كانت العدالة ضرورية بأي شكل - حسبما رأى - فهي ما يوازن سعينا الجامح نحو المكاسب والمصلحة الشخصية. إلا أنه تبنى أيضا فكرة أنه رغم أن معظم الناس يحبون أنفسهم أكثر من حبهم للآخرين، فإن عواطفهم الإنسانية في مجملها تغلب أنانيتهم. إن هيوم في مزجه بين الدماثة واللطف من ناحية والدهاء العملي من ناحية أخرى معتدل بكل معاني الكلمة، فهو ليس متشائما كهوبز ولا هو متفائلا كشافتسبري؛ إذ يكتب في مرحلة لم تزل فيها الطبقة الوسطى - التي كانت قد ظهرت حديثا فيما قبل التصنيع - منبهرة ببريق الأرستقراطية بما يكفي لتبحث عن موائمة بين التجارة والتحضر، وهي موائمة سيزداد تحققها صعوبة في العصور الصناعية الرأسمالية اللاحقة.
يكتب هيوم في عمله «رسالة في الطبيعة الإنسانية»: «إن العادة والعلاقات تجعلنا نغوص بعمق في عواطف الآخرين، وأيا يكن ما نفترض أنه أصابهم فهو يتجسد أمامنا عن طريق الخيال، ويحدث أثره كما لو كان أصابنا في الأصل.»
45 (إن الإشارات اللاحقة لأرقام الصفحات من عمل هيوم هذا ستوضع بين قوسين بعد الاقتباسات المعروضة منه.) من الصعب تحديد ما إذا كان هذا إيثارا أم أثرة، على الأقل في حالة المشاعر الأكثر قبولا. لكن في العموم فإن هيوم مؤمن شجاع بأن الخير واقع، حيث يزعم على طريقة هتشسون أن هذه «الرغبة التي تقترن بالحب هي رغبة في سعادة المحبوب وتجنبه للشقاء» (430)؛ إذ يقر بوجود مجال رحب لمشاعر التعاطف الإنساني، وهو ما يضعه - مثلما فعل هتشسون - فيما قد نسميه عامة بالقالب الخيالي. صحيح أن سرور شخص آخر يسبب لنا الألم عندما نقارنه بما نمر به من بؤس، تماما مثلما يؤدي شقاء شخص آخر إلى شعورنا بالسعادة عن طريق استحضار حالنا الجيدة. لكن في كلتا الحالتين تختلط الأنانية بالتعاطف الصادق، فإن وجد شيء من التنافس في النظام الخيالي هنا، فيوجد كذلك شيء من التقمص العاطفي. وكما أن التنافس والمحاكاة لا ينفصمان في النظام الخيالي، فكذلك حالهما في فكر هيوم الأخلاقي: فنحن نسر بسرور الآخرين؛ لكننا في الوقت ذاته نشعر ببعض التنافسية غير المريحة.
يشير هيوم في رسالته في الطبيعة البشرية إلى أن أكثر الأشياء امتلاء بالحياة هو «كائن عقلاني ومفكر مثلنا ينقل إلينا كل ما يدور بعقله، ويطلعنا على أعمق مشاعره وعواطفه، ويسمح لنا بأن نرى كل العواطف التي تنتج عن أي شيء في نفس لحظة نشوئها» (402). والمهم في هذا الاتحاد الروحي هو الآنية التي يتحول بها الداخلي إلى الخارجي؛ الطريقة التي لا تظل بها مشاعر شخص آخر مدفونة داخل جسده بل تظهر بوضوح على واجهته الخارجية. ويكتب هيوم: «ما يرتبط بنا أيا يكن يتم إدراكه بصورة مفعمة بالحياة من خلال التحول اليسير من أنفسنا إلى الشيء ذي الصلة» (402). ويتم هذا التحول بالمشابهة والمطابقة: «فأصحاب الأمزجة المرحة يحبون بطبعهم ما هو مرح؛ مثلما يميل الجادون إلى ما هو جاد ... فالناس يستحسنون - دون تفكير - الصفة التي هي أقرب إلى صفتهم» (403، 654). أو كما قد يصيغها فرويد على نحو أقل قبولا، تميل اختياراتنا من بين الأشياء لأن تكون نرجسية، فمجتمع الرجل، كما النظام الخيالي، هو عالم من العدوى والتشابهات السحرية، فهو عالم مجرد من الاختلافات بدرجة كبيرة. فإن كانت خفة الروح واللين يدخلان ضمن القيم الاجتماعية التي يستحق اكتسابها، فمن الأسهل ممارستها مع النفوس المتشابهة والأصدقاء المقربين من ممارستها مع الغرباء، الذين قد يتطلب الاستئناس بهم بعض الجهد، فصحبة الغرباء - كما يرى هيوم - غير مستحسنة لنا إلا لفترات زمنية قصيرة.
يكتب هيوم: «من أجل بناء علاقة مثالية بين شيئين، لا يلزم فقط أن ينقل الخيال من شخص لآخر عن طريق التشابه أو العدوى أو السببية، بل أيضا أن يعود من الثاني إلى الأول بنفس السلاسة والسهولة» (405). فنحن ما زلنا في دائرة النظام الخيالي حيث توجد دائرة مغلقة - كالتي بين الطفل وانعكاسه - أو حركة سير مزدوجة بين الشيئين المعنيين. ويضيف هيوم: «إن الحركة المزدوجة هي رابطة مزدوجة نوعا ما، وتربط شيئين ببعضهما بأقرب الروابط وأكثرها حميمية» (405). ففي نطاق ما يمكن تسميته بالنظام الخيالي الاجتماعي، أجد نفسي منعكسا فيمن أمامي في ذات الوقت الذي أجده منعكسا في نفسي، وقد تزيد هذه الرابطة المشتركة عمقا إلى حد ألا يمكن التفريق بين الذاتين في نهاية الأمر، وأن ما ينعكس ما هو إلا فعل التطابق الثنائي في حد ذاته. إن هذا الافتتان - عند هيوم كما عند لاكان - بالثنائيات والتشابهات والمقارنات يظل عنصرا في كل تجاربنا الأكثر نضجا؛ إذ يرى هيوم أننا لا نخضع للعقل كثيرا، لدرجة أننا «دائما ما نحكم على الكثير من الأشياء بالمقارنة وليس بقيمتها الجوهرية» (420).
إلا أن هذا المنظومة المتناغمة تضطرب بمجرد دخول عنصر ثالث إلى المشهد، فكما يتابع هيوم: «لأنه بافتراض ارتباط الشيء الثاني - بجانب علاقته التبادلية مع الشيء الأول - بعلاقة قوية مع شيء ثالث، فإن الفكرة في هذه الحالة إذ تنتقل من الشيء الأول إلى الثاني لا تعود إلى منشئها بنفس السهولة رغم أن العلاقة تظل كما هي؛ ولكنها تنقل بسهولة إلى الشيء الثالث ... لذا فإن هذه العلاقة الجديدة تضعف الرابطة بين الشيئين الأول والثاني» (405). ليس من الصعب تفسير مقصد هيوم في سياق أوديبي؛ حيث إن «الصلة» الثنائية أو الخيالية بين الأم وطفلها تتخذ شكلا ثلاثيا بدخول الأب إلى المشهد، فما يصوره هيوم هنا - باختصار - هو الانتقال من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي، فوجود ثلاث ذوات أكثر كثيرا من وجود ذاتين.
ولئلا يظن أن هذه قراءة خاطئة مبالغ فيها لفقرة تتناول فعلا ترابط الأفكار، تجدر الإشارة إلى أن عمل «رسالة في الطبيعة الإنسانية» يتناول بعدها مباشرة الأمهات والآباء والأبناء:
إن الزواج الثاني للأم لا يكسر الرابطة بين الابن وأمه، وهذه الرابطة تكفي لنقل خيالي إليها بمنتهى السهولة واليسر. لكن بعد أن يصل الخيال إلى هذه المحطة، فإنه يجد أن هدفه محاط بكثير من الروابط الأخرى، وهو ما يتحدى وضعه؛ حيث إن الخيال لا يعرف أيها يفضل، وتتفرق به السبل محاولا إيجاد شيء آخر يرتبط به، فروابط المصلحة والواجب تربط الأم بعائلة أخرى وتمنع ارتداد الخيال منها إلي، وهو الشيء الضروري لتعزيز الاتحاد بيننا. ولم تعد الفكرة تمتلك القوة المحركة الضرورية لتستقر ويتعزز ميلها للتغيير، فهي تذهب بسلاسة؛ لكنها تعود في صعوبة، وتجد مع هذه الإعاقة أن الرابطة ضعفت كثيرا عنها إن ظل الطريق مفتوحا سلسا في الاتجاهين. (405)
يدخل هيوم - الذي وضع نفسه في موضع الابن - في رابطة غير مستقرة مع الأم نتيجة علاقتها بالأب (الثاني)؛ فالرابطة بين الابن والأم أصبحت غير متماثلة، ولم تعد متينة سوى من جانب واحد فقط؛ وذلك لأن الأم ينظر إليها باعتبارها محصورة في النظام الرمزي، منتمية من خلال زوجها الثاني لنسب بعيد تماما عن الابن نفسه. إن الهدف من مثال الزوج الثاني هو بيان الطريقة التي تظلم فيها الروابط الأسرية بكل انغلاقها «الخيالي» وتتحول إلى انتماءات إلى غرباء أو من ليسوا أقارب الدم، وهي انتماءات تتفاعل بدورها مع الرابطة الأولى بين الأم والابن وتؤدي إلى فكر الارتباط حتما. إن هذا هو ما يدفع الابن على ما يبدو لتحسس طريقه والتردد (إذ «تتفرق به السبل محاولا إيجاد شيء آخر يرتبط به») فيما قد يعتبر نوعا من العقدة الأوديبية. ويبدو الزعم بأن تتبع تسلسل ترابط الأفكار من الأم للابن أكثر صعوبة في هذه الحالة من العكس طريقة مموهة للشكوى من أنها لم تعد تحبه كما يحبها، فتغير مجال الحديث من الأوديبية إلى الإبستمولوجيا.
يرى ألتوسير أن دائرة الأيديولوجيا الخيالية لا يمكن اعتبارها عقلانيا صحيحة أو خطأ، فهي مجال لا ينطبق عليه مثل هذه الأحكام؛ حيث إن الأيديولوجيا لا تتعلق في الأساس بالقضايا الصحيحة والخاطئة،
46
فالطريقة التي «يعيش» بها الإنسان شعوره بالحقد والتمرد والخضوع وغير ذلك لا تتعلق بالدقة الإدراكية، فهناك فجوة عند ألتوسير بين النظرية (نطاق الحقيقة) والأيديولوجيا (نطاق التجربة)، والقلة المحظوظة المطلعة على المعرفة العلمية في المجتمع - بما أنهم لا يزالون مواطنين عاديين في الوقت ذاته - يعيشون في عالمين منقسمين ومختلفين، هما النظام الرمزي والنظام الخيالي. وبنفس الشكل يوجد عند هيوم فاصل إبستمولوجي أو «تعارض كامل» بين العقل والعاطفة؛ فالعواطف «لا يمكن أبدا أن تخضع للعقل» و«من المستحيل أن يقال إنها صحيحة أو خاطئة» (510). ولا معنى عند هيوم لوصف العواطف بالعقلانية أو اللاعقلانية، بعكس توما الأكويني أو سبينوزا؛ إذ لا معنى من أن نسأل ما إذا كان لنا أن نشعر بما نشعر به؛ فالعاطفة عند هيوم «وجودها أولي»، كما عند نيتشه. (فيفترض نيتشه في كتابه «ما وراء الخير والشر» أنه «لا شيء «مسلم» بأنه حقيقي غير عالم العواطف والدوافع الخاصة بنا ...») فالعواطف، كما يرى هيوم، لا تتجاوز العقل فحسب بل تأبى أيضا أن تتقيد بفرد واحد. ويعلق هيوم: «إن العواطف شديدة العدوى لدرجة أنها تسري بكل سهولة من شخص لآخر، وتسبب حركات متماثلة داخل الناس جميعا» (655). إذ يوجد شيء سحري في هذه العدوى العاطفية، كما لو كان شعورك بالخوف أو الغيرة سيصيب أحشائي أنا بالعدوى، ويسري كنوع من الفيروس العاطفي من جسدك إلى جسدي، والطفل الصغير يسهل عليه الخيال بنفس القدر.
إن التعاطف عند هيوم لا يقتصر على كونه المصدر الرئيسي للفضيلة، بل هو مبدأ من نوع ما يحرك بصورة مغناطيسية كيان الحيوان بكامله، وهو قوة شبه مادية أو وسط متقلب ل «نقل العواطف بسهولة من كائن مفكر إلى آخر» (412). فهو لوحة التحكم الكبرى في نفوس البشر، وهو يكمن في قلب كل عاطفة يمكن أن نشعر بها، وهو أيضا ما يجعل للحياة قيمة: «فلتجتمع كل قوى الطبيعة وعناصرها على خدمة إنسان واحد وطاعته؛ لتشرق الشمس ولتغرب بأمره، لتمج البحار وتجر الأنهار بمشيئته، ولتنبسط الأرض تلقائيا بما قد يفيده أو يسره. إن هذا الإنسان سيظل بائسا، إلى أن تعطيه إنسانا آخر ليشاركه سعادته ويستمتع بتقديره وصحبته» (412). وفي هذا الاستغراق الخيالي، يسخر العالم لنا تلقائيا، فيصبح بأعجوبة رهن أمرنا كما تتبع صورة المرآة حركات الطفل، إلا أن هذه الذات الأخرى هي التي يجب أن يتم معها هذا الاتحاد في النهاية.
يعلق هيوم: «إن عقول الناس مرايا لبعضها بعضا» (414). وفي حركة جدلية، يضيف: «يبعث السرور الذي يحصله الغني من ممتلكاته بانتقاله إلى الرائي على الشعور بسرور وتقدير، وهي مشاعر تؤدي بدورها في ظل إدراكها والتعاطف معها إلى زيادة سرور المالك، ويصير الأخير - إذ ينعكس مرة أخرى - أساسا جديدا للسرور والتقدير في نفس الرائي.» فالنظام الخيالي، بانعكاسه من مرآة على مرآة أخرى، هو مجتمع يقوم على الإعجاب المتبادل الذي يولد فيه كل انعكاس - في نوع من التغوير - انعكاسا آخر الذي يولد بدوره ثالثا وهكذا. وتمثل حلقة العواطف الدائرة هذه الزمن الدائري للنظام الخيالي بدلا من التطور الخطي للنظام الرمزي. إنه نوع من التبادلية العميقة التي نجدها في البعد الخيالي لعلاقة ووردزوورث بالطبيعة؛ حيث - وفي استجابة قد تكون لا متناهية - يتعاظم حب الشاعر للأشياء الطبيعية من حوله نتيجة الأحاسيس التي أودعها إياها في الماضي، وهذه الأحاسيس بدورها تحولت من خلال المنظور البعيد للحاضر.
يكتب هيوم: «إن الأفكار لا تقبل أبدا الاتحاد الكلي؛ لكنها تكتسب نوعا من الحصانة التي في ضوئها يقصي بعضها بعضا ... في المقابل، تسمح الانطباعات والعواطف بالاتحاد الشامل، وقد تمتزج تماما كما الألوان، لدرجة أن كلا منها قد يفقد كنهه، ولا يتعدى دورها سوى التنويع في ذلك الانطباع الموحد، الذي ينتج من المزيج الكلي» (414-415). ويضيف إن «بعض أغرب ظواهر العقل البشري» تنبع من هذه الحالة؛ ففي النظام الخيالي السابق على التفكير، لا تحظى «الأفكار» بنفس أهمية الأحاسيس الملموسة المباشرة؛ لدرجة أنه من الممكن وجود التحام مشترك للعناصر لا يعهده النظام الرمزي الذي يشمل التفكير أو اللغة، والذي يقوم على التأمل والتمييز والفصل؛ فحتى السببية عند هيوم توجد شكلا من أشكال النظام الخيالي، يغرينا فيها الخيال بإرساء تداخل أو رابطة داخلية بين السبب والنتيجة، وهي روابط يعرف العقل نفسه أنها بلا أساس. وينطبق هذا بدرجة كبيرة على الملكية الخاصة، وهي عين المركز الذي يدور في فلكه النظام الرمزي، فهنا أيضا تقنعنا العادة والخيال بإدراك وجود رابطة واجبة بين الشيء المملوك والمالك التي ليس لها - هي الأخرى - أي أساس عقلاني. لكن كما هو الحال عند سبينوزا وألتوسير، يوجد فاصل إبستمولوجي بين «العيش» في العالم وحقيقته كما تعرفها الفلسفة؛ لذا يدرك هيوم أنه من منظور العقل، فإن الكثير من افتراضاتنا المنطقية ببساطة بلا أساس. وهي حقيقة يرى أنها مقلقة بشدة؛ بالنظر إلى إيمان أقرانه بأن الفلسفة ينبغي أن تتسق مع النظم الشائعة بدلا من أن تهدمها، فالاستقصاء الأخلاقي ينبغي أن يكون مسعى ذوي العقول المتحضرة، لا العرافين كثيفي الشعر الذين يعوون في البرية.
لقد رأينا كيف أن النظام الخيالي عند لاكان لا ينتهي بانتهاء طفولتنا. ويرى هيوم أنه يستمر في حياة الراشدين بمعنى أنه «لا يوجد شيء في نظر الحواس، ولا صورة في الخيال، إلا ويصاحبه عاطفة ما أو حركة روحية ما تتناسب معه» (421). فالحال في عالم النظام الخيالي السابق على التفكير كما لو أننا ندرك الأشياء بصورة مباشرة من خلال أحاسيسنا، كما لو صار جسدنا ومشاعرنا وسيلة اتصال دقيقة، دون التدخل المتخبط للغة أو التفكير. ويزعم هيوم أنه من دون تلك العواطف والانطباعات «فكل شيء في الطبيعة محايد تماما في نظرنا» (547-548). وهو حياد يشكل، كما سنرى لاحقا، أحد جوانب النظام الرمزي، إلا أن العادة تجعلنا ننسى أن فكرنا يصطبغ بالعواطف ويسير على وقع المشاعر، مثلما يتناسى العقل عند هايدجر الحالة النفسية التي تتخلله دائما. ويتبدد أثر النظام الخيالي هذا من الصورة عندما تطفو العقلانية على السطح، فتجرد فكرنا ليصير ملكة محايدة ظاهرا. لكن هذه العواطف والأحاسيس عند هيوم تبقى مع ذلك باعتبارها تيارا فينومينولوجيا يجري من تحت كل أفكارنا العاطفية.
ليس من الصعب تصور الطفل أمام المرآة المنخدع في صورته باعتبارها شيئا ينتمي لعالم مستقل عن نفسه، غير مدرك أنه ليس إلا إسقاطا لجسده هو. ذلك، كما يرى هيوم، هو النهج الذي يتبناه أكثر الناس غير المفكرين تجاه قضية الأخلاق؛ إذ يؤمنون بأن القيم الأخلاقية جزء من محتويات العالم المادي، فهم لا يدركون أن تلك القيم في حقيقتها خيالية، بمعنى أنها من صنع الذات؛ فالخير والشر الأخلاقيان «ينتميان فقط لعمل العقل» (516)؛ فهما يرتبطان - كالطفل وصورته - بالعلاقة بين الذات والشيء، وليس (حسبما يظن الواقعيون أو العقلانيون) بالعلاقة بين الأشياء في ذاتها. ففي النظام الرمزي وحده تعتبر الأشياء كيانات محددة ترتبط معا في علاقات بينية موضوعية، في ظل إزاحة الذات المكونة «من المركز» أو إبعادها عن المشهد. ويصر هيوم على أن المصطلحات الأخلاقية لا تنطبق على «الأشياء الخارجية إذا كانت في مقابل أشياء خارجية أخرى ... فالأخلاق لا تكمن في أي علاقات تخضع للعلم» (516، 520). فالقتل من منظور هذه الرؤية الانفعالية للأخلاق ليس شرا في ذاته، بل بسبب الشعور بالإنكار الذي يثيره بداخلنا: «فهو شيء شعوري، ولا ينتمي للعقل» والقيمة الأخلاقية «تكمن في نفسك لا في الشيء» (520)؛ «فالأخلاق إذن ينبغي أن تكون إحساسا لا حكما» (522). والحس الأخلاقي عند فرانسيس هتشسون - على فطريته الغريبة - هو على الأقل استجابة للصفات الملازمة للأفعال؛ لكن هيوم يأخذ هذه النقطة إلى مرحلة أبعد؛ إذ يزعم أن «امتلاك حس الفضيلة لا يتعدى «الإحساس» بالرضا من نوع معين نتيجة تأمل شخصية ما» (523)، وهو زعم ما كان هتشسون ليتفق معه. وكما يصوغ شافتسبري المسألة: «إن لم يوجد صلاح أو فساد «حقيقي» في الأفعال الأخلاقية، فهما على الأقل موجودان في «الخيال» بصورة قوية.»
47
يقول هيوم إننا نشعر بالتعاطف الإنساني عند «تأمل شخصية ما» تستحقه؛ لكن بأي درجة من الحرفية يمكننا أن نفسر هذه العبارة؟ إذ هل يجب أن يكون الذين نتعاطف معهم حاضرين ماديا أمام أعيننا؟ إن هذا سؤال أهم مما يبدو؛ حيث إنه يطرح قضية ما إذا كان يمكن للأخلاق الخيالية أن تكون شاملة. لقد رأى فرانسيس هتشسون أن من الطبيعي أن نحب من هم أقرب إلينا بصورة أعمق من البعيدين عنا؛ لكنه كان حريصا - كما رأينا - على تشجيع التقارب مع الثقافات الغريبة عنا، بل كتب على نحو غريب عن مد جسور الخير إلى الكائنات العاقلة على الكواكب الأخرى، إن وجدوا. ويعلق بنبرة لينة كنبرة سفير بالأمم المتحدة: «لن تنفك تمنياتنا الحسنة تصل إليهم، وسنسر لسعادتهم.»
48
قد يكون هتشسون من منظور معين فيلسوفا للنظام خياليا؛ لكن لم تكن نظرته ضيقة الأفق، فعلى عكس مواطنه إدموند بيرك لم يكن رومانسيا متبنيا للمذهب الخصوصي بل تنويريا متبنيا للمذهب العمومي، اهتمامه ينصب على رفاهة البشرية كلها. لقد كان هو في واقع الأمر من ابتكر الشعار النفعي «أكبر سعادة ممكنة لأكبر عدد ممكن.»
49
وبمزج هذه النظرة العمومية بنظرية عاطفية، يمثل فكره نقطة التقاء مثمرة بين الحركتين التنويرية والرومانسية. لقد أقر هتشسون بأن الروابط البعيدة أضعف من الروابط الحميمة؛ فقوة الخير - كما الجاذبية - تتبدد ببعد المسافات «وتبلغ أقصى قوتها عندما تتقارب الأجساد.»
50
ومع ذلك فقد آمن بإمكان وجود «درجات أضعف من الحب» وبأن الخير «يمتد إلى ما وراء الجيران أو المعارف.»
51
يشير هتشسون - في خطوة لم تكن غريبة على ليبرالي أيرلندي في القرن الثامن عشر - إلى حب الوطن باعتباره مثالا لهذه العاطفة الممتدة، فالأمة ليست - بتعبير بينيدكت أندرسون الشهير - مجتمعا تخيليا فقط، بل خياليا كذلك يرى فيه كل مواطن مخلص - كما في فضاء ما مغلق لا يخضع للزمن - نفسه منعكسا في تناغم في نظرة رفاقه المواطنين، بينما يتمتع كل منهم في الوقت ذاته باعتراف ذلك الرمز السامي الموقر؛ الأمة ذاتها. وهذا بصورة كبيرة هو الحلم السياسي لجان جاك روسو؛ أن تشكل الأمة المجال الخيالي الذي يسلم فيه كل مواطن نفسه - بخضوعه للقوانين التي وضعها بحرية مع زملائه من المواطنين - لإرادتهم الجماعية، ليس إلا ليحصل على فرديته من جديد، يعززها ألف مرة تناغمها مع فرديتهم، فكل مواطن يتأمل صورته الخاصة في ظل نفس السلطة التي تنقل إليه صورة المواطنين الآخرين. يتحدث الجمهوري الأيرلندي توماس كيتل عن القومية باعتبارها ارتقاء المشاعر الفردية لمستوى المبدأ السياسي، ويطرح هذا الشكل الجديد باعتباره مؤشرا على إعادة التأهيل العامة تلك للمشاعر.
52
ولا تعرف سردية الأمة - كما الزمن في النظام الخيالي - بداية ولا نهاية. كما أن المبدأ الروحي للأمة - بداية من القرن الثامن عشر وما تلاه - انصهر مع المفهوم السياسي للدولة، ليعلن مولد بنية جديدة تماما من النظامين الخيالي والرمزي؛ إذ لا تعترف الأمة باعتبارها مجتمعا خياليا بأي اختلافات أو فروق داخلية؛ حيث يجد كل عضو نفسه منعكسا في جميع من سواه؛ لكن لكي تظهر بذاتها على الساحة الدولية، فإن كيانها الأفلاطوني يجب أن يتنازل ليتجسد في التاريخ المادي فيطرح نفسه في البنى الرمزية للقانون والأيديولوجيات الأخلاقية والمؤسسات السياسية وما شابه. إن كانت الدولة الأمة ابتكارا ناجحا جدا من صنع الحداثة؛ فذلك لأسباب ليس أقلها أنها تخضع أكثر العواطف «خيالية»، التي يكون الرجال والنساء باسمها مستعدين للتضحية بحياتهم، للنظام الرمزي الموضوعي للقانون والتجارة والعدالة والمواطنة.
مع ذلك فإن النظام الأخلاقي المبني على الأرضية المشتركة بين الذوات والانتقال السريع لعدوى المشاعر يعاني بوضوح من مشكلة مع تناقص العلاقات المباشرة؛ إذ يعلق هتشسون بأن الطبيعة فرضت علينا أن نحب الأقرب إلينا، وهذا في نظره نوع من التدبير الإلهي العاطفي، فهو يمنعنا من تبديد عواطفنا على جموع بعيدة لا نعرف مصالحها الحقيقية حتما والتي هي أبعد عنا من أن نساعدها. لكن يظل هناك «فرض عام للإحسان على البشرية، حتى تجاه الأجزاء الأبعد منها.»
53
كما أنه من الممكن، كما يرى، صياغة قواعد ومبادئ قد تساعد على الخير العام، وهي مهمة كانت جزءا من تراثه الذي تركه لأتباع بنثام؛ فالذين يبنون الأخلاق بنسبة كبيرة على المشاعر من أمثال هتشسون كانوا يحذرون من التحول الزائد إلى النظام الرمزي الذي تشكل فيه الأخلاق مسألة قوانين عامة والتزامات محضة؛ إذ إن مجرد ذكر تلك الواجبات المجردة إساءة لدوافع القلب العفوية. لكن إن أردنا التعميم بحق، فمن الصعب تصور كيف يمكن تجنب الحديث عن مثل هذه القواعد؛ وبذلك نتعدى على نطاق الفلسفة الكانطية أو البنثامية، فلا تكفي المشاعر لتشكيل مجتمع عام مكون من أفراد ملتزمين أخلاقيا. وما بين شافتسبري وبنثام، يريد هتشسون التمسك بفكرة الطبيعة الخيرة الفطرية مع الإقرار في الوقت ذاته بأن الأخلاق العامة التي يوصي بها يجب أن تحكمها القواعد.
أما ديفيد هيوم فهو أقل اقتناعا بكثير من هتشسون بحقيقة الخير العام. صحيح أنه تحدث في عمله «بحث في مبادئ الأخلاق» عن «حس أو شعور داخلي (بالخير والشر) عممته الطبيعة في النوع البشري كله.» وتحدث عن الخير باعتباره وسيلة لتحقيق مصالح الإنسانية ككل.
54
لكن إن كانت مؤسسات العدالة لازمة؛ فهذا لأن الناس ليسوا «متشربين بالصداقة والكرم؛ بحيث يحنو كل إنسان على سائر الناس ولا يهتم بمصالحه أكثر مما يهتم بمصالح أقرانه.»
55
تبدو رؤية هيوم للعدالة شبيهة جدا برؤية ماركس؛ فهي فضيلة واجبة في حالات الوفرة المحدودة التي علينا فيها أن نختلف حول ما يملكه كل فرد؛ لكنها لا تنطبق على حالات العوز الشديدة؛ حيث يمد الرجال والنساء أيديهم لما يطالون. ويرى ماركس أن العدالة لا تنطبق كذلك على مجتمع ينعم بالوفرة المادية المفرطة التي لا داعي فيها للعدالة بسبب عدم الحاجة لتوزيع محكوم للسلع. وغني عن القول أن هيوم يظل عن وعي غير خاضع لإغراء هذه المثالية.
في عمله «رسالة في الطبيعة الإنسانية»، يستبعد هيوم بالتحديد فكرة الحب العام؛ إذ يكتب على طريقة سويفت: «عامة قد يتأكد انعدام وجود عاطفة في أذهان البشر كحب البشرية، هكذا بذاتها دون سمات شخصية أو خدمات تحصل عليها أو علاقات ترتبط بأفرادها» (231). إن حدود الكرم الإنساني - ما يسميه «الخير المقيد» - هو ما يسعى هيوم لإلقاء الضوء عليه هنا، فهذه العاطفة في رأيه نادرا ما تمتد إلى ما وراء أسرة الفرد وأصدقائه، «فنحن نحب أبناء بلدنا وجيراننا والمشتغلين بنفس المهنة أو الحرفة وحتى من يشاركوننا الاسم» (401)، ولا يسعنا إلا أن نفضل صحبة حتى أقل أصدقائنا توافقا معنا على صحبة الغرباء، فهي أخلاق المقهى. اتفق فرويد قلبا وقالبا مع هذه العاطفة الحصيفة؛ إذ لم يوجد في نظره هذا القدر من الرغبة الذي يستحق الإشباع، فسعي الإنسان من أجل حب الجميع - كما يقول في «قلق في الحضارة» - نوع من الظلم؛ حيث إنه يبدد على من لا يستحق عاطفة ينبغي أن يدخرها «لمعارفه». ويتابع قائلا إن الغرباء أولى بكراهيتنا وعداوتنا من عطفنا. فالجار عند فرويد عدو في السر، وهذا صحيح على نحو آخر في المسيحية أيضا. وهذه هي السابقة التي يشبه فيها حب شخص لجاره حبه لعدوه، فكل إنسان يمكنه أن يحب صديقا، فيمكن لأي شخص أن يحب صديقا له. وإن كان الجار مصدر أذى للإنسان - كما أدرك فرويد - فذلك يرجع جزئيا (كما لم يتفهم فرويد تماما) إلى أن بعض الأنشطة الإنسانية تكون أكثر بغضا وتطلبا وجحودا وفتكا من الحب. يروج كتاب «قلق في الحضارة» لصراع مباشر بين الجنس والمجتمع؛ فالعدد المثالي للأول هو اثنان، بما أن وجود ثالث - كما يقول فرويد الرافض بتشدد لممارسة الجنس بين ثلاثة أشخاص - إما مخل أو زائد عن الحاجة، أما المجتمع ككل فيتضمن وجودنا مع عدد كبير من الأفراد، وبذلك يخاطر بتوزيع عواطفنا وإفقادها قوتها؛ إذ يخلط فرويد بطابع حديث متميز بين الحب بمعنى «العشق» والحب بمعنى «المحبة» أو الإحسان.
يرى هيوم أن مثل هذه العصبية العاطفية أصلها في طبيعتنا؛ فهناك حدود مشددة الحراسة تفصل بين الأصدقاء والغرباء، حدود ترتبط بدرجة ما مع الفروق الطبقية (بما أن الأصدقاء في الغالب مهذبون بقدر الفرد نفسه) وكذلك الفروق بين النظامين الخيالي والرمزي. فالمجتمع عند هيوم يتكون من دوائر متحدة المركز متمددة باطراد لما يسميه هتشسون «الحب الضعيف»، وتقل كثافة العاطفة كلما ابتعدنا عن ذوي أرحامنا: «فالفرد بطبيعته يحب أولاده أكثر من أولاد إخوته، وأولاد إخوته أكثر من أبناء عمومته، وأبناء عمومته أكثر من الغرباء ...» (535). ويزعم هيوم - كما لو كان يتتبع صعودا متدرجا بدقة من طبقات الجو السفلى إلى طبقات الجو العليا - أن عواطفنا تجاه من هم أقرب إلينا «أكثر خفوتا» من حبنا لذاتنا، بينما تعاطفاتنا مع البعيدين عنا «أكثر خفوتا» بدورها. ويبدو أنه لم يخطر بباله أن الرجل قد يحب زعيما سياسيا لم يقابله وجها لوجه قط حبا أعنف من حبه لزوجته.
هناك سبل لتعويض انحياز تعاطفنا الضيق؛ إذ يمكننا إجراء تعديلات أخلاقية - إن جاز التعبير - لعدم مبالاتنا بالغرباء، مثلما يمكننا أن ندرك إذا تفكرنا أن الأشياء البعيدة ليست صغيرة كما تبدو. كما أننا «نقابل كل يوم أشخاصا في موقع مختلف عن موقعنا، ولا يمكن أن يتناقشوا معنا بأي صورة معقولة إن بقينا في ذلك الموقع ووجهة النظر التي هي خاصة بنا» (653). فبتعديل منظورنا بهذا الشكل فإننا نكون تقييمات لأقراننا أكثر موضوعية منها إن بقينا مختبئين في محرابنا الاجتماعي الخاص. إلا أن المذهب التجريبي الذي يرى أن الحقيقة - بوجه عام - هي ما يمكن إدراكه بالحواس من الأرجح أنه سيواجه إشكالية مع العلاقات الاجتماعية المجهولة الهوية، ومن ثم مع السياسة؛ إذ يكتب سلافوي جيجك إن «الشفقة هي عجز قوة التجرد»،
56
ويرى هيوم أن القانون والسياسة هما نتاج فشل الخيال. وبالنظر إلى أن مصالح البعيدين عنا من الصعب وضعها في الاعتبار بوضوح، فمن الواجب إحالتها إلى الآليات المجردة كمؤسسات العدالة.
يؤمن هيوم بكل تأكيد بأن كل البشر مرتبطون بعضهم ببعض بالتشابه؛ لذا فإن طبيعتنا المشتركة تمثل معادلا لحب الذات؛ إذ يمكننا الشعور بالشفقة تجاه الغرباء «بمعنى الذين لا نعنيهم» ولو بسماعهم وهم يذكرون مصائبهم أمامنا. إلا أنه يرى أن الرحمة «تعتمد في جانب كبير منها على التماس مع الشيء والرؤية الواضحة له» (418). وهو أحد الأسباب التي دفعته للانتقال في نفس الفقرة إلى موضوع التراجيديا؛ فالهدف من الفن التراجيدي هو تقديم صور ملموسة للشخصيات التي تستحق الشفقة التي لا نعرفها، وهذا هو السبب في أن موت كورديليا (في مسرحية «الملك لير») يمكن أن يؤثر فينا كموت صديق؛ فالتعاطف عند هيوم يتوقف بنحو كبير على التصوير؛ فالغرباء الذين يمكننا أن نرتبط بهم هم الذين نسمع عنهم، فالأخلاق والإبستمولوجيا متلازمان على الأقل في هذا الإطار، بحيث إنه من دون العقل الذي يصنع الصورة فإن مشاعرنا المتعاطفة ستظل خاملة وهامدة.
يتحدث هيوم في موضع آخر في عمله «رسالة في الطبيعة الإنسانية» عن تقديم المساعدة لشخص غريب تماما على وشك أن تدوسه الخيول بحوافرها؛ لكن النقطة تكمن في أن الغريب المذكور حاضر ماديا، وهو أمر في نظر هيوم محفز للعواطف أقوى بكثير من تصور ضبابي للخير العام؛ إذ يرى أنه يوجد فعلا مثل هذا التعاطف العام بمعنى أن كل شخص أيا يكن يمكنه من حيث المبدأ أن يثير تعاطفنا؛ لكن مشاعرنا - كلعاب كلب الحراسة - لا تتدفق بحق إلا إن كان الآخر ملموسا ممثلا موجودا في المحيط إما عن طريق الخيال أو الواقع. يكتب هيوم: «ما من إنسان، ولا أي كائن عاقل، لا تؤثر سعادته أو شقاؤه - بقدر ما - علينا عندما يقترب منا» (533). لكن العبارة الأخيرة هي ما يميز الحالة التي ذكرها عن حب البشرية عامة، وهي عقيدة (رغم النزعة الشاملة لاهتماماته الثقافية) يتبرأ منها في هذا الموضع بالتحديد.
يتحدث هيوم في موضع آخر في عمله «رسالة في الطبيعة الإنسانية» بنفس الصورة عن الشعور بالتعاطف تجاه «أي شخص حاضر أمامنا» (432)؛ بينما يقول في عمله «بحث في مبادئ الأخلاق» إننا «على استعداد أكبر بالتأكيد للخوض في بحر العواطف التي تماثل تلك التي نشعر بها كل يوم؛ لكن لا يمكن ألا نبالي بعاطفة إن كانت متمثلة لنا بوضوح ...»
57
مرة أخرى يأتي التأكيد على العرض الحي، كما في المسرح؛ إذ يجب على الآخرين أن يستحوذوا على تخيلاتنا إن أرادوا استثارة تعاطفنا، والخيال بالمعنى قبل الرومانسي الذي استخدمه هيوم أكثر تأثرا على نحو كبير بالقريب من البعيد. تتسم مثل هذه الأخلاق التجريبية بالخصوصية الأخلاقية، التي تعكس ضيق الأفق العاطفي لعضو في حزب المحافظين، فكأن هناك أخلاقا محددة تشكل امتدادا لإبستمولوجيا محددة، قد يصل الخجل من التجريد المفاهيمي والإصرار على ما يمكن قياسه ماديا إلى اقتناعنا بأن الغرباء ليسوا جيرانا في الحقيقة؛ إذ يؤمن هيوم بأن الأشياء التي تمسنا في الزمان والمكان لها «قوة وحيوية خاصة» تفوق أي تأثير آخر (474). فمن الغريب إذن أن بريطانيا في القرن الثامن عشر يبدو أنه قد شغفها الاهتمام بإمبراطوريتها؛ أي أن تشغل مجموعة من الأمم البعيدة عواطفها الخيالية بالقوة التي كانت عليها.
لقد كان التحول إلى الرومانسية محاولة - من بين أشياء أخرى - لتصحيح قصور الرؤية الأخلاقية هذا. وبينما كان الخيال بمنظور القرن الثامن عشر هو الملكة التي تولد صورا مرئية لما يظهر أمام أعيننا، تمثلت مهمة الخيال الرومانسي بصورة كبيرة في استحضار ما هو غائب عنا مؤقتا أو مكانيا؛ ومن ثم تكوين شبكة من العواطف العامة حية وباقية بقدر العواطف المحلية. وبمجرد تحول الخيال إلى ملكة عامة، كما في الرومانسية، يفقد منطق التجريبي الكثير من قبوله.
إن هناك أسسا مميزة لما أسميته - بشيء من المفارقة - الأخلاق الخيالية. (وهي مفارقة في التسمية لأن النظام الخيالي اللاكاني في الحقيقة سابق على الأخلاق.) فهذه الأخلاق من عدة أوجه نسخة علمانية من التناغم والانسجام والتوافق التي أرسيت جميعا مسبقا - إن جاز التعبير - في الفردوس، أو في عوالم فلاسفة العصور الوسطى أو في الكون المتناغم عند الأفلاطونيين الجدد. وبحلول زمن هتشسون فقدت هذه الرؤى العظيمة اعتبارها على نحو كبير؛ لكن نتيجة لوجود طوفان من الفردية الهادمة الآن ظهرت حركة لإعادة إنتاج هذه الرؤى في شكل دنيوي ملائم؛ إذ يجب إعادة الروابط الإنسانية إلى عالم محروم منها تقريبا. وفي ظل ثقافة العقود والالتزامات القانونية الجامدة، فإن إصرار أصحاب مذهب الخير على الحب والرحمة والكرم يتسم بدفء عاطفي مقبول. ويسيء لهذه القضية - كما سيبين كانط لاحقا - أن يكون البديل الوحيد للالتزام الأخلاقي هو التصرف الذي يخدم اللذة الأنانية الخاصة للفرد. إن هذا يستحضر مجال اللذة كله من البيوريتانيين المتزمتين، ويعيده إلى مكانه المركزي في الفكر الأخلاقي. لقد كانت علامة الإنسان الفاضل، كما يرى ديفيد هيوم، أن يحصل السرور من الرحمة والإنسانية. ويقر فلاسفة مذهب الخير بطريقتهم الخاصة - في كلمات برنارد ويليامز - بأن «الخط الفاصل بين الاهتمام بالذات والاهتمام بالغير لا يتفق بأي نحو مع الخط الفاصل بين الرغبة والالتزام.»
58
يوجد شيء من الشرف والجمال في هذه الرؤية الخيالية التي قد تبدو بجانبها الأخلاق الرمزية التي سنتناولها بعد قليل فقيرة وبغيضة. لقد أصاب الفلاسفة الأخلاقيون الذين عرضنا لهم في رأيهم أن الأخلاق تتعلق بالإشباع الإنساني، وكذلك بشأن القيم المهمة حقا، بصرف النظر عن مدى خطئهم بشأن التأصيل لها، فعلى عكس أرسطو الذي يبدو الإنسان الفاضل في نظره أحيانا كقطب إعلامي متمتع بنجاح باهر، وبالتأكيد منافق متغطرس، فإن الأخلاق لا ترى الرجال والنساء مكتفين بذواتهم، بل في حاجة مستمرة للحنان والدعم. وبخلاف إرث مهم من الطوعية الأخلاقية، فهي تقر بالقيمة المناسبة للحظة الأخلاقية السلبية؛ بمعنى التحرك والتقيد والحث والدفع التلقائي نحو الفعل. صحيح أنها ترى الأفراد غير قادرين على تقرير مصيرهم، وتعتبرهم مفرطين في الحرص على المحاكاة والتكيف، يرزحون تحت نير آراء أقرانهم. وهذا، من بين أشياء أخرى، انعكاس للسياق الاجتماعي لهؤلاء المنظرين الذين تشاركوا باعتبارهم منتمين لطبقة اجتماعية واحدة إلى حد ما نفس الآراء من دون التمعن فيها كثيرا. كما أنهم انشغلوا كثيرا بسمعتهم، وهو أحد الأسباب التي تجعل نظرة الآخر شديدة الأهمية عندهم.
إن كان من المحتم أن تكسر دائرة النظام الخيالي في النهاية؛ فذلك لأن الرجال والنساء لا يحققون استقلالهم - على هشاشته - إلا في النظام الرمزي، وإن حدث فالثمن غال. مع ذلك، يكمن الجانب الإيجابي لهذا التجانس الاجتماعي في قابلية المشاركة الاجتماعية الإنسانية لنظام أخلاقي خيالي، نظام يرفض نزع القيم الأخلاقية من قلب الحياة اليومية. إن هذا الاحترام للحياة اليومية - الذي يظهر جليا في الأدب الواقعي كذلك - هو ما يميز مجلات القرن الثامن عشر ذات التأثير الكبير مثل «تاتلر» و«سبكتيتور».
على الرغم من ذلك تبدو هذه الأخلاق منغلقة ومعزولة بصورة خطرة، فالحب والتعاطف ينسحبان بطريقة مجردة على الإنسانية جمعاء؛ لكن الجار الحقيقي هو ابن العمومة أو الزميل وليس شخصا مجهولا محبا للخير مثلا. وترى هذه الرؤية الأخلاقية القائمة على الجسد أن الوجود الاجتماعي فيما يتجاوز الأصدقاء والأقارب ليس امتدادا لأجسادنا؛ ومن ثم فهو عرضة لأن يختفي من أفقنا الأخلاقي، فدوائر التعاطف متحدة المركز تتراكم في سلسلة ذات تدرج دقيق من البيت الدافئ إلى المجهولين القابعين في ظلمة الخارج.
صحيح أن قواعد السلوك وضعت باعتبارها وسيطا أو منطقة بينية تجمع الأصدقاء والغرباء؛ أي وسيلة لتهذيب النفس تتسم باللطف من دون مودة والتهذيب من دون ألفة. لقد رأى برتولت بريخت أن مثل هذه المنطقة البينية - بين ما هو مثير للعاطفة أو مألوف من ناحية وما هو غريب مجهول من الناحية الأخرى - هي عرف أساسي في أي ثقافة اشتراكية، فكلمة «الرفيق» - إن جاز التعبير - تتوسط بين كلمتي «عزيزتي» و«سيدتي». يكتب تيودور أدورنو في كتابه «الأخلاق الصغرى» عن «الذوق» باعتباره هذا الوسيط في بدايات مجتمع الطبقة الوسطى، وهي ملكة يخشى أنها قد ضمرت منذ أمد بعيد. ويكتب: «[البرجوازي] بما أنه حر ووحيد فهو مسئول عن نفسه، بينما أشكال الاحترام والتقدير الهرمي التي شكلتها السلطة المطلقة - والتي جردت من قاعدتها الاقتصادية وقوتها الخطيرة - لا تزال حاضرة بصورة كافية لتجعل العيش المشترك في ظل وجود جماعات تتمتع بامتيازات ممكنا.»
59
لكن أي نظرية أخلاق خيالية تخشى أن الدخول في دائرة القوانين والواجبات العامة معناه التخلي عن العواطف والمشاعر الخاصة، وتعني قراءة كتابات كانط الأخلاقية الاتفاق مع ذلك. من الناحية الأخرى، يبدو تيار الفكر الأخلاقي هذا برمته في نظر مناصري المبادئ الجليلة أو القوانين السائدة أو أهوال النظام الواقعي غامرا بالدفء والألفة، وكذلك مفتون بشدة بتلك المفاهيم العاطفية كتحقيق السعادة. فالشفقة والتعاطف ما هما إلا الوجه المستعطف الذي توليه الرأسمالية ذات الوجهين لضحاياها. والسعادة - التي هي مهمة المسئول في الحكومة البريطانية اليوم - هي المخدر العجيب الذي يساعدهم على الاستمرار في العمل.
مع ذلك قد يكون الاختيار بين الحب والقانون وهميا، فما يعجز العاطفيون الأخلاقيون عامة عن استيعابه هو أن القانون الأخلاقي الوحيد الموثوق به هو قانون الحب؛ لكنه ليس على الإطلاق نوع الحب الذي يمكن التعبير عنه في إطار الإحساس؛ فالحب الوحيد الذي يهم هو الحب «القانوني» لا «العاطفي»؛ ففي رفضه القاسي اللاإنساني لتفضيل احتياجات إنسان على آخر، هو أقرب لمرسوم من غريزة. فهذا النوع من الحب يتميز باللامبالاة المتحجرة تجاه أشخاص معينين في النظام الرمزي، كما أن هذه اللامبالاة رهن خدمة انتباه «خيالي» للاحتياجات الخصوصية الفريدة لأي شخص أيا يكن ، فهي ليست قضية خير عام، قضية «حب للجميع» في موجة نقية من الحب السخي، وهو ما يشبه حب مفهوم اللون الأرجواني أو فكرة الاقتراع الفردي القابل للتغيير. من الحكمة أن استبعد هيوم هذا التصور؛ إذ ينبغي التعامل مع الحب العام باعتباره المفهوم الديمقراطي للشعب، فهو ظاهرة خرافية، من الناحية الحرفية. إلا أنه يشير إلى أن أي فرد يمكن أن يكون فاعلا اجتماعيا يكافئ في قدره من هم سواه.
من هذا المنطلق يتفق الحب الصادق مع منطق «ليس الكل» عند لاكان، فهي ليست قضية «يجب علي أن أحب كل الناس» - وهي فرضية فارغة إن كانت فرضية من الأساس - بل «لا يوجد من يجب علي ألا أحبه.» فالحب العام مسألة تخص السياسة الدولية لا النداءات الفضفاضة للتضامن الكوني. وهذا فيما يخص الأفراد يعني حب الجميع بمعنى حب أي شخص يظهر في المحيط. وبذلك يرفض التمييز بين الصديق والغريب، ليس لأنه جامد في مواجهة العواطف الشخصية، بل لأنه لا يعتبر أن الحب يتعلق بمثل تلك الأشياء، فليس على المرء أن يشعر على الأقل بالحب ليكون قادرا على الحب.
في إنجيلي مرقس ومتى، تعني كلمة «الجار» ببساطة الشخص الآخر سواء أكان صديقا أم معرفة أم عدوا أم غريبا. وغني عن القول إن هذه ليست عقيدة قدمتها المسيحية لأول مرة؛ فكل الناس عند الرواقيين القدماء مواطنون في العالم، وكل البشر جيران. ويرى لوقا - المؤمن بعقيدة العهد القديم التي ترمز فيها كلمة «الجار» إلى اليهود الغامضين الأدنى اجتماعيا الذين هم في حاجة ماسة للحماية - أن حب الجار يتجسد على وجه التحديد في الاهتمام بالمحتاجين والمعدمين؛ فالجار هو أول من تقابله وهو في محنة. أما كتاب الحكمة ورسلها، فكلمة «الجار» تعني قبل كل شيء الفقراء، وعمم يهود الشتات الكلمة لتشمل كل البشر.
60
لقد أصاب هيوم وهتشسون في أنه من الطبيعي أن نحب أطفالنا أكثر مما نحب مديرنا البنكي مثلا؛ لكنهم ينظرون إلى الحب بمعناه الشخصي أو العاطفي، وهو ليس معناه الأساسي؛ إذ ظهر قدر كبير من الإشكال في الفلسفة الغربية من الخلط بين الحب بمعناه العاطفي أو الغريزي بالمحبة أو الإحسان العام. وقد رأينا أن فرويد وقع في بعض الأحيان في هذا الخطأ. ويرجع هذا الخلط جزئيا إلى الذبول التدريجي لما هو سياسي، وهو بدوره ما يجعل فكرة الحب السياسي تبدو مناقضة لذاتها على نحو شديد. لكن عند الاختيار ما بين ذبح ولدي وإطلاق النار على مديري البنكي؛ فالأخلاق الرمزية وحدها دون الخيالية هي ما يفيد، فالحب بمعنى شعوري تجاه ولدي لا يصلح معيارا لتحديد أي الفعلين أخلاقي. في الواقع ليس أي من الفعلين أخلاقيا؛ حيث إن حياة مدير البنك لها حق علي بقدر حياة ولدي. ولا يؤثر كرهي لمدير البنك - وأنني ربما حاولت خنقه بنفسي مرة أو مرتين من قبل - في هذه الحقيقة الأولية؛ إذ يجب علي أن أعامل مدير البنك كما أعامل نفسي، وهو ما لا يعني أن يتورد وجهي حمرة لرؤيته في الطريق، أو أن أضمر له نفس الدفء الحاني الذي أضمره لابنتي، أو ألا أتردد في سرقة بنكه تحت ضغط ظروف مادية معينة، أو ألا يسرني أن أراه بائعا جائلا عندما تتحول البنوك إلى ملكية عامة. يذكرنا كوامي أنتوني أبياه بأن «القول إن علينا التزامات تجاه الغرباء لا يعني القول أنهم يستحوذون على عواطفنا بقدر من هم أقرب إلينا وأعز علينا.»
61
فهي ليست قضية معاملة الغرباء كالجيران بل معاملة النفس كالغريب؛ أي الإدراك في صميم القلب بحاجة ماسة تتسم بالغموض في نهاية المطاف وهي الأساس الحقيقي - فيما وراء المرآة - الذي يمكن أن يبني البشر عليه لعلاقتهم. هذا هو ما يسميه هيجل الروح، ويعرفه التحليل النفسي بالنظام الواقعي، وتطلق عليه العقيدة المسيحية اليهودية حب الرب. وعلى الطيبة المثيرة للإعجاب في الأخلاق الخيالية؛ فالرعب والروعة هما ما يكمن فيما وراء إدراكها المحدود.
من بين علامات المحدودية هذه عجز أمثال ديفيد هيوم عن رؤية فضائل الزهد باعتبارها أي فضائل بخلاف التنسك وإنكار الحياة، في فهم خاطئ للمسيحية يستمر إلى اليوم. فهيوم الذي ألف كتاب «بحث في مبادئ الأخلاق» يرفض التبتل وإنكار الذات والتوبة والتنسك باعتبارها ضلالات كابحة للنفس؛ إذ يرى أن مثل هذه الممارسات المؤدبة للنفس تعيق الفهم وتقسي القلب وتعكر صفو المزاج. ومن هذا المنطلق فإن البرجوازيين في القرن الثامن عشر يستوون مع الليبراليين المشجعين على الحياة في يومنا هذا. من المؤكد أنه لا سبب يدفع مناصرا للتنوير في القرن الثامن عشر لئلا يعتبر هذه القيم همجية. لم يكن هيوم مقاتل حرب عصابات في العصر الحديث قد يقدر الحاجة لعدم التقيد بالروابط العائلية وعدم حيازة أي أملاك والاعتياد على مواجهة المصاعب الشخصية في سبيل مصلحة الآخرين. كما لم يكن ناسكا يشهد على القيمة الكبيرة للجنس وحياة الوفرة المادية من خلال الهجر المؤقت لهذه الملذات في سبيل إيجاد مساحة مستقبلية للحق والعدل. فهناك فقط - كما يعتقد المتبتل المتدين - سيتوفر هذا الترف للجميع. فهذا التبتل يتضمن تضحية، وهو ما يعني أنه يعتبر الجنس ورغد العيش من القيم التي يعتز بها.
لا ينتظر من برجوازي أنيس المعشر كديفيد هيوم أن يدافع عن عمل تضحية غير أنانية؛ تضحية تتضمن القيم المؤلمة المميتة الأكثر قسوة لكنها تتم باسم إرساء حياة أكثر وفرة في كل مكان. فهو ممثل للنظام الخيالي وليس مناصرا للنظام الحقيقي؛ إذ لا يري أننا يجب علينا أحيانا أن نفعل ما ينبغي لنتمكن من فعل ما نريد، فكل هذا يبدو له كئيبا ومازوخيا كما تبدو الحكمة الليبرالية التقليدية في يومنا هذا. صحيح أن الحياة السعيدة تتمحور حول الفضل واليسر والرفاهية، كما فهم مفكرو عصر التنوير هؤلاء على طريقتهم بنفس الوضوح الذي فهمها به أرسطو أو توما الأكويني. لكن ما لم يروه من موقعهم التاريخي ذي الأفضلية هو أن تحقيق هذا الوضع يتطلب من وقت لآخر قيم التضحية والانضباط الكئيبة الثورية. وتلك حقيقة مؤسفة وإن كان لا مفر منها. لم يكن هذا ليكون بجديد على جون ميلتون؛ لكن الثورة، التي أتت بمن رأوا ديفيد هيوم متحدثا رائعا عنهم، قد انحسرت موجتها الآن عبر أفق التاريخ بما يكفي لينسى أن القيم الزاهدة - وإن كانت كريهة حقا وبعيدة عن زخرف الحياة السعيدة - فهي ضرورية للأسف. إنها ضرورية لنيل الفضيلة والعدل عمليا، وكذلك باعتبارها (كما في حالة المتبتل المتدين) شاهدا على الإمكانية الثابتة لتحققهما من خلال الرفض العام لرفاهيات الحاضر. ووحدهم الذين يستمدون راحتهم من التضحيات المفروضة على الآخرين هم القادرون على تجاهل هذه الحقيقة.
هوامش
الفصل الثالث
إدموند بيرك وآدم سميث
ماذا لو لم يكن الشعور الداخلي والمبدأ العام هما الخياران الوحيدان في المسألة الأخلاقية؟ ماذا لو كان هناك قواعد سياسية تحكم التعاطف؟ لقد رفع إدموند بيرك - أحد أبلغ المتحدثين عن القيمة الثمينة للإخلاص الداخلي - القبعة احتراما للمبادئ العامة؛ لكنه نادرا ما تحمس لها؛ فالسياسة في نظره يمكن أن تسير بالتعاطف الخيالي بقدر التعاطف الشخصي؛ ففي واقع الأمر، لولا أن حدث ذلك وبشيء من السرعة، فمن الأرجح أننا كنا سنشهد نكبات أخرى تضاهي خسارة أمريكا والعصيان المسلح في أيرلندا وإرهاب اليعاقبة في باريس ونهب شركة الهند الشرقية. ولتفادي هذه الكوارث، يجب - كما يرى بيرك - أن يوجد «مجتمع له مصالح مشتركة، وتعاطف من ناحية المشاعر والرغبات فيما بين من يسيرون الأمور باسم الشعب، أيا كان وصفه من ناحية، وبين الشعب نفسه من الناحية الأخرى.»
1
فالسلطة في نظر بيرك يجب أن يكون أصلها الحب، وهي فكرة نطلق عليها اليوم اسم الهيمنة.
2
إذ يقول في عمله «المصالحة مع المستعمرات» إن «القوة والسلطة أحيانا ما يكتسبان بالود؛ لكنهما لا يستجديان أبدا كالصدقة من خلال عنف ضعيف مهزوم.»
3
فالنظام السياسي عند بيرك يقوم على أساس خيالي من التبادلية والتقارب؛ حيث يزعم في عمله «الخطاب الأول عن سلام مع الإدارة الفرنسية القاتلة لملكها» أن «الناس لا تربطهم بعض الأوراق والأختام، فهم ينقادون إلى الارتباط القائم على التشابه والتوافق والتعاطف، فلا رابطة وئام بين أمة وأخرى أقوى من التشابه في القوانين والتقاليد والآداب والعادات الحياتية؛ إذ تملك في ذاتها قوة أكبر من المعاهدات، فهي التزامات محفورة في القلب.»
4
إذن، فالقضية عند بيرك ليست قضية التمييز بين العواطف الداخلية القوية والعواطف السياسية الهزيلة كما عند هيوم، ولا هي مسألة تخصيص لحظة ما للمحاكاة «الخيالية» واللحظة التالية للخير العام كما عند هتشسون، بل إن رغبة بيرك هي إعادة تشكيل المجتمع السياسي ذاته ليتفق مع الجوانب الداخلية. في أيرلندا ما قبل الحداثة التي جاء منها، بكل ما فيها من زعماء جماعات محلية وروابط قبلية تقليدية، لم يكن الفاصل بين الجانبين السابقين واضحا على الإطلاق، وكان هدفه هو «وضع النزعات الحسنة في الحياة الخاصة في خدمة الأمة البريطانية.»
5
ومن الأرجح بذلك أنه كان سيعترض على زعم جوبال بالاكريشنان أن كلا من الأديان والأمم «ترتكز على تصورات للدخول فيها تلغي العوامل القدرية الأولية الخاصة بالمولد والقرابة والعرق.»
6
فكما هو حال «محكمة الضمير المستقلة عن الفرمانات والمراسيم»،
7
تمثل الأسرة نموذجا مقنعا للالتزامات من دون القوانين، وهي مثال على قوة الهيمنة لا قوة القسر. وكتب ريتشارد ستيل الذي ينتمي أيضا لأيرلندا كتيبا بعنوان «الأسرة والأمة» يقارن فيه بين صياغة سياسة مالية للدولة وتوفير قوت الأبناء.
8
ويحذر بيرك من أن المذهب العاطفي في فرنسا «يهدم مبادئ الصدق والأمانة الداخلية التي تمثل ضوابط الحياة الاجتماعية.»
9
وفي مفارقة غريبة فإن الافتتان المغالي بالعاطفة لا يضر بالمنطق، بل بالشعور بمعناه الأدق، الشعور بوصفه أساس روابط الإخلاص والحب المجربة والمسلم بها، التي تعد الأسرة أكبر نموذج لها، والتي توفر أصح نموذج للوجود الاجتماعي ذاته؛ فالشعور ممارسة تقليدية وليس أداء مسرحيا.
مع ذلك فإن بيرك بعيد تماما عن توسيع نطاق هذه العواطف الاجتماعية لتشمل الجنس البشري بكامله. وهو يشبه في هذا هيوم الذي كتب «رسالة في الطبيعة الإنسانية» أكثر مما يشبه مواطنه الأيرلندي فرانسيس هتشسون؛ إذ يمكن مد حدود النظام الخيالي لتشمل ثقافة وطنية؛ لكن لا يمكننا فعلا تبادل الهويات أو مشاعر التعاطف مع من ينتمون لحياة مختلفة كليا؛ فالغرباء بالنسبة إلى بريطانيا، إن جاز التعبير، يبدءون من مدينة كاليه، بينما في كاليه وباريس يستبعد الفرق بين الغرباء والأقرباء برغم كتابات بيرك، وهو ما أثار غضبه المعارض للخيرية العامة؛ إذ يحمل بيرك كرها شديدا لمفهوم الخير عند جودوين الذي يساوي بين حب الأهل وحب الغرباء. (جعل سويفت، مواطن بيرك الذي شاركه بغضه للإحسان العام، شخصية جاليفر المخبولة مبالغا فيها بدرجة أكبر؛ حيث ازدرى أهله ووقع في حب كائنات غريبة تمشي على أربع.)
يرى بيرك - كما هيوم - أنه من الطبيعي أن نحب من هم أقرب إلينا، ويرى فكرة التعاطف العام زائفة؛ فالخيرية العامة تؤدي إلى الطغيان الثوري. ويمثل روسو - الذي يعتبر الشفقة مثل هتشسون غريزة سابقة على أي تفكير - المحل الأول لكراهية بيرك الشديدة؛ فهو يسخر منه قائلا إنه محب لجنسه لكن كاره لأهله؛ «فالإحسان إلى النوع البشري كله» كما يؤكد بيرك «ونقص التعاطف مع كل فرد يقابله هؤلاء الأساتذة يمثلان طابع الفلسفة الجديدة.»
10
يتفق بيرك مع روسو في أن العواطف لها قوة أكبر من العقل، ويرى كلاهما أنه إن كنا نعتمد على شيء هش ومزعج كالعقلانية لحثنا على التصرف الإنساني، فلربما وصل النوع البشري لطريق مسدود منذ زمن بعيد. كما يعتقد بيرك - مثل توما الأكويني - أن الصداقة قد تمثل تمهيدا لأشكال من العلاقات أقل خصوصية. لكن من يسعون إلى مد هذه العواطف إلى ما وراء حدودها الطبيعية لا ينجحون إلا في خلعها من جذورها الموجودة في تربة غنية وقطع الغذاء عنها؛ إذ تتحول المشاعر إلى كماليات تستهلك على المستوى الخاص، ولا يمكن أن تكون قوة اجتماعية رابطة بعد ذلك، ويخرج الإحساس من دائرة السياسة.
مع ذلك فقد مارس بيرك نسخته من الخير العام. ويخفي الذين يتذكرون مقولته الشهيرة، التي تقول إن المبدأ الأول للحب هو حب «العصبة الصغيرة» المكونة من الأصدقاء والأهل، عبارة «المبدأ الأول» بصفة عامة. ويتابع بيرك قائلا إن روابط الولاء المحلية هذه تمثل أول حلقة في سلسلة تبلغ ذروتها في حب الوطن والبشرية. فهو - على كل حال - ليس من متبعي المذهب الخصوصي القليلي التبصر كما يبدو؛ إذ يؤكد عند استدعاء وارين هيستنجز أمام مجلس العموم أن سلوك هيستنجز الخسيس في الهند يجب أن يقيم في ضوء المعايير الأخلاقية السائدة في الوطن، فلا ينبغي قبول أي استثناء، كما طالب المتهم نفسه مخادعا، بسبب اختلاف السياق الثقافي؛ فالمعايير الأخلاقية عند بيرك لا تتأثر بالتغير في الموقع الجغرافي؛ إذ يجب أن يسود الشعب الهندي نفس ميزان العدل والحرية كما هو الحال بالنسبة للشعب البريطاني. ويكتب بيرك في عمله «ملاحظات على سياسة الحلفاء»: «ثمة بعض النقاط الأساسية التي لا تتغير فيها الطبيعة «البشرية»؛ لكنها قليلة وواضحة وترجع للأخلاق لا السياسة.»
11
لم يؤمن بيرك بأن روابط الحب يمكن أن تمتد إلى أبعد من العصبة المحيطة بالفرد؛ لكن المبادئ التي أدان بها السلب الاستعماري في أيرلندا أو الهند مبادئ عامة، فخلق التعاطف يمكنه أن يعبر بك حدود المنزل إلى المجتمع السياسي؛ لكنه لا يمكن أن يخرج بك كليا للبشرية جمعاء؛ فلهذا تحتاج مذهبا أخلاقيا ذا طابع أكثر شمولية. ورغم أن بيرك تبنى ضمنيا منظومة مشابهة في مناصرته للهنديات المغتصبات والمتمردين الأيرلنديين المعذبين والثوار الأمريكيين، فقد فعل ذلك مع كامل الحذر من افتراضاتها الفلسفية بالنسبة لفيلسوف أخلاقي يؤمن بأن الأقربين أولى بالمعروف، ونادرا ما يتجاوزه لغيرهم.
إن ما يحفظ تماسك المجتمع في رأي بيرك هو المحاكاة؛ إذ يكتب: «إن المحاكاة - بدرجة أكبر بكثير من القواعد - هي ما يعلمنا كل شيء، ومن ثم فما نتعلمه لا نكتسبه بطريقة فعالة فقط بل بطريقة سارة أيضا. وهي تشكل سلوكنا وآراءنا وحياتنا؛ فهي واحدة من أقوى روابط المجتمع، وهي نوع من الإذعان المشترك، يسلم فيه كل الناس بعضهم لبعض دون قيود، ويشعر فيه الجميع بالإطراء الشديد.»
12
وكتب تيودور أدورنو لاحقا عن كيف «ترتبط الإنسانية بشدة بالتقليد؛ فالإنسان لا يكون إنسانا إطلاقا إلا بتقليد غيره من البشر.» ويكمن نوع من الزيف الممكن في رأيه في أصل الهوية.
13
فالمحاكاة المتبادلة ليست فقط ممتعة لأننا نستمتع بالتكرار بالفطرة، بل أيضا لأننا نتقمص صبغة الآخرين تلقائيا ودون عناء، بمجرد مشاركتهم أسلوب حياتهم، وهو ما يكسب المحاكاة شيئا من السمة السابقة على التفكير التي تميز النظام الخيالي. فنحن - بحسب عبارة بيرك نفسه - نتعامل هنا مع دائرة من «الإذعان المشترك» التي يبدو فيها أن كل فرد ينحرف عاطفيا عن داخله - إن جاز التعبير - إلى فلك عواطف غيره، فالمجتمع يسير على نحو أشبه بالسجع. ويكتب برتولت بريخت أن «الفرد ينسى بسهولة أن التعليم البشري يتم في إطار تصويري مسرحي جدا. إن الطفل يعلم السلوك بطريقة تصويرية تماما، ولا تأتي القضايا المنطقية إلا لاحقا ... فالإنسان يقلد الإشارات والإيماءات ونبرات الصوت.»
14
فالقواعد الأخلاقية تنتمي للعالم الرمزي للواجب والتفكير والقيم العامة؛ لكن اكتساب قواعد السلوك المتحضر قضية مرتبطة بالاقتداء بسلوك الآخرين، الذين يفعلون ذلك أيضا، فكل هذا إذن هو ما يسميه بيرك «الجمال» ويعني به دائرة التعاطف المشترك: «عندما يعطي ... الرجال والنساء لنا شعورا بالسرور والفرحة لرؤيتهم (وكثير منهم كذلك)؛ إذ يثيرون مشاعر الحنان والحب تجاه شخوصهم، فنحن نحب قربهم منا وندخل طوعا في نوع من الارتباط معهم ...»
15
فالجمال هو الاسم الذي أطلقه بيرك على الصلات الخيالية التي تؤدي إلى التماسك الاجتماعي.
أين إذن تنتهي غابة المرايا هذه؟ يبدو الوجود الاجتماعي عند بيرك سلسلة لا نهائية من صور الصور، سلسلة بلا أساس أو بداية. وتتسم هذه العملية المرآتية بانطواء محير على الذات قد يكتب الموت للتاريخ والتنوع والصراع والمنافسة إن لم يتم منعه. ويكتب بيرك: «رغم أن المحاكاة إحدى أعظم الأدوات التي تستخدمها العناية الإلهية في الاقتراب بطبيعتنا نحو كمالها، فإن الناس إن تركوا أنفسهم تماما للتقليد واتبع كل منهم الآخر، وهكذا في دائرة لا تنتهي، فمن الواضح أنه قد لا يكون هناك أي تطور بينهم أبدا.»
16
إن نفس الظروف التي تضمن التناغم الاجتماعي تهدد كذلك بوقف المشروع الإنساني. أو لنصغ القضية بأسلوب ماركسي كلاسيكي: فإن أساس الدينامية الاقتصادية والبنية الفوقية للأعراف الاجتماعية كل منهما منحرف عن الآخر بنحو خطر. ومع الانغماس في هذا الانغلاق النرجسي تصبح العواطف في تخمة وفحش، ويصير أصحاب الأعمال في وهن وضعف. والمطلوب لكسر هذا الجمود هو لمسة من خطر وتنافس وجهد مضن ونفحة من الموت واللامحدودية، وهي ما تتصل جميعا - كما سنرى لاحقا - بما يسميه اللاكانيون النظام الواقعي. إن هذا المثير وحده هو ما اكتشفه بيرك وسط أهوال السمو المزينة. وقد يجد الماركسي السوقي - المهووس على نحو موحش بالطبقة الاجتماعية - في هذا جهدا للتوفيق بين ثقافة نبيلة تقوم على الشرف والتحضر وبين طاقات الفوضى والسلب عند طبقة وسطى متشكلة حديثا.
لقد رأينا أن النظام الخيالي مرتبط بالمحاكاة والتنافس معا؛ لكن هذين المفهومين في الجماليات السياسية عند بيرك هما الجمال والسمو على الترتيب، فالسمو بقيمه الرجولية الخاصة بالمبادرة والطموح والمنافسة والتحدي يقتحم سياجا بقوة نطاق النظام الخيالي الاجتماعي لكنه لا يقتحمه إلا ليعيد بناءه، فهو نوع من «التورم» القضيبي، حسب تعبير بيرك؛ أي نفي لنظام مستقر من دونه يضعف مثل هذا النظام وينتهي. وهو إذ ينقلنا من المحاكاة المبالغ فيها للجمال إلى دائرة الطاقة والطموح الأوسع يوجهنا إلى النظام الرمزي، إلا أن - كما ذكرنا - ثمة لمسة من النظام الواقعي في هوة السمو المميتة التي ترفض - كما النظام الواقعي - كل محاولات الإيقاع بها في شباك اللغة. ومثل النظام الواقعي، يكمن السمو فيما وراء التصوير، فهو نقطة الصدع الداخلي في بنية الجمال، والشرط اللااجتماعي للنشاط الاجتماعي كله.
إذن؛ فالسمو هو القوة الرجولية المتمردة التي تحثنا على الخروج من الانعكاسات المتبادلة المرضية في المجتمع المدني، وتقذفنا من خلال ذلك إلى منطقة خطر قاتل حيث نراقص الموت أملا في أن نبعث من جديد. ليس من الصعب أن نرى في هذا التحول من الجمال إلى السمو عبورا من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي، تماما مثلما يمكن اعتباره انتقالا من الأنوثة إلى الرجولة. لكن من الممكن كذلك رصد تحول من عاطفة تراجيدية تقليدية، وهي الشفقة، إلى عاطفة أخرى وهي الخوف. فالشفقة هي ما يربطنا بالآخرين، بينما الخوف منشؤه خطر انحلال الرباط الاجتماعي.
17
وإن كانت الشفقة خيالية، فالخوف واقعي. إلا أنها عاطفة تميز النظام الرمزي بنفس القدر، كما تهدد الذوات المستقلة المتصادمة بتدمير كل منها للآخر، كما يوجد خوف خاص بالنظام الخيالي يتعلق بالجوانب الأكثر اتصافا بالارتياب والتنافسية في تلك الحالة ، فالخوف من التراجيديا ينشأ من بين أشياء أخرى عن تخيل أننا قد نبتلى مثل البطل التراجيدي، وبهذا فهو يحمل لمسة من المصلحة الشخصية كما عند هوبز. فالفاصل بين العاطفتين - كما يقر أرسطو في «الخطابة» - دقيق على نحو ملحوظ، ويمكن القول إنه دقيق بقدر الفاصل بين التعاطف والتنافس في النظام الخيالي. وتتحول الشفقة - بحسب تعليق أرسطو - إلى خوف عندما يكون المشفق عليه قريبا جدا منا لدرجة أن معاناته تبدو معاناتنا، فهي حالة أخرى من الالتباس بين النفس والآخر الذي رأيناه يميز النظام الخيالي. •••
يصوغ آدم سميث - شأنه شأن بيرك - بعض أجزاء نظريته الأخلاقية على أساس النوع، فكما يرى بيرك أن النساء يتصفن بالجمال والرجال بالسمو، يرى سميث أن النساء يتسمن بالإنسانية بينما يتسم الرجال بكرم الأخلاق. والإنسانية في نظره مسألة ترتبط بالحنان والتعاطف الرقيق، وهو ما يسمح لنا (صارت الفكرة أكثر من مألوفة الآن) بالدخول إلى نطاق مشاعر الآخرين كما لو كانت مشاعرنا. تتصف النساء بفضيلة التعاطف هذه؛ لكنهن لا يعرفن بالكرم. يقول في كتابه «نظرية العواطف الأخلاقية»: «إن ندرة تبرعات النساء الكبيرة ملحوظة من ملحوظات القانون المدني.»
18 (إن الإشارات اللاحقة لأرقام الصفحات من عمل هيوم هذا ستوضع بين قوسين بعد الاقتباسات المعروضة منه.) ويرجع هذا إلى أن الكرم يتضمن الفضائل الرجولية للتضحية بالذات وضبط النفس وإنكار الذات، وهي مفاهيم وسطية نادرا ما تجد لها سبيلا إلى عقول السيدات الصغيرة الطائشة. وقد يمثل الجندي الذي يضحي بحياته دفاعا عن حياة قائده مثالا على هذا الكرم، فالأفعال المتسمة بسعة الصدر وحب المصلحة العامة حكر على الرجال؛ إذ يرى سميث مثل بيرك أن هناك حاجة لضبط حلاوة التعاطف بقليل من التستوستيرون، فالقيم النسائية كلها في محلها تماما؛ لكنا بحاجة لمعرفة الخيط الفاصل بين رقة القلب وانعدام الرجولة.
لم يكن آدم سميث أحد فلاسفة «الحس الأخلاقي» بالمعنى المعروف؛
19
إذ استبعد فكرة هتشسون عن وجود ملكة أخلاقية خاصة، إلا أنه اتفق مع شافتسبري وهتشسون وهيوم في أننا نعنى في غير أنانية بمصائر الآخرين ونعتبر سعادتهم ضرورية لسعادتنا. «إن هذا السرور - كما هو الحال مع ألم الشعور بحزن شخص آخر - آني جدا لدرجة أنه لا يكاد يوجد أي وقت لتدور عجلة المصلحة الشخصية. وفي ظل وجود تعاطف - سواء مع صديق أو مع غريب - فإننا ندخل بصورة ما إلى جسمه ونتحد بدرجة ما مع ذاته» (258). وتعج عبارة «بدرجة ما» دون شك بالمشكلات، كما سنرى بعد قليل. مرة أخرى، تكمن الأخلاق حقيقة في المحاكاة؛ فعندما نواجه صديقا أو غريبا في كرب، «نتبادل الأماكن مع المكروب في الخيال» (258)، وهو مكافئ أخلاقي نوعا ما للعبورية.
وبالعكس: «لا يسرنا أكثر من أن نرى في الآخرين تعاطفا مع كل المشاعر التي تختلج في صدورنا» (264)؛ إذ يتطلب الشعور الأخلاقي الصادق شيئا يشبه الروافد الخيالية عند الكاتب الروائي؛ حيث علينا أن نسعى لتصور وضع الشخص الذي نقابله في أذهاننا بكل ما فيه، وصولا إلى التفاصيل الأكثر دقة. يكتب سميث: «يجب على الشخصية المتعاطفة أن تتبنى قضية من معها بكل تفاصيلها الصغيرة، وتسعى قدر الإمكان لتتصور تبادل المواضع الذي ينبني عليه تعاطفها» (275). فالتبادل العاطفي عند هذا الاقتصادي الأخلاقي والسياسي معا هو سبب في الازدهار مثل تبادل السلع. صحيح أن سميث الاقتصادي السياسي يشتهر باعتقاده أن حب النفس - وليس الخير - هو ما يدفع الجزار وصانع المشروبات والخباز لتوفير الطعام والشراب لنا، إلا أن السوق في رأيه له قوة تهذيبية؛ إذ لا يوجد أي صراع جوهري في هذه المرحلة المبكرة من الحياة البرجوازية بين التجارة والعاطفة، كما هو الحال عند ديكنز وراسكين مثلا.
مع ذلك، فإن «التبادل الخيالي للمواضع» يشبه في النهاية المقامرة، فبالنظر إلى أننا نعجز عن الوصول إلى خلجات الآخرين العاطفية بسبب جدران أجسادهم المنيعة، فإن التصور العاطفي لحالتهم الذهنية لا يسعه إلا أن يكون تقريبيا، ففي الأحوال العادية لا يمكننا تكوين تصور مرئي تماما لما يشعر به الآخرون، ولا يمكننا تكوين أي فكرة عن كيفية تأثرهم بالمواقف التي يمرون بها، وهو ما يجعل التحول الخيالي ضروريا. ومهما بدا ذلك كريما فإن هذا التقمص العاطفي في حقيقته وسيلة لتعويض اغترابنا الطبيعي عن بعضنا، فهذا التماثل كما يرى سميث يستحيل تمامه، وإن كان ثمة تعاطف خارجي كاف لضمان التناغم الاجتماعي: «رغم استحالة التطابق التام فالتوافق الجزئي ممكن، وهذا هو كل المطلوب أو الضروري» (276).
مع ذلك لا يزال سميث وزملاؤه بحاجة لمنع السرور الذي نشعر به عند رؤية السعادة لدى شخص آخر من أن يبدو مهتما بالمصلحة الشخصية بدرجة مشينة. ومن الضروري بالقدر نفسه مواجهة الفكرة الأنانية القائلة إننا لا نضمد جراح الآخرين الروحية إلا لتجنب الشعور بالانزعاج عند رؤيتهم. أو لأن خيالنا يرسم صورة جلية للألم الذي سنشعر به في موضعهم، فالخيال عند هؤلاء المفكرين الذي في عصر ما قبل الرومانسية يمكن استغلاله لصالح قضية المصلحة الشخصية بنفس السهولة التي يمكن بها استغلاله لخدمة قيمة الإيثار. فالنفس والآخر، والأثرة والإيثار، وسرور النفس وألمها بسرور الآخر، وسرور الآخر وألمه لألمي، كل هذا يساهم في حميمية النظام الخيالي واغترابه.
يطرح سميث القضية التي صارت مألوفة الآن، وهي أن التعاطف يجب أن ينشأ عن تخيل الإنسان لوجوده موضع شخص آخر. ويرى كذلك - كما أشرنا منذ قليل - أن هذه العملية لا يمكن أن تكون كاملة، فمشروع تحول النفوس الكلي ينهار على صخرة حب النفس، فمن الحتمي أن يكون شعوري بسعادتك وحزنك أقل من شعورك، ببساطة بسبب حبي لنفسي. فإن كنا نشعر بعواطف صديقة بصفة أضعف من شعورها هي بها، فستوجد إذن مشكلة أكبر في التعاطف مع الغرباء. فالرجل إن كان سيفقد إصبعه الصغير غدا - كما يلفت سميث - فلن ينام ليله؛ لكنه سيتذمر إن جاءته أخبار عن زلزال ابتلع الصين كلها وأودى بملايين لا تحصى من إخوانه من البشر مثلا، أو سيتذمر على الأقل - كما يصر سميث - إن لم ير الحدث بأم عينه. وكما الحال عند هيوم، فإن الصور الحية للظواهر البعيدة هي صاحبة الأثر. والأخلاق تعتمد في النهاية على الحواس؛ فالقضية متعلقة في الحقيقة بالتصوير.
يسعى سميث لأن يتجنب الاتهام بأن السرور لسرور شخص آخر معني بالمصلحة الشخصية في الباطن من خلال طرح نظرية غريبة بعض الشيء عن التعاطف، فعندما نتصور أنفسنا مكان شخص آخر فإننا لا نشعر بما يشعر به بشخصه إن جاز التعبير، بل هي مسألة الشعور كما لو كنا موضع الآخر. إن هذه الافتراضية العاطفية أو تبدل الموقف الخيالي «ليس من المفترض أن يحدث لي بذاتي وصفتي بل بذات الشخص الذي أتعاطف معه» (323). ويكتب روسو بصورة مشابهة في عمله «إميل» عن «انتقالنا إلى خارج أنفسنا وتماثلنا مع المكروب تاركين ذواتنا - إن جاز التعبير - لنتقمص ذاته ...»
20
تقوم الأخلاق عند هذا الفيلسوف السويسري كما عند فلاسفة العاطفة البريطانيين على النزعة للشفقة والتعاطف السابقة على النزعة الاجتماعية والعقلانية، فهو شأن شعوري لا عقلي؛ إذ ليست القضية - كما يتابع سميث - أن أنظر إلى ما قد أشعر به في موضعك، وهو موقف يفتح باب المخاطرة بالتحول لأنانية، بل أن أحل محلك تماما «متبادلا شخصي وصفتي» معك فتصير تجربتي متوقفة كليا على تجربتك، «فحزني إذن لا يرجع إليك كليا، ولا يرجع إلي إطلاقا. إذن، فهو ليس أنانيا على الإطلاق» (323). وهذا ربما ما يقصد بالتقمص العاطفي لا التعاطف، وإن كان الفارق أبعد ما يكون عن الوضوح.
من الصعب مع ذلك أن نرى كيف لهذا الطرح أن يكون محكما؛ إذ إنني إن انتقلت إليك كاملا فلن يبقى هناك «أنا» باقية لتشعر بما تشعر به، فحزني لا يمكن أن يرجع إليك كلية حيث إنني لا يبقى لدي أي حزن، فتبادل الهوية معك لن يمنحني مدخلا لتجربتك، فإن صرت أنا أنت تماما، فليس من المنطقي أن أزعم أني أشعر بما تشعر به. قد نفترض حالة ما ترتبط فيها ذاتان معا فتشعر كلاهما بأحاسيس الأخرى بالضبط. ويخطر بالبال تصور فتجنشتاين الساخر لتوصيل شخصين سلكيا بآلة ليشعر كلاهما بنفس الألم. (لكن بأي شكل يكون نفس الألم؟) إلا أن طرح سميث كان طموحه أبعد من ذلك؛ لأنه إن تقمص فرد شخصية فرد آخر بصورة كاملة فإننا لن يمكننا أن نتحدث بعدها عن ذاتين اثنتين مختلفتين مهما كانتا متقاربتين، فمفهوم التعاطف ينهار بالكلية عند المبالغة فيه إلى الدرجة القصوى. إنه لغز طرحته قصيدة «قصيدة إلى عندليب» التي نظمها كيتس التي فيها ينتفي الفرق بين كائنين حيين عبر تقمص عاطفي يبلغ في حدته أن يتصور إغراء عدم الاكتراث بالموت.
إن الجهد المنطقي المبذول في طرح سميث خانته التناقضات العديدة الموجودة في عرضه؛ إذ يكتب: «رغم أن التعاطف يقال - على نحو صحيح - إنه ينشأ عن التبادل الخيالي في المواقف مع الشخص المعني في الأصل، فإن هذا التبادل الخيالي ليس من المفترض أن يحدث لي بذاتي وصفتي بل في ذات الشخص الذي أتعاطف معه» (323). لكن كيف يمكن لشخص أن يصبح شخصا آخر دون المعاناة من ذاك التحول الكبير الذي هو تصفية النفس؟ ويتابع سميث الذي لم توقفه تلك العقبة ليصر على أنه «من أجل أن أدخل في حزنك فإنني لا أنظر إلى ما سأعانيه وأنا بشخصيتي ومهنتي إن كان لدي ولد وهو على وشك أن يموت بكل أسف، بل أنظر إلى ما سأعانيه إن كنت حقا مكانك ...» (323). إذن لا تزال ثمة «أنا» منفصلة يدور الحديث عنها هنا، إلا أنها لا تكاد تظهر إلا وتختفي من جديد: «فأنا لا أتبادل الظروف معك فحسب، بل أتبادل الذات والشخصية» (323). فتأملي لما سأعانيه - إن كنت مكانك - ليس كأن أسكن شخصيتك. ماذا إذن عن التحذير من أن أي تطابق تام مع مشاعر شخص آخر يفوق قدراتنا؟
ثمة مفارقة تتسم بها فكرة التعاطف؛ حيث إنها تتضمن الدخول في تجربة شخص آخر مع الاحتفاظ بقدر كاف من القدرة العقلانية الخاصة بالفرد نفسه لتقييم ما يجده فيها، فالمسافة الإدراكية التي تتطلبها مثل هذه الأحكام تتعارض مع جوهر الأخلاق الخيالية. لا يمكن للتعاطف أن يكون تلقائيا بالكامل؛ إذ يحتاج لمعرفة حيثيات الشيء الموجه إليه، فيبدو أنه يقسم النفس إلى اثنين، حيث يدخل نصف في الشيء الآخر بينما يبقى النصف الآخر في الخلف ليقيم النتيجة. إلا أن هذا طرح فاتر جدا بالنسبة إلى سميث الذي يتصور كما رأينا شكلا أكثر تشددا من التجرد الذاتي ؛ إذ يقر بأن الفكر والقدرة على إصدار الأحكام يؤديان دورا حيويا في عملية التبادل العاطفية كلها، فمن دونهما لن نتمكن من التعرف على الآخر من الأساس فضلا عن تسمية ما يشعر به. لكن هذا يبدو غير متسق مع حلمه بالتعاطف الكامل الذي تبدو فيه قدراتنا العقلية ممحوة. يتميز هيوم - الذي رأى أن فكرة الإسقاط الذاتي الخيالي في شخص آخر لا أساس لها - بالفطنة أكثر من سميث بكثير في هذه المسألة؛ إذ يشير إلى أنه حتى إن كان الإسقاط الذاتي هذا ممكنا، «فلا يمكن للخيال أيا كانت سرعته أن يعيدنا فورا إلى أنفسنا ويجعلنا نحب الشخص ونقدره باعتباره شخصا آخر.»
21
كما يجب أن يوظف الفكر من البداية؛ بمعنى أن التعاطف الحقيقي يتطلب بعض المعرفة بالسياق، فعندما نقول «أعرف شعورك» فإننا نقصد عادة «أدرك أن عاطفتك هذه عاطفة امتعاض شديد.» كما أننا نشير ضمنا إلى أننا نعرف شيئا عن الظروف التي سببت هذا الشعور في المقام الأول، وربما نقول إنه شعور مبرر. يعلق سميث بأننا عند رؤية إنسان آخر في كرب فإننا «نشعر بنفوره واشمئزازه من الشيء الذي سبب كربه» (288). إلا أنه يصر في موضع لاحق على أننا لا نتعاطف مع قاتل يقف أمام المشنقة. وليس صحيحا - كما يزعم العاطفيون عادة - أن سرور الآخرين يشعرنا دائما بالرضا، أو أن كربهم مصدر ألم دائم لنا في كل الأحوال، فالمسألة ليست مجرد الفرح لمصيبة الغير، بل هي أيضا مسألة تتعلق بالظروف. وهي نقطة أدركها سميث بصورة أكبر من زملائه؛ فقد نظن أن بؤس شخص ما مستحق أو أن حسن حظه غير مستحق بدرجة تثير الغضب، أو أن حزنه فيه استعراض مشين؛ فالأحكام الأخلاقية تتعلق برفض تعزيز الحالة العاطفية للآخرين بقدر الإسراع لتدعيمها؛ فالتعاطف لا يحمل قيمة في ذاته، فليس ثمة مكافأة لمن يتعاطفون مع لذة مرتزقة غارقين في نوبة قتل. ولم يكن هيوم وهتشسون ليتصورا وجود هذه المكافأة؛ فالأفعال النافعة عندهم هي ما تثير الاستحسان والابتهاج لدينا. لكن ثمة تحيز لصالح الاستجابات التلقائية في ضوء هذه الأخلاق الخيرية، وهو ما يتسم بالعاطفية بالمعنى الحديث للكلمة؛ إذ لا يمكننا مدح الحالات النفسية أو ذمها قبل أن نعرف أسبابها وسياقها، وفي سبيل هذا نحتاج لما هو أكثر من حدس داخلي.
يولي سميث أهمية كبيرة لنظرة الآخر، فهو مولع بنظرتي لما يراني عليه الآخرون، وهو ما قد نسميه من الناحية المتخصصة الأنا المثالية، تماما مثلما يسعى الآخرون لأن ينظروا إلينا بأعيننا، تصير أعينهم مرايا تعكس لنا مشاعرنا من جديد. ويرتبط هذا التبادل للنظرات بما يسميه فالتر بنجامين بالهالة، وهي تشمل من بين أشياء أخرى الإحساس بالأشياء وهي ترد إلينا نظراتنا. وهي تتعارض بهذا المحمل مع حقبة الإنتاج الميكانيكي التي لا ترتد فيها نظرتنا إلينا عادة: «إن ما يعتبر لا إنسانيا بالضرورة - بل الأقرب إلى الموت - في التصوير الداجيري» كما كتب «هو الإمعان (المطول) في آلة التصوير، حيث تسجل آلة التصوير مظهرنا من دون أن ترجع لنا نظرتنا. لكن النظر إلى شخص يحمل في طياته توقع لأن يبادلنا من ننظر إليه النظر. وعندما يتحقق هذا التوقع ... فإننا نلمس هذه الهالة إلى أبعد مدى.»
22
فالأشياء ذات الهالة، كما الورد في «الرباعيات الأربعة» لتي إس إليوت، تتخذ شكل الأشياء المنظور إليها. ويجد موريس ميرلو-بونتي أعمق معاني النرجسية في إحساس الرسام بأنه ينظر إليه من خلال الأشياء التي يرسمها.
23
وظل الفيلسوف فيشته طوال حياته أسيرا لفكرة النظرة التي ترى نفسها. ويكتب بول فاليري عن المدركات في الأحلام قائلا: «إن الأشياء التي أراها تراني بقدر ما أراها.»
24
ينطبق هذا أيضا عند بنجامين على السلع التي تبادل نظرة كل زبون محتمل في حب بينما تحتفظ بلا مبالاة باردة تجاههم جميعا، فهي تكشف - شأنها شأن كل الأشياء ذات الهالة - عن التداخل بين الغيرية والحميمية؛ إذ تخلط بين إغراء ممثلات الإغراء الشهيرات بعيدات المنال وتوفر العاهرة الفوري. ويعلق بنجامين قائلا: «كلما زادت المسافة التي يجب على النظرة أن تقطعها، زادت قوة السحر المنبعث منها.»
25
لقد رأى برتولت بريخت - الذي نأى بنفسه تماما عن مثل هذه المفاهيم الخيالية - أن هذه الفكرة شديدة البغض؛ إذ يكتب في يوميات عمله: «إن بنجامين هنا ... يقول: عندما تشعر بنظرة موجهة إليك، وإن كانت من وراء ظهرك، فإنك تبادلها (!) ... فهي روحانية مطلقة في وضعية تنافي الروحانية، إن تلك هي الصورة التي يتبلور بها المفهوم المادي للتاريخ! إنه لأمر شنيع.»
26
ولا شك أن بريخت رأى أن بنجامين إما أطال صحبة صديقه القبالي جريشوم شولم أو أنه بالغ قليلا في تجاربه على مخدر الحشيش.
إن سياج النظرات الخيالي عند لاكان به صدع يرجع لنقص ما، وهو حقيقة أنني لا يمكنني أن أنظر إلى الشخص من حيث ينظر هو إلي.
27
وبذلك تصير النظرة تفاعلا بين النور والظلمة، تلطخ فيه شفافية النظام الخيالي بتدخل النظام الرمزي بعلاقاته اللاتبادلية المجهولة؛ إذ تخون غموض الجمهور الحضري عند بودلير الذي ليس فيه كما يعلق بنجامين «من هو شفاف تماما ولا من هو معتم تماما أمام الآخرين كلهم.»
28
ويشير بنجامين إلى أنه في شعر بودلير «التوقع الذي ينشأ عن نظرة العين لا يتم إشباعه»، وهو ما يعني أن النظرة - التي تنتظم من جديد حول نقص جوهري - تقطع كل المسافة عبر الشيء المنظور في هذا السعي المضني نحو وفرة مفقودة وهي الرغبة. إن رغبتنا في لغة لاكان ليست في الآخر وإنما في الآخر الكبير، وكما يشير بنجامين على طريقة لاكان: «اللوحة التي ننظر إليها تعكس لنا ما لا تشبع منه أعيننا أبدا.»
29
إن تبادل النظرات الذي شغف به آدم سميث له طابع خيالي، إلا أنه يعد أيضا نوعا معينا من عدم التماثل؛ وحيث إن الآخرين - كما رأينا - أقرب لأن يكونوا أقل حزنا أو فرحا بمشاعرنا منا، فنظرتهم المنعكسة يمكنها أن تلطف من مشاعرنا نحن، فتسرب إليهم نوعا من السكينة. فنحن نرى أنفسنا - كما في النظام الخيالي - من الداخل ومن الخارج في آن واحد، وإن لم تكن الرؤيتان متطابقتين تماما. ونحكم على أنفسنا من خلال أعين الآخرين أو الأنا المثالية؛ لذا يظهر على سلوكنا دائما خليط ما من الغيرية. ويمثل ذلك أصل الأخلاق ذاته؛ فالإنسان الوحيد تماما - كما يلمح سميث - لن يملك أي مشاعر أخلاقية بالمرة؛ حيث إنه لن يتمكن من رؤية صفاته من الخارج أكثر من إمكانه رؤية وجهه. (وهو يتحدث على الأرجح عن إنسان «همجي» وليس عن ناسك لديه مرآة جيب.) ثم يضيف: «ضعه في مجتمع وستتوفر له فورا المرآة التي أرادها من قبل» (298). إن هذا في المقابل، عين ما يراه جان جاك روسو مرعبا. إن «الهمجيين» في نظر روسو يتمتعون باكتفاء ذاتي يثير الإعجاب، بينما المتحضرون يعتمدون على الآخرين اعتمادا يثير الاشمئزاز. إن كون رغبتنا هي رغبة الآخر الكبير - أي أننا لا نعيش إلا تحت ناظري أقراننا - هو ما يراه روسو عين الضعف، فالحياة الاجتماعية عنده علامة على ضعفنا، والأخلاق هي النتيجة المضنية لعدم وجودنا بمفردنا، ومثل الجحيم عند سارتر؛ فالأخلاق هي الآخرون.
يكتب سميث: «إن كل ملكة لدى الفرد هي المقياس الذي يحكم به على الملكة المشابهة في غيره ...» حيث إننا نقيس «ملاءمة مشاعر الآخرين أو عدم ملاءمتها باتفاقها أو اختلافها مع مشاعرنا» (271)؛ لذا يبدو أن الحكم الأخلاقي ذا طابع دائري مقلق؛ حيث إنني أحكم عليك مقارنة بنفسي وأنت تحكم على نفسك بحكمك علي. وسيبدو كل شخص - إذا اتبعنا الأسلوب السفسطائي - مقياسا لكل الأشياء. ولإيقاف هذا الخلل النسبوي، يقول سميث إن «ملاحظاتنا المستمرة لسلوك الآخرين يقودنا دون وعي إلى أن نضع لأنفسنا قواعد عامة معينة فيما يخص ما هو يصح ويليق فعله أو تجنبه» (303). إذن، فالقواعد العامة لها موضع محدد، طالما أنها استنباطات من سلوكنا المعتاد، وليست - على نحو عقلاني - مبادئ بديهية يمكن منها استنتاج السلوك الخاطئ أو الفاضل. هذه القواعد ما هي في الحقيقة إلا تنقيح ل «مشاعر الإنسانية المتكررة» (305)، إلا أنها تمارس علينا قوة كبيرة مع ذلك، فهي تعمل عمل الآخر الكبير المحايد، أي حكم مثالي على سلوكنا الذي نعيه دوما.
إذن، فأفعالنا عند سميث - كما عند لاكان - هي دائما على مستوى ما رسالة موجهة إلى الآخر الكبير. والفكرة أن هذا الحوار في رأي لاكان لا يمكن اختزاله أبدا في التبادلات الخيالية عند سميث الذي يرى أن كلا منا يحيا تحت بصر العين الكريمة للآخر الجمعي؛ إذ كيف لنا أن نعرف أننا معروفون؟ هذه ليست مشكلة في أي نظرية أخلاق خيالية، التي يكون التعرف فيها فوريا وبديهيا كمذاق المشمش. لكن في النظام الرمزي، فإن الوسيط الأساسي لعلاقاتنا مع الآخرين هي اللغة. وتثير اللغة عند لاكان احتمال سوء الفهم في هذه التبادلات، فالوسيط الذي يجمعنا يفرقنا كذلك، فالدوال التي ندرك من خلالها احتياج كل منا لأن نعرف، يستحيل خلوها من اللبس كما قد نأمل. وكذلك - في هذا الصدد - الإشارات المادية في النظام الخيالي السابق على اللغة، كالمناجاة الصامتة لوالتر وتوبي، الشخصيتين اللتين ابتكرهما ستيرن، التي تهدف لتحقيق تبادل أقل شرا من تلك المبنية على الكلمة؛ إذ إن الإشارات هي الأخرى تحتاج إلى تفسير، ومن ثم لا تتفادى علامة الدال، فلا يمكن تفادي التباس الدال مثلا بقبض اليد أو هز عصا.
يحلم مناصرو النظام الخيالي بدال واضح مفرد، علامة سحرية تختزن جوهر الفرد وتنقله بتمامه وكماله إلى فرد آخر في لمح البصر. أحيانا ما اتخذت هذه العلامة ذات المميزات الشاملة اسم الرمز الرومانسي، وإن كان اللاكانيون يفضلون تسميتها بالفالس (القضيب)؛ ولكن لأن النظام الرمزي هو نظام للمعنى، ولأن المعنى يميل لئلا يتفق مع علامته، فإن احتمال الخطأ المشترك في التعرف جزء من النظام في الأساس. إن انعدام وجود الفالس هو السبب في إمكانية وجود التراجيديا، بل في وجود التاريخ أيضا. كذلك فإن هويتي إن ارتبطت بهويتك، وارتبطت هويتك بهوية شخص آخر، وهكذا في شبكة لا متناهية من الارتباطات، فكيف لي أن أعرف ما إذا كانت نظرتك المستحسنة هي نظرتك أنت وليست أثرا مطموسا لأنفس أخرى؟ إذن، تجد أخلاق النظام الخيالي العاكسة نفسها مضطربة على يد الآخر الكبير المعتم؛ فالتبادلية الخيالية تفسح المجال للاتبادلية الرمزية. ومثلما لا يوجد وجه خارجي للنظام الخيالي الذي يلتف على نفسه بنحو يشبه الفضاء الكوني، فليس هناك جانب خارجي للنظام الرمزي هو الآخر. وبالاصطلاح اللاكاني لا يوجد آخر كبير للآخر الكبير؛ أي لا لغة واصفة تمكننا من النظر في المعاني البين-ذاتية من موقع أفضل فيما وراءها؛ حيث إن هذه اللغة تحتاج بدورها إلى أن تفسرها لغة أخرى. والقول إننا أثر للدال يعني أنه لا أساس خارجي لخطابنا المشترك، مثلما يرى آدم سميث أنه لا أساس لعالمنا فيما وراء «المشاعر البشرية المشتركة»؛ فالنظام الرمزي ينقصه الأساس بالضرورة.
يعرف «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» التقمص العاطفي بأنه قوة «اتحاد الإنسان عقليا مع الشخص أو الشيء محل التأمل (وفهمه الكامل بالتبعية)». لكن الاتحاد والفهم ليسا متلازمين بالضرورة كما قد توحي تلك الكلمات؛ إذ لا يمكنني أن أفهم نابليون بأن «أصير» نابليون. ولا يقتصر السبب، كما شرحنا، على أنه لن يبقى شخص ليقوم بالفهم، بل إن هذا يبدو افتراضا بأن نابليون قد فهم نفسه، وهو ما يفترض فيه شفافية ذاتية مستحيلة. قد يكون الفهم فعلا هو الدخول إلى عقل شخص آخر؛ لكنه وسيلة للفتح والدخول لهذا العقل اسمها اللغة، فالفهم ليس قضية الامتزاج على نحو سحري بجسد الآخر، فحتى إن حققت هذا الإنجاز فكيف كنت سأعرف ما وجدت هناك؟ فقط لأني أمتلك اللغة في المقام الأول، وهو ما كان سيوفر علي عناء هذا الاقتحام الخيالي، فالتعاطف والتفهم لا يتطلبان تصورات ذهنية للحالات العاطفية عند الآخرين، فهذه الحالات من ناحية ليست خفية من حيث المبدأ. ومن ناحية أخرى يمكنك أن تتعاطف مع إضاعتي لمخطوطة من العصور الوسطى لا تقدر بثمن دون أن تتبادر إلى الذهن أي صورة محددة للوثيقة، ودون بذل الجهد لاستنساخ ما يجري في خلجاتي العاطفية.
من الممكن بالطبع أن أتعاطف مع تجارب لم تخضها فحسب، بل مع تجارب لا يمكن أن تخوضها. ومثال سميث هو تعاطف الرجل مع المرأة أثناء الولادة، بل إنه من الممكن أن تشعر بسعادة شخص أو بكربه بدرجة أشد مما يشعر هو، وهو ما يمثل خللا من نوع ما في حلم التبادلية الكاملة. كما أن التعاطف مع ألم شخص لا يعني بالضرورة الشعور به؛ إذ هناك فرق بين أن آسف عليك وأن أشعر بحزنك. كما يمكن لحزنك أن يغمرني دون أن أشعر بأي استجابة أخلاقية معينة تجاهه، تماما مثلما يمكنني أن أشعر بالغضب دونما أن أفكر فيما إذا كان الغضب مبررا أم لا.
عادة ما يكون الذين يهرعون لمساعدة ضحايا حادث سير مثلا مشغولي البال بصورة لا تدع مجالا لأن تكون لديهم صور ذهنية لأحاسيس الضحايا المفترضة. وعلى العكس، يمكننا أن نتخيل صورا متحركة لأحاسيس الآخرين دون أدنى ميل للقدوم لمساعدتهم. ويكتب الفينومينولوجي ماكس شيلر: «من المفهوم تماما أن أقول: «يمكنني أن أتصور مشاعرك لكني لا أشفق عليك».»
30
ويحب الساديون أن يشعروا بأحاسيس ضحاياهم، فكما يشير نيتشه، إن القسوة تتطلب قدرا من الإحساس، أما الوحشية فلا تتطلب ذلك. وربما يمانع المازوخيون في مساعدة من يشعرون بالألم لأنهم يستمدون سرورا خاصا من التوحد مع آلامهم، وربما يعارضون لنفس السبب أن ترفع معاناتهم هم على يد الآخرين؛ فالقدرة المحضة على الشعور بما يشعر به شخص آخر لا ترتبط بالأخلاق أكثر من ارتباط موهبة تقليد لكنته بإتقان. كما يوجد فرق بين التعاطف بمعنى الإشفاق، والتعاطف بمعنى مشاركة شخص آخر حالته العاطفية. فإن كان لنا أن نعطي بعض التقدير للمعنى الأول فيمكننا أحيانا أن نعطي قليلا منه للأخير؛ فالكثير من الناس شديدو الحساسية وأنانيون بشعون في نفس الوقت. •••
باستثناء شافتسبري، لم يكن أي من فلاسفة الأخلاق الذين تناولناهم إنجليزيا، بل إن الإنجليز قليلون وسط هذه المجموعة كما حالهم وسط ما يسمى بالحداثة الأدبية الإنجليزية. وكل المفكرين الذي كنا نناقشهم تقريبا نشئوا من التخوم الغيلية للأمة الحضرية، وهي حقيقة قد تكون بلا أهمية؛ فالغيليون من أمثال بيرك وهيوم وهتشسون وسميث وفورديس وفيرجسون، بجانب الرموز من أمثال جولدسميث وستيل وبروك وستيرن الذين ولدوا في أيرلندا أو لأصل نصف غيلي، كانوا لا شك أكثر ميلا للافتتان بالمشاعر والخير من نظرائهم الأنجلوساكسونيين. وليس هذا لأن الغيليين أكثر ودا من الناحية الوراثية من الإنجليز، بل لأن كلا من اسكتلندا وأيرلندا تمتعتا بتقاليد ولاء راسخة تجاه العشيرة أو المجتمع.
صحيح أن علاقات القرابة والعادات الملزمة والالتزامات غير المكتوبة وما يسمى بالاقتصاد الأخلاقي، ظلت طويلا في كلتا الأمتين رهن قيود نظام من العلاقات العقدية والفردية التملكية فرضه الاستعمار. لكن بعض الجوانب من هذه الحياة التقليدية بقيت بنحو غير مستقر إلى جانب المؤسسات الحديثة، وفي ظل الاشتباك السياسي من جانب صغار مستأجري الأراضي والمنازل والعمال بذلت مقاومة شرسة لهذه الحداثة خلال عصر العقل. وتشير جلاديس بريسون في دراستها لعصر التنوير في اسكتلندا إلى أن «كثيرا من العاطفة والولاء في المجتمع القائم على الروابط الشخصية الأقدم انتقل (من خلال عملهم) إلى المجتمع القائم على الروابط اللاشخصية ... ونجد في كل كتاباتهم اهتماما كبيرا بالتواصل والتعاطف والمحاكاة والعادات والتقاليد ...»
31
ويوجد مثال معاصر على هذه الشواغل ذات الطابع الغيلي في أعمال الفيلسوف آلاسدير ماكنتاير، وهو فيلسوف انتقل خلال سعيه وراء هذه القيم في حياته من المسيحية إلى الماركسية ومن الماركسية إلى الكاثوليكية والجماعاتية؛ إذ ينتمي نقد ماكنتاير لعمومية التنوير إلى تراث ما يمكننا أن نعتبره الخصوصية القومية في كل من اسكتلندا وأيرلندا؛ أي إصرار المفكرين القوميين على الخصوصيات التاريخية لهذه الثقافات، ومقاومتهم لعقلانية معينة لا تهتم بالمكان، ورفضهم للتكيف مع مبدأ مفترض كوني (لكنه ببساطة حضري في الغالب).
32
ربما نظن أن تشكك ماكنتاير في المبادئ الكونية التنويرية، إلى جانب اعتياده رد المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية إلى سياقاتها التاريخية، لهما نكهة غيلية معينة.
يقول جون دواير إن الرغبة الاسكتلندية في بناء اقتصاد حديث، التي كان مشاهير من أمثال هيوم وسميث من مؤيديها الواضحين، كانت حريصة مع ذلك على الاحتفاظ بدرجة من السلامة الوطنية، واحتفظت بتشكك تقليدي تجاه النظام التجاري غير المقيد؛ إذ يكتب: «كانت النزعة الاجتماعية، وليست الفردية، هي العنصر المحوري في التعريف الاسكتلندي للإحساس؛ حيث يصير مفهوم الإحساس الكلي بديلا لنظام اجتماعي مبني على المصلحة الشخصية.»
33
ويرى توماس بارتليت أن «من بين السمات المميزة للحياة الريفية الأيرلندية، بدءا من العقد السابع للقرن الثامن عشر، كان بروز ظاهرة النزعة الاجتماعية، والضغط المتزايد للاندماج الاجتماعي لأغراض متنوعة.»
34
وأدت النظرية السياسة القائمة على العاطفة، والمعروفة بالقومية، دورا محوريا في هذا التضامن الريفي؛ حيث طوع المنشقون السريون المسلحون الحانات والأعياد والحانات غير المرخصة والمعارض والأسواق وتقاطعات الطرق لخدمة أهدافهم الهدامة.
قد يزعم أحدهم أن الخير والحس الأخلاقي يمثلان نوعا من المجتمع القائم على الروابط الشخصية للروح التي لا تزال تترعرع في مجتمع الحياة التجارية اليومية القائم على الروابط الرسمية. فعلى أي حال، كانت الحياة في مقاطعة كيري أو أبردينشير النائية نوعا ما أمرا مجهول الإدارة أقل عقلانية من نظيرتها في العاصمة الإنجليزية. يقول آلاسدير ماكنتاير: إن إيمان عصر التنوير في اسكتلندا بوجود مخزون من المبادئ الأولى البديهية له أصل في النبع المشترك للمعتقدات المسلم بها في الأنظمة الاجتماعية فيما قبل الحداثة.
35
فالمجتمع الإنساني عند المنورين الاسكتلنديين شيء طبيعي بالنسبة للأفراد، فهو يعد امتدادا لقرابة الأهل، وهو معتقد مقبول بدرجة كافية في المجتمعات التي تكون العلاقات الشخصية والجنسية والاجتماعية والاقتصادية فيها أصعب في التمييز منها في المناطق الحديثة؛ فالزواج والنشاط الجنسي مثلا لا يزالان مرتبطان في مثل هذه الأحوال بالممتلكات والقدرة على العمل والمهر والمعتقد الديني والميراث والهجرة والرفاهة الاجتماعية. وربما السبب في ذلك أن الأسرة في أيرلندا لم تكن منعزلة تماما عن المجتمع بحيث استطاعت رموز مثل بيرك - الذي التحق بمدرسة ريفية بسيطة في مقاطعة كورك في صغره - تقديمها باعتبارها صورة للوحدة القومية إلى إنجلترا التي كانت ترعبها فكرة الثورة. ومن هذا المنطلق صار المجتمع الغيلي القائم على الروابط الشخصية يخدم أهدافا مدنية.
ليس غريبا إذن أن ثقافة الإحساس ينبغي أن تتسرب إلى الأمة الاستعمارية بصفة أكبر من تخومها الأقل حداثة؛ فالإنجليز - كما في حماسهم غير العادي لكلمات توماس مور المعسولة - يستحضرون الشعور الحزين أو المشوق أو السوداوي من امتداداتهم الاستعمارية؛ حيث يوجد فعلا الكثير مما يسبب الشعور بالسوداوية. قد تكون فكرة الالتزامات غير المكتوبة طريقة لوصف حقوق المستأجرين مثلا في أيرلندا في القرن الثامن عشر؛ لكنها تساعد كذلك على تصوير الأفكار الأخلاقية للمدرسة العاطفية التي تكمن القوانين بالنسبة لها في آداب الشعور وأساليبه، ولا تحتاج للتصريح الفظ بها. وكذلك الحال بدرجة كبيرة عند شافتسبري الذي كان يحارب - باعتباره أرستقراطيا ينتمي للتقليد الأفلاطوني الجديد - الانحطاط الأخلاقي للإنسان البرجوازي. وفي ظل اتصاله بهتشسون، يتحد الشريف الإنجليزي مع الغريب الغيلي معا في جبهة واحدة ضد أيديولوجيات العقلانية منعدمة الشعور، مثلما كان أوسكار وايلد نبيلا إنجليزيا وغريبا غيليا في جسد واحد.
كان أعظم فلاسفة القرن الثامن عشر الأيرلنديين، الأسقف بيركلي، إنجليزيا أيرلنديا وليس غيليا أيرلنديا؛ إلا أن فكره يدين بصورة شبه مؤكدة لعالم الميثولوجيا السلتية، برؤيتها للكون على أنه نوع من الخطاب الروحي العظيم ومجموعة من القوى أو التجليات التي يعرف بها الرب نفسه لمخلوقاته من خلال الإشارات والصور. وقد كتب بيركلي: «إن ظواهر الطبيعة لا تقتصر على كونها آية رائعة، بل تمثل أيضا خطابا يتسم بأقصى درجات الوضوح والإمتاع والتوجيه ...»
36
فنحن باكتشافنا للعلاقات بين الأسباب والنتائج مثلا نتعلم لغة الطبيعة، فالكون كله نوع من الإشارة السيميائية الإلهية، فالأشياء في نظر بيركلي دالة على الرب، وشأنها شأن أي لغة فهي لا تسكن إلا في إدراك الإنسان؛ فهي تتحد في طور خيالي مع حضورها أمام مدركيها؛ فالشيء والدال عنده متطابقان، مثلما يوجد اتحاد بين الدال والمدلول في النظام الخيالي.
من اللافت في هذا الصدد أنه عندما يأتي فريدريك جيمسون لوصف النظام الخيالي عند لاكان يستخدم تلقائيا لغة بيركلي؛ حيث يتحدث عن «انعدام الفرق بين جوهر «شيء» وصورته المدركة التي ليس لها مدرك.»
37
فالأشياء في عالم بيركلي المتمحور حول الإنسان لا توجد إلا إذا كانت (بعبارة هايدجر) «بين أيدينا»، مقدمة إلينا، متمركزة بلا حيلة حول البشر. وينغمس في مقال خارج نطاق عمله بعنوان «اللذات، الطبيعية والخيالية» في تصور طريف بأن العالم خلق من أجله هو شخصيا: «إن الأشياء المختلفة التي يتألف منها العالم تكونت بصورة طبيعية لتمتع حواسنا ... لذا، فمن المألوف لدي أن أعتبر نفسي ذا ملكية طبيعية لكل شيء يسبب لي السرور ... فإن لي ملكية في الجزء الزاهي من كل العربات المذهبة التي أراها، التي أعتبرها ملذات صنعت لتمتع عيني ...»
38
وفي نوع من المحاكاة الساخرة المسلية لنظريته المعرفية، فإن كل الأشياء يكمن جوهرها في تلذذه هو بها، كما قد يتصور عنها عند الطفل أمام ثدي أمه.
يصمم بيركلي، شأنه شأن عدد من علماء اللاهوت الأيرلنديين في القرن الثامن عشر، على معارضة التبعات اللاهوتية لمذهب التشكيك التجريبي، وهو مذهب تشكيك هدد بهدم مذهب كنيسة أيرلندا التي كان هو نفسه أسقفا لامعا فيها؛ ومن ثم السلطة الاستعمارية الأنجلو أيرلندية التي كان عضوا فيها هي الأخرى. ورده الفلسفي على هذا الخطر هو نسخة براقة من المثالية التي مثلت التيار الرئيسي للفلسفة الأيرلندية من جون سكوتس إريجينا حتى ويليام باتلر ييتس. ولم يكن للعقلانية والتجريبية الإنجليزية أكثر من وجود سطحي في الجزيرة المجاورة، لعوامل ليس أقلها تراثها اللاهوتي، فإن كان مذهب لوك التجريبي يصنع فجوة بين الشيء والمفهوم تتعرض فيها المعرفة الحقيقية لخطر الاندثار، فإن بيركلي يسعى لرأب هذا الصدع بإعادة تعريف الظواهر ذاتها بأنها ليست سوى عقد من البيانات الحسية. إذن، فليس المقصود بهذه المثالية إنكار وجود الأشياء بل إعطاءنا سبيلا إليها لا عائق أمامه. وخلال ذلك، يدفع بيركلي بمنطق التجريبيين إلى حده الأقصى الذي ينهار عنده؛ فهؤلاء الفلاسفة الإنجليز بينما يزعمون أننا يمكن أن نعرف جوهر الأشياء، فهم يؤكدون في الوقت ذاته أن المعرفة كلها مجرد بيانات حسية، والبيانات الحسية علامة على جوهر الشيء وليس الشيء نفسه.
إن السر الكبير الذي يكشفه بيركلي بزهو، كما الطفل الذي يعلن في سذاجة عن تعري الإمبراطور في قصة هانز كريستيان أندرسون «ملابس الإمبراطور الجديدة»، يكمن في أن ما تخفيه مظاهر الأشياء هو حقيقة أنه لا شيء وراءها؛ لذا فهي من ثم ليست مظاهر على الإطلاق، وأن هذا القلب الجامد الذي نسميه «الجوهر» واه كما الخيال. فإن كان الرب موجودا في قلب كل شيء، وإن لم يكن الرب (عند بيركلي بقدر إريجينا) ذاتا على الإطلاق بل مجالا ساميا غير محدود من العدم المطلق، إذن فإن ما يوجد الظواهر هو نوع من اللاوجود أو العدم اللامتناهي؛ فالعالم - كما عند القديس أوجستين - يمتلئ بالعدم من أقصاه إلى أقصاه. فالقول إن الأشياء عديمة الجوهر يعني القول إنها عبارة عن الشكل البليغ للإله؛ فالرب - العدم المطلق - له نفس أصلها، فالشيء الصغير المراوغ المعروف بالجوهر ما هو إلا شيء وهمي يملأ فضاء النظام الواقعي، وهو ما يعني عند بيركلي الوجود الذي لا يطاق للرب. وبما أن الرب لن يكون له وجود ملموس على الأرض من دون فك رموز خطابه المتمثل في عملية الإدراك الإنساني، فوجودنا ذاته ضروري على النحو الموجود في النظام الخيالي، ومحتمل في النظام الرمزي، فنحن والعالم موثقان معا، وإن في تجربتنا الحسية المباشرة، كما عند الطفل الصغير، يتشكل هذا الوثاق. ومن هذا المنطلق، تعد رؤية بيركلي رؤية خيالية بصفة كبيرة؛ لذا ليس من الغريب، في ظل ما قلناه بالفعل عن هذا الموضوع، أن يظهر بيركلي في بحثه «نظرية جديدة في الرؤية» كمفكر فينومينولوجي قبل ظهور المصطلح، منشغل بشدة مثل مواطنه بيرك بالجسد والبديهة الحسية والتناسب بين أعضاء الحس. ورصد بعض المعلقين في تجنب كلا المفكرين للأفكار المجردة ولعا غيلي الصبغة بالتحديد بما هو مادي.
لم يصمد مفهوم الخير الذي كان سائدا في القرن الثامن عشر أمام ظهور جيريمي بنثام؛ فمع دخول مجال العاطفة بالتدريج إلى نطاق الملكية الخاصة، فقد القدرة أكثر وأكثر على توفير نموذج للمجال العام، بل هجر مفهوم الخير الفلسفة الأخلاقية وسكن في ذلك المبحث الأخلاقي الذي نعرفه بالأدب الواقعي. ولن نبالغ إذا ادعينا أن الوريث الأكبر لشافتسبري وهتشسون هو تشارلز ديكنز. كانت الرواية وقتها تمثل أقوى ترياق للأنانية البشرية، بهيئتها المتعددة الأصوات بقدر محتواها الإنساني، فإنجلترا الصناعية الرأسمالية أكثر تشابكا وعتمة من ملهى في مدينة وايتهول؛ لكن الرواية أداة ذات حساسية لا مثيل لها لسبر أغوار العلاقات الباطنة والروابط المحيرة. أو أداة لإبراز تجربتنا وتوسيع اتصالنا بأقراننا من البشر فيما وراء حدود حياتنا الشخصية، وذلك كما تقول جورج إليوت في مقالها «التاريخ الطبيعي للحياة الألمانية»؛ فهي إذن ترياق للنظام الخيالي وللمصلحة الشخصية. إن الرواية - قبل كل شيء - هي ما يمكننا من خلالها أن نسبغ صورة خيالية على تلك المناطق المغمورة من الحياة الاجتماعية التي تمتد فيما وراء تجربتنا الشخصية، وأن نستحضر خلال ذلك إحساسا بالألفة مع الآخرين المجهولين لنا. والعدوان اللدودان لهذا الجنس الأدبي هما الأنانية والهوية المجهولة؛ إذ توجد أسباب ملحة سياسيا وأسباب إنسانية تثير الإعجاب وراء إثراء العواطف هذا، فالمجتمع الذي لم يعد قادرا على فهم نفسه باعتباره مجتمعا من المشاعر عرضة لخطر الصراع والانقسام.
لكن - ومع إبعاد العاطفة بصورة متزايدة عن المجال العام، وإعادتها إلى الدائرة الخاصة ليكون محلها وسط مجموعة من غريبي الأطوار الطيبين والشواذ اللطفاء - بدأت تنمو بصورة غير صحية ومستهلكة للذات. ليست مصادفة أن يبلغ تيار العاطفة أوجه وسط طواحين الفيكتوريين الشيطانية المظلمة؛ فالرحلة الشاقة من براونلو الكريم في رواية «أوليفر تويست» إلى المتأنق هارولد سكيمبول في رواية «البيت الموحش» هي رحلة من دفاع مؤثر عن الشعور إلى إدراك محبط بأنه قد يكون جزءا من المشكلة بقدر ما هو جزء من الحل.
هوامش
الجزء
سيادة النظام الرمزي
تمهيد: النظام الرمزي
يعد الانتقال من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي انتقالا من الدائرة المغلقة للأنا وأشيائها إلى المجال البين-ذاتي المفتوح.
1
إن الأخير هو الذي يمنحه لاكان اسم الآخر الكبير، فالإنسان، بعد نزعه من حالة الارتباط بالآخر/الأم مع ظهور الاختلاف في صورة اسم الأب، يجب أن يتخلى عن استمتاعه بجسد الأم في ظل ألم الإخصاء، فعليه أن يدفن هذه اللذة القهرية، من أجل أن يحتل مكانه في بنية الأدوار والعلاقات التي يسميها لاكان بالنظام الرمزي. من الممكن القول إن وظيفة النظام الرمزي، مثل سر التناول المسيحي، هي تحويل اللحم والدم إلى رمز، فالذات يفترض بها الآن أن تتطابق مع مكانها ذي الدلالة في إطار الشبكة المسبقة للعلاقات الاجتماعية.
ولكن - وبما أن مصدر الإشباع صار محرما على الذات الآن - فسيصيبها الفراغ نتيجة هذا المنع، وتتحول إلى اللاوجود الدائم الذي نعرفه بالرغبة. وفي بحثها عن الإشباع، تنقسم الذات وتتشتت، وتتعثر في رمز أو شيء تلو الآخر، في سعي مصيره الفشل نحو اكتمال للوجود مستعص دائما، اكتمال ليست هذه الرموز أو الأشياء في ظله سوى بديل. وبما أنه لا يوجد دال فوقي - أي لا كلمة تعبر في كشف إعجازي ما عن كينونة الذات ككل - فإن الذات تتفلت من خلال الفجوات بين الدوال المختلفة؛ فالذات قد تعي هذا المعنى المحدد أو ذاك؛ لكن على حساب خسارة كارثية لكينونتها؛ إذ يمكنها أن «تعي» معنى ما؛ لكن ليس إلا على حساب تلاشي وجودها «الكامل» من خطابها ذاته، فلا يوجد دال يمكن أن يمثل على نحو ملائم الذات التي تستخدم الدوال ولا المكان الذي يفعل هذا منه.
إذن، فالذات مستبعدة من سلسلة الدلالة وممثلة فيها في نفس الوقت؛ فلأنها لا يمكن أن تكون حاضرة بالكامل أمام نفسها، فلم يعد من الممكن أن تعرف بصفة مباشرة أفضل من مصطلح كانط سيئ السمعة «الشيء في ذاته»، فلا يمكن رصد وجودها إلا سلبا، أي في النقص الذي يكمن في قلب اللغة. ومن هذا المنطلق فإن دخول الذات إلى النظام الرمزي هو نوع من السقوط السعيد؛ إذ لا يمكنها أن تثبت هويتها من سبيل مختلف، إلا أن الثمن الذي يجب أن تدفعه مقابل هذه الهدية الثمينة يشوهها لبقية حياتها كما هو حال أوديب، فعليها أن تبحث عن هويتها لا في مرآة نفسها، بل في ظل اختلاف، في ظل حقيقة أن كل موضع في النظام الرمزي (الأب والجدة والأخ والأخت وغير ذلك) تشكله علاقاته مع المواضع الأخرى، كالكلمة التي لا تكمن أهميتها سوى في موضعها في سلسلة من الاختلاف. لا يعني هذا أن عالم النظام الخيالي قد هجر تماما، فالذات - على العكس - صارت منقسمة بين الأنا، بكل روابطها النرجسية بالأشياء، وحقيقتها - باعتبارها كائنا دالا - التي تكتسبها من خلال تسليم نفسها إلى الآخر الكبير، أو مجال اللغة في مجمله، فعليها تقبل أن حقيقتها تكمن في إبقاء الآخر الكبير، لا فيما تؤكده في تضليل عن نفسها. وبما أن الوصول الكامل إلى الآخر الكبير متعذر، فكذلك الحال مع حقيقة هويتها الخاصة؛ إذ لا يمكنها أن تتأكد من أن كينونتها أمام نفسها تتفق مع كينونتها أمام الآخر الكبير. إن اللاوعي يولد في هذا التفاوت أو اللبس؛ فكينونتي ستظل تتجاوز حدود إدراكي.
لا يحدث أي من هذا دون عناء، فوجود الذات يعني كذلك أن نتشكك في مكاننا في نظام الآخر الكبير، وأن نجد أنفسنا غير منسجمين معه، وأن نرفض أن ننخدع بالرسائل المبهمة المشوهة المعقدة التي يرد بها على تساؤلاتنا الملحة («من أنا؟» و«ماذا أفعل؟» و«ماذا تريد مني؟») فنحن لا نألف تماما هذا النظام المجهول الهوية، و«الفائض» بداخلنا الذي يعجز الآخر الكبير عن استيعابه هو نفسه جوهر ذاتيتنا، فالنظام الذي يكون الذات يقصيها كذلك؛ لذا فإن ما نمر به عندما نصل إلى ما نحن عليه هو نوع من الاغتراب الذاتي. لكن إن كان جوهر الذات غريبا ومستغلقا جدا، فهنا بالتحديد تجد الذات نفسها متماثلة مع نظام الآخر الكبير غير المفهوم هو الآخر.
لا يقتصر النظام الرمزي على الاختلاف بل يتعداه إلى الإقصاء والمنع، فلا يمكنك مثلا أن تكوني ابنة وزوجة لنفس الرجل، فهو عالم من القواعد والتشريعات، على عكس طبيعة النظام الخيالي المتعددة الأشكال؛ فروابط النظام الخيالي المباشرة تفسح المجال للقوة اللاشخصية للقوانين الكونية، بينما تفسح المعرفة البديهية المجال للمعرفة غير المتوقفة على الذات وهي العلم أو النظرية، «فالمضمون» - جسم الأم - عند الطفل الأوديبي يجب أن يأتي ثانيا بعد «الشكل»، قانون أبوي لا يتمثل إلا في منع أجوف؛ لكن فقط بالخضوع لقانون الإخصاء هذا أو الأنا العليا يمكن للفرد أن يحتل مكانا ذا دلالة في نظام القرابة؛ ومن ثم يصبح ذاتا؛ فالعقدة الأوديبية تعاد صياغتها في إطار سيميائي؛ إذ إن الذات لا يمكنها أن تكون مستقلة باعتبارها كائنا متحدثا فاعلا مستقلا في الظاهر إلا من خلال وضع قيود صارمة على نفسها وكبت رغبتها المحظورة وهجر متعتها في شعور بالذنب. فالمتعة أو الاستمتاع بجسم الأم - كما يبين لاكان - محرم على الذات؛ فالذات منقسمة إذن بين القانون والرغبة، وإن كان يتوارى في قلب النظام الخيالي، كما سنبين لاحقا، جدل معلق بين الاثنين يعرف بالنظام الواقعي.
إن دخول النظام الرمزي يعني الخضوع للنفي نوعا ما، فعلاقتنا بالعالم لم تعد تتمتع بفورية الخيالي «الزائفة» بل يتوسطها الدال من كل الجوانب. وهذا يتضمن استنزافا معينا للواقع؛ حيث إن الدال نوع من الإخصاء، نصل قاطع يفصلنا عما هو واقع. فبدلا من تصور إحكام قبضتنا على الأشياء الفعلية، علينا أن نرضى بمدلولاتها الوسيطة التي تعرف باللغة، فالرمز - كما يبين لاكان - هو موت الشيء؛ حيث إن سيادة الدال تفرض «تلاشي» الذات الكاملة. فالتكلم - وهو ما لا يعدو إلا انتقالا أجوف من دال إلى آخر - يعني من هذا المنطلق انتظار الموت، حيث يمثل لا وجود الذات نذيرا بفنائها في نهاية المطاف. وربما يكون ذلك أحد معاني عبارة القديس بولس: إنا نموت في كل لحظة. إن الدوال قاصرة في جوهرها؛ فحيث إن المعنى ناتج عن الاختلاف، يتوجب وجود دالين اثنين على الأقل لإنتاج معنى واحد. وبما أن هذين الدالين يتضمنان دوال أخرى عديدة، فإن العملية كلها معقدة، ولا يمكن حصرها شأنها شأن الرغبة ذاتها.
كما أن هذه ليست علامات أو أصوات ابتدعناها بأنفسنا؛ فلكي تعبر الذات عن معنى، عليها أن تبني على المخزون أو المستودع الهائل للرموز والقواعد والدوال الذي يسميه لاكان بالآخر الكبير؛ لذا فهي لا تعبر عن معنى إلا بعد فترة وبوجود وسيط، باستخدام الدوال التي تبلورت من مقاصد الكثير من الآخرين المجهولين. فكل دال كاللوح المكتوب عليه أكثر من مرة، فحاجتي إلى أن يعترف بتميزي كذات تتداخل مع وسيط ليس لأي منا ملكية له، وله منطقه الخاص بصفة مستقلة عن إرادتنا، و«يعبر» عني أكثر مما أعبر عنه؛ فالدال هو ما يصنع الإنسان وليس العكس. إذن، فوهم السيطرة لدى الطفل في طور المرآة، إلى جانب هويته الذاتية الزائفة، يتبددان بالتبعية، فالآخر الكبير الذي أستعير منه كلامي لا يكتفي بإخباري بما قد أقوله، بل يخبرني بما قد أرغبه؛ لدرجة أن جوهر وجودي الصميم تصنعه روابطي بما يختلف عني.
إذن، نحن مقدر علينا أن نعبر عن أنفسنا بلسان غريب عنا دائما، فحتى إن أمكنني التعبير عن رغبتي فعلي أن أعبر عنها باستخدام وسيط - هو الآخر الكبير أو المجال البين-ذاتي بكامله - وهو الذي لا يمكن التعبير عنه؛ إذ ليس ثمة آخر بالنسبة للآخر الكبير، ولا يوجد منظور يمكن من خلاله رؤية هذا الفضاء بمجمله؛ حيث إن هذه العملية تحتاج للدلالة عليها من داخله؛ ومن ثم تعجز عن تجاوزه، فما يسميه لاكان بالفالس (القضيب) كما رأينا هو دال سحري يمكن الفرد من الفهم الكامل لخطابه في الوقت الذي يقضي فيه على غموض حديث الآخر؛ لكن القضيب كاذب. ويعرف هذا الالتباس للدوال التي أتقيد باستخدامها، والطريقة التي طالما تتجاوز بها آثارها الملتبسة مقاصدي، باللاوعي. فالذات تنقسم بين الأنا واللاوعي، وهو ما يعني أنها تنقسم بين خطابها وموقع هذا الخطاب ودلالته في إطار الآخر الكبير أو الشبكة الكلية للدوال التي لا يمكنها أن تدركها على نحو سليم. فاللاوعي هو إذن أداء وليس مكانا، فالإنسان كالرسول العبد في العصور القديمة «الذي تكتب على رأسه الوصية التي تحكم عليه بالموت «لكن» لا يعرف معنى الرسالة ولا اللغة التي كتبت بها ولا يعرف حتى أنها كتبت على رأسه المحلوقة وهو نائم.»
2
فتجرد النظام الرمزي عن الأشخاص عند لاكان يرتبط ارتباطا كبيرا بمجهولية الموت.
وإن كان لاكان قد سمى نظامه ب «الرمزي» فذلك لأن محل الجدل هنا هو المواقع ذات الدلالة وليس الأفراد الذين من لحم ودم، فنحن لا نصير أشخاصا «حقيقيين» إلا باتخاذ موقع أو آخر من هذه المواقع الرمزية، مثلما لا نصبح أشخاصا إلا عندما نتعلم الكلام. وليس هذا الحال في النظام الخيالي حيث لم تتم الدلالة الرمزية بعد، فموضوع النظام الرمزي، كما يقول فريدريك جيمسون، «يتحول إلى تمثيل لذاته.»
3
إذا فنحن نتعامل مع بنية شكلية بحتة، يوزع الأفراد بداخلها ويوضعون في مكانهم بقانون حاكم يطبق بحيادية عليهم جميعا، فما يهم هو العلاقات، التي يمثلها دور كدور «الأب»، وليس الأفراد الواقعيين الذين تقوم بينهم هذه العلاقات، فسلوكي المداعب مع ابن عم والدي مثلا يرجع لأنه قريبي وليس لأنه شخص ظريف بالضرورة؛ فتبجيل الإنسان أباه لأنه ذكي، كما يقول كيركجارد، ضرب من العقوق. ويفرق كتاب باسكال «خواطر» بين المتشكك الذي يعرف حقيقة السلطة والسذج من العامة الذين يعتبرونها أمرا مقدسا، وفريق ثالث يحترم السلطة لكن ليس لأنها ذات قيمة في ذاتها؛ لذا فإن النظام الرمزي نوع من الخيال؛ فنحن نعلم مثلا أن حكامنا السياسيين مهلهلون أخلاقيا من كل الجوانب مثلنا؛ لكن اعتبارهم حكاما بالدرجة الأولى تعليق لهذه النظرة السالبة للقوة. إذا فالأماكن في هذا النظام مفاهيمية أو رمزية، وهي بهذا قد تجتمع أو تتبدل تبعا لقواعد صارمة معينة. أو بالأحرى، يسمح القانون بتغيرات معينة بينما يمنع أخرى (كزنا المحارم على سبيل المثال).
يوجد فارق هنا بين التبادل «الخيالي» و«الرمزي»، فعمليات التبادل الخاصة بالنظام الخيالي كما رأينا تتضمن طمسا للحدود بين النفس والآخرين؛ بحيث يبدو أن الأجسام تمتزج في سلاسة ببعضها، فيعيش كل منها حياة الآخر ويلتحم كل منها بالآخر. هذا إذا تبادل حرفي للذات لأقصى درجة متصورة. أما التبادل الرمزي فيقوم على التجريد؛ إذ يمكن لشيء أن يحل محل شيء آخر؛ حيث إن الأمر لا يتوقف على طبيعته الخاصة بل على موقعه المحدد في النظام، فهو كالسلعة غير موجود بذاته بل بحركته مع أمثاله. ويمكننا أن نزعم على الطريقة الماركسية بأن النظام الرمزي قضية مرتبطة بقيمة التبادل، بينما يعد النظام الخيالي، الذي نقدر فيه السمات الملموسة للآخر في حد ذاتها، حالة من قيمة الاستعمال. وكما يقول كيركجارد عن النوع الإنساني في كتابه «المرض طريق الموات»: كل فرد «أملس كالحصاة، يمكن تداوله كالعملة الرسمية لدولة ما.»
4
إن كنت أنا وأنت مرتبطين بوسيط (الآخر الكبير) يتخطى كلا منا، فهذه حقيقة لها تبعات تتعلق بفرص الفهم المشترك بيننا؛ فالآخر الكبير - باعتباره مكانا أسطوريا يرقد فيه كثير من المعاني المجهولة المتشابكة - غامض وملتبس؛ وبما أنه هو المكان الذي نستمد منه أنا وأنت الحديث الذي نتواصل به، فإن كلا منا يصير غامضا أمام الآخر بدوره. أو بلغة لاكان المبهمة فإن الآخر يصير الآخر الكبير. (مثال حقيقي: سألني صديق أخطأ في سماع موضوع هذه الدراسة فظنه عن مقاطعة إسيكس
Essex ، بدلا من الأخلاق
Ethics ، عما إذا كنت قد ذكرت كولتشستر. وقضيت عدة أيام في قلق متسائلا عما إذا كان كولتشستر فيلسوفا أخلاقيا كان ينبغي أن أعرفه أم لا.) لكن المسألة أعمق من مجرد اللبس اللفظي، فهل يرمز الثدي إلى الحب، كما نتصور الطفل الصغير وهو يتساءل، أم إلى دفع الجوع وحسب؟ هل هو استجابة لاحتياجه للاعتراف به أم استجابة لحاجته وحسب؟ يمكننا أن نتصور الطفل الذي تنهمر عليه الرسائل الملتبسة المعاني من الآخر الكبير، وقد قض مضجعه لغز ما يريده الآخر الكبير منه. وإلى هذا الحد، فإن الطفل في نفس موقف البروتستانتي الخائف، غير قادر على فك شفرة الرسائل المستمرة لكن غير المسموعة لرب يحجبه الظلام؛ فالآخر الكبير هو رب خفي، أوامره غامضة لكنها ملزمة.
إذن لا يمكن أن يوجد أي منفذ للوصول للآخرين بلا عائق؛ حيث إنهم يقبعون مثلنا خلف جدار اللغة، فإن ما يتيح لك التعرف علي هو نفسه ما يعزلك عني. ولم يعد هناك أي تناقض صارخ - كما كان عند ديفيد هيوم - بين الأقرباء والغرباء. والآن وفيما يتعلق بنظرية التواصل المتشائمة تلك، فحتى الأكثر حميمية غريب بالضرورة، فكل الجيران غرباء، وحتى الحديث الحميمي لا خصوصية فيه. إن فكرة وجود نظام اجتماعي يجري فيه الأشخاص ذوو الإرادة الحرة تبادلات شفافة متماثلة مع أشخاص آخرين على نفس القدر من الشفافية قد انكشف زيفها. ولنا أن نقول إنها خرافة مجتمع الطبقة الوسطى.
ثمة شيء محزن في هذه الرؤية جرت الإشارة إليه كثيرا، ففي مفارقة مقلقة، عندما يبدو العالم وقد بلغ اتصافه بالإنسانية أقصاه - عندما ينسجه الدال من البداية للنهاية - نجد أنفسنا وقد شعرنا بأقصى درجات الاغتراب. فقد يكون الدال وسيلة لاستحواذ بعضنا على بعض
نحصل على إنسانيتنا مما هو غير إنساني بالكلية، العلامات والآثار والأصوات والبصمات والنقوش. وفي ظل النقص الذي تزرعه اللغة في الذات مثل الفيروس، فإن الذات يمكنها أن تتعلق بالشيء السامي الذي ترغبه فقط في صورة بديل جزئي له، قطعة شاردة من فضلات أو بقايا يسميها لاكان «موضوع الرغبة المستحيل أو الآخر الصغير». وتتمزق الرابطة الخيالية بين الذات وعالمها لتترك جرحا نفسيا متقيحا يعرف بالذاتية.
يدير الواقع ظهره إلينا كحبيب سابق يرفض الآن الاعتراف بوجودنا. وتفرغ الذات الإنسانية بأسلوب كوبرنيكي أو دارويني من مركزيتها الخيالية؛ فالعالم لم يعد يدين لها بالمعاش، ولن يموت بالتأكيد كزوج يعتمد عليها عاطفيا يوم وفاتها هي؛ إذ يجب علينا الآن أن نفكر في إطار عالم من الذوات المنفصلة التي توجد - بعبارة إيمانويل ليفيناس - جنبا إلى جنب وليس وجها لوجه، وكلها عناصر متغيرة لكيان لا يتمركز على أي شيء، ولا حتى نفسه. فإن كان فضاء النظام الخيالي ولادا، فإن فضاء النظام الرمزي مجال مسطح لكنه متغاير. إن هذا الفضاء هو ما نتعرض إليه في الفروع الرئيسية للأخلاق الرمزية: الفلسفة الكانطية والليبرالية والنفعية. ويمكن لنا أن نميز بين الانغلاق الذاتي في النظام الخيالي والانفتاح اللانهائي الذي يتميز به الآخر الكبير؛ لكن هناك نوعا مكافئا من الانغلاق الذاتي في النظام الرمزي لا يتلقى أي صدى لخطابه من العالم فيما وراءه، فأي صدى من هذا النوع عليه أن يمر من خلال الدال المراوغ؛ وبذلك لن يمثل أي جزء من «الخارج» إطلاقا، فالنظام الرمزي هو عالم من الاحتمال المحض لا أساس له، فأي أساس للغة يجب أن يكون قابلا للتعبير عنه باللغة؛ وبهذا يكون جزءا من المشكلة وليس الحل. ليس ثمة دال فوقي.
إذن هل هذا ما يعنيه ما يسمى بالنضج والتنوير؛ أن نحرم من الراحة والتعزية من غير مصادرنا، وأن يعزلنا عن الواقع عين الوسيط (اللغة) الذي من المفترض أن يفتح أبوابه أمامنا؟ سيبدو أن تحررنا هو اغترابنا الذاتي في الوقت نفسه؛ فاستقلالنا يقوم على قمع اعتمادنا على الغير؛ فقد استبدلنا بالاعتماد على الطبيعة إدمانا للرغبة؛ فالجرح الموجود في ذاتنا الناتج عن تمزق اتحادنا الفطري مع العالم لن يلتئم أبدا، إلا أنه من دون هذه الخطيئة الأولى لن يكون هناك تاريخ ولا هوية ولا اختلاف ولا حب.
لقد مثلت فكرة النظام الرمزي مشكلة عند اليسار الثقافي في عصر سابق؛ فقد بدا مفهوما طليعيا لامعا، بحديثه عن النقص والرغبة والاختلاف والغيرية والتشتيت وهشاشة الهوية وسيادة الدال، فعلى عكس النظام الخيالي بتصوراته الطفولية واستثماراته النرجسية، يتمتع النظام الرمزي بلمسة من الواقعية الناضجة وإن كانت حزينة أو انهزامية. لكن من زاوية أخرى، فإن ما يمثله النظام الرمزي ليس إلا الوضع السياسي الراهن، فإن كان هذا النظام مرتبطا بالنقص والرغبة فهو مرتبط كذلك بالقانون والتماثل والتنظيم. هل كنا إذا نوجه نقدا ل «النظام الخيالي» للأيديولوجيا من رحم هذه الأزمة؟
لذا أصبح المنظرون في حاجة إلى مفهوم أو آخر يضمن تجاوز خطابي النظامين الخيالي والرمزي كليهما معا، فخرج جاك دريدا بمفهوم الاختلاف، وجوليا كريستيفا ب «النظام السيميائي»، وميشيل فوكو بفكرة السلطة، وجون-فرانسوا ليوتار في بداية مسيرته بنظرة خاصة للفورات الشهوانية. إن الرغبة التي يمجدها جيل دولوز وفيليكس جوتاري لا تخضع لشيء مقيد كالنظام الرمزي، ولا تتحمل شيئا مهينا كالنقص والإخصاء، فالنظام الرمزي عند كل هؤلاء المفكرين ينبغي تفكيكه؛ لكن ليس بالرجوع إلى النظام الخيالي. في الحقيقة، كما سنرى، كان لدى لاكان طريقته في تحقيق هذه الغاية تعرف بالنظام الواقعي. وبفضل هذا المستوى المبهم أصبح من الممكن تطويق كل من النظام الخيالي والنظام الرمزي والتغلب عليهما معا في آن.
هوامش
الفصل الرابع
سبينوزا وموت الرغبة
دفع كوبرنيكوس ثمن زحزحة الإنسان من مركز الكون، وكذلك فعل مكافئه الفلسفي بينيدكتوس دي سبينوزا، فقد طرد سبينوزا - ابن الرجل اليهودي الشرقي البرتغالي الذي هاجر إلى هولندا هربا من الاضطهاد الديني - من معبده في أمستردام بتهمة الهرطقة، وسافر بصحبة مسيحيين منشقين، وأطلق عمله الرائع المنادي بالتسامح الديني والسياسي، «رسالة في اللاهوت والسياسة»، الذي استنكر باعتباره عملا «أتى به من الجحيم يهودي مارق وشيطان.» والكتاب كذلك نقد تاريخي وعلمي للكتاب المقدس يهدف إلى نسف الخرافات التي يتغذى عليها الاستبداد.
لقد كان هذا المناصر الكبير للتحرر العقلاني مؤيدا على طريقته لما يمكن أن نسميه نظرية للأخلاق الرمزية. لم يكن ذلك بالتأكيد بنفس درجة الاكتمال التي سنراها في كتابات إيمانويل كانط؛ إذ يرى، بعكس كانط، أن النظام الرمزي للمجتمع يحظى بدعم الطبيعة، أي إن الطبيعة والإنسانية مرتبط كل منهما بالأخرى ارتباطا لا فكاك منه، بل إنهما وجهان لنظام واحد تحكمه قوانين كلية يطلق عليها سبينوزا في عمله «الأخلاق» أحيانا اسم الرب؛ فالقوى التي تسبب سقوط ورق الشجر هي نفسها القوى التي تشكل عواطفنا، إلا أن الطبيعة لا اهتمام لها بنا نحن البشر وهي لا غرض لها؛ فلكي تواجه الذوات بعضها بعضا في النظام الخيالي يجب عليها أن تدخل في مواجهة بعضها بعضا، حتى وإن كانت لا تفعل ذلك إلا لتتسلل إلى داخل بعضها. لكننا عند سبينوزا لم نعد مدعوين لرؤية العالم من داخل الباطن الباهر للذات، بل ينظر للرجال والنساء بصورة طبيعية من الخارج بنفس الموضوعية التي ينظر بها عالم الحشرات لإحدى الحشرات؛ فهم عناصر نظام شامل، نظام تعتبر قوانينه في غالب الأمر مستعصية عليهم كما تخفى البنية العميقة لأسطورة ما على أتباع ليفي-ستروس. يقر سبينوزا، الذي يؤمن بأن الفكر الحقيقي كله يتطلع لكمال الهندسة، في عمله «الأخلاق» بأنه سيبدو من الغريب على قرائه أن «يتناول رذائل الناس وزلاتهم بأسلوب هندسي، وأن يتطلع لأن يبين بمنطق راسخ تلك الأشياء التي يشكون منها باعتبارها منافية للمنطق ولا طائل منها وسخيفة ومقززة.» مع ذلك فإن تبني روح الهندسة هذه هو في النهاية باسم الحب والتسامح، وهو في نظر سبينوزا أجدى من أي نوبة عاطفة قصيرة.
كما أن الرجال والنساء عند سبينوزا ليسوا فواعل مستقلة، كما هو حالهم عند كانط والمفكرين «الرمزيين» - هابرماس ورولز - الذين يمجدون تيار الأخلاق هذا في زماننا الحاضر، بل هم على العكس ضحايا للسببية لا حول لهم ولا قوة مثل مريض السرطان. لكن هذه الاستقلالية في رأي لاكان - على الأقل في أكثر مراحله اتصافا ب «البنيوية» - وهمية على أية حال في معظم الأحيان؛ فاعتقاد الأنا بأنها سيدة نفسها يخفي وراءه اعتمادها على قانون الدال، أو - كما في رأي سبينوزا - على قوانين الطبيعة. والحرية عند العوام من الناس - مقابل المتخصصين الذين يدرسون سلوكهم - هي الجهل بالضرورات. إن غفلتنا عن أسباب أفعالنا هي السبب في إمكانية امتلاك الوهم المعروف بالحرية. يبين تي إس إليوت في واحدة من أكثر الفقرات اقتباسا في النقد الإنجليزي مفهومه السلبي المستنكر للخيال الإبداعي بأن كتب كيف أن العقل الشاعري يربط تلقائيا أحاسيس مثل الوقوع في الحب وسماع صوت الآلة الكاتبة وشم رائحة الطعام وهو يطهى وقراءة أعمال سبينوزا. إن العامل المشترك بين الأمثلة الثلاثة الأولى هو خلوها من الإرادة، اللهم إلا إن كان شم رائحة الطعام المذكور تشمما؛ لذا من الملائم جدا أن الفيلسوف الذي خطر ببال إليوت لم يؤمن بمثل هذه الملكة، وإن خطر اسم سبينوزا على ذهن إليوت تلقائيا فقد تكون الفقرة مثالا على ما تقوله.
حتى الرب عند سبينوزا، الذي لا يحبنا ولا يكرهنا، ليس حرا في فعل ما يحلو له، فهو حر بمعنى أنه يقرر مصيره، يحركه ما تمليه عليه طبيعته الإلهية؛ لكن لا يمكنه أن يكون مثلنا ويظل إلها. وهذه النظرة في إطار هذا السياق نظرة راديكالية سياسيا؛ فالرب ليس ملكا مستبدا متقلبا يحكم بأحكام اعتباطية، وهو ليس مدللا ونزويا كمطرب مشهور. وعلينا أن نحترس أشد الاحتراس، كما يحثنا سبينوزا في كتاب «الأخلاق»، من الخلط بين سلطة الرب وسلطة الملوك؛ فبعكس الطغاة، على الرب أن يحترم قوانين الكون. إن قوانين الكون هي ما نعنيه بالرب، الذي هو كامن في الطبيعة وليس فوقها؛ فالعالم، باختصار، هو جسد الرب، وإن اختلف عما هو عليه فلن يكون الرب ربا مثلما سأكون شخصا آخر إن سكنت جسدا مختلفا كلية . وبما أن كل أفعال الرب مسألة ضرورة، فإن من المستحيل أن يخلق العالم خلقا مختلفا، وهي فكرة تعد في نظر سبينوزا حافزا قويا على مذهب الرواقية. سينظر الحكماء إلى الزلات والكوارث الإنسانية كما ينظر الإنجليز إلى الطقس: فهي أشياء غير مقبولة؛ لكن هناك عزاء في أنها لا يمكن أن تتغير. كما أن هناك كذلك إمكانية أن نصبح نحن شبيهين بالرب، تحرك أفعالنا الضرورة المحضة في طبيعتنا الخاصة من دون أي إلزام خارجي. إن هذا هو ما عرفه سبينوزا - استباقا لكانط - بالحرية؛ فالحرية ليست انعدام الجبرية، بل هي المشروع الشاق المتمثل في تقرير الذات.
إن الحقيقة القائلة أن لا شيء يمكن أن يكون بخلاف ما هو عليه لا تتوافق بالطبع مع الحكمة التقليدية للعامة؛ إذ يرى لوي ألتوسير - الذي اعتنق شكلا من الماركسية المصطبغة بفلسفة سبينوزا - أن كلا من الضرورة والحرية سمة من سمات الأيديولوجيا؛ ضرورة لأننا تحت تأثير الأيديولوجيا نتصور أن وجودنا الفردي ضروري بصورة ما للمجتمع ككل وأننا خرجنا إلى العالم مرتبطين به كما يرتبط الأطفال بآبائهم؛ والحرية لأن النظام الخيالي الأيديولوجي يمدنا - من خلال «وضعنا في المركز» بهذا الشكل - بقدر كاف من الوضوح والإحساس بالاستقلالية لنتصرف باعتبارنا فواعل لها غايات. ويدرك الجزء الأكثر ظلمة من النظرية أن وجودنا باعتبارنا أفرادا محتمل تماما؛ أي أن النظام الرمزي متعلق بمواضع معينة، وأن ما يشغلها مسألة ثانوية بحتة. لكن النظرية تعي كذلك وجود ضرورة لوجودنا اليومي باعتبارنا «حاملين» لقوانين التاريخ التي نجهلها في الأغلب، فالعقل التقليدي عند سبينوزا يفترض أن الأشياء في عالم الأيديولوجيا - أي عالم التجارب اليومية المحير بشدة - حرة، ووجودها محتمل وتحركها الصدفة والعمل، بينما تدرك الفلسفة أنها جامدة لا تتغير كالصخر. فإن كانت الذات عند لاكان منقسمة بين النظام الخيالي والنظام الرمزي، فالمثل ينطبق عند سبينوزا على المجتمع الإنساني نفسه، الذي ينقسم بين الرعاع المضللين وحاملي المعرفة الحقيقية؛ فنظرية سبينوزا الأخلاقية من هذا المنطلق طبقية بقدر تلك الخاصة بأرسطو.
إذا ينتمي سبينوزا لتيار فلسفي - يمتد من أفلاطون مرورا بشوبنهاور وماركس وصولا إلى نيتشه وفرويد وليفي-ستروس - يرى التجربة موطن الوهم. وفي هذا أعظم تناقض مع العالم القائم على البديهة عند هتشسون وسميث، وهما رجلان يتمتعان بإيمان راسخ بما يمكن لمسه والإحساس به. وتعتبر جذور ذاتيتنا في ضوء هذا التراث التشككي مجهولة إلينا، ومجهولة بالضرورة (عند معظم المفكرين المتشككين). إننا لا يمكننا أن نكون أنفسنا إلا من خلال كبت محددات وجودنا الحقيقية أو نسيانها أو التعمية عليها؛ فنحن نتحدث لغة العالم بطلاقة؛ لكن قواعدها عصية علينا.
يعد الوعي التقليدي من منظور سبينوزا مرتكزا على الإنسان تلقائيا؛ فالأيديولوجيا التي نسقط فيها عند مولدنا هي نوع من الإنسانوية التلقائية، فالرجال والنساء «خياليون» أو منشغلون بالذات بالفطرة، حيث يعتبرون أن الواقع يقدم إليهم ويصاغ حسب أهدافهم. وهم عاجزون عن إدراك أن وجود الأشياء - مثلما هو الحال مع النظام الرمزي عند لاكان - يقوم تماما على النسبة بين بعضها وبعض، من دون جوهر ذاتي تقوم عليه. إن فكر سبينوزا معارض للاهوت بشدة؛ لكن العامة يفترضون أن العالم خلق لحكمة، وأن هذه الحكمة تبلغ أقصاها بتحقق رفاهتهم، فكل فرد يثق بأن الرب «خلق كل شيء من أجل الإنسان» وأن «الرب يمكن أن يحبه أكثر مما سواه ويسخر الطبيعة كلها لإرضاء طمعه الأعمى وجشعه الذي لا ينتهي.»
1 (الإشارات اللاحقة لأرقام الصفحات من عمل هيوم هذا ستوضع بين قوسين بعد الاقتباسات المعروضة منه.) كما يؤمن العامة السذج بأن العواصف والأمراض والكوارث الطبيعية وما شابه قد أرسلت لعقابهم؛ فالوعي الزائف هو عدم القدرة على هجر سيادة الإنسان الوهمية إلى حقيقة الواقع المحزنة. إن العامة في الحقيقة، رغم أنهم سيفاجئون بهذا، نفعيون أخلاقيون مقتنعون بأن الخير هو أي شيء يفضي إلى تحقيق رغباتهم وأن الشر هو ما يقف في طريقها؛ ف «الخير» عندهم يعني «ذلك الذي يحقق النفع/المتعة لي أو لنا»؛ وهو ما يعني أن العامة أتباع لديفيد هيوم وهم لا يعلمون. ونتيجة هذا التركيز على الإنسان هي النسبية، حيث يصدر كل فرد أحكامه «تبعا لنزعات عقله هو » (36).
إذا فإن أي نظرية أخلاق خيالية ثمرة لأنانية العامة المتبلدة؛ فكل الأشياء المخلوقة عند سبينوزا هي غاية في ذاتها، والسبب الوحيد في وجودها هو الحفاظ على كيانها ذاته، أما العامة فيرون أن الأشياء تتيح لهم سبيلا مناسبا لتحقيق رخائهم، فمن المؤكد - كما يفترضون - أن هناك «مدبرا أو مدبرين، يتحلون بالحرية الإنسانية، اعتنوا من أجلهم بجميع الأشياء وصنعوا الأشياء من أجل أن تستخدم» (32). والرجال والنساء العاديون «يعتقدون أن كل الأشياء صنعت من أجلهم، ويحكمون على طبيعتها بالخير أو الشر، أو بأنها سليمة أو فاسدة تبعا لتأثرهم بها» (36)؛ لذا فإن العامة غير قادرين على رؤية أنفسهم في إطار النظام الرمزي، فهم عاجزون عن تأمل حياتهم من منظور الطبيعة المحايد؛ أي باعتبارها مجموعة واحدة من الظواهر التي تحكمها السببية في عالم لا تعدو فيه المادية والذاتية كونهما جانبين متبادلين من عقل الرب، فهم لا يفهمون أن «كل الأسباب النهائية ما هي إلا من ابتداع البشر» (33)، بل يلجئون إلى مخاطبة إرادة الرب، «وهي ملاذ الجهل» (34)، فهم يتصورون شأنهم شأن الأعداء المعاصرين لداروين أن جسم الإنسان ظاهرة أعقد من أن تكون نتيجة شيء سوى إبداع خارق للطبيعة؛ فالإنسانية إذن «ملزمة بالعاطفة والرأي والخيال بإنكار طبيعتها الخاصة.»
2
بهذه الطرق كلها فإن العامة «يخلطون بين الخيال والمنطق» (35)، وهو تمييز أعاد لوي ألتوسير صياغته لاحقا تحت مسمى الأيديولوجيا والنظرية. فالمعرفة العامة لا تخبرنا بأي شيء عن الواقع بل تخبرنا بالكثير عن بنية النظام الخيالي العام؛ إذ يؤمن الناس العاديون مثلا بأن العالم محكم النظام؛ لكن هذا في رأي سبينوزا لا يعني إلا أن «الأشياء، عندما تكون شديدة التنظيم، بحيث عندما تظهر لنا من خلال حواسنا يمكننا تصورها ومن ثم تذكرها بسهولة، يمكن أن نصفها بأنها محكمة التنظيم» (35). والأشياء التي نتخيلها بسهولة نجدها ممتعة. لكن النظام في الطبيعة من منظور سبينوزا هو لا شيء «إلا فيما يتعلق بخيالنا» (35)، وهي مسألة كان ديفيد هيوم سيقرها دون تردد.
إذا فإحداثيات المعرفة الشائعة هي نفسها إحداثيات النظام الخيالي؛ المتعة والعواطف والحواس والتمثيل والخيال والأنانية وأوهام الترابط. إن الخيال ليس زائفا بدرجة أكبر من الأيديولوجيا في نظر ألتوسير، فنحن لا نرى الشمس أقرب مما هي عليه منا؛ لكن «المعرفة» الحسية من هذا النوع لا يمكن الاعتماد عليها أبدا، وتتعارض مع حكم العقل المطلق، ف «الأشياء المثالية» كما يكتب سبينوزا مهاجما «ما هو سوقي»، «لا تقاس إلا بطبيعتها وقوتها، فكمال الأشياء لا يزيد أو ينقص لأنها تسر الحواس البشرية أو تؤذيها، لا لأنها نافعة للطبيعة البشرية أو ضارة بها» (37). ففلسفة السعادة وفلسفة المنفعة يبطلهما ضرب من العقلانية لا يرى في أخلاق العامة سوى نوع من الأنانية الجماعية المتوحشة، فالسوقيون لا يمكن أن يرقوا لمستوى تحدي النظر إلى العالم كما لو كانوا لا ينظرون إليه؛ فالخطاب الأخلاقي من الناحية المباشرة قائم على خطأ، فهو نتيجة الخطأ في معرفة الأسباب والطبيعة الحقيقية للأشياء؛ إذ يطلق أحكاما على أفعال منفصلة - مثلا - ولا يستوعبها باعتبارها أجزاء مكونة لكل، وهو يشترك إلى الآن في نقاط كثيرة مع ما يعرف في الماركسية بالفلسفة الأخلاقية.
3
ولا تعادي النظرية الماركسية الخطاب الأخلاقي - الذي تعد هي ذاتها نموذجا واضحا له - بل الحكم الأخلاقي قصير النظر الذي يجرد الشيء محل التقييم من سياقه التاريخي. وليس من الغريب أن بليخانوف أثنى على سبينوزا معتبرا إياه أبا المادية الإلحادية.
وكما يعلق ستيوارت هامبشير فإن «النصائح والرسائل الموجهة للعاطفة والرغبة بلا جدوى وغير ذات صلة (عند سبينوزا) في الفلسفة الأخلاقية كما في الفلسفة الطبيعية.»
4
ويستبعد مجمل نظرية «الحس الأخلاقي» مقدما؛ فالمصطلحات العاطفية مثل «اللذة» و«الاستنكار» وغيرها لا تقدم سوى تناسق زائف لنطاق مجموعة كبيرة من الاستجابات. ويمكننا الثناء على الآخرين أو توجيه اللوم لهم تبعا لأذواقهم وحساسياتهم، كما هو الحال مع أفعالهم «الأخلاقية». «فكل ما يراه (شخص ما) مزعجا أو سيئا» كما يكتب سبينوزا «وكذلك كل ما يراه فاسدا أو مريعا أو ظالما أو مشينا سببه أنه يرى هذه الأشياء بأسلوب مختل ومشوه ومشوش» (187). وينطبق نفس الأمر على قراءة الكتاب المقدس؛ فالجاهل يأخذ العبارات العاطفية مثل «غضب الرب» بمعناها الحرفي بدلا من فهمها باعتبارها مجازا لحقائق أزلية، «فالمشكلات الأخلاقية» كما يقول هامبشير «هي في الأساس مشكلات مرضية.»
5
إن تلك الرؤية الأخلاقية التي خطها قلم مهرطق يهودي مطارد باهرة بقدر ما هي فاسدة؛ فلم يكن سبينوزا ليعتبر الغضب أو الامتعاض استجابة ملائمة لاضطهاده؛ إذ لم يعتبر الأخلاق قضية عاطفية في المقام الأول؛ فالحب والكره البشريان ينبعان من جهودنا أو سعينا الفطري للبقاء؛ وبذلك فهي لا تخضع لسيطرتنا مثلما الحال مع اللاوعي عند فرويد أو نمط الإنتاج الرأسمالي. يجب علينا أن نتبنى مذهبا تأويليا متشككا في أحكامنا، وأن نمحو باستمرار أي إشارة للذات، وأن نعتبر حديث الفرد عن مشاعره ودوافعه عرضا (بالمعنى الفرويدي) أو تبريرا (بالمعنى الفرويدي الماركسي). فالحقيقة لا ترتكز على تجربة الفرد بل تكمن في الأسباب الطبيعية والمادية التي تشكل حالات الوعي تلك، ولا يمكن معرفتها أبدا تحت مظلتها، فكون الذات ذاتا يعني إساءة التفسير.
يصعب التهوين من شأن التأثير الثوري لهذه النظرة؛ فقد رأى لوي ألتوسير أن سبينوزا «أشعل ثورة نظرية غير مسبوقة في تاريخ الفلسفة، ربما كبرى الثورات الفلسفية في كل العصور.»
6
فهذه الأفكار الهدامة بصورة كبيرة - التي أعلنها صانع عدسات طبية مغمور يتمتع بمنزلة القديس وسط الفلاسفة - تقوض عقائد أخلاقية كاملة وتهدم نطاقات كاملة من التحيز الإنساني؛ فالتجارب اليومية - وهي عين مكمن الأخلاق عند لوك وهتشسون وهيوم - مضطربة وغير عقلانية وسابقة على العلم الحديث وتهتم بالذات تلقائيا، فكلمات مثل «شرير» و«فاضل» - وهي كالأحكام الجمالية عند كانط - لا تشير للخصائص الموضوعية للأشياء بل لموقف المتحدث منها؛ فالمصطلحات الأخلاقية لا تنطبق على البشر؛ إذ إنهم لا يتمتعون بحرية أكبر مما تتمتع به سمكة الزينة، والنفس لا تستعبدها السببية بصورة أكبر إلا عندما تظن أنها حرة؛ فالرجال والنساء أشياء طبيعية تحكمها السببية، وفي تعلم هذه الحقائق وتقبلها يكمن الطريق إلى الورع والخلاص.
إن القادرين على التنزه عن المصلحة والرغبة وحدهم يمكنهم تقبل هذه العقيدة الحكيمة القائمة على كشف الوهم، ويعني سبينوزا ب «التنزه عن المصلحة » شيئا يختلف عما يقصده الفلاسفة العاطفيون في القرن الثامن عشر، فهم - كما رأينا - يرون أن التنزه عن المصلحة لا يعني ممارسة نوع من اللامبالاة المعتدلة بل الشعور بالتعاطف مع شخص آخر عندما لا يكون هناك عائد من ذلك. أما في فلسفة سبينوزا فهذا الشعور بجسد شخص آخر من الداخل ليس نوعا وافيا من المعرفة؛ حيث إن معرفتنا بالأشياء التي تؤثر فينا من خلال أجسادنا - وهو ما يتضمن معرفتنا بالآخرين - معرفة من نوع «مشوش ومشوه». وكذلك لا يمكننا أن نحصل معرفة وافية عن أجسادنا، وهو ما يدق مسمارا في نعش أعمال الفلاسفة العاطفيين؛ فالعواطف صورة مشوهة من الإدراك، وعلى الفكر أن يسمو فوقها. (ورغم ذلك يشير سبينوزا بصفة عارضة - وهو بالشيء الغريب - إلى أنه لا يمكن للسرور أن يكون زائدا عن الحد.) فاللغة المستخدمة يوميا غامضة بقدر حياتنا العاطفية؛ حيث يحكمها الخيال بدلا من أن تحكمها أفكار مميزة وواضحة، فنحن نعيش في عالم من المعاني الهلامية والأشياء الملتبسة، لا أمل في الخلاص منه إلا بجهود الفلسفة والرياضيات واللاهوت مجتمعة.
لذا فما اعتبره أنصار مذهب الخير عين منبع الأخلاق - الشعور - رأى سبينوزا أنه ينبوع الإدراك الزائف، فهو يتفق معهم في أن الشعور كله أساسه في الصور الخيالية؛ لكنه يرفض اعتباره مصدرا للمعرفة الأصيلة.
7
وهذا لأن الإدراك الحقيقي للأشياء غير ممكن إلا «عند الرب»؛ فهو معرفة مطلقة وخالدة، شأنها شأن النظرية عند ألتوسير لا تاريخ لها. فالرؤية السليمة للعالم تعني رؤيته من منظوره الذاتي إن جاز التعبير، وهذا يتضمن تحولا من النظام الخيالي - الذي تحرف فيه الرغبة المعرفة - إلى النضج الأخلاقي للنظام الرمزي؛ إذ يجب علينا أن نتوقف - بكلمات القديس بولس - عن النظر من عدسة معتمة، وأن ننظر بدلا من ذلك بعين الرب الخاصة بنا، مطمئنين بمعرفة أنه لا يمكن لنا أو لأي شيء آخر في الكون أن يكون على غير ما هو عليه.
إن هذا عند سبينوزا هو ما يمثل الحكمة والفضيلة الحقيقيتين، فقد مارس انعزالا قاسيا في حياته مؤمنا (على عكس معاصره لايبنتس العظيم والطموح) بأن الفلسفة لا ينبغي أن يعوقها تطوير الذات وسلطة الدولة. وكان هذا هو السبب في رفضه عرضا بالحصول على كرسي الأستاذية في هايدلبرج، مفضلا العيش عاملا يدويا بسيطا؛ فهو يؤمن إيمانا ذا صبغة متعلقة بالتحليل النفسي بأن الرغبة هي «عين جوهر الإنسان» (125)، وهو يعني بالرغبة «أيا من مساعي الإنسان وبواعثه وشهواته واختياراته التي تختلف تبعا للتكوين المختلف لهذا الإنسان وتتعارض في أغلب الأحيان مع بعضها نتيجة لانجذاب الإنسان في اتجاهات مختلفة وعدم معرفته لأيها يلتفت» (126).
والحب الإنساني في هذا النطاق الوجودي المتقلب حب خيالي محاك. يقول سبينوزا: «إن الذي يتخيل أن ما يحبه سيتأثر بالسرور والألم سيتأثر هو نفسه بالسرور والألم ... وإذا تصورنا أي شيء يدخل السرور على ما نحب فإننا يغمرنا الحب تجاهه ...» (98). فهو كما رأينا نوع من العدوى العاطفية ستعتبره فلسفة القرن الثامن عشر الأخلاقية مصدرا قويا للترابط الاجتماعي، إلا أنه في نظر سبينوزا يمثل نوعا منحطا من الحب مقارنة بذلك «الحب الفكري للرب» الذي يمثل عنده أفضل الخير الإنساني. في واقع الأمر، إنه يؤمن بأن الشفقة عاطفة «مخنثة» تستوجب التوبيخ، وهكذا شعوره تجاه التعاطف إلى حد كبير؛ إذ يجب علينا - كما عند كانط - أن نتصرف تبعا لحكم العقل وليس تحت تأثير دافع عاطفي عابر.
وفي نوع من التسامي الذاتي، يجد صداه بدءا من بوذا حتى الرواقيين وشوبنهاور، يعلق الفرد الحر حقا رغبته لتحقيق نوع من الرضا الصافي؛ فالفرد الحر سيرفض إلقاء اللوم على الآخرين أو على الكون جراء المصائب التي تحل بنا؛ حيث إن هذه المعايب الظاهرية - الاغتصاب والتعذيب والمذابح وما شابه - ما هي إلا ضرورات إلهية يساء فهمها باعتبارها عيوبا. إن هذا نوع من الانعكاس التهذيبي؛ إذ لو كان الآخرون في ظل العالم الحتمي لا يمكنهم منع أنفسهم من الغش أو الكذب أو تقطيعنا إلى أشلاء، فإن إدراكنا لهذه الجبرية قد يثمر عن فضائل التسامح واللين والغفران والحلم والصبر والرصانة بجانب التعافي المحمود من الحسد والبغض والسخط؛ فالفضلاء يردون البغض بالحب ولا يفكرون كثيرا بالموت. فالجبرية إذن تفضي إلى مرتبة القديسين وليس السوداوية أو اليأس. ويؤيد المنطق والموضوعية والتنزه عن الغرض الحب والرحمة لا السلطة والتحيز. إن الضرورة في العالم هي ما تجعله عالما غير مأساوي؛ إذ لو كان لا شيء صدفة فلا معنى للحزن عليه أو مقاومته، فأولئك المصرون على أننا إن لم نقاوم ما هو حتمي فلن نعرف مدى حتميته من الأساس، يمكن أن يطمئنوا إلى أنه حتمي أزلا ومن ثم يوفرون جهدهم.
يتطلب بالتأكيد التفكير بهذا الشكل أن يكون المرء قديسا أو عقلانيا بلا جسد، إلا أن سبينوزا ببساطة لا ينكر الجسد؛ فهو مثل هيجل وشيلر وماركس يؤمن بضرورة إعادة تهذيبه. ويلفت إلى أن «استغلال الأشياء والاستمتاع بها قدر الإمكان ... هما من الأمور التي يقوم بها الإنسان الحكيم» (170). فالمقصود ليس تحاشي العواطف بل الاستعانة بالعقل ليسيطر عليها، ليكشف عن محددات وجودنا الخفية كما يفعل المحلل، فسبينوزا رجل ديمقراطي وجمهوري يريد تنوير العامة، لا أن يحجب عنهم حقيقة العالم المرة على طريقة ليو ستروس الاستراتيجية. على أي حال يؤمن سبينوزا - على عكس هوبز - بأن رغباتهم لينة بدرجة تسمح بتطويعها، فالفلسفة نقد للرغبة وليست تأكيدا لها (مثل بعض الفكر ما بعد الحداثي)؛ لذا فهي ذات أجندة ناشطة سياسية وأخلاقية، يمكن إقناع العامة بالفضيلة، وبذلك وفي ضوء كونهم مخلوقات تعتمد على العادة لا التفكير يمكنهم فعل الخير تلقائيا. وفي تلك الحالة سيتطلبون انضباطا وسيطرة أقل، وهي حقيقة ستجعلهم أقل حقدا ومن ثم أكثر استعدادا للخضوع لولاة أمرهم. إن سبينوزا - شأنه شأن بيرك وشيلر - منظر مبكر لما سيسميه جرامسكي لاحقا بالهيمنة.
وبذلك فإن هدف الفرد الفاضل عند سبينوزا أن يصبح حر الإرادة، لا يسمح لنفسه بالانسياق وراء شيء عرضي غير مهم كالعاطفة. وتستبق هذه القضية فكر إيمانويل كانط، وتوجد استباقات أخرى مماثلة بكتابات هذا الفيلسوف الهولندي؛ فهو يقول إن الرجال والنساء العقلانيين لا يرغبون لأنفسهم شيئا لا يرغبونه لبقية العالم كذلك، فالتصرف تبعا للعقل يتمثل في اتباع طبيعتنا كغاية في ذاتها، والحرية هي تحقيق ذلك؛ إذ يجب علينا أن نحب أنفسنا؛ لكن في سعينا لتحقيق الأفضل لأنفسنا فإننا نخلق كذلك مقومات الجمهورية الحقيقية؛ أي مجتمع يسوده السلام والصداقة والتناغم الاجتماعي. لن يكون في هذه الجمهورية أي رقابة على التعبير أو الكتابة. ويرجع هذا من بين أشياء أخرى إلى أن هذه الحرية في نظر سبينوزا ضرورية لعمل العقل ومن ثم كشف الحقيقة. إلا أن من بين ما تعلمنا إياه الحقيقة هو أنه لا وجود للحرية، على الأقل بالصورة المتصورة على المستوى العام. مع ذلك فإن حقيقة انعدام الحرية في ذاتها تحررنا.
ورغم إخلاص سبينوزا المتشدد للنظام الرمزي فإن نظرته للعالم تعد رؤية خيالية من نوع غريب، فتصوره عن المجتمع العادل - المجتمع الذي يتجاوز العقيدة الليبرالية التي كان مناصرا كبيرا لها - هو مجتمع «يجمع كل العقول كما لو كانت عقلا واحدا، ويجمع كل الأجساد كما لو كانت جسدا واحدا ...» (153). وتتوازى هذه العلاقة التبادلية مع الاتحاد بين العقل والطبيعة، التي يعكس فيها كل منهما الآخر انعكاسا متناغما؛ ففي أعلى درجات الحكمة، تتماثل الأفكار التي تكون العقل مع تلك التي تكون عقل الرب، فهناك نوع «أعلى» من النظام الخيالي محل الجدل في هذا الجانب شبه الصوفي في فكر سبينوزا، الذي يدفع إلى تحقيق الذات النهائي للروح التي تحدث عنها هيجل. فروح العالم عند هيجل بعد شرودها في النظام الرمزي القائم على الخسارة والسلبية والاختلاف والاغتراب ترتد في النهاية إلى ذاتها في صورة سامية من النظام الخيالي. فالهدف من المعرفة كما يقول هيجل هو «تجريد العالم الموضوعي من غرابته، وأن نشعر بالألفة معه، وهو ما لا يعني سوى ربط العالم الموضوعي بالفكر - بأعماق ذاتنا.»
8
فالروح تجد صورتها السعيدة منعكسة في التاريخ والطبيعة التي صنعتهما، مثلما يرى الرب نفسه في المسيح ابنه المحبوب الذي يسر به على الدوام.
هوامش
الفصل الخامس
كانط والقانون الأخلاقي
رأينا أن أنصار مذهب الخير في القرن الثامن عشر كانوا مؤيدين لفكرة الحب مع إدراك قوي بأوجه قصورها؛ فالعواطف شأنها شأن الذاكرة تفتر كلما ابتعدت أكثر عن الشيء الذي يحركها. وعلى أي حال فإن العاطفة في الأنظمة الاجتماعية التي تسودها المصلحة الشخصية في شح مزمن. ولا يعني هذا أن العواطف لا يمكن أن تكون عامة. وقد أشار ريتشارد سينيت إلى مفارقة في إنجلترا في القرن الثامن عشر، وهي أن العواطف الخاصة اعتبرت طبيعية - بعكس زيف الثقافة العامة - ومن ثم كانت تعتبر عامة. ويكتب سينيت: «لقد كان العام ابتكارا بشريا؛ أما الخاص فكان حالة بشرية.»
1
لقد كانت أكثر الكيانات خصوصية - العائلة - هي التي كانت «مهد الطبيعة»؛ حيث مثلت بيئة ديمقراطية للقلب. إن هنا - كما يقول سينيت - يجد الفرد باختصار ما سيعرف لاحقا بالحقوق الطبيعية.
من هذا المنطلق يمكن للخاص بأن يصدر أحكاما على العام. يكتب سينيت: «بتعريف عمليات نفسية معينة بأنها لا يمكن التعبير عنها في السياق العام، وبأنها ظواهر شبه دينية متجاوزة لا يمكن لترتيبات العادة خرقها أو تدميرها أبدا، بلور [مواطنو القرن الثامن عشر] لأنفسهم طريقا واحدا - وليس الطريق الوحيد - لكنه طريق ملموس يمكن أن تتجاوز فيه الحقوق الطبيعية استحقاقات أي مجتمع بعينه.»
2
فنحن غير متروكين لثقافة أو عادات يجب أن تظل فيها مصادر النقد الاجتماعي الراديكالي غامضة. بل إننا - كما هو حال منظري الحس الأخلاقي - نتمتع بموقع حكم راسخ في الطبيعة ذاتها. إلا أن تلك العواطف - وهي التي «لا يمكن التعبير عنها في السياق العام» - محيرة بقدر ما هي جياشة.
توجد إشكالية أخرى تقترن بهذه النقطة، وقد أشرنا إليها مسبقا؛ إذ رغم أن العواطف الطبيعية عامة في جوهرها فهي كما رأينا لا تفعل إلا على المستوى الخاص. وهذا يؤدي إلى المشكلات مع الغرباء، مع هؤلاء - كما يقول سينيت - المنتمين ل «مجموعة الغرباء»، وهي المدينة في القرن الثامن عشر، الذين يصعب جدا فهمهم من إشاراتهم السيميائية الخارجية. ويقول سينيت إن القرن الثامن عشر «كان عصرا يبذل الناس فيه جهودا كبيرة لتجميل علاقاتهم بالغرباء وتعريفها، المهم أنه كان عليهم بذل جهد.»
3
ولا تزال الفكرة الحديثة لحشد من الآخرين المجهولين تحظى بمعارضة، إلا أنها أيضا تتجاوز باطراد حدود المجتمع المعروف؛ إذ يمكن للفرد أن يحيي غريبا في الشارع طالما لم يفهم أن هذا يدل على استحقاق ملح عليه. إن هذه التحيات ليست أكثر «صدقا» من كلمات الممثل، إلا أن هذا لا يعني أن الفرد غير مرتبط عاطفيا بالموقف محل النقاش كما في المسرح. لقد كانت الاستعارات المنمقة تستخدم في تحية الآخرين لكن بطريقة لا تمييز فيها، بما يدل على عدم معرفة بتاريخ حياة الآخر ولا بظروفه المادية. وقد وفرت الطبقة الاجتماعية ما يمكن أن نسميه ألفة غير شخصية، كما هي أحيانا في يومنا هذا؛ فالنبلاء يعرف بعضهم بعضا حتى من بعيد. لكن مع تكاثر درجات الطبقة الوسطى في المدن الحضرية الجديدة زادت حدة مشكلة الهوية المجهولة.
إذن ثمة حاجة للتعويض عن عيوب الشعور الطبيعي، ومن بين أشكال هذا التعويض القانون؛ فالقانون، أو بالأعم النظام الرمزي الذي ينبني عليه، طريقة رئيسية نضبط من خلاله سلوكنا تجاه من لا نعرفهم، فهو آلية مثل السوق لتنظيم تعاملنا مع الآخرين المجهولين لنا، تضمن (وهنا يتجلى التشبيه بالسوق) أنه إن لم نفتتن بهم أو ننجذب إليهم جنسيا فعلى الأقل سنتعامل معهم بعدل. وهذا بالتأكيد دافع أقل قبولا للفضيلة من الود؛ لكنه أكثر إنصافا وجدارة بالثقة. يحقر هيجل في كتابه «فلسفة الحق» من تلك النظريات الرومانسية التي «تلغي الفكر وتلجأ بدلا منه إلى الشعور والحماس والقلب.»
4
فالقانون في العصور الحديثة - باعتباره منبر القضاء الذي نقف أمامه سواسية - عدو الامتيازات، وهي كلمة تعني «القانون الخاص». كذلك ولأن القانون والعقل والنظام الرمزي يتجاوزون المصالح والرغبات الشخصية، فمن الممكن أن يقدموا نقدا لها، وهو ما لا ينطبق على النظام الخيالي؛ إذ يمكننا مثلا أن نسأل عما إذا كانت رغبة معينة منطقية أم لا، وهو سؤال لم يكن ليحظى بشرعية عند هوبز أو هيوم أكبر من عند جيل دولوز.
ولأن القانون يجب أن يكون وسيطا بين أفراد كثيرين، وكل منهم له مصالحه ورغباته الخاصة، فعليه أن يتحلى بفضيلة التحفظ مستهدفا أن يقول أقل ما يمكن. فأولئك الساعون للالتزام به يغرقون من ثم في توتر عصبي بشأن ما إذا كانوا يلتزمون به أم لا، وكيف يعرفون ذلك على أي حال، وما إذا كان هذا تصورا منطقيا من الأساس أم لا؛ فالقانون إن صح التعبير يشمل تحت مظلته الكثير من الرجال والنساء لذلك يجب أن يكون محتواه عاما، فكلما قل محتواه تحديدا، زادت قدرته على تحقيق هدفه. ومن هذا المنطلق تشبه القوانين الأخلاقية القوانين الفيزيائية التي ما هي إلا علاقات رياضية يمكن التعبير عنها بقدر قليل من المعلومات.
5
فلكي يمثل القانون أساسا للوحدة الإنسانية يجب أن يتغاضى على نحو منهجي عن اختلافاتنا؛ فنحن - عند الأرسطيين والتوماويين - نتمتع بطبيعة عقلانية مشتركة، لكن هذه الطبيعة عند أنصار مذهب الخير تقلصت إلى مجموعة من المشاعر التي نتشاركها، الخالية من أي أساس عقلي. أما عند الكانطيين، فقد زاد تقلص النطاق الإنساني المشترك إلى مجموعة من الإجراءات الشكلية المشتركة، بينما لا يرى بعض الحداثيين وما بعد الحداثيين سوى الاختلاف بين البشر.
ولكي يكون من الممكن وجود جماعة من الأفراد في مجتمع ممزق فيجب أن يتجرد القانون عن أي شيء يخص من هم تحت حكمه. وميزة ذلك أن القانون لا يستجيب لهؤلاء الذين يسعون لتأكيد سلطتهم واستغلالها؛ لكن الخطورة هي أن يئول الحال إلى تكوين مجموعة كبيرة من الرموز الكودية، فيبدو الأمر وكأنما يجب محو الناس واستنساخهم إن أردنا أن تتحقق المساواة والعمومية فعلا، فكل فرد يعد فريدا ومستقلا؛ ولكن لأن جميع الأفراد يثنى عليهم بهذه الصورة دون تمييز، فإن هذه القيمة تظل على شفا مناقضة ذاتها، فالكل سواسية؛ لكن ذلك كما سيبدو ليس إلا لأنهم اختزلوا في خيالات مآتة مفرغة من مضمونها.
مع ذلك فإن مفهوم القانون هذا وسيلة عبقرية لتحقيق العمومية في وقت تتعثر فيه الوسائل التقليدية لتحقيق ذلك - كفكرة الطبيعة البشرية المشتركة على سبيل المثال - لأسباب ليس أقلها الرحالة المتحدثون عن التنوع الإنساني، إلا أن هذا يعني أننا الآن بحاجة للتفكير والتعقل من أجل وضع الآخرين في الاعتبار، فقد ضاعت سمة العفوية أو اللامبالاة البرجوازية المبكرة بلا رجعة. ومع دخول الطبقة البرجوازية في أوروبا لعصر تراكم رأس المال الصناعي، بما فيه من العمال المجهولين والمنافسين غير المعروفين والصراعات الطبقية المحتدة، تراجعت فكرة النبل لتفسح المجال أمام ساحة القضاء أو السياسة باعتبارها نموذجا للخطاب الأخلاقي.
هذا هو القانون الأخلاقي الشهير لإيمانويل كانط، الذي يخضع له كل الناس بنفس الصورة، والذي يتمتع بقوة الأمر الإلهي الكاملة بينما يظل شأنا دنيويا خالصا، فهذا القانون، مثل الرب، من المسلمات؛ فلا يمكن اختزاله إلى أي مبدأ أكثر أولية وهو لا يخضع للتفسير المنطقي. فنحن لا نكون أفرادا عند لاكان، كما رأينا، إلا تحت حكم قانون يحقق التكامل بين وجودنا ووجود الآخرين. وبينما نتجه إلى دواخل النفس إن جاز التعبير في النظام الخيالي، فالآن يلتفت كل منا إلى الخارج باتجاه سلطة تربطنا جميعا معا بهويات مجهولة. يرى كانط أن الفرد لا يكون إنسانا حقا - حرا وعقلانيا ومستقلا - إلا بالخضوع لسيادة قانون ينظم ويوفق بين أهداف الفرد وأهداف الكائنات الحرة العاقلة الأخرى. والفرق بين الفيلسوفين في هذا الصدد هو أن كانط يرى أن هذه الحرية موجودة على النطاق الباطن، في مستوى حدسي لا يمكن للعقل الواعي الوصول إليه، بينما يرى لاكان أننا في هذا النطاق الباطن أو اللاواعي نتمتع بأقل قدر من الحرية. لكن أيا كان الاختلاف فإننا دخلنا إلى منطقة نعرف فورا أنها حديثة؛ ثقافة العلاقات العقدية والمصلحة الذاتية المستنيرة والقواعد الأخلاقية والقوانين العادلة وتعظيم المنفعة واحترام استقلال الآخرين والمعايير التوافقية والإجراءات المنطقية، فهو نظام بعيد كل البعد عن الآنية الحسية للنظام الخيالي؛ لكنه كذلك - كما سنرى لاحقا - هو عين ما يدافع عن أكثر منظومة أخلاقية يرفضها النظام الواقعي.
لقد عبر كانط في أوائل حياته العملية عن إعجابه بطريقة البحث الأخلاقي عند شافتسبري وهتشسون وهيوم واصفا هذه الرؤية الأخلاقية بأنها «أفضل اكتشافات عصرنا». إن ما أبهره في هؤلاء الفلاسفة الأخلاقيين (وهي مفارقة كبيرة بالنظر إلى رفضه لاحقا للأخلاق الأنثروبولوجية) هو انشغالهم بما يحدث وليس بما يجب حدوثه ؛ أي إنهم لم ينطلقوا من الفرضيات المجردة بل من الطبيعة الإنسانية.
6
لكن يحذر كانط في عمله «نقد العقل الخالص» من أنه لا شيء أكثر استحقاقا للوم من السعي لاستخلاص القوانين التي تحدد ما يجب أن يكون مما هو قائم بالفعل، ففي نظام اجتماعي يتميز بالفردية الأنانية لا شك أن هذا حذر حكيم. إن هلع كانط من التجريبية هو تعليق ضمني، من بين أشياء أخرى، على محيطه الاجتماعي، فإن حاول الفرد استخلاص القيم من الحقائق في هذا السياق فقد ينتهي به الحال بالقيم الأقل استساغة، فالقيم يجب أن تفصل عن العالم - حيث إنها أبعد ما يكون عن الوصف المجرد له - لأسباب منها (في المجتمع عامة إن لم يكن عند كانط خاصة) أن تتمكن من تقنينه.
لم يكن كانط بكل تأكيد ليبني على الأرضية غير المتماسكة للنظرية الأخلاقية البريطانية، رغم أنه تأثر كثيرا بفكرة شافتسبري القائلة إن المبادئ الأخلاقية الأساسية لا يمكن أن تكون مسألة تعتمد على التفضيلات الذاتية، بل يجب أن تكون ملزمة على نحو عام؛ إذ يؤمن كانط، شأنه شأن شافتسبري، بأن الأخلاق تتضمن المشاعر، والتي هي في رأيه الاحترام والغضب والحصافة والتضجر والتقدير والندم وما شابه، فنحن لدينا القدرة على الشعور بالسرور لتحقيق واجبنا الأخلاقي. في واقع الأمر، إن هذا الإحساس بالرضا مشروع ومرغوب معا لكن هذه العواطف لا يمكن أن تمثل دافعا لأفعالنا. وقد اعتقد هيجل نفس الشيء؛ فالرغبة لا يمكن أن تكون عاملا في فعل الصواب، بل إن ما نشعر به في هذه الظروف هو الألم قبل كل شيء؛ فالقانون الأخلاقي يعترض بصرامة على ميولنا الطبيعية، وهذه طريقة أدركنا بها وجوده الجليل. كما يفسح كانط بعض المساحة في فكره الأخلاقي للسعادة؛ لكن رغم أن السعادة هي جزاء الفضيلة في الحياة الآخرة - إن لم يكن في الحياة الدنيا في أغلب الأحيان - فلا يمكنها أن تكون الدافع المحرك نحوها. فالسعادة ما هي إلا فكرة تجريبية وليست قيمة مثالية عند العقل، وهي لا تقوم على مبادئ؛ فعلى الفرد أن يكافح من أجل الرضا العام؛ لكن الرضا الذي يرتبط ويتسق مع أطهر المبادئ الأخلاقية، فهو لا يؤمن بأن المبادئ الأخلاقية يمكن أن تنبني على الإحساس أو العاطفة أو السعي نحو الرفاهة؛ فالحواس لا تتيح لنا الوصول إلى حقيقة أنفسنا ولا إلى جوهر الأشياء برغم ما قد يزعمه أنصار مذهب الخير عن الاتحاد البدهي بين روحين من أصل واحد. فالإحساس ليس أساسا للمعرفة الذاتية، فالكائن الأخلاقي ينتمي لعالم المعقول لا عالم المحسوس؛ إذ يجب علينا ألا نضع مبدأ السعادة في الاعتبار عندما يتعلق الأمر بالواجب؛ فحس الفضيلة يجب حتما أن يكون أكثر من التشوق للرضا. فعلى الإنسان أن يتصرف تبعا لمبدأ وليس ما يسميه كانط باحتقار «التعاطف المؤثر». وهو في هذا يختلف مع تيودور أدورنو الذي يكتب أن «الأساس الحقيقي للأخلاق موجود في الشعور الجسدي، في التماهي مع الألم الذي لا يحتمل.»
7
بل إن كانط بلغ به الأمر أن رفض هذا الجهد البريطاني في الفكر الأخلاقي باعتباره محاولة فاشلة لاستخلاص مفهوم الفضيلة من التجربة؛ فالتجربة عنده كما هي عند سبينوزا أساس أكثر تغيرا واحتمالية من أن يبنى عليها الحكم الأخلاقي، تماما مثلما أنها أساس هش في ذاته لمعرفة الحقيقة بموضوعية، فهي كما يقول كانط «شيء بشع ملتبس» تعارض كل صيغة منتظمة. فالإحساس مرشد لا يعتمد عليه إطلاقا، والأخلاق أسمى من الطبيعة ولا يمكن أن يكون مصدرها الجسم أو أحواله التجريبية، فالمشاعر والنزعات والميول لا يمكن أن توصلنا إلى أي مبادئ موضوعية. يشير كانط باستخفاف - ويقصد هتشسون - في عمله «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» إلى «حس مزروع» أو «حاسة خاصة مفترضة» ساخرا من أن «هؤلاء الذين لا يمكنهم «التفكير» يظنون أنهم يمكنهم مساعدة أنفسهم بالشعور.»
8
ويصر، وهو يقصد نفس المذهب الأخلاقي، على أن المحاكاة لا مكان لها إطلاقا في قضايا الأخلاق.
إلا أنه يقر بأن نظرية الحس الأخلاقي، وإن كانت مضللة، فهي تولي الحياة الأخلاقية احتراما يليق بها، فكأن هؤلاء الفلاسفة طيبي القلب - وإن كانوا مضللي الفكر - يشعرون في حضور الآخرين بالسرور والتقدير اللذين ينبغي عند كانط ادخارهما للقانون الأخلاقي عامة. إذا فهذه العواطف ليست غير لائقة بقدر ما هي في غير محلها. ويقر بأن هناك أرواحا «في غاية التعاطف والانسجام لدرجة أنها، بلا أي دافع من الكبر أو المصلحة الشخصية، تشعر بالرضا الداخلي في نشر السرور من حولها وتسعد برضا الآخرين طالما أنه من عملها.»
9
إلا أن مثل هذا التعاطف في نظر كانط لا يمت للأخلاق بصلة، شأنه شأن اشتهاء رشفة من خمر؛ فالأفعال التي تؤدى في سبيل القانون هي وحدها التي يمكن اعتبارها أخلاقية؛ فالإنسان عليه أن يكون خيرا بدافع الواجب لا التعاطف؛ إذ يجب الامتناع عن فعل الأشياء فقط لأنك تريد فعلها، ويخبرنا بأن الاحتياجات والنزعات لها «سعر سوقي» لكن ما هو ثمين في ذاته لا يقدر بثمن.
ابتكر ألكسندر بومجارتن في منتصف القرن الثامن عشر علما جديدا غريبا يسمى علم الجمال، كان الهدف منه بلورة حياتنا الحسية وتنظيمها واختزال عالمنا الجسدي إلى نظام شبه قانوني نوعا ما؛ فالحواس - التي نبذتها في فظاظة بعض مدارس العقل التنويري - أخذت تتسلل من جديد من الباب الخلفي متنكرة في صورة علم للإدراك. لكن هذه الدراسة المنهجية لحياتنا الحسية لا يمكنها أن تفضي بنا إلى العالم الأخلاقي؛ فطيبة القلب ليست قضية أخلاقية شأنها في ذلك شأن مفهوم التثليث. وكتب كانط في «نقد العقل العملي»: «إنه لشيء جميل أن نفعل الخير للناس بدافع حبهم وبدافع حسن النية المتعاطفة، أو بدافع من حب النظام، لكن ليست هذه هي القاعدة الأخلاقية الحقة.»
10
فالشفقة والرحمة ورقة القلب كلها سمات جيدة، لكنها إن كانت السبب وراء أفعالنا بدلا من فكرة الواجب فإنها تصير، بحسب كلمات كانط، عبئا على أصحاب التفكير السليم الذي يرغب بالتبعية في التخلص منها، وأن يخضع لقانون العقل وحده، فهذه المشاعر مثال على ما يسميه «الحب المرضي». ويصر جاك لاكان هو الآخر، متحدثا عن النظام الواقعي وليس النظام الرمزي، على أن «المشاعر خادعة باعتبارها دليلا للنظام الواقعي.»
11
فإن جردنا الأخلاق من كل العواطف - بحسب زعمه - فسينتهي بنا الحال إلى رؤية رجل مثل كانط، أو رجل مثل ساد، في هذا الخصوص. لا يرى كانط أن فعلي التنازل والمثالية يمكن أن يكونا هما ذاتهما مصدرا للذة شهوانية كامنة. إننا لا نواجه من يجردوننا من متعتنا بغير عاطفة بغض.
إذا تتمتع الرؤية الأخلاقية البريطانية بسحر جمالي معين، لكنها خيار عاطفي بصورة زائدة. يرى كانط أن الخير ما هو إلا نزعة؛ فهو لديه حذر بروتستانتي من القيم التي تكتسب بسهولة من دون الصراع الداخلي والانتصار على النفس. وينظر كانط بعين الإعجاب لقلق البرجوازيين من ذوي الفكر الذين يصارعون ضمائرهم وليس التلقائية المرحة للأرستقراطيين، فهو لا يعجبه عدم الاكتراث الجريء المتعجرف الراقي الذي عرف في عصر النهضة باللامبالاة؛ فالأشياء الثمينة هي التي تجهد في طلبها؛ لذا فالطبيعة الرحيمة التلقائية حقيقة وراثية - وليست أخلاقية - عن البشر. وبينما يرى أرسطو أن أولئك الذين لا يحصلون الرضا من الأفعال الفاضلة هم في الحقيقة ناقصو فضيلة، ويصر ديفيد هيوم على أن هذه المتعة عين الدليل على الفضلاء، يرى كانط أن أولئك المتصفين بالبرود، ويتمكنون رغم ذلك من فعل الخير، يتمتعون بالحظ الأوفر من الأخلاق. فكلما زادت مجاهدتنا للنزعات التلقائية لدينا أصبحنا أكثر جدارة بالثناء أخلاقيا؛ فالمتعة دافع دوني في نظرته الناقدة القاسية، بعكس شافتسبري وهتشسون. وحيث إن نوبات التعاطف المفاجئة هذه لا تشمل أفعالا إرادية فهي لا تعتبر استجابات أخلاقية على الإطلاق، فالإحساس يعد بصورة كبيرة عدوا لما هو أخلاقي، وما لا يستلهم من الواجب يجب أن يفعل بدافع المتعة الخالصة حتما. إنها رؤية حياتية قائمة على الصرامة، إن لم تكن مؤذية، فهي لا تفيد. فكما هو الحال مع السجائر، من الأفضل في المجمل ألا تجد السلوك الفاضل ممتعا بصورة زائدة عن الحد.
قضت أطروحة كانط المضادة على قدر كبير من المساحة البينية المشتركة بين النزعة الطبيعية والالتزام. ومن بين ما استبعد كان المفهوم الأرسطي الخاص بالنزعة الأخلاقية التي ليست مسألة خاصة بالواجب المجرد ولا بالدافع الشعوري ولا العادة التلقائية ولا الفعل الإرادي الشاق؛ فالنزعات تتضمن عواطف ؛ لكنها عواطف مقترنة بأحكام وموجهة نحو فعل محتمل، وليست نوبة أو وخزة داخلية تغذيها النزعة العاطفية لذاتها؛ فلكي نحسن التصرف فعلا، علينا أن نمتلك أحكاما ومشاعر ومواقف سليمة؛ لكن ما يهم في النهاية هو حسن التصرف. بهذه الصورة فإن الدافع الأخلاقي العقلي البحت عند كانط يقدم تصورا ناقصا عن الفضيلة بقدر تصور أنصار مذهب الخير البدهي البحت، الذي يبدو أنه لا يترك سوى مساحة قليلة للتقييم العقلاني؛ فالنزعات ليست نوبات عمياء من الشعور التلقائي، بل هي حالات يجب بذل الجهد لاكتسابها وتهذيبها وممارستها ومراقبتها إلى أن تصير الأفعال التي تدفعنا إليها سهلة واعتيادية. فالرحمة والعطف والرغبة في العدل ليست مجرد مسائل تتعلق بالتفكير المفاهيمي، ولا هي تتبع وخزة جوع أو نوبة حسد مفاجئة، بل هي تشمل كلا من العقل والعاطفة، والفكر والشعور. كما لا يمكن لهذه الملكات أن ترتبط بتعاملاتنا مع من نعرفهم ومن لا نعرفهم، فنحن نتأثر بمصائب الغرباء ونحزن بدافع قربنا ممن حولنا. لقد أصاب كانط في رؤيته أن أنصار مذهب الخير يخاطرون بعزل أنفسهم عن الأخوة العامة؛ لكنه أخطأ في تصوره أن التفكير المجرد وحده يمكن أن يأخذنا لما هو أبعد من عواطفنا الداخلية.
يقول أرسطو في عمله «الأخلاق النيقوماخية» إن حسن النية أو الإرادة الخيرة تشبه الصداقة لكنها لا تماثلها تماما، حيث يمكن أن تكنها لمن لا تعرفهم. أما مفهوم حسن النية عند كانط - في بحثه عن مبدأ جماعي يتجاوز الأمور الشخصية عند أسلافه البريطانيين - فينبغي أن يؤدي دورا محوريا جدا. لكن من الخطر الاعتماد الزائد في الأمور الأخلاقية على قضايا الدافع والإرادة؛ وحيث إن الفعل الصالح عرضة للشك في دوافعه فإن كانط أخطأ في افتراض أن الإرادة لها اليد العليا في المسائل الأخلاقية؛ فالأهم في مثل هذه المسائل هو ما تفعله وليس ما تريده أو تنويه، فإعطاء بعض النقود للمشردين في الطرقات بهدف إراحة ضميرك أفضل بكثير من إعراضك عنهم. كما أن فكرة كانط، التي اعتبرها حقيقية، عن الإرادة تبدو بعيدة كل البعد عن أن تحظى بالاستحسان مقارنة - مثلا - بمفهوم الإرادة عند توما الأكويني. فالإرادة عند الأكويني ليست دافعا عقليا غير مشروط، بل هي نوع من التوجه الأولي في وجودنا، ونزعة داخلية إلى الخير أو الطبيعي موجهة نحو صلاح المعيشة؛ فبالنظر إلى وجودنا الجسدي فنحن لدينا رغبة في الخير ليست اختيارية في حد ذاتها؛ فمسائل الاختيار كما رأى الأكويني تعتمد في النهاية على تكوين أجسادنا المادي؛ فهو مفهوم للإرادة يتمتع بقبول أكثر من معظم نظائره الحديثة.
12
يقع كانط في خطأ جوهري في كتاباته الأخلاقية، وهو افتراض أن الفرق الأخلاقي المهم هو الفرق بين النزعة الطبيعية والالتزام. وكذلك - كما سنرى لاحقا - حال بعض أنصار النظريات الأخلاقية الخاصة بالنظام الواقعي في يومنا الحالي الذين يظلون من هذا المنطلق كانطيين منغلقين. فإن لم تكن فاعلا عقلانيا، فإنك إذن أناني همك تحصيل اللذة. لكن لم يكن كانط ليقبل بأن الرغبة في فعل شيء - بشرط ألا يكون مؤذيا - سبب جيد تماما لفعله. على أي حال، فحتى الحيوانات يمكن أن تتصرف بدافع أكثر من مجرد اللذة الخالصة من وقت لآخر، حتى وإن كانت تواجه صعوبة في استيعاب الأمر أو الواجب المطلق. إن كانط قبل غيره هو من وضع الفكر الأخلاقي على الطريق الذي أدى إلى المساواة الزائفة بين الأخلاق والواجب، وهو مزيج نجد آثاره تمتد حتى إيمانويل ليفيناس وجاك دريدا. (إلا أنه لا توجد - كما يذكرنا بيرنارد ويليامز - كلمة يونانية قديمة ل «الواجب».)
13
يفترض كانط أن الأخلاق تشمل قيمة ما غير مشروطة، شأنه في ذلك (كما سنرى) شأن فلاسفة الأخلاق اللاكانيين، وإلا فسنكون عرضة - في نظر كانط إن لم يكن عند لاكان كذلك - للوقوع في فخ النسبية الأخلاقية. ولا يبدو أن من يقدمون هذا الطرح يدركون أن المؤمن بالمذهب النسبي عادة ما يكون الوجه الآخر للسلطوي، الابن الأوديبي الثائر على الأب الخارق للطبيعة. فالذين يؤمنون بأن القيمة الأخلاقية يجب أن تكون مجردة، يرون أن ما يقصر عن الحالة المجردة سيكون حتما كالفوضى المرعبة، فهم لا يرون أن العقلانية والفوضى متلازمان، وتكون الفوضى في أغلب الأحوال هي ما يستبعده النظام العقلاني.
من الصعب المبالغة في تصوير النتيجة الراديكالية العجيبة لطرح كانط؛ فأن تعيش حياتك مثل نيلسون مانديلا مثلا يحركك الغضب والشفقة من أجل تغيير حال الملايين غير المعروفين لك شيء جيد تماما؛ لكنه ليس بأي حال أفضل من التأكد أن امتناعك عن سرقة ثمرة خوخ لا يكون بدافع خوفك من بائع الفاكهة بل لأنك تلتزم بفعلك بقانون يمكن أن يلزم كل السارقين المحتملين كذلك. إن في هذا الفعل - وليس في إعطاء كسرة خبز لسائل بدافع الشفقة - يكمن الجمال الأخلاقي الحقيقي، أو ما قد يسميه كانط السمو الحقيقي (لأن القانون الأخلاقي مثل الرب يتجاوز التمثيل التصويري). هذه الفكرة مدهشة بقدر ما هي قاسية. فهي تضمن - في أكثر صورها تطرفا - إطلاق الحكم السار الجاف الذي أصدره بيرنارد ويليامز على العقلاني المتطرف ويليام جودوين «برفضه العقلاني الصارم احترام أي اعتبار يراه الإنسان العادي قهريا.»
14
كم من الغريب أن نتصور - كما فعل كانط - أننا إن حركنا الحب أو الرحمة فإننا غير أحرار! يمكننا الزعم بأن رؤيته للإنسانية سامية جدا ووضيعة جدا في آن واحد. أو بعبارة ميلان كونديرا، ملائكية جدا وشيطانية جدا في نفس الوقت؛
15
إذ توجد الاثنتان بصفة عامة جنبا إلى جنب؛ فعندما يكون الوجود الاجتماعي «شيطانيا» تحكمه الشهوات والمصالح الشخصية، ستظهر عامة حاجة موازية لأيديولوجيا «ملائكية» لتعطي الشرعية لهذه الحقيقة، فالقيمة الأخلاقية ستحتاج للاحتكاك بأقل قدر ممكن مع الحقيقة التجريبية. وهذا أحد الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة، وهي أحد المجتمعات التي تموج بالمادية، يستحوذ عليها أيضا خطاب عام جاد أخلاقي سام بصورة هزلية. ثمة رؤية أقل سموا بعض الشيء عن رؤية كانط تخلط بين الضمير والعاطفة، يطرحها الفيلسوف الإنجليزي جوزيف باتلر، الذي تحظى عنده العاطفة التلقائية بالاستحسان، لكنها تزداد قيمة عندما تستقر في مبدأ ثابت.
إلا أن رؤية كانط أكثر جمودا من هذا؛ إذ لا يمكن استخلاص قانون عام حقيقي من الرغبة المشتركة في تحقيق السعادة؛ حيث إن كل شخص يرغب في تحقيق السعادة بطريقته الشخصية الخاصة؛ ومن ثم يظل المنطق الأخلاقي أسيرا للخصوصية العمياء، فيجب أن يكون ثمة أساس أكثر إطلاقا وعمومية للأخلاق من هذا، صورة علمانية نوعا ما للرب المطلق الذي شأنه شأن كل القيم المطلقة أن يحمل مقوماته بالكامل في ذاته. فكما أن الرب هو السبب الأبدي في وجود ذاته، كذلك القانون الأخلاقي عند كانط الذي هو غاية الجميع بالضرورة لأنه غاية في نفسه، فهو كل ما يمكن أن ترنو إليه إرادة البشر، بعيدا عن تطلعاتهم وميولهم وهو بالتبعية ما يمكنهم كذلك أن يريده بعضهم لبعض. من هنا يأتي الأمر المطلق المشهور: لا تتصرف إلا تبعا لقاعدة يمكن اعتبارها قانونا عاما، فإن كانت بشريتك تعني أن تكون عقلانيا، إذن فالتصرف العقلاني حتما هدفه إلزام سائر من سواي بطريقتي في التصرف؛ فالحرية هي تحرير النفس من كل الأشياء والرغبات المحتملة، وكل ما يسمى بالمصالح «المرضية» في سبيل عدم التصرف إلا تبعا لقانون يضعه الفرد لنفسه، قانون واضح تحيط به هالة تجعله هدفا في ذاته من دون أي اعتبار للطبيعة المميزة لهذا الفرد أو ذاك؛ ومن ثم تجعله يطبق تطبيقا عاما. ولأننا نفرض هذا القانون على أنفسنا فهو يمثل أساس حريتنا؛ حيث إن الحرية مرادفة لتقرير الذات. سينتاب الأجيال اللاحقة شك أكبر في هذا الادعاء؛ حيث سيشكون في أن القوانين التي نفرضها على أنفسنا هي عامة الأكثر قسرية وصرامة من غيرها. ثمة بعض القسر - كما يرى تيودور أدورنو - في حرية كانط التي من المفترض أنها غير مرضية في ظل القانون، وهو ما سيسميه فرويد الأنا العليا.
إن هذا في واقع الأمر هو الجانب الخفي البغيض لنظرية أخلاق كانط التنويرية. فلأنه لا يمكننا أبدا تبرير أفعالنا أمام القانون، فهو ينمي فينا إحساسا دائما بالقلق أو الغربة، وهو ما لا يقل عن الإحساس بأننا خاضعون؛ فالقانون الأخلاقي إله قاس، فهو - في أقصى درجات ساديته القاسية - يختزلنا بترهيبه عديم الحس لنا إلى كائنات معدومة الوجود، وأشياء لا أهمية لها، وأجزاء من المادة لا معنى لها؛ فالمعادل للقانون الأخلاقي السامي هو الإنسان باعتباره بقايا وفضلات وكتلة من السلبية الخالصة. فالذات إذ تمر بانعدام الإحساس القاتل هذا - لأن القانون خال تماما من المادة - تعاني من كارثة أو انهيار للمعنى، انهيار يمثل حالة طوارئ دائمة وليس نوبة ذعر مؤقتة. ومن هذا المنطلق، يحتوي القانون الرمزي في جوهره على ما سيسميه لاكان النظام الواقعي، أي الحالة التي نكون فيها معدمين، منتزعين من مكاننا، واقعين في هاوية اللامعنى، يسحقنا جوهر قاتل من انعدام المعنى أقرب إلينا من أنفاسنا.
ثمة توتر في لب الفكر الأخلاقي بين العام والخاص؛ فالسلوك الأخلاقي شأن مادي، يرتبط باحتياجات الإنسان الفاني ورغباته، وهو جزء من تواصلهم التعبيري أو الرمزي؛ ومن ثم فهو بالضرورة خاص؛ لكنه من المفترض أن يمتد إلى ما وراء هذه الخصوصية، إلى فضاء أكثر عمومية. وسيبدو من الغريب أن نقول إن التعذيب مباح لي لكن غير مباح لك، أو أن نساوي بين عبارات مثل «اقتلاع العين حرام» وتعبيرات تخص الذوق الشخصي مثل «الكرنب مقزز»، فالأخلاق شأنها شأن اللغة واسعة في عموميتها ومتناهية في خصوصيتها، فهي تتضمن مفاهيم خاصة كما تتضمن مفاهيم عامة. يفرق جيه إم بيرنشتاين بين «الأخلاق» - أي ما يسميه المبادئ العامة «المركزية» - وتلك المفاهيم «الأخلاقية» الوصفية أو التقييمية السابقة منطقيا على هذه القيم العامة التي إن كانت ضرورية فهي هزيلة.
16
لقد أدرك ما عرف لفترة قصيرة في ستينيات القرن العشرين ب «الأخلاق الموقفية» - وهي تيار من اللاعمومية الأخلاقية يفضله بعض المسيحيين ذوو الفكر المتحرر - مشكلة أنه ما من موقف إنساني يمكن تحديده بدقة، وأن كل موقف يتمتع بخصائص هي أبعد ما تكون عن أن تميزه. كذلك إن كان معنى كلمات مثل «الحب» و«العدل» لا يمكن فهمه إلا في مواقف لا يمكن مقارنة كل منها بالآخر، فإن هذه الكلمات تفرغ من التطبيق العملي كله لها تاركة إيانا تائهين في بحر من الاسمية الأخلاقية. وإن لم يكن ثمة علاقة لازمة بين فكرة العدالة ونمط سلوك ثابت عبر مختلف المواقف، فإن أي نمط سلوك - بما في ذلك قطع رأس كل من يتجاوز سن الستين مثلا - يمكن القول إنه يتفق معها. على الجانب الآخر، فإن أي نظرية أخلاقية تنحي جانبا سياقات محددة جملة واحدة لا تستحق الوصف بأنها أخلاقية. سنعود لهذه المعضلة بعد قليل، عندما نتناول رؤية شكسبير لها.
تعد الأخلاق في رؤية كانط شأنا فرديا وعاما، وبهذا فهي تشبه الأحكام الجمالية؛ فالفعل الأخلاقي هو فعل يخصني حصريا وكليا، إلا أن اللحظة التي أكون فيها نفسي بلا منازع هي نفسها اللحظة التي لا أكون فيها سوى ممثل لقانون عام. ومن المهم للفرد أن يكون حيوانا عاما، ونحن نكون في أفضل حالاتنا عندما نتصرف على هذا الأساس؛ فثمة شيء غير بشري أو غير شخصي يكمن في أعماق الذات يجعلها على ما هي عليه. ورغم أن هذه القوة السامية المستحيل فهمها عند أوجستين والأكويني هي الرب، وعند أتباع فرويد هي الرغبة، فإن كانط يسميها القانون الأخلاقي؛ فهناك إذن مسار مباشر عنده من الفردي إلى العام، رغم أنه مسار لا يمكن أن نسلكه إلا على حساب الخصوصية الملموسة.
إذا فالعمومية المجردة والخصوصية المتناهية وجهان لعملة واحدة، فالأفراد هم القوة المحركة لهذه الحضارة لكن تجردهم من كينونتهم القوى المجردة التي يصدرونها؛ فالحرية تعني عدم فرض أي مبدأ لا يشرع للنفس، إلا أن تقرير الذات ذلك في حد ذاته يهدد باختزال الفرد إلى طوطولوجيا عديمة المعنى. إن الأمر راجع للرجال والنساء ليمنحوا أنفسهم قيمة لا أن يجدوها - كما في النظام الخيالي - مقدمة من العالم أو من الآخر، فالنظام الرمزي الذي يقدمه لنا كانط قائم بذاته تماما؛ إذ لا يقوم لا على الطبيعة ولا على ما وراء الطبيعة، فحتى الأوامر الإلهية يجب أن تمر على العقل البشري ليستبعد الأخطاء المنطقية منها. يبدو الأمر وكأننا لا نرتكز الآن إلا على أنفسنا، وإن كانت هذه من سمات نضجنا الأخلاقي؛ إذ نتخلى عن اعتمادنا الخيالي الطفولي على الآخرين وعلى الكون، فهي كذلك علامة على اغترابنا عن الطبيعة التي لم يعد لها أي علاقة بشيء سام مثل القيمة بعد أن اختزلت في مجرد حقيقة أولية؛ لذا فإن المبدأ المعاصر الشهير «قيمتي أستمدها من نفسي وحدها!» لا تفصله سوى شعرة عن أنين القائل: «أشعر بوحدة شديدة في هذا العالم!»
إذا فالتصرف الأخلاقي لا يوجهه سوى العقل والواجب الذي يحدده، وليس مجموعة الدوافع المختلطة (المتعة والرغبة والسعادة والمنفعة والرفاهية وغيرها) التي نكتسبها من الآخرين أو من العالم من حولنا أو من شهواتنا الفطرية والتي لا تليق من ثم بالبشر الذين مصائرهم في أيديهم بالكامل. فالفعل الأخلاقي الحقيقي لا علاقة له بنتيجته، وهو افتراض أخلاقي غريب بالتأكيد؛ ففي طوطولوجيا متسامية، علينا أن نتحلى بالأخلاق؛ لأنه من الصحيح أخلاقيا أن نفعل هذا. إن ما يجعل الفعل أخلاقيا، شأنه شأن ما يجعل شيئا ماديا سلعة، هو شيء يجسده هذا الفعل يعلو ويتخطى أي سمة مميزة يتسم بها، وهو اتساقه المقصود مع قانون يمكن تعميمه، فالإنسانية لا سبيل لها إلى الكيانات الغيبية المشئومة مثل الخير الأسمى، وهي التي تستعصي عليها مثل الآخر اللاكاني الكبير، فلا يبقى بديل ممكن لهذا الشيء المفقود - بالنظر إلى أنه يجب أن يكون مطلقا تماما - سوى الصورة المطلقة من القانون الأخلاقي؛ فالقانون إذا يملأ فراغا - أي غياب الخير الأسمى أو جسد الأم - بفروضه الأبوية؛ ومن هذا المنطلق فإننا نتحدث عن تحول من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي.
إن الأخلاق أو العقل العملي شأنه شأن العمل الفني مستقل وقائم بذاته، فهو يحمل الغرض منه في ذاته ويرفض كل منفعة ويزدري كل نتيجة ولا يقبل أي جدل. وكما الحال عند سبينوزا، تتدنى المصطلحات الرئيسية للمذهبين الخيري والعاطفي في القرن الثامن عشر - المتعة والعاطفة والبديهة والإحساس والإشباع والخيال والتصوير - غالبا إلى درجة اللاأخلاقية. (يمكننا أن نقول إن هذه الكلمات تنتمي كذلك إلى لغة علم الجمال.) إذا فنحن نتحدث عن نظرية أخلاقية تتجاوز مبدأ المتعة؛ فالفعل الأخلاقي لا علاقة له بتوفير صور حية للخيال، ففكرة هيوم عن أننا نحتاج لمثل تلك الصور الحية لتحفيز تصوراتنا الأخلاقية الخاملة مرفوضة دون جدال. وفي المقابل يرى كانط أن هذه «الصور والأدوات الطفولية» ليست فقط غير لائقة بالمخلوقات العاقلة مثلنا، بل يرى أيضا أنها تقلل من عظمة وسمو القانون الأخلاقي ومن ثم تضعف قوته الهائلة. من الممكن ألا توجد صورة محفورة للعقل أو الحرية الإنسانية؛ فالغموض الكلي للحرية - كما يرى كانط المتمرد في كتابه «نقد ملكة الحكم» - يجعل التصوير الإيجابي كله مستحيلا، فهي ظاهرة حدسية خالصة يكون إدراكها على المستوى العملي وحده وليس بالصور الحسية؛ فنحن نعلم أننا أحرار لأننا نرى أنفسنا نتصرف بحرية بجانب أعيننا؛ لكن هذه الحرية شأنها شأن شبح الآخر الذي يسير إلى جانبك في قصيدة تي إس إليوت «الأرض الخراب» تختفي تماما إن حاولت النظر إليها مباشرة.
يثير هذا بالتأكيد مشكلة في نظام اجتماعي قائم على طبقة وسطى تعتبر الحرية فيه محورية؛ فالقيمة الأثمن تنفلت الآن من شبكة التصوير لتصبح نوعا من الرمز الكودي الموحي أو مجرد أثر للسمو؛ فالذات - التي هي المبدأ الأساسي للقضية كلها - تتملص من تصنيفاتنا ولا تظهر ضمنها إلا مجرد شيء يشبه التجلي الصامت أو الصمت الموحي، أي حضور يصطدم دون صوت بحدود فكرنا؛ إذ لا يمكن الإحساس بها إلا باعتبارها نوعا من الزيادة الفارغة أو سمو شيء دقيق. إذا فالإنسان البرجوازي وهو في ذروة قوته يعمى عن ذاته؛ حيث إن حريته - التي هي جوهر تفرده - بطبيعتها لا يمكن تحديدها. فكل ما يمكننا زعمه عن الذاتية - ذلك الفراغ الغريب الذي يكوننا - هو أنها أيا كانت فهي ليست مثل الشيء على الإطلاق؛ ومن ثم فهي تحير الإدراك؛ فالعارف والمعروف لا يتشاركان نفس النطاق، فمشروع العلم ممكن بصفة كبيرة، لكن العالم باعتباره ذاتا لا ينتمي للمجال الذي يدرسه، فحتى الأشياء التي يدرسها العالم لا يمكنه أن يدركها إلا بصورها المشاهدة؛ لذا فإن اللاهوت السلبي للإنسان - إن جاز التعبير - هو وحده الممكن.
إذا يبدو الأمر وكأن الذات تطرد من عين النظام التي تحفظ تماسكه باعتبارها كانت أصله ومكمله يوما ما، فهي أصل النظام بكامله، وكذلك هي ثقب أسود في مركزه . فالقوة التي لا يمكن تصورها هي سلبية مطلقة في الوقت ذاته. ومحاولة رسم شكل محدد لهذا الطيف كمحاولة القفز على ظلنا؛ فالذات لا يمكنها أن تكون «جزءا» من العالم إلا بقدر ما تمثل العين جزءا من مجال الرؤية، فالذات عند كانط ليست ظاهرة بداخل الواقع بل هي نقطة فوقية مطلة عليه. وهي، عند كانط في ثورته الكوبرنيكية، ما يسعى من خلالها لإعادة العالم المادي إلينا؛ لكن الذات «في جوهرها» خلال تلك العملية تنزلق من فوق حدود المعرفة وتغرق في الكيانات المدفونة المعروفة بالحدسيات التي لا يمكن الحديث عنها. فالذات ليست بشيء يخضع للإدراك، شأنها شأن الملائكة الحارسة أو المثلثات المربعة مثلا؛ إذ تجد الطبقة البرجوازية نفسها وهي في أوج قوتها أن نفس النظام الاجتماعي الذي وضعته، قد أقصاها لتعلق بين الذات المستعصية على الاختراق من ناحية وبين الشيء غير المعلوم من الناحية الأخرى.
إن الذات البشرية؛ إذ هي محددة بصرامة من الخارج لكن حرة الاختيار من الداخل، حرة ومغلولة معا. ويرى سبينوزا أن هذين الجانبين من وجودها متلازمان؛ فالحرية تكمن في معرفتها أنها مقيدة، وهي ثمرة كفاح الإنسان المترتب عليها ليصبح حر الإرادة، فهي تعني التوقف عن اعتبار النفس كائنا معزولا واعتبارها جزءا من نظام يقوم على الضرورة. ويؤيد كانط تلك الحتمية عند سبينوزا - مجردة من أسسها الميتافيزيقية - بل يضيف إلى عليات الطبيعة الراسخة مجالا ساميا للروح. وهو بذلك يحفظ الحرية على حساب إمكانية فهمها، فهي في نظر سبينوزا أمر خيالي أو خرافي. أما في نظر كانط فهي فرضية ضرورية؛ فالحكمة في رأي الفيلسوف الهولندي تكمن في تأمل هويتنا في الطبيعة. أما نظيره الألماني فيرى أنها قضية ترسيخ استقلالنا عنها. •••
إذن فكانط - في خطوة جريئة - ينقل قضية الأخلاق بكاملها من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي، وهذا يعني كذلك الانتقال من المضمون إلى الشكل، أو من الموضوعي إلى الإجرائي. ويتضمن هذا انتقالا من القدرة على دعم أخلاقك بشيء يتخطاها - كالرب والطبيعة والتاريخ - إلى الفوائد غير المؤكدة للتحرر الأبدي من أي أساس مماثل. ويعلن كانط في عمله «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» أن الفلسفة الأخلاقية يجب أن تطهر من المحتوى التجريبي والأنثروبولوجي بالكامل. وبما أن أي فعل من أفعال الإرادة التي تحفزها ميول أو أشياء تجريبية هي أفعال «مرضية»، فإن فعل الخير الأسمى الوحيد هو الإرادة الخالصة للخير نفسه. وإرادة الخير ليست إرادة شيء محدد، بل أن يتصرف الإنسان بما يتفق مع القانون الأخلاقي؛ لذا فإن هذا القانون لا يقدم شيئا سوى الإعلان عن نفسه، فهو - كما كتب كافكا إلى صديقه جريشوم شولم - يتمتع «بشرعية لكن لا مدلول له». فالوسط إن جاز التعبير هو ذاته الرسالة، فتعاليم القانون الأخلاقي مطلقة لكنه لا يبين لنا ماذا نفعل، فمثل ناظر مدرسة متحرر الفكر يسعى لتعزيز المبادرة الشخصية بين تلاميذه، هو يوضح لنا السمات العامة التي ينبغي أن تميز أفعالهم لكنه لا يبين عمدا محتواها؛ فالمتنورون لا يحتاجون لأن يتم إعطاؤهم قائمة بالأوامر الأخلاقية من موضع سلطة عليهم. إن الذين يحتاجون لهذه الأوامر غير قادرين للسبب نفسه على أن يفهموا مغزاها أو ينفذوها؛ إذ إن المرء يتردد في قبول الطعام من طباخ يحتاج إلى تعليمات مفصلة عن كيفية التعرف على حبة قرنبيط مثلا.
قد يبدو القانون الكانطي في فراغه أو طوطولوجيته مختلفا عن أوامر الرب غير المشروطة التي يحل محلها، باعتباره معبودا يملي أوامره بصيغة دقيقة غير مريحة، إلا أنه من ناحية أخرى لا يكاد يختلف عنه إطلاقا؛ إذ إن ما يسمى بالوصايا العشر ما هي إلا طريقة يهوه في قول: «هكذا تكون محبتي.» فطلب الرب الأساسي ليس امتناع الإنسان عن السرقة أو الزنا بل أن ندعه يحبنا لكي نتمكن بفضل نعمته تلك من أن نبادله الحب. إذا فطوطولوجيا القانون الرمزي - «يجب أن تطيع؛ فالقانون في النهاية هو القانون والواجب هو الواجب» - هي طوطولوجيا حب عبثي وفراغ سمو مطلق، فإن كان للقانون محتوى محدد فسيمكن دائما مساومته وتملقه وتقديم الإذعان المطيع لقاء جزاء كبير. ولكن لأن شريعة موسى هي قانون الحب، فيجب على مضمونها أن يتخطى شكلها . إن ما يحبط فريسيي هذا العالم هو صمت هذه الفضاءات السرمدية.
إذن فالأمر الإلهي - شأنه شأن الأمر المطلق عند كانط - يخلو تماما من المضمون، فهو كعبارة القديس أوجستين «أحب وافعل ما شئت.» فهو يشير باقتضابه إلى سمو الرب عما هو بشري، فمن السمو ألا يفرض الرب أوامر مقيدة على مخلوقاته كما تفعل الأنا العليا السادية المبالغة في عدم واقعيتها لأنه لا يحتاج إليها. فحبه - باختصار - خال من الرغبة. إن هذه - وليس القانون الأخلاقي عند كانط - هي الصورة الحقيقية لعدم المشروطية؛ فالحب الإلهي يعني عدم انتظار مقابل؛ ولهذا تكون مشاركتنا في هذا الحب في أعمق صورها عندما نتمكن من أن نحب دون شكر أو من طرف واحد. فإن كان يهوه في العقيدة المسيحية اليهودية ليس هذا المستبد المتعالي الذي يفرض قيودا شديدة الثقل على كاهلنا؛ فذلك يرجع من بين أسباب أخرى إلى أنه لا يحتاج إلى العالم؛ وهو ما يعني أنه خلقه دون أن ينتظر مقابل، بدافع الحب لا الاحتياج؛ فالخلق هو الفعل المجاني الأول، فهي مسألة «متعة»؛ وهو ما يعني أنها مسألة لذة «لا طائل منها» بعبارة لاكان، فالوجود هبة وليس قدرا؛ فلا ضرورة عند الرب لخلق أدق جسيم مادي، بل إنه بعد إعادة النظر الناضجة في الأمر ربما يندم على فعلته هذه أشد الندم. وإن كان الآخر الكبير عند لاكان ذا رغبة في ذاته، فإن الرب في العقيدة المسيحية اليهودية ليس كذلك؛ وحيث إنه بالتبعية ليس لديه احتياجات عصابية فهو لا يأمر بأن نتقرب إليه بالقرابين التي تأكلها النار أو الأوامر المتعلقة بالطعام والشراب أو السلوك المعصوم أخلاقيا، بل علينا أن ننحي جانبا هذه المساومات الرديئة ونتقبل الحقيقة التي لا تحتمل، وهي أنه يغفر لنا دائما. فلسنا بحاجة إلى الانغماس في القلق البروتستانتي من أجل استيضاح ما يأمرنا به؛ إذ إنه لا يأمرنا بشيء أكثر من الحب. ولأن الحب أمر عملي ومحدد فيجب أن يكون بالإمكان صياغته صياغة قانونية، إلا أن الذين يعرفونه بتلك الصيغ يخطئون بقدر الذين يجعلونه مفهوما مجردا.
لا تنبع القيمة الأخلاقية - عند كانط شأنه شأن سبينوزا - من تأمل بعضنا بعضا في إطار خيالي، ناظرين إلى الآخرين من خلال ثنايا الذات المتقدة، بل تعتمد على النظر إلى النفس من الخارج، من المنظور اللاعاطفي للقانون الأخلاقي نفسه؛ وهو ما يعني النظر إلى النفس باعتبارها ذاتا عامة؛ ومن ثم معاملة النفس كمعاملة الآخرين. يرى كانط أنه لا يوجد فرق واضح بين الغرباء والأقرباء. فإن تعاملت مع الآخرين كما لو كانوا مكاني، فأنا أنظر لنفسي باعتباري غريبا نوعا ما. ومن الناحية الأخلاقية، فإننا أصدق ما نكون على حقيقتنا عندما نتصرف كما لو كنا أي شخص. إنني عندما أنقسم إلى شخصين وأنظر لنفسي من موقع النظام الرمزي نفسه، متفحصا ذاتي بنظرة الغريب المحايدة، عندها فقط أكون مطابقا لنفسي حقا. وهذه الرؤية أبعد ما يكون عن الرؤية الأخلاقية العاطفية عند هيوم أو سميث، وإن كان كل منهما مثاليا على طريقته الخاصة. إن لمح أنصار مذهب الخير في حالات التعاطف نعيما يعد كعيد حافل مثالا للمدينة الفاضلة، فإن بعضا من خلفائهم الأقل توهما عند مواجهتهم نظاما اجتماعيا مفككا لا يشجع التواصل الاجتماعي اضطروا إلى النزول بمدينتهم الفاضلة إلى مستوى أكثر عمقا حيث منطقة البديهة الغائمة التي هي الوطن المثالي للذوات العاقلة الحرة ولغاياتهم المتكاملة المتناغمة.
بل إنها تتشكل على مستوى أعمق من هذا، فإن كان كانط الذي هو متشائم في المجمل تجاه الإنسانية يحتاج إلى فكرة الرب؛ فذلك لأسباب ليس أقلها أن احتمال اجتماع الفضيلة والسعادة في العالم الآخر أكبر بكثير من هذا العالم، إلا إن كنا ننظر إلى عالم الرواية الذي برز حديثا؛ فالفجوة بين ما هو مثالي وما هو واقعي تتضح في تعليقه بأن الأمر المطلق يظل ملزما حتى وإن لم ينجح أي شخص في الالتزام به. في حقيقة الأمر، إن نجاح أي شخص في الالتزام فعلا به من عدمه يظل مسألة غير محسومة، فكيف يمكننا التأكد أصلا من أن تصرفاتنا كانت من دون أدنى قدر من الدافع «المرضي»؟ فهل نحن غير مذنبين أمام الرب؟ إن القانون الأخلاقي - كما يعلم كانط - شيء مستحيل، وهي سمة يشترك فيها، كما سنرى، مع النظام الواقعي عند لاكان.
تتشابك المتعة والقيمة الأخلاقية، وحب الذات والتعاطف، والتجريبي والمثالي في كتابات هتشسون وهيوم. أما مع كانط فيجب إبعاد المدينة الفاضلة أكثر وأكثر عن عالم دنيوي حسي لدرجة تظل معها كيفية تحقيق المدينة الفاضلة فيه - أي كيف للوجود البديهي أن يحل محل الوجود الحسي - شيئا غامضا. يبدو الأمر وكأنه يجب حماية القيمة المطلقة من شرور النظام الواقعي بإبقائها مدفونة دائما. إذا فمن المفارقة أن القانون الأخلاقي - الذي ينظر للرجال والنساء باعتبارهم أفرادا يمكنهم التعامل بتجرد فيما بينهم - يقوم في معظمه على الواقع التجريبي؛ على عين مجتمع السوق الذي ينتقده بشدة، فالفعل الأخلاقي حقا - كالسلعة - هو نموذج للتبادل؛ لكن هذا في السياق الأخلاقي يعني معاملة النفس والآخرين باعتبارهم غاية في ذاتهم، وهي عقيدة تختلف كل الاختلاف مع منطق السوق، ففي مقابل المصلحة الذاتية التي تحكم المعاملات التجارية، يقدم أنصار مذهب الخير البريطانيون العاطفة والشعور. أما الفيلسوف الألماني فهو يقلب منطق السوق على عقبيه.
تتشابه الرؤية الأخلاقية المتجردة لكانط - بكل تقشفها المرهق - من بعض النواحي مع المفهوم المسيحي للحب أكثر مما تتشابه مع عالم شافتسبري وهتشسون المتناغم؛ إذ يصر كانط على أن عمل الخير حيثما أمكن واجب لا اختيار. وقد أصاب في رؤيته أن الحب ليس قضية عاطفية بالأساس؛ أي إننا إن اعتمدنا على مثل هذه الرغبات الطارئة فنحن على الأرجح نقيد عملنا الخيري بدائرة ضيقة كثيرا. وفي المقابل يتحدث - وهو يستحضر العهد الجديد في ذهنه - عن «الحب الذي يمكن السيطرة عليه» ويفرق بينه وبين هذا الحب المنعدم الأساس الذي هو تلقائي و«مرضي». ويستبعد سورين كيركجارد بالمثل الحب المبني على نزعات الحنان الطارئة لصالح حب يتمتع بالثبات الأبدي للقانون. ويكتب «لما يصبح الحب واجبا، عندها فقط يأمن الحب كل تغير إلى الأبد ...»
17
ويميز القديس بولس بين القانون والنعمة، مهاجما الأول، لكنه يفرق كذلك بين النعمة باعتبارها قانون الرب - الذي يرضيه - وقانون الخطيئة. ويقوم إنجيل مرقس على التصور اليهودي العام لقانون الرب باعتبار أنه يتحقق بحب الإنسان لرفاقه. وعند متى - الذي ألف إنجيله بالقرب من مرقس - فكل الوصايا أساسها حب الإنسان لجاره. أما عند يوحنا - إذ يكتب عن تقليد الحكمة - فحب الجار هو القانون كله. ويظهر الحكمدار في مسرحية شكسبير «الصاع بالصاع» - وهي المسرحية التي سنتناولها بعد قليل - فهما إنجيليا تقليديا للعلاقات بين القانون والحب عندما يتحدث عن أنه «ملزم بعمل الخير».
وفيما يتعلق بالحب باعتباره قانونا، يقدم كانط الإجابة الصحيحة الأكثر تطرفا على السؤال الذي يؤرق فلاسفة الخير البريطانيين: «كيف نتعامل مع هؤلاء الملايين من المجهولين لنا فيما وراء نطاق عواطفنا؟» بإنكار أن العاطفة هي العامل الفاصل هنا من الأساس، فالأمر المطلق كما رأينا لا يميز بين الغرباء والجيران. إن عدم أهمية هويتك مطلقا عند كانط - عندما يتعلق الأمر بالأخلاق - يمثل من ناحية ثغرة في طريقته المجردة في التفكير، ويمثل من ناحية أخرى نقطة قوة كبيرة. ففي المسيحية، على نحو مشابه، ليست الصلات المحلية ولا الهوية الثقافية العامل الأهم؛ فالمعتقد الديني لا يتعلق بالنسب ولا العادات الضيقة ولا الطقوس الغذائية الخاصة ولا المعبودات المنزلية ولا التراث الوطني ولا الهويات التقليدية؛ فالإنجيل هو نقد لسياسة الهوية من قبل أن يظهر هذا المصطلح.
لا يعنى هذا إنكار أن العهد الجديد يمنح أحيانا أفضلية خاصة لحب «الإخوة» المسيحيين بعضهم بعضا. لكن بما أن ذلك لا يسعه سوى دعم مهمتهم الكونية، فليس له أن يتعارض بشدة مع حب الغرباء؛ فالخط الفاصل بينهما ضبابي، يتوارى كما لو كان وراء أقنعة تلبس في حفل كبير، والتي - كما تقول باربرا إرينرايك - «تذيب الفوارق بين الغريب والقريب، لتحيل القريب غريبا لبعض الوقت ولا يكون الغريب أجنبيا أكثر عمن سواه.»
18
بالمثل فإن الجماعات السياسية الراديكالية التي يتمكن أفرادها من بناء علاقات ألفة فيما بينهم ومع من ينتمون للجماعات المماثلة - وهو إنجاز نادر في تاريخ أحزاب اليسار - تتمتع بفرصة أكبر لتحقيق الفاعلية السياسية من تلك التي لا تفعل . لقد رأى أرسطو أنه لا يمكنك أن تصادق إلا من تعرف، واعتبر أن خداع الصديق أكثر استحقاقا للوم من خداع الغريب؛ فعدم مساعدة الأخ كان عيبا أكبر في نظره من عدم مساعدة إنسان مجهول لك، إلا أنه لاحظ كذلك تشابها بين الصداقة والعلاقات السياسية؛ إذ تحدث في عمله «الأخلاق» عن المواطنين باعتبارهم أصدقاء. وتتشابك الواجبات العامة والعواطف الشخصية في الروابط والجماعات التي تشكل المدينة الدولة؛ فالدول السياسية التي يحقق مواطنوها قدرا من الانسجام المتبادل تمثل نسخة عامة من الصداقة الشخصية.
أما كانط على العكس فيقلل من قيمة الصداقة؛ إذ ليس ثمة من يحرص على سعادة إنسان خير من نفسه؛ والتبادلية الكاملة بين النفوس - التي يكون تمني الإنسان الخير للآخر أساسا لحبه الخير له - ليست غير محتملة وحسب، بل على الأرجح تقسي القلوب على من هم خارج هذه الدائرة السحرية،
19
ففي الأمور الأخلاقية يرى كانط أننا يجب أن «نتجرد من الفروق الشخصية بين الكائنات العاقلة.»
20
وما لا يدركه هو أن العمومية الحقيقية لا تعني تجاهل اختلاف الآخرين بل الالتفات إلى الاحتياجات الخاصة لأي شخص يتصادف قربه. إن هذا هو الوجه الذي يمكن من خلاله أخيرا التوفيق بين الهوية والاختلاف، فالأمر ليس حب كل إنسان، بل حب أي إنسان تصادف وجوده بالقرب منك. وهذا هو مغزى حكاية السامري الصالح؛ حيث يعتبر اليهود الأكثر تعصبا في ذلك الوقت السامرية أدنى أشكال الحياة، كما هي - على نحو أكثر عمومية - أدنى صور مفهوم العمومية المسيحي. وهي بذلك تمثل رابطا صادقا بين ما هو شخصي وما هو عام. وقد اعتبر كيركجارد - الذي رأى بطريقة متزمتة أن حب الإنسان لأصدقائه تساهل مع النفس - أن الجار هو أي شخص تصادفه عندما تخرج من باب بيتك.
من هذا المنطلق، فإن كانط أبعد عن المفهوم المسيحي للحب من هيجل الذي يجتمع الرجال والنساء في رؤيته العلمانية للخلاص في عمومية الروح بكل خصوصياتهم الحسية. كما أنه يختلف عن المفهوم المسيحي للحب بافتراضه أن التضحية التي لها قيمة فعلا هي التضحية بالنفس في سبيل القانون وليس في سبيل خدمة الآخرين غير الأنانية. كما يختلف كانط مع العهد الجديد في عدم رؤيته أن الحب في العقيدة المسيحية قضية وجود فائض وزيادة تتخطى القياس وليس مسألة متعلقة بعمليات التماثل المنمقة لقيمة التبادل.
21
فهي شكل من أشكال العطاء غير المجدي، عطاء يرفض السعي لتحصيل عائد لاستثماره، ليس لأن هذا هو حال العالم لكن لأنه من غير المحتمل بتاتا أن يتلقى عائدا. فالعهد الجديد - من بين أشياء أخرى - معارض شديد للمحاسبة؛ إذ يخل الحب بالتوازنات المقدرة بدقة في النظام الرمزي برفضه الاحتفالي لحساب التكلفة وتصفية الحسابات ورد الشيء بالمثل.
سنرى لاحقا أن النظام الواقعي اللاكاني محصلته مشابهة؛ إذ يشير جاك دريدا إلى أن النبي إبراهيم «في حالة غير تبادلية مع الرب»،
22
وهو الحال الذي لا ينطبق على النبي إبراهيم وحده. يوصي ما يسمى العهد الجديد، الذي لا يهتم بإمكانية الحساب، بأنه إن صفعك رجل على خدك فأدر له الآخر، وأنك إن أجبرك أحد أن تسير ميلا، فسر اثنين؛ وأنه إن أراد أحد أن يحاكمك ليأخذ ثوبك، فدعه يأخذ رداءك أيضا. فهذه الوصايا مثلها مثل عمل «أمثال الجحيم» لويليام بليك مبالغ فيها عمدا بما يفوق الحدود، وتهدف إلى الهجوم على البرجوازية الصغيرة الضيقة الأفق في كل عصر. إلا أن تلك الوصايا الأخروية - التي تسعى لتحرير المسيحيين من منطق «الوضع القائم» في ضوء نهايته المنتظرة - لا ينبغي أن يفهم أنها تفرغ المطالبة بتحقيق العدل من معناها، فجاك دريدا نفسه يلتف حول هذه الإشكالية بجعل العدالة هي الأخرى مسألة التزام لا متناه بدلا من إعطاء الحقوق لأصحابها، ففي المسيحية، ينعكس الحب الذي هو عطاء فائض أو مجاني بوضوح في فضائل الرحمة والتسامح، وهو ما يطيح بمفهوم عدالة رد الشيء بالشيء العين بالعين المنتظرة، فحب الإنسان لأعدائه عار على مفهوم قيمة التبادل.
كل هذا - بعبارة القديس بولس - هراء عند الأغيار، باختصار عند هؤلاء الذين يسعون مثل كانط لبناء اقتصاد أخلاقي أو رمزي حسن الإدارة. هناك بالتأكيد جانب مظلم لهذا التهور الخلاق المعروف بالانتقام الذي يمكن أن يكون مفرطا وهداما بكل الأشكال السلبية؛ ولهذا لا يمكن غض الطرف ببساطة عن العدالة القائمة على رد الصاع بالصاع - وكذلك عن النظام الرمزي الذي تنتمي إليه - كما يفضل بعض مناصري النظام الواقعي. يأمرنا العهد القديم بأن نتبع سياسة العين بالعين، وهي أمر مستنير تماما في هذا السياق. فهي ليست (كما تراها الحكمة الشائعة) تفويضا مطلقا للثأر الشنيع، بل محاولة لتحديد الجزاء بقدر الإساءة، فعلينا أن نأخذ العين بالعين، وليس الجسد كله. ليس تجاوز هذا الحد محبذا دائما. وهذا هو ما تعجز عن إدراكه أي نظرية أخلاقية للنظام الواقعي، وذلك كما سنرى لاحقا.
لا يناصر كانط القانون بسبب حبه للتشريع؛ فالفوضويون والأرستقراطيون وحدهم هم من يرفضون التسليم للقانون. لكنه يناصر القانون لأنه يؤمن بأن القانون ينبغي حبه واحترامه لذاته وليس لما يأمر به؛ فالفعل السليم أخلاقيا لا يجب أن يقتصر على الالتزام بالقانون بل يجب أن يكون في سبيل القانون ذاته. إن القانون عند كانط في الحقيقة لا يلزم بأي شيء على الإطلاق إلا أن تتخذ أفعالنا صورة معينة، فهو معلم سلوك أكثر منه واعظ لعقيدة. في المقابل يرى القديس بولس أن القانون نظام يناسب الأطفال أو حديثي العهد بالأخلاق؛ المستجدين الذين يحتاجون التوجيه في ظل وصاياه قبل أن ينضجوا على نحو كاف ليستوعبوا معناها الحقيقي، فهم كالأطفال الذين يجب أن يتحملوا ملل تعلم جداولهم عن ظهر قلب إن أرادوا أن يصيروا علماء رياضيات مشهورين. فالقانون وسيلة لا غاية في ذاته؛ فهو بالتأكيد نموذج أولي ضروري للحياة الجيدة، لكنه ليس كذلك بالنسبة للذين بلغوا النضج الأخلاقي، الذين لا أحد منا من بينهم. إن الذين في حاجة للقانون باعتباره كتيب الإرشادات بالنسبة للعامل الفني لا يزالون في طفولتهم الأخلاقية، كالمتحدث الجديد للعربية مثلا الذي يحتاج للرجوع إلى المعجم باستمرار. وعندما يستطيع هؤلاء التخلي عن هذا القانون سيرون العالم على الوجه السليم. ولكن لأن الطفولة الأخلاقية هي حالة إنسانية مزمنة فإن القانون لسوء حظنا وجوده دائم مثل دوام وجود الفقراء.
يرى القديس بولس أن الفضيلة هي الاعتياد التلقائي لفعل الخير الذي يؤدي إلى نقش القانون على القلب بدلا من ألواح الحجر. ويبدو أنه يعتبر القانون الأخلاقي - مثل كبش الفداء أو الفارماكوس - جيدا وسيئا في نفس الوقت لأسباب من بينها أنه ينبهنا دون قصد إلى احتمالية الخطيئة، كمقال بإحدى صحف الإثارة يخبئ شهوانيته وراء ستار السخط الأخلاقي، وكذلك لأنه يوجهنا إلى الخير دون أن يكون خيرا في ذاته. إذا يمكن للقانون وهو إذ يضعنا على الطريق الصحيح أن يحول دائما بيننا وبين ما يدعو إليه، فيصبح هو ذاته ما تتعلق به رغبتنا، وهذا ما يجعل القانون بوجهين من الناحية الأخلاقية؛ إذ يمكننا دائما أن نقع في حب القانون بدلا مما يمليه، مثلما قد نجد أنفسنا مفتونين بالمدرب وليس من محبي اللعبة. ومن بين الذين يقعون في حب القانون لذاته - ناظرين للشكل على حساب المضمون - الفيتيشيون أو الفريسيون الذين لا يمكنهم تحمل سلبية الرب السامية ويسعون لملء فراغ الغيرية غير المحتمل بصورة واضحة للرب. إن الفيتيشية هذه هي التي حرمتها الوصية الأولى من الوصايا العشرة؛ حيث إن الصورة الوحيدة الحقيقية ليهوه هي الصورة البشرية.
بعبارة أخرى فإن الوصية موجهة ضد عالم النظام الخيالي، ضد الذين يفخرون بعلاقتهم غير المتكلفة مع الرب والذين لا يعتبرونه إرهابيا عنيفا في سبيل الحب كما هو بل يرونه مخلوقا متحضرا يشبههم هم أنفسهم. وكما يقول لاكان بوضوح فريد: «إن الإنسان باعتباره صورة مثير للانتباه بالنظر إلى الفراغ الذي تتركه هذه الصورة؛ بسبب أن الفرد لا يرى في الصورة - فيما وراء ظاهرها - فراغ الرب المفترض أن ينكشف. ربما يرجع لذلك لاكتمال الإنسان، لكن الرب كذلك يترك فراغا في داخل الإنسان.»
23
فالقول إن الرجال والنساء خلقوا على صورة الرب يعني من بين عدة أشياء أنهم في بحر من اللاوجود؛ حيث إن الرب لا يرى باعتباره ذاتا من أي نوع؛ لذلك فإن فراغ النظام الواقعي وليس اكتمال النظام الخيالي، وعزلة الدين وليس عزاء الوثنية، هي التي من خلالها يكون ظهور الرب المتأخر كثيرا بين الناس.
إن تخليص النفس من القوة القسرية للقانون لا يكون بجعله أمرا داخليا، وهو ما لن يؤدي إلا إلى تعميق القسر المرضي الناتج عنه، فالتحرر من هذا الفرض الخبيث والحميد معا لا يعني تثبيته بداخل أنفسنا في صورة أنا عليا مستبدة من أجل أن نرضخ لأوامره بتلقائية تحاكي عادة التحلي بالفضيلة ظاهرا. وهذا تقريبا هو رد شيلر على كانط: فالقانون يظل ذا سيادة لكن يجب تلطيف صرامته بغرسه تماما في الحواس.
24
وكما الحال عند بيرك، فإننا لن نلتزم به حقا إلا بعد صبغه بصبغة جمالية، فهذا إن جاز التعبير تحول من السلطة المطلقة إلى نوع من الهيمنة. كذلك فإننا لا ننقض سيادة القانون - كما يفعل جيل دولوز - بغمس هذا النظام المقيد بكامله في فورة من الليبرتارية المتمردة، متطلعين في المقابل إلى آلية «الرغبة» الثورية في جوهرها، فنحن لا نتحرر من القانون الأخلاقي إلا عندما ندرك أن ما يفرضه هو خير في ذاته وليس خيرا لأنه مفروض. إذا يظل كانط سجينا للقانون الأخلاقي؛ حيث إنه يرى كما شاهدنا أن القانون لا يفرض إلا نفسه. صحيح أن كانط من أحد الأوجه محطم للأوثان التقليدية وليس مقدسا لها عندما يتعلق الأمر بالقانون؛ إذ يصر على استحالة تصويره السامي؛ إلا أنه، إذ يؤمن بأن فعله لا يتسم بالسلامة الأخلاقية إلا بتجسيده صورة معينة تطابق القانون، عرضة - إن جاز التعبير - لأن يفتتن بمدرب اللعبة لا باللعبة ذاتها. كما أنه في خطر الوقوع في الشطط كما في البروتستانتية الراديكالية، فالتيار الرئيسي للمسيحية يعلمنا أن الأشياء لا تكون خيرا لأن الرب يأمر بها، وهو ما يجعل الرب يبدو مستبدا متقلبا؛ مما يجعله في مرمى نيران سبينوزا. لكن الرب يريد ما هو خير في ذاته، والإقرار بذلك علامة على النضخ الأخلاقي، فهي خطوة سهلة للانتقال من الادعاء بأن الخير هو أيا ما يفرضه قانون متغير ما إلى الاعتقاد مثل كانط بأن الخير يوجد في شكل القانون ذاته.
إننا نتحرر من القانون عندما ندرك قبل كل شيء أنه قانون العدل والرحمة وليس فرمانا يستبد بالمنع والتحريم. إن هذا هو الدرس المستفاد من صلب المسيح؛ حيث يقلب موت المسيح الصورة الشيطانية أو الفريسية ليهوه باعتباره «نوبودادي» (بحسب عبارة بليك) أو أنا عليا أو طاغية متعطش للدماء لكشف حقيقة القانون باعتباره دعوة للحب والعدل، وهي دعوة من المرجح أن تودي بحياة من يؤمنون بها على يد الدولة السياسية. إن اتفاق المسيح مع قانون الرب المحرر هذا - مع أنه، كما يقولون، «ابن» الرب - هو ما أدى إلى تعذيبه وقتله؛ فالقانون في حد ذاته هو المتجاوز.
مع ذلك فإن القانون الأخلاقي الكانطي راديكالي تحديدا فيما يتعلق بمجهولية الهوية فيه، فإن كان له بعض جوانب منطق السلعة، فقد فعل ذلك بروح مستنيرة ومستبدة في الوقت عينه. وحتى السلعة عند ماركس - الذي يرى أن التاريخ يسير بوجهه السيئ - لها جانب إيجابي، فهي بوصفها لغة عامة تساعد على تجاوز أشكال الخصوصية «السيئة»، وتطيح بالحدود التي نصبها النظام القديم، وتجذب الرجال والنساء إلى تواصل قابل لأن يكون عاما بعضهم مع بعض، ومن ثم فهي تضع أسس الاشتراكية الدولية. يكتب تيودور أدورنو: «هذه الشكلية (الخاصة بالقانون الكانطي) تمنع في رحمة إساءة استخدام الاختلافات الكيفية للأشياء في سبيل التميز والأيديولوجيا، فهي تضع شروط العرف القانوني العام؛ ومن ثم - ورغم تجردها ونتيجة له - يبقى بداخلها شيء ذو أهمية هو قيمة المساواة.»
25
لهذا فإن كانط - وهو أعظم مناصر للتنوير الليبرالي - يسير بوجهه السيئ، إن جاز التعبير؛ إذ صار حقك في الحرية والاحترام والحقوق المتساوية مع أقرانك لا يرجع إلى أن والدك نبيل أو سيد إقطاعي، بل لأنك تنتمي للجنس البشري. إن الجرأة التي تميز هذا القول مذهلة. وكذلك القوة الثورية للتجريد والعمومية، خلافا لما يراه ما بعد الحداثيون. كما أنه بمجرد أن تترسخ هذه العقيدة فسيتمكن المجتمع البرجوازي من قياس ما هو قاصر عنه حتما من مثلها المثيرة للإعجاب. قد تكون الأخلاق الرمزية متنافرة غير متآلفة؛ لكنها تنبئ بقدوم عصر الذات المقررة لنفسها. وبذلك فهي تفتح بابا يتجاوز الجوانب الأقل جاذبية لما يسميه هيجل بالنظام الأخلاقي؛ الامتثالية الثقافية، والعادات غير الانعكاسية والإلزامية العمياء للتقاليد. لكن بما أنها تحثك في الوقت ذاته على ما يتجاوز الجوانب الأكثر الإيجابية للنظام الأخلاقي هذا - القرابة والمشاركة والفضيلة الاعتيادية والعواطف الخاصة - تصير هذه النقطة نقطة قوتها ونقطة ضعفها في آن واحد.
ليس كانط الليبرالي الذي يقنع بترك الآخرين لشئونهم طالما لم يتدخلوا في شئونه. على العكس، فهو يقترب بقدر ما يستطيع الليبرالي من مفهوم الخير العام والعلاقة التبادلية بين الذوات؛ إذ ليس من الكافي التعايش مع الآخرين في ظل اتفاق متحضر على عدم التدخل، بل إن السعي تجاه المجتمع العادل يعني دعم الغايات الأخلاقية للآخرين على نحو نشط مثل أهداف الشخص نفسه. يتحدث آلان وود عن رؤية كانط الأخلاقية باعتبارها رؤية للغايات «التي تدعم بعضها بعضا.»
26
لكن كما يوجد فارق بين القانون الأخلاقي الكانطي ومفهوم الحب في المسيحية فهناك فارق ذو صلة بين ليبرالية كانط والفكر السياسي لهيجل وماركس. ويدعم مناصرو مذهب الخير البريطانيين - كما رأينا - العلاقة التبادلية بين الناس، لكن الطريق مزدوج الاتجاه بين الناس يظل أسير شباك النظام الخيالي؛ إذ يتقيد بصورة كبيرة بالعلاقات المباشرة مع الناس. وبصفة عامة فإن هذه الرؤية ترتكب الخطأ المألوف بإحلال النبيل الإنجليزي محل البشر على مستوى العالم.
من ثم فإن الأخلاقيين من هذا النوع، كما أشرنا من قبل، لديهم مشكلة نوعا ما مع الغرباء والنماذج المختلفة الذين تقل إمكانية إظهار الخيال لعواطفهم. أما كانط فيرحب في المقابل بالغريب عن طريق القانون الأخلاقي؛ لكنه إذ يفعل هذا يقلل من منزلة الصداقة والتعاطف الحساس. فبما أن الناس عليهم أن يكافحوا من أجل دعم غايات بعضهم بعضا فهم، من وجهة نظر كانط، بعيدون عن أن يكونوا كالبدو الفرادى؛ إلا أنه طالما وضعت هذه الغايات على يد كل فرد لنفسه بدلا من أن تبنى بصفة مشتركة من خلال الممارسة المشتركة، فيظل كانط في نطاق المذهب الليبرالي؛ إذ إن الحب يعني أن يجد الإنسان غايته في الآخر وليس مجرد أن يناصر الغاية التي وضعها لنفسه. وكما هو متوقع، فكانط عاجز أيضا عن فهم أن مناصرة الفرد لغاية الغير على نطاق واسع ليست ممكنة إلا في ظل نظام اجتماعي غير منقسم بنيويا.
إن ما تحتاجه النظريتان الخيالية والرمزية هنا هو مفهوم المنظومة، فالمنظومات التي يبدو أنها ذات قيمة عند هيوم وهتشسون وزملائهما هي العائلة والنادي. من المؤكد أن القانون والملكية قضيتان شغلتا هيوم بقوة؛ إلا أنه يتعامل معهما في أغلب الأحيان على نحو تصوري؛ أي باعتبارهما مفهومين لا باعتبارهما واقعا اجتماعيا. أما عند كانط وتابعيه فالقانون الأخلاقي بالتأكيد منظومة بالمعنى الواسع؛ إلا أن المعطى الأخلاقي الأساسي عندهم هو الفرد، الذي يعامل في معظم الوقت باعتباره معزولا عن أي سياق اجتماعي، فهل يمكن إذن أن توجد صورة من التبادل الإنساني تختلف عن العلاقة المباشرة وجها لوجه، التي هي باختصار رمزية وليست خيالية؟ يجيب هيجل وماركس عن هذا التساؤل بالإيجاب، تماما مثلما فعل روسو من قبل، فالدولة في نظره يجب أن تبنى بحيث تترجم اهتمامنا الفطري تجاه احتياجات الآخرين إلى مراعاة واعية للخير العام.
يرى هيجل أن تركيز كانط على الحرية والعمومية ضروري لكنه أحادي الجانب؛ إذ اشترى حريته الأولية على حساب فراغ اجتماعي وسياسي معين. ولا يمكن لهذه الحرية أن تزدهر حقا إلا عندما تمارس في ظل النظام الأخلاقي الهيجلي، من خلال مشاركة الذات في الصورة المادية للحياة الاجتماعية. إن التجريد الشكلي لفلسفة كانط الأخلاقية - التي ترفض بعناد أي تناول لواقع العالم - يجب أن يرد إلى عالم العلاقات الاجتماعية التجريبي؛ إذ يجب أن يتجسد القانون في نزعاتنا وثقافتنا العامة. ويمكن اعتبار أن هذا يمثل - تقريبا - انصهارا للنظامين الخيالي والرمزي معا، للسياق الاجتماعي الذي نجد فيه انعكاس أنفسنا فيمن حولنا وعالم القانون الأخلاقي العام. إن الوجود الأخلاقي عند هيجل - كما عند أرسطو - هو قضية ترتبط بالسياسة، وقبل كل شيء بالدولة التي تجسد عند هيجل صورة معينة من الحياة، وتمثل روح العقل العام. وإلى هذا الحد يمكن دمج الفردي والعام ، والحرية والمجتمع، والحق المجرد والفضيلة الملموسة. وبعكس كانط، يقر كل من هيجل وماركس بأن الذات وغاياتها تقومان على علاقات الذات مع الآخرين؛ فهما يريان أنها ليست مجرد قضية أفراد منفصلين يتصرفون على الطريقة الكانطية ليحققوا التناغم بين غاياتهم المختلفة، ساعين إلى جعل هذه الغايات متسق بعضها مع بعض، مع تعزيز قدرة بعضهم بعضا على تحقيقها. إن ما يمكن هيجل وماركس من التفكير بهذا الأسلوب هو مفهوم التنظيم المؤسسي، فهيجل بالدرجة الأولى هو من يدرك أن الأخلاق يجب أن تكون مسألة تنظيم اجتماعي وليس مجرد رغبات فردية منعزلة؛ فالمؤسسات هي الوسيلة التي يمكن للآخرين من خلالها أن يكونوا جزءا منا حتى وإن كانوا غير معروفين لنا؛ فهي وسيلة للجمع بين الغرباء تماما في مشروع واحد. وهي تمثل إلى هذا الحد حلا فريدا لمشكلة النظامين الخيالي والرمزي؛ فالأول تبادلي لكنه مقيد، والثاني عام لكنه مفكك.
فلتنظر مثلا إلى فكرة التعاون المستقل، على النحو الذي تصور ماركس ازدهاره في ظل الاشتراكية. فأعضاء هذا المشروع لا يدعمون أهداف بعضهم بعضا إراديا، بل تكون هناك صورة من التبادلية مدمجة في بنية المنظومة نفسها. وهي منظومة تنجح تماما عندما يكون أعضاؤها المتعاونون غرباء عن بعضهم بقدر ما تنجح عندما يتصادف العكس؛ فالمنظومة إذ تسهم بجهودها المميزة في الكيان كله تضمن أن كل عضو فرد له دور في نفس الوقت في تعزيز تطور زملائه، فتجرد النظام الرمزي يستغل لتحقيق التضامن بين الأشخاص، تضامن يتمتع بلمسة رقيقة من النظام الخيالي. إن هذا - وليس مفهوم كانط عن الفضيلة الأخلاقية باعتبارها شركة مساهمة - هو الأساس الأخلاقي الذي تنبني عليه الاشتراكية، فتحقيق هدف كل فرد يصير شرط تحقيق هدف الجميع، ومن الصعب التفكير في نظام أخلاقي أكثر قيمة من هذا. •••
وحتى كانط المنكر لذاته بشدة لا يمكنه إنكار إغراءات النظام الخيالي جملة واحدة، فالعالم ليس ضدنا؛ لكنه، بقدر ما يمكننا الحكم عليه، ليس في صفنا كذلك. ولا يشعر الفرد بأن الواقع يشجعنا. مع ذلك توجد طريقة للتوفيق بين العقل والطبيعة، وهذه هي دائرة العالم الجمالي. ورغم أننا لا يمكننا أبدا الإجابة على الأسئلة الميتافيزيقية المستعصية مثل ماهية الواقع في ذاته، فيمكننا مع ذلك أن نسمح لأنفسنا بأن نتصور أنه محكوم بغايات إيجابية وينظمه نوع من القانون؛ ومن ثم فطبيعته مثل طبيعتنا. إن هذا النوع من التخيل الاستكشافي هو ما نستخدمه عندما نصدر أحكاما جمالية على الطبيعة، عندما يدهمنا إحساس بأن صورها تتوافق مع قانون معين، وإن كنا غير قادرين تماما على أن نحدد ماهيته. لا يتضمن الشيء الجمالي عند كانط أي فعل إدراكي؛ لكن يبدو أنه يخاطب ما يمكننا أن نسميه قدرتنا على الإدراك بصفة عامة؛ ليكشف لنا بصورة تشبه مرحلة «ما قبل الفهم» عند هايدجر عن أن العالم هو المكان الذي يمكننا فهمه من حيث المبدأ؛ إذ يلائم بحاله هذا عقولنا ملائمة رائعة حتى قبل وقوع أي فعل معرفي.
إذا فجزء من متعة العالم الجمالي تنبع من الإحساس بأننا نألف مكاننا في العالم على نحو يبدو مناقضا لاستنتاجات العقل، فنحن نرى الشيء خلال إصدار الحكم الجمالي كما لو كان ذاتا تبدي الوحدة والإرادة والحرية التي نتمتع نحن بها. بهذا الشكل فإننا نشعر بانسجام ممتع بين العالم وبين ملكاتنا الخيالية والفكرية، كما لو كان المكان مصمم بصورة غامضة ليناسب غاياتنا، فالشيء يفصل من شبكة الوظائف العملية التي يعلق بها عادة، ويمنح بدلا من ذلك شيئا من حرية الإنسان واستقلاله. وبفضل هذه الذاتية الخفية، يبدو الشيء كما لو كان يتحدث حديثا مفهوما لمن يدركونه، فيحرك فيهم أملا بأن الطبيعة ليست غير عابئة كليا بغاياتهم.
إن كان العقل والقانون الأخلاقي يخرجانا إذن من عالم النظام الخيالي؛ فالعالم الجمالي يعيدنا إليه من جديد؛ فالذات والآخر يلتفت كل منهما للآخر بلطف. ويبدو أن الواقع يقدم إلينا تلقائيا، مثل شيء يتسلل إلى راحة أيدينا كما لو كان تصميمه يراعي قدرتنا على الإمساك؛ ففي العالم الجمالي يمكننا أن نبتعد قليلا عن موقع الأفضلية الخاص بنا ونستدير إلى أنفسنا ونتأمل التوافق التام ظاهريا بين قدراتنا الإدراكية والعالم ذاته . عندها نجد أنفسنا في موقف علماء الفيزياء المعاصرين الذين يعجبون من أن أذهاننا، وهي نتاج التطور الأعمى، قادرة على اكتشاف البنى الأساسية للكون، دون أي فائدة عملية ظاهرة. ويرى كانط أن الشيء الجميل يتمتع بوضع فريد لكن عام؛ إذ يبدو أنه يقدم تماما إلى الذات ويخاطب ملكاتها، فهو «يشبع رغبة» ويبدو مطابقا للذات بنحو معجز؛ ورغم أنه يعطينا إحساسا بالإشباع، فهو لا يستثير فينا أي استجابة شهوانية. وربما ليس من الوهم أن نجد في هذه الصورة المادية المثالية - التي تنتزع منها كل الرغبة والشهوة الحسية - ذكرى لجسد الأم كما ترى في النظام الخيالي.
في ظل هذا السياق تبدو الطبيعة متفقة مع الفهم الإنساني، وليس التمسك بوهم أنها مصممة لتتلاءم مع فهمنا هو الآخر خطوة عظيمة عن كانط. ويمكننا - إذ نستند بهذه الطريقة إلى ما يحيط بنا - أن نحلم بأن أعين الكون لا تتجاهلنا كما نخشى، أن نحلم بأن الكون نفسه توقع قدومنا ويشاركنا بعض أهدافنا. ويكتب هربرت جيمس باتون، أحد المعلقين على كانط، يقول:
إنه لحافز كبير للعمل الأخلاقي، وداعم قوي للروح الإنسانية، إن استطاع الناس الإيمان بأن الحياة السليمة أخلاقيا أكثر من مجرد مشروع فان يشترك فيه الإنسان مع أخيه الإنسان وفي خلفيتهما كون أعمى غير مبال إلى أن يمحى هو والجنس البشري من الوجود إلى الأبد. فالإنسان لا يمكن أن يتجاهل احتمال أن جهوده الضعيفة نحو بلوغ الكمال الأخلاقي قد تتفق - رغم ما يظهر - مع الحكمة من وجود الكون ...
27
يبدو الأمر كما لو أن توماس هاردي - برفضه العنيد لفكرة تواطؤ الكون الحميد - قد اتفق أخيرا مع بابا الفاتيكان. وفي النهاية فإن رؤية العالم الخالي من المعنى ثبت أنها مستفزة أيديولوجيا جدا لكانط، وبالتأكيد لهربرت جيمس باتون، الذي نشرت شروحه لأفكار كانط في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ويبقى احتمال وجود تواطؤ له حكمة بيننا وبين الكون - أي تناغم مسبق بين الذات والشيء - مجرد فرضية؛ إلا أنها فرضية تمنحنا على الأرجح «حافزا كبيرا للعمل الأخلاقي»؛ وذلك بعبارة باتون. فالرجال والنساء يواجهون صعوبة في تقبل أن القيم الأخلاقية ليس لها أصول إلا في أنفسهم، وربما يعانون من انهيار يصحبه هلع إلى العدمية نتيجة لهذا الإدراك. إن ما يخبرنا به العقل - أو النظام الرمزي - ليس تماما ما تقبله الأيديولوجيا أو النظام الخيالي؛ فالعالم الجمالي هو ذكرى باهتة للاتحاد العضوي في عصر عقلاني وأثر باهت للسمو الديني. فالتناغم أكثر أهمية في المجتمع الفردي من ذي قبل؛ لكنه يوجد في مجتمع يسوده الإحساس أو بنية مشتركة تقوم على العاطفة وليس في كيانات سياسية أو اقتصادية.
عندما يتأمل الطفل الصغير في طور المرآة جسمه، فهو ينسب لنفسه تماسكا يرجع في الحقيقة للصورة. إن هذا في واقع الأمر هو مصدر متعته. وعندما يشاهد الرائي عند كانط شيئا جميلا، فهو يجد فيه وحدة وتناغما، هما في الحقيقة نتيجة لقدراته العقلية الخاصة. وفي كلتا الحالتين، يقع خطأ إدراكي خيالي، وإن كان بمبادلة معينة بين الذات والشيء في كلتا النظريتين، فالذات الكانطي القائمة بالحكم الجمالي هي من بين أشياء أخرى الطفل اللاكاني المبتهج النرجسي.
28
لكن في حال أن صرنا متقوقعين بتعجرف داخل حبنا لذاتنا فإن السامي عند كانط جاهز ليخرجنا من قصورنا الذاتي. فهو موجود ليذكرنا بأننا بلا مأوى وباللامحدودية العصية على الفهم التي هي ملجؤنا الحقيقي الوحيد. فعلينا - كما يرى بيرك - أن نتعرض للتوبيخ والتملق، ونتعرض للجمال والسمو، والاتفاق والاختلاف، والأنوثة والذكورة؛ إذ يجب أن يبدو العالم مكانا حاضنا لنا لكي نسعى داخله لتحقيق هدف ما؛ لكن يجب علينا أيضا أن نستسلم للتخويف من جانبه من وقت لآخر، فننتزع من ذاتية تتمحور حول الرضا إن أردنا أن نسعى لبلوغ حدود قدراتنا.
هوامش
الفصل السادس
القانون والرغبة في مسرحية «الصاع بالصاع»
يحدد شكسبير بقدرته التنبؤية المعتادة مميزات وعيوب نظرية الأخلاق الكانطية في مسرحيته «الصاع بالصاع».
1
فالمسرحية - كما يوحي عنوانها - تتناول فكرة رد الشيء بالشيء أو قيمة التبادل؛ لكنها تتناول أيضا المشكلات التي قد يواجهها منطق المعادلة هذا، ففي افتتاح المسرحية، يكون القانون في وضع مزر؛ فيسمح حاكم فيينا المفرط في التحرر - الدوق فينسنتيو - للمدينة بأن تسقط في وحل الخزي والعار، ويعين العنيف أنجيلو ليعيد فرض السيطرة. والدوق «منحه رهبته وألبسه محبته» (1، 1: 20)، وهو ما يعني أنه منح نائبه ما يعتبره بيرك الجانبين السامي والجميل من القانون؛ ومن ثم سلطته على القسر والإقناع.
أما أنجيلو «الدقيق» - وهو رجل «لاذع في نقده مشدد في تقشفه» «يتكون دمه من الثلج المنصهر» ويقال إن بوله يتكون من الثلج الشديد الصلابة - فيلتزم بفصل صارم بين الأفراد الذين هم من لحم ودم وبين النظام الرمزي. وهذا هو السبب في قدرته على الحلول محل الدوق بسهولة ظاهرة؛ حيث إن المسألة تتعلق بتغيير رمزي لا عملي. بل لا يبدو هناك أي فرق بين أنجيلو الفرد وموقعه الرمزي، بين ميوله الخاصة وأفعاله العامة. يقول لإيزابيلا: «لا أريد ما لا أستطيع» (2، 2: 52)، فهو ينظر لنفسه من المنظور الفوقي للنظام الرمزي ذاته، باعتبار أنه ما هو إلا حامل محايد لسلطته المحايدة. «إن القانون - ولست أنا - من يدين أخاك» هكذا يبلغ إيزابيلا المفجوعة عندما يحكم على أخيها كلاوديو بالموت بتهمة الزنا. ويضيف: «إن كان قريبي أو أخي أو ابني، فالأمر سيان» (2، 2: 80-82).
يتسم القانون المطلق العدالة بشيء لا إنساني بالضرورة، بإغفاله المؤكد للتحزب والخصوصية؛ فبروده الظاهر علامة على سمته اللاإنسانية. وأنجيلو - إن صح التعبير - مثال جيد على صاحب المذهب الكانطي العمومي، الذي يبغض تماما هذا التحيز لصالح الأصدقاء والأقارب الذي يميز أتباع ديفيد هيوم. ولكيلا يصير القانون ملكا لعصبة الطبقة الحاكمة الفاسدة، فيجب أن يساوي بدقة في معاملته للغرباء والأقارب. ويقول الحكمدار ذو القلب الطيب الذي لا يتمتع بأي من برود أنجيلو إنه لن يتعاطف مع قاتل وإن كان أخاه. ويقول أنجيلو بأسلوب لبق إنه بتصرفه من دون تفضيل ورفضه السماح بالاستثناءات فهو يظهر رحمة بأولئك الذين تسيء إليهم أو تضرهم مثل هذه الأفعال. كما يشير أيضا إلى أنه بإعدام مجرم فهو يحمي ضحايا آخرين محتملين؛ فالعدالة ليست عدو الرحمة، بل شرط مسبق لازدهارها؛ إذ لا يوجد تعارض حقيقي بين ما هو رمزي وما هو عاطفي، فإن تنازل القانون لصالح الإنسان فهو يخاطر بأمن كل الناس الذين يطلبون حمايته.
وتقول إيزابيلا، إذ تتوسل إلى نائب الملك القاسي ليبقي على حياة أخيها: «إن كان مكانك وكنت أنت مكانه لزللت مثله ...» (2، 2: 64-65)، وهذه حجة بعيدة عن كونها دامغة، فكل ما تثبته هو أنه إن كان أنجيلو محل كلاوديو لتصرف مثل كلاوديو. وإن طبقنا هذه الرؤية على مستوى أبعد، فسيكون كل فرد مقياس نفسه، وهو موقف مستبد على طريقته بقدر عدالة أنجيلو التي لا ترحم. فكون الإنسان قانون نفسه يوازي الخلط بين الألفاظ («محترم» ب «متهم» وغير ذلك) الذي تفعله الشخصية الكوميدية الفرعية إلبو، فالخلط بين الألفاظ نوع من اللغة الخاصة التي تقرر أنت فيها ما تعنيه، تماما مثلما يعني المقابل الإنجليزي لكلمة امتياز (
) «قانونا خاصا»، وهو وضع فوضوي يصبح فيه كل فرد القانون الخاص بنفسه.
وتأخذ إيزابيلا نفسها اتجاها استبداديا في قولها: «الحقيقة تظل الحقيقة إلى آخر مدى» (5، 1: 45-46)؛ في الحقيقة، إن هذه هي المرة الوحيدة التي تشبه فيها للمفارقة أنجيلو الذي تمقت حكمه على أخيها. لكنها تجبر مع اشتداد الجدال على تبني رؤية للعدالة أكثر استنادا للسياق وهو ما توضحه بمثال لغوي: «وما نعتبره كلمة غضبى إذا قاله القائد، نعده إلحادا وزندقة إذا قاله الجندي» (2، 2: 130-131). وهي تقصد أن القانون ينبغي أن يراعي تغير السياق كما تراعيه اللغة. ربما ينبغي له ذلك؛ لكن الخطر في هذه الحالة - إن حدثت المبالغة - هو أن ينتهي بنا الحال مثل إلبو، نشرع لأنفسنا معاني متضاربة لكلماتنا. إن العلاقة بين استخدامين مختلفين للفظ الواحد عند شكسبير نفسه يشبه العلاقة بين الهوية واللاهوية المتزامنتين، التي تربط بين الدوق ونائبه أنجيلو. فهي ليست مجرد قضية اختلاف كما تقول إيزابيلا. وتبرز بعض الصور المجازية العابرة في المسرحية التي تطعم التعليقات العابرة والصور الخيالية الجانبية مفهوم الثبات أو التناسق، وهو ما يمكن تمييزه مع ذلك عن الهوية الذاتية الصارمة.
إن الحالة التي تتلمسها إيزابيلا هي أننا من وجه ما نتبادل أماكننا بسبب نقصنا الأخلاقي المشترك؛ فثمة مساواة في الإنسانية البحتة مثلما هناك مساواة في القانون المجرد. فإن كان كل إنسان يدين جميع من سواه في دائرة لا تنتهي، فلماذا لا ننقض هذه الاتهامات المتبادلة التي لا طائل منها بالتسامح، فنكسر هذه الدائرة وندشن نظاما أخلاقيا من نوع جديد؟ إلا أن أنجيلو صد هذه الخطوة بشيء له منطقه الخاص، فيخبر إيزابيلا أنه إن كان مكان كلاوديو فسيتوقع أن يعامل بنفس القسوة:
إنك لا ينبغي أن تلتمس العذر لجريمته
بأن لدي مثلها، الأخلق بك أن تقول:
إنني، أنا الذي أصدرت الحكم، حين أرتكب جريمة مثلها،
علي أن أجعل ذلك الحكم الذي أصدرته يقرر إعدامي،
ولا يسمح بالمحاباة. (2، 1: 27-31)
إن تلك هي النتيجة الحتمية لمعاملة الآخرين بما تحب أن يعاملوك به، فضعفي الأخلاقي لا يمنعني من الحكم على العمل المشين أخلاقيا عند الآخرين، مثلما لا يمنعني عجزي عن الغناء من أن أعرف الغناء الرائع عندما أسمعه.
إن الرحمة في عين أنجيلو شأنها شأن العاطفة مجردة بصورة خطيرة، فهي تغفل مدى حسن أو سوء الفعل، فتضحي بهذا الحكم من أجل دافع ذاتي خالص. ومن هذا المنطلق فإن الرحمة - للمفارقة - تتسم باللامبالاة تجاه خصوصية القانون ذاته التي تسعى لتلطيفه. إلا أن أنجيلو مخطئ في تصوره أن الرحمة نوع من البقعة العمياء الإدراكية، فعبارة هاملت التي يوبخ فيها بولونيوس: «لو عاملت كل امرئ بموجب استحقاقه، فمن ينجو من الجلد بالسياط؟» لا تعني أنه لا ينبغي للإنسان تسجيل الخطأ بل أن يغفره. وتقع إيزابيلا هي الأخرى في هذا الخطأ؛ إذ تطلب من أنجيلو بأسلوب بلاغي: «كيف يكون حالك، لو أن الرب - وهو قمة العدالة - كان ليحكم عليك، كما أنت؟» (2، 2: 75-77). لكن الفرق هو أن الرب لا ينظر للرجال والنساء بما هم عليه، فهو ينظر إليهم في ضوء خوفهم وضعفهم وهو ما يسهل مسامحته لهم. فالحب والعلم، كما يشير الدوق ضمنا، متلازمان بالطبيعة. والحب الصادق - كما يقول لاكان - هو حب الآخر على نقصه، فالرحمة والواقعية رفيقان متلازمان.
كذلك فإن القانون العادل لا يتجرد من المواقف العملية التي يحكم عليها، فيتغاضى في عجرفة عما يميزها بل يطبق قواعده العامة على هذه المواقف بدرجة من الكياسة، أو الحكمة العملية (كما يقول أرسطو)، فيراعي حالتها وهيئتها الخاصة. وبذلك تكون الأحكام القانونية مثل المنطوقات؛ أي تطبيقات محددة لا تقبل الاختزال لأعراف معينة شديدة العمومية. فإن لم يكن القانون يجرد ويساوي فستكون لدينا قوانين بعدد المواقف، وكل موقف منها سيكون مستقلا حينها (فعليا، قانونا في حد ذاته) ومن ثم يكون مطلقا؛ إذ لا جدال مع الشيء الذي يماثل نفسه، فالشيء الذي يماثل نفسه لا يمكن قياسه، وهو أحد الأسباب التي تجعل مسرحية «الصاع بالصاع» مليئة بالطوطولوجيات. إن تلك الاسمية القانونية - رغم شغفها الشديد بالخصوصية - ستكتب شهادة وفاة العدالة. لكن القانون - باستمداده الهوية من الاختلاف - كاللغة، لا يعيش إلا في إطار سياقات إنسانية محددة لا يمكن إغفالها أمام مبادئه الأساسية. إن الوسيط بين العام والخاص في حالة القانون واللغة هو التأويل، فالدوق عندما يزور السجن يطلب أن: «يعرف طبيعة جرائمهم؛ حتى أعظهم بما ينبغي» (2، 3: 6-8). فعمل الخير لا يفرق، رافضا بعكس العقيدة الإنجليكانية الفيكتورية التفريق بين من يستحقونه ومن لا يستحقونه؛ لكنه دقيق مع ذلك في التمييز بين أنواع الاحتياج المختلفة، فهو شأنه شأن أي قانون فعال يتسم بالعمومية والخصوصية معا.
لكن المشكلة تتعلق بكيفية الاتصاف بالعدل أو بالرحمة دون الدخول في حالة اللامبالاة الباردة عند لوشيو الذي يهدد غروره بقدرته على التعامل في المواقف الصعبة بتدمير فكرة القيمة في ذاتها؛ فإن كان أنجيلو - كما يوحي اسمه باللاتينية - ملائكيا، فلوشيو شيطاني. فبينما يعرف الملائكيون - كما يقول ميلان كونديرا - بخطابهم «الطيب» على نحو خاص وبلاغتهم الجافة وعاطفتهم المهذبة، فإن الشيطانيين لا يرون من حولها سوى التردي؛ فالكهنة والسياسيون ملائكيون، بينما الصحفيون بصحافة الإثارة شيطانيون، فالشيطانيون ليسوا أشرارا؛ إذ إن الشر يستلزم الإيمان بالقيمة الأخلاقية حتى وإن كان من أجل مخالفتها. فإبليس في شعر ميلتون ليس شيطانيا بينما شيطان توماس مان في مسرحية «دكتور فاوستس» شيطاني. أما لوشيو فهو مؤمن بالمذهب الطبيعي الأخلاقي، لا يرى شيئا حقيقيا سوى الرغبة، ويعتبر كلمة «إنساني من لحم ودم» تصنيفا وصفيا لا معياريا، فموقفه اللامبالي من القانون يظهر في رد صديقه بومبي المتسم بالاحترام المصطنع على خبر حظر بيوت الدعارة في فيينا: «هل سعادتك تقصد إخصاء كل شبان المدينة؟» (2، 1: 136). «قليل من التسامح مع الفسق» (3، 2: 53) هي السياسة البديلة التي يقترحها لوشيو بدافع المصلحة على أنجيلو، فسعة أفقه بحق ضرب من السخرية، فالشيء المطلق الوحيد الذي يقره هو الشهوة، أما القوانين والألقاب والقيم والشعارات فما هي إلا واجهة ثقافية براقة.
إن الساخر هو شخص لا يؤمن إلا بواقعية المتعة، معتبرا الآخر الكبير أو النظام الرمزي معتقدا زائفا فارغا يستخدمه ليحقق غايته. ومن هذا المنطلق فإن السخرية محاكاة تهكمية قاسية للكوميديا، وهي فن يثق بالقيمة الأخلاقية لكنه ينظر إليها من زاوية المفارقة والسخرية في ضوء عجزنا الحتمي عن مجاراتها، فهي برفضها مطالبتنا بالكثير علاج لمن هم تحت نير الأنا العليا الذي لا يرحم. فالكوميديا تمجد القيمة الإنسانية بوعي ظريف لاعتباطية تقاليدنا ووجودنا الذي لا أساس له، فهي بهذا المعنى - وليس لأنها تبشير بمستقبل متناغم - فن يوتوبي، فتتيح وفرتها وغزارتها سموا لحظيا عن دنيا التاريخ المميتة.
لا يمكن للوشيو أن يتحدث عن القيمة الأخلاقية، كما لا يستطيع المحار أن يتقن قواعد علم الجبر. إن تسامحه مع الرذيلة تهكم على التسامح الحقيقي، لأسباب ليس أقلها أنه لا يكلفه شيئا، فهو تسامح بلا قيمة لأن ثمنه بخس. من هذا المنطلق، وكما يمكن أن توجد عدالة جامحة (الانتقام)، يمكن أن توجد رحمة عديمة القيمة. فكما يشير الدوق، «فالرذيلة إذا أشفقت اتسعت الرأفة حتى ليصادف الخاطئ حبا في الخطيئة» (4، 2: 88-89). وتميز إيزابيلا بين ما تسميه «الرحمة القانونية» و«الرحمة الشريرة» التي تسامح من أجل كل الأسباب الخاطئة أو بدافع التسيب الأخلاقي، فصفة الرحمة ليست مقيدة كما تعلن بورشيا في مسرحية «تاجر البندقية» لكنها ليست رخصة أو كرما غير محدود كذلك؛ إذ يجب عدم السماح بالسخرية من العدالة أو من قيمة الأشياء الجوهرية، فيمكن لصرامتك أن تزيد عن الحد كما عند أنجيلو؛ لكن من الممكن أن تبالغ في تقديرك بصورة تقضي على كل الفروق وتخلط كل المواقف الإنسانية خلطا مشوشا في موقف واحد. ومسرحية «الملك لير» هي مسرحية أخرى لشكسبير تركز كثيرا على الشعرة الفاصلة بين الزائد عن الحد والأقل من اللازم، بين الوجود والعدم، بين الوفرة القاتلة والوفرة التي تمنح الحياة.
2
تتوازى «اللاعاطفية» الأخلاقية عند لوشيو في مسرحية «الصاع بالصاع» مع القصور الروحي الملحوظ عند المجرم بارناردين، وهو سيكوباتي شبيه بموزيل لا يأبه بالحياة والموت، لدرجة أنه لا يعترض على إعدامه إلا لأنه يتعارض مع نومه. إن بارناردين ميت فعلا بصورة ما، فهو يتوقع الموت المحتوم فلا يهابه، ويعيش في غيبوبة أخلاقية مرضية، وهو إذ يغرق في بلادته الروحية يقف بالفعل عند نقطة النهاية التي تكون فيها كل الاحتمالات متساوية، فالموت يبدو أنه يؤكد ما يشك به هو ولوشيو، وهو أن كل القيم واحدة في النهاية، فهما لا يدركان أن هناك سبيلا أقل سخرية لتساوي الاحتمالات، وهو التسامح؛ فالتسامح انكسار بلا سبب لدائرة المساواة الصارمة، دائرة رد الصاع بالصاع؛ ومن ثم فهو يبشر بالموت في ظل أنماط الحاضر المنتظمة.
يصير بارناردين منيعا بالضرورة بعد أن قهر الموت بهذا الشكل، فالذين يتقبلون مصيرهم عن وعي يسمون عليه بعين هذا القبول، فيتحول إلى حرية. إن هذا التلازم هو ما يميز أزلا البطل التراجيدي؛ إذ يعلن كلاوديو: «إذا لم يكن من الموت بد، فسألقى ظلمته كعروس، وآخذها بين أحضاني» (3، 1: 91-93). وفي ظل هذا التلازم بين القدر والحرية، يقدم الحدث التراجيدي حلا فريدا للصراع بين اللامضمون والمضمون، بين الحرية والقيود، بين المشروعية والمنع، الذي تتناوله المسرحية. فالدولة يجب أن تؤجل موت بارناردين إلى أن يقبل الأمر عن اقتناع، فما دام لم «ينفذ» بطريقة ما وفاته ليحولها إلى فعل صادق يخصه، فلن تكون حدثا في حياته، وهو ما سيشوه صورة السلطة التي حكمت به عليه، فموته يجب أن يكون ممارسة واعية وليس مجرد حدث بيولوجي. وفي أصدق لحظات وجودنا - ونحن على شفا الفناء - يجب علينا أن نثبت أننا فاعلون بالمعنى الكامل. يقول الدوق للحكمدار: «أقنع هذا الشقي أن يقبل على الموت» (4، 3: 49). وثمة طرق قليلة أكثر فاعلية لمقاومة السلطة من اللامبالاة الصادقة تجاهها، فهذا الرجل المتوحش الميت الحي يفهم بطريقته أن السلطة لا تكمن إلا في رد الفعل التي تسببه فيمن يخضعون لها. وهكذا - كما حدث - أدرك ديفيد هيوم عندما قال إنه عندما يتعلق الأمر بالسيادة فإن المحكوم له اليد العليا دائما.
إن الفوضى والاستبداد في المسرحية - كما يتضح - ليسا بأي حال نقيضين كما يبدو. فمن جهة، الإباحية تولد القمع، فإن سمحت للقانون - كما فعل الدوق - بأن يسقط في مستنقع العار، فأنت تمهد الطريق لظهور سلطوي شبيه بأنجيلو في المستقبل. وتعج المسرحية بصور لاستراتيجيات فاشلة وأفعال ذات نتائج عكسية. يعلق كلاوديو: «فكما أن الإفراط في الطعام يؤدي إلى الصيام، كذلك الحرية إذا أفرطت في استخدامها، تحولت إلى قيد» (1، 2: 76-78). وبصفته رجلا زج به في السجن بتهمة ممارسة الفحشاء، فمن المفترض أنه على علم بذلك. ومن ناحية أخرى فإن القانون - كما في التحريم الأوديبي - هو ما يغذي الرغبة في المقام الأول. لذا فإن أنجيلو - إذ يواجه إيزابيلا العفيفة عصية المنال - يقع فريسة لرغبة تخرج عن السيطرة، ويعرض عليها أن يعفو عن أخيها إن مارست معه الرذيلة. فمن خلال عرض إيزابيلا مبدأ مجردا أمام أنجيلو بنفسها، تكتشف للأسف أنها أغوته بنفسها لا بالمبدأ. ففضيلة الحاكم يتضح أنها مثل وصف لوشيو لعظام زبون عاهرة مصاب بالجدري: «كالأشياء الجوفاء» (1، 2: 57). فإن كان أنجيلو يجسد القانون الأخلاقي فهو يمثل وجهه القبيح، فالقانون أو المنطق الذي هو مثل أنجيلو «لا يحس أبدا بوخزات الحس الحقيقية أو حركته» (1، 4: 58-59) غريب على الجسد، ومن المرجح أنه سيؤخذ على حين غرة على يد رغبة تفاجئه بتمردها.
لقد عجز أنجيلو باختصار عن استيعاب الدرس الذي أراد شيلر أن يعلمه لكانط في كتابه «عن التربية الجمالية للإنسان»، الذي مفاده أنه إن أراد العقل أن يضمن سيطرته على الرغبة فعليه أولا أن يخترق صفوف الحواس بصفته طابورا خامسا، فيوجهها من الداخل بدلا من أن يظل غير مبال، في معزل عن الشهوة. وينطبق الشيء ذاته على قضية السيادة السياسية على الشعوب. ومن ثم تبرز الحكاية الخيالية الخاصة بالملك الذي يتحرك متخفيا بين العامة، والذي ما كان دوق مسرحية «الصاع بالصاع» إلا مثال واحد لشكسبير عليها. إن القوة السياسية الفعالة لا هي طاغية ولا هي متساهلة في إهمال، بل هي مهيمنة. إن مشكلة القانون هي ما قد نسميه «معضلة الأمير هال وفالستاف»: كيف تكون على دراية بالضعف البشري تكفي لتفهمها من الداخل بينما تفصل بينها وبين نفسك لتحكم عليها دون تحيز؟ إن أمثال الدوق فينسنتيو في هذا العالم يجب أن يتعلموا مع أمثال لوشيو دون أن يصيروا منفذين لرغباتهم. فعلى القانون أن يحقق المعادلة الصعبة بأن يكون ملازما للبشرية ومتساميا فوقها في آن؛ كما الرب السامي في ضوء السياق الفرعي المسيحي للمسرحية الذي يغفر الخطيئة وهو في نفس الوقت الابن البشري الذي أوصلته الخطيئة للموت. لكن إن كانت الرحمة منبعها التعاطف الداخلي مع الخطيئة فسيبدو الاتصاف بالرحمة والتحلي بالفضيلة معا متناقضين قليلا. فمتى يتحول التعاطف إلى تواطؤ؟
إن حوار أنجيلو مع إيزابيلا لم يكن أولى مواجهاته مع قوة الرغبة المدمرة، مهما كان ما يظنه بنفسه. بل على العكس، فإن الأفعى كانت في الحديقة متربصة به منذ البداية. وقد أصابه سمها بالفعل في صورة رغبته المرضية في الهيمنة، الذي كان فرويد بلا شك سيرصد فيها شبح دافع الموت. كما يمثل أنجيلو الافتتان بالأنا العليا بغضبها العاصف المدمر الساعي للنظام، وخوفها العصابي من أنه لولا التعريفات الدقيقة والأسس الصلبة فسينهار العالم في حالة من الفوضى. فنفس القوى التي تسعى للسيطرة على الفوضى تحبها سرا؛ لأن المحرك الخفي لها هو دافع الموت؛ فالدافع وراء النظام في داخله فوضوي، فهو مستعد لإخضاع العالم للعدمية المطلقة؛ فالأنا العليا - كما أوضح فرويد - تستمد قوتها الانتقامية المخيفة من الهو الجامح.
لهذا يمكن أن ينهار أنجيلو دون عناء يذكر من السلطوي الزاهد إلى المعتدي الشهواني. نفس الأمر ينطبق على القانون، أو بالأحرى أي نظام للتبادل الرمزي؛ فلأن هذه الأنظمة التبادلية الرمزية صارمة التنظيم فهي تميل للاستقرار؛ لكن لأن القواعد التي تحكمها يمكن أن تستبدل أي شيء بآخر دونما مراعاة لطبيعتيهما الخاصة فمن الممكن أن تنتج حالة من الفوضى يشوش فيها كل شيء على الآخر دون تمييز، ويبدو النظام كما لو كان منشغلا بالمعاملات لأجلها في ذاتها. فهناك شيء ما في بنية الاستقرار نفسها يهدد بتدميرها. وهذا هو الحال مع النظام الرمزي الذي من أجل أن يؤدي دوره بكفاءة، يجب أن يتيح تبديلات مرنة بين أدواره المختلفة؛ ومن ثم لا يمكنه تجنب الاحتمالية الدائمة لوقوع زنا المحارم، فمن دون هذا الخطر المرعب في قلب النظام فلن يتمكن من أداء دوره.
تمتلئ مسرحية «الصاع بالصاع» بأعمال التبادل الرمزي، مع حركة الأجساد بلا توقف، فأنجيلو يمثل الدوق، وتمثل إيزابيلا التماس أخيها لرحمته، في الوقت الذي يمثل الدوق نفسه من خلال تحركه وسط الناس متخفيا. ويريد أنجيلو أن ينال جسد إيزابيلا مقابل جسد كلاوديو، لكن ينتهي به الحال مع ماريانا التي تحل محل إيزابيلا في فراشه. وترمز رأس بارناردين المقطوعة لرأس كلاوديو، لكن بما أن بارناردين متبلد بدرجة أكبر من أن يعدم تستبدل برأسه رأس راجوزين في اللحظة الأخيرة. ويستخدم أنجيلو كلاوديو كمثال لكل الآثمين المحتملين الآخرين، وبذلك يحوله إلى رمز عام، وهو الذي «جعل خطية» - كالمسيح - من أجل الآخرين.
ويكون التوزيع النهائي للأجساد في مواضعها الصحيحة في مناسبة الزواج، الذي به - كما يناسب الكوميديا - تنتهي المسرحية. فالأجساد نوع من اللغة، يمكنها أن تخدع (كما في حيلة الفراش مع ماريانا) أو تساعد، كالكلمات، باعتبارها وسيلة سلسة للتواصل. تتعلق المسرحية بحقيقة الكلام وحقيقة الجسد، فالاقتران السليم للأجساد في الزواج يوازي الارتباط المتناغم بين الكلمات والأشياء. ومن هذا الوجه يعد أنجيلو صورة مرعبة في خستها للدوق، بينما يظهر إلبو الاقتران غير الملائم الذي تتيحه اللغة بين الدوال والمدلولات. فكما نشعر بقوة القانون من خلال انتهاكه، لا يمكن أن يكون هناك صدق من دون الاحتمال الدائم للكذب أو الخطأ في الحديث، فتمثيل الآخر يتضمن نوعا من قيمة التبادل؛ ومن ثم يتضمن الاختلاف والتطابق معا؛ في حقيقة الأمر، المسرحية غنية بصور لشخص يتقمص أو يتلبس أو يتشبه بشخص آخر. فكما أن العدالة يجب أن تضبطها الرحمة، فدائما ما سيكون هناك بعض الانحراف أو الفجوة بين الصورة والشيء المصور، ففي المرحلة التي يمكن أن نسميها مرحلة ما قبل السقوط - كما رأينا - يقترب أنجيلو من إغلاق تلك الفجوة، حيث يرى أنه ليس إلا حاملا لراية القانون. لكن التفاوت بين الرجل ودوره جاء في حالته بدرجة شديدة، فالحالة الوحيدة للتطابق التام بين صورة الشيء والشيء تكون في تمثيل الذات، والذي يعد المكافئ السياسي له هو الديمقراطية.
وهذا سبب آخر يفسر ولع مسرحية «الصاع بالصاع» الشديد بالطوطولوجيات («النعمة هي النعمة» و«الحقيقة هي الحقيقة» وغيرها) حيث إنها تتملص من قيمة التبادل، وإن كان بطريقة لا قيمة لها. إن هذا التشوش أو بقايا الاختلاف بين عناصر التبادل هو ما يفسح المجال للرحمة، فبينما كان أنجيلو في البداية متطابقا تماما مع دوره العام، يعلم الدوق أن الذاتية لا يمكن أن تتطابق مع مضمونها؛ إذ ثمة فجوة بين الدور الرمزي للقاضي والفرد الذي يؤديه، وهي حالة خلاقة من عدم التطابق تسمح للرحمة بأن تلطف صرامة القانون. إن انعدام التطابق الحقيقي في التبادل يتضح بقدر كاف في ختام المسرحية واضح التكلف، الذي يعد فيه توزيع الأجساد بالزواج غير ملائم، حتى إن شكسبير يزوج إيزابيلا للدوق، فيما يبدو أنها نزوة للكاتب أكثر منها منطقا دراميا.
ترى النظرية اللاكانية أن النظام الخيالي والنظام الرمزي والنظام الواقعي تتداخل وتتشابك معا، فبعض أشكال طور المرآة على سبيل المثال ترى أن الاختلاف الرمزي ينتهك فعلا التطابق الخيالي في صورة الأم، التي يراها الطفل إلى جانبه في المرآة. علاوة على ذلك رأينا بالفعل أنه يوجد رعب صادم في لب النظام الرمزي، وهو ليس زنا المحارم بل هو الحضور الشبحي للنظام الواقعي. ليس من الغريب إذا أن كانط - المناصر والممثل بامتياز للأخلاق الرمزية - كان ينبغي أن يعتبر أيضا فيلسوفا أخلاقيا للنظام الواقعي، وذلك كما سنرى في الجزء القادم.
هوامش
الجزء
سطوة النظام الواقعي
تمهيد: الرغبة المحضة
كان النظام الواقعي في العقدين السابع والثامن من القرن الماضي - على الأقل في النظرية الثقافية الإنجليزية - بدرجة كبيرة العنصر الأقل تقديرا في ثلاثية لاكان، والأقل حظا من الفهم بالتأكيد. ولم تظهر الأهمية المتزايدة لهذا النظام في فكر لاكان إلا في العقود الأخيرة فقط خاصة من خلال عمل ممثل لاكان على ظهر الأرض: سلافوي جيجك.
1
وكما يقال إن النظام الواقعي نفسه دائما ما يعود إلى مكانه، فكذلك يفعل في كتابات جيجك الطويلة، التي بالنظر إلى تعدديتها البراقة المتسمة بقليل من الهوس تعود من جديد في أسلوب تكراري ساخر من الذات إلى هذا الكيان الغامض، فتدور باستمرار في فلك شيء ناقص تأمله لكنها تعجز عن التعبير عنه. إن كتب جيجك - كما في مفهوم فرويد عن الشيء العجيب - مألوفة وغير مألوفة معا، مدهشة في تجديدها ومقروءة في الوقت ذاته، مليئة بالأفكار الجديدة الخلابة لكنها إعادة إنتاج بعضها لبعض. فإن كان جيجك يقرأ عمل لاكان باعتباره سلسلة من المحاولات للتركيز على نفس اللب الثابت الصادم، فيمكن قول الشيء نفسه عن أعماله هو، التي تنبثق فجأة في صورة جديدة مع شيلنج أو هيتشكوك أو الشغب العرقي أو ألعاب الكمبيوتر، لكنها لا تنفك تركز على نفس المشهد المخيف والرائع.
2
إن قدوم هذا التلميذ المخلص للاكان من العالم الشيوعي السابق على الأرجح أمر ذو صلة في هذا السياق، فمن الغريب أن يجد جيجك ورفاقه من أتباع لاكان في مدرسة ليوبليانا للتحليل النفسي أنفسهم منجذبين في العهد الستاليني الجديد إلى نظرية تهدم السلطة الزائفة لما يسمى بالدال الأكبر. لا شك أنهم كانوا متحمسين بنفس القدر للإصرار على غموض الذات البشرية وتدهور هويته، في ظل نظام اجتماعي سادت فيه الشفافية الزائفة وعقيدة الفردية الجوهرية. في الوقت ذاته، بدا أن نقص الشفافية الفعلي في النظام اليوغوسلافي وغموضه المعقد قد أديا دورهما في جعل الفكر اللاكاني ذا صلة . كما أنه في دول البلقان المتسمة بالنزعة القومية والانقسام العرقي، المنطقة التي طالما مثلت آخر كبيرا مهددا في أوروبا، يمكن للتحليل النفسي - وهو علم يدرس كيفية تكوين الذاتية الإنسانية - أن يكون ذا صدى سياسي أكبر مما هو الحال في روما أو نيويورك. فإن كان الهروب من المسئولية والتأليه والانقسام والانغلاق والتنصل والإسقاط والأمثلة آليات نفسية مألوفة بالقدر الكافي، فهي أيضا مادة النزاع العرقي والصراعات العسكرية.
يرى جيجك وزملاؤه لاكان باعتباره المناصر المتأخر للنظام الواقعي المتصلب أكثر منه ذلك الرجل الباريسي العصري المتبني لما بعد البنيوية الذي يرى أن العالم يمكن تحليله إلى خطاب («بنيوية الاسباجيتي» كما يسميها جيجك بازدراء)، وهذه النزعة مفهومة بقدر ما في ظل ظروفهم السياسية، فليس من العجيب أن الذين يكتبون وتحيط بهم صراعات قاتلة هم أكثر استجابة لما يقاوم الترميز أكثر من نظرائهم في جامعتي كورنيل وكنيسة المسيح. إنه هذا التضارب بين دائرتهم المهنية - اللغة، في المجمل - وما يتجاوزها مما يحتمل أن يخطر بذهن المفكرين في المواقف المضطربة سياسيا. وليس من العجيب أن يمثل النظام الواقعي أهمية كبيرة لأصحاب الهدف السياسي الساعين لهزيمة الكل، بصرف النظر عن كيفية إلزام السلطة المستبدة إلزاما ساديا لضحاياها بتقبل أغلالهم، فكل هذا يمكن بالتأكيد النظر إليه في ضوء هذا الحظر الجماعي للرغبة التي كانت الشيوعية البيروقراطية.
ثمة تشابه بين هؤلاء والمهرطق الأوروبي الشرقي الآخر الذي يدعى ميلان كونديرا، فقد رأينا من قبل كيف أن كونديرا يستخدم مصطلحي «الملائكي» و«الشيطاني» بأسلوب ذي صلة بالأخلاق؛ لكن يمكن تطبيقهما بنفس القدر على السياسة؛ إذ يرى في روايته «كائن لا تحتمل خفته» الدول الشمولية دولا «ملائكية»، خائفة من الغموض، وعازمة على ألا يفلت أي سلوك إنساني من شباك الفهم، وواضعة كل شيء في إطار من الدلالة اللامعة والوضوح الآني. وفي طرفة ساخرة، تحكي الرواية كيف يقترب مواطن من سكير تشيكي يتقيأ في وسط براغ في العهد الستاليني الجديد فيهز رأسه ويتمتم: «أعرف تماما ما تقصده.» وفي عالم الوضوح المباشر هذا المصاب بجنون الارتياب ، فإنه حتى القيء يجب أن يحمل دلالة معينة. أما ما يصفه كونديرا ب «الشيطاني» في المقابل فيتميز بثرثرة ساخرة تثور على مخططات الطغيان المنظمة، وترتع في مستنقع فراغ الأشياء من معناها. ليس من الصعب رؤية نظام لاكان الرمزي في الوضع الأول ونظامه الواقعي في الوضع الآخر، أو استيعاب السبب في أن احتمالية النظام الواقعي المطلقة - اعتياده قصم الأنظمة الرمزية المغلقة ببقايا الرغبة التي لم يتم إشباعها - كان لها أن تتمتع بجاذبية وتلهف عند مفكري أوروبا الشرقية في حقبة الحرب الباردة. إن ما سنراه بعد قليل باعتباره أمرا أخلاقيا عند لاكان - التوصية بعدم تخلي الفرد عن رغبته مهما بدت مستحيلة - يشبه البيان الرسمي لحركة التضامن البولندية في أحلك الأوقات التي مرت بها.
إن العلاج المتعلق بالتحليل النفسي من وجهة النظر اللاكانية ليس مختلفا عن تحقيق الاستقلال السياسي، وهو ما قد يكون سببا آخر في أن البلقان ثبت أنه بيئة شديدة الخصوبة لمجال التحليل النفسي. إن المريض الذي يخرج «بنجاح» من التحليل اللاكاني هو مريض تعلم ألا يرضى أبدا، تعلم أن يقر بأن رغبته لا يدعمها الآخر الكبير وأن أساسها ذاتي بالكلية؛ ومن ثم فهي مطلقة وسامية في كل جوانبها تماما كما أشيع عن الرب لبعض الوقت. إن كانت الرغبة متعدية - أي إن كان لها شيء تتعلق به أمام ناظريها - فسيمكننا أن ندرس السياقات التي تغذي مثل هذه التطلعات؛ ومن ثم لن تعود الرغبة جذرية. إن انعدام وجود هدف حقيقي للرغبة فيما وراءها هي في حد ذاتها هو ما يجعلها أساسا لا يمكن الغوص إلى مستوى أعمق منه. فمثلما يمثل الروح القدس سرور الرب الأبدي بصورة نفسه التي هي ابنه، لا تتوقف الرغبة أبدا عن تأمل صورتها الذاتية ومطاردة ذاتها، مزدرية الأشياء التافهة التي تخطف الأنظار، والتي توجد هنا وهناك لتحقق لها الإشباع الفوري. وبما أن الرغبة - مثل الرب - هي أرضية بلا قاع؛ ومن ثم ليست أساسا على الإطلاق، فإن الخاضع للتحليل النفسي يجب أن يفترض احتمالية وجوده، فيتخلى عن المسعى غير ذي الجدوى لإيجاده، وقد صدق عليه آخر كبير يعتبر وجوده على أي حال سرابا. إن كان هذا يشبه قليلا الخروج من تحت سيطرة حاكم قمعي، فهو يحمل أيضا أكثر من مجرد شبه بالقديس. ولا شك أن هذا من بين الأسباب التي تجعل العلاج بالتحليل النفسي مسألة مطولة بصفة عامة، في الواقع طويلة بالقدر الكافي لتحقق مجموعة كبيرة من الشعوب الصغيرة استقلالها.
وبرغم شروح جيجك الواضحة على نحو يثير الإعجاب للنظام الواقعي، يظل هذا النظام مفهوما غامضا، وكذلك متناظرا (بلغة الأكويني)؛ إذ يعمل على عدة مستويات بصورة متزامنة. ومن العلامات على مراوغته أن ناقدا بقدر ذكاء فريدريك جيمسون يخلط بينه وبين التاريخ الفعلي، وهو آخر ما قد يكون. يكتب جيمسون: «ليس من الصعب أن نحدد ماذا يقصد لاكان بالنظام الواقعي، إنه ببساطة التاريخ نفسه ...»
3
وعلى هذا فلا يسعنا إلا التعليق برد خاطف بأنه بالفعل من الصعب جدا تحديد المقصود بهذا النظام، وأنه، أيا كان، لا علاقة له إطلاقا بالتاريخ من منظور لاكان، وأنه دائما يعود إلى نفس النقطة تماما ولا يتفكك كما لا يذوب الصخر في الماء. وهذا من بين الأسباب التي تجعل المفهوم بالكامل فضيحة في نظر ما بعد الحداثيين الذين يفضلون أن يكون واقعهم أكثر طواعية ولينا.
إن النظام الواقعي لا يقتصر على أنه غير مرادف للواقع المعتاد أو التقليدي، بل إنه يكاد يكون عكسه.
4
صحيح أنه في كتابات لاكان الأولى ربما يرى البعض أن المصطلح استخدم في بعض الأحيان ليدل على تمرد العالم المادي أو الدوافع الجسدية التي لا يمكن تصويرها أو المتعة التي تتجاوز النظام القضيبي أو الآثار غير اللفظية للرغبة التي تنفلت من النظام الرمزي. وفي أعماله المتأخرة يتمتع المفهوم بنفس القدر من التقلب، فهو قد يشير إلى الاستحالة المفترضة للعلاقة الجنسية أو الإخلاص غير المشروط للقانون الخاص بوجود الفرد، بصرف النظر عن غموض هذا القانون أمام العقل، الذي هو الأساس لكل الرؤى الأخلاقية الحقة. وفي الحالة الأخيرة نتحدث عما يسميه لاكان أخلاق الدافع بدلا من أخلاق الرغبة، وهي أخلاق تشق طريقها عبر التصورات التي تغذي الرغبة لتظهر في صورة أقل إبهاما على الجانب الآخر. في المقابل، فإن النظام الواقعي هو ما يسميه ميلان كونديرا في روايته «الخلود» «الفكرة الرئيسية» لهوية الفرد؛ أي مرضية الرغبة غير القابلة للاختزال التي تميز كل إنسان، فإن كان دافع الحياة (إيروس) ودافع الموت (ثاناتوس) عامين، فإنهما مع ذلك يتركان أثرا فريدا على كل فرد.
مع ذلك - وبالرجوع إلى جيمسون - فإن مساواة الواقعي بالواقع التاريخي ببساطة هي قراءة خاطئة بكل تأكيد؛ فالواقع عند لاكان مجرد مكان ذي مستوى أدنى للتصور وظيفته حمايتنا من هوة النظام الواقعي، كملجأ نوعا ما للنفس. فالتصور هو ما يملأ الفراغ في وجودنا لكي تتمكن مجموعة القصص التي أهلكها تداولها الكبير، والتي نسميها الواقع، من الظهور. كما يرى لاكان، أن في الحلم - وليس في المكان المبهرج الذي نسميه الواقع - يكون اقترابنا من النظام الواقعي لرغباتنا. فالنظام الواقعي هو ما يخلخل هذه الصور الجميلة؛ ليخرج الذات من حالتها السليمة ويخرج النظام الرمزي من وضعه الصحيح. فهو نقطة فشل الذات وطريقها المسدود، والطريقة التي تعجز بها الذات عن الاتساق مع نفسها، والجرح الأصلي الذي أصابنا بطردنا من الجنة فيما قبل الأوديبية، وهو الإصابة البالغة في وجودنا حيث ننتزع من جسد الأم وتتدفق منها الرغبة دون توقف.
إنها تلك الصدمة الأولى - ذلك التحريم الأبوي المروع، وسيف الإخصاء الذي بيد القانون، وعذاب الانفصال، والشيء المرغوب المفقود إلى الأبد، والواجب الذي تفرضه الأنا العليا للانغماس في إحساسنا بالندم - هي ما تبقى كنوع من اللب الصلب المروع داخل الذات. وفي ظل السجال المميت بين القانون والرغبة ننقاد لنمارس الجلد القهري والمرضي للذات الذي يمارسه الأموات الأحياء. ومثلما يرى شوبنهاور أننا جميعا نحمل دائما في داخلنا وحوشا، وأن القوة الخبيثة التي سماها الإرادة هي التي تظهرنا في صورة إنسانية، فإن النظام الواقعي على نحو ما جسم غريب مغروس بداخلنا. إنه ذلك الشيء الذي بداخل الذات الذي يزيد على الذات، إنه فيروس قاتل يغزو جسدنا لكنه - كما يقول الأكويني عن الرب - أقرب إلينا من أنفسنا.
ليست الرغبة شخصية إطلاقا، فهي - كما أدرك جون راسين - بلاء كامن بانتظارنا منذ البداية؛ سيناريو تراجيدي نرثه ممن يكبروننا؛ بيئة مشوهة نغرق فيها عند الولادة. إنها «الشيء الذي في الذات» الذي يجعلنا ما نحن عليه؛ فهي وتد غريب مغروس في جوهر وجودنا. غير أنها أيضا، كما سنوضح فيما بعد، وسيلة محتملة للخلاص. إن النظام الواقعي هو الشيء الأكثر اضطرابا دائما فينا، وهو الأكثر ارتباطا بجوهرنا. وفي هذا الوضع الملتبس يظهر باعتباره نوعا من «السقوط السعيد»، والعيب أو النقص في تطابقنا مع الذات الذي يضمن أن نظل غير منطبقين مع ذواتنا دائما؛ لكن من دونه لن نتمكن من أن نكون على حقيقتنا؛ فهو كالسمو، وهو نسخة معاصرة منه، مغر وبغيض في الوقت ذاته، هو مصدر لرعب لا يوصف؛ لكنه (كما سنرى بعد قليل) ذلك المصدر الخفي لوجودنا الذي يجب علينا أن نؤمن به بأي ثمن.
إن النظام الواقعي صادم وغامض وقاس وفاحش وفارغ بلا معنى وممتع على نحو مروع، فهو في غموضه صورة من الشيء في ذاته الذي لا يمكن معرفته في فكر كانط، وما يتجاوز معرفتنا في النهاية هو الإنسانية نفسها. وبتطويع ملحوظة فتجنشتاين عن الأخلاق، فإن النظام الواقعي يتضمن الاصطدام بحدود اللغة، والإصابات الناتجة عن هذا الصدام هي الشواهد الحية على فنائنا. لا يمكننا أن نستوعب هذه الظاهرة الغريبة إلا بتحليلها على نحو عكسي - إن جاز التعبير، من نتائجها - من وجودها عائقا أمام خطابنا، مثلما لا يستطيع الفلكيون أحيانا أن يتعرفوا على جرم سماوي إلا من خلال التأثير الانحنائي الذي يسببه للفضاء من حوله؛ إذ إن اتخاذ النظام الواقعي شكلا ملموسا، وظهوره في الواقع ذاته، هو قدر المصاب بالذهان الذي انهارت قدرته على الترميز، فالنظام الواقعي هو مشهد الافتتاح، ورمانة الميزان، والشيء المجرد فيما وراء العلامة أو العنصر المجرد في أي نظام سيميائي وظيفته الدلالة على الحقيقة بحيث لا يمكن تجميعه؛ فمن منظور معين، يعني هذا الرمز الكودي الذات الإنسانية نفسها، الفراغ الذي يوجد بقلب النظام الرمزي. وهذا الفراغ هو الشرط المسبق لكي يعمل هذا النظام بكفاءة، لكنه لا يمكن تصويره فيه بصورة كاملة.
يرفض النظام الواقعي، باعتباره ثغرة في بنية النظام الرمزي، الدلالة الرمزية عليه، فهو نوع من الفائض أو الفضلات يظل باقيا عندما يتشكل الواقع بالكامل. إنه المرحلة التي تتحول فيها صناعتنا للدوال إلى انعدام للترابط، وتبدأ فيها معانينا في الانكشاف من أطرافها؛ وبذلك فهو لا يسجل نفسه بصورة مباشرة، بل يرسم الحد الخارجي لخطابنا أو للصمت المنقوش داخله. فهو يمثل لبا صلبا أو فراغا شاسعا في قلب نظامنا الرمزي (التشبيهان المتناقضان سليمان) إن منعا من الامتزاج التام مع أنفسنا ففي ذلك انهيار للكل وتخريب لكل المعاني المفهومة. إنه الفراغ الخالي على نحو مطلق من المعنى الذي نجد صداه في حديثنا المنطوق، والعقدة في وجودنا التي لا يمكن لأي قدر من العمل الروحي المضني أن يفكها؛ ففي قاع المعنى - كما في الشعر - يظل دائما ثمة بقية من اللامعنى.
إن ظل النظام الواقعي هذا هو ما شعرت به الرسامة ليلي بريسكو بالقرب من نهاية رواية فيرجينيا وولف «إلى المنارة»؛ إذ تحاول إنهاء إحدى اللوحات، وفي نفس الوقت تحاول فهم العالم من دون مركزه المشرق، محبوبتها السيدة رامساي. ومع الانسحاب المفاجئ لهذا الجسد الأمومي الحاضن تشعر ليلي «وكأن ذلك الرابط الذي يربط عادة الأشياء ببعضها قد انقطع، وهي تسبح هنا وهناك، مبتعدة، بأي صورة. وفكرت، وهي تنظر إلى فنجان القهوة الفارغ خاصتها: كم كان هذا عبثا، كم كان فوضويا، كم كان غير حقيقي!» وبينما يطلق السيد رامساي صرخاته المفككة المفجوعة («وحيد»، «هالك»)، تشعر ليلي بأنها إن تمكنت فقط من تجميع هذه الدوال المروعة معا و«وضعها في جملة واحدة فسيمكنها حينها أن تصل إلى حقيقة الأشياء ... إن ما تمنت أن تمسك به هو عين المصدر المسبب للإزعاج، الشيء ذاته قبل أن يكون أي شيء.» والحداثة بصفة عامة تتسم بهذا الشغف بالمواجهة المباشرة مع النظام الواقعي، فلا تجد سوى ما يسوءها، وهو توسط الدال بينهما. وهذا - يمكننا أن نقول - هو مكمن انتصارها وجزعها في الوقت ذاته. لكن النظام الواقعي في رواية وولف هو أيضا سبب الانحراف، وهو العقبة؛ فالجهاز البشري الخاص بالرسم - والإحساس - «دائما ما يتعطل في اللحظة الحاسمة، ويجب على الإنسان ببسالة أن يجبره على الاستمرار.» تفتش ليلي عن كلمات تعبر عن فراغ الموت الذي يقبع في جسدها، والإحساس بوجود «مركز الفراغ التام» الذي يبدو أن مصدره ليس موت السيدة رامساي بقدر ما هو الإحساس المطلق بالتوق في ذاته، وهو جوهر الرغبة المطلق غير المقيد. إن كانت ليلي غير قادرة على استكمال لوحتها، فذلك لأسباب ليس أقلها أنه في كل مرة يظهر لها نذير الموت الهزيل، السيد رامساي، برغبته الجهرية في التعاطف «يقترب الخراب، وتقترب الفوضى» في هذا «المنزل المليء بالعواطف غير المترابطة».
ورغم شفقة رامساي الذاتية الصبيانية، فإنه في النهاية يثبت قدرته على تجاوز دائرة الشفقة والتعاطف الخيالية إلى «منطقة أخرى ... منطقة خارج متناول الإنسان»؛ حيث ينزل أخيرا بالمنارة كبطل استعاد رجولته المدمرة بمعجزة. وتسأل ليلي نفسها: «ما الذي بحث عنه بهذا الإصرار وهذا التصميم وهذا الصمت؟» في تلك الأثناء، وبينما يسافر رامساي إلى حدود رغبته في الوقوف أمام المنارة المنعزلة، تشعر ليلي بأنها «غير راغبة في الثرثرة، غير راغبة في الحياة، غير راغبة في الاجتماع بالناس في وجود عدوها القديم المرعب، هذا الشيء الآخر، هذه الحقيقة، هذا الواقع الذي سيطر عليها فجأة بعد أن ظهر جليا من خلف المظاهر واستحوذ على انتباهها. لقد كانت منقسمة بين عدم الرغبة والامتناع، فلماذا دائما يطول الأمر ويبتعد؟»
لكن هذا الاستدعاء الهام للنظام الواقعي هو كذلك إحساس بعدم التناسب الجذري للأشياء - أي اضطرابها أو ظهورها فجأة بصورة غريبة كل دقيقة - كتجهم مفاجئ أو شبح على وجه جميل: «لقد نسي المرء نوبات الانفعال اللطيفة - الفورة والشحوب والتشوش الغريب، الضوء أو الظل - التي تجعل الوجه غير واضح لوهلة، ومع ذلك تضيف سمة له يراها الإنسان بعد ذلك إلى الأبد.» ثمة رهبة وكذلك نشوة في الشعور بالمخاطرة والانكشاف الشديدين بما يتخطى العادات الوقائية للنظام الرمزي: «ألم يكن هناك أمان؟ ولا معرفة كبيرة بقوانين العالم؟ ولا مرشد ولا ملجأ، بل كان كل شيء معجزة، وقفز من أعلى برج في الهواء؟ هل يمكن - حتى عند من هم أكبر سنا - أن تكون تلك هي الحياة؟ هل يمكن أن تكون مدهشة وغير متوقعة ومجهولة؟» سنرى لاحقا كيف كان هذا الفرق بين العادة والمعجزة موضوع أعمال بعض فلاسفة الأخلاق المعاصرين المتناولين للنظام الواقعي.
ومع تحول «الأشياء الخارجية» إلى عالم اللاواقعية، يسكن لوحة ليلي غير المنتهية حس وجود هو في نفس الوقت «خفيف بحيث لا تضطرب له أنفاسك، وثقيل بحيث لا يمكنك إزاحته بمجموعة من الخيول.» وتستمر - وهي لا تزال تتأمل حال الموتى - في «مواجهة صعوبة في رسمها» إلى أن يخطر ببالها أن ترسم خطا يمثل شجرة في وسط اللوحة، وحينها تشعر بابتهاج عظيم؛ فلقد تخطت الآن - مثل السيد رامساي - حاجزا غير مرئي، وقفزت فيما وراء قانون الجسد المحب والقمعي في نفس الوقت الذي مثلته السيدة رامساي لها، مدركة في نوبة من الحرية عدم الحاجة للخضوع لهذا القانون من خلال زواجها. لقد تحول السيد رامساي نفسه إلى الأعزب الذي كان من قبل، سائرا بخطى خفيفة كشاب إلى داخل المنارة، «كما لو كان يقفز في الفضاء» بحثا «عن العالم كله ... كما لو كان يقول: «ما من إله.»» إن كان قد صار ملحدا في لحظة الكشف اللامعة الغامضة تلك؛ فذلك لأن النظام الواقعي لرغبته اتضح أن أصله في ذاته لا يستمد أي دعم مما سواه. وفي الوقت نفسه ترسم ليلي - إذ تدفعها مغامرة لوحتها المحفوفة بالمخاطر إلى أقصى حدود قدراتها - خطا فجأة في وسط اللوحة، بينما تنتهي الرواية باقتباس من كلام المسيح على الصليب: «لقد اكتمل الأمر، لقد انتهى.» وفي ضوء هذا التصوير الفني للنظام الواقعي، ليس من الغريب أن ترى في قلب رائعة وولف الأخرى «السيدة دالوواي» الموت والذهان وتفكك المعنى. •••
إن النظام الواقعي من ناحية هو أثر الاحتمالية المادية غير المفهومة التي لا يسع النظام الرمزي أن يستوعبها بالكامل أبدا، والقوة التي تعطل دافع ليلي بريسكو الفني نحو النظام. أما من ناحية أخرى فهو نظام مقترن بشدة بالدوافع الجسدية التي هي في حالتها النقية أو الفعلية غامضة بالنسبة إلينا بقدر مفهوم كانط «الشيء في ذاته»، والتي يجب أن تمر عبر شوائب الدال من أجل أن تدخل إلى الوعي الإنساني. وكما لو لم يكن ما سبق كافيا، يمكن تعريف النظام الواقعي بأنه - كما في رواية «إلى المنارة» - الشيء الذي هو دائما في غير محله، ومع وجود هذا الشيء المرغوب الممنوع والمستحيل الذي هو جسد الأم، عرف السعي المحموم إليه في مجال التحليل النفسي بأنه مسار التاريخ الإنساني. فإن تمت استعادة هذا الفردوس المفقود، فإن التاريخ - الذي ما هو إلا الفشل المتكرر في الوصول إليه - سيتوقف. وفيما يتعلق بجسد الأم، يمثل النظام الواقعي محل «متعة» مفقودة، تلك اللذة المنتشية للآخر الكبير التي تبدو ملذات النظام الرمزي بجانبها ضئيلة للغاية.
إلا أن هذه «المتعة» أو تلك النشوة الشديدة تحمل أيضا بصمة الأنا العليا المهددة، بصمة القانون الذي يأمرنا بالرضا في سعادة بخضوعنا، مع انتزاع حياة محمومة من الشيء المريع المتمثل في الوصول بأنفسنا إلى الموت.
5
إنها صورة مروعة وضارية من المتعة نحصد فيها الإشباع من الطريقة التي يطلق فيها القانون أو الأنا العليا وحش ساديته المختلة علينا. إنه قانون فارغ من المعنى، كعبارة النادل الأمريكي السطحية اللازمة: «بالهناء والشفاء!» إننا في وجود النظام الواقعي دائما ما نكون في ظل الموت، أو بعبارة أدق، ما علمنا فرويد أنه دافع الموت الذي نشتهي نتيجة حكمه السادي هلاكنا. إن هذا المأزق بين القانون والرغبة قبل كل شيء - تلك الجدلية المتوقفة التي يعزز بها كل منا قدرة الآخر على التعامل مع الموت - هي ما يمكن من خلاله الإحساس بوجود النظام الواقعي.
إلا أن ثمة وجها مخلصا للنظام الواقعي، مثلما له وجه مدمر. إن الشيء الأكثر واقعية فينا من وجهة نظر المحلل النفسي هو الرغبة، والإخلاص لرغبتنا يعني من ثم الإخلاص لأنفسنا. لكن هذا حتما إخلاص للفشل؛ حيث إن الرغبة لا توقفها الطبيعة، والذين يمتلكون الشجاعة الكافية لتقبل هذه الحقيقة هم الأبطال الحقيقيون، مثلما ينتزع البطل التراجيدي الكلاسيكي النصر من مخالب الهزيمة، فعين الشجاعة التي تسمح له بالاستسلام لقدره هي كذلك قوة تتخطاه. إن الشخصيات الأدبية التي سنتناولها في الفصل المقبل - الذين يفضلون السير بشمم نحو الموت، على التخلي عن رغبتهم المطلقة في الشرف أو العدل أو العفة أو التقدير - هم الذين أصبح هدف إنساني ما عندهم كناية عن الرغبة في ذاتها، كناية عن ذلك الذي بداخلهم، الذي يتخطى كل الأهداف المنطوقة. إنهم لهذا السبب يتمسكون بالأشياء التي يتوقون إليها بهذه القوة الشديدة.
الأخلاق عند لاكان إذا تتخطى ما هو جيد ونافع وفاضل وممتع، وتكمن في نطاق الرغبة المقنن بشدة، فالمؤثرون الذي يسعون جاهدين لخدمة الآخرين وإشباع احتياجاتهم وتعزيز رفاهتهم، لا يفعلون ذلك إلا لأن الصورة الحقيقية للذة التي هي المتعة - وهي اللذة التي «لا طائل منها» - قد خذلتهم بكل أسف. أما المصلح النفعي أو السياسي فهو الشخص غير القادر على الاستمتاع من دون غاية منظورة، فهؤلاء الذين يصادرون على الخير - كما يزعم فلاسفة الأخلاق الواقعية - يفترضون بأسلوب ضمني استبدادي أنهم على علم بما فيه خير الآخرين، بينما لا يقع المحلل المحب لمريضه فريسة لهذه الافتراضات المسبقة.
من ثم فإن سياسة الخير تتضمن نزعة أبوية بيروقراطية، نزعة تعرف الخير بأسلوب حزبي، وتدافع عنه ضد منافسين أقوياء معينين في سوق الأخلاق، وتحدد توزيعه وتنظيم أموره. ويمكن الرد على هذا بأن المحب الصادق ليس الذي يعطي تعليمات لآخر عن طبيعة الخير بل الذي يكون هو نفسه سببا فيه. إن هذه التبادلية هي التي ينكرها فيلسوف واقعي مثل جون راجمان؛ إذ يكتب أن التحليل النفسي «يطرح مسألة وجود رابطة شهوانية غير قائمة على التشارك أو التبادل أو المساواة بل تقوم على «الأشياء» المفردة التي يكنها كل منا للنظام الواقعي.»
6
فالتحليل النفسي باختصار ما هو إلا صورة من التجرد السياسي؛ وذلك كما يره الماركسيون السوقيون، لأسباب أكثر تعقيدا هذه المرة. فمسألة الروابط الاشتراكية أو المتبادلة التي تقوم على الواقعي ببساطة تنحى جانبا، فهي كما سنرى مسألة يسعى اللاهوت - الذي يرى أن المجتمع الخالد هو مجتمع لا يقوم إلا على الحب العنيف المقترن بالتضحية - لطرحها؛ رغم أن راجمان بعد أن ذكر في دراسته الرائعة أن المسيحية أحد العوامل التي أثرت في كتابات لاكان إلا أنه يعجز في صمت واضح عن تناول هذه المسألة مرة أخرى.
فالرغبة إذن باعتبارها الشيء العام الوحيد في الأخلاق تتعارض من منظور لاكان مع الخير؛ لكن الاثنين ليسا كذلك إطلاقا عند مفكر مثل توما الأكويني الذي يرى أن الخير هو ما لا يسعنا سوى أن نرغبه. فالرغبة عند الأكويني ما هي إلا صورة للخير الأسمى بداخلنا؛ أي الطريقة التي بها أصبح جزءا من جسدنا والتي يستحوذ بها علينا بعيدا عن الإرادة المجردة. ففي كتابه «الخلاصة اللاهوتية» يتنبأ الأكويني بمعتقد لاكان أن الرغبة هي ما يصنع ما نحن عليه، وهذه الرغبة التي تعمل بصفتها المبدأ الحاكم لكل أفعالنا عبارة عن تطلع إلى ما يسميه «السعادة». فمن الطبيعي أن نرغب في السعادة، لكن من الطبيعي أيضا ألا ننالها باعتبارنا كائنات منقسمة على ذاتها مزقها الزمن وعاجزة عن التوافق مع نفسها. فالرغبة عند الأكويني لا نهائية، مثلما هو حالها عند أتباعه المحللين النفسيين، فعدم الرضا هو حالتنا الطبيعية، والكمال الذي نسعى إليه يؤشر بنهاية بشريتنا. إن الرؤية الأكوينية لحال البشر تشبه إلى حد مدهش مثيلتها اللاكانية وإن كانت مجردة من بعدها التراجيدي؛ إذ إن الرغبة التي تستنفدنا إلى العدم في رؤية الأكويني تتم بحب الرب الذي هو سببها وهدفها معا.
7
والخير في رؤية لاكان الأكثر غرابة هو ما يدافع عنا ضد متعتنا المميتة؛ ومن ثم يمثل أثرا للتحريم الأبوي. إذا فالتحليل النفسي - الذي هو دراسة عجزنا عن إيجاد الرضا ومقاومتنا المنحرفة لاحتمالية السعادة ذاتها - يدشن في نظر لاكان ثورة تنقض كل الفكر الأخلاقي السابق. إن وجود هذا الشيء في شهوتنا الذي يخالف جوهريا سعادتنا (النسخة الفرويدية من الخطيئة الأولى إن جاز التعبير) هو السبب في أننا لم يعد بإمكاننا أن نرضى بنظام أخلاقي قائم على الفضيلة أو السعادة، نظام يكون أكثر ملائمة للسياسيين والعاملين بالمجال الاجتماعي من أولئك المتمردين على الروح البشرية من أمثال لاكان نفسه. وكما يعبر عنه راجمان في حدة: «يرى فرويد أن الحب متعارض مع الأخلاق.»
8
فهناك قانون العدالة والخير الأسمى في المدينة، متجسدا في شخص كريون في مسرحية سوفوكليس «أنتيجون»، وهناك قانون آخر يتجسد تماما في أنتيجون المنشقة نفسها، قانون غير مكتوب وغير معروف يتجاوز بعناده القاتل مبدأ المتعة ومبدأ الواقع معا، ولا يبالي في إصرار بتقاليد البرجوازية الصغيرة للمدينة.
لو كان بوسع لاكان أن يتخذ موقفا غير متردد من هذا القانون الأخير؛ فذلك لأسباب من بينها أنه غير سعيد بالرؤية السياسية للمدينة العادلة، ففرويد نفسه - كما يرى لاكان - لم يؤمن يوما بالتقدم الاجتماعي ولا بالسياسة الثورية، وكان محقا تماما في رفضه مثل هذه الأوهام المسكنة. وينتمي الفكر اللاكاني من هذا المنطلق إلى عهد ما بعد الثورة، عهد لا يتحمس على نحو ملحوظ للطاقات الجماعية أو الحلول السياسية. وينبغي فهمه، من بين أشياء أخرى، في إطار فساد الاشتراكية وبزوغ الفاشية. لكن سوفوكليس الذي يكن له لاكان إعجابا شديدا لا يتفق كثيرا مع فكره السياسي المتشكك؛ فالانتقال من «أنتيجون» أو «أوديب ملكا» إلى «فيلوكتيتس» أو «أوديب في كولونوس» يعني مصادفة ضرب مختلف تماما من السياسة، ضرب يغلب فيه أخيرا إصرار من هم مثل أنتيجون؛ حيث تستغل القوى المتعنتة لنفي الذات في مهمة إصلاح المدينة؛ إذ يقع ثاناتوس - بتعبير فرويد - في صورة متسامية تحت وطأة مشروع إيروس الذي يخضع الحياة، كما هو الحال في نهاية مسرحية إسخيلوس «أوريستيا»؛ فباحتضان المدينة لرموز الموت والمرض والفوضى - سواء أكانت في صورة الفيوريس المنتقمة أم فيلوكتيتس الغارق في صديده أم أوديب الملعون - تعي بفضل الرب الوحشية القابعة في قلبها، وفي هذه المواجهة المريعة مع النظام الواقعي تطلق القوة العليا لتحمي وتعيد تشكيل نفسها.
9
فالمسألة على أي حال ليست مواجهة بين متمردين متجهمين نافرين من الحياة الاجتماعية ومدينة توافقية جامدة، إلا أن هذه المقارنة التي تحمل طابع ألبير كامو قد تروق لعصر انهزامي من الناحية السياسية. ربما لم يدرك كريون رغبة أنتيجون، لكن هذا لا ينطبق على ثيسيوس الذي يرحب بين أسواره أيما ترحيب بالبطل الفاسد الخائف في «أوديب في كولونوس». ربما يعامل بنثيوس - حاكم طيبة في «الباكوسيات» ليوريبيدس - ديونيسيوس ورجاله بقمع يحمل طابع قمع كريون؛ لكن لا ضرورة عنده للتصرف بعنف مريع تجاه هؤلاء الأشخاص الفوضويين المحبين للموت، الذين يرمزون لمتعة النظام الواقعي الفاجرة. وفي واقع الأمر، قد نصح سريعا بألا يفعل. ليس من الضروري أن تكون السياسة والرغبة دائما متعارضتين. لقد كان ويليام بليك أكثر حكمة في هذه النقطة من جاك لاكان؛ إذ يرى الأخير أنهما لا يمكنهما تدشين تلك المواجهة الحيوية التي تعرف بإعادة التهذيب السياسي للرغبة، وهو عمل يبدو أن الواقعيين لا يمكنهم تخيله إلا في صورة إخصاء غادر.
إن ادعاء لاكان إدخال الجديد في الأخلاق هش بالتأكيد؛ فالمسيحية، كما رأينا، تضع الرغبة (التوق الإنساني للرب) في بؤرة تفكيرها الأخلاقي، وكذلك تفعل العقيدة السابقة عليها، اليهودية. وعلى نفس القدر من الهشاشة تأتي قضية التعارض الواجب بين الرغبة والخير، وهي قضية لا تتمتع بمصداقية إلا إن نزعنا الوسيط بينهما المعروف بالحب، فالرغبة في الإنجيل المسيحي - التي في صورة الحب أو التوق الذي هو الإيمان والأمل معا - ليست مضادة للخير الأسمى بقدر ما هي الدال المبهم عليه في حقيقتها. ولأن حب الرب لا يكمن إلا في جوهر النفس داعما وجودها، فبإمكاننا السعي إلى هذا الخير في صورة رغبة فيه. ومن هذا المنطلق تختفي السلبية - سلبية الرب الأجوف الذي لا يمكن الحديث عنه ولا تصوره - تحت سلبية أخرى، وهي التطلع الأبدي له. إنها رغبة خاصة بالنظام الواقعي تستحوذ على النفس استحواذا عنيفا من جذورها وتمزق أساسها. كذلك فإن الخير، الذي هو الرب، يحمل في العقيدة المسيحية كل غموض النظام الواقعي وليس وضوح أحد المثل العقلانية التافهة. فإن كان الرب هو المثال الأعلى على «الذات المفترض أن تعرف» عند لاكان - أي يمتلك علما لا غبار عليه - فليس بالبناء على هذا العلم الشامل يمكننا أن نصلح وضعنا الأخلاقي. إننا بالإيمان لا بالعلم نعرف قانون وجودنا، فالخلاص في المسيحية وفي التحليل النفسي كليهما شأن عملي نسبي، وليس مجموعة من الافتراضات النظرية.
على نفس القدر من الضعف تأكيد لاكان الهش على أن كل الفكر الأخلاقي السابق يتمحور حول المتعة، فليس كل فلاسفة الأخلاق قبل فرويد همهم اللذة الشخصية بلا حياء، وإن كان من الصحيح أن أي مذهب أخلاقي قائم على إدراك الذات، سواء كان المذهب الأرسطي أو الهيجلي أو الماركسي، يجب أن يقبل هذا الفائض الفاسد المحرج الذي يأتي بنتائج عكسية أو الفشل في تحقيق الهدف الناتج عن الرغبة. لكن في نظرة لاكان الضبابية، فإن فرويد رائد كبير في هذا الصدد؛ فإشارته الطليعية لا تحدد موقع القانون الأخلاقي بالنسبة إلى النظام الرمزي، بل بالنسبة إلى الشيء المفقود دائما الذي يتعلق به تطلعنا، وهو ما يسميه لاكان دراميا «الشيء الكبير»، والذي أحيانا ما يترجمه بجسد الأم. إن الرغبة التي يعبر عنها التحليل النفسي هي الرغبة الخاصة بالنظام الواقعي، القوة المضطربة التي تتخطى قيود النظام الرمزي، وإن في ذلك مكمن أصالتها الأخلاقية.
هذه الرغبة من جهة تتفق بالتأكيد مع الطبيعة العامة للنظام الرمزي؛ حيث إنها تظل واحدة لدى الجميع. إلا أنها تتخذ أيضا شكلا مختلفا عند كل فرد، فتظهر لهم «بخصوصيتها الودية في صورة أمنية متغطرسة»؛ وذلك بعبارة لاكان في كتابه «أخلاق التحليل النفسي.»
10 (إن الإشارات اللاحقة لأرقام الصفحات من عمل لاكان هذا ستوضع بين قوسين بعد الاقتباسات المعروضة منه.) إنها القانون الذي يحكم كيان الفرد الخاص، وهي من ثم أبرز القوانين الخاصة غير القابلة للاختزال، حتى وإن كانت هذه الخصوصية موجودة فينا جميعا. إن الرغبة تتسم بالتفرد المراوغ ل «القانون» الخاص بعمل فني أكثر من التماثل المجرد للقانون الأخلاقي، فهي تشبه الحكم الجمالي عند كانط أكثر من منطقه العملي ، فعلى عكس قانون النظام الرمزي فإن هذه الرغبة المتعجرفة إذ «تكمن في أعماق الذات في صورة غير قابلة للاختزال» (24)، فإنها غير قابلة للقياس إطلاقا على أي شيء آخر، ولا يمكن الحكم عليها من الخارج. ورغم لا مبالاة لاكان اللافتة بنيتشه، فثمة صدى هنا لرؤية هذا الفيلسوف الألماني التي ترى بأن هناك قانونا خاصا لكل فرد.
إن المفهوم التقليدي عن الخير الأسمى في نظر لاكان - وهو أسطورة معظم النظريات الأخلاقية التقليدية - لا يمكن أن يكون سوى ضرب من المثالية الزائفة؛ ومن ثم فهو حجر عثرة أمام الفكر الأخلاقي الأصيل. وبوصف لاكان طليعيا أخلاقيا، فيبدو أنه يعتبر كل ما سبق في الخطاب الأخلاقي - الفضيلة والواجب والمنفعة وما شابه - أكثر من مجرد مثالية زائفة لعدم رضانا المزمن. يبدو الأمر وكأنما لم تظهر أي نظرية أخلاقية مادية حقيقية - لا نظرية هوبز ولا ماركس ولا نيتشه على سبيل المثال - إلى أن جاء فرويد وممثله الباريسي إلى المشهد. وعلى عكس هذه القيم المثالية الكاذبة فإن مذهبه الأخلاقي، بحسب كلمات جون راجمان «هو أخلاقي أو يبين الصعوبة التي نواجهها عند التعامل مع ما هو مثالي فينا، ومع ما يفترض أنه الخير فينا؛ ومن ثم بالصعوبة التي نواجهها مع روابطنا العاطفية مع أنفسنا وفيما بيننا.»
11
إن السعي نحو الحياة الخيرة وقضية الواجب الأخلاقي يجب أن يعاد تحديد موضعهما بالنسبة لمشكلة الرغبة. وسوف نرى بعد قليل أن هناك لمسة من المثالية الممجدة في البديل اللاكاني للخير والمفيد والمراعي للواجب الذي هو بطولة الرغبة؛ لكن يمكن أن نشير الآن إلى أنه إن كان ثمة خير أسمى فهو خير يجب في نظرية فرويد تحريمه. ومثلما يجد من يقعون في حب القانون أنه يحول بينهم وبين الخير، فكذلك الرغبة في الشيء الكبير المحرم - الاستهداف المباشر لخير مطلق - يعني استفزاز سيف القانون النقدي القاطع؛ ومن ثم نضع أنفسنا في المطاردة الذاتية الأبدية للقانون والرغبة والعدوان والذنب والاحتقار المميت للنفس والمتعة الممزقة للذات، والتي هي - إن جاز التعبير - حالة الخطيئة الأولى الخاصة بنا.
وكما يقول لاكان نفسه، فإن الرغبة لا تلمع إلا بالمقارنة بقانون هو في نهاية الأمر قانون الموت، فيوجد في الحياة ما يفضل الموت، وهنا - كما يصيب لاكان في تعليقه - نشارف على مكمن الارتباك الأبدي للاتجاه الليبرالي أو اليساري التقليدي؛ إشكالية الشر.
12
إلا أن النظام الواقعي بمعناه الأكثر إيجابية - بوصفه الإخلاص الأبدي للقانون الحاكم لوجودنا - يوجد في منطقة خارجية فيما وراء النظام الرمزي، وهذا هو السبب في قدرته على فك عقدة التوق والتحريم المميتة التي هي السر الأسود للنظام الرمزي. ونظرا لأن الرغبة الخاصة بالنظام الواقعي هي رغبة محضة إن جاز التعبير، رغبة في صورتها الأكثر بدائية، رغبة في ذاتها ولذاتها وليست رغبة في خير أسمى أو محتمل بعينه، فهي تستطيع التملص من القانون الذي يتدخل ليعاقب كل اشتهاء لأشياء معينة؛ حيث إن القانون بطريقته المتعاظمة يلاحظ في أي تطلع بريء تعطشا فاسقا للشيء الكبير المحرم. إذا فالقديس الشفيع لأي نظرية أخلاقية لاكانية - المكافئ في التحليل النفسي للقديسة تريزا، إن جاز التعبير - هو أنتيجون عند سوفوكليس، التي يحركها دافع نحو الخير يتجاوز كل خير، الخير الذي يتجاوز الأخلاق نفسها كما يفهمها الكاهن أو رئيس الوزراء، والخير الذي يصعب من ثم على فلاسفة الأخلاق المحترمين لذاتهم في هذا العالم أن يميزوه عن الشر.
شرد كل أبطال سوفوكليس الأقوياء - كما يشير لاكان - فيما وراء درع النظام الرمزي الحامي إلى منطقة الروح التي بلا معالم، يدفعهم احتياج راسخ أو نقاء خارق للطبيعة بخروجهم من حواجز الاحترام المهذب إلى مكان يتسم بالانعزال الشديد والانكشاف الذاتي، يبرزون فيه على غرار المقدس. فالمقدس يمثل تلك الأشياء الملعونة والمباركة على نحو غامض المعينة للموت، والتي إذ تقترن هكذا بالعلامات الخافتة على فنائها يمكنها أن تطلق قوة تحول شديدة. إن أتباع النظام الواقعي هؤلاء هم كلهم الكائنات البينية، تجسيدات محضة لدافع الموت، كائنات حية وغير حية معا، رجال ونساء موتى لكنهم لن يرقدوا. هي كائنات تتخلف في صالة مغادرة الحياة، أفراد يتحركون كما الأبطال التراجيديين دون رؤية بين مراتب الأموات الأحياء، والذين يمكن من خلال عذابهم الصامت الشعور بالموت ينتهك خلسة نطاق الأحياء. وبذلك فهم نماذج على حقيقة مفادها - بتعبير لاكان نفسه - أن «كل الكائنات تعيش في حالة من عدم الوجود» (294). فالرغبة في النهاية هي رغبة للا شيء، فهي لا تعدو أن تكون الشيء الذي يربط الرجال والنساء مع انعدام وجودهم؛ «اللاوجود» الذي يبقيهم في حركة مستمرة؛ فالتحليل النفسي هو البعث الجديد لحس الحياة التراجيدي لكن في صورة علمانية علمية. وقد صار في أيدي لاكان شكلا إلحاديا من الدين، يتعلق - مثل مشردي صامويل بيكيت - بخلاص لن يأتي أبدا؛ إذ يوضع مرتكز الدين - الرب - تحت الرقابة، لكن البناء الكلي الظاهر يظل سليما على نحو كبير، فما الرغبة في النظام الواقعي إلا ما عرفه أوجستين أو كيركجارد بالإيمان؟
إذا ليس ثمة خير أسمى، كما يبدو، فيما وراء التمسك العسير بالتوق إليه. ولاستنساخ بعض من تلاعب لاكان المتكلف بالألفاظ، فإن أي نظرية أخلاق للنظام الواقعي يمكن تلخيصها في الأمر التالي: استمر في نقصك! سأطرح بعض الشكوك حول هذا الأمر لاحقا؛ لكن في الوقت الحالي من المهم أن نفهم أن تحقيق رغبة الفرد «في النهاية» لا يعني تحقيق هدفها؛ فهدفها في النهاية لا شيء سوى ذاتها. فالبطل الأخلاقي اللاكاني - شأنه شأن شخصية فاوست لجوته - «لن يصل لذلك الخير (الأسمى) هذا إلا إذا نقى أمنياته في كل لحظة، في نفس اللحظة من الخير الزائف، واستبعد الزيف ليس فقط من احتياجاته - بالنظر إلى أنها كلها ما هي إلا احتياجات ارتدادية - وإنما أيضا من هباته أيضا» (300). وكما الحال مع قانون كانط الأخلاقي، فإن رغبة النظام الواقعي لا ناقة لها ولا جمل في عالم الاحتياجات والرغبات والاهتمامات، فهي زاهدة ومنكرة للذات كراهب كارتوزي. إن الأخلاق الكلاسيكية لا توجه نظرها لشيء أكثر غرابة من عالم الممكن، أما أخلاق النظام الواقعي ففي المقابل لا تهتم ب «شيء أقل من المستحيل الذي نعرف به خريطة رغبتنا» (315). وسنستعرض المميزات والعيوب الخاصة بهذا النظام الأخلاقي الخاص بالفشل البطولي في الفصل الأخير من الكتاب .
هوامش
الفصل السابع
شوبنهاور وكيركجارد ونيتشه
من الممكن بلا شك وضع نظم لاكان الثلاثة في صورة سرد تاريخي، سرد يتتبع في مجاز ماركسي سوقي صعود وأفول نجم الحضارة البرجوازية. وسيمثل هتشسون وهيوم والنظام الخيالي لحظة تفاؤل وثقة بالنفس بارزة؛ حيث لا يزال على الطبقة الوسطى، التي لا تزال متفائلة وتغمرها روح البهجة، أن تسجل كاملا النتائج الموحشة لأنشطتها، وتستمتع بمشاعرها الإنسانية، وتظل قادرة على تصور المجتمع باعتباره مجتمعا قائما على الروابط الشخصية. أما ما تلا ذلك مع كانط وهيجل فهو النظام الرمزي الأكثر تجريدا وتنظيما وموضوعية، وهو نظام - للمفارقة - اجتماعي وغير اجتماعي في نفس الوقت. وهذا هو ما يمثل أوج ثقافة الطبقة الوسطى، بأسسها الليبرالية والنفعية العظيمة، وحماسها للمساواة والخير الإنساني، ودعمها الباسل لحقوق الإنسان والحريات الفردية.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وظهور أفكار شوبنهاور وكيركجارد وماركس ونيتشه التراجيدية أو المتشككة أو الثورية، أخذت تبرز تدريجيا أفكار الجمود والتأزم والتناقض، لتصل لأوجها، في نهاية عهد الأزمة الرأسمالية والصراع الإمبريالي البربري، في تأملات سيجموند فرويد الشديدة التشاؤم. إن هذه الحقبة بالكامل هي ما تمثل - إن جاز التعبير - فترة سطوة النظام الواقعي؛ حيث إن الرغبة، التي كانت مبهجة وإيجابية، قد كشفت الآن عن شيء مريض في جوهرها لا يمكن علاجه، وأخذت المفاهيم الحميدة عن السلطة تتراجع أمام مفاهيم القوة المفترسة أو السادية. ومع مجزرة الحرب العالمية الأولى وما خلفته من تبعات سياسية، يدخل النظام الرمزي الأوروبي في أزمة مطولة، في حالة تأمل الفاشية أن تنقذه منها بإجبار موارد النظام الخيالي (الدم والأرض والشعب والأمومة) على خدمة النظام الرمزي. وفي خلط قاتل بين النظم اللاكانية، يستغل ما هو بدائي ومهجور في سبيل السيادة والتأويل العقلاني. وتطوع الأساطير لخدمة عقلانية ذرائعية على نحو وحشي. وفي قلب هذه التجربة البربرية، في معسكرات الموت في وسط أوروبا والافتتان الفاشي بالموت يكمن الجانب المرعب في النظام الواقعي الذي يستعصي على التصوير.
يعج هذا السرد - شأنه شأن معظم الأساطير الكبرى - بما هو شاذ، فماذا عن كبار الفلاسفة العقلانيين في القرن السابع عشر؟ ماذا عن ديكارت ولايبنتس وسبينوزا؟ هل كانت فلسفة القرن الثامن عشر بكاملها أكثر وعيا؟ هل كان كل ما جاء بعد هيجل قصة بالغة الرعب؟ مع ذلك ما من شك بالتأكيد في أن المشروع الكبير للتنوير بدءا من شوبنهاور إلى فرويد قد رسا على شاطئ عالم واقعي عصي أو على جوهر صلب لإرادة أو رغبة أو دين أو تاريخ مادي، وهو ما يخل بتوازنه على نحو مقلق. فما يظهر عند هيجل في صورة العقل الخير يتحول على يد شوبنهاور إلى الإرادة المتلهفة التي لا تشبع، وهو ما أثر في أفكار فرويد نفسه عن اللاوعي. في حقيقة الأمر، يمكننا قراءة كتاب شوبنهاور المبالغ في الكآبة «العالم إرادة وتمثلا» باعتباره سخرية مريعة من فكر زميله الأكاديمي هيجل، سخرية أبقي فيها على الصور العامة لعدد من مفاهيم هيجل (الحرية، والعدل، والعقل، والتقدم)، لكنها فرغت من مضمونها الجليل، وملئت في المقابل بمحتويات الحياة اليومية المنحطة للطبقة الوسطى؛ الطمع والشهوة والصراع وما شابه. إذ لم تزل الفلسفة مع شوبنهاور تتمتع بثقة كافية في صورها بحيث تقوم بالتوحيد والتعميم، لكن مضمونها لا عظة فيه. الأمر يبدو وكأن الضراوة الفظة للبرجوازي العادي قد ترقت لتكتسب مكانة كونية، لتعتبر المحرك الغيبي الأساسي للكون بكامله.
1
إن الإرادة عند شوبنهاور - شأنها شأن الرغبة عند لاكان - يحركها النقص: «كل «الإرادة» تنبع من النقص، من العوز؛ ومن ثم من المعاناة.»
2
فهي تلك الرغبة الراسخة العمياء التي هي أصل كل الظواهر، القوة التي تبني مجرى دمنا وأحشاءنا، والتي يمكن ملاحظتها في تلاطم الأمواج أو تمايل أوراق الأشجار بقدر ما يمكن ملاحظتها في أي حركة أسمى للروح الإنسانية. أما شمول الإرادة لأفكار شوبنهاور عنها من عدمه فهو مسألة مثيرة للاهتمام. لكن بعكس العقل الهيجلي، فالإرادة هنا هي قوة خبيثة معاندة، قوة تكمن في لب الذات الإنسانية نفسها لكنها غير مبالية مع ذلك في قسوة بازدهارها. إن هذه الإرادة التي تكمن في منبع الذاتية - التي يمكنني أن أشعر بها داخل جسدي في قرب أكبر لا يضاهيه أي شيء أعرفه - عديمة الرحمة والهوية كما الإعصار أو البرق، فهي - كما هو حال الرغبة بمعناها في مجال التحليل النفسي - بلا معنى إطلاقا وتتسم بلامبالاة باردة تجاه كل الأشياء التي تتعلق بها، والتي لا تستخدمها إلا في تكاثرها الذاتي غير النافع.
إن فكر شوبنهاور - بعكس هيجل - معارض صلب للغائية؛ إذ يتمتع بتماسك وحيوية أي سرد عظيم لكن دون أن يكون له أي نفع، فالإرادة نموذج ساخر خبيث لمفهوم «الفكرة» عند هيجل. والإنسان ما هو إلا حاملها المؤقت، الذي ينحى جانبا بمجرد تحقيقه لأهدافها؛ إلا أن أهدافها تكمن بالكامل في الاستمرار الأبدي لذاتها الذي لا نهاية له. فما نحن إلا مجسمات سائرة لغرائز آبائنا التزاوجية، التي هي بدورها تجسيد للإرادة، فنحن إذا في عالم من الرغبة غير المتناهية المماثلة لرغبة فاوست، حيث تعاد صياغة العالم بالكامل من جديد في إطار السوق. ويتحدث شوبنهاور، الكاره بشدة للبشر، ببغض نادرا ما يكبته تجاه «هذا العالم المكون من مخلوقات دائمة الاحتياج، والتي لا تستمر لبعض الوقت إلا بالتهام بعضها بعضا، وتورث وجودها في قلق وعوز، وغالبا ما تمر بمحن مريعة حتى تسقط في النهاية في براثن الموت.»
3
إنها رؤية تختلف تماما عن «الود» عند هتشسون أو مملكة كانط المسالمة. فالعاطفية قصيرة النظر، عند شوبنهاور، هي وحدها القادرة على تصور أن الملذات الزهيدة للوجود الإنساني - تلك المحاكاة الهزلية التي ينقصها حتى «وقار» التراجيديا - يمكنها أن تعوض بؤسه غير المنتهي.
يقول شوبنهاور: «تبقى الرغبة لمدة طويلة، وتستمر مطالبها إلى الأبد؛ والإشباع مؤقت ولا يمنح إلا بمقادير صغيرة.»
4
أو كما يصوغها شكسبير باستفاضة في عمله «ترويلوس وكريسيدا»: «هذه هي بشاعة الحب، سيدتي، أن الرغبة لا متناهية والتنفيذ محدود؛ أن الرغبة لا نهائية والفعل عبد للحدود.» وبمجرد دخولك مجال الرغبة، يفقد العالم المادي قيمته في لحظة، فهو لا يفعل سوى أن يذكرك بما لا تريد. يقول لاكان: «بالمقارنة بأي شيء تسعى إليه الذات، فإن هذا الذي يحدث في نطاق التفريغ الحركي دائما ضئيل القدر .»
5
فالذي يتحدث عن الرغبة يقول هزلا. لقد كان فرويد هو من ذكرنا بأنه بينما ركز القدماء في حكمتهم على الغريزة، فنحن المتأخرين قد ركزنا في حماقة على الإنسان.
لكن شوبنهاور سيقلب هذه الأولويات، فيصير نموذجا متقدما لفرويد نفسه. وكما أن الهدف الوحيد من تراكم رأس المال هو الاكتناز من جديد، فكذلك تبدو الإرادة - في نقض كارثي للغائية - مستقلة عن كل الأشياء المحددة التي تركز عليها؛ لذا تبدو الرغبة غارقة تماما في ذاتها، ساكنة في كيانها كروح نرجسية شريرة. وفي ظل نظام اجتماعي تعتبر فيه الفردية التملكية قانون العصر، ربما يكون شوبنهاور أول مفكر معاصر كبير مكنه الظرف التاريخي من أن يضع مفهوم «الرغبة ذاتها» المجرد في محور عمله، مقارنة بغيره من أشكال التوق. وهذا التجريد الشديد هو ما سيرثه لاحقا فرويد، الذي اعتبر شوبنهاور - في زلة فكرية غريبة - أحد أعظم ستة رجال على وجه الأرض. لكن سنرى بعد قليل كيف أصبح من الممكن أن نفهم فكر كانط الأخلاقي بصورة مشابهة.
الإرادة إذا قوة غامضة، شيء هادف بلا هدف (مستعيرين هنا تعليق كانط الشهير على الفن). إن الشيء المعيب الذي يتعذر إصلاحه هو مفهوم الذاتية بالكامل، وليس مجرد كبتها أو اغترابها؛ فالذاتية الإنسانية هي نفسها صورة من الاغتراب؛ إذ نحمل في أنفسنا حملا لا يطاق من اللامعنى، ونعيش محصورين في أجسادنا كالأحياء في زنزانة سجن؛ فالذاتية شيء يمكن أن نعتبره بالكاد ملكنا. فإن لم نفهمها بطريقة شوبنهاور باعتبارها هدية مسمومة من الإرادة، فثمة متبرعون كثيرون آخرون: «الفكرة» عند هيجل، و«الرب» عند كيركجارد، و«التاريخ» عند ماركس، و«إرادة القوة» عند نيتشه، و«الآخر الكبير» عند لاكان.
إن ما يميز عمل شوبنهاور عن رواد النظام الواقعي هؤلاء هو أنه لا يضع في مواجهة فظائع النظام الواقعي شيئا أقل من النظام الخيالي. ففي ارتداد غريب لعقيدة التعاطف، لا يمكننا أن نخدع الإرادة من خلال الفعل، الذي ما هو إلا تجسيد آخر لقوتها البغيضة، أو الانتحار، الذي يسمح لها بأن تتباهى بخلودها أمام فنائنا، بل بإطفاء جذوة الأنا التي تعذبها الرغبة في لحظة من الإيثار التام. إن مبعث الرتابة الذي لا يطاق في وجودنا هو أننا لا يمكن أن نتحرر من أنفسنا؛ إذ نجر وراءنا ذواتنا البائسة كالأغلال؛ فالرغبة تدل على عجزنا عن رؤية الأشياء على حالها، فهي النظرة الذاتية التي نحيل بها جبرا كل شيء إلى اهتماماتنا الشديدة التفاهة؛ فالذات تعني الرغبة، والرغبة تعني الوهم. لكن على المستوى الجمالي تنفك الرغبة عنا، وتعلق الإرادة مؤقتا، ونتمكن للحظة سعيدة من رؤية العالم على حقيقته. إن كلفة هذا التجلي الثمين ليست أقل من التفكك التام للذات، ذلك الشيء الأثمن من بين كل المفاهيم البرجوازية، الذي صار يتماهى في تضحية بنفسه مع الشيء؛ إذ لا يمكن للعالم أن يتحرر من ويلات الرغبة إلا بتحوله إلى مشهد جمالي، تنسحب الذات خلال هذا التحول إلى نقطة فناء من اللامبالاة التامة. يبدو الأمر كما لو أننا نشفق على الأشياء المختلفة من حولنا التي أصابتها عدوى التوق، ونخلصها من تلك العدوى القاتلة بمحو أنفسنا من المشهد، ناظرين إلى الصورة العامة للأشلاء الإنسانية برباطة جأش مراقب عديم الشغف لدرجة أنه لم يعد موجودا.
ليس ثمة ما هو أشق في نظر شوبنهاور من تلك الموضوعية العسيرة المنال التي هي ثمرة الانضباط الأخلاقي أكثر من مجرد نزعة موضوعية ساذجة أو ملاحظة سريعة قليلة الخبرة. فالموضوعية كما يقول شيء عبقري، فهي شأنها شأن الفكر البوذي، الذي ميزه بصورة كبيرة، عبارة عن «عدم التدخل» وهو ما لا يمكن المحاربة من أجله؛ حيث إن مثل هذا العمل لا يكون إلا في الأنا، وبذلك فهو جزء من المشكلة التي تسعى لحلها. فلا بد من اختراق حاجز الوهم أو الخداع التقليدي وإدراك وهم الأنا بطريقة ما؛ لكي نتصرف تجاه الآخرين دون لا مبالة حقيقية، وهو ما يعني انعدام التمييز الحقيقي بينهم وبين النفس. وعلى هذا الوجه يظهر النظام الخيالي من جديد في كتابات شوبنهاور. وبمجرد انكشاف «مبدأ الفردية» المخادع على حقيقته يمكن للأنفس أن تتبادل العواطف في رحمة وحب. فالمصدر الرئيسي لكل الأخلاق - كما يقول شوبنهاور - هو مشاركة معاناة الآخر بعيدا عن الدوافع الأنانية، فالتصرف السليم أخلاقيا لا يعني التصرف من وجهة نظر معينة، بل يعني التصرف دون وجهة نظر إطلاقا، فالذات الخيرة حقا هي ذات ميتة، أو على الأقل تعيش في حالة معلقة دائما. وحيث إن الذات هي وجهة نظر معينة للواقع، فكل ما يبقى بعد التغلب عليها نوع من السلبية الخالصة أو النيرفانا بالمعنى البوذي. إن فلسفة الذات عند شوبنهاور تدمر ذاتها، غير تاركة وراءها سوى تأمل إيثاري لا يتعلق بأي شخص على وجه التحديد.
إلا أنه ليس من الدقيق تماما أن نزعم أن النظام الخيالي عند شوبنهاور علاج للنظام الواقعي بل إن النظام الواقعي ينقلب ببراعة على نفسه، ويقع أسير قوته فينهار. يرجع هذا إلى أن القوة التي تحلل الذات إلى رمز كودي غير أناني - ومن ثم تتيح لها الاندماج الرحيم مع الآخرين - هي نفسها ما سيسميه فرويد لاحقا «دافع الموت». فمن خلال اعتبار عالم الصراخ البشري عرضا خاملا، نحقق الانفصال عنه ونتخلص من ذاتيته، وهو ما يشبه الموت كثيرا؛ لكننا في الوقت نفسه نتمكن من الانغماس في تصور للخلود، وتملؤنا السكينة؛ إذ نعلم أن مسرح الشر هذا لم يعد يؤذينا. ولأننا موتى بالفعل من ناحية ما، نصير محصنين مثل شخصية شكسبير بارناردين، وباكتساب هذه الميزة السامية ننتقم انتقاما لذيذا من كل القوى التي تقودنا إلى الفناء. إن هذه الحالة من الانغماس في الاستمتاع غير المباشر بالدمار - مع الاستمتاع بمناعتنا ضد القتل كشخصيات الكارتون - هي ما يميز مفهوم السمو في القرن الثامن عشر.
6
إن إضفاء شوبنهاور طابع جمالي على الواقع - الذي نستمد فيه الحياة من فنائنا - يتضمن لعبة مطاردة بين إيروس وثاناتوس، بين غريزة الحياة وشهوة الموت؛ لهذا، فهي إلى هذا الحد تخص النظام الواقعي. لكن لأن موت الذات يتخذ صورة التعاطف، فهي أيضا كما رأينا قضية تخص النظام الخيالي؛ إذ يهجر وهم الفردانية البائس بكامله، حيث نتعاطف مع معاناة الآخرين على مستوى أعمق كثيرا من الأنا. وينتهي بنا الحال بالتبعية إلى تسام من دون ذات؛ إذ يبقى فضاء المعرفة المطلقة لكن لا يبقى أحد ليشغله، فالتنزه عن المصلحة يعلمنا التخلي عن عواطفنا المدمرة والعيش في تواضع بلا طمع، وذلك في بساطة القديس. فأنا أعاني كربك لأنني أعلم أن جوهرك - الإرادة القاسية - يخصني أنا أيضا. وكما الحال عند هيوم وهتشسون فإنني أعرف هذا بفضل وجود سبيل مباشر إلى نفسي ونفسك معا، وليس من خلال حرص العقل المضني. ويعلق شوبنهاور في صياغة مميزة للنظام الخيالي قائلا: «كل كائن حي يماثل وجودنا في ذاته بقدر شخصنا نفسه.»
7
إلا أننا يمكننا أن نتلاقى في اتحاد عاطفي ليس كما في المرآة ولكن على أرض النظام الواقعي، وهو الشيء المشترك بيننا شأنه شأن جوهر الذات. إن تضمين النظام الخيالي في النظام الواقعي يعني تعزيز المودة التامة، فلا يسعنا إلا بالتقارب في منطقة محايدة غريبة علينا، وأقرب إلينا من أنفاسنا في الوقت ذاته؛ أن تكون روابطنا الشخصية أو السياسية متينة.
هذا هو ما يفهمه لاكان من وصية الكتاب المقدس بحب الجار كحب النفس، وهي وصية لا ينبغي تفسيرها في النظام الخيالي باعتبارها حب الأنا البديلة بل في النظام الواقعي الأقل وضوحا. يستبعد لاكان التفسير الأول متهكما، حيث يكتب: «ما أريده هو الخير للآخرين بشرط أن يظل في صورة خير لنفسي.»
8
إذ يوضح أنه ثمة «فرق كبير بين استجابة النزعة الإنسانية واستجابة الحب.»
9
فحب الآخر يعني إدراك أن ما يجعله غير محبوب أبدا - ما يسميه لاكان نفسه متعته الخبيثة الضارة، أو ما يسميه فرويد نفسه الخبث والشر والعدوان المطلق في داخله - يكمن كذلك في قلب النفس. فعندما أعرض في خوف عن هذا الآخر الخبيث، فإنني أترك شريان النظام الواقعي المميت بداخلي الذي يفيض ويهدد بإغراقي مع اقتراب الجار. وهذا بلا شك ما يقصده لاكان بتعليقه المبهم بأنه «لا قانون للخير إلا في الشر ومن خلال الشر.»
10
أو كما قد تترجم المسيحية هذا التعليق، لا قيامة إلا من خلال السلبية المؤلمة للمعاناة وفقدان الذات.
فالحب إذن يوضع في الناحية المقابلة للقانون، بلا سبيل إليه إلا بالمتعة الوضيعة الخاصة بالنظام الواقعي - التي هي أثر دافع الموت بداخلنا - بالأمل الضعيف في الخروج من الجانب الآخر من النفق. فرفضنا للوصية المخزية بأن نحب أنفسنا رفض في نظر لاكان للمواجهة مع متعتنا المريعة، عندما تلوح «صورة من القسوة التي لا تطاق» في الأفق. وعلى هذا الوجه كما يحذر لاكان فإن «حب الجار قد يكون أقسى الخيارات.»
11
فالجار دائما غريب، والغريب في نظر فرويد عدو بصورة ما دائما؛ لذا فإن الوصية المسيحية بحب المرء عدوه ليست صادمة كما قد تبدو، فمن يكون من نقابلهم سوى أعداء محتملين؟ لكن ليس من السهل أن يحب المرء نفسه كذلك إن كان ذلك يعني تقبل الذات بالمعنى الواقعي وليس الخيالي؛ فالإنسان لا يود أن يحبه الآخرون كما يحبون أنفسهم. وقد أخطأ كينيث رينهارد - في مقال مفيد من أوجه أخرى - في زعمه أن حب المرء لنفسه هو حب خيالي بالضرورة، «الانعكاس البصري لنفسي الذي يكون الأنا النرجسية في طور المرآة.»
12
فالتوبة هي قبول النفس الذي ينبع من الإقرار بتشوه الذات، وهو قبول يتضمن حبا صادقا للذات، لا حبا نرجسيا.
إن كان للنظامين الواقعي والخيالي دور في عمل التعاطف عند شوبنهاور، فكذلك النظام الرمزي، وهو عين ما تتضمنه الرؤية المحايدة المجردة من وجهة نظر شوبنهاور. فللنظام الرمزي دور في رؤية العالم على حقيقته، بعيدا تماما عن احتياجاتنا ورغباتنا، وتأكيد الحقيقة المدهشة القائلة بأن الأشياء تكون على ما هي عليه دائما، مهما كانت مزاعمنا الملحة بخصوصها، وهو ما يسميه شوبنهاور التجرد الجمالي أو السامي، وهي الحالة التي نتخلى فيها عن تذمر الأنا الصبياني ونسر على نحو جانح بحقيقة أن الواقع ليس بحاجة إلينا على الإطلاق، وهذا أفضل بالنسبة له بلا شك. •••
ثمة تناظر بين مستويات الخيالي والرمزي والواقعي عند لاكان ومستويات سورين كيركجارد الثلاثة: الجمالي والأخلاقي والديني. والتشابه بين المستويين الخيالي والجمالي ربما يكون الأقل دقة، فالإنسان الجمالي عند كيركجارد يعيش حياة بلا هدف أو اتجاه، حيث ينتقل بلا توان من حالة مزاجية أو شخصية إلى أخرى، ويقف عاجزا أمام عدد كبير من الاحتمالات، وهو أكثر تقلبا وتشتتا من أن يكون ذاتا حرة. فهو يعيش في فضاء من الفورية الحسية التي لا تعرف أي ثبات على مدار الزمن أو التاريخ، وهي منطقة لا تنسب فيها أفعاله إليه إلا على نحو مشكوك فيه. فالذات الجمالية - إذ يعوزها هدفا محددا في الحياة وإذ تتماهى مع اللحظة أو الانطباع العابر - هي قشرة بلا مضمون، فالمظاهر هي حقيقتها الوحيدة. فهي بكونها مجرد فريسة للظروف كائن يخدع ذاته بلا أي استقلال أو مسئولية، فجل الوجود الاجتماعي عند كيركجارد الناقد اللاذع لا يعدو كونه صورة «أسمى» لهذه السلبية الحسية: «الآنية مع إضافة جرعة صغيرة من الانعكاس الذاتي» كما يقول متهكما في كتابه «المرض طريق الموات».
13
إلا أن ثمة صورة أكثر سموا من عدم التمحور حول الذات هذا تسمى الإيمان الديني، فالحقيقة عند قاطني العالم الخيالي أو الجمالي - كأوسكار وايلد - ما هي إلا المزاج الحالي. أما عند المتدينين، فهي تكمن فيما وراء النفس في الرب، الذي يبدل حالنا في سعينا وراءها.
إلى هذا الحد يتشارك المستويان الجمالي والخيالي في عدد من السمات، أما اختلافهما العميق فيكمن في أن المستوى الجمالي عند كيركجارد نوع من «اللانهاية الشريرة» الهيجلية وكذلك «الآنية الشريرة» التي تغرق فيها الذات؛ إذ ينقصها مركز واضح للنفس، في هاوية الانعكاس الذاتي اللامتناهي التي تتعثر فيها المفارقة الذاتية في مهرجان من الاحتمالات غير المتحققة. ومن هذه الزاوية لا تملأ الذات الجمالية فراغها باستغلال الإحساس الهارب، بل بإعادة اكتشاف نفسها من العدم من لحظة للحظة التي تليها، ساعية للحفاظ على حس حرية غير محدودة هي في الحقيقة سلبية تستنفد ذاتها. فالشخص الساخر الجمالي؛ إذ يخدره فراغه الزائد، يعيش حياة احتمالية لا دلالية، فيخفي عدمه وراء زخرف هذا التكوين الذاتي اللامع. فبينما تجمع الذات المتدينة بين المتناهي واللامتناهي في مفارقة «التجسد» غير المتصورة، تترنح الذات الجمالية بينهما، فهي إما تغوص في عالم المحدودية الحسية طامسة نفسها في انسياق جبان للنظام الاجتماعي، أو تنتفخ وتطير على نحو كبير، فتهجر الحاجة للتماهي مع النفس، في دوامة لا تنتهي من المفارقات التي تلغي الذات.
إن المستوى الخيالي اللاكاني يجد نفسه وقد غطى عليه المستوى الرمزي، بحيث إن الاغتراب الذي يتضمنه مثلا يبشر بأنواع الاغتراب المختلفة للمستوى الرمزي، أو إن وجود الأم في المرآة يؤشر بتحول التكوين العائلي إلى تكوين ثلاثي، أو إن التنافس مع الآخر الخيالي يؤشر للصراع الأوديبي. وبطريقة مشابهة، فإن المستوى الجمالي عند كيركجارد يقهره ضرب مشئوم من السلبية، وهو ما يطلق عليه الهلع. فالهلع هو لقاء النفس بعدمها، ذلك اللاوجود الذي يطارد حتى عالم الآنية الحسية ذاته. والهلع، أو القلق، هاجس خافت بشأن النظام الرمزي الذي لم يأت بعد، وصورة مسبقة مشئومة للحرية والاختلاف والاستقلال والغيرية. إن عين التشبع في الحالة الجمالية يصير موحيا نوعا ما بالنقص، وإن كان نقصا لا يمكن تسميته بالتأكيد؛ فالآنية كلها تحمل هلعا من العدم، بل ربما حتى نجد في مفهوم كيركجارد هذا صدى لمفهوم جوليا كريستيفا «النبذ»، ذلك الشعور الأصيل بالرعب والاشمئزاز الذي يخالط جهودنا الأولى في فصل أنفسنا عن الأم فيما قبل الأوديبية.
14
فالسقوط باختصار قد وقع بالفعل في كل مرة. فإن لم يكن آدم يحمل استعدادا لارتكاب الخطيئة فكيف كان له أن يستهين بأمر الرب في المقام الأول؟ إن تعدي آدم للحدود - كما يقول كيركجارد - هو أول ما يفتح باب الاختلاف؛ ومن ثم يدشن (بلغة لاكان) النظام الرمزي؛ لكنه لم يكن ليقع إلا إن كان لديه بالفعل إحساس غامض بالحرية الممكنة، وفهم أولي لإمكانية الاختلاف من قبل حدوثه. نحن لا نتحدث عن ظهور الإمكانية بل بزوغ فجرها، إن جاز التعبير. ففي البداية لم تكن البراءة بل كانت الإمكانية البنيوية لتعدي الحد التي تسميها المسيحية الخطيئة الأولى.
إن كان الاتفاق بين المستوى الخيالي عند لاكان والمستوى الجمالي عند كيركجارد لا يكاد يكون تاما، فإن الصلة بين دائرته الأخلاقية والدائرة الرمزية اللاكانية تتضح أنها مباشرة أكثر . فالملتزم بالأخلاق - كما يبين كيركجارد في عمله «إما/أو» - اتضح أنه الفرد المستقل الحر الذي تعبر أفعاله، بطريقة كانط، عما هو عام. فالرجل الملتزم أخلاقيا رجل اجتماعي مسئول برجوازي، مستقر في زواجه وعمله وأملاكه، وقائم بواجبه والتزاماته المدنية. وبعكس الكائن الجمالي المتقلب فهو يوجه نفسه باستمرار، ومتصف بلا مبالاة رواقية لتقلبات القدر. وفي ظل تواطؤه مع الأعراف والمعايير العامة، تجسد حياته الأخلاقية مثالا صادقا على النظام الأخلاقي عند هيجل. وبعكس الشخص الجمالي، فإن العالمين الداخلي والخارجي متوازنان بتناغم في شخصيته. إن الشخص الأخلاقي عند كيركجارد متآلف تماما مع مفاهيم القرار والالتزام والعمومية والموضوعية والتأمل الذاتي والهوية المركزية والثبات الزمني.
إلا أن هذا الشخص ليس حسن السمعة كما يبدو، فمن ناحية، إن إيمان كيركجارد بأن الذات الأخلاقية يجب أصلا أن «تختار» نفسها - رغم أنه بالمعنى التام للكلمة لا توجد الذات فيما قبل فعل الاختيار - يتجاوز الاستقلال عند كانط إلى مفهوم وجودي للأصالة. فهو يتضمن مفهوما لتشكيل الذات أقرب لنيتشه منه لكانط، وإن كانت الذات المختارة لذاتها عند كيركجارد - وهي أبعد ما يكون عن أن تجسد تصورا للابتكار الذاتي الحر الجمالي - يجب أن تتبنى حقيقتها الشخصية بكل ما فيها من يأس من الإصلاح، وتواجه النفس باعتبارها ضربا من الضرورة كما أنها ضرب من الحرية. إن النفس عند كيركجارد أمر لم يكتشف بعد وهدف لم يتحقق بعد. وبمجرد اتخاذ القرار الأخلاقي، باعتباره خيارا أساسيا يتعلق بكيان الفرد وليس بشيء محدد، يجب أن يعاد بلا توقف، في عملية تجمع تاريخ الذات في ظل هدف متسق ذاتيا. وسنجد صدى لعقيدة التكرار هذه لاحقا في كتابات آلان باديو، فالعيش في العالم الأخلاقي يعني الاهتمام غير المنتهي بالبقاء في الوجود، فالبقاء عند كيركجارد يمثل مهمة لا منحة، شيئا نحققه لا نتلقاه. وفي هذا البعد من اللانهائية يغطي المستوى الأخلاقي على المستوى الديني، مثلما يحمل المستوى الجمالي أثرا مسبقا للمستوى الأخلاقي.
وطالما كان المستوى الأخلاقي مرتبطا بما هو عام وكلي وجماعاتي، يجد فيه كيركجارد، البروتستانتي المؤمن بالمذهب الفردي ، القليل مما يستحق إنقاذه. وهو بذلك ليس إلا وعيا جمعيا زائفا. لكن طالما أنه يدل على الانشغال بالتوجه للداخل في الإنسان، فهو يشير بصورة غامضة إلى المعتقد الديني الذي يتجاوزه. ويكسر هذا الإيمان أنماط المستوى الأخلاقي، ويهز دعائم النفس الراضية باستقلالها، ويمثل فضيحة بالنسبة إلى الفضيلة المدنية، فاتجاهه الفردي المكثف للداخل يتعارض مع العالم الاجتماعي، ويدير ظهره باحتقار للحضارة الجماعية. وكما سنرى لاحقا مع مناصري أخلاق الواقعي الفرنسيين، لا يمكن أن تعاد صياغة الإيمان بحيث يتلاءم مع أعراف النظام الاجتماعي ومنطقه، فهو انحراف دائم عن التوافق وسبة في جبين التقاليد الاجتماعية. فالإيمان قضية متعلقة بأزمة داخلية مزمنة بحيث لا يمكنه أن يسهل دوران عجلة الحياة الاجتماعية مثلما تفعل بعض النظريات الأخلاقية الأكثر مدنية أو اجتماعية. إنه الوقت المعين وليس التقاليد، الخوف والفزع وليس الأيديولوجيا الثقافية، فهو لا يمكن أن يتجسد في العادات أو التقاليد أو المؤسسات؛ ومن ثم فهو معاد للتاريخ على نحو شديد. فحال الإنسان - كما يقول كيركجارد في عمله «المرض طريق الموات» - دائما في خطر.
إن هذه الذاتية المتوهجة متشددة في خصوصيتها؛ إذ تكره أي منطق أو نظرية أو عمومية أو موضوعية. يكتب كيركجارد: «لا يمكن إدراك الواقع» و«لا يمكن فهم الخاص.»
15
فالوجود مختلف جذريا عن الفكر، وهو أسلوب في التفكير سيصير تيودور أدورنو وريثه الأكبر في القرن العشرين، فهو يمثل أزمة الفصل بين الذات والشيء، بدلا من الجمع المتجانس بينهما. ومثير القلق الفلسفي هنا هو هيجل، الذي لم يدرك أن كل السرديات العظيمة والكليات العقلية تتحطم على صخرة الإيمان. إن هذه المثالية الراضية غير قادرة على الاعتراف بوقوع الخطيئة والذنب؛ أننا مخطئون دائما أمام الرب، وأن النفس تحمل على كاهلها ثقل الضرر والبؤس اللذين لا يمكن إنكارهما. كما أنها غير قادرة على استيعاب حقيقة أن التاريخ محض صدفة؛ فالخطيئة - انحراف الإنسانية الوجودي المحض - هي حجر العثرة الذي تصطدم به كل النظم الأخلاقية أو المخططات التاريخية العقلانية الصرفة. فقلب المسيحية - أي التجسد أو الحلول - يقضي على المنطق ؛ إذ كيف للامحدود أن يحل في المحدود؟ فالحقيقة ليست نظرية بل هي ذاتية تماما. فهي «المشروع الذي يختار شكا موضوعيا بعاطفة اللامحدود.»
16
فالإيمان هو الوجود.
يكتب كيركجارد: «المسيحية هي الروح، والروح هي التوجه إلى الداخل، والتوجه للداخل يعني الذاتية، والذاتية في جوهرها العاطفة، وهي في أقصاها اهتمام شغوف شخصي لا نهائي بسعادة الإنسان الأبدية.»
17
وبينما يتميز المستوى الرمزي أو الأخلاقي بعدالة القانون وتجرده، فإن الإيمان يتصف بالتحزب المحموم؛ وبينما يتميز المستوى الرمزي بأنه مجرد وعام ومؤكد على المساواة، فإن الإيمان وجودي ومطلق ولا يمكن قياسه. فالنفس في المستوى الأخلاقي - الأنا المتلاحمة الشفافة الواضحة المضيئة لقلب الوجود البرجوازي اليومي - تنفصل بحاجز لا يمكن عبوره عن الذات العاطفية وغير المستقرة والمتناقضة والغامضة في عالم الإيمان أو المستوى الواقعي. فالأخيرة تظل دائما لغزا ووصمة في جبين الأولى؛ إذ هي مبتلاة بصراعات لا يمكنها حلها من الناحية النظرية بل من الناحية الوجودية، فتطلق العنان لها جميعا على نحو مؤقت في مشروع دائم من الوجود الفعلي بدلا من حلها في هدوء الفكر. فالذات المؤمنة تجمع بين متناقضات وهي تعيشها، فالإيمان - كما حال الرغبة عند لاكان - أساسه في ذاته ومشروعيته في ذاته، وهو مستحيل دائما. يقع المستوى الواقعي على الجانب الآخر من اللغة - التي هي العلامة الحية على المستوى الرمزي - فهو يشبه النبي إبراهيم الذي يتجاوز حدود الكلمات في إخلاصه لأمر الرب غير المنطقي بذبح ابنه. فهو صورة من التفرد البحت يكمن فيما وراء ما هو عام، وانتصار للا منطقية حكيمة على عقلانية حمقاء. ويرفض النبي إبراهيم؛ إذ هو بين أنياب المستوى الأخلاقي - في مواجهة كل أدب إنساني - أن يتخلى عن الرغبة المبهمة المتمثلة في الإيمان.
إلا أن هناك صورة إيجابية وأخرى سلبية للمستوى الواقعي عند كيركجارد مثلما هو الحال - كما يمكننا أن نقول - عند لاكان. فالمستوى الواقعي بصفة مؤكدة هو الرب - الهوة اللانهائية في جوهر النفس - لكن ثمة سلبية أكثر شؤما في قلب الإنسانية يسميها كيركجارد باليأس، في كتابه «المرض طريق الموات»، وهي في الحقيقة صورة من دافع الموت عند فرويد. إنه - على وجه أكثر دقة - الإحساس الغائر بالعدم عند الذين يعجزون عن أن يكونوا من يريدون، فيرغبون في التخلص من أنفسهم، لكنهم عالقون في حالة العجز عن الموت الشيطانية. وقد ذكرت في موضع آخر بالكتاب أن هذا العالم المكون من أموات أحياء - الذين لا يمكنهم إثبات أنهم أحياء إلا بالمتعة التي يحصلونها من تدمير الآخرين - قريب جدا مما عرف كلاسيكيا بالشر.
18
ورغم أن اليائسين في نظر كيركجارد نادرا ما يكونون كذلك - نظرا إلى أن ما يتغذون عليه ليس الآخرين بل أنفسهم - فهم يمثلون ما يصفه بأنه «جنون شيطاني» ينقم بشدة على الوجود ويعشق الفناء، إلا أنهم يحفظون أنفسهم من الفناء بفضل هذه الضغينة العميقة ذاتها. وتوصف هذه الحالة عادة بأنها شيطانية، وبأسلوب لاكان، فإن هؤلاء الرجال والنساء عالقون بلا حيلة في مأزق القانون والرغبة، وهم من ثم الضحية الرئيسية للمستوى الواقعي، فهي حالة لا يمكن في نظر كيركجارد التخلص منها إلا بهذا الجانب القاتل من المستوى الواقعي المتمثل في الفضل الإلهي؛ إذ يرى كيركجارد أن من خلال الابتلاء بهذا اليأس بصورة أو بأخرى - اليأس الذي يمثل «معبرا إلى الإيمان» - وحده يكون النفاذ إلى الحياة الأبدية. وهذه رؤية تراجيدية ما دام الأمر يتطلب أن يخسر المرء حياته لينقذها، فهي تشبه الإيمان اللاكاني في أنه بالتعلق العنيد بسلبية المستوى الواقعي وحده يمكن أن نكون في صورة كائن ملتزم أخلاقيا تماما، فالإيمان عند كيركجارد - كما حال المستوى الواقعي عند لاكان - يقدم أزمة واضطرابا دائمين في تأكيدات المستوى الأخلاقي التي لا معنى لها.
تتجاوز كتابات كيركجارد حدود الحياة الأخلاقية الجمعية في النظام الأخلاقي عند هيجل إلى طلاق كانط البروتستانتي القاسي بين الواجب والسعادة؛ فالإيمان لا علاقة له بالرفاهية أو بالإشباع الحسي؛ فالمسيحي الحقيقي «يبعد نفسه عن الملذات والحياة والمسرات المادية.»
19
فالمستوى الواقعي معاد للمستوى الجمالي وإن كان يشترك معه في بعده عما هو عام. كما أن الإيمان ليس عاطفة، فهو «ليس الميل الفوري للقلب بل هو مفارقة الوجود .»
20
وليس ثمة طريق مباشر كما عند شافتسبري أو هتشسون من عواطف القلب إلى المطلقات الأخلاقية، إلا أن كيركجارد بتحوله بهذه الصورة إلى كانط لا يكتفي برفض تحويله المجمل للدين إلى الأخلاق، بل إنه يفكك الذات الأخلاقية المستقلة الحرة، وكذلك رؤيته لهذه الذات باعتبارها متناغمة مع الآخرين في مملكة العام؛ إذ يكتب في عمله «المرض طريق الموات» أن النفس بوصفها سيدة نفسها كالملك بلا مملكة، فهي نوع من الحكم على لا شيء، حشو رنان. أما بخصوص الاعتماد على الغير فإن كيركجارد يصيب في رؤيته أنها سابقة جذريا على الاستقلالية، رغم أن الاعتماد في حالته يكون على الرب المانح الأكبر للذاتية وليس على الناس. فبطريقة بروتستانتية تقليدية، تعلق الذات المؤمنة في اعتماد مكره على رب لا تفهم منطقه على الإطلاق. وعلى هذا الأساس وحده يمكنها أن تكون لذاتها نوعا من الفردية الحرة، فالفرد يخضع لدعوة أو مهمة فريدة، أمر إلهي موجه إليه وحده لا يمكن موائمته مع مثل هذه الأمور الحضرية كالمبادئ العامة والالتزامات المدنية. وسنرى لاحقا صورة أخرى من هذا الأمر الفريد في ظل «قانون الذات»، هذا الذي لا يضاهى الذي هو رغبة المستوى الواقعي.
إذا فالمستوى الواقعي يدحض المستوى الرمزي؛ إذ إن موقف النفس مما هو مطلق يسبق ارتباطها بالمستوى الأخلاقي. وهذا النظام الأخلاقي - كما هو الحال عند مؤيديه الفرنسيين اللاحقين - له أبعاد سياسية. فليس ثمة إمكانية لوجود ما قد نسميه المستوى الخيالي الاجتماعي، الذي يمكن من خلاله للرجال والنساء أن يحققوا بعض الإشباع الجماعي من خلال رؤية صورة بعضهم المنعكسة في بعض، فجميع أشكال الجماعية صارت متهمة بالإيمان الفاسد والوعي الزائف، كما هو حالها بوجه عام في رأي إيمانويل ليفيناس، ولاحقا جاك دريدا. فكلما زاد إظهار الإنسان لهويته الاجتماعية، زاد وقوفه عاريا مرتجفا بوصفه روحا وحيدة أمام الرب. فالبطولة الحقيقية هي المخاطرة بأن نظهر على حقيقتنا دون تحفظ. وهي حالة باتفاق - كل من ليفيناس ودريدا لاحقا - تتضمن ما يصفه كيركجارد ب «المسئولية الضخمة». فالأفراد ذرات وحيدة مستغلقة على ذاتها ومستغلق بعضها على بعض؛ فالخصوصية لا يمكن الحفاظ عليها إلا على حساب الاجتماعية، «فالتجربة المحدودة» كما يقول كيركجارد «لا مأوى لها.»
21
فواقع أي شخص آخر ليس حقيقة عندي، فما هو إلا «احتمال»؛ إذ لا يمكن أن يوجد تواصل مباشر بين الأفراد المحددين غير القابلين للاختزال، ولا تعاطف خيالي أو إحساس فطري بالألفة فيما بينهم. ويتضمن هذا الاعتقاد أيديولوجيا الهوية القاتلة، أسطورة أن الذات يمكن أن تتساوى مع نفسها أو مع الآخرين، وليست غير قابلة للقياس على أي شيء سواها في الكون. إن فكرة الفضيلة - الاعتياد التلقائي على فعل الخير - يتم رفضها باعتبارها عقيدة وثنية، فهي خالية تماما من الجهد مقارنة بفكر كيركجارد شديد التزمت، حتى وإن كان - كما يقول معلق - «كل اهتمامه منصب على إثبات الذات وسعي الفرد للرضا.»
22
فالمحاكاة - وهي حجر الأساس في المستوى الخيالي - مرفوضة رفضا قاطعا، فلا يوجد فرد قادر على محاكاة أو تقليد الواقع الداخلي لغيره، فكل الناس «هويتهم غير معروفة». ويمكن للمجتمع في أحسن الأحوال أن يتطلع إلى «الوحدة السلبية للتبادل المشترك بين الأفراد»، وهي تبادلية ليست جزءا جوهريا من وجودهم من أي وجه.
23
يبرز كيركجارد إذن بصورة مناصر مبكر لهذا النموذج من الأرستقراطية الروحية المعروف ب «النقد الثقافي»، وهو إرث سنلقي عليه نظرة لاحقا. فهو نخبوي عابس يهاجم «الرعاع» دون تقيد؛ إذ يؤمن بأن عددا قليلا جدا من الرجال والنساء قادرون على أن يظهروا بحقيقتهم. فالديمقراطية هي عكس الوجود الحقيقي للفرد، والمناداة بالمساواة البشرية نوع من التسوية المشينة التي تقوض الروابط الإنسانية الملموسة وتبطل الاختلاف الفردي البحت. فالذات المجردة العامة في الحضارة البرجوازية ستنبذ في احتقار، فالتقدم الاجتماعي والنظام المدني والرأي العام والإصلاح الإنساني كلها شئون وضيعة تليق بالمستوى الرمزي التابع، الذي هو أدنى من المجال الرفيع للإيمان الفارس. يكن كيركجارد احتقارا لما هو إنساني وخيري، وما هو سنراه لاحقا عند أتباع لاكان؛ إذ يقول إن «الإنسانية المتأصلة» في الإيمان «أثمن من هذا الاهتمام الأحمق بسراء الآخرين وضرائهم الذي يحترم تحت اسم التعاطف لكنه ليس إلا عبثا في الحقيقة.»
24
فالعاطفة مفهوم لاكاني خالص.
فالرجال والنساء في العصر الحديث إذ يعجزون عن «الوجود» الحقيقي قد استسلموا دون مقاومة لدائرة المجهول واللاإنساني، للعموميات الوحشية وللكليات الجامدة، في عصر قضى بنحو تناسبي على الحكمة الروحية بتراكمه للمعرفة. إنها السيادة الصماء ل «المرء» عند هايدجر، انتصار الكمي والعمومي على الفريد ومنقطع النظير. وباللجوء للإيمان السيئ، يهجر الناس قضية الوجود الشخصي الحقيقي الإشكالية لينغمسوا في حلم أو آخر بالكلية: الخير العام، روح العصر، مجرى التاريخ، تقدم الإنسانية. وهم بذلك يتماهون بطريقة خيالية مع نظام اجتماعي دائما ما تختلف معه الذات المؤمنة في تشكك، فالتاريخ بعد هيجل لم يعد المكان الذي تجد فيه الذات انعكاس صورتها ولا غايتها. على العكس فإن الناس يجب أن يستمدوا الآن إيمانهم من منطق عام أكثر وضوحا وواقعية، فينسحبون من عالم أدنى إلى أعماقهم الداخلية. وسيلاقي المصير نفسه الفن في عصر الحداثة، وما قدمه كيركجارد هو تحويل عين الحرج واللاعقلانية المحيطة بالإيمان في حقبة عقلانية إلى نوع منحرف من الدعاية له.
قد لا يكون كيركجارد بصفة عامة مناصرا للمستوى الخيالي؛ لكن ثمة موضعا يلتزم به فيه بلا تحفظ، وهو في فعل الكتابة نفسه. فالقارئ - حسبما يقول كيركجارد في عمله «وجهة نظري بصفتي مؤلفا» - يجب ألا تقدم إليه الحقيقة المطلقة بأسلوب فظ، وهو ما سيرفضه حتما، بل يجب أن يؤخذ بيده إليها بصورة غير مباشرة، ويخضع لنوع من المفارقة السقراطية لكي ينكشف وعيه الزائف من الداخل بدلا من مواجهته مباشرة. فمن خلال تقديم سلسلة من الحجج الجزئية وتقمص شخصيات مستعارة، يمكن للكاتب أن يطلق سلسلة من الغارات غير النظامية على القارئ، فيسحبه من خلال الخيال والمفارقة والحيلة إلى لحظة قرار لا يسعه سوى أن يكون قراره هو وحده. وكما يقول سارتر بعدها بقرن، فلكي تكون الكتابة مفيدة أخلاقيا عليها أن تخاطب حرية القارئ. فهي - كما يصيغها كيركجارد - مسألة «تماش مع وهم الآخر»، مسألة دخول من باب التقمص العاطفي الخيالي إلى دائرة القيمة لديه مثلما يفعل الروائي مع شخصياته. وهذا باعتراف كيركجارد يشمل عنصرا خداعيا لا بد منه، تماما مثلما الحال في المستوى الخيالي. فالكتابة من هذا المنطلق عمل حواري يسترق باستمرار السمع لنفسه في آذان متلقيه ويراجع نفسه بالتبعية. الحقيقة هي الحقيقة بكل تأكيد؛ لكن في عالم الخطاب الإنساني الحقير يجب أن تتصرف بحكمة ملتوية، مثلما يتسلل الكاتب إلى «الأرض المجهولة» للقارئ كمندس في معسكر الأعداء.
ثمة تداخلات معقدة بين مستويات كيركجارد الثلاثة كما في مستويات لاكان الثلاثة، فالمستوى الديني يجب أن ينحني أمام المستوى الجمالي، وهو ما يعني أن المادة الخام التي يعتمد عليها المبشر في دعوته هي الجوانب الرديئة للتصور والرغبة. وينبه كيركجارد إلى أن الإيمان يجب أن يستوعب ما هو لا متناه لكن عليه أيضا أن يتمسك بقوة بما هو متناه: «إن عيش الإنسان حياته اليومية في ضوء جدلية اللامتناهي الحاسمة، واستمراره في الحياة مع ذلك، لهو فن الحياة وصعوبتها معا.»
25
وثمة بعض من هذه المفارقة - مفارقة الوجود في هذا العالم دون أن نكون جزءا منه: الانفصال عنه وفي نفس الوقت المبالاة به - في فكر أتباع لاكان. عندما يلفت كيركجارد في كتابه «خوف ورعدة» إلى أنه «من العظيم أن يزهد المرء في رغبته، لكن الأعظم أن يلازمها بعد أن يزهد فيها»،
26
فهو يفكر في حب النبي إبراهيم لابنه إسحاق وأمله في سلامته، وهما حب وأمل يتمسك بهما حتى وهو يتخلى عنهما باسم إيمانه بيهوه. وكذلك يؤمن لاكان هو الآخر بوجود الرغبة التي هي مستحيلة والتي ينبغي مع ذلك التمسك بها.
ثمة علاقات أخرى بين الأبعاد الثلاثة؛ فقد يكون الإيمان والجمال في صراع لكنهما مشتركان في قرب يفتقر إليه البعد الأخلاقي، فاختيار النفس هو العمل الأخلاقي الأسمى، وهو يؤذن بظهور الذات القوية في إيمانها؛ لكن بما أنه يتوق للنفس بكل ما فيها من انحلال «جمالي» مخيف، فهو لا يغادر هذا النطاق. وكذلك فإن البعد الديني «يعلق» البعد الأخلاقي بدلا من أن يصفيه. مع ذلك لا يفهم كيركجاردر العلاقة بين الأخلاق والبعد الواقعي بالطريقة المسيحية التقليدية، فالإيمان في العهد الجديد ليس شيئا يتجاوز البعد الأخلاقي بقدر ما هو كشف لأساسه المطلق، المتمثل في حقيقة أن الذين يحبون دون تحفظ مآلهم الموت. ومن هذا المنطلق يمثل المسيح تحقق القانون الأخلاقي؛ إذ يكشف عن منطقه الداخلي المريع بدلا من أن يهدمه، فالإيمان لا يتعارض مع الأخلاق لأنه إيمان برب العدالة والحرية والصداقة والمساواة. إن ما يفرق الالتزام الإنسانوي بهذه القيم في الإيمان بالمفهوم المسيحي هو أن الأخير يتمسك بافتراض لا عقلاني هو أنه برغم كل الشواهد التاريخية فالغلبة لتلك القيم. وهذا - كما يرى هذا الإيمان في حمق أكثر - يرجع إلى أنها قد غلبت فعلا من وجه ما. •••
أما نيتشه فهو مفكر راديكالي على نحو مدهش، وليست نظرته للأخلاق استثناء في هذا الإطار، فبدلا من أن يتدخل في النقاش الأخلاقي ويزن هذه القيمة أمام تلك، فهو أحد أوائل المفكرين المعاصرين الذين تحدوا مفهوم الأخلاق في حد ذاته. وثمة متشكك آخر هو معاصره كارل ماركس الذي يرى أن الأخلاق في جوهرها أيديولوجيا. وهكذا هي عند نيتشه، وإن كان لا يستخدم هذا المصطلح. فالأخلاق عند هذين الفيلسوفين ليست قضية تتعلق بالمشكلات بقدر ما هي مشكلة في حد ذاتها. وكلاهما يربط بين الأخلاق والقوة بروابط جديدة لافتة للانتباه، فإن كان الخطاب الأخلاقي في نظر ماركس ينتمي للبنية الفوقية الاجتماعية التي تعيق - من بين أشياء أخرى - تطور قوى الإنتاج، فإن وظيفته الأساسية في نظر نيتشه هو منع ازدهار إرادة القوة. فالأخلاق كما نعرفها هي أخلاق «القطيع»، وهي تناسب بقدر كاف الجموع الجبانة المتدنية روحيا لكنها عائق أمام تلك الأرواح النبيلة الاستثنائية التي تتسم بأكثر من مجرد شبه عابر بنيتشه نفسه. فالأخلاق مؤامرة على الحياة من جانب الخائفين من المتعة والمخاطرة والبهجة والمشقة والوحدة والمعاناة والتغلب على الذات، فهي وهمية بقدر الخيمياء. ويجب أن تنهار هذه المنظومة المتعفنة الآن؛ حيث إن دعاماتها الغيبية آخذة في الضعف بصفة متزايدة.
إن كان كيركجارد يحتقر العامة، فإن نيتشه يتخطاه بسهولة في ذلك وبحقد بالغ، فكلا المفكرين يريان في الأعراف الاجتماعية تجنبا جبانا للمخاطرة المميتة التي هي أن يكون الفرد إنسانا. فالأخلاق في نظر نيتشه طغيان وحماقة وإذعان عبودي وكراهية سادية مازوخية. فهي غريزة القطيع الموجودة بداخل كل فرد التي تضبطه لئلا يكون أكثر من مجرد جزء من كيان جماعي بلا هوية. فهو كيان، إذ يخلو تماما من أي حقيقة أو أساس ويمثل انتصارا للجماعي على الفردي، لا يوجد إلا من أجل نمو المجتمعات والحفاظ عليها وحمايتها وليس التعزيز الضروري للحياة في حد ذاتها. وبذلك فإن الأخلاق من وجهة نظر نيتشه، المناصرة بشدة للمذهب الطبيعي، وظيفة علم الأحياء وعلم النفس والفسيولوجيا والأنثروبولوجيا والصراع اللانهائي على الهيمنة. فجذورها لا تكمن في الروح بل في الجسد، فهي لا يمكن اعتبارها بأسلوب كانط ظاهرة في ذاتها، بل لا يمكن تفسيرها إلا من منظور خارجها باعتبارها وظيفة ل «الحياة والطبيعة والتاريخ». يهتم نيتشه شأنه شأن ماركس بالتاريخ الطبيعي أو بالظروف المادية للأخلاق، ويرى أن الأخلاق لا تمثل سوى عرض لها، فالأعراف الأخلاقية ليس فيها أي شيء مهذب بل هي طاعة عمياء للعادات والتقاليد وما يمكن أن نسميه اللاوعي الاجتماعي؛ إذ تنبع القيم الأخلاقية المطلقة من الخضوع المستسلم للتقاليد والعواطف التي هي عشوائية كليا، فتاريخ الحكم الأخلاقي كله كان خطأ واحدا استمر طويلا، وإن كان - كما سنرى بعد قليل - خطأ بناء على بعض الجوانب. فعلينا أن ندمر الأخلاق إن أردنا تحرير الحياة، وذلك كما يؤكد نيتشه في كتابه «إرادة القوة».
لا يكاد يوجد جانب واحد في نظم الأخلاق التقليدية إلا واستنكره نيتشه بتعجرف؛ فالقيم الأخلاقية تضرب بجذورها في تاريخ من المعاناة والصراع والاستغلال: «فكم من الدم والقسوة يكمنان في أساس كل «الأشياء الجيدة» كما يعلق في كتابه «في جنيالوجيا الأخلاق» بأسلوب فالتر بنجامين.
27
إذا فكل نظام أخلاقي يكون غير أخلاقي عندما يقيم بمعاييره الرفيعة الخاصة. فانتصار فكرة أخلاقية كما يشير نيتشه في كتابه «إرادة القوة» يتحقق بنفس الطريقة التي يتحقق بها أي انتصار آخر؛ بالقوة والأكاذيب والافتراء والظلم. فما من حقائق ولا دوافع ولا نوايا ولا سمات أخلاقية ولا حتى ظاهرة أخلاقية على وجه التحديد من أي نوع.
وإذا لم توجد أي أفعال أخلاقية أو غير أخلاقية فذلك يرجع إلى أن هذه الأيديولوجيا للسلوك الإنساني تقوم على مفهوم خاطئ للإرادة؛ إذ ليس ثمة إرادة حرة، وإن كان القول إن الإرادة غير حرة ما هو إلا عكس نفس المفهوم الخاطئ، فمفهوم الإرادة الحرة نتيجة للرغبة المرضية في المعاقبة والإدانة. فإن كانت الأفعال الأخلاقية تقتصر على الأفعال الناشئة عن حرية الإرادة - كما يعلق نيتشه ساخرا في عمله «الفجر» - فليس إذن ثمة أفعال أخلاقية على الإطلاق. إن تصور أن الناس يتحركون بإرادتهم ويقررون مصيرهم بصفة كلية؛ ومن ثم فهم مسئولون مسئولية كاملة عن أفعالهم، لهو بقعة عمياء للأخلاق «الرمزية». على العكس، فإن كل ما هو واع ومعروف ومرئي ومقصود في الفعل - كما يكتب نيتشه عمله في «ما وراء الخير والشر» على طريقة فرويد - يخص ظاهره فقط. وما يسمى بالإنسان الحر ما هو إلا شخص يستوعب بداخله قانونا بربريا؛ ومن ثم يوجه نفسه باعتباره مواطنا خاضعا؛ ومن ثم لم يعد في حاجة إلى قسر خارجي. وحيث إن القانون في حاجة لموضع كي يزرع نفسه فيه، فهو يطرق بداخلنا باب الندم والمرض والضمير الفاسد الذي يفضل البعض تسميته بالذاتية. إن هذه الجوانب من فكر نيتشه - من بين أخرى - هي ما سيرثه لاحقا ميشيل فوكو؛ إذ يتوسع العالم الداخلي ويتمدد مع انقلاب الغرائز - الصحية في الوضع الطبيعي - الموجهة للخارج على نفسها تحت سطوة قوة القانون القهرية لتتمخض عن «الروح» والضمير، هذا الشرطي الموجود بداخلنا جميعا. وفي نفس الوقت تحصل الذات المتعة المازوخية من القانون التأديبي أو الأنا العليا المثبتة بداخلنا. فالحرية هي معانقة الإنسان للأغلال المصفد فيها.
لا يقصد من هذا القول أن نيتشه مؤمن متعصب بالجبرية، بل يقصد أنه يسعى لوضع نظرية في علم النفس أكثر دقة من الأفكار شديدة التبسيط التي يجدها جاهزة أمامه، نظرية تنقض التعارض التقليدي بين الحرية والضرورة. وسيقوم بهذا من خلال دراسة عملية الإبداع الفني، التي هي من ناحية دافعه من البداية إلى النهاية، والتي لا ترتبط بأفعال الإرادة ولا بالضرورة، فمعظم الناس على أي حال لا يرقى فكرهم إلى هذه المثل العظيمة كالاستقلال والمسئولية، فما أفعالهم إلا ردود فعل شرطية لطبائعهم، بحيث يصير المدح أو الذم الأخلاقي في حالتهم في غير محله إطلاقا. فالجموع ليس من الممكن تحميلها المسئولية عن الشبكة المعقدة من القوى الخفية التي تشكل شخصيتهم شأنهم في هذا شأن النمر مثلا.
إن كان نيتشه قد هاجم النظام الرمزي، فقد هاجم أيضا النظام الخيالي. ومثلما يزعم سبينوزا أن أخلاق الجماهير تكمن في التعامل مع العالم باعتباره مرآة لتحيزاتهم وميولهم، فإن نيتشه يعتبر أن الأحكام الأخلاقية تنبع من النزعة إلى الشعور بأن كل ما يؤذي النفس شر وأن كل ما ينفعها خير. كما تتخذ هذه الأنوية صورة جماعية في المجتمع نفسه؛ إذ يرى أن فكرة وجود ملكة أخلاقية فطرية هي فكرة في قمة السذاجة. فعندما يتصور الإنجليز أنهم يعرفون ما الخير وما الشر على نحو فطري، كما يقول متهكما في كتابه «أفول الأصنام»، فهم ضحايا الخداع الذاتي. فالفضيلة التقليدية أكثر من مجرد «محاكاة» كما يقول في نفس الكتاب؛ ومن ثم فهو ينكر رؤية بيرك الخاصة بالتبادلية الأخلاقية، بل إن إحدى نقاط اتفاقه النادرة مع فلاسفة أخلاقيين مثل هيوم هي معاداته الشديدة للواقعية، فالقيم الأخلاقية عنده - كما عند سلفه في القرن الثامن عشر - ليست موجودة مسبقا في العالم، فهي أجزاء من محتويات العالم التي نصنعها بأنفسنا، وليست أشياء نجدها على نحو مسبق أمامنا.
كما أنه رافض بنفس القدر للإحساس والعاطفة، فالعواطف ما هي إلا أعراض شعورية لما تعلمنا اعتقاده، فإن بدت طبيعية وتلقائية كما الحال عند هيوم وهتشسون فذلك لأننا ببساطة نجحنا في أن نستوعب بداخلنا قانونا أخلاقيا لا أساس له. ويقول نيتشه في عمله «الفجر»: إن وراء الافتراض المهذب بأن الأفعال الأخلاقية أفعال تقوم على التعاطف مع الآخرين يكمن خوف أساسي مما يمثله الآخرون من تهديد لنا. فحب الجار، كما يشير نيتشه في عمله «ما وراء الخير والشر»، سببه الأساسي الخوف من الجار. فهو حذر ثانوي اعتباطي تقليدي تماما؛ فالخوف هو «أبو الأخلاق» لكنه يتنكر عادة في صورة حب. ولا يختلف هذا المنطق كثيرا عن فرويد الذي يتبنى عددا من أفكار نيتشه.
إذا فالإيثار عند أنصار مذهب الخير مرفوض باعتباره كله خرافة، فأفكار التضحية والإيثار وإنكار الذات والنزاهة زائفة تماما، فالذات العاطفية هي ذات تعرضت للإخصاء؛ إذ ما من قدرة ذاتية داخلية على فعل الخير، فالناس بطبيعتهم حيوانات تنافسية أنانية، ودائما ما تنبع أي نزعة لإفادة الآخرين من المصلحة الشخصية. وإن كانت الأفعال الأخلاقية هي الأفعال التي نقوم بها بالكامل لمصلحة الآخرين، فهي إذن غير موجودة. فالشفقة الإنسانية مبالغ في قيمتها جدا، فهي رابطة تجمعنا بمن هم أقرب لإفسادنا؛ فالعاطفيون يتمتعون بالمعاناة البشرية، وهي ظاهرة يرى نيتشه أن أهميتها مبالغ فيها، فالإنسان الأعلى أو الأرقى يتقبل المحن، معتبرا إياها درسا ضروريا للإنجاز الإبداعي. من الممكن - قطعا - أن يقدم المساعدة للمحتاج، لكنه يقدمها بكرم الأرستقراطي الذي لا ينحني لا بحماس الشخص المحب للخير المنتمي للطبقة الوسطى. إن هذه الكائنات الروحية الضعيفة التي لا ترى أن الأخلاق هي السيطرة على النفس والتغلب عليها هم من «يمجدون العواطف الطيبة التعاطفية الخيرة لذلك النظام الأخلاقي الفطري الذي لا عقل له، بل هو ببساطة مكون فقط من قلب وأيد مساعدة.»
28
وفيما يتعلق بهذه المسألة، يميل نيتشه الذي ألف كتاب «في جنيالوجيا الأخلاق» لتمجيد «كل ما هو رفيع وشجاع ومقدام ومهيمن.»
29
فإرادة الخطر والإخضاع والألم و«المكر السامي» تستنزفها على نحو ماكر الإنسانوية الأخلاقية الجبانة؛ فالتعاطف والرحمة كما نعرفهما هما الفضيلتان المريضتان لدين العوام هذا - المسيحية اليهودية - وعرضا كره الذات والاشمئزاز من الحياة، اللذين أقنعت الطبقات الدنيا، ببغضها وحقدها، أسيادها بأن يتبنوهما. وبضربة عبقري شرير، نقل الضعفاء إلى الأقوياء عدوى عدميتهم المتقرحة وأطلقوا على هذه الحالة الكارثية اسم الأخلاق. وردا على ذلك يجب على الإنسان الأعلى أن يحصن نفسه ضد معاناة الآخرين، داهسا بركبه المرضى والضعفاء .
إن كانت الشفقة والتعاطف مقصورين على العوام، فكذلك مثل السعادة والمنفعة والرفاهية والخير العام. يكتب نيتشه ساخرا في عمله «ما وراء الخير والشر» قائلا: «وكيف يمكن ل «الخير العام» أن يوجد؟! فالمصطلح يناقض نفسه: فكل ما هو عام قيمته دائما ضئيلة.»
30
أما مفهوم الرفاهية العامة كما يشير في عمله «ما وراء الخير والشر» فليس قيمة مثلى بقدر ما هو شيء مثير للاشمئزاز، في الوقت الذي لا يعكس فيه مبدأ المنفعة أكثر من تطلعات هزيلة للمنتهكة حقوقهم والمظلومين. أما فيما يخص قضية السعادة التي لا قيمة لها، فالإنجليز وحدهم - كما يسخر واضعا نصب عينيه أتباع بنثام - هم من يشغلون فكرهم بها، فالقواعد الأخلاقية - شأنها شأن المفاهيم - تبالغ في التبسيط بطبيعتها، فتختزل ما هو شديد الخصوصية في أشياء أدنى عامة أو كلية. إن هذه الاسمية المتحفزة هي واحدة من بين آراء نيتشه العديدة التي انتقلت إلى الفكر ما بعد الحداثي، وهو تيار كان هو في واقع الأمر محركه الأول. فبإيمانه بأن العام سطحي ومزيف في جوهره، فهو يشترك في أمور كثيرة مع كيركجارد، بل إنه يتخطى هذا الفيلسوف الدنماركي المؤمن بالمذهب الفردي باعتقاده أن الوعي نفسه تسطيح للعالم؛ إذ يحيل غابة الواقع الغني إلى مجرد ظل هزيل لنفسه. يتسم التفكير حتما ببعض البلادة والإبهام، أما الجسد فهو ظاهرة أكثر ثراء ووضوحا وجدارة بالثقة.
مع ذلك فإن نيتشه أبعد ما يكون عن مجرد الهجوم على النظام الرمزي أو سيادة الأخلاق الجماعية. فمن ناحية، النظام الرمزي أفضل ما يمكن لمعظم الناس أن يتعاملوا معه، فهو من الناحية التطورية عالم يتلاءم بنحو يثير الإعجاب مع حالتهم الروحية البدائية، فالجنس البشري لا يمكنه تحمل قدر كبير من الواقع، وسيهلك على يد الحقيقة إن دفعه حظه العاثر لمواجهتها مواجهة مباشرة؛ لذا فإن ميلاد الذات الإنسانوية ليس مدعاة للندم. ويختلف نيتشه في هذا اختلافا واضحا عن الكثير من أتباعه الأقل حذرا. ومن ناحية أخرى فإن النظام الرمزي - بأعرافه المجردة ومعاييره التي تقوم على المساواة وتقديسه لما هو عادي وتقويضه لما هو استثنائي - له نتيجة بناءة في نهاية المطاف؛ نتيجة تغيب عن رؤية كيركجارد المريعة له. وهذا يرجع إلى أن نيتشه - على عكس معظم مناصريه المعاصرين - غائي حتى النخاع يرى أن الأخلاق تمر بثلاث مراحل تاريخية. وليست تلك المراحل الثلاثة تماما هي الخيالي والرمزي والواقعي، بل يمكن وصفها بدقة أكبر بأنها الحيواني والرمزي والواقعي.
غالبا ما تعتبر المرحلة الحيوانية - على نحو خاطئ - المرحلة الأخلاقية المثالية عند نيتشه، فهي المرحلة البدائية التي يعيش فيها «الناس أحرارا، وجامحين، وهائمين»؛ يقاتلون كالطغاة الذين لا يعرفون أي ندم، ويعيشون بغرائزهم الجميلة البدائية في تحرر رائع من القيود، ويؤذون ويستغلون دون أدنى اعتبار. وهؤلاء كائنات أكثر جاذبية من الإنسان الأخلاقي، لكنهم كذلك أقل سحرا وتعقيدا منه؛ إذ يبرز الإنسان الأخلاقي عندما تدفن الهيمنة القاسية لتلك الوحوش الشقراء الغرائز الحرة لمن يخضعون لهم؛ ومن ثم يولدون تلك الحالة الخطيرة المؤذية للنفس من الندم والإيمان الفاسد التي تشكل «أخلاق العبودية» في المجتمع التقليدي. وإذ تعلق الكائنات الأخلاقية التقليدية في شباك هذا التواطؤ المؤذي بين القانون والرغبة، فهي تذبل في قبضة الواقعي بالمعنى السلبي للكلمة، بينما يتحرك الإنسان الأعلى - كما سنرى في تلك المنطقة الغامضة - بصورة أكثر إيجابا، بصورة أقرب في عدة جوانب إلى النموذج المثالي لأنتيجون عند لاكان (وإن كانت مجردة من تجهمها وعنادها) من نموذج أتباع المسيحية اليهودية التي تسبب الإخصاء لذواتهم.
إلا أن ضبط النفس السادي المازوخي عند الحيوان الأخلاقي هو أيضا - بطريقته الخاصة - عملية رائعة. فثمة جمال في الضمير الفاسد؛ فالإنسانية تستمد استثارة شهوانية من تعذيب النفس تماما مثلما يستمدها نيتشه المنحرف الشرير من تصوره. وبالإضافة إلى ذلك، ورغم أن الفساد المنتظم للغرائز يجعل الحياة الإنسانية أكثر هشاشة وتقلبا، فهو أيضا يفتح الباب أمام احتمالات جديدة للتجربة والمغامرة، فهذا الكبت للدوافع هو أساس كل فن وحضارة عظيمة. فإن أضعفت عواطفنا فقد زادت تهذيبا ودقة كذلك، والانضباط الذاتي العقابي الذي يفرضه علينا هذا يمهد لنا الطريق للوصول إلى السيطرة على الذات المتصف بها الإنسان الأعلى، فاعتمادنا الخطير على العقل الحسابي في حقيقته إضعاف ماكر للعواطف وبداية لوجود ثري لا يضاهى. إن نيتشه ليس مفكرا لا عقلانيا بسيطا؛ ففي أعماقه نفسه تجري كراهيته لعصر التنوير. وهو جدلي في هذا الجانب على الأقل بقدر ماركس، فسقوط الإنسان - الذي هو غائي عند الكثيرين - يتضح أنه سقوط سعيد؛ إذ فقط بانضباط العواطف الهمجية القديمة وتساميها عن طريق فرض أخلاق «القطيع» ينفتح الباب أمام الظهور الكبير للإنسان الأعلى، الذي يتولى هذه النزعات ويطوعها حسب إرادته المستقلة. فالذات الإنسانية تولد في حالة من المرض والخضوع؛ لكن هذه الإرادة تثبت أنها أداة ضرورية لاستغلال القوى المدمرة في العادة.
يكتب نيتشه في كتابه «إرادة القوة»: «نحن ممتنون بشدة لما حققته الأخلاق ... لكنها لم تعد الآن سوى عبء قد يتحول إلى فاجعة!»
31
ويشير في عمله «المسافر وظله» قائلا: «وضع الكثير من القيود على الإنسان لدرجة أنه قد ينسى السلوك الحيواني؛ فقد أصبح الإنسان في الحقيقة أكثر اعتدالا وروحانية وسعادة وحرصا من أي حيوان؛ لكنه لا يزال يعاني الآن من تحمل قيوده طويلا ...»
32
ويذكرنا هذا بموقف القديس بولس من شريعة موسى التي كان الهدف منها - شأنها شأن كل القوانين الفعالة - إيصال الإنسان إلى مرحلة لا يحتاج فيها إليها. وكما حال العهد الجديد، يؤمن نيتشه على طريقته الإلحادية الخاصة بأن القانون يجب أن يخدم رخاء الحياة لا أن يخدم نفسه. وبمجرد أن يحقق هدفه يمكن التخلي عنه؛ فالفرد الحر - عند نيتشه إن لم يكن عند كيركجارد - هو نتاج لعادات مقيدة، وإن كان يسمو عليها أيضا، فالوحش الأشقر يجب أن تنزع قوته ليكون ملائما للمجتمع المتحضر، فمن دون القدرة على التفكير الحسابي والتبادلية المجردة يظل الناس حيوانات ضارية تعيش تحت رحمة غرائزها، ولن يرسى أساس الإنسان الأعلى المتحضر أبدا. فالنظام الرمزي له فوائده على كل حال، ففقط بتعلم استيعاب قانون زائف يمكن للإنسان أن ينال السيطرة الذاتية على هذا الكائن الرائع الجديد الذي لا يعيش بأخلاقيات حضرية عامة بل يعيش تبعا لقانون ذاتي ليس له مثيل ؛ فالأرستقراطي لا يشارك قيمه الأخلاقية مع الأدنى منه مرتبة مثلما لا يشارك طعامه معهم. فمن أكثر ما يغضب نيتشه القول إن الأفراد قد يكونون متساوين من بعض النواحي. وهو في تلك النقطة قرين فلسفي بحق لكيركجارد، فالإنسان الأعلى باعتباره قانون نفسه يتحرك في نطاق البعد الواقعي «الإيجابي»، فخورا وواثقا وفريدا تماما يتخطى نطاق المعايير الأخلاقية الجماعية وجسورا في مواجهة الموت والعدم؛ لكن لا يمكنه فعل ذلك إلا لأنه تعلم في مدرسة النظام الرمزي الشاقة؛ فالحضارة نتاج البربرية الأخلاقية، وفقط بخسارة نفسك، تستطيع أن تنالها.
تتسم غائية نيتشه إذن بشيء من التراجيديا؛ فحياة الإنسان في نهاية الأمر لا يمكن أن تزدهر إلا بقدر مريع من العنف والبؤس واحتقار الذات؛ لكن ما من أثر للتراجيديا في الإنسان الأعلى نفسه، الذي يشع فيضا من اللطف والسكينة وسمو الأخلاق وما يسميه نيتشه على نحو غريب «سمو الروح». وإذ يبعد كل البعد عن أن يكون كائنا وحشيا مفترسا، فهو خبير في البهجة والانضباط والشهامة، يكرس نفسه فقط لازدهاره الذاتي بوصفه فنانا يرسم لوحته الخاصة؛ فالإنسان الأعلى أو الإنسان الأسمى؛ وإذ يدخل في المغامرة التي لا نهاية لها المتعلقة بالإبداع والتجربة الذاتيين، هو فنان وتحفة فنية في جسد واحد. فهو - إن جاز التعبير - قطعة من الصلصال في يديه هو نفسه، وله الحرية في تشكيل نفسه على أي صورة بديعة تناسب الحياة والنمو والقوة بالقدر الأكبر؛ إذ يجب علينا أن نكون «شعراء نكتب قصيدة حياتنا» بأدق تفاصيلها. إن وجود الأخلاق واجب؛ لكنها يجب أن تكون مصنوعة خصيصى كي تناسب شخصية الإنسان الفريدة وليست معدة مسبقا.
ليس هذا شكلا خاطئا من أشكال المذهب الفردي؛ فالإنسان الأعلى يهذب ويثري قواه لا من أجل نفسه، بل من أجل الازدهار الأكبر للنوع البشري، فهو كالقربان على هذا المذبح شأنه شأن تلك الكائنات التي وجب هلاكها باسم التطور. وفي هذا الإطار يمثل نيتشه نموذجا فيكتوريا بارزا؛ فالإيثار إذن مردوده يكون على مستوى أعلى. فمن ناحية يخضع الإنسان الأعلى لقانون حاكم شأنه شأن أكثر المواطنين الممتثلين خنوعا؛ لكن هذا قانون يضعه لنفسه؛ ومن ثم فهو صورة فريدة لا مثيل لها من القانون العام الذي يصر كانط (الذي هو عجوز جبان مخصي من وجهة نظر نيتشه الساخرة) على أن نخضع له؛ لذا فإن القسر الوحشي هذا يؤدي إلى الهيمنة على الذات. ومثلما يستعير نيتشه من كانط مفهوم الواجب - بينما ينكر أن ذلك قد يعني واجبا على الجميع إطلاقا - فهو يقتبس من سلفه رؤية التطويع الحر للقانون؛ لكنه إذ يطوعه يجرده من وحدته وعموميته. فالقانون في المستقبل سيكون ذا طابع لا قانوني غريب، يلائم كل فرد على حدة؛ فالإنسان الأعلى مقرر لكل شيء؛ حيث يستمد دليله من التدفق السعيد لقواه وليس من مبدأ مسبق أو قاعدة عامة، فهو كالعمل الفني يضع قوانينه وأعرافه الخاصة. إن ما يؤكد عليه الفلاسفة الحقيقيون هو تنوع الحياة وليس نمطا سلوكيا معينا؛ إذ ليس من الواضح أي المعايير تحدد ما يعد «تعزيزا» لجودة الحياة. ولا يسع نيتشه أن يخاطب الفطرة هنا أكثر من مخاطبته للأعراف السائدة. وكذلك إن كانت إرادة القوة تشمل كل الظواهر بحيث لا يتبقى أي معايير أخلاقية فيما وراءها يمكن بها الحكم عليها، فلن يمكننا معرفة ما إذا كانت نافعة، وفي تلك الحالة ما المثير للإعجاب في دعمها؟
لا يؤيد نيتشه مفهوم الفضيلة، الذي ينحدر من الفكر الأخلاقي الأرسطي الذي سنتناوله فيما بعد. ويخبرنا في عمله «إنسان مفرط في إنسانيته» أن الأخلاق تبدأ في صورة إلزام، وتتحول إلى عادة، ثم تحول نفسها إلى غريزة، وأخيرا تربط نفسها بالإشباع تحت مسمى الفضيلة؛ فالفضيلة ما هي إلا صورة سامية من الإلزام الأعمى، مثلما تبدو أحيانا عند جاك لاكان. مع ذلك توجد عناصر مما يسمى بأخلاق الفضيلة في حياة الإنسان الأعلى. وكما الحال عند أرسطو، فإن الهدف الأسمى للإنسان الأعلى هو تحقيق الذات؛ رغم أن نيتشه بعكس سلفه القديم يغمره شك عميق في الوجود الفعلي لأي شيء في صورة نفس مستقلة، وعلى أي حال لا يكون تحقيق الذات هذا في نظره هدفا في نفسه - مثلما يرى أرسطو - بل لتحسين «الحياة» ككل. مع ذلك فثمة مواضع يتحدث فيها بأسلوب يذكر بأرسطو عن «أسمى صور الرخاء» وعن «الإنسان الكامل»، ويذكر عبارات مثل «مزيد من التطوير الحر للنفس» التي كانت شائعة تماما في أعمال ماركس، المؤيد الخفي لأرسطو. فالإنسان الأعلى شأنه شأن الإنسان الفاضل صنيعة عادة، عادة تعيش طبقا للغرائز التي غرست في نفسها أرقى القيم الثقافية والحضارية. ومن هذا المنطلق هو يجمع بين الطاقة الغريزية للمرحلة «الحيوانية» من الوجود الإنساني وبين اختياره الخاص للقيم في حقبته «الأخلاقية».
توجد نقطة اتفاق أخرى بين نيتشه وأخلاق الفضيلة، فالأخيرة - كما سنرى لاحقا - لا تتعارض مع القوانين والوصايا الأخلاقية، بل إن هذه - بعكس الأخلاق الكانطية - ليست نقطة انطلاقها، فهي تبدأ بتصورات معينة عن الفضيلة والتفوق والرفاهية وتحقيق الذات وما إلى ذلك، وتقيم وظيفة الأعراف والوصايا في إطار السياق الأوسع هذا؛ فالأوامر والنواهي لا ينبغي اعتبارها هدفا في ذاتها. ويستمر نيتشه في نفس الإطار قائلا: ستظل القوانين موجودة في مملكة الحرية المقبلة، لكن وجودها سيكون من أجل إثراء الحياة بصورة أكبر. لكن لو كان نيتشه قد استوعب فكر أرسطو على نحو تام، فلربما أدرك أنه حتى أخلاق الحاضر المنحل ليس من الضروري أن تكون متعلقة بصورة رئيسية بالقوانين والإلزام. وهذه إحدى أكثر النقاط الضمنية إيجابا لفكر الفيلسوف القديم. وللمفارقة، يؤيد نيتشه فرضية كانط المريبة التي مفادها أن الأخلاق قضية متعلقة بالواجبات والوصايا، فقط ليستبعد تصور الخاص بالأنا العليا كله من أجل رؤيته الخاصة شديدة الاختلاف؛ إذ يرى أن الأخلاق هي قبل كل شيء قضية فرض مسارات معينة للفعل، وإنكار أنواع معينة من الفعل ومن الأشخاص، وهو ما يرفضه كله بطبيعة الأمر. لكنه إن لم يكن قد عرف الأخلاق بمثل هذا الشكل الضعيف من البداية، فربما ما كان عليه أن يتبرأ منها على هذا النحو الصارخ. وهكذا يقع نيتشه فريسة لأخلاق القطيع باستنكاره إياها. وثمة مفارقة مشابهة عند ماركس الذي يبدو أحيانا أنه يختزل الأخلاق في التقييم الأخلاقي ، والذي يعجز عن استيعاب أن عمله يمثل دراسة أخلاقية بالمعنى التقليدي غير الأخلاقي للمصطلح.
33
إن الإنسان الأعلى كائن شديد الإيجابية؛ إذ يفيض بالصحة والبهجة الشديدتين. إلا أنه يختلف جذريا عن الإنسان ذي الروح العظيمة عند أرسطو في الثمن الفادح الذي يجب أن يدفعه لإيجابيته الأبدية. والثمن هو مواجهة مخيفة مع النظام الواقعي؛ أي إدراك أنه لا حقيقة ولا جوهر ولا هوية ولا أساس ولا غاية ولا قيم فطرية في الكون؛ فالإنسان وهم، وكذلك الأشياء التي تبدو راسخة أمامه. إن إدراك كل هذا يمثل التحديق في الهوة الديونيسيوسية المظلمة عند المذكورة في عمل «مولد التراجيديا» مع رفض كل مسكنات الوهم الأبولوني. فهو يعني تحويل حتى هذا الإدراك المريع لدافع الموت إلى عادة غريزية، والرقص دون أي يقينيات على حافة الهوة؛ فالإنسان الأعلى هو من ينتزع الفضيلة من الإلزام الشديد، ويحول انعدام وجود أساس للواقع إلى حالة من المتعة الجمالية ومصدر لعملية ابتكار الذات التي لا توقف. فهو شأنه شأن أبطال النظام الواقعي الأخلاقيين عند لاكان قد تخطى مرحلة التعميد بالنار التي هي مأساة في مكان فيما وراء هذه المحنة السعيدة، إلا أن الوصول إلى تلك الحالة التي يحسد عليها يتطلب من النوع البشري أن يستعد لدروس النظام الرمزي القاسية.
إذا ثمة تفسير يرى أن نيتشه يعتقد أن الإنسان حقيقي الوجود يتقدم من السقوط السعيد الخاص بالنظام الرمزي، إلى مواجهة مهذبة مع النظام الواقعي، ثم إلى حالة من الفضيلة تحيل العقل الخطابي إلى غريزة تلقائية. فالإنسان الأعلى منان وكريم، لكن ذلك مقرون بلا مبالاة السيد النبيل الراقية الخالية من الهموم. وفي هذه الحالة تكون الدوافع والعواطف الجسدية مهمتين، وهو ما يجعل هذه الحالة من بعض الجوانب نموذجا أرقى للنظام الخيالي. وسنرى لاحقا أن الأخلاق عند جاك لاكان وآلان باديو تكمن في الإخلاص الثابت للنظام الواقعي، الذي يجب أن يتمسك به الفرد رغم فخاخ النظام الرمزي وأوهامه؛ فالفعل الأخلاقي الحقيقي عند الطليعة الباريسية هو الفعل الذي يرفض زيف وملل ما هو معتاد من أجل الالتزام المستدام بهذه الحقيقة السامية؛ لكن ليس هذا هو الحال عند نيتشه. صحيح أنه من خلال المواجهة المكلفة مع النظام الواقعي وحدها يمكن للإنسان أن يدرك أن العالم بلا أسس أخلاقية، وأن الرب ليس ميتا فقط بل لم يكن حيا يوما، وأن الأنظمة الأخلاقية التقليدية بغيضة ومنحطة في جلها، إلا أنه بمجرد أن يصبح الإنسان سيد نفسه روحيا بهذا النحو، تكون النتيجة حياة تملؤها الفضيلة بطريقة ربما يفهمها إدموند بيرك. على أي حال، فإن بعضا من فضائل نيتشه المفضلة تتفق بصورة كبيرة مع الفضائل التقليدية؛ الشجاعة والبهجة واللطف والشهامة وما شابه. لذا، فإن أحد الانتقادات الموجهة لنيتشه ليس أن كتاباته تمثل نهاية الحضارة كما نعرفها، بل إن الإنسان الأعلى يحمل شبها مخيبا للآمال بالشخص الأرستقراطي القديم المعهود، فهو أحد شخصيات دزرائيلي أكثر منه شخصية شيطانية.
هوامش
الفصل الثامن
النظام الواقعي في الأعمال الأدبية
هناك موضع في مسرحية «الصاع بالصاع» يسعى فيه الدوق لإقناع كلاوديو المدان بقبول مصيره:
أقبل على الموت بقلب خالص؛ ولسوف ترى
أن الموت أو الحياة قد أصبح أحلى.
قل للحياة: إن فقدتك، فإني أفقد شيئا
لا يحرص عليه سوى المغفلين ...
لست سعيدة؛
فأنت تشقين من أجل ما ليس لديك
وتنسين ما لديك ... (3، 1: 6-8، 21-23)
ويقبل كلاوديو كلام الدوق بعد أن اقتنع بهذا الدفاع البليغ عن الموت:
شكرا لتفضلك.
إنني إذ أتلمس الحياة، أجدني أسعى إلى الموت،
وإذ أسعى إلى الموت، أجد الحياة. فأهلا به. (3، 1: 41-43)
بالإقبال على الموت، والاستغناء عن عدم الرضا الدائم عند الأحياء، يكتشف كلاوديو نوعا من الحياة أعمق وأحلى. ولا يعني هذا مقارنة بين الموت والرغبة، بل إقرار بأن الرغبة ذاتها، بشكلها الدنيوي، ما هي إلا سلسلة تافهة من «الميتات الصغيرة» (إفراغ اللذة)، وهي بذلك تنبئ بتوقفها، فحب الموت بدلا من الحياة، ومعانقة ظلمته كما يعانق المحب حبيبه، لا يعني رفض الرغبة بل التطلع إليها في أنقى صورها. فذلك يعني رفض المساومة على الرغبة؛ الإقرار بطبيعتها السامية بدلا من ملء فراغها المؤلم بهذا الصنم أو المعبود أو ذاك. فقانون الرغبة قانون متمرد، يرفض الآلهة الزائفة والتماثيل المنحوتة، فالإقبال على الموت ليس حبا مرضيا للموت، بل إخلاص محب لجوهر الهوية الذاتية، جوهر يتجاوز كل الأشياء التي تتعلق بها الرغبة وهو ليس إلا فائضا فارغا يسمو فوقها. فبعكس المفكرين ما بعد الحداثيين، فإن لاكان أحد الأنصار المخلصين للمذهب الجوهري؛ فبالنسبة له، جوهر الإنسانية - الرغبة - نوع من العدم. إن من يبذلون الكثير في الحياة، ويستوقفهم هذا الشيء المحبوب الفاني أو ذاك، هم غير المخلصين للشيء الأكثر اتصافا بالحياة في داخلهم.
إلا أن الثمن الذي يدفعه الإنسان لقاء الإخلاص كبير، فكما يكتب سلافوي جيجك، فهؤلاء الناس - الذين يعتبر أوديب، الشخصية التي أبدعها سوفوكليس، أحد أعظم نماذجهم - «قد عاشوا «الحالة الإنسانية» حتى نهايتها المريرة، مدركين احتماليتها الأساسية؛ ولهذا السبب لم يعودوا من ناحية «بشرا» وتحولوا إلى وحوش غير إنسانية، لا تردعها أي قوانين أو اعتبارات إنسانية.»
1
وهم يجسدون في بؤسهم الشديد رعبا لا يوصف؛ الإنسانية العارية غير المزينة التي تحتاج - شأنها شأن ضحايا معسكرات التعذيب النازية المخيفين - لشجاعة رهيبة لكي ننظر إليها ونتابع العيش. فهي تكون عندما نصبح في أنقى صور إنسانيتنا، عندما نجرد من كل الأوسمة الثقافية، لدرجة أن نصبح أبعد ما يكون عن الإنسانية وأشد وحشية وتشوها؛ فهؤلاء الذين يواجهون النظام الواقعي يتحركون كما رأينا في منطقة رمادية بين الموت والحياة، الإنسان فيها «يواجه دافع الموت باعتباره أقصى التجارب الإنسانية، ويدفع الثمن بمروره ب «فاقة ذاتية» شديدة؛ إذ يختزل إلى فضلات متحللة.»
2
وبلغة المسيحية فإننا نتحدث عن نزول المسيح إلى الجحيم، وهي علامة التضامن مع العذاب واليأس البشريين اللذين من دونهما لا يمكن أن يوجد بعث من الموت.
تلومنا الرغبة - كما يفعل السمو الكانطي - على انخراطنا في الواقع العادي، حيث تذكرنا في صرامة أن مكاننا الحقيقي في الأبدية. وهي ليست أبدية يمكننا نيلها كما في العقيدة المسيحية، بل هي أبدية السعي إليها، كما عند شخصية فاوست لجوته، فالرغبة الدائمة هي النسخة العلمانية من الخلود. فهي أبدية تلوح في شكل سلبي في عجزنا الدائم عن الوصول للرضا، كما لو كان هذا الإحباط عينه يشير فيما وراءه لنوع من الرضا لا يمكن تصوره الآن، وهو أقصى ما سنعلمه عنه. فالإخلاص لعدم الوجود الذي يمثلنا لا يعني السعي للحياة الجيدة (وهو السعي التقليدي للأخلاق)، بل يعني تعلم كيفية التعايش مع هذا الإحباط الأساسي فينا. إنه باختصار نوع من اللاهوت السلبي الذي نظل مؤمنين فيه برب قد فشل. وهذا أيضا فيه صدى للعقيدة المسيحية التقليدية التي ترى أن الرب الوحيد الجيد رب ميت، والانتصار الوحيد الذي نحققه هو ذلك الذي ينتزع من الفشل.
ويعني عدم التخلي عن رغبتنا أن نعيش في انتظار يملؤه السرور لقدوم مخلص لن يفعل أي شيء حاسم بخلاف قدومه، ومع ذلك يظل منتظرا بفارغ الصبر لهذا السبب بالتحديد. فنحن بوصفنا مخلصين مطيعين للنظام الواقعي نظل متمسكين بعدم الرضا، كما فتن القديس أوجستين بإله، عنده وحده، تحط الرغبة رحالها. فرغبة النظام الواقعي هي نسخة - على طريقتها الخاصة - من عبارة القديس أنسلم الغريبة: «إنني مؤمن لأن ذلك مستحيل.» فعلينا أن نجتهد لنصل إلى الكمال في نقصنا، فيترسخ مكاننا دائما في غياب الوجود المأساوي الذي يمثلنا. إن لزوم الرغبة للذات هي ما يجب علينا أن نرفض إفساده، فاستهداف خير أسمى - فلنقل خير عاما أو حب الجار - في إطار هذه النظرة هو اختصار سلسلة الدلالات التي قد تمتد لما لا نهاية التي هي الرغبة، والسعي لمواجهة الشيء الكبير المفقود والمطارد وجها لوجه؛ ومن ثم المخاطرة بالوقوع في الاضطراب النفسي بلغة لاكان، تلك المواجهة المباشرة الصادمة مع النظام الواقعي عند الذين تعطلت لديهم القدرة على الترميز.
ليس من الغريب إذن أن شخصيتي شكسبير، كلاوديو وإيزابيلا، أخوان؛ حيث إن إيزابيلا مستعدة مثله لتفضيل الحياة على الموت. ولما واجهت الاختيار بين الموت أو الشرف، اختارت الأول دون تردد:
وبذلك تعيش إيزابيلا عفيفة ويموت الأخ:
فأولى من أخينا عفافنا. (2، 4: 184-185)
ليست هذه عاطفة أخوية؛ إن كلاوديو ما لبث أن تعافى سريعا من تقبله اللحظي للإعدام حتى لامها على ذلك بشدة. فإيزابيلا مستعدة للموت في سبيل ذلك الشيء بداخلها - بلغة لاكان - الذي يتجاوزها، هذا «الشيء الذي بداخل الذات» المعروف بالعفة أو الشرف أو الاستقامة أو الصدق، أو ببساطة الفردية، الذي ما من اختيار حقيقي بشأنه في المقام الأول؛ إذ إن الإنسان من دونه ميت في الحقيقة؛ ومن ثم تنتفي مسألة الاختيار بالتبعية. فالشيء الوحيد الذي يجب منطقيا التضحية بالحياة من أجله هو عين الشيء الذي يجعل الحياة تستحق أن تعاش. فهو نفس حال الشهيد وقضيته. فمن ناحية، لا يسعه ألا يموت في سبيلها؛ إذ إنه يواجه نوعا من اختيار هوبسون: فإن لم يمت فسيصبح عدما عبثيا لا عدما له معنى. فالشهيد يختار الموت لأنه في ظروف معينة شديدة هو الوسيلة الوحيدة ليكون شاهدا على قضية تؤدي إلى استمرار حياة الآخرين. فهو يرفض العالم بدافع حب العالم، وهو ما يميزه عن المنتحر، فالمنتحر يهن في قبضة دافع الموت، فيحوله ضد جسده في نوبة من المتعة المفرطة؛ بينما يجد الشهيد وسيلة لاستغلال هذا الدافع من أجل الآخرين، ضاغطا على ثاناتوس لخدمة إيروس أو المحبة.
تكون الحياة عند المنتحر عديمة القيمة ولا تحتمل، ويمكن أن نفرق بين هذه الحالة وبين حالة شخصية سوفوكليس أنتيجون التي رغم إعلانها منذ البداية «أنا ميتة وأرغب الموت»، يتاح لها في اللحظة الأخيرة أن تندم على حياة الزواج والأطفال الكاملة التي تتخلى عنها، وذلك إشارة لاختلافها عن المنتحر. فلا يمكن لموت يرى الحياة بلا قيمة أن يكون ذا قيمة، فالشهيد يتطلع إلى المعنى على حساب الوجود، فيتيح للدال أن يلمع أمام الخلفية السوداء لفنائه هو. فالإقبال على الموت ليس رفضا للحياة بل هو أسلوب حياة قائم بذاته، أسلوب حياة يثريه ويغير شكله أنه منتزع من الموت. أما الذين يتصرفون كما لو كانوا سيعيشون إلى الأبد فهم خطر على المجتمع المتحضر. فبارناردين البليد لا يأبه بالموت، وهو ما لا يجعله يأبه بالحياة كذلك. فعدم اعتبار الموت حدثا فارقا يعني التقليل من أهمية الحياة، فالكائن الأخلاقي وحده - وهذا آخر ما يكون بارناردين - يمكنه استدعاء شيء ذي معنى من فنائه، فالانعدام القاتل للقدرة على الاختيار عنده الذي يمنعه من انتزاع موته يمنعه كذلك من أن يعيش حياة أقل وضاعة من حياة الخنزير.
إن «شجاعة النقص» هذه - كما يسميها سلافوي جيجك
3 - هي باختصار نظام أخلاقي واقعي، وأحد أكبر روادها - للغرابة - في نظر لاكان هو كانط. ففي مقال مهم بعنوان «كانط مع ساد»،
4
يزعم لاكان أن الفيلسوف الألماني هو أول من غرس بذرة التحليل النفسي بتصوره للقانون الأخلاقي، الذي يصور في نظر لاكان الرغبة في أنقى حالاتها، فهو نوع من الرغبة يتجاوز تماما مبدأ المتعة؛ مثل سعي ساد إلى صورة خالدة مستحيلة من المتعة تتجاوز كل المتع المادية، فهذا النوع من الرغبة كما يقول لاكان في موضع آخر «يبلغ أقصاه في التضحية - على وجه الدقة - بكل شيء يتعلق به الحب في ظل ضعف الإنسان، ولا أقول في رفض الشيء المرضي فحسب بل في التضحية به وقتله.»
5
وهذا يختلف تماما عن عالم التعاطف عند هتشسون أو عالم الود عند ديفيد هيوم، فالرغبة باختصار هي آخر أشكال السمو؛ سمو يتسم بالحذر الزاهد لراهب كرملي، يجب أن يحفظ نفسه من كل الأشياء «المرضية» (وهو ما يعني كل الأشياء التي يتعلق بها الحب والشهوة والعاطفة)، ولا يستند إلا إلى ذاته وافتقاره لغاية نهائية. وهذا أيضا هو السبيل الذي يمكن لفاوست أن يأمل من خلاله الوصول إلى الخلاص. وحيث إن قانون كانط الأخلاقي يتجنب بصورة مشابهة كل الغايات وأشكال الخير الخاصة في شكليته الصارمة؛ إذ يضحي بالنفس وملذاتها في سبيل سيادته ولا يؤسس لنفسه إلا في أمره الفارغ البراق، فإن التشابه بين المفهومين واضح، فكلاهما فارغ من المضمون، وكلاهما يتفادى الدال، وهما من ثم ساميان.
كما أن القانون والرغبة كليهما يتضمنان إلزاما شديدا، فأكثر أفعالنا حرية هي تلك الأفعال التي لا يسعنا سوى أدائها لكي نكون على حقيقتنا، فهي ليست نتيجة «أفعال الإرادة» بل نتيجة للخضوع لقانون وجودنا الذي لا يقبل المساومة، وهو خضوع لذلك الذي بداخلنا الذي يمثل حقيقتنا أكثر من مجرد أي انعكاس. ومع وجود الرغبة - كما هو الحال مع القانون - تصير الذات مجرد حامل لقوة لن تسمح بأي إنكار، فالرغبة سيادتها مستبدة. ومن الواضح أيضا، مثلما أن أمر كانط المطلق مستحيل من جهة - حيث إنه لا يمكن لأي فرد التأكد من أن فعله «غير مرضي» - فإن المطلق الأخلاقي عند لاكان كذلك؛ الأمر بعدم تخلي المرء عن رغبته. والقديس أو الشهيد وحده من يمكنه العيش بتلك الطريقة، فهي ليست أخلاقا للناس العاديين. إن ما فشل كانط في إدراكه في رأي لاكان هو أن الرغبة بتجاهلها للدوافع والأشياء والآثار المادية هي في ذاتها قانون مطلق، صارم ونهائي، مثل شخصية أنجيلو. وعليه ينتفي الاختلاف بين القانون والرغبة؛ فالالتزام بقانون الرغبة الذي هو جوهر فردية الإنسان يعد واجب الإنسان الملزم.
كما أن التصرف تبعا لهذه الرغبة يعني أيضا الجمع بين الحرية والاعتماد على الغير، فإن كانت الذات في النظام الخيالي مفرطة في الاعتماد على غيرها؛ إذ تأسرها صورة خارج نفسها، فإن الذات في النظام الرمزي شديدة الاستقلال. وإن كانت الذات الخيالية تفتقر لحس الفاعلية، فإن نظيرتها الرمزية تحلم بالتحرر التام من الجبر. لكن الذات في النظام الواقعي تظهر بصورتها الحقيقية بوصفها فاعلا من خلال الإنصات إلى ذلك الشيء الذي بداخلها ويتجاوز حدودها، فالتخلي عن تلك القوة الحاسمة يعني التخلي عن نفسها. ومن هذا الجانب، كما من الكثير غيره، فإن التحليل النفسي في حقيقته علم لاهوت خارج عن نطاق الدين، فالذات في النظام الواقعي تسترشد بالذات في المسيحية اليهودية، التي تكمن حريتها في الإقرار باعتمادها على أساس الوجود الذي هو الرب، ويعرف هذا الإقرار أيضا بالإيمان. ففي كلا العقيدتين، يتم رفض الاعتمادية الشديدة والاستقلال الزائف في سبيل صورة أعمق من الجبرية، صورة تمثل مصدر الحرية الشخصية عينه.
ربما يتخذ القانون الأخلاقي موقفا متعجرفا تجاه اللذة؛ إلا أنه ملوث هو ذاته بتلك اللذة الصارخة التي «لا طائل منها» التي تقف وراء كل أشكال اللذة التقليدية في نطاق دافع الموت، والتي يصفها لاكان بالمتعة. فهذا الجانب السفلي الغائم من القانون هو اللذة السادية للأنا العليا، التي لا تبالي بشدة - شأنها شأن القانون الأخلاقي - برفاهية الذات، والتي لا تكتفي بأن تأمرها بالخضوع لأحكام يستحيل الالتزام بها، بل تحمل بداخلها ثقافة ندم قاتلة على العجز عن فعل هذا المستحيل. وكما لو أن هذا لا يكفي، فإن الأنا العليا تفرض أيضا أن تحصل الذات المتعة من الدراما الكئيبة التي تسمح فيها لهذا الندم بأن يسوقها إلى موتها. إلا أنه في إطار أخلاق النظام الواقعي، ليس عدم التخلي عن الرغبة أمرا يفرضه الأنا العليا؛ حيث إن الذات التي تحمل الرغبة النقية - الذات التي صورتها عند لاكان تصويرا بليغا أنتيجون شخصية سوفوكليس - لا تشعر بأي ندم في القيام بواجب الحفاظ على رغبتها؛ فالأخلاق الحقيقية تأخذنا إلى ما وراء الأنا العليا؛ إذ تثبت الذوات المخلصة للنظام الواقعي أنها مستعدة للمخاطرة بالموت في سبيل إعادة ميلاد رمزية. إنه الفارق في مسرحية «الصاع بالصاع» بين أنجيلو وإيزابيلا؛ إلا أن ما يلهم إيزابيلا التطلع للموت هو نفسه - كما سنرى لاحقا - ما يحرك واحدا من أكثر شخصيات شكسبير الغامضة: شايلوك في مسرحية «تاجر البندقية». •••
يبدو الإخلاص لرغبة الإنسان كافيا في الغالب ليشمل نوعا من العناد الخارق للطبيعة أو الهوس الأحادي، كما قد يوحي مثال لاكان على ذلك: شخصية أنتيجون؛ رغم أن لاكان نفسه - إذ يعارض سماع أي كلمة قاسية عن شخصيته المحبوبة - يرفض تماما وجهة النظر المشهورة بمنطقيتها أنها عنيدة بالفعل، وهو بذلك يبالغ في تبسيط التقلبات المعقدة في تدفق العواطف الدرامية. وهو متحيز بنفس الشكل مع أوديب الذي يرى أنه يسير إلى موته بطريقة أخلاقية واقعية، فهو «عنيد حتى النهاية، يرغب في كل شيء، ولا يتخلى عن أي شيء، وغير راض مطلقا.»
6
يبدو هذا أشبه بمغنية أوبرالية أولى باريسية رابطة الجأش، تفصلها ربما مئات السنين عن لاكان نفسه، أكثر من فارماكوس أو كبش الفداء الذي يصير في «أوديب في كولونوس» أساس النظام السياسي الجديد. إن جسد أوديب النجس يمثل من بين أشياء أخرى وحشا مرعبا يدق الأبواب، يجب على المدينة - إن أرادت أن يتاح لها فرصة ميلاد جديد - أن ترى فيه تشوهها الخبيث. إن هذا البعد السياسي العميق لهذه المسرحية التراجيدية لا يحظى سوى بتناول قصير في تأملات لاكان.
لكن ما من شك في أن النظام الواقعي والعناد متلازمان. فلتنظر مثلا إلى رواية هاينريش فون كلايست القصيرة الغريبة عن الإرهاب السياسي «ميكائيل كولهاس». نشر هذا العمل لأول مرة عام 1810، قبل عام من إتمامه اتفاقا بالانتحار مع شابة تعاني من سرطان لا شفاء منه؛ حيث أطلق الرصاص عليها فأرداها قتيلة ثم أطلق النار على رأسه ومات. لقد كان موته دراميا ومبالغا فيه مثل فنه؛ إذ استعد الاثنان للموت بميعاد في حانة وبشرب بعض زجاجات النبيذ والروم وحوالي ستة عشر كوبا من القهوة، بينما كانا يغنيان ويصليان معا. وكما ذكرت إحدى الصحف في صرامة - وإن كان بلا داع: «إن الناس أبعد ما يكون عن الإعجاب أو حتى الموافقة على هذا العمل الجنوني.»
7
كان كلايست قد انضم لجيش نابليون أملا في أن يقتل، لكنه نجح لغمه الشديد في البقاء حيا. وهو أيضا ربما الشخص الوحيد المعروف الذي قادته دراسته لإيمانويل كانط للموت؛ إذ فسر كلايست نظرية كانط المعرفية بأن الحقيقة على الدوام مراوغة، وأن العقل معيب ولا أساس لأفكاره، وأنه لا يمكن التمييز بين المظاهر والواقع، وأن مجمل الواقع ملتبس وغامض على نحو محير. وحيث إن الوجود يفتقر لغاية معروفة فقد بدا الانتحار فعلا مقبولا كغيره وأكثر تحقيقا للرضا من معظم الأفعال.
ميكائيل كولهاس تاجر خيول محترم ذو عقلية متمدنة من براندنبرج في القرن السادس عشر والذي يتعرض حصاناه الأسودان لمعاملة سيئة على يد أحد النبلاء. ويلجأ كولهاس صابرا إلى القضاء ليحصل على عدالة القانون على هذه المعاملة السيئة، ويتحمل ترهة وتسويفا تلو الآخر؛ لكن زوجته ليزبيث تقتل على يد أحد حراس الحاكم وهي تدافع عن قضية زوجها. ويصبح من الواضح أن المحكمة متواطئة مع النبيل، وأنها رفضت التماس كولهاس لسماع دفاعه. عندها يجمع كولهاس فرقة مسلحة ويحرق قلعة النبيل ومعها عدة أجزاء من مدينة فيتنبرج. تقتل الفرقة المسلحة التي كونها النساء والأطفال بلا رحمة. ويتحول كولهاس إلى نموذج من شخصية روبن هود، فنشر الفوضى العسكرية وشن حربا شاملة على الدولة، حربا لاقت دعما شديدا من العوام. وفي نوبة عابرة من جنون العظمة، يعلن أنه أسس حكومة جديدة للعالم، ويطالب بأن يسلم النبيل إليه ليلقى عقابه. ويضرم النيران في فيتنبرج ثلاث مرات، ويغير على لايبتسيج، ويهزم بعض الحملات العسكرية القوية التي أرسلت إليه.
ويتصاعد طلب كولهاس التعويض عن حصانيه اللذين تعرضا للتجويع بصورة غريبة إلى مرحلة يستنجد فيها بمارتن لوثر وحاكم ساكسونيا وحاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ويرى الأول أن التاجر قد تعرض لمظلمة فعلا. وبناء على نصيحة لوثر، يصدر حاكم براندنبرج عفوا عن كولهاس وفرقته المسلحة، الذي يسرح رجاله بدوره ويواصل بحثه عن العدالة بالوسائل القانونية. لكن الأفعال الوحشية التي ارتكبتها فرقة مغيرة منشقة عن رجال كولهاس تعطي ذريعة للمحكمة أن تنقض العفو بهذه الحجة، وتقدم تاجر الخيول إلى المحاكمة. لا يقدم كولهاس أي دفاع عن أفعاله، ويصدر الحكم بحرقه وتقطيع جسده إلى أربعة أجزاء. وبعد التدخل السياسي لحاكم براندنبرج تبدل العقوبة إلى قطع الرأس، وهو حكم يتلقاه كولهاس في سكينة، وهو يعلم أن مطالبه ضد النبيل الذي ظلمه ستتحقق بالكامل. وفي مكان الإعدام، يقدم إليه حصاناه - وقد صارا لامعين ولعوبين - بعد أن استعادا عافيتهما بالكامل، وخبر يفيد بأن السيد النبيل قد حكم عليه بالسجن لعامين. ويرسل إليه حاكم براندنبرج رابطة الرقبة والنقود وحزمة من الملابس وغيرها من الأشياء الصغيرة التي أجبر كبير سائسيه على تركها في قلعة النبيل. ويعلن كولهاس رضاه التام عن هذا الحكم، واستعداده بدوره لأن يموت تعويضا عن خرقه للقانون. وتنتهي الرواية القصيرة بقطع رأسه.
هذه ليست أحداثا تنتمي للواقعية الاجتماعية، فبينما تزداد أفعال كولهاس شذوذا وغرابة وتتعمق الدسائس السياسية المسعورة للسلطة حول زوج من الخيول المنهكة مع كل صفحة من الرواية، فإن المفارقة الغريبة بين إصرار تاجر الخيول العنيد على العدالة وقضيته التافهة تكشف بوضوح عن أن السرد لا ينتمي لمدرسة الواقعية بل للنظام الواقعي. ومع تراكم جرائم تاجر الخيول ومكائده على الدولة بمعدل رهيب وبإيقاع سريع مدهش، يتضح أننا أمام مزيج جامد من المأساة والهزل والتجسيد المنفر. إن حصاني كولهاس البائسين عندما يراهما لأول مرة على الملأ جمهور يعرف كم قدر اللغط الذي سبباه تسري بين أفراده نوبة ضحك عارمة لرؤية «الحصانين اللذين اهتزت بسببهما أركان الدولة نفسها، زوج الخيول الذي كان بالفعل مملوكا لتاجر الخيول!» تتسم الرغبة بشيء من التفاهة، تسبب عند اجتماعها مع ما يسميه الراوي «العناد الجنوني» ضجيجا غير عادي حول لا شيء تقريبا. لكن هذا كما سنرى؛ لأن هذا «اللاشيء تقريبا» هو فرصتها وليس هدفها.
ورغم أن كولهاس قاتل جماعي متوحش يتسبب في إفقار أهله ليوفر المال من أجل قضيته فهو في واقع الأمر شخصية عقلانية جدا؛ إذ يعتبر على نطاق واسع «نموذجا مثاليا للفضائل المدنية» إلى أن يسيء النبيل معاملة حصانيه، ويظل على هذا الوضع من ناحية ما طوال الرواية. فهو على كل حال في خضم سعي راسخ مثير للإعجاب نحو تلك الفضيلة المدنية المثالية المهمة المعروفة بالعدالة، حتى وإن كانت الوسيلة التي يسعى بها للوصول إليها غير تقليدية بعض الشيء، فهو مستعد باسم العدالة العامة أن يتحول إلى تجسيد حي لنقيضها تماما؛ إذ ينجح بذبح وتدمير عدد لا يحصى من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء في إثبات كيف أن العدالة فضيلة مطلقة، وهي الظاهرة الوحيدة - كما يزعم جاك دريدا - التي لا يمكن تفكيكها.
لقد كان حس العدالة عند كولهاس كما يخبرنا الراوي «نقيا كنقاء الذهب الخالص.» فرد فعله على غضب النبيل عقلاني تماما، بل يكاد يكون متسامحا؛ وهو يسعى وراء قضيته متبعا القنوات القضائية المشروعة، وبتدقيق نموذجي. وهو لا يفعل ذلك بدافع شخصي بالأساس، بل باسم مواطنيه الذين تعرضوا لقهر هذا النبيل صاحب النفوذ، فتاجر الخيول ليس مجرد مواطن خاص بل مصلح سياسي يعمل لحساب نفسه يسعى إلى «معاقبة ... الخداع الذي أصبح يحيط بالعالم كله» ويطالب الناس بالانضمام إليه في تأسيس «نظام أفضل للأشياء.» وقد نجح باختصار في تعميم مظلمته الشخصية في صورة رؤية للعالم من منظور طبقي. ولم يلجأ إلى السلاح إلا عندما اصطدمت تطلعاته نحو تحقيق العدالة من خلال النظام القضائي بالفساد والمحسوبية في الدولة.
مع ذلك، وبرغم الإفراط المحموم في عملياته العسكرية يظل دقيقا في حصر مطلبه بالتعويض على ما أخذ منه بالضبط، وهذا مزيج من الإفراط والدقة سنلاحظه كذلك في شخصية شايلوك التي رسمها شكسبير. فمن الواضح تماما رغم غمغمة الراوي الموجهة حول «عذاب الجحيم بسبب القصاص غير المتحقق» أن سعي كولهاس ليس للانتقام بل للعدالة. ولقد تعلمنا تماما من الإرهاب في عصرنا الحالي أن عرقلة السعي للعدالة لديها القدرة على خلق وحوش. إن هذا «الرجل المجنون وغير المفهوم والمريع» كما يصفه لوثر، يعد بهدوء قائمة بالأشياء التي تركها كبير سائسيه مع الحصانين ومعها قيمتها؛ لكنه يرفض أن يطلب تعويضا عن خسارة كل ثروته وأملاكه ولا حتى عن تكلفة جنازة زوجته. فرغبته الوحيدة هي أن يسمن النبيل الحصانين اللذين أمر بتجويعهما ثم يعيدهما إليه. وعندما يرفض النبيل بتعجرف الاستجابة لهذا الطلب، يضرم كولهاس النيران في قلعته ويتحول لإرهابي أو قائد فرقة مسلحة. إنها حملة ضد السيد الممقوت يدعمها العامة بكل ما أوتوا من قوة. إن النبيل وليس كولهاس، في نظرهم، هو من تسبب في قتلهم وإحراق منازلهم. وحتى سكان فيتنبرج عاثري الحظ - إذ تحرق منازلهم علي يد جنود كولهاس ثلاث مرات على الأقل - لا ينفكون يؤيدونه بأقصى حماس.
وكما سنرى في حالة هيثكليف الشخصية التي أبدعتها إميلي برونتي، فإن إخراج كولهاس من حدود المجتمع الإنساني باعتباره منبوذا هو السبب الوحيد في إيمانه بأن من حقه شن الحرب على هذا المجتمع. في واقع الأمر، فإن الدولة ذاتها، رغم أنها في أمس الحاجة لاحتواء عنفه، تعتبره «غازيا أجنبيا» بدلا من متمرد محلي. أما كولهاس، قائد المتمردين، فيعامل لوثر بأشد احترام، رغم الإهانات الشنيعة التي يمطره بها ورفضه الاستماع لاعترافه. وكان كولهاس هو من اقترح على لوثر فكرة العفو واعدا إياه بإلقاء السلاح مقابل جلسة استماع منصفة في المحكمة. ربما يكون كولهاس خارجا على القانون، ورمزا تجاوز حدود النظام الرمزي؛ لكن ثمة عنف بالغ يكمن في قلب هذا النظام؛ سلسلة من أعمال الانتقام وفيض من الشر في القانون نفسه؛ ودور تاجر الخيول السياسي هو أن يكشف ذلك على حقيقته. إن مسئولي الدولة هم المخادعون والخونة وليس البطل. ولا يكتفي الراوي بالتأكيد على معرفتهم بأن الاتهام الذي وجهه كولهاس إلى النبيل صحيح تماما، بل على شعورهم بالحرج من أنهم هم أنفسهم - بتواطؤهم مع الظلم - الذين وضعوا في يده السيف الذي يستخدمه ضدهم. ولا يوجد الكثير من بين القوى الحاكمة المعاصرة التي تتمتع بنفس الإحساس.
وتنتهي قصة «ميكائيل كولهاس» بإعلان البطل السعيد تحقق كبرى أمنياته على الأرض؛ إذ تنبش خيوله الأرض بقوة أمامه وقد عادت لعافيتها السابقة. لكن لا شك أن استعادة الحصانين لعافيتهما بهذا الشكل ليست الشيء الذي تتعلق به رغبته. فما من شخص قد يحرق فيتنبرج لمجرد أن شخصا تسبب في إعياء حصانيه. فربما يمكن اعتبار الحصانين مثالا لمفهوم لاكان عن «موضوع الرغبة المستحيل». هذه القطعة العادية العشوائية من المادة التي تصير مكمنا لكل قوى النظام الواقعي العارمة، فإن كان كولهاس يهلك في سعادة مأساوية، فذلك ليس لأنه نجح في الحفاظ على ما يمتلكه من خيول؛ بل لأنه نجح في ألا يفرط في رغبته. (في مسرحية كلايست «أمير هومبرج» يقبل البطل بإصرار على الموت بصورة مشابهة، مثل النبي إبراهيم فيما يتعلق بالتضحية بابنه إسحاق، وقد أتاح له هذا الإصرار عينه ميزة الإعفاء من العقاب في اللحظة الأخيرة.) صحيح أن مطلب كولهاس المباشر - المتمثل في تعويض خسارته - يتحقق؛ لكنه كان على استعداد للعيش دون إشباع هذا المطلب ومواجهة الموت بنفس الروح ما دام منع عنه. فأصبح الحصانان عند مالكهما الشيء الذي يتجاوز حدود نفسه؛ حيث يرمز لطلب العدالة والتقدير، وهو المطلب الذي في نفس الوقت عقلاني بشدة ومفرط في جنونه، وهو بارع على نحو كاف لأن يطوع دافع الموت المريع في خدمته. إن شغف كولهاس لا يقبل المساومة لأنه - كما الدافع عند فرويد - لا يعرف بالشيء الذي يتعلق به. فالعدالة مطلقة، وإنكارها يدفع الرجال والنساء إلى غضب من الصعب جدا السيطرة عليه؛ لكن ورغم أن إنكار العدالة في حالة فردية يقوض فعلا مطالب العدالة عند الجميع، فكيف يمكن التضحية بحقوق هؤلاء الآخرين - كما في حالة كولهاس - في سبيل حق الفرد في الإنصاف الذي (كما يعرف كولهاس نفسه) لا يمكن أن يخصه هو وحده؟ فإن كانت الرحمة والتسامح صورا إبداعية من الإفراط، فإن التعطش الذي لا يتزعزع للعدالة قد ينقلب لضده، فمن الممكن أن تسرف في طلب الدقة. إلا أن التسامح قد يزيد عن الحد هو الآخر: فكما رأينا في مسرحية «الصاع بالصاع» لا يمكن السماح بتجاوز مطالب العدالة تماما، فالأشرار يجب أن يحاسبوا، وهو ما لا يعني أنه يجب عدم مسامحتهم. ويبدو أن كولهاس لا يفهم هذه النقطة؛ إذ يتوسل للوثر من أجل أن يسمح له بالعفو عن كل المسئولين الفاسدين المتورطين في قضيته لكنه مع ذلك ما زال يرغب في إجبار النبيل الذي ظلمه على تسمين حصانيه من أجله. إلا أن إجبار خصمه على فعل ذلك ليس أكثر من العدل، وليس بالضرورة رفضا للعفو (كما يرى هو نفسه على ما يبدو).
عندما نصادف في الأعمال الأدبية رغبة تعزل البطل بنحو صارخ وتجعله غريبا عن نفسه، وتعبر عن احتياج داخلي حتمي، وتجسد رفضا قاطعا للتنازل، وتكرس نفسها لهدف أثمن من الحياة نفسها، وتوقع الشخصية فيما بين الحياة والموت، وتأخذ به لا محالة إلى موته، يمكننا أن نتأكد بقدر كبير أننا في حضرة النظام الواقعي. وتعد شخصية لورد جيم التي أبدعها جوزيف كونراد مثالا على هذا أكثر من كونها شخصية تتمثل فيها مواصفات البطل عند إبسن. وتمثل مسرحية كلايست التراجيدية البديعة «بنثسيليا» - وهي مسرحية مطعمة بالنشوة أو المتعة الديونيسيوسية، يبين أحد التعليقات عليها أنه يحركها «دافع أولي لا يتوانى تمتزج فيها تماما الرقة وشهوة التدمير والافتراس امتزاجا عميقا»
8 - عملا دراميا عن نموذج ثاناتوس؛ حيث تتحدث ملكة الأمازون التي تحمل المسرحية اسمها عن تمزيق أحبائها بأسنانها. ويستحوذ على كولهاس هو الآخر نفس هذا النوع من الشغف الحانق؛ إذ يمكنه أن يذبح أي أحد بلا أي وازع من الضمير؛ حيث إن كل شيء دنيوي تماما يفقد قيمته تماما في إطار النظام الواقعي الصارم.
ثمة حبكة ثانوية في أسطورة كلايست تتعامل مع الواقعية الأدبية بازدراء أكبر من الحبكة الرئيسية. وقد تجاهلها بعض الباحثين على هذا الأساس، لكن هذا التجاهل ينم عن قصر نظر بالغ؛ فهذه الحبكة الثانوية الرائعة - التي تأبى أن تكون مقبولة واقعيا - تدور حول قطعة من الورق جاءت في حوزة كولهاس مكتوب عليها نبوءة بخصوص المصير المستقبلي لحاكم ساكسونيا، الرجل الذي خدع تاجر الخيل بعرض العفو عنه ونكث وعده. يعلم الحاكم بوجود قطعة الورق، وإن لم يعلم ما كتب عليها، ويحاول جاهدا الحصول عليها؛ فهي كما يشير أهم عنده من حياته. وتعذبه فكرة أن كل هذه المعلومات ستختفي باختفاء مالك الورقة الذي يوشك أن يرسل إلى العالم الآخر، ويحضر إعدام كولهاس ليستعيد الورقة من جثته. أما كولهاس فبعد أن نبه إلى هذا المخطط مسبقا فيسير إلى الحاكم المتطلع في فضول في لحظة موته ذاتها، وينظر في عينيه بثبات، ويخرج الورقة من قلادة مدلاة في رقبته ويقرؤها ويبتلعها.
ليس من الصعب أن نرى النبوءة المكتوبة نموذجا للأمر الذي يحكم على العبد بالموت؛ لكنه إذ كتب على رأسه وهو نائم يظل وصوله إليه مستحيلا. يستخدم لاكان كما رأينا تلك الصورة اللافتة ليبين الطريقة التي نعتمد بها في معرفة هويتنا على شيء ذي دلالة (الآخر الكبير) الذي هو مستعص علينا. ومن هذا المنطلق فإن كولهاس نفسه - وهو شخصية خاضت بحور الدم في طلبه التقدير من الآخر الكبير - قد أصبح يجسد الآن الآخر الكبير المستغلق الغامض بالنسبة للحاكم؛ إذ يحمل معه دالا يمثل سر مصير الحاكم لكنه يبقى مستعصيا عليه إلى الأبد. فكأنما يستغل هذا المدان موته ليجرد الحاكم من قدر من السيادة على موته هو. وفي انعكاس فريد للقوة ينزل المظلوم انتقامه بالظالم باطلاعه على معرفة تنبؤية، معرفة يموت من أجلها الحاكم طواعية. إنها معرفة مستحيلة لا يمكن نيلها عن نظرة الآخر الكبير إليه؛ سر ماهيته الحقيقية الذي لا يمكنه أبدا الوصول إليه. إلا أن كولهاس يمنع هذا الكشف؛ إذ يدمر الدال ويمنع معرفته إلى الأبد. إن هذا - وليس استعادة حصانيه - هو ما يمثل انتصاره الحقيقي. فالفراغ الناتج عن موت تاجر الخيول يتحول لغياب عدوه عن نفسه، مغلقا منفذه للوصول إلى البعد الواقعي من رغبته. إن كولهاس يسير - كما ينبغي لبطل تراجيدي ألماني - منتصرا إلى موته؛ لكن بعد صدمة فعله الأخير يعيش الحاكم في انكسار. فكلتا الشخصيتين، بطرق مختلفة، مثال على الميت الحي. وفي التلميح الساخر للتغذي الذاتي لرجل ميت، يبلع كولهاس في جسده الذي في طريقه للموت الدال الرهيب الذي يمثل مفتاح هوية الآخر؛ ومن ثم يقتل الحاكم لبقية عمره. فكأنما يتحول تاجر الخيول حرفيا إلى تجسيد للبعد الواقعي عند خصمه؛ إذ يبتلع موضوع الرغبة المستحيل الذي هو النبوءة في جسده. فهو يبتلع هوية الحاكم كآكل لحوم البشر فلا يترك قطعة باقية منه؛ وبذلك ينال القوة العليا للعدم التام، وهو ما لا يستطيع حتى النبيل نفسه أن ينتزعها منه. ويذكرنا كلايست في سرده بملاحظة لاكان أن «الاستمرار في التحليل حتى نهايته ليس إلا الوصول إلى الحد الذي تظهر فيه إشكالية الرغبة بالكامل.»
9
إن كانت قطعة الورق تمثل موضوع الرغبة المستحيل الذي يقدره الحاكم أكثر من حياته فثمة وثيقة أخرى مكتوبة - عقد شايلوك القانوني - تؤدي دورا موازيا في مسرحية «تاجر البندقية». ففي تجسيد شهير لفكرة العين بالعين، يتم شايلوك صفقة تجارية مع أنطونيو يقتطع بموجبها الأخير قطعة من لحمه لصالح الأول إن لم يرد المال الذي اقترضه منه. وعندما تغرق سفن أنطونيو، يرفع شايلوك قضية ضده بإصرار لا يرحم:
ليحذر الإخلال بالعقد ... اعتاد في الماضي أن يدعوني المرابي. فليحذر الإخلال بالعقد ... واعتاد أن يقرض المال كمسيحي دون فوائد. فليحذر الإخلال بالعقد! (3، 1: 50-54)
ولاحقا يصبح تكرار كلمة «عقد» أكثر إلحاحا، قارعا جرس الإنذار المشئوم لأنطونيو المهدد:
ستنفذ شروط العقد، فلا أسمعك تسفه عقدي:
وقد أقسمت على إتمام عقدي.
كنت تدعوني كلبا قبل أن يكون لديك سبب يدفعك إلى هذا،
وحيث إنني كلب فاحذر من أنيابي:
سيلتزم الدوق بمقتضيات العدالة ...
سأنال حقي، ولن أسمعك:
ستنفذ شروط العقد، فلا معنى لمزيد من الكلام.
ولن أسمح لنفسي بأن ألين أو أن أخدع،
فأهز رأسي وأتراجع وأتنهد وأستجيب
لشفاعة مسيحيين. لا تتبعني؛
فلن أقبل حديثا منك، وسأنال حقي. (3، 3: 4-8، 12-18)
إن عقد شايلوك - شأنه شأن أي مستند قانوني - يتجسد في شكل لغوي؛ إلا أن دلالته يبدو أنها تكمن فيما وراء الكلمات وتخرس اللسان («لن أقبل حديثا منك»). ففي إطار السياق الدرامي، تعني العبارة السابقة من بين أشياء أخرى أن الدائن لن يقبل أيا من الخطاب المداهن ولا التملق الأيديولوجي اللذين سيتوسل بهما إليه الآن المسيحيون الذين كانوا يبصقون على وجهه في الماضي لكي يبدي رحمة ثبت أنهم مفتقرون إليها. إنه دال على الرغبة التي تقود شايلوك، الرغبة في العدالة كما حال ميكائيل كولهاس (يصرخ شايلوك مناوئا لمحكمة مليئة بمتعصبين أعداء للسامية: «إنني أطالب بالعدالة؛ أجيبوني: أأنالها؟») لكنها كذلك طلب من منبوذ للتقدير من مجموعة من أولياء الأمر عديمي الضمير؛ إذ يريد شايلوك - مثل كولهاس - حقه دون زيادة؛ إلا أن هذه المبادلة المحسوبة بدقة غير متناسبة كذلك على نحو مخيف:
لو أن كل دوقية من هذه الآلاف الستة
تحولت لستة أجزاء، كل جزء منها دوقية،
لما أخذتها ولظللت أطالب بتنفيذ شروط العقد. (4، 1: 89-91)
إن قطعة اللحم البشري التي يريدها شايلوك قطعة من اللحم عديمة القيمة والفائدة، لكنها في نفس الوقت شيء لا يقدر بثمن، ولا يمكن أن يباع ويشترى، ويسمو فوق مستوى السلع العادية المتداولة. فهي بالنسبة لشايلوك تعمل في إطار النظام الرمزي عمل صك الاتفاق القانوني أو بديل الثروة المادية؛ إلا أن هذه القطعة التافهة العزيزة تدل أيضا على صورة من السلبية في قلب هذا النظام ، وكسر لمداولاته المضبوطة بدقة لا يمكن تمثيله. إن الحدة التي يطلب بها هذا اليهودي دون رحمة قطعة اللحم تماثل الدقة الصارمة التي تأمره بها المحكمة المسيحية بألا يزيد أو ينقص شعرة في حقه؛ لكن الطلبين ينتميان لنظامين مختلفين تماما، الأول للنظام الواقعي والأخير للنظام الرمزي. ويمكن توضيح سلوك شايلوك بتعليق من لاكان على ممارسة التحليل النفسي: «إن كان للتحليل معنى، فهو أن الرغبة ليست سوى ما يدعم فكرة لا واعية، يربطنا التعبير عنها بمصير محدد، ويتطلب هذا المصير بأن يرد الدين، وتظل الرغبة تعود وتعود، وتضعنا مرة أخرى في مسار محدد، مسار يؤدي إلى شيء يخصنا بالتحديد.»
10
يرفض شايلوك الذهب من أجل قطعة اللحم البشرية؛ حيث إنه يدرك على نحو محق أنه لا يمكن قياس الأخيرة كميا. وبرغم إشارة جراشيانو الحمقاء إلى «امرأة لا تباع ولا تشترى» فإن الأجساد وأكياس النقود لا يمكن المقارنة بينهما. لكن جزءا من عظم صدر بشرية ليس ثمة ما هو أسوأ منه، كما يقول باسانيو عن حالته التي أثقلها الدين عندما غرقت سفينة أنطونيو؛ حيث إن الأنواع الأخرى من لحم الحيوان يمكن بيعها كما يقول شايلوك. إن ما يرغبه شايلوك هو العالم الواقعي لجسم الإنسان، وهو ما ترمز إليه قطعة اللحم البشرية التي يريدها من أنطونيو أو موضوع الرغبة المستحيل. وبصورة أدق فهو يطلب اعترافا بأنه يتكون هو الآخر من لحم ودم شأنه شأن هؤلاء المسيحيين، وبأنه حتى اليهودي الملعون يضحك عند دغدغته وينزف عندما يجرح. إن المكونات المشتركة للجسم المادي وليس الانتماءات الثقافية هي ما يضعها شايلوك نصب عينيه في جدله المميز ضد معاداة السامية.
فرغبة شايلوك إذن هي رغبة في التبادلية الإنسانية التي يعد طلبه لقطعة من اللحم المسيحي سخرية مريعة منها. فهو كأنما يحاول تغيير النظام الرمزي على نحو مباشر إلى النظام الواقعي؛ إذ يستبدل بتشابه الأجسام التبادل المادي. فاتفاقه مع أنطونيو نوع من المحاكاة المبالغ فيها للرفقة الأفخارستية، التي لا يمكن فيها لشايلوك أن يمتلك جسد أنطونيو إلا من خلال علامة عليه أو بقايا رمزية منه. فالصراع القاتل بين اليهودي والمسيحي هو قلب ساخر للرفقة الحقيقية التي جزء من شايلوك يرغبه. وبهذه الصورة السلبية وحدها - وبدافع اعتداء وحشي أو دافع موت يستهدف أنطونيو لسوء حظه - يتاح لشايلوك فرصة تبادلية حقيقية. وفي ظل هذه الظروف لا يمكن للحب أن يعبر عن نفسه إلا في صورة كراهية تلازمه بصورة مرعبة. وكما هو حال كولهاس وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فإن شايلوك آكل لحوم بشر رمزي، وكذلك الذين يشاركون في وليمة المحبة الأفخارستية. لكن إن كانت أفعاله تنتمي من هذا المنطلق للنظام الرمزي، فهي كذلك تستهدف المواجهة المباشرة مع البعد الواقعي للجسد والموت؛ وحيث إن ما يرغبه شايلوك ليس أقل من امتزاج الأجساد فهو ذو بعد خيالي أيضا. فخصومته الضارية مع أنطونيو تعود لهذه العلاقة الخيالية بقدر رؤيته له باعتباره تاجرا زميلا وأنا بديله.
إذا فهي قضية جسدية بين رجلين بكل المعاني، فحتى كراهية شايلوك للتاجر تتجسد في صورة تبن واستيعاب له: «فلو أني تمكنت منه، لأطعمت وحش حقدي القديم من لحمه» (1، 3: 47-48). ويتحدث لاحقا عن «الأكل من مائدة المسيحي المبذر» (2، 5: 14-15). فإنكار قطعة اللحم على شايلوك يعني إنكاره، وإنكار جسده، وإنكار طلبه المتعطش للتقدير. فالعالم الواقعي الذي يرفض شايلوك التخلي عنه هو جسد رجل آخر؛ وهو ما يعني الإنسانية المشتركة التي يدين بها أنطونيو ومقربوه من الطبقة الحاكمة لليهودي النجس لكن يرفضون منحه إياها. يزعم شايلوك أنه يريد أن يكون صديق أنطونيو ويفوز بحبه؛ ورغم أن هذا الزعم قد يكون كاذبا جزئيا، وليس سوى طعم مراوغ لإيقاع أنطونيو في الشرك، فلا ينبغي التغاضي عنه كليا.
يزعم شايلوك أن لحم أنطونيو ملكه، وهو كذلك على أية حال من وجه ما؛ وتبرز أهمية عقده في المسرحية لأنه دال على هذه الملكية الجوهرية، فكلمة «العقد» بمعنى الاتفاق القانوني الملزم هي كلمة «العقد» بمعنى الرابطة الإنسانية؛ وهذا هو السبب في أن شايلوك يستثمر قدرا مريعا من الطاقة العاطفية في قضيته المنحوسة. وتعكس حيادية اللغة القانونية حيادية روابط إنسانيتنا المشتركة التي لا يمكن لأي تحيز ثقافي أو نزوة ذاتية أن تنحيها جانبا؛ فالجسد البشري في النصوص اليهودية المقدسة التي يثق بها شايلوك ليس شيئا ماديا في المقام الأول بل مبدأ للاتحاد مع الآخرين. إن التواصل الأصيل مع أنطونيو وأمثاله هو ما يسعى إليه شايلوك، بعكس الاتفاقات النفعية والإهانات العنصرية والإقناع الخادع والدوال المبتذلة. يغرق شايلوك في صراع حياة وموت هيجلي من أجل تقدير النخبة الحاكمة في البندقية. فهو يرغب في أنطونيو رغبة شديدة لدرجة أنه مستعد لأن يلتهمه، وينفث عنفه المميت في وجهه وهو يمتزج بجسده. فإن كانت تلك هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنه بها انتزاع لمحة تقدير من ظالميه المسيحيين فهذا أسوأ. فربما لا يمكن لأنطونيو إلا كعدو - بوصفه رجلا تحت التهديد - أن يكون صديق شايلوك؛ بمعنى أن مصير أنطونيو مقترن حتما بشايلوك.
إن مما يميز أخلاق النظام الواقعي أنه مهما كانت المواجهة مع الحقيقة صادمة، فهي تطلق قوة غريبة تدشن بها نظاما إنسانيا جديدا، فمن خلال التضحية أو الموت الرمزي فقط - من خلال تجريد النفس من الهويتين الخيالية والرمزية - يمكن للإنسان أن يخوض مثل هذا التغيير الذي يسميه العهد الجديد بالميتانويا أو التحول الروحي. إن الأفخارستيا المسيحية احتفال بالرفقة، فهي طريقة جديدة لانتماء كل منا للآخر، تمثل صورة مسبقة للمجتمع العادل أو مملكة الرب المستقبلية؛ لكن هذا النموذج الثوري من الحياة ليس ممكنا إلا من خلال المشاركة الرمزية في عبور المسيح الدامي من الموت إلى البعث. وعلى هذا المحمل يمتزج النظامان الرمزي والواقعي في فعل واحد، فالخبز والنبيذ اللذان يمثلان لغة تضامن في الأفخارستيا دالان أيضا على جسد مشوه، يكمن فيهما كما يكمن المعنى في الكلمة. وهذا هو السبب في أن سر التناول (وهي المكافئ اللاهوتي لكلمة «العلامة») يتضمن الأكل والشرب؛ ليس فقط لأن هذه الأشياء تعبير تقليدي عن الصداقة؛ بل لأن التغذية التي تقدمها لا تنفك عن الهلاك. ولو أن أنطونيو وباسانيو وزملاءهما المعادين للسامية كانوا قادرين على استيعاب المعنى الحقيقي لمطالبة شايلوك بالحصول على رطل من لحم أنطونيو (وهو ما لا يفترض أن شايلوك نفسه يعرف دلالتها الحقيقية، فضلا عن أنه يريد بفكره الواعي أن يقضم قطعة من أنطونيو)، فلربما أدى هذا الإدراك إلى تأسيس نظام أخلاقي وسياسي من نوع جديد؛ نظام مبني على الصداقة السلمية بدلا من الخصومة والانقسام.
بالطبع ربما يكون رطل اللحم ذاك مرتبطا بالإخصاء بقدر ما يرتبط بأكل لحوم البشر؛ إذ إن شايلوك في نهاية الأمر مسموح له بأن يقتطعه من أي جزء من جسد أنطونيو يختاره، ويمكنه أن يختار مازحا أربية التاجر. إن كان هذا هو الحال فإن شايلوك يظهر بمظهر القانون الأبوي التأديبي أو «اسم الأب» المهدد بالإخصاء؛ لكن قد لا يقتصر الأمر على هذا؛ إذ يعتبر جاك لاكان وهو يكتب عن مسرحية «هاملت» أن الشيء القادح للرغبة هو أي شيء يملأ فراغ الخسارة الأولى، شيء يصفه بأنه «هو تلك التضحية الذاتية، رطل اللحم هذا الذي يرهن في العلاقة مع الدال.»
11
فالدخول إلى النظام الرمزي أو تأسيس علاقة مع الآخر الكبير يعني استبدال العلامة بالجسد؛ أي التخلي عن الحق في جسد الأم باعتباره ثمنا للحصول على اللغة والممارسة الجنسية والوجود الاجتماعي. أما الوعد المثالي للأفخارستيا في المقابل فيكمن في اتحاد الجسد والعلامة في شيء واحد. فوحده من يتخلى عن تصور زنا المحارم - كما يرى لاكان - هو من يستطيع الكلام. وبفضل هذا العبور وحده من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي يمكن للفرد أن يكون ذاتا ومن ثم تكون لديه رغبة. إذا فشايلوك قد يكون داعيا أنطونيو لأن يخضع لمثل هذا التحول؛ للتضحية بجزء من هويته والامتناع عن جزء من متعته الجسدية من أجل تكوين علاقة مع الآخر الكبير الذي يمثله شايلوك بالنسبة له من أكثر من جانب. إن رطل اللحم هو «الشيء الجيد» بتعبير لاكان الذي يجب على الفرد التخلي عنه من أجل تحقيق رغبته. إنه الدال - في صورة عقد شايلوك - الذي يعتمد أنطونيو تماما عليه؛ لكن مثلما تقتل الكلمة فهي قد تهب الحياة أيضا. وصار هذان الرجلان مرتبطين ببعضهما بقطعة من الورق المكتوب عليها التي قد تكون قاتلة و(بتعبير شايلوك) «تسلية بهيجة» معا، دعابة لا تضر، وسخرية مسلية من عقد تجاري مباح في اليهودية. إن الاعتباطية الحمقاء لطلب شايلوك تتعارض مع قوالب النظام الرمزي بقدر ما تتعارض مع النظام الواقعي الذي تستدعيه.
يبين لاكان في تأملاته لمفهوم فرويد عن التسامي هذا التحويل لرغبة أولية إلى شيء أعلى في إشارة إلى سفر الرؤيا (10: 9) الذي يأمر فيه ملك الراوي بأكل لفافة من الورق. إن عبارة «خذه وكله!» ملخص تهذيبي كاف للعملية التي يصفها فرويد. فكأنما شايلوك يرغب في أكل أنطونيو على المستوى الرمزي، على مستوى الدال في عقده. فعلامات العقد - بطريقة أفخارستية - تمثل جسدا مقطع الأوصال، فنصه تسام سيميائي لتعطش شايلوك للحم أنطونيو؛ حيث يستوعب جسده في خطوة تذكر بالألفة والعدوان في النظام الخيالي. إذا فجميع نظم لاكان الثلاثة للوجود حاضرة في هذه الصفقة المركبة. بل إن لاكان نفسه يزعم أن الكلمة التي استخدمها سوفوكليس لوصف عناد أنتيجون الشديد قد تشير أيضا إلى آكل اللحوم النيئة.
يرى شايلوك أن اتفاقه مع أنطونيو اتفاق ودي («إنه إكرام مني لك»)، وهو تقييم ليس ساخرا تماما؛ فكلمة إكرام هنا تعني القرابة والإنسانية المشتركة كما تعني العطاء. من المدهش أن المرابي اليهودي سيئ السمعة يعطل حساباته الربوية المعتادة من أجل فعل مجاني أو مشهد كوميديا سوداء غريب، فيطلب أكثر وأقل مما يطلب عادة في مثل هذه الأحوال. صحيح أن أنطونيو يطلب منه مغازلة الموت كما هو الحال عامة عندما يواجه المرء النظام الواقعي؛ إلا أن احتمالات عجزه عن سداد دينه ضعيفة بدرجة تجعل العرض سخيا على نحو غير عادي. إن أنطونيو نفسه يرى ذلك، وإن كان بأسلوبه المتعالي يوافق على الصفقة متخذا صورة عدو لا صديق. إن المعاملة التي تحوي بعضا من النظام الواقعي عند شايلوك نفسه يعتبرها أنطونيو معاملة رمزية أو عملية بحتة، ويرفض في تعال روح الاتفاق، كما يرفض الدفاع المراوغ لبورشيا لاحقا روح اتفاق شايلوك أو معناه البديهي.
إن فكرة بورشيا عن أن العقد لا يشير إلى الحديث عن الدم هي مراوغة انتهازية مستفزة، فهي خلط قانوني يحرر به المسيحيون واحدا منهم من المساءلة بينما يسلبون شايلوك بضائعه تحت غطاء من الحديث عن الرحمة. إن العقد بالتأكيد لا ينص على أن الدائن له أن يريق دم أنطونيو وهو يقتطع جزءا من لحمه، لكن هذا استنتاج منطقي من النص، كما قد تقر أي محكمة في الواقع؛ فمن غير المعقول القول إن الوثيقة لكي تكون سليمة قانونا يجب أن تذكر كل ظرف ممكن للموقف الذي تشير إليه. وكما تقر بورشيا نفسها، فإن العقد لا ينص على حضور جراح، وإن كان هذا - كما تقول هي نفسها - بندا جيدا. فهي بالمبالغة في التفسير الحرفي لعقد شايلوك يخونها معناه على نحو واضح. من الممكن أن يوجد إفراط في التدقيق (الذي يمثل تشدد شايلوك نفسه مثالا آخر عليه) مثلما يوجد تفريط (مثل تبذير تيمون الأثيني العصابي) يبطل الإجراء بصورة مدمرة. إن تدقيق شايلوك في تحديده لما لا يزيد عن الرطل من لحم خصمه مفرط في دقته؛ حيث إنه شبه مؤكد أنه بأخذه الرطل سيأخذ في الغالب قطعة أكبر منه.
لا يسع شايلوك أن يفوز؛ لأن مطلبه الحقيقي هو التقدير لا الانتقام. لكنه لا يمكنه أن يخسر كل شيء أيضا؛ حيث إن قضيته تخاطر بإجبار السلطة في البندقية على تشويه صورتها؛ إذ بمعاقبتها إياه على إلحاحه اليهودي ينكشف عنادها هي الأخرى، وتتفوق على تقيده «اللاإنساني» بالقانون. وفي النهاية وبسبب تجرؤ شايلوك على السعي لاسترداد دين ملزم قانونا، تصادر بضائعه على يد السلطات، ويجبر على التحول للمسيحية. ويأتي رده اليائس بأن يطلب من المحكمة أن تنهي حياته بدلا من ذلك. إلا أن اليهودي في تلك اللحظة قد كشف زيف عدالة المسيحيين، فضبطه لهم متلبسين في احتيال قانوني محدد يعني وصم قانونهم عامة بالعار، مثلما يؤثر إقراض المال دون فوائد كما يفعل أنطونيو على سعر الفائدة العام في المدينة. ولا يكاد يستغرق شايلوك أي وقت ليدرك هذه الحقيقة:
رطل اللحم الذي أطالبكم به قد بذلت فيه ثمنا غاليا،
فهو لي إذن وسآخذه.
فإن أبيتم، فاللعنة على قوانينكم!
قوانين البندقية التي لا تطبق. (4، 1: 99-102)
إنها نقطة قوية، ومفحمة على نحو كاف لتقنع أنطونيو نفسه، فيرى أنطونيو أن الموقف سيبدو في صورة سيئة في أعين شركاء البندقية التجاريين؛ وقد يؤدي من ثم إلى كارثة اقتصادية. فهل ستظل السلطة إذن غير مبالية بالأفراد، فتعاقب واحدا من المنتمين المحترمين إليها من أجل شخص غريب مكروه؟ إن لم تفعل فهي تخاطر بتفكيك نظامها ذاته، وتسمح لبورشيا باستخدام عين المراوغة اللاموضوعية التي من المفترض أن يمنعها القانون. وقد تكون النتيجة النهائية لهذا العبث في التأويل هي الفوضى السياسية، وهما نوعان من عدم الالتزام يتلازمان بشدة في ذهن شكسبير.
أما فعل شايلوك في المقابل فهو ليس فوضويا بل هداما، فهو باعتباره مواطنا منبوذا - شخصية مهمة في اقتصاد المدينة لكن لا يمكنه الاندماج اجتماعيا - يدخل في منظومة رد العين بالعين في النظام الرمزي ليشجع انهياره من الداخل بسبب شيء تافه، فكما يقول لأحد أصدقاء أنطونيو، «الغلظة التي علمتموني إياها ستشهدونها؛ بل وأشد منها.» فالمحاكاة هي أكثر أشكال العدوان صدقا. فالمسيحيون - كما يوضح - يشترون الأجساد (العبيد) الذين يمانعون تركها؛ فلم عليه إذن أن يتخلى عن تلك القطعة من أنطونيو التي أصبحت ملكه قانونا؟ فهو بتطرفه في منطق التبادل إلى حد ساخر من الذات يكشف خواء النظام الواقعي في جوهره.
هذا لا يعني الزعم أن شايلوك يرفض نظام أخلاق رمزي، وإن كان يزلزل دعائمها. على العكس، فإن إخلاصه المحموم للنظام الرمزي هو ما يكشفه على حقيقته، فالعقد الذي يمثل مشاركته في هذا النظام لا داعي لوجوده في هذا الاقتصاد الرمزي، ويرمز من بين عدة أشياء إلى «النظام الواقعي» للجسد. إذ يكشف شايلوك أن هذا النظام الرمزي الخصوصي - الموجود كأي نظام من هذا النوع تحت مسمى حماية الجسد - يخفي ظلمه الفعلي للجسد؛ لكنه لا يستنتج من ذلك أن القانون والواجب والشرف والعدالة والالتزام والاستحقاق والتعويض الدقيق وغيرها هي قضايا جانبية أو حلية أيديولوجية. فهو ليس من «غير المخدوعين» عند لاكان الذين يتصورون أنهم لم يروا في النظام الرمزي أكثر من مجرد خداع صريح، ولهذا السبب يقعون في فخ الوهم الشديد. على العكس فإنه يرسخ لدقة لا تبدو بأي نحو متفقة مع ذوق الأنصار المبالغين في دعمهم للأخلاق الواقعية في الوقت الحاضر. فهو لا يؤمن مثل إيمانويل ليفيناس وجاك دريدا بأن الالتزام لا محدود، فهو لا يطلب سوى حقه مثل كولهاس. إن العدالة التي تسعى تلك الشخصيتان إلى تحقيقها ليست إفراطا في الحساب الدقيق بل إن الإفراط هو التعنت الذي يتمسكون فيه بهذه الدقة. فشايلوك وكولهاس أبعد ما يكونان عن التحرريين السذج: فكلاهما يحترم قواعد النظام الرمزي ويقدر هدف القانون والسلطة. فيصرخ شايلوك في احترام وتمرد معا قائلا: «أريد تطبيق القانون.» لكن لما يتعارض القانون مع العدالة التي يفترض أن يصونها، عندها فقط يكشف هذان الرجلان عيوبه. وعند هذه النقطة، يصبح طلب العدالة في ذاته شكلا من أشكال التخريب، وفضيحة وحجر عثرة في طريق المجتمع المتحضر. فمن خلال أخذ خطاب المجتمع الأيديولوجي هذا على محمل الجد، ينجح هذا المطلب في كشف وحشيته الكامنة، فشايلوك وكولهاس ينجرفان فيما وراء حدود الأخلاق باسم ما هو أخلاقي.
يتبنى دريدا وزملاؤه - كما سنرى بعد قليل - نظرة أكثر استعلاء نحو الأخلاق الرمزية أو أخلاق التكافؤ. فإمكانية المحاسبة، التي يرى دريدا أنها قد تعتبر في الغالب نفعية فظة، تدخل ضمن سلسلة من المفاهيم المشيطنة ضمنيا في معجمه: القانون والتسوية والهوية والإنصاف والاقتصاد والمنطق والاستقرار والمعيارية والإجماع والنظرية والمعرفة والتقليد وقابلية البت والقياس والكلية والعمومية والصياغة المفاهيمية وما شابهها. إذا فوضع هذه المصطلحات أمام مقابلاتها (اللاهوية واستحالة البت، إلى آخره) يعني الانغماس في نوع من التقابل الثنائي الذي من المفترض على ممارسي التفكيك بوجه عام أن يبطلوه. يفضح فكر دريدا تجنبا يكاد يكون مرضيا لما هو محدد، مثلما تنطوي أعمال ميشيل فوكو على احتقار يكاد يكون مرضيا للذاتية. فالهوية والقابلية للتحديد وما شابه - كما يعترف الفكر التفكيكي في حذر - هي مفاهيم لا مفر منها أبدا. وهو اعتراف يسعى من بين عدة أشياء إلى وقاية الفكر التفكيكي من اتهامه بأنه ليس إلا صورة حديثة من التحررية الرومانسية. لكن برغم كل تلك التنازلات الحذرة، يكمن لب الفكر التفكيكي بلا شك في مفاهيم الانحراف والزيادة واللانهاية واللاتحديد والاستحالة. إذا هو فكر تحرري يملؤه الخزي لا الفخر بذاته.
لكن شايلوك بصفته عضوا في جماعة منبوذة لا يسعه أن يمنح نفسه هذه الرفاهية، فالليبراليون من الطبقة العليا في البندقية هم من يعتبرون المطالب المحددة - كتلك الواردة في عقد شايلوك - بلا قلب ولا إنسانية. فهم يرون أن مثل هذه الصرامة ما هي إلا مثال آخر على التقيد اليهودي الصارم بالقانون، وهي العقلية التي لم يتأمل صاحبها بالقدر الكافي كتابه المقدس بحيث يتوصل إلى أنه يحث على فضيلة التسامح. فحتى صخب أهل البندقية المطالب بالرحمة معاد للسامية. أما شايلوك فعلى العكس من ذلك، يفهم أن حقوق الضعيف تحتاج إلى الحماية من خلال التدوين، فما هو إنساني عند بورشيا وأمثالها هو من يراوغ حرفية النص المريعة. ويتضح هذا في البلاغة المتقدة لخطابها في المحكمة وليس في حرفية نص العقد المستبدة. فهي تطرح سعة الرحمة مقابل دقة العدالة. وفي إطار تلك النظرة، فإن رجلا كشايلوك يقضي حياته في اتفاقات دنيئة لا يمكن أن يمتلك بكل تأكيد مفهوما للفضل؛ وهو افتراض فيه مفارقة قطعا بالنظر إلى اعتباطية صفقته وعناده الغريب الذي لا مبرر له، والذي يكاد يصل به في سعيه وراءها إلى الموت.
لكن شايلوك في حاجة لهذه الورقة لأنه سيكون غبيا إن اعتمد على طيبة قلب من يفوقونه اجتماعيا. فالنظام الرمزي يمكن أن يعمل على حماية الضعفاء كما يستغلهم؛ لذا لا ينتقده على حاله هذا إلا مذهب يساري عقلاني، فأعضاء اتحادات العمال مثلا من غير الحكمة أن يركنوا إلى الطيبة العابرة لصاحب العمل من أجل زيادة أجورهم. فالمظلومون بحاجة لعقد لا لبس فيه، وإن بدا ذلك شديد التحديد للنخبة المثقفة المتفتحة؛ حيث إنه لا يمكنهم أن يعرفوا متى تنتاب أسيادهم نوبة كرم أو بخل. فتسجيل الحقوق ليس أمرا «غير إنساني» بل هو قضية متعلقة بالجسد. إن باسانيو يتحدث عن الرسالة التي تحمل خبر خسارة بضائع أنطونيو مشبها إياها ب «جسد صديقي؛ كل كلمة فيها كالجرح الغائر، يقطر دما» (3، 2: 267-269). الكلمات بالقطع لا ينبغي أن تختلط بالأجساد، رغم أن شكسبير لا ينفك يبدلهما بعضهما في كتابته؛ لكن الدلالة الصادقة - وخاصة القانونية - هي دلالة تتسق مع الجسد وتتشكل من خلال احتياجاته المادية. فإن كان النص غير شخصي فذلك فقط في إطار القانون المحايد فعلا، فالعقود المكتوبة تحميك من تقلب الآخرين وشرهم. فالقانون لا يتعارض في الأساس مع الحب والرحمة، فالنظام الرمزي الذي يعتمد على الأوراق والنصوص لا يمكن التخلي عنه ببساطة باسم المواجهة المباشرة مع النظام الواقعي. فمن ناحية التحليل النفسي، فإن النتيجة المحتملة لهذا الطريق المختصر هي الاضطراب النفسي؛ أما سياسيا فالنتيجة هي الاضطراب الصبياني لليسار المتشدد، وهو نوع من التحررية البريئة.
لذا فإن التماس بورشيا الشهير للرحمة يزداد إثارة للريبة، فضلا عن أنه من الناحية السياسية أكثر أنانية مما يفترض النقاد:
لا دخل للإلزام في مشاعر الرحمة؛
فهي تهبط من السماء كالرذاذ
على ما تحتها ... (4، 1: 184-186)
تهدف بورشيا إلى التفريق بين الرحمة في جانبها المطلق والإلزام، وهي الكلمة التي خرجت لتوها من بين شفتي شايلوك. إلا أن الرحمة في الإنجيل ليست غير متوقعة مثل المطر. والإشارة إلى أن علم الأرصاد الجوية علم غير دقيق ليس هو الهدف من الكلام هنا. فيسعى تشبيه بورشيا الرائع إلى إقناعنا بأن التسامح متقطع وتلقائي، على عكس الرؤية المسيحية الشائعة بأنها التزام أكثر منها اختيار. فلو عاملنا كل امرئ بموجب استحقاقه، كما يقول هاملت، فمن ينجو من الجلد بالسياط؟ فالتراحم في العقيدة المسيحية اليهودية يعني عيش حياة الرب؛ لذا فهو ليس نزوة عنده، وإن كان كذلك عند بعض مخلوقاته. وعلى نحو مشابه، فإن اهتمام الفرد الشديد بمصلحته جزء إلزامي من أي اتفاق تجاري، وهذا سبب يقدمه شايلوك لمقت خصم يتحلل من هذه الأنانية.
إن ما لا مبرر له في المسرحية ليس الرحمة - التي يلزم المسيحيون ببذلها ولا يفعلون - بل عناد شايلوك المخيف؛ إذ يقدم مع سير الأحداث عددا كبيرا من الأسباب لرفضه التخلي عن رغبته: أن أنطونيو مسيحي بغيض؛ وأنه شخصيا مكروه؛ وأنه معاد للسامية؛ وأنه يخفض سعر الفائدة في البندقية بتقديم قروض دون فوائد؛ وأن المسيحيين عادتهم الانتقام الصارم، فلماذا لا يفعل هو الآخر نفس الشيء؟ وأن أنطونيو منافس تجاري خطير ينبغي التخلص منه؛ وأنه لن ينخدع، وهكذا. إلا أن شايلوك يفهم الطبيعة الحقيقية لهذا الشيء الذي بداخله ويتخطى حدوده أكثر ممن ظلموه. إنه، كما يقر مضطرا أمام المحكمة، عاطفة لا يمكن تفسيرها مثل الرغبة في الابتعاد عن الخنازير أو آلة مزمار القربة. أما أنطونيو فمن ناحيته يرى منذ البداية أن الشيء الغامض الذي تتعلق به رغبة خصمه لا يقبل التداول، شأنه شأن البحر والريح، ويتوسل إلى أصدقائه المسيحيين أن يتخلوا عن محاولتهم تليين قلبه «العنيد». فشايلوك، كما تقول إحدى الشخصيات، شخصية «عصية»؛ إذ يمثل لغزا غير مفهوم في قلب النص. إن المسألة التي تتناولها المسرحية هي التعطش للنظام الواقعي الذي لا يقبل أي تنازل، والذي يقترب بدرجة خطيرة من أن يدفع شايلوك إلى الهلاك؛ إذ يرفض شايلوك العفو عن أنطونيو؛ ليس لأنه واقع في قبضة الشعور بالنفور بقدر ما هو واقع تحت حكم الضرورة.
وفي الحبكة الثانوية للمسرحية، يهدف باسانيو تابع أنطونيو، بعد أن أسرف في تبديد ماله، إلى استمالة بورشيا الثرية. وكان يجب أن يتعرض حبه لها للاختبار في مشهد الصناديق الشهير؛ حيث يطلب من هذا العاشق الجشع أن يختار من بين ثلاثة صناديق من الذهب والفضة والرصاص. فالصندوق الذهبي الذي كتب عليه: «من اختارني نال ما يتمناه الكثيرون» (2، 7: 5) يدفع باسانيو لجعل رغبته موافقة لرغبة الآخر، وهو بذلك يرمز لعالم التنافس والمحاكاة الذي نسميها النظام الخيالي. أما الصندوق الفضي الذي كتب عليه «من اختارني نال بمقدار ما يستحق» (2، 7: 7) فيلمح إلى العالم الرمزي القائم على التكافؤ والتبادل؛ فالفضة كما يعلق باسانيو «شاحبة ومتداولة، فيما بين الناس » (3، 2: 103-104)، وهي السلعة العامة التي تربط بيننا بروابط مجهولة تبدو مناقضة تماما للحب. إنها بالتأكيد المادة التي تدور في فلكها مدينة البندقية التجارية، الساعية وراء الربح، المهووسة بالثروة في المسرحية. أما الصندوق الرصاصي فهو يتركب من المادة التي تبطن بها النعوش، وهو يحمل عبارة تناسب تلك المادة المذكرة بالموت: «من اختارني عليه أن يعطي ويخاطر بكل ما عنده» (2، 7: 9). إنه في نطاق النظام الواقعي الذي يجب فيه أن يخاطر المرء بحياته من أجل رغبته. إذا فباسانيو بتطلعه إلى الصندوق الرصاصي يتطلع إلى نوع من اللاشيء؛ أي مادة رديئة ورخيصة مثل رطل اللحم عند شايلوك. إلا أنه كما عند شايلوك ثمة معنى لا محدود يرتبط بهذه المادة الزهيدة؛ لذا يتمكن باسانيو أيضا من تحويل اللاشيء إلى كل شيء، فيحول الرصاص كما بالخيمياء إلى الثروة المذهلة لزوجته التي استطاع الفوز بها، فبعد أن وصف بورشيا في إشارته الأولى إليها بأنها «تركت غنية» (أي أنها وريثة ثرية) فإن هذا المغامر البائس حكيم بدرجة تكفي للفوز بقلبها بتخليه المتظاهر بالورع عن إغراء الذهب والفضة. فإن كان الرصاص لا يقدر بثمن بمعنى أنه بلا قيمة، فإن الحب عند الرومانسيين لا يقدر بثمن بمعنى أنه يتخطى كل المقاييس («ما أفقر الحب الذي يقاس ويحصى» كما يقول أنطونيو المتهور في مسرحية «أنطونيو وكليوباترا»). أما باسانيو فيرى أن الحب أسمى من العالم الأدنى للسلع في نفس اللحظة التي يتزوج فيها امرأة لمالها. إذا، حسب عبارة ماركس، فإن «النظرة الرومانسية ... ستلازم (النظرة النفعية) كنقيض لها حتى نهايتها السعيدة.»
12
فالرغبة التي من المفترض أنها فوق كل الحسابات والمنفعة تستغل في الحسابات الدقيقة لسوق الزواج، وهو المكان الذي يتجمع فيه الجسد والعلامة في شكل أجسام ونقود تشترى بها.
بتبادل الأجسام تنتهي مسرحية «تاجر البندقية» مثل معظم مسرحيات شكسبير الكوميدية، فاللحظة الأخيرة من هذه المسرحية الكوميدية هي توزيع الأجساد على أماكنها المناسبة من خلال الزواج. لكن إن كان الزواج مسألة قانون وعقد وتبادل رمزي، فهو كذلك مسألة رغبة، والرغبة تتسم بتقلب يهدد دوما بتدمير هذه المنظومات. إن الرغبة التي تنتج المجتمع الإنساني شأن يصعب تنظيمه. فما يقوم عليه النظام الرمزي هو عينه ما يهدد بتدميره، مثلما أن إصرار شايلوك العنيد على حقه يدق مسمارا في نعشه؛ ومن ثم فإن بشجار العاشقين تنتهي المسرحية، موحية بالخيانة الزوجية. إن الزواج من وجهة نظر النظام الرمزي مسألة متعلقة بما هو عادل وملائم؛ لكن نظرا لأن الحقيقة الهدامة هي أن أي شخص يمكن أن يرغب أي شخص آخر - كما توحي الوتيرة السريعة لمكائد الحب في مسرحية «حلم ليلة صيف» - فدائما ما توجد مسحة من الاحتمالية أو لمسة من النظام الواقعي في هذه الزيجات المفترض أنها متلائمة. فالنظام الواقعي هو المرحلة التي تفشل فيها أفضل الخطط الرمزية الموضوعة، فشايلوك نفسه - وهو أرمل خسر ابنته لصالح مسيحي وخسر بضائعه لصالح الدولة مع سير الأحداث - منبوذ جنسيا كما هو منبوذ اجتماعيا من قبل النظام الرمزي.
يعود شكسبير عبر هذه المسرحية مرة بعد مرة إلى قضية الفضل مقابل العدل، أو كما يمكننا أن نقول: قضية النظام الواقعي مقابل النظام الرمزي. لكن بعكس معظم المعتنقين المعاصرين لأخلاق النظام الواقعي، فهو لا يسمح لما هو زائد عن الحاجة ومبالغ فيه بأن يقلل من قيمة وظيفة النظام الرمزي الجوهرية. فهو يرى جيدا أن الرغبة في النظام الواقعي يمكن أن تكون علامة تميز المصاب بالهوس الأحادي كما تميز الشهيد، وأن الفرق بين الاثنين أحيانا ما لا يكون واضحا. فثمة فارق - غير مرئي أحيانا للعين المجردة - بين من يموتون في سبيل سعة الحياة، وهؤلاء الذين يهلكون لأنهم مغرمون على نحو مرضي بالموت. كما يوجد فرق بين الرغبة المطلقة نحو العدالة، والرغبة التي لها غاية مطلقة لا تتعدى ذاتها؛ إذ توجد أشكال غير إنسانية لائقة للتبادل الدقيق كما توجد أشكال لا إنسانية قاسية منه. وهناك أشكال من الطيش تمنح الحياة كالتسامح، كما توجد أشكال مؤذية لها كالانتقام. فالمطلب الشريف لما لا يزيد عن حق الفرد يمكن أن يثبت إفراطه القاتل، فالنظام الواقعي - شأنه شأن ما هو مقدس أو سام - عالم من الرعب كما هو عالم من الرفعة.
13
والأخلاق المبنية عليه لا ترى ضرورة للتحول الثوري إلا على حساب المخاطرة بمغازلة تطرف نخبوي وحشي، وسنلقي نظرة أقرب على هذه النخبوية فيما بعد.
يسخر باسانيو من أن صديقه جراشيانو «يحوي حديثه دائما قدرا لا نهاية له من الهراء» لكن كذلك يفعل صديقه أنطونيو بنحو ما مختلف. فمنذ كلماته الأولى («صدقاني حين أقول إنني لا أعلم ما سبب هذا الحزن الذي ألم بي») التي هي أيضا أولى كلمات المسرحية، يكشف تاجر البندقية عن أنه يرزح تحت نير الميلانخوليا أو السوداوية، وهي شعور يصفه فرويد بأنه «الحزن بلا سبب»؛ وهو من ثم يعد ضجة كبيرة على لا شيء. وعليه سارع النقاد بملء فراغ السبب المجهول لحالة أنطونيو العاطفية؛ حيث خمنوا أن سبب بؤسه يكمن في حبه المثلي لباسانيو المنغمس في حب الجنس الآخر. ربما يكون هذا صحيحا؛ لكن من المنطقي أن يكون أي تاجر سوداوي، أن يعوز رغبته شيء محدد؛ حيث إن هذه على كل حال هي الطريقة التي يكسب بها قوته. إن القيمة التبادلية للأشياء هي ما يهمه، وليس سماتها الخاصة أو غاية متصورة من كنزها، فالسوداوية تعتبر الأشياء وسيلة، فتستنزفها لتتغذى عليها. فجاك في مسرحية «كما تشاء» قادر على «امتصاص الكآبة التي تذخر بها أغنية ما، بطريقة تضاهي قدرة ابن عرس على امتصاص البيضة» (2، 5: 9-11). وتزداد تلك الحالة كلما بدت أشياؤها أكثر نفادا، وبهذا المعنى تمثل السوداوية صورة ملائمة من الرغبة نفسها.
إذا فشكسبير يعي التشابه بين التجارة والرغبة، فكلاهما يتعامل مع الأشياء على نحو مجرد باعتبارها مجرد فرص لزيادتهما. وينطبق نفس الكلام على السوداوية، فمثلما يكنز التجار البضائع من أجل المزيد من الكنز، يبدو أنطونيو مغموما للغم في ذاته، فليست المخاوف المالية هي السبب في انخفاض معنوياته كما يؤكد لأصدقائه. لذا تفتتح المسرحية أحداثها بقدر لا نهائي من اللاشيء، تفتتح بفراغ يبدو عاريا عن أي سبب أو شيء، لدرجة أن أنطونيو يبدو أحيانا مستمتعا بفكرة سكين شايلوك القاطع؛ لكنه بالتأكيد يتخذ عددا من الإجراءات ليتجنب موته.
إن أكثر شخصيات شكسبير اشتهارا بهذه السوداوية ليست أنطونيو بل هاملت. فإن كان بكلام جاراشيانو قدر لا ينتهي من اللاشيء فإن هاملت هو تجسيد للاشيء. فكما حال سوداوية أنطونيو، يقلل شعوره بالملل من قيمة العالم كله، فيختزله في ظل لتلك السلبية الفاترة التي تتمثل في الذات الإنسانية:
آه ليت هذا الجسد يذوب،
يموع وينحل قطرات من ندى!
أو يا ليت الأزلي لم يضع شريعته
ضد قتل الذات! رباه، رباه!
كم تبدو لي مضنية، عتيقة، واهية، عابثة،
عادات الدنيا هذه! (1، 2: 129-134)
يولي هاملت وجهه من البداية شطر الموت، الموت المتمثل مسبقا في الخواء الذي هو هاملت نفسه. فبمجرد تمزق الرابطة الخيالية بينه وبين أمه جرترود بدخول كلوديوس، فهو يهيم بلا هدف على حافة النظام الرمزي غير راغب في احتلال موقع محدد داخله. فهاملت - الذي هو لا شيء محض - يرفض التضحية بالبعد الواقعي لرغبته ببذلها تجاه أي شيء محدد تافه. فهو لن يتصرف بصفته وريث العرش ولا عاشقا فارسا ولا موقرا للكبير ولا تابعا مطيعا للملك، ولا ابنا عفوا ولا ابن زوجة متسامحا ولا طفلا منتقما. فانطوائه الذي يستميت عليه يمثل - فضلا عن كل هذه الأدوار - سلبية خالصة ترفض إشارة الدال. والنتيجة سقوطه في الفجوات التي بين الهويات العامة المختلفة المعروضة عليه، التي لا يمكن لأي منها - بعبارة تي إس إليوت - أن تقدم معادلا موضوعيا مناسبا لفرديته. وهو إذ «في نفسه ما يعجز عنه كل مظهر» يصد هؤلاء الساعين لانتزاع جوهر غموضه، فكما الممثل الذي لا يمكنه التماهي مع دوره ومطابقة الفعل بالقول والقول بالفعل، يظهر الأمير نتاجا لتدمير الهوية والتبادل الرمزيين؛ إذ ينكر عدالة الانتقام الزائفة، ويرفض في مقت التناسل ويأبى الانحناء لرغبة الآخر الكبير. فهو، إذ يتسم بميوعة شبح أبيه وسرعة حديث مهرج في أعمال شكسبير، يتحسس طريقه ويتهكم ويناور لئلا يشار إليه بدال محدد. وبذلك يظل مخلصا للشيء المحير المستحيل الذي تتعلق به رغبته، محققا انعداما للوجود يظل غير تام حتى في الموت. فهو كما يقول لاكان، «يرتب كل شيء بحيث يصبح الشيء الذي تتعلق به رغبته دالا على هذه الاستحالة.»
14 •••
إن شخصية أنتيجون التي أبدعها سوفوكليس هي في نظر لاكان التجسيد الأوضح لأخلاق النظام الواقعي؛ إلا أن لها نظيرا إنجليزيا في هذا الجانب. فكلاريسا هارلو - البطلة في رائعة صامويل ريتشاردسون التي ظهرت في القرن الثامن عشر «كلاريسا» - هي نموذج أنثوي آخر متميز في الأدب العالمي التي تموت لرفضها التخلي عن رغبتها.
15
فبعد حادثة اغتصابها الأليمة على يد لافليس، تتابع كلاريسا سبيلها بأسلوب شعائري دقيق لتسحب جسدها من النظام الرمزي؛ إذ تصف نفسها ب «العدم» وتعلن أنها «ليست ملكا لأحد.» وفي ظل تطلعها للموت ترفض أن تظهر باعتبارها غرضا قابلا للتبادل بالعملة الرمزية لثقافتها. بل إنها - في انسحاب سريالي من نظام القوة التي هي جزء منه - تصير عدما، شاردة، فصامية، لا مكان، لا شخص. فكلاريسا بتخطيطها وتنفيذها لموتها بهذه الدقة تجعل منه معنى حياتها. فموتها، بعكس بارناردين، حدث في حياتها - بل حدث حياتها - وليس مجرد نقطة نهايتها البيولوجية. وليس من الغريب أن يهاجم العديد من النقاد الرواية باعتبارها كئيبة بدرجة لا تطاق؛ إذ بتخلي بطلة ريتشاردسون عن جسدها من أجل المتع الصارخة لدافع الموت، تنقلب على لحمها ودمها في عدوان قاتل يوجهه المعتدون من أمثال لافليس في قسوة إلى الآخرين. وهي بذلك تمارس شعيرة تضحية تنفذ على الملأ، تكون هي فيها الكاهن والضحية المقطعة في آن واحد. وهي تعبر بذلك كما القربان في العصور القديمة، من الضعف إلى القوة، ومن الموت إلى المجد. وتدرك كلاريسا أن هذا البعث لا يمكن تحقيقه في مجتمعها - الموصوم بخطيئة أولى تتجسد في حالتها من خلال «البريء المذنب» - إلا بالعبور من بوابة الموت على هيئة قربان.
16
وكنموذج لفارماكوس، كبش الفداء الذي يحمل على كاهله خطايا المجتمع جميعها، يمثل جسدها المدنس الجرائم والتناقضات لنظام رمزي أكثر قربا من الحاضر؛ إذ يرمز جسدها المنتهك لوحش النظام الواقعي الذي تجب مواجهته إن كان لهذا المجتمع المهووس بالملكية أن يعيد تشكيل نفسه. إنه الميتانويا أو التحول الروحي الذي سيطلق عليه لاحقا اسم الثورة السياسية.
17
وإذ كلاريسا تدرك أن هذه ليست حضارة مناسبة لتعيش فيها امرأة، فإنها تنأى بجسدها المستنزف بعيدا عن الأذى، فتحول موتها إلى مشهد احتفالي عام رافضة بثبات كل نداءات أصدقائها وأهلها الذاهلين بالتراجع، فهي تصير - شأنها شأن معجبي النظام الواقعي - من الموتى الأحياء، فموتها الجسدي يتمم فقط موتها الروحي. وفي هذا الموقف العصيب فإن السبيل الوحيد لحماية النفس يكون بتسليمها، فبطلة ريتشاردسون تسلم نفسها طواعية لإغراء دافع الموت، فتحول جسدها إلى نفي صامت للنظام الذي جرها إلى الموت تاركة معذبيها المذلولين وأيديهم تخضبها الدماء. لم تثبت المازوخية فيما قبل أعمال هنري جيمس أنها سلاح سياسي شديد الفاعلية، حيث تنتزع كلاريسا على طريقة البطل التراجيدي الكلاسيكي قوة عارمة من ضعفها الشخصي. ويمكن لنظام اجتماعي عادل أن يقوم على هذا الإخلاص المنعزل اللااجتماعي للحقيقة. إن مازوخية كلاريسا متطرفة؛ لكن هذا التطرف مؤشر لما يتطلبه الأمر في تلك المواقف لكي تولد الحقيقة والعدالة.
يأخذ الشهيد بيد نفسه لمواجهة النظام الواقعي مباشرة، متجاوزا النظام الرمزي وشاهدا على حقيقة بديلة بإنكار قوانين العالم حتى في الموت. فالشهداء يؤدون ما يسميه فالتر بنجامين بقفزة نمر إلى المستقبل ناظرين إلى الحاضر كما لو كانوا موتى بالفعل، وكما لو كان الحاضر ماضيا. فالشهيد يستغل دافع الموت في سبيل قضية قد تعني حياة أكثر وفرة للآخرين؛ وفرة في الحياة مصدرها توقف حياته هو. تبدو تلك حتما كذبة يسارية متطرفة للذين يسعون عمليا في سبيل نظام اجتماعي أكثر إنصافا، والذين يجب من ثم أن يلتزموا بدرجة ما بقواعد لعبته. لكن ثمة فارقا بين السعي لتحقيق العدالة وتجسيدها، بغض النظر عن السلبية التي قد يفعل بها الأمر الأخير. وفي المجتمعات التي تستبعد فيها النساء من الحياة السياسية فإنهن - مثل كلاريسا هارلو - الأقرب إلى ضرب مثل لهذه الصورة الثانية من المعارضة السياسية. تشهد كلاريسا على الحياة الكريمة ليس من خلال التوق إليها ولا الوعظ باسمها، بل بتحويل جسدها إلى دال سياسي، فتكشف عن الغياب المؤسف للعدالة من حولها من خلال عرض جسدها المنتهك على الملأ. فكما يقول ديفيد وود: «إن تقديم النفس قربانا يعني تحويل حياة الفرد إلى شيء تتجاوز دلالته هذه الفردية.»
18
ثمة وجه معين نمر فيه جميعا بهذا التحول من الجسد إلى الرمز خلال عملية دخول النظام الرمزي؛ لكن الشهيد هو شخص يسلط الضوء بشدة على هذا التحول. فكما هو الحال بالنسبة لكبش الفداء، فإن كلاريسا «تصبح خطيئة» كما في وصف القديس بولس للمسيح. وكلما زادت في ذلك - أي كلما زاد تجسيدها للعنف الإجرامي للنظام الاجتماعي في جسدها ذاته - زادت مكانتها الروحية. فكلما زاد كبش الفداء تلطخا بالدم زاد طهارة. وفي هذه الحالة يصبح الداء هو الدواء، فمن خلال تنقية جوهر المجتمع الظالم، يشير كبش الفداء إلى ما وراءه. إن ما يكتبه لاكان عن أوديب ينطبق على بطلة ريتشاردسون أيضا: «ليس موته كموت أي شخص آخر؛ أي، ليس صدفة؛ فهو يموت ميتة حقيقية يمحو فيها وجوده، فاللعنة قبلت طواعية في سبيل الخلود الحقيقي لإنسان، الخلود القائم على إخراج النفس من نظام العالم. إنه عمل جميل ...»
19
يذكرنا هذا بتفريق ريلكه بين «الموتة الصغرى» بمعنى الموت بصفته حدثا بيولوجيا بحتا، و«الموتة الخاصة»؛ أي الموتة الإرادية المكتسبة صفة الشرعية التي تخرج الفرد من الحياة بمنطق أخلاقي معين. يكتب لاكان عن أنتيجون أنها تبلغ منتهى الرغبة الخالصة للموت، وهذا كذلك هو الحال مع كلاريسا الملعونة والطاهرة.
تموت كلاريسا لأن قيمة الوجود البيولوجي عندها أقل من قيمة ذلك الشيء في داخلها الذي يتعدى حدودها، والذي تطلق عليه الرواية اسم الشرف أو العفة، فالنظام الواقعي الذي ترفض التخلي عنه - جوهر وجودها الذي لا يمكن إنكاره - يسميه صانعها البروتستانتي المتدين باسم الرب. إن روحانية البطلة لا تنبع من رفض الرغبة بل من الإخلاص لها، فقد أدركت أنه لا شيء في ثقافة الاستغلال هذه يستحق أن تشتهيه، وهذا هو السبب في تخليها عن جميع الأشياء. إن هذا النموذج الورع بشدة، الثوري - الذي ينتصر كبطلة من أبطال ويليام جيمس من خلال الامتناع الواعي عن الفعل - هو ما يصفه النقاد بأنه بليد، مفرط الاحتشام، كئيب، عنيد، نرجسي، مازوخي، مدعي الورع، مفتقر للمرونة. إلا أن ما لا يلتفتون إليه هو أن بعضا من هذه الصفات محمودة عند امرأة ضعيفة في مجتمع إنجلترا الأبوي. •••
ما انفك نقد ويليام ووردزوورث خلال معظم القرنين الماضيين ينظر لعمله بعين خيالية. إن الاتحاد التعايشي المحكم بين الطبيعة الكريمة والإنسانية الخيرة هو ما لفت انتباه النقاد في عمله، وهو ما يمكن أن نعتبره قراءة ملائكية له. ولم تتراجع هذه النظرة المتفائلة للعالم مفسحة المجال لقراءة أكثر تشككا وشيطانية إلا مع ظهور كتاب جيفري هارتمان ذي العنوان المباشر «شعر ووردزوورث 1787-1814» عام 1964، والذي ربما يعد أفضل دراسة أحادية الموضوع عن هذا الشاعر. إن الخيال في أعمال ووردزوورث (وهو الملكة الإنسانية التي تحظي بالتبجيل الشديد للنقد الأدبي التقليدي) ينفضح في دراسة هارتمان في شكل قوة قاتلة هوسية مدمرة. إنه باختصار انبثاق للنظام الواقعي وليس مبدأ توحيديا للنظام الخيالي.
ثمة نمط متكرر في شعر ووردزوورث - يحدده هارتمان بوضوح رائع - يحمل كل علامات المواجهة الصادمة مع النظام الواقعي، ففي لحظة من التفكك المدمر، لحظة تذكرنا فورا بالموت والحساب، تشهد النفس لحظة تجمد أو ارتباك عجيبة، يتفتت فيها فضاء الوجود اليومي فجأة وتشوش فيها الحواس وتنفتح أبواب هوة الخيال من تحت قدمي الفرد. فالخيال قوة تولد نفسها «بلا أب»، تشبه في إفراطها (كما يعلق ووردزوورث) فيضان النيل، ونتيجتها تتمثل في انتزاع النفس في عنف من الطبيعة - موطنها المألوف والوجود المستقر - وغمسها في المقابل في إحساس حاد بالضياع والوحدة. وفي هذه «التجربة النهائية» كما يصفها هارتمان، تشعر الروح بأنها غريبة عن العالم، منفصلة عن الوجود اليومي الذي يبدو غير حقيقي وبالغ العبثية. لكن الوجه المقابل من هذا الإحساس بالتفكك الذاتي - كما عند اختبار ما هو سام - هو نجاح إثبات الذات؛ حيث إن الإنسان، إذ هو مغترب عن كل ما كان يعتمد عليه في السابق، يسعد بقوته الداخلية، ويشعر بوعيه وقد ارتفع إلى مستوى مرتبط بنهاية العالم، ويرى نفسه وقد انفصل إلى الأبد عن كل الظروف المجردة. بوجه خاص، هو يشهد نفسه وقد انفصل إلى الأبد عن الرفقة البشرية، فالخيال في شعر ووردزوورث ليس في جوهره قوة تواصلية بل قوة عازلة. فهو كما يرى هارتمان مرتبط بنهاية العالم بالأساس، وينتهك قطعا عالم الأشياء والعلاقات؛ إذ يقترن بالقتل والدمار والتضحية واللاإنسانية ونوع من «الجرح التدميري»، وليس (كما قد يفضل الشاعر نفسه أن يراه) بالربط السعيد للنفس بالآخرين وبالأشياء المحيطة، فشعر ووردزوورث يعج بالشخصيات الصارمة الجامدة المنعزلة، وكلها لديها قوة عجيبة على تمزيق الوعي اليومي وتحويله. فعندما يرى الشاعر متسولا أعمى في لندن في عمله «المقدمة»، فإنه «يستدير بعقله، كما لو بقوة المياه» لرؤية هذا الطلسم العجيب.
إن ما لمح في هذا الومضات الكشفية المخيفة والملهمة هو قوة خيال لا ترضى بأي شيء في الطبيعة حتى وإن كان ساميا، وهذا ربما هو نظير الرغبة في علم النفس التحليلي عند ووردزوورث. فكما يكتب الشاعر في الجزء السادس من عمله «المقدمة»:
مصيرنا، جوهر وجودنا وموطنه
في اللاتناهي، وهناك فقط؛
فمعه يوجد الأمل، الأمل الذي لا يمكن أن يموت أبدا،
والجهد، والتوقع، والرغبة،
وكل ما يمكن أن يوجد.
لا شك أن مثل هذه العواطف كان لها صدى إيماني كبير عند قراء ووردزوورث المسيحيين؛ لكن الإشارات الضمنية لهذه الفقرات هدامة أكثر مما يتصور هؤلاء الأشخاص المحترمين. فرسول الطبيعة القدير - برسالته الداعية للخير والسكينة - يحذرنا من أن الطبيعة مفعمة بالتناقض مع قوة ما غير معروفة، تؤدي إلى التشويش على رؤيتنا وقطع أوصال إشباعنا الذاتي وجعلنا في غير رضا أبدي. صحيح، كما يصر هارتمان، أن قدرا كبيرا من جهد ووردزوورث ينصب على مقاومة هذه الحقيقة الصادمة، وامتصاص هذا التشويش واستئناس مخاوف الخيال. وسيشك ووردزوورث في أن الثورة الفرنسية عمل من صنع الخيال التدميري، يصده فكر عضوي إنجليزي، فمهمة الطبيعة أن تغري الإنسان بنسيان لا محدوديتها الخفية، وأن تربطه بدلا من ذلك بالعالم الدنيوي. لكن هذا ليس هدفا سهلا، فملكة الخيال - كما يشير هارتمان - شديدة التحفظ؛ إذ تسعى لأن تغرس في الناس ذكريات وصورا لوجود أزلي سابق، كما في قصيدة «إرهاصات الخلود». وهي عند هذه النقطة ليست بعيدة تماما عن دافع الموت عند فرويد، وهو قوة أخرى حافظة تسعى لإعادتنا إلى أصولنا الأزلية. فالشاعر يريد أن يؤمن بأن الطبيعة والذاتية شريكان، وليسا عدوين أبديين. لكن إن كان ووردزوورث يسعى جاهدا في هذا الإطار لأن يكون شاعرا للنظام الخيالي أو النظام الرمزي، فهذا لأنه بالأساس رسول للنظام الواقعي.
إن لحظة الركود أو التجمد الكارثي هي أيضا لحظة تحول روحي، فالذات تزيل أي شيء قد يحول بينها وبين اللانهاية، أيا كانت المخاطرة. ففي إطار ما يعتبره هارتمان «التحول الكارثي إلى الجمال المريع» ينتهي عالم قديم ويولد شكل جديد من الوعي. وثمة انطلاق «يعمي البصر» يتخطى فيه الشاعر حدود مشهد مألوف إلى (بحسب كلمات هارتمان مرة أخرى) «مضيق بين صورتين من الوجود». فالنفس التي يستحوذ عليها الخيال تصير نفسا لأحد الموتى الأحياء، وتهيم في مطهر أو منطقة حدودية بين المحدودية واللانهائية. وكما يقول أوزوالد - الشخصية الشريرة التي رسمها ووردزوورث في مسرحية «الحدود» - عن نفسه: «بدوت كائنا عبر وحيدا، إلى فضاء مستقبلي.» يرتكب أوزوالد واحدا من أفعال الخيانة الكثيرة الموجودة في أدب ووردزوورث، وهو مصطلح يستخدمه لاكان مع النظام الواقعي. فقد خلع عباءة العادات والتقاليد والقانون الطبيعي، وهو عصيان يذمه ووردزوورث ظاهريا لكن داخليا يكن له كل تعاطف، بل إن ووردزوورث في وقت كتابة هذه المسرحية، ظن أن الحياة والوعي والحضارة جميعها كانت قائمة على جريمة أو حالة قتل أولى في حق الطبيعة.
تسعى الذات، إذ يفصلها عن الطبيعة والحياة اليومية حاجز لا يمكن عبوره، إلى قهر إحساسها بالاغتراب بالتعلق الشديد بشيء أو فكرة ما، في عناد يعتبره هارتمان مثيرا للشفقة ومخيفا في آن واحد. ويعج عمل ووردزوورث «أناشيد غنائية» بمثل هذه النماذج التي ليس من الصعب أن نرى من بينها شبحا لموضوع الرغبة المستحيل عند لاكان، فحتى عندما تعاني شخصيات ووردزوورث من خسارة عادية جدا، فإن العاطفة التي يشعرون به تجاهها تكون غير عادية؛ حيث يربطون مثل هذه الأشياء العادية برغبتهم. ويشير هارتمان إلى أن العناد والإصرار سمتان أساسيتان في شعر ووردزوورث؛ حيث إنهما يرمزان لرغبة النظام الواقعي، فثمة إصرار هوسي عنيد لا إنساني يتسم به العديد من شخصيات ووردزوورث؛ إصرار من النوع الذي رأيناه عند كولهاس وشايلوك.
وفي حلم الدمار المخيف الوارد في الجزء الخامس من عمل «المقدمة»، يجد الشاعر نفسه في برية بلا دليل ولا علامة؛ «كلها مظلمة وخاوية»، وهي إشارة شائعة في شعر ووردزوورث للعزلة والضياع المقترن بظهور النظام الواقعي. ويظهر مرشد حاملا رمزين لما يربط الإنسان بغيره: حجرا، وهو ما يرمز إلى الهندسة؛ ومن ثم - وبعبارة هارتمان - إلى العلاقات الأزلية المجردة؛ وصدفة، ترمز للشعر أو العلاقات الإنسانية العاطفية. يمكننا القول إن غرضي المرشد الرمزيين يشيران إلى البعدين الرمزي والخيالي من الوجود الإنساني: العلاقات المجردة من ناحية والعلاقات العاطفية من الناحية الأخرى. إلا أن الحلم يتضمن صورا للدمار الوشيك لكل من الطبيعة والإنسانية، صورا للمواجهة الحادة مع النظام الواقعي الذي يخشاه الشاعر ويصبو إليه معا، في الوقت الذي يسرع فيه المرشد الذي يمكن أن ينقذه من الكارثة مبتعدا، وبعجز الحالم عن اللحاق به يستيقظ فزعا. إن أعظم شاعر إنجليزي للطبيعة والشعور الإنساني والوحدة العضوية تحركه للكتابة قوة تتنافى مع تلك الثلاثة جميعا.
إن كانت «كلاريسا» واحدة من الروايات التراجيدية القليلة في إنجلترا قبل أعمال توماس هاردي، فذلك بالأساس لأن فن الطبقة الوسطى في ذلك العصر كان يهدف للتهذيب لا لنشر اليأس. ومثال آخر مهم على تلك الروايات رواية إميلي برونتي «مرتفعات ويذرنج».
20
لا شك أن انتماء عملي ريتشاردسون وبرونتي للنظام الواقعي هو السبب في اتصافهما بالسمة التراجيدية الفريدة المميزة لهما، في ظل مجتمع يفضل أن ينهي كتابه أعمالهم بإشارة إلى الزواج وتأمين الممتلكات ونجاح أهل الخير وفشل أهل الشر. أو بحسب صياغة هنري جيمس: «بذكر توزيع الجوائز والمنح والأزواج والزوجات والأطفال وملايين الأموال والفقرات الملحقة والملاحظات البهيجة.»
21
إن رواية «مرتفعات ويذرنج» تقدم بالفعل في تردد لمحة تفاؤل في ختامها؛ لكنه خيط أمل ضعيف وهش، يختفي في ظل المأساة العاصفة لكاثرين وهيثكليف.
من الصعب وصف الرابطة بين الشخصيتين بأنها علاقة؛ حيث يبدو إنها تفتقر لحس الاختلاف. كما أنها رابطة غريبة لا مكان للجنس فيها. وإن كان من الأصعب ذلك أن نطبق عليها خطاب حب أو عاطفة أخلاقي تقليدي؛ فذلك لأن ثمة شيئا لا إنسانيا غريبا يميز هذا التعايش العنيف لهاتين الشخصيتين الذي يتضح أنه مناف للأخلاق الرمزية. فكاثرين وهيثكليف، إذ يحركهما تعطش أولي لا يعرف الرقة واللطف، أقرب إلى تمزيق كل منهما الآخر من أن ينتهي بهما الحال أمام كاهن يزوجهما، وهما يتخذان طوال الرواية سبيلا متعذر تغييره نحو الموت. فما يحركهما ليس دافع الحياة بقدر ما هو دافع الموت، كما في سعي كاثرين الساخط لتشق طريقها وحدها، أو عندما يقف هيثكليف - وهو صورة من الموتى الأحياء - متصلبا كالتمثال أمام نافذتها، فاحتياجهما المحموم لبعضهما بعضا هو شغف بالنظام الواقعي، شغف يتجاوز لطف النظام الرمزي إلى برية بلا معالم تسميها الرواية بالطبيعة.
تمثل روايات شارلوت أخت إميلي برونتي استراتيجيات للمواءمة بين الرغبة والأعراف الاجتماعية؛ إذ يتاح لجين إير أن تشبع تطلعها لنيل روتشستر المتسم بسحر لورد بيرون لكن بطريقة لا تتعدى اللياقة الاجتماعية؛ وبذلك تتركها في وضع مكشوف خطير. ولا يوجد مجال لمثل هذه المواءمة الحكيمة بين الرغبة والعرف في رواية «مرتفعات ويذرنج». فتجبر كاثرين للاختيار جنسيا بين هيثكليف وإدجار لينتون، وهي إذ تصبو إلى لينتون، أغنى مالك أراض في المنطقة، تأمل أن يتحمل عنها أعباء النظام الرمزي بجانب الحفاظ على الرابطة الخيالية مع رفيق صباها. وبهذا الأسلوب تمتلك - إن جاز التعبير - ذاتين: ظاهرية وواقعية، في الوقت عينه. فنداؤها الشهير «أنا هيثكليف!» يرمز للتعايش الخيالي مع حبيبها، تعايش يرتبط بالعدوان القاتل بقدر ما يرتبط بالاحتياج المتبادل. تختار كاثرين لينتون على هيثكليف في نوع من التعقل الاجتماعي؛ لكن أيضا لأنه عندما يتعلق الأمر بهيثكليف، الرفيق الذي يمثل وجوده ضرورة وجودية لها تضاهي ضرورة التنفس، فإن الاختيار ليس مفهوما ذا صلة بأي نحو. من الممكن أن يكون الحبيبان أخوين غير شقيقين وهو ما قد يشير إلى إحساسهما المتبادل بأن كلا منهما ذاتا بديلة، وكذلك على أفلاطونية علاقتهما. لكن إن كان هذا هو الحال، فإن التلميح بزنا المحارم يخيم على علاقتهما؛ لكن بما أن زنا المحارم علامة على الرعب الصادم الكامن في قلب النظام الرمزي، وإمكانيته المستبعدة بشدة، فهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالنظام الواقعي. وفي هذه العلاقة التي يحركها دافع الموت، يطوق النظام الرمزي من قبل كل من النظام الخيالي والنظام الواقعي.
هذا هو السبب في أن سعي كاثرين لمواءمة كمواءمة شارلوت محكوم عليه بالفشل؛ إذ إن النظام الواقعي لا يتيح مثل هذه المساومات أو أنصاف الحلول. فهيثكليف زائر قادم من هذا العالم الغريب، وكذلك مكمل خيالي لحبيبته، وهو شخص بربري غير متمدن يظهر في صورة شخص ينتمي للنظام الرمزي لا يعرف تأثيره على الأحداث؛ إذ لا مكان له في اقتصاد العزبة الصغير، ويتسبب وجوده هناك في إيقاع سوق الزواج والأملاك في اضطراب عنيف؛ فهو يمثل عند كاثرين الصخور الأبدية الموجودة تحت الغابة، القلب الصلب للنظام الواقعي لمادة الثقافة اللينة. يجسد هذا البربري طليق اللسان، بصفته منبوذا تتبناه العزبة لكن منفيا محبوسا داخل أسوارها، الحالة الملتبسة التي للطبيعة ذاتها التي تجمع بين الاجتماع والانعزال، فالطبيعة تظهر في الرواية نفسها في صورة العزبة المزروعة؛ ومن ثم كبعد من الثقافة الإنسانية، وفي صورة منطقة موحشة لكن خصبة تتجاوز حدود الوجود المتحضر.
يمتلك هيثكليف سمة من النظام الواقعي تذكر بالإله يانوس، باعتباره قاتلا وواهبا للحياة معا، فعندما كان طفلا كان نموذجا يشبه فارماكوس، الذي هو - بحسب كلمات إيرنشو العجوز - هبة من الرب لكنه شرير كالشيطان. أما وهو بالغ فهو يقدم كلا من الحياة والموت لكاثرين بصفته ممثلا لرغبة تدمر وتنشئ من جديد في نفس الوقت. فهو شأنه شأن أي نموذج للنظام الواقعي شخص بربري مريض بالهوس الأحادي، يفضل خوض بحور الدم على التخلي عن رغبته. إن حدة رغبته غير الطبيعية دالة على الموت المطلق الذي سيشتهيه. لكن الرواية لا تتعجل إقرار ما يمثله هيثكليف، فهي لا تفصح تماما كرهه الذكوري لإدجار لينتون المفرط في التهذيب، الذي قد يصل إلى الضعف، لكن الذي حبه لكاثرين حنون وثابت. ومقابل قراءة «عزبة ويذرنج» لشخصية هيثكليف باعتباره مصدرا للطاقة السامية، يقدم النص في المقابل رؤية «عزبة جرانج» له باعتباره ذئبا استغلاليا، بارون ثري وبلا رحمة لا يقدس أي رابطة أو عرف. يعد هيثكليف شخصية لا إنسانية لأن ما يمثله يتسامى فوق مستوى ما هو شخصي؛ لكنه شخصية لا إنسانية كذلك بالمعنى الأدنى للكلمة؛ أي رجل يدفعه رفض كاثرين له إلى التفوق على ظالميه في مكائدهم الخاصة بالزواج والأملاك.
مع ذلك وبرغم كل مكره، فإن هيثكليف يتصرف كرجل ميت يمشي على قدمين، فروحه دفنت مع كاثرين الميتة، والثروة الثقافية التي يجمعها خلال غيابه الغامض عن العزبة لا تستخدم إلا لهدف تركيع الذين انتزعوها منه، فكلما زاد استثماره باعتباره رأسماليا بلا قلب، قل استثماره الروحي في مثل هذه المخططات؛ إذ يحركها دافع الانتقام الخالص من الذين فرقوا بينه وبين حبيبته. فتخطيه للصعاب الدنيوية يتم باسم العالم الآخر، فالنظام الواقعي الذي يتمسك به هيثكليف بهذا الإصرار المرضي يختزل بيئته المحيطة الفعلية في اللاواقع حيث تستولي عليه رغبة لا تعرف أي قيد دنيوي. إن رغبة هذا الخبير العنيد في القانون والمال والأملاك لا تنتمي لهذا العالم كما إيمان الناسك؛ ولهذا يأتيه الموت في صورة صديق لا غريب.
إلا أن الرواية تدرك الجانب المجدب والرائع في أخلاق النظام الواقعي هذه، فمن وجهة نظر جرانج بعواطفها المتحضرة وأعرافها المتمدنة، يعد كاثرين وهيثكليف طفلين متجادلين، يعد رفضهما للنظام الرمزي علامة على عدم نضجهما الأبدي. وبعجزهما عن تناسي طفولة مثالية تتحول هي إلى مراهقة مشاكسة مدمرة لذاتها، ويتحول هو إلى وحش مفترس. وفي هذا الإطار فإن حب كل منهما للآخر حب ارتدادي ونرجسي في الوقت نفسه، يقع في شرك عالم أسطوري ضائع لا يمكنه من خلاله أن يتحول إلى جزء من التاريخ ذاته ، فمن الصعب تصور هيثكليف وهو يشغل غسالة الأطباق مثلا أو يحمم طفلا.
إلا أن نظرة عزبة ويذرنج - أو نظرة المدافعين عن المكان على الأقل - تختلف. فإن كانت علاقة البطلين متجهة نحو الدمار الذاتي، فهذا لأنه ما من مكان لهذا التبادل النقي بين النفوس في المجتمع التقليدي. فالاتحاد الشديد بين هذين الشخصين صعب، ليس لأنه ارتدادي بل لأنه مثالي. وإن كانت علاقتهما سابقة على التواصل الاجتماعي أو مضادة له وليست علاقة ثقافية؛ فذلك لأنها الصورة الحقيقية الوحيدة للوجود المتاحة أمامهما في نظام اجتماعي استغلالي. ولأن الاحتمالات الجديدة التي يشيران إليها لا يمكن أن تتحقق بعد، فعليها في المقابل أن تنتقل إلى نطاق الطبيعة والأسطورة والخيال. وبوصف هيثكليف «هبة من الرب» فإن وجوده في العزبة منحة زائدة في الأساس؛ إذ يستقبل في هذه الوحدة المنزلية/الاقتصادية باعتباره دخيلا، بلا دور مخصص له في بنيتها الثانوية المتمحورة حول العائلة. فهو باعتباره فائضا في نظام العزبة الاقتصادي وغريبا في عالم تاريخه قائم على سلالة معينة، فهو يرحب به أو ينبذ لذاته هو؛ إذ لا يتمتع بأي وضع سوى كونه إنسانا. إن نموذج فارماكوس الملوث المخيف يمثل بقايا وفضلات الإنسانية؛ لكن إن أمكن النظر إليه دون خوف واستيعابه داخل حدود الفرد، فإن هذا الغريب الواقف على الأبواب قادر على إطلاق قوة غامضة نافعة.
22
كاثرين هي الأخرى وجودها زائد عن حاجة اقتصاد آل إيرنشو المنتمين لطبقة صغار الملاك؛ فهي لأنها مجرد ابنة فهي لا ترث. لكن العزبة لا ترى أي فائدة من هاتين الشخصيتين الجامحتين بخلاف استغلالهما وتجاهلهما، وتتركهما ليديرا شئونهما. فالحب شيء جميل لمن يملكون الرفاهية والموارد للاستمتاع به. فأهل العزبة البخلاء جامدو الفكر لا يمكنهم فهم أي علاقة ليست لها أساس اجتماعي أو أسري أو اقتصادي؛ أي علاقة تتضمن فوق ذلك مساواة حقيقية بين أطرافها في ظل ما تصوره الرواية على أنه نظام طبقي شديد السلطوية. إن من بين الإنجازات الجريئة لرواية «مرتفعات ويذرنج» هي تعرية بيت العائلة الفيكتوري باعتباره مسرحا للعنف البغيض وصراعات القوة البائسة. هذا هو السياق الذي يمكن فيه اعتبار العلاقة بين كاثرين وهيثكليف مثالية، فالنظام الواقعي يتضمن احتمالا هو تدشين شكل جديد من الوجود تنقطع صلته بالماضي الجائر، وكذلك واقعا هو إطلاق دمار مرعب في الحاضر.
وكما توجد في قلب رواية إميلي برونتي رغبة تقاوم الدلالة، فإن النص ذاته - بما فيه من رواة شديدي التحيز وأصوات متنافسة وإدراج قصص داخل قصص كحكايات الجدات - كاف هو الآخر ليربك أي قراءة مباشرة للقصة. فآلية دمج سرد ربما يكون غير موثوق في سرد آخر يتأكد عدم مصداقيته تتضمن تفكيكا للترتيب الزمني؛ حيث يلتف التاريخ في النص على نفسه في حركة إلى الأمام وإلى الوراء. وهذا أيضا يتناقض بكل وضوح مع تكشف قصة شارلوت غير الخطي، بما فيه من ثقة ضمنية في التطور الأخلاقي والتاريخي؛ إذ يوجد في البعد الواقعي ما يربك البعد التاريخي، حيث تدور شخصيات ومواقف وأحداث متنوعة حول دوامته لتشكل دوامة من الزمن.
في أي من روايات شارلوت برونتي، ليس أمامنا مجال كبير للشك فيما علينا اعتقاده بشأنها؛ حيث يلقننا الراوي العالم بكل شيء ردود أفعالنا في سلطة مفرطة تليق بناظر المدرسة. لكن رواية «مرتفعات ويذرنج» في المقابل تفتقر للسرد الكبير أو الفوقي، كما لو كان الغموض في قلبها لا يمكن تناوله بصورة مباشرة بل بصورة منظورية؛ إذ يلمح في الفجوات بين قصة متحيزة وأخرى. لذا فإن الرواية لا تتيح أي اختيار مباشر بين النظام الرمزي والنظام الواقعي، بين هيثكليف باعتباره شخصا استحواذيا بشدة وهيثكليف باعتباره أفقا ثوريا جديدا، فالمقصود أن نرى الرجل نذلا ساديا، وليس شاردا لافتا للانتباه أو جوهرة غير مصقولة. إلا أنه مطلوب منا أيضا أن ندرك أن سوء المعاملة على يد آل إيرنشو هو ما حوله من طفل جريء إلى محتال بلا قلب، فبمجرد أن ترفض رغبته في كاثرين، تتحول تلك الرغبة إلى دافع مرضي للموت والنفي والعنف الذاتي، إلا أن الرغبة نفسها عقلانية تماما، لا يعوقها إلا عقبات النظام الطبقي. لقد حرم هيثكليف الاحترام والتقدير، أولا من قبل آل إيرنشو ثم من قبل محبوبته، وقد رأينا من قبل كيف يمكن لهذا الرفض أن يحول شايلوك وكولهاس وكلاريسا من مواطنين مسالمين إلى رسل موت ودمار؛ إذ يوجد في الظلم، أكثر مما في الحقد أو السخط أو حتى في الكراهية، ما قد يدفع الرجال والنساء إلى الجنون.
وبنفس الطريقة غير المتحيزة تريدنا الرواية أن نرى أن الثقافة ليست كل شيء، أن الوجود الإنساني يتسم بشيء من المادية ثبت أنه يتعارض معه. إلا أنه يراد منا أيضا أن نقر بأن الثقافة ليست على الإطلاق قشرة سطحية، وأن سخط أمثال هيثكليف عليها واعتبارهم أنها جافة لا مبالية، ما هو إلا حكم متحيز. وفيما يتعلق بالغموض، يكون من الصعب على القارئ تحديد طبيعة الحدث الذي أمامه، فهل هو عبارة عن قصة بطولة مأساوية أم قصة خصوم متنازعة؟ هل تكمن الحقيقة - في النهاية - عند نيلي دين المتواضعة الحال وغير المبالية؟ لقد انكشف أن الرغبة قوة مدمرة في جوهرها لا تبالي على نحو خطير بالفروق الاجتماعية، إلا أنه ليس كل أشكال الرغبة يجب تحقيقها ودعمها، وليس كل التقاليد الاجتماعية زائفة؛ فالنظام الرمزي يوفر الحماية كما يفرض القمع، مثلما أن النظام الواقعي تحويلي وصادم. •••
بعد أربع سنوات من ظهور رواية إميلي برونتي، ظهرت أسطورة أكثر روعة للنظام الواقعي في ساحة الأدب، فالحوت الأبيض الذي تطارده الشخصية الشريرة آهاب في رواية «موبي ديك» حتى موتها، «مبهم» عصي على المعرفة، بقدر مفهوم كانط «الحقيقة الأساسية أو الماهية الجوهرية»، فكما يقول الراوي إسماعيل عنه: «فكلما أخذته بالتحليل والتشريح، لم أتجاوز في العمق سمك بشرته، فأنا أجهله وسأظل أجهله أبدا.» فلون موبي ديك الأبيض علامة على قدسيته، على شيء «جميل وشريف وسام»؛ لكن «ثمة شيئا مراوغا في جوهر فكرة لونه يفزع الروح أكثر من اللون الأحمر الذي يعني الدم.» فالأبيض لون النقاء، لكنه لون النفي الخالص، وموبي ديك - مثل سمو الرب وقوة النظام الواقعي - مريع مثلما هو آسر، ملعون مثلما هو مقدس، عدم غريب أجوف لا يسع من ينظر إليه سوى أن يخاطر بالإصابة بالعمى. فالحوت - كما النظام الواقعي - سلب خالص وقوة إيجابية معا؛ شفرة تستعصي على الإدراك، لكن قوة تدمير عارمة يقع آهاب - الذي استحوذ عليه الموت - في حبها الكارثي. إن الغموض الرهيب لموبي ديك ولا محدوديته التي تبطل كل التصنيفات الحيوانية يذكر الراوي بالفناء، و«ما في الكون من خلاء ساكن لا ينبض، ومن انفساح لا يحد.» فغياب وجود الأرض، كما يشير إسماعيل، أمر غامض مثل الرب.
إن كان الحوت يضرب استقرار عالم الحيوان، فهو يربك كذلك البطل التراجيدي للرواية الذي يرى فيه تجسيدا حيا ل «كل ما يسلب العقل ويستفز العذاب؛ كل ما يعكر صفو الأشياء؛ كل حقيقة يستكن فيها الحقد؛ كل ما يفتت القوى العضلية ويضرب العقول؛ كل ضروب الشيطنة الماكرة التي تعشش في الحياة والفكر؛ كل الشر ...»؛ إذ يمثل موبي ديك لآهاب التائه طبيعة النظام الواقعي المتعرجة غير المنتظمة، والعيب الخفي في منظومة الطبيعة. وكما يقهر النظام الواقعي الدال بهناكيته أو الوحشية والمراوغة في نفس الوقت، فإن حتى أكبر المباهج على الأرض - كما يشير آهاب «تتسم بتفاهة معينة لا دلالة لها تكمن فيها.» فهو يرى في «الصفحة البيضاء» للحوت الشر الخالص لدافع الموت، جلبة اللامعنى الشيطاني التي تتردد عبر الكون. إلا أن هذا يرجع إلى أن رؤية القبطان لموبي ديك تمثل رؤية إبليس للرب؛ أي رؤية الرب باعتباره ظالما، باعتباره حكما ورقيبا وليس صديقا ومحبا. فموبي ديك في نظر آهاب «شيء ملعون» وإن كان يلمع ببريق سام عندما ينظر إليه بعين أقل شرا. يمكنك - كما تخبرنا الرواية - أن ترى الحوت شيطانا أو ملاكا مقربا، بحسب حالتك المزاجية.
إن هذا الوحش شأنه شأن كل الأشياء المقدسة مبارك وملعون معا، ورغبة آهاب المصابة بالهوس الأحادي تجاهه تمثل حبا وعدوانا قاتلا معا، مزيجا من العشق والموت. فآهاب مثل أي شخص شيطاني، لا يمكنه أن يحصل حيوية اصطناعية إلا من الألم الذي تتيحه له كراهيته الممزقة لذاتها نحو الحوت. إنها تلك الحالة من العذاب الذاتي التي ينظر إليها عادة باعتبارها الجحيم، والقبطان واحد من السلالة الأدبية المهيبة من الشياطين المتعدية للحدود؛ إذ ينتمي إلى النخبة الشيطانية؛ فهو كما يقول عن نفسه: «وهبت الإدراك العالي ... وملعون على نحو خبيث وماكر!» وحده الشيطان - الملاك الساقط - هو من يتقبل حقيقة خالقه، فيقدر الدمار لذاته كما يخلق الرب من أجل الخلق ذاته. لقد تجاوز آهاب حدود البشرية إلى أرض لا يصلها إنسان، فيها يتحول - كما يقول على غرار شيطان ميلتون - «كل جمال إلى مصدر شقاء لي.» فهو واحد من الموتى الأحياء، ويتحول وجوده المدمر للذات إلى وجود يتعصب للموت. فحتى ساقه الصناعية العاجية - التي تصدر مع خطواته على متن السفينة صوتا يشبه الدق على تابوت - هي قطعة من شيء ميت مدمج مع لحمه ودمه. فقد فعل القبطان ما طلب من أنطونيو في مسرحية «تاجر البندقية»: لقد ضحى بجزء من جسده من أجل الآخر الكبير، إلا أنه لا يزال لم يتلق أي تقدير من الشبح العملاق الذي يطارده بلا طائل. وكما هو الحال مع هذه الرغبات عسيرة المراس، يختزل الواقع اليومي في مجرد واجهة مبهرجة مفرغة من أي مضمون وجودي: «فكل الأشياء المرئية» كما يقول آهاب «ليست سوى أقنعة كرتونية»، فكل أتباع النظام الواقعي أفلاطونيون بطبيعتهم.
يقول إسماعيل، متأملا حالة قبطانه البائسة: «لقد خلقت أفكارك مخلوقا بداخلك.» إنه وتد النظام الواقعي الدخيل الموجود بداخل آهاب الذي يمزق ذاته، فيدفعه نحو السعي لشيء مستحيل؛ لكنه كذلك هو تلك الرغبة المسعورة المحددة التي تتمثل فيها عظمته؛ إذ يستحوذ عليه - شأنه شأن كل أبطال النظام الواقعي - تطلع شغوف للانهاية فيقول: «الحقيقة لا تعرف القيود.» فهو على استعداد للمخاطرة بحياته في سبيل السعي نحو رغبته. ومن هذا المنطلق يدفع إلى حد مأساوي العمل الروتيني لبحارته، الذين يحصلون الحياة من الموت باستخراج قوتهم من المحيط، فهم أيضا تجسيد للفارماكوس مثله، وهم مطرودون من الإنسانية، تتميز تجارتهم ب «انعدام الطهارة»؛ لكن، ورغم أن العالم يقصي هؤلاء المهربين إلى نطاق اللاإنساني، فهو يجلهم كبروميثيوس سارق النار، باعتبارهم موفرين للزيت من أجل إضاءة المصابيح التي في البيوت والأعمال. فالحضارة الإنسانية نفسها قائمة على استخراج الحياة من الموت؛ إذ تجبر الطبيعة صعبة المراس على خدمة الثقافة؛ وهكذا تعكس ازدواجية آهاب عرفا متحضرا وليس انحرافا غير اجتماعي. إن الإنسانية - إذ يصنعها البعد الواقعي اليانوسي المستحيل لرغبتها - هي التجسيد الحقيقي للفارماكوس؛ حيث تقدر على الفداء واللعن بدرجة تتجاوز أعظم مخلوقات البحر. إن كان آهاب تشوها في وجه الأرض فذلك لأنه يتمادى في منطق الإنسان إلى حد لا يتصور، حد تكشف الإنسانية عنده عن نفسها باعتبارها لا إنسانية بقدر ما هي إنسانية في أصدق صورة. هذا هو نطاق النظام الواقعي الذي - لحسن الحظ وسوءه أيضا - لا يقدر مناصرو النظام الخيالي ولا المدافعون عن النظام الرمزي على الدخول إليه.
وفي رواية أقل تألقا من رواية ميلفيل، تتضمن رواية «حكاية الزوجات العجائز» لأرنولد بينيت لحظة استثنائية، يتحول فيها هارولد بوفي - وهو تاجر أقمشة عسير الوصف من نورث ميدلاند يتسم بعادات خاصة بالبرجوازية الصغيرة - من خلال حكم الإعدام الظالم لابن عمه إلى شخص غريب على نحو مخيف. يترك هارولد الذي أنهكه الالتهاب الرئوي فراشه بصعوبة لزيارة قريبه المدان في السجن، ثم يذهب إلى كاهن البلدة ليتشاور معه بخصوص عمل مظاهرة سياسية معارضة للحكم. وتكون نتيجة ما بذله من جهد خارق في سبيل قضية العدالة ميتتين وليس ميتة واحدة؛ حيث يموت بوفي بسبب تسمم الدم. ويعلق الكاتب عليه قائلا: «لقد افتقر للفردية، فقد كان ضئيل الحجم ... لكنني أحببته واحترمته ... لطالما أسعدني أن أفكر أن القدر في نهاية حياته قد تولى أمره وبين - لمن يرى - عرق العظمة الذي يجري في كل روح دون استثناء، فقد تبنى قضية وخسرها ومات بسببها.» ويكتب لاكان: «إن الطريق لتحول كل منا لبطل مرسوم بداخلنا، فقط علينا أن نكمله حتى نهايته.»
23 •••
وفي ختام مسرحية آرثر ميلر «مشهد من الجسر» يدخل المحامي ألفيري ليلقي كلمة خالدة في تأبين بطل المسرحية الذي رحل؛ إيدي كاربون:
إننا نرضى في معظم الأوقات بأنصاف الحلول، وهذا يناسبني. لكن الحقيقة مقدسة، ومع أني أعلم كيف كان (إيدي) مخطئا، وكيف كان موته بلا فائدة فإنني أرتجف؛ لأنني أعترف أن ثمة شيئا نقيا يناديني من ذكراه، ليس شيئا جيدا خالصا؛ لكنه شيء منه هو وحده؛ إذ عرف بنفسه تماما، ولهذا سأحبه أكثر من كل عملائي المتعقلين. ومع ذلك فالأفضل الرضا بأنصاف الأشياء؛ حتما. وبهذا أرثيه، علي أن أعترف، ببعض ... الحذر.
لا تختلف نغمة ما سبق عن رثاء رواية «حكاية الزوجات العجائز» لهارولد بوفي المقهور لكن العنيد؛ إذ يعكس رد فعل ألفيري المتحير تجاه كاربون ازدواجية خاصة بالنظام الواقعي. فبطل المسرحية يندفع في إصرار نحو موته باسم سمعته التي تلطخت؛ وتبدى المسرحية إعجابا بالإصرار في تمسكه برغبته، وإن كانت تظهره بمظهر المغرور إلى حد المأساة. نفس الأمر ينطبق على نظرة مسرحية «موت بائع متجول» لبطلها ويلي لومان، وهو شخصية تموت غارقة في مستنقع الوعي الزائف، لكن عظمته المأساوية تكمن في أنه يعجز عن تجاهل مشكلة هويته. يمكننا القول إن هذا النموذج الأولى للبطل المعاصر يحافظ على «الموضع الأصلي لمتعته حتى وإن كان فارغا» كما يقول لاكان في سياق آخر.
24
فلومان شخصية أدبية أخرى تتحرك بين صفوف الموتى الأحياء؛ حيث يسير بلا تردد نحو مواجهته مع الموت الذي يخبئه له عنوان المسرحية - وهو جزء من القدر في حد ذاته - منذ البداية. أما ما يعجب به ميلر نفسه في بطله فهو «الحدة، الشغف الإنساني بتجاوز الحدود الموجودة، الإصرار المتشدد على دوره الذي وضعه لنفسه.» فويلي مثله مثل العديد من أبطال النظام الواقعي تطارده تفاهة الحياة اليومية ويريعه التناقض بين مطلبه السامي الذي لا يتزحزح وبين «خواء كل ما آمن به» بحسب عبارة المؤلف. ويتابع ميلر: «أرى أنه كلما قلت قدرة الإنسان على تجاهل الصراع الجوهري في الرواية اقترب من الحياة المأساوية. ومن ثم فهو يشير ضمنيا إلى أنه كلما اقترب الإنسان من المأساة زادت حدة تركز عواطفه حول النقطة الأساسية لالتزامه، وهو ما يعني أنه يقترب أكثر مما نسميه في الحياة بالتعصب.»
25
من السهل إذن أن نفهم حيرة ألفيري الحزينة بشأن عميله المقتول في مسرحية «مشهد من الجسر»، وليس أقل أسباب ذلك أن المحامي شخصية كتبها نفس القلم الذي ألف مسرحية «البوتقة». وفي ظل عصر مجرد من المثل البطولية، فإن النبل الوحيد الذي يمكن للإنسان إدراكه لا يكمن في طبيعة رغبته، بل في شدة إخلاصه لها. إلا أن هذا الإخلاص يحتمل دائما أن يكون مرضيا. إذا فنحن بصدد أخلاق شكلية خالصة، أخلاق تتمتع بلمسة من البريق ومسحة من التهور أيضا. إن مذهب لاكان الذي يقول «لا تتخل عن رغبتك» هو واحد من سلسلة من تلك المذاهب الشكلية، الذي يعتبر المذهب الوجودي القائل «تصرف بطبيعتك» أولها. يسأل لاكان: «ما الذي يجعل فيلوكتيتس بطلا؟» ويجيب: «ليس سوى بقائه مخلصا لكراهيته حتى النهاية.»
26
أما ما إذا كان إخلاص الفرد الشديد للعشق الجنسي للأطفال يعد سلوكا بطوليا من الناحية الأخلاقية فيظل مسألة غامضة. إن هذه الأخلاق الشكلية هي ما يعجب بها لاكان عند أنتيجون، وهي إذ تقف على حد من حدود النظام الرمزي بعيد لدرجة أنه يمكنها إثبات القيمة الفريدة لأخيها المقطوعة رأسه دون الإشارة إلى الجانب الأخلاقي أو الآثار الاجتماعية لأفعاله. وفي تقليد امتد من هايدجر إلى سارتر ولاكان، فإن التفرقة المهمة ليست بين الخير والشر بل بين الحقيقي وغير الحقيقي، بغض النظر عن مدى عدم دقة الصفة الأخيرة في حالة لاكان. فنحن يطلب منا الإعجاب بالشكل السامي أو الجميل للفعل أو الثناء على تطرفه الجريء، بصرف النظر عن محتواه الخطير أو المبتذل.
إلا أن الأشكال الأدبية للنظام الواقعي تميل للاختلاف قليلا في هذا الصدد عن بعض النظريات الخاصة به، فكل من لومان وكاربون يفعلان الشيء الخاطئ للسبب الصحيح؛ لكن المسرحيتين اللتين يظهران بهما بدلا من أن تؤكدا على إصرارهما الشديد على رغبتهما تضعان تلك الرغبة في مواجهة الشيء عديم القيمة الذي تتعلق به. إن عجز هاتين الشخصيتين عن الانفصال عن نفسيهما حماقة وانتصار معا، وهذه الرؤية المزدوجة جزء من ميراث ميلر الذي ورثه عن إبسن. فالذين يقتربون كثيرا من النظام الواقعي أقرب إلى الهلاك لرؤية الحقيقة؛ لكن الهلاك لرؤية الحقيقة قد يكون مع ذلك أفضل من عدم رؤيتها مطلقا. فأبطال ميلر من ناحية واقعون بين الفريقين؛ إذ يركزون على أشياء مرغوبة زائفة متعددة لكنهم ينتظرون حقيقة بشغف من هذه الأصنام المزينة. من هذا المنطلق فإن لومان - بعبارة لاكان - لم «يبلغ منتهى رغبته»، وهي نقطة - حسبما يشير لاكان - يرى الإنسان فيها أن الحياة ليست مفروشة بالورود لكنه ينتبه مع ذلك «للقيمة النسبية تماما للتعلقات أو الاهتمامات المرضية أو الأسباب النافعة.»
27
فويلي محق في طلبه التقدير لكنه مخطئ في تصوره أن أشكاله المتاحة له اجتماعيا تستحق نيلها. وكاربون مصيب في طلبه استعادة «سمعته» أو شرفه لكنه لا يدرك أنه ضاع نتيجة لأفعاله. وفي ظل مجتمع أصبحت فيه سلعة الأخلاق التقليدية أكثر تزينا، وزادت فيه حدة الخلاف بين هذا التصور للحياة السليمة أو ذاك، فقد كان من اللازم أن تتحول الأخلاق على نحو كبير لقضية تتعلق بالشكل. وأخلاق النظام الواقعي هي أحدث صور هذه الشكلية.
ويكتب لاكان في إحدى فقرات كتابه «أخلاق التحليل النفسي» عن الخيانة المرتكبة بالتخلي عن الرغبة قائلا:
إن ما أسميه «التراجع عن الرغبة» دائما ما تصحبه خيانة ما في مصير الذات، فستلاحظها في كل الحالات، وعليك أن تعي أهميتها. فالإنسان إما أن يخون مسعاه وإما أن يخون نفسه، والعاقبة تكون كبيرة بالنسبة له، أو أنه ببساطة يتقبل أن يتخلى شخص قد اتفق معه على شيء معين عن أمله ولا ينفذ اتفاقه، أيا كان هذا الاتفاق، مقدرا أو غير مقدر، أو خطيرا أو قصير النظر، أو مسألة متعلقة بتمرد أو هروب، فذلك لا يهم.
ثمة خيانة إن تسامح المرء مع هذا، إن كان دافعه فكرة الخير، وأقصد بهذا الخير لأجل الشخص الذي ارتكب فعل الخيانة؛ فالمرء يتنازل لدرجة التخلي عن مطلبه، ويقول لنفسه: «حسنا، إن كان هذا هو الحال فعلينا أن نتخلى عن موقفنا؛ فلا يستحق أي منا هذا العناء، وخاصة أنا؛ لذا علينا أن نعود إلى طريقنا المعتاد.»
28
والشخص الذي يخون نفسه هو إيدي كاربون، بينما يواجه شايلوك وكولهاس العدو الذي ينكث الاتفاق الموثق معهما. أما أولئك الذين يسعون إلى التخلي عن مطالبهم وقبول أنصاف الحلول، فإن الجملة الأخيرة من فقرة لاكان يمكن أن تكون شبه إعادة صياغة لتوسل بيف لومان اليائس إلى أبيه ليتراجع عن قدره: «أبي، أنا بلا قيمة، وكذلك أنت!» أما نظرة ويلي للمسألة في المقابل فتتبلور في الحوار المقتضب مع ابن أخيه برنارد:
برنارد :
لكن من الأفضل أحيانا يا ويلي أن يتراجع الإنسان.
ويلي :
يتراجع؟
برنارد :
نعم.
ويلي :
وماذا إن لم يستطع التراجع؟
برنارد :
أظن أن هذا يكون عندما يتأزم الأمر بشدة.
هوامش
الفصل التاسع
ليفيناس ودريدا وباديو
ما من نظريتين أخلاقيتين تبدوان أشد تباعدا من المذهب الخيري البريطاني في القرن الثامن عشر وفلسفة إيمانويل ليفيناس.
1
إلا أن فكر ليفيناس يمثل - من بين ما يمثله - عودة إلى مذهب أخلاقي قائم على الإحساس والشعور، يخرج من عباءة إيمانويل كانط ليعيد القيم الأخلاقية مرة أخرى إلى سياق الجسد الخاضع للاحتياج والبؤس والعاطفة. ويمكن أن نضيف أن ثمة مشروعا هاما من هذا النوع سابقا على هذا: محاولة ماركس اليافع أن يحول أخلاق الجسد والإحساس إلى أخلاق شيوعية في كتابه «مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية». إن ليفيناس نفسه - الذي يرى (شأنه شأن آلان باديو) أن الأخلاق تتعارض مع الطبيعة - يعارض بشدة أي نظرية طبيعية من هذا النوع، بل والنظرية الأخلاقية في حد ذاتها. فهو يرى أن مثل هذا الحديث عن الأنواع البيولوجية به صدى لا يمكن تجاهله من الفكر النازي؛ فالأخلاق عنده أصلها الجسد، لكنها أيضا متسامية عنه. وهذا النوع من السمو يعرف بالبعد الشخصي.
إن وجود الذات يعني عند ليفيناس الخضوع؛ وهو ما يعني التعرض للطلب المجحف للآخر الكبير، وهو طلب لا يخزن نفسه في العقل بل «على البشرة، عند أطراف الأعصاب».
2
فكما يعلق سايمون كريتشلي: «الذاتية أساسها الإحساس.» ويشترك ليفيناس في الكثير من النقاط مع كانط؛ لكنه لا يشاركه عدم ثقته في الإحساس؛ فالحياة عند ليفيناس هي - كما يقول كريتشلي: «الإحساس والمتعة والطعام. هي المتعة ولذة الوجود.»
3
رغم أنه بالنظر إلى التعقيد الشديد لأعمال ليفيناس عصية الفهم عن عمد فإنه يغفر للمرء تغاضيه عن الحقيقة؛ فالطعام والمتعة في نظر ليفيناس بنية سابقة على التاريخ نوعا ما، تتغذى عليها الحياة الواعية، لكنهما سابقان دائما عليها. فكما هو الحال مع النظام الخيالي في القرن الثامن عشر فإن الإرادة والتفكير والإدراك كانت عناصر حديثة في المشهد الأخلاقي، وهي مشتقات باهتة من شيء أكثر أولية على نحو كبير. لقد أصاب كريتشلي في رأيه أن الذات الأخلاقية في فكر ليفيناس هي مخلوق من لحم ودم، مثلما يظهر من تعليقات شهيرة له يقول فيها بأن «المخلوق الذي يأكل هو وحده من يمكنه أن يتعاطف مع الآخر.» وكذلك (في تعارض مع هايدجر) «الكينونة لا تأكل». فالأخلاق بحسب قوله «ليست هبة القلب بل القدرة على العطاء».
4
أما الآخر فهو بالنسبة له إنسان تكمن بداخله صورة توحي باندماج مضطرب وليس متجانسا للذوات. فمقاربة الأخلاق تكون بالإحساس لا بالإدراك؛ فوجودنا يرتبط بالإحساس، والإحساس نفسه باعتباره انفتاحا لا نهائيا على «الخارج» يعد صورة من السمو في ذاته؛ فالسمو مغروس في أحاسيسنا.
إذا ففي رد فعل مبالغ فيه بشدة على فكر عصر التنوير تخلينا عن عالم الفواعل الحرة التطوعية المقررة لمصيرها في سبيل دائرة أخلاقية تقوم على إلقاء اللوم على الآخرين والاعتماد على الغير وتتضمن التزامات وليس اختيارات، ولا تسودها حرية الإرادة بل الحساسية المخيفة. فالموت بحسب ما يكتب ليفيناس هو استحالة وجود خطة عمل؛ فالسؤال الأخلاقي التقليدي: «ماذا يجب علي أن أفعل؟» يتحول إلى: «ماذا يريد الآخر الكبير مني؟» فالأخلاق لم تعد مسألة تحديد ما ينبغي فعله بل ما يمثل حياة جيدة. يتسم ليفيناس بنفور لاكاني لمثل تلك المفاهيم عن الخير الأسمى، وهو ما لا يؤدي في نظره إلا إلى الفشل والإحباط؛ فالأخلاق قضية أهم من أن تختزل في مثل تلك الاعتبارات الدنيوية مثل السعادة أو الإشباع أو الرفاهية. كما أنه لا يكاد يطيق صبرا على التصور التقليدي للأخلاق بوصفها تأملا لمواقف معينة بهدف التوصل إلى التصرف الأنفع فيها؛ ففكرة تحديد مبررات سليمة من أجل تحقيق أهداف عقلانية ليست فكرة يولع بها كثيرا؛ فالأخلاق قضية متعلقة أكثر بوقوع الاختيار عليك وليس صدوره عنك. وقد رأينا كيف يمكن أن نجد نفس تيار السلبية الحكيمة في عالم الإحساس الخاص بالعاطفيين الذين يرون أن مشاعر الشفقة أو النفور تتجاوز سيطرة الإنسان الواعية؛ فأخلاق ليفيناس هي أخلاق انهيار وضعف وليس أخلاق إنجاز كبير؛ وهي بذلك لا تنتمي لعالم السياسة والتكنولوجيا ولكن لهؤلاء القلة من اليهود من أبناء بلاده الذين قضوا نحبهم في سبيل هذه الأشياء. فهو يسعى لاستعادة تناهي الوجود الإنساني من بين أنياب الإرادة المطلقة المتغطرسة؛ لكن اللاتناهي - كما سنرى - سيتسلل عائدا رغم ذلك في صورة المسئولية - التي لا تنتهي - بعضنا عن بعض. إنه، حسبما يكتب ليفيناس، في لغة تذكر بالنظام الواقعي عند لاكان «الشيء الكبير بداخلي الذي لا يمكنني أن أحتويه.»
يكمن في قلب فكر ليفيناس الأخلاقي علاقة مع الآخر الكبير، هي لا علاقة أيضا؛ حيث إن الآخر الكبير مختلف تماما وغامض ومستغلق. فليفيناس شأنه شأن لورانس في روايتيه «قوس قزح» و«نساء عاشقات» يسعى نحو علاقة تتجاوز نطاق العلاقات؛ علاقة تتخطى بأسلوب لورانس الخطاب التقليدي المستهلك للإرادة والوعي وعلم النفس والعاطفة والأعراف الاجتماعية والقوانين الأخلاقية والعواطف الإنسانية وما شابه في سبيل عالم فيما وراء الوجود ذاته، ومملكة للروح تتخطى الوجود بكثير. فمخاطر الهيمنة البشرية قد صارت راسخة الآن لدرجة أن العلاقات نفسها، التي لا يمكن أبدا أن تكون بريئة من القوة، يجب تجنبها. إن الانفتاح على الغيرية الذي لا يمكن السيطرة عليه - على السمو الموجود في قلب الذاتية التي لا تقبل (كما هو الحال مع الرب السامي) المقايضة ولا التلاعب ولا المبادلة ولا التبادل - هو الأساس الذي ينبني عليه وجودي الغارق في الإحساس بالذنب. فنحن بعبارة أخرى لا نتحدث عن العلاقة الفعلية مع هذا الشخص أو ذاك، بل عن العلاقة الأولية أو السامية التي هي شرط لأي علاقة واقعية والتي تمثل مصفوفة تتحرك خلالها مثل تلك الروابط. فالنفس ما هي إلا صدى لشيء يتخطاها؛ فحتى الآخر الكبير ليس هو ما يستثير حس المسئولية عندي، بل القانون أو اللامتناهي الذي يوجه بطريقته المستبدة الآخر الكبير لمسئوليتي. وإن لم يكن هناك قضية تماثل أو مساواة أو مبادلة في هذا السياق، وهو ما يعني عدم وجود أخلاق رمزية؛ فذلك لأن الآخر الكبير في ظل تلك الحساسية النابضة الخالصة التي يدل عليها «الوجه» يجردني من استقلالي ويلقي بي في إذلال صادم. فأنا أسير لهذا الآخر الكبير الذي يلقي بالاتهامات دائما، يأخذني وأنا أعزل تماما إلى معنى فيما وراء الوجود. وهذا التجلي للامتناهي؛ إذ هو علامة على ما تستحيل تماما معرفته الذي يضعف سيطرتي على نفسي، يمثل كذلك نذيرا بموتي.
إذا فالصدمة - أي تعرض الإنسان لغيرية مطلقة لا تكاد تطاق، غيرية هي عند لاكان المؤشر على الاضطراب النفسي - تمثل أصل الأخلاق اللاإنساني؛ فالوجود يعني الانفتاح. إن ما يغرق النفس في الذاتية هو ذلك التعرض دون وسيط للآخر الكبير - حدة العواطف غير المحتملة التي ينتجها - وهو ما يتملص من المبادلات غير الشخصية للنظام الرمزي ولا يمر ببوابة الدال. وحيث إن تلك المواجهة هي ما يمثل ميلادي - بصفتي ذاتا - فإن «اختياري» هو إخضاعي كذلك. فالخير سابق على الوجود؛ إذ إننا بالإخلاص للآخر الكبير نصل إلى الوجود الذاتي، وبما أنني لن أقدر على فهم أو معرفة أو استيعاب أو تصور الآخر الكبير، والذي يعني أي منها اختزاله في تماه خيالي مع نفسي، فإن الآخر الكبير يمثل لي غيرية مطلقة؛ غيرية غريبة، مفرطة، غير مشروطة، لا يمكن تمثيلها، فاضحة، لا تقاس، فردية، مستعصية على رغبتي؛ وبذلك فهو يسمو على فرديتي بصفته الإله الذي يعيش بداخلنا معا. في الواقع فإن ليفيناس يحول فعليا اللاعلاقة الأخيرة إلى العلاقة الأولى. وثمة تيار في الأخلاق المعاصرة يرى أن مفهوم الرب لم يعد له مكان ينقل السمو من الرب إلى شخص الآخر الكبير. ويعمق ليفيناس بفعله نفس الشيء لأقصى حد المفارقة المعهودة المتمثلة في أن كل علاقة إنسانية تتطلب بعض الامتزاج غير المقرر بين التآلف والاستقلال، وهو يعمقها لدرجة تقوض كلا الأمرين؛ فالأمر لا يقتصر على عدم وجود أدنى تماه أو أرضية مشتركة بيني وبين الآخر الكبير، بل إن خطابه المدوي كذلك يصادر على استقلالي؛ فيختزلني إلى نوع من العبد الروحي في حضوره المبجل.
لكن رغم أن الآخر الكبير بعيد وعصي على الفهم - لا يرى إلا كما ترى الأنا العليا في صورة واجب مستحيل أو قيد يثقل الكاهل أو اتهام لا سبيل لدفعه - فهو في الوقت نفسه طاغ في حميميته، ونوع من الغيرية بداخل جسدي؛ وبذلك يمثل شيئا يتمتع بطبيعة النظام الواقعي المزدوج؛ فالآخر الكبير قريب وعسير المنال في نفس الوقت، أقرب من أن نتجنبه وأبعد من أن ندركه؛ فهو - إن جاز التعبير - معين عندي تلقائيا في لا تعينه، دونما إخلال بسموه المطلق علي، وظاهره يبرز خفاءه التام. فالآخر الكبير؛ إذ يواجهني بادعاء ملكية وجودي ملكية مطلقة - وهو ادعاء شأنه شأن القانون الأخلاقي الكانطي لا يمكنني تأكيده ولا تجنبه - فهو يجعل موقعي المستقر في النظام الرمزي مضطربا، وينتهك بقوة كلية عالمي النرجسي، فيلقي بي في ظلمات الضياع ويطردني من وطني ويجعلني أتحمل عبء مسئولية لا متناهية نيابة عنه. فالإنسان لا يمكنه أبدا أن يكون على قدم المساواة مع الآخر الكبير الذي يكون من هذا المنطلق في صورة رب لا يمكن استرضاؤه. لا ينظر ليفيناس في هذا الإطار لمفارقة العهد الجديد أن هذا الفرض المريع نوع من الحب؛ الحب الذي برغم استبداديته القاسية يستوعب ضعفنا من جميع نواحيه، ويسعد بنا كما نسعد به تماما. ومثلما لا يطلب المسيح من الآثمين التوبة قبل أن يتمتعوا بصحبته، فكذلك الرب يحب مخلوقاته حبا غير مشروط؛ وهو ما يعني حبهم بكل خطاياهم. وهذا هو ما يراه الملتزمون أخلاقيا، السابقون إلى تطوير أنفسهم، خزيا أكبر من أن يقبل.
تشعر الذات وهي عالقة في هذه المواجهة الأليمة ب «عدم ارتياح في داخلها» وبأنها «مغتربة عن نفسها» وغارقة في الشعور بالذنب الذي لا يغتفر، كما لو كانت ترتدي قميص هرقل السام. وكما هو الحال عند أنصار مذهب الخير، فإن الآخر الكبير يبدأ عملية إخراج النفس من المركز، وإن كانت أكثر رعبا وقابلية للتغير في أعين ليفيناس من أعين القرن الثامن عشر المشتهر بتحضره؛ فالتزام المرء تجاهه يمتد لما وراء المنطقية الحضرية لهيوم وبيرك، نحو هذا العطاء الذاتي غير المحدود الذي تأمر به المسيحية اليهودية. إن وضع الآخر الكبير المطلق ولا محدودية فروضه هما الشيء الصادم؛ فالذات إذ تواجه هذا الحضور المشكل تنقسم في لا تماه مع النفس؛ فتصير بائسة وليس مستقلة، عاجزة على نحو دائم عن التوافق مع نفسها. وكل هذا - كما في مذاهب الأخلاق العاطفية - يحدث في أعماق النفس السابقة على التفكير وعلى التاريخ، السابقة على المعرفة أو الإرادة أو الالتزام أو الوعي أو القرار الحر. فهذا الآخر الكبير أبدي على نحو مزعج، وموجود خارج أي سياق اجتماعي أو تاريخي، ومجرد من أي دلالات ثقافية محددة، وسام فوق كل العوامل الأخلاقية أو النفسية. لا يبدو أن ليفيناس يدرك أن تجريد الذات من سياقها الاجتماعي يجعلها أكثر تجردا لا أكثر قربا؛ وبالتالي أكثر شبها بالذات المتحجرة في عصر النهضة التي يبغضها.
إن تاريخ الأخلاق هو ما يسعى ليفيناس لدراسته؛ هذا الكشف عن الغيرية الأصيلة التي تجري في أعماق تكويننا السابق على الوعي لدرجة أنه لا يمكن اعتبارها حدثا أو تجربة والتي بالتأكيد تتفادى أي شيء مباشر كالتصوير العقلي (وفي الوقت نفسه يرفض ليفيناس الحديث عن العلم الذي من المفترض أن يدرس هذه الغيرية الأصيلة؛ ألا وهو علم التحليل النفسي). وهذه المواجهة الأخلاقية الأولية هي مصدر كل المعرفة والفكر؛ ومن ثم تلوح في صورة أصل الذاتية نفسها. فمن خلالها، تبدأ الحقيقة في التكون؛ فالحقيقة هي التعرض الطائش للفرد للآخر الكبير فيما قبل أي خطاب تأملي. كما أنها منبع الإبستمولوجيا؛ إذ إنه من خلال تعاملاتنا مع الآخرين نؤسس عالما موضوعيا مشتركا. إن الحقيقة الموضوعية للآخر الكبير - وطغيانه الفينومينولوجي البحت على أفق رؤيتي - هي نموذج الموضوعية بصفة عامة.
كذلك فإن الآخر الكبير هو ما يكمن في أصل النفس، والمسئولية عن الآخر الكبير هي شرط للمسئولية عن النفس. فالنفس هي الآخر الكبير وتميزها يرجع إلى تحملها عبء الخطيئة والذنب نيابة عن الآخر الكبير على النحو الفريد الذي لا يطيقه سواك وسواي؛ فمسئوليتي عن هذا الآخر الكبير الفاتن مسئولية أولية، مسئولية سابقة على كل الالتزامات الاجتماعية أو الأخلاقية المحددة، مسئولية سابقة على كل القوانين أو الوصايا الكلية، بل وعلى أي خطاب. في واقع الأمر، إن الآخر الكبير هو من ينشئ اللغة، حيث إن أصل الكلام يكمن في الاستجابة الملفوظة لحضوره المربك. كما أن الآخر الكبير سابق على الحرية؛ حيث إن الحرية ليست مسألة اختيار فردي بل «إلزام من الآخر الكبير» يحكمه أمره المخيف وتفرضه صرخته التي لا يمكن تجاهلها في أعماق النفس. ففي مواجهة مع الآخر الكبير تكتسب حرية النفس معنى من خلال مسئوليتها؛ فالكائن الحر وحده هو من يمكن أن يكون مسئولا؛ وهو ما يعني أنه ليس حرا على الإطلاق بأي معنى للكلمة مألوف في التراث الليبرالي الحديث الذي يحرص ليفيناس عن إبعاد نفسه عنه. ففي وجود الآخر الكبير لا يمكن للمرء أن يقترف فعلا إراديا بلا قيود أو يتخذ قرارا محايدا. إننا نتحدث عن الجبر وليس الاختيار.
إن ما يفرضه الآخر الكبير - مثل ما يفرضه القانون الأخلاقي عند كانط أو الأنا العليا عند فرويد - فرضا لا محدود ومفرطا وغير ملفوظ، ولا يمكن الوفاء به، ويتجاوز كل إدراك. وهكذا الحال بالنسبة للاستجابة التي يستثيرها الآخر الكبير بداخلي؛ إذ يجب أن أعتبر نفسي مسئولا عن كل آخر كبير، بل ومسئولا عن مسئوليتهم، ومسئولا عن موتهم (وليس منشغلا بموتي أنا بالدرجة الأولى، كما عند هايدجر)، ومسئولا عن الجرائم التي يرتكبها في حقهم الأشرار. بل إنني حتى مسئول عن اضطهادهم لي. قد يتساءل المرء عما إذا لم يكن ثمة أثر ما من جنون العظمة العكسي في هذا نكران الذات المفرط؛ إذ يبدو تحمل مسئولية الجميع نوعا من العصاب أكثر منه نظاما أخلاقيا، فأنا متهم ومضطهد بل ومهووس بإلزام الآخر الكبير الذي لا يتزحزح و«منقلب بطنا لظهر» ومحطم معذب ومرتد بسببه إلى فراغ وجودي الصامت. فأنا مجبر - بسماعي نداءه الصامت - على الشك في قيمة وجودي البائس وأتجه لاحتقار النفس وأجرد من أدواتي المتواضعة في نفس اللحظة التي يستدعيني فيها الآخر للفعل الحاسم بالنيابة عنه. فعين الفعل الذي يمثلني باعتباري ذاتا يبعدني عن وجودي. فأنا دائما ما أكون في نطاق الخطأ أمام الآخر الكبير، دائما ما أكون البريء المذنب؛ فالذات تظهر إلى الوجود على هيئة كبش فداء.
إلا أن مسئولية الفرد عن الآخر الكبير لا أصل لها إلا في ذاتها؛ إذ لا يفرضها أي قانون أو عرف أو مجموعة من القيم؛ فهي سابقة على كل هذا. فما هي إلا أمر سام غير معروف - «كن مسئولا!» - يتردد صداه من مصدر لا نعرفه، ويجب علينا الإنصات إليه دون معرفة السبب. فليفيناس شأنه شأن العديد من المفكرين الفرنسيين المعاصرين يجعل من الجهل فضيلة. إلا أن هذا الأمر الغامض هو أيضا أساس ما له دلالة؛ أساس القانون والمعرفة والعدالة والأخلاق والأنطولوجيا والسياسة وما شابه. فهذا «الوجه» - أي الضعف المتألم البحت للآخر - يسبق كل الخطاب الأخلاقي والسياسي؛ ورغم أنه يطرح هذه القضايا أمامنا فيجب ألا تنحرف كثيرا عن أصلها في المواجهة المباشرة. فالنظام الرمزي باختصار أساسه في النظام الواقعي؛ إذ إن البعد الأخلاقي هو نموذج ليفيناس من هذا المفهوم اللاكاني، نموذج تتمتع فيه «العلاقة» مع الآخر بكل سمات القوة الصادمة والاستبداد والاغتراب الذاتي والعناد والاضطراب والتجرد من التاريخ والأبدية والفردانية وعدم الارتباط والاستحالة والهوس والقوة التحولية للأخلاق التي فيما وراء الأخلاق عند جاك لاكان. وكما سنرى لاحقا في مفهوم «الحدث» عند آلان باديو، فإن الآخر الكبير عند ليفيناس كشف لا يمكن توقعه، ينتهك بعنف حدود المعروف والممكن معرفته، وهو خلال ذلك يؤذن بميلاد نوع جديد من الحقيقة في منطقة بعيدة جدا عن الإدراك التقليدي. فإن كان النظام الواقعي يتضمن أيضا مراقصة الموت فإن مبالغات المخاطرة والكشف الذاتي هذه موجودة عند ليفيناس في صورة هجرنا لذاتنا من أجل الآخر «الكاره» الذي يهدد في كل لحظة، مثل الجار العدائي عند فرويد، بتدميرنا بحقده.
في الواقع فإن نظم لاكان الثلاثة جميعا تتداخل في أعمال ليفيناس؛ ففي قلب فكره تكمن العلاقة الفريدة المباشرة غير القابلة للاختزال القائمة على الشفقة والرحمة والمسئولية، في إشارة واضحة في سياقنا إلى النظام الخيالي. صحيح أن مكان الآخر باعتباره هدف الخير قد شغله الآن الجار الغريب المكروه؛ التجلي المريع للنظام الواقعي؛ لكن الوضع المميز للعلاقة المباشرة يظل ثابتا إلى حد كبير؛ فوجه الآخر الكبير ظهور أو تجل «يناديني باسمي» أو «يحييني» أو يستنطقني، كما في نسخة ألتوسير الخيالية من الأيديولوجيا، حتى وإن كان هذا الاستنطاق في حالة ليفيناس يعني تركي معدما وليس مرتاحا في بيئة اجتماعية مألوفة؛ إذ يسعى ليفيناس - مثل أنصار مذهب الخير - إلى تقويض الأخلاق التي تقوم على الأنانية، وإن اختلف كل منهما فيمن يستهدف: فهم يستهدفون هوبز، ويستهدف هو هوسرل. إن التقارب بين الذوات هو محل الجدل هنا؛ «المداعبة» أو «التلامس» أو «التلاصق» شبه الجنسي فيما بينها؛ فالمواجهة التي تتم لا يتوسطها أي محتوى؛ بل إنها ما يصفها ليفيناس بنبرة تحذيرية ب «التواصل الخالص؛ أي تواصل من أجل التواصل».
5
فليس ثمة ما هو مبتذل أو «رمزي» بقدر المحادثة في هذا النطاق المقدس.
يزعم ليفيناس أن «آنية العالم الحسي هي مناسبة للتقارب وليس المعرفة.»
6
فلا ينبغي أن نخلط بين العالم الحسي، أو «القدرة على الحس» كما يسميها ليفيناس أحيانا، وبين شيء أدنى هو نتاج التجربة العملية كما عند هيوم أو سميث. إن «التقارب» شكل من أشكال التواصل بين الناس يعد أكثر قربا وحميمية من أي إدراك، بل وأكثر من أي شعور أو حدس معروف؛ فحضور الآخر يصلني بنفس السرعة وبصورة سابقة على التفكير كما عند هتشسون أو هيوم؛ فهو لا يعتمد على أي فعل أو نية أو مبادرة من طرفي. ولسنا نتحدث هنا عن وساطات النظام الرمزي حيث يتكون الوعي بسبب انعدام الآنية، ويولد من الفجوة بين فعل الإحساس لدى الذات والشيء المحسوس؛ فالذوات والأشياء بالمعنى المألوف ليست متعارضة إطلاقا. فإن كان الآخر الكبير شيئا متعلقا بالمعرفة، فهو شيء خاص بمعرفتي، وهكذا فهو لن يوجد على الإطلاق لأنه عجز عن الإفلات من الأنا المستهلكة لكل شيء.
إلا أن هناك عالما خياليا يخرج تماما من دائرة الإدراك لا يدعمني فيه الآخر الكبير بقدر ما يتفتت؛ فالعلاقة المميزة بين الذات والآخر الكبير تغادر العالم الخيالي لكن لا يغادر أي مما كان فيها من رضا عن النفس وتبادلية عفوية؛ فالانعكاس الذي قد يمتد لما لا نهاية للذوات عند فلاسفة القرن الثامن عشر يوقفه الآن عبء مسئوليتي الذي لا يطاق. يكتب ليفيناس قائلا: «إن الدوامة ... دوامة معاناة الآخر وشفقتي من معاناته وألمه لشفقتي وألمي لألمه، وهكذا تتوقف عندي.»
7
فالتبادلية تتحول إلى عدم تماثل؛ فدائرة المواجهة المباشرة تحتفظ بحميميتها السابقة على التفكير المتسمة برهاب الاحتجاز، لكن الروابط العاطفية المتدفقة بين الذات والآخر تنقطع لدرجة تجعل الآخر الكبير يتراجع هو وهالة النظام الواقعي المهيبة إلى منطقة تتجاوز الإنسانية الطبيعية أو العلاقات المعروفة. إن كان العالم الخيالي مجالا للتلقائية فإن المواجهة عند ليفيناس تشرد الذات وتزعجها فتلقي بتلقائية النفس بعنف في غيوم الشك. ويصر ليفيناس على أن الآخر الكبير ليس أنا بأي حال وأننا لا نتشارك الوجود. إن ما يربط كل منا بالآخر، إن جاز التعبير، هو اختلافنا؛ إن الحاجز الذي لا يمكن عبوره بين نفسي والآخر الكبير، الاختلال غير المحدود للعلاقة أو اللاعلاقة بيننا، هو الذي يشكل ماهيتي؛ فالرغبة هي رغبة الآخر الكبير تماما.
لكن أيا يكن الآخر الكبير هذا، فهو ليس مرضيا أو مرغوبا بالمعنى التقليدي. إن الاختلاف والغيرية المؤلمتين الخالصتين وليس الأنا البديلة المبهجة للنظام الخيالي مربط الفرس هنا؛ فنحن في عالم السمو اليهودي وليس عالم الحضور القابل للتحديد الإغريقي. ويحتقر ليفيناس بأسلوبه المعتاد المعارض لفكر التنوير مفهوم التماهي؛ لذا فإن فكرة التعاطف مع الآخر الكبير ليست محل نقاش إطلاقا. ومن هذا المنطلق فإن نظامه الأخلاقي يتمثل في الفرضية المضادة للنظام الخيالي. فبينما يعبر وجه الآخر عند فرانسيس هتشسون عن مشاعره، فإن ما يعبر عنه عند ليفيناس هو اللاتناهي؛ فالنظام الخيالي في عمله «الكلية واللانهاية» هو حيث نشعر بالألفة ونعيد اللانفس إلى سيادة التماثل والفردية. وفي هذه الحالة فإن العالم يستسلم لرغبتي ويندمج الآخر في النفس باعتباره مصدرا للمتعة حتى تصبح الغيرية لذة لا تهديدا. هنا إذا يكمن مكافئ ليفيناس لطور المرآة الذي هو بعيد في رأيه عن أن يكون أساسا لنظام أخلاقي صحيح.
يتسم الآخر الكبير عند ليفيناس بشيء من اللاإنسانية المستبدة، حيث يمثل حضوره الجسدي قانونا مخيفا أكثر من كونه أساسا للصداقة. فكأنما لغة العاطفة تستخدم في مجال يتجاوزها بقدر غير محدود. إن كان هذا عالما جسديا فهو عالم جسدي متكلف على نحو مثير للاشمئزاز، وهو بعيد عن مشاعر التعاطف اليومية عند هتشسون وهيوم. فما من تجانس أو دفء هنا، وما من سرور حيوي بوجود الآخر. يذكرنا هذا بتعليق بروس روبنز على فقرة من زيجموند باومان: «إن الجانب الآخر لتقديس باومان للموت في سبيل الآخر الكبير هو الاحتقار المتفاخر للحياة التقليدية وعدم الفهم الأعمى لأي سبب آخر قد تستحق من أجله الحياة أن تعاش.»
8
فنحن لا نتحدث عن التناغم والاتحاد والتعاطف وخلافه، بل عن «علاقة» أو تجل صامت يبدو أنه يسمو تماما فوق هذا الخطاب الأخلاقي التقليدي؛ فنحن باختصار على الجهة المقابلة من مبدأ المتعة. يشير ديفيد وود في عمله «الخطوة المتراجعة» إلى أن علاقة الالتزام غير المتماثلة يمكن الجمع بينها وبين علاقات الصداقة والتعاون. لكن ليس هذا الحال بالأساس كما يبدو عند ليفيناس.
يتسم الآخر الكبير في جانبه اللوام الاتهامي بشيء من القانون الرمزي وكذلك بعض من النظام الواقعي القاسي؛ فهو قانون مثل قانون كانط بلا مضمون أخلاقي ملموس. وهذا يحل إشكالية معينة عند ليفيناس؛ إشكالية يشترك فيها - كما سنرى لاحقا - مع عدد من رفاقه الفرنسيين؛ إذ إن خياله قليلا ما تستحوذ عليه فكرة النظام الرمزي الذي يرمز بدرجة كبيرة لما تسعى المواجهة مع الآخر الكبير لمنعه: الحرية، والتماثل، والاستقلال، والمساواة، والتبادل، والتمثيل، والمشروعية، والاجتماع، والمعيارية، والمفاهيمية، والحساب، والقياس، وقابلية الاستبدال، وغير ذلك. في معظم الأحوال يتسم ليفيناس بأسلوب كيركجارد النبيل في التعامل مع كل هذه الظواهر الرتيبة. لكن إن اختزل النظام الرمزي فيما لا يتعدى أمرا استبداديا لكنه فارغا - إن احتفظنا بمفهوم الواجب الكانطي لكن مع استبعاد الرؤية الملازمة له للناس باعتبارهم أحرارا متساوين قادرين على التبادل - فإن أبغض ما في النظام الرمزي يمكن استبعاده من تاريخ الفلسفة. فيمكننا أن نقول إن تصور ليفيناس عن واجب كانط شأنه شأن تصور جاك دريدا عنه متعلق بالالتزام دون التبادل. ومن بين نتائج هذا التحول هو أن الإلزام الرمزي يبدأ في الاندماج مع الأمر الغامض للنظام الواقعي؛ فبمجرد تجريده من الأساس العقلاني الذي يوفره له كانط، فهو يظهر في صورة غامضة لا أساس لها، وإن كان مطلقا في قوته مع ذلك - تماما لأن المطلق لا يمكن التعبير عنه - بما يتجاوز كل المنطق أو القواعد. إنه إذن عين الفرض الذي يشترطه مفكرو ما بعد البنيوية الذين يريدون الحديث عن الإلزام الأخلاقي مع التمسك بأفكارهم عن الغموض واللاتعين، وكذلك الاحتفاظ بهالة معينة من اللاتناهي.
من المؤكد أن ليفيناس يمتلك مفهومه الخاص عن قابلية الاستبدال؛ إذ يجب علي أن أكون مستعدا لأن أحل محل كل الآخرين لدرجة الموت بدلا منهم، بل إن هذا الحلول محل الآخرين هو ما يمثل ميلاد الذات. إن بوضع نفسي محل الآخر أكون ما أنا عليه؛ فالحرية هي استبدال حريتك بحريتي. لكن علاقة المسئولية هذه تجاه الآخرين لا يمكن عكسها كما هو الحال في النظام التبادلي الرمزي؛ فهؤلاء الآخرون لا يمكنهم الحلول محلي بدورهم؛ حيث إني دائما أكثر مسئولية منهم. وثمة مبالغة غريبة في الزهد هنا؛ حيث يشبه الأمر هنا شخصين يجتهد كل منهما من أجل التفوق على الآخر في الركوع، فاستيعاب موت النفس وإدراك الاستحالة المطلقة لاستبدال النفس يفضيان بدرجة كبيرة إلى الشيء ذاته؛ لذا فإن الآخر لا يمكنه أن يموت من أجلي؛ لكن كذلك لا يمكنني افتراض موت الآخر حتى وإن مت بدلا منه، وهذا أيضا مؤشر على فرديتي التي لا تختزل. في الواقع ليس من الواضح أن منطق «لا يمكنني الموت بدلا من شخص آخر» يختلف جوهريا عن منطق «لا يمكنني النوم بدلا منه» أو «لا يمكنني أن أعزف على آلة نفخ بدلا منه»؛ لكن الموت في نظر ليفيناس يؤذن بانعزال الذات النهائي. ويشير جاك دريدا على نحو مماثل في عمله «هبة الموت» إلى أن الإنسان يمكنه أن يموت لأجل شخص آخر بمعنى أن يحل محله وليس بمعنى أنه يجنبه فناءه. ففعل هذا - كما في عقيدة البعث المسيحية - هو الهبة المطلقة. إذن فالتبادل الرمزي يتراجع أمام فردية النظام الواقعي. فموتي - بحسب كلمات دريدا - لا يمكن أخذه ولا استعارته ولا نقله ولا الوعد به ولا إرساله. إن استحالة الاستبدال المطلقة للموت هي عند كلا المفكرين الحجة النهائية التي تدحض النظام الرمزي. ولا يبدو أنه خطر لهما أن الشيء نفسه ينطبق على طريقة المشي أو نمط الحديث. وهذا يرجع ربما إلى أن موضوع الموت - منذ الكتابات الأولى لهايدجر - قد صار مؤشرا على العمق الفلسفي.
يسري مبدأ الاستبدال عند فلاسفة الأخلاق في القرن الثامن عشر على مستوى الأنا. أما عند ليفيناس فهو يسري على مستوى أعمق بكثير، في مكان يكون فيه المرء غريبا عن نفسه، غير متآلف مع ذاته، كمستأجر ليس كمالك مكان، «مطارد في وطنه» حسب تعبير ليفيناس في عمله «غير الكينونة». فالحقيقة أنني لست مجرد كائن واحد بين الآخرين، وكذلك هم. فأنا لست جزءا من الكلية التي ينتمي إليها الآخرون وهم ليسوا كذلك أيضا من منظورهم. لكن النفس لا تساوي نفسها؛ فهي جزء لا يمثل أي جزء، ونهاية كل نسق أو بنية أو سرد كبير، فالأخلاق من هذا المنطلق هي نهاية الأنطولوجيا؛ فالبشر لا يمكن جمعهم في إطار كلي واحد، والأنطولوجيات التي تسعى لفعل هذا يمكن أن تؤدي بسهولة إلى تعزيز الشمولية السياسية. ومن هذا المنطلق فإن ليفيناس أحد أوائل مفكري ما بعد الحداثة، فحذره المفرط من التماهي والكلية ينبع من تاريخ الوحشية الفاشية والستالينية؛ إذ يرى - شأنه شأن بعض من خلفه من مفكري ما بعد الحداثة - أن ما هو كلي يفضي بالتأكيد إلى معسكرات الاعتقال. ولهذا فهو - مثل دريدا - يعتبر فكرة المجتمع قضية خيالية في جوهرها؛ أي انعكاس تأملي لكل فرد على الآخر في إطار مجموع عضوي وشفاف على نحو مشئوم. ولم يعد من المسموح وجود مفهوم معقد أكثر للرفقة البشرية؛ فعندما يفكر ليفيناس في التضامن يفكر في الفاشية وليس في حركات المقاومة التي حاربت من أجل التغلب عليها. وكما الحال مع دريدا فإن فكر ليفيناس الأخلاقي يمثل من بين عدة أشياء عرضا لحقبة تضرر فيها مفهوم الاجتماع الإنساني بأكمله لدرجة يتعذر بعدها إصلاحه، على يد مناصريه ومعارضيه معا؛ فهو في أشد صوره سلبية يمثل علامة على الضمور التدريجي لفكرة المجتمع؛ فالسياسة هي المشكلة الآن، لا الحل.
إلا أن الفردية الغيورة ليست هي ما وضع حدا للستالينية. ولم تكن الجيوش التي سحقت هتلر مصطبغة بغيرية متسامية. إن ما يمكننا تسميته بوجه عام بأخلاق ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة يعكس من بين ما يعكس نقصا كبيرا في مستوى الشجاعة السياسية عند نخبة فكرية أوروبية ليست فقط في مواجهة القوة الهائلة للرأسمالية العالمية لكنها لا تزال أسيرة فكرة معسكرات الاعتقال وغرف الغاز. ولا ينبغي اعتبار نقص الشجاعة هذا مشابها للإيمان الضعيف للتروتسكيين المنشقين في ظل علو راية اليسار. إن الإيمان قد يكون مهلكا، ولا نحتاج للتذكير بهذا في حقبة تعج بالتعصبات المجنونة المتنوعة؛ فنحن نحتاج لدرجة من اليقين لكي ننجح، لكن الزيادة عن الحد في هذا الإطار قد تكون قاتلة؛ فالبراجماتية الليبرالية المتحفظة مع التشكك الصحي في السرديات الكبرى قد تبدو هي قانون العصر. لكن رغم أن هذه البراجماتية يمكن أن تصارع اللاعقلانية المتحجرة فهي عاجزة عن تغيير الظروف التي أدت إليها. كذلك فإن كان صراع القرن الحادي والعشرين بين الرأسمالية والقرآن (أو قراءة مغرضة لذلك النص) لا يمثل سردية كبيرة، فمن الصعب تحديد ما هو كذلك.
إن حول الفرد القانون الأخلاقي إلى دعوة للآخر الكبير السامي المستغلق، الذي هو مفرد وفريد وليس بعيدا ومجهولا، فيمكنه التمسك بالإلزام الكانطي الغامض مع استرجاعه من النظام الرمزي الذي ينظمه. يوظف ليفيناس لغة الواجب الخاصة بالنظام الرمزي باصطلاحاتها عن الإلزام والفرضية والواجب والذنب والمسئولية وما شابه؛ لكنه يفعل ذلك بأسلوب يقوض أطروحات النظام الرمزي المألوفة كالقانون والخطاب الأخلاقي والعلاقات الاجتماعية والممارسات السياسية الجماعية. وهو في نفس الوقت يتبنى اصطلاحات النظام الخيالي - البشرية، والجسدية، والحياة، والمتعة، والحس، والمعاناة، والألم، والسلبية، وغيرها - بأسلوب يباعد أيضا بينه وبين النظام الرمزي. ويبدو أن ليفيناس - مثل لاكان - يفترض (افتراضا خاطئا كما سنرى) أن الأخلاق تتعلق أساسا بالالتزام؛ لكن طرح هذا الالتزام باعتباره قضية تتعلق بالجسد والعيش، بالنفس والآخر الكبير الذي لا مثيل له، يعني إنقاذ الفكرة مما قد يعتبر الجانب الأقل استساغة والعقلاني الجاف من فكر كانط.
من ناحية، ليس القانون متماهيا مع الآخر الكبير؛ حيث إنه منزل من مكان يتجاوزه ويتجاوزني على نحو لا متناه. ومن ناحية أخرى فإن القانون ليس أقل من الآخر الكبير هذا عينه. ويصير علم الواجب الأخلاقي هو علم الفينومينولوجيا؛ إذ تتجسد رحا القانون الأخلاقي التي لا ترحم في إلزام الآخر الحتمي الذي لا يكاد يطاق. تظل قسوة القانون الأخلاقي الكانطي راسخة؛ لكن انعدام الواقعية الوحشي فيه تخفف من أثره مفردات فينومينولوجية (الانفتاح والغيرية والجسدية وغيرها) تحظى بقبول أكثر في أواخر عصر الحداثة أو بداية عصر ما بعد الحداثة؛ إذ يصير الإحساس وسيلة الإلزام. ويحتفظ القانون بكل تساميه اللاإنساني؛ فهو أمر غير مقيد بقدر قانون كانط؛ لكنه يتجسد الآن في هيئة مخلوق بائس ذي إحساس مثلي. ومن هذا المنطلق يمكننا القول إن القانون الأخلاقي في نفس الوقت يعود إلى النظام الخيالي ويتحول نحو النظام الواقعي. فكأنما لو أن الأنا البديلة المألوفة في النظام الخيالي، بمجرد أن تقترن بالأمر المهيب للنظام الرمزي، تتحول إلى الذات المفردة الغامضة للنظام الواقعي.
ومن هذا المنطلق أيضا يمكن للعلاقة الهشة بين القانون والحب أن تحسم؛ إذ إن الآخر الكبير باعتباره موضع حب الإنسان يتسم بقوة الفرمان المطلقة مثلما تتسم استجابة الإنسان له بوجوب يليق بالقانون. ويقطع ليفيناس على طريقته اليهودية العلاقة العاطفية بين المحبة والحب؛ وهو ما يعني عنده قطع الرابط بين الحب والشيء المحبوب، فنحن نشعر بالآخر الكبير من خلال العاطفة، من خلال خفقان قلبنا أو القشعريرة التي تسري داخلنا؛ لكن يجب التفريق بين هذا وبين العاطفة العادية؛ فالحب الذي يتحدث عنه ليفيناس موقعه في النظام الواقعي، بعيد تماما عن مفهوم التعاطف اللطيف عند آدم سميث؛ فالأخلاق هي ما يؤذي. إن كانت العلاقة مع الآخر الكبير تتسم بالقرب الذي في النظام الخيالي فإن الآخر الكبير المقصود ليس الرفيق العزيز الذي تحدث عنه سميث أو هيوم. بل هو - بكلمات ليفيناس - أي شخص «يصادفنا»؛ وبالتالي فالاحتمال دائما أنه غريب معاد. إلا أنه كما الحال عند فلاسفة الأخلاق في القرن الثامن عشر ينبغي رسم وجه لهذا الآخر الكبير، غريبا كان أم لا. لا يؤيد ليفيناس خلال حديثه عن الآخر الكبير نظاما أخلاقيا قائما على المجهولية، وهو تعبير سيرى ليفيناس بلا شك أنه متناقض؛ فالغرباء «القريبون» لا البعيدون أو المتصورون تصورا مجردا هم من يستحقون استجابتنا؛ فعلاقاتنا المجهولة مع الآخرين في معظم الأحوال تتولاها السياسة لا الأخلاق.
ثمة تداعيات سلبية وأخرى إيجابية في هذه القطيعة مع النظام الخيالي؛ فهي من الناحية السلبية تمثل قطيعة مع الفضائل اليومية للحب والخير والعشرة والمساواة والمشاركة والحميمية المسلم بها وسرور بالتماثل وبالاختلاف، وهي اللعنة التي ساهم فكر ليفيناس ومفهوم الحس فيما بعد الحداثة في صنعها؛ فالحياة الجيدة تتضمن الاستمتاع برفقة من هم مثلنا طالما أن ذلك لا يؤذي المستبعدين؛ فالرواقيون والعقلانيون المتزمتون وحدهم من يصرون على أن مشاعرنا نحو القريبين منا يجب ألا تختلف أدنى اختلاف عن موقفنا من الغرباء. إلا أن ليفيناس قلق جدا من تحويل الآخر الكبير إلى «أنا» بديلة خيالية تقر هذه الروابط التقليدية؛ إذ يعلن أن الفلسفة التقليدية برمتها تختزل الغيرية في التماثل، وهو ادعاء مفرط في زعم التشابه، إن وجد. فالذات عند ليفيناس قد يبلغ بها الأمر أن تشنق من أجلك لكنها من غير المحتمل أن تكون رفيقا لك مفعما بالحياة في حانة مثلا. وهي كذلك ليست مستشارا موثوقا به في مسائل تشريعات الهجرة مثلا أو حقوق الحيوان أو المسائل المادية التي يترفع عنها فكره؛ فهذه مجرد شئون أخلاقية تناسب الكاهن لا الفيلسوف. وليس من الواضح كيف يمكن للإنسان أن ينتقل من الانفتاح اللانهائي على الآخر إلى مسألة التهرب من الضرائب. وبالنسبة لآخرين كثر (الآسيويين على سبيل المثال أو العرب) فإن هذا المفكر المتمحور فكره حول أوروبا يكشف عن مزيج من النفور والكراهية تجاه الآخرين.
تعد الأخلاق بصفة عامة هي علم الفضيلة؛ وهي بالتالي تقف على بعد خطوة من السلوك الفعلي؛ لكن الفلسفة الأخلاقية لليفيناس يراد لها أن تكون نوعا من الأخلاق الفوقية؛ أي نظرا في ظروف إمكان وجود الأخلاق في حد ذاتها؛ وهي بالتالي تقف على بعد خطوتين من السلوك العملي، بل وقد نخاطر بالقول إنها قضية اللاوعي الأخلاقي برغم شك ليفيناس في فرويد المعارض للمذهب الإنساني. ولا ينبغي الخلط بين الفضيلة العادية وسمو الحياة الأخلاقية التي تخلو بدورها من أي محتوى محدد. إلا أنه كلما زاد الفراغ الغامض للأمر الأخلاقي «كن مسئولا بلا حدود!» زاد الغموض المربك الناتج عنه، وكذلك زادت سلطويته الجوفاء. فعندما يتواضع ليفيناس وينزل لدائرة الفضيلة الدنيوية فإن أحكامه ليست دائما جديرة تماما بالثقة؛ فالوصية القائلة: «لا تقتلني!» هي في رأيه ما يتوسل به وجه الآخر الكبير؛ إلا أن القتل - كما يراه الأكويني - قد لا يقتصر على كونه مباحا بل قد يكون إلزاميا. فماذا لو كان «الوجه» الذي أمامك وجه شخص مختل عقليا يمسك ببندقية آلية موجهة لفصل في مدرسة أطفال؟ يمتلك ليفيناس رؤية راسخة للأخلاق؛ حيث يسمع نداء اللاتناهي من المحرومين والمعدمين؛ إلا أن أسلوب تفكيره الذي يصيغ به رؤيته لا يؤدي إلا إلى تجريدها. والمحرومون عند هذا المناصر للصهيونية على سبيل المثال ليسوا الفلسطينيين بالتأكيد؛ فهو وإن كان يطالب الإنسان بالتخلي عن ذرائعه الاستبدادية، لا يوجه نفس المطلب لدولة إسرائيل. ومن جانب ما، فإن تعليق المظهر الفعلي على الوجه أو منح درجة من التحديد لمطلبه يعني تقليص سلطته المطلقة؛ فليفيناس شأنه شأن هايدجر يودع ما هو عادي عمقا يعززه ويضعفه في آن واحد؛ فهو - إن جاز التعبير - مفكر عميق أكثر من اللازم.
وعلى أي حال، فمن غير الواضح إطلاقا أن كل القضايا الأخلاقية يمكن اختزالها في تفضيل الغيرية على التماهي؛ فهذا الاتجاه المعارض للاختزالية هو نفسه اختزالي؛ فالحفاظ على كوكب الأرض أو الحملات المضادة للفساد السياسي أو منع التجارة في السوق السوداء أو الإعلان الكاذب لا يمكن بسهولة اختزالها في توقير الآخر الكبير. فليفيناس بلا شك يعارض الكذب بصفته انتهاكا لثقة الآخر الكبير، أما توما الأكويني فهو ضده لأنه تقليل من قيمة وسيلة التبادل في النظام الرمزي؛ فإن احترم الرجال غيرية النساء، فهل تظل هناك ضرورة للمساواة في الأجور فيما بينهما؟ وكيف يمكن للأخيرة أن تنتج عن الأولى؟ وماذا إن كان الآخر الكبير معدما لأننا لسنا كذلك؟ ماذا لو كانت هذه - أي حالة الاستغلال - هي ما تمثل أهم علاقة أخلاقية بيننا؟ فهل يخبرنا علم الفينومينولوجيا وحده بهذه الحقيقة؟
على أي حال أليس الانفتاح على الغيرية شرطا للأخلاق بدلا من أن يكون شيئا في ذاته؟ ألن يتضح هذا أكثر إن انطلق الفرد على الطريقة الأرسطية من افتراض أن الأخلاق ممارسة وليست حالة، فضلا عن أن تكون حالة فيما وراء الوجود؟ وماذا يعني الانفتاح على غيرية جوزيف ستالين أو روبرت مردوخ؟ أليس مفهوم الانفتاح المطلق - والغيرية المطلقة والمسئولية المطلقة - سخافة منطقية؟ يؤكد جاك دريدا أنه حيثما كانت الغيرية المطلقة، كان الرب، وهو ما يبدو طريقة مناسبة بالدرجة الكافية لبيان عدم وجوده؛ فالغيرية ليست معطى أوليا؛ فهي تتكون من خلال تعاملات بعضنا مع بعض؛ وبالتالي فهي ملازمة للتماهي والتبادل. فالتعامل البشري يشمل التماهي كما يشمل الاختلاف؛ فمفهوم التواصل هو نهاية كل من التماهي المطلق والغيرية المطلقة؛ فصور الغيرية، كالإبريق مثلا الذي لا يمكنه إجراء حوار مع البشر إلا في الحكايات الخيالية، ليست أبدا من نفس نوع غيرية البشر الآخرين. فحبات الخوخ تختلف في تفردها عن تفرد الأشخاص. ولاحترام غيرية الآخر، يجب أن أدرك أنني في حضرة استقلالية بشرية على وجه التحديد، وليس مثلا استقلالية أوراق الأشجار أو أجهزة الكمبيوتر؛ ولا يمكنني أن أعرف هذا من دون إشارة ضمنية للإنسانية المشتركة.
كذلك فإن المسئولية المطلقة هي في الحقيقة مثال لمفهوم «اللاتناهي الزائف» عند هيجل. فمن السخف القول مثلا إنني مسئول مسئولية مطلقة عن الشرطة السرية التي تعذبني. أما بخصوص الانفتاح والتقبل، أليس من الواجب أن تحكمه سرا بالفعل معايير أخلاقية منظمة إن أردنا التمييز بين الانفتاح على الشخص المعدم الذي يتسول منا من أجل الحصول على الطعام وبين الانفتاح على من يهربون المخدرات إلى أطفال المدارس؟ لا شك أن علينا احترام الوجود المستقل لهؤلاء المهربين وأن نشعر بالصدمة والاشمئزاز نتيجة وجودهم المتعالي؛ لكن الأخلاق تعني أن نفعل ذلك مع منعهم مما يفعلون وليس في إطار إحساس سام باختلافهم؛ فإياجو يتقبل عطيل؛ لكن هذه الصورة من الحساسية المفرطة تعرف بالكراهية الحاقدة؛ فالانفتاح كالإخلاص شرط لا غنى عنه لا يعد شيئا في ذاته. فبالنظر المجرد إليه في ذاته نرى أنه أجوف على نحو مبهم كما الأمر المطلق عند كانط. فالوصية المسيحية اليهودية هي حب الجار بما فيه من غيرية، وهو ما يعني حبه «في النظام الواقعي» وليس حب غيريته.
يتمكن فكر ليفيناس الأخلاقي أحيانا من إخفاء تلك الحقيقة؛ حيث إنه يركز على علاقة الإنسان الإيثارية مع الآخر الكبير؛ وهو يفعل ذلك لأن النظر إلى الآخر الكبير من منظور النفس يبدو تكرارا لخطيئة غربية معتادة. فالنفس والآخر الكبير - كما رأينا - من المفترض أنهما غير متناسبين، بمعنى أنه رغم أنني قد أحل محلك فلا يمكنك أن تفعل نفس الشيء معي. لكن هذا بالطبع يصح من الناحية الفينومينولوجية فقط. أما من منظور ما يسميه ليفيناس «الطرف الثالث» أو النظام الرمزي ، فمن الواضح أن الآخر الكبير يتحمل تجاهي نفس المسئولية التي أتحملها تجاهه، وهي حقيقة يدركها ليفيناس بطبيعة الحال. إذا فهو يقدم لنا نموذجا معدلا من فكر سبينوزا؛ فنحن في نظر سبينوزا - كما رأينا - موجودون من الناحية الفينومينولوجية كما لو كان العالم يتمحور حولنا في الوقت الذي نعي من الناحية النظرية أن هذا التمركز حول الذات؛ حيث إنه موجود عند كل الناس، يناقض نفسه. أما ليفيناس فيرى أن الحياة السليمة أخلاقيا تعني العيش الذي لا يتمحور حول الذات، بإدراك أنني من بين كل الناس الأكثر بؤسا، مع الوضع في الاعتبار أن هذا من الناحية النظرية وهم بالضرورة. إنه وهم لأنه إن جرى تعميمه على كل الناس - كما يجب أن يعمم - فهو يبطل. فما هو حقيقي عندي من الناحية الفينومينولوجية حقيقي فعلا لكنه زيف عند الإغريق وليس الحقيقة التي توجد في الفلسفة. إن ما يبينه علم الأخلاق هو ما لا يؤمل من الأنطولوجيا أن تدركه؛ فالأخيرة تعنى بما نشترك فيه بينما يعنى الأول يما يندرج في نطاق الفردية. لكن ماذا لو لم يكن علم الأخلاق والأنطولوجيا متعارضين لهذا الحد؟ ماذا لو كان البؤس غير المحدود هو ما نتشاركه؟ إن كانت نظرة الآخر الكبير لي (باعتباري منبوذا ومصدوما وأسيرا وغير ذلك) مثل نظرتي إليه، إذا فاللاعلاقة بيننا - إن جاز التعبير - تصبح متماثلة؛ فالمساواة والتماثل إذن لا يستبعدهما بسرعة الآخر الكبير الملح. إن أرضية صدمتنا المشتركة - أي نطاق النظام الواقعي المشترك - هي التي تصير فيها المواجهة الحرة العادلة المرضية بيننا ممكنة.
والمفارقة الفينومينولوجية هي أنني لا يسعني معرفة درجة الغيرية إلا بقدر ما أشعر بها في نبضاتي؛ وبذلك أخاطر بضياعها من خلال هذا الفعل. وهكذا هناك خطر أن يوجد تناقض بين نهج ليفيناس الفينومينولوجي وعقيدته الأخلاقية. إلا أنه هو نفسه يزعم أن هذا لن يؤدي بنا بالضرورة إلى الدخول في مأزق أنوي كالذي يواجهه أحد أتباع هوسرل؛ ليس فقط لأن الآخر الكبير موجود أمامي على مستوى أعمق بكثير من المستوى الأنوي (بل أعمق بكثير من مجرد «الوجود»)، لكن لأن ما تكشفه فينومينولوجيا الآخر الكبير هو أن فرديتي الثمينة ما هي إلا ارتباط هش بالغيرية. فمعنى الحياة بكل جوانبه يتجاوزني؛ وبالتالي تهذب الأنا القلقة على ذاتها وينقذها الآخر الكبير من أوهامها النرجسية. لكن هذا كله يبقى في إطار علاقة فينومينولوجية محددة مع الآخر الكبير، وتتقيد تأملات ليفيناس الأخلاقية بهذه الحقيقة؛ فبالخروج من هذا الإطار الفينومينولوجي - الذي يرى فيه الآخر الكبير دائما على أنه أعلى مني - يمكنني أن أدرك أنه في الحقيقة ليس إلا صورة من الخضوع لي، الممتزجة بالشعور بالذنب، مثلما أنا خاضع له. فإن كان هذا هو الحال إذا فإن هذه الغيرية أو الخدمة المتبادلة، إن تغير شكلها بطريقة ملائمة، قد تمهد الطريق نحو علاقة لها شكل مختلف تماما؛ علاقة يتحول فيها الاعتماد المشترك إلى شرط للحرية المشتركة، ويصير فيها العطاء الذاتي مصدر الرضا الذاتي. وتلك ستكون، من بين أشياء أخرى، إحدى وسائل الاتفاق على التحول من النظام الأخلاقي إلى النظام السياسي، بحسب تعبير ليفيناس نفسه. وبما أن «القانون» الذي يواجهه الفرد في هذه الحالة لم يعد «أنا عليا» مستبدة، بل قانون رضا الإنسان برضا الآخر ومن خلال رضائه؛ فالنتيجة ستكون التخفيف من الذنب الذي يكمن بنظر ليفيناس في جوهر النظام الأخلاقي. لكن يمكننا الزعم أن الفضيلة الحقيقية هي بنحو أو آخر نقيض الذنب؛ لدرجة أن أي نظرية أخلاقية - كنظرية ليفيناس أو دريدا التي يؤدي فيهما الشعور بالذنب دورا محوريا؛ فضلا عن أن يكون مفهوم الازدهار الإنساني فيها غريبا بصورة كبيرة - هي نظرية بها خلل شديد. فلا يشعر ليفيناس بالذنب في حضور الآخر الكبير فحسب، بل يشعر أيضا به تجاه أفكار السعادة والحرية والإشباع والرضا الذاتي. ومن الصعب أن نرى كيف لشعوره هذا بالذنب تجاه هذه المفاهيم - فضلا عن الكراهية تجاهها في بعض الأحيان - أن يخدم الآخر الكبير فعلا؛ فمصلحة الآخر الكبير ليست في تمزق الذات.
يناصر فلاسفة الأخلاق في القرن الثامن عشر الذين تناولناهم وجود تبادل للتعاطف مع الآخرين، لكنه تبادل يتمتع ربما بسلاسة مريبة؛ فيبدو هذا النوع من التعاطف على درجة من التلقائية والدفء أكبر من أن يكون تعاطفا أخلاقيا كاملا. أما كانط وليفيناس في المقابل فهما منكبان على إخضاع الناس للقانون الأخلاقي أو الآخر الكبير. من وجهة نظر مسيحية يهودية، فإن كلا الاتجاهين في الفكر الأخلاقي - اتجاه التعاطف واتجاه التضحية - يشوههما انفصال كل منهما عن الآخر؛ فمناصرو الرضا الذاتي يعجزون بصفة عامة عن فهم ما سيترتب عليه فعليا عدم تقييد الذات المؤلم، وخاصة إن كان ذلك متاحا من الناحية السياسية للجميع. أما مؤيدو اتجاه التضحية من جانبهم، فيبدو أنهم لا يرون أن نكران الذات هذا إذا لم يكن باسم حياة أكثر سعة من جميع النواحي، فإنه لن يتعدى كونه إلزاما رهيبا؛ فالتضحية مسار ثوري من المظلومية إلى السلطة، وهو انتقال عنيف من البؤس إلى الثراء. وهي ليست هدفا في ذاتها، لكنها للأسف قد تكون شرطا مسبقا أساسيا لما قد يبدو نقيضا لها للوهلة الأولى؛ وهي أخلاق المتعة، والرخاء، والرضا الذاتي بخدمة الآخرين. وهذا شيء باعث على الأسى.
إن اللامتناهي يتجسد عند ليفيناس في البشر؛ إذ إن البشرية تعني أن يبدي الفرد غيرية مطلقة لا يمكن قياسها كما هو حال اللاتناهي ذاته. وهنا تكمن مفارقة من نوع خاص؛ فالفناء يعني أن تكون متناهيا؛ لكنه يعني أيضا إدراك التناهي الذي يرمز له موت الفرد؛ ومن ثم (بما أنه لا يمكن لأحد أن يموت بدلا مني) إدراك التفرد الذي لا يضاهى. لكن هذا التفرد - إذ إنه لا يعوض ولا يقاس ولا يستنسخ - يمكن اعتباره نوعا من اللاتناهي؛ فليفيناس مثل كيركجارد تستولي عليه حقيقة تربك العقل - حقيقة هامة وتافهة معا - هي أن الفرد هو نفسه وليس شخصا آخر إلى الأبد. لذا فالتناهي - للمفارقة - يغذي الوعي بنقيضه، مثلما يفعل في نظرية السمو الجمالية عند كانط. لكن هذا ليس لا تناهيا يتجسد بنظر ليفيناس في التاريخ أو السياسة أو الطبيعة أو علم الأحياء أو القضايا الأخلاقية العادية؛ باختصار، في الحياة اليومية التي يكن تجاهها - شأنه شأن عدد من أقرانه الفلاسفة الغالين - كراهية شديدة. إن السمو لا ينبغي أن تفسده المحايثة؛ فهو لا يختزل في الحضور؛ وهو بالتالي غير متجسد، إلا في وجه الآخر الكبير غير القابل للتمثيل. وقد يتيح الآخر الكبير - الذي هو سمو خالص - سبيلا إلى الخلاص؛ لكن المدينة، بأشكال الحياة فيها المجردة المجهولة، ليست مؤهلة لمثل هذه المهمة. قد لا يكون ثمة أي خلاص مؤسسي ولا سياسة تحولية على نحو جذري. فإن تركت السياسة لحالها - كما يقول ليفيناس - فذلك سيعرضنا لخطر الطغيان؛ فثمة مشكلة بعبارة أخرى بخصوص الشخص المجهول لنا، بقدر ما هو الحال عند هيوم وسميث؛ فبعد رحلتنا في النظام الرمزي يبدو أننا نعود لنفس النقطة من جديد، وإن كان ما يقاوم مجهولية النظام الرمزي لم يعد هو النظام الخيالي، بل النظام الواقعي. فكأنما أدار ليفيناس ظهره للنظام الخيالي الذي لا يحتفظ منه إلا بالقشرة الخارجية؛ لكنه بذلك يتجاوز النظام الرمزي ويتجه مباشرة إلى النظام الواقعي. من المؤكد أن ليفيناس قادر على التعامل مع الغريب «القريب»؛ وهو أي عضو في النظام الرمزي يتصادف في اللحظة الراهنة أن يشغل موقع الجار. وتخلط علاقة الفرد بهذا الشخص بين عناصر من النظام الخيالي والنظام الواقعي الأول؛ لأن القضية هنا تتعلق بالتعاطف الجسدي مع شخص قريب مني فعليا. والثاني؛ لأن هذا الجار، وإن تصادف أنه ابنتك أو أختك، فهو قناع مبهم للاتناهي ولا يمكن التعامل معه بصورة سليمة إلا على هذه الخلفية الواضحة. والشيء الأصعب في أخلاق حميمية لهذه الدرجة هو فهم مجال النظام الرمزي في حد ذاته، والذي في خطر أن يحاصر ويطحن بين النظامين الآخرين. لكننا سنرى بعد قليل أن ليفيناس مدرك تماما لهذه الإشكالية، وهي لا تختلف كثيرا عن إشكالية السياسة، وسيسعى لمواجهتها دون أن يفقد سيطرته على نموذجه المتفرد جدا من الفكر الأخلاقي.
وبرغم ما في خطاب ليفيناس الأخلاقي من شهوانية، فهو يتسم بحدة زائدة وغموض مبالغ فيه؛ فأي مسيحي أو يهودي سيصر بلا شك على أنه يمتلك إحساسا مهيبا بسمو الرب، لكنه لنفس هذا السبب لا يدرك كيف أن هذا اللغز الذي لا يوصف لا يقتصر في تجسده على غيرية الآخر الكبير، بل في توفره المعتاد، في رفقته وألفته؛ فالآخر الكبير عند ليفيناس - بلغة بيرك - سام أكثر منه جميل. إن هذه الرؤية الأخلاقية بعيدة كل البعد عن المفهوم المسيحي القائل إن الناس قد دعوا من خلال بشرية المسيح إلى المشاركة في صداقة الرب، وليس مجرد الشعور بوجوده الخارق في الآخر الكبير مثل جرح مؤلم أو الشعور بالذنب عند الاستيقاظ. فالمسئولية الأخلاقية عند ليفيناس ليست في واقع الأمر جزءا من العالم المرئي، وإن كان هذا هو المكان الذي يجب أن تتجلى فيه؛ فهو إذن يواجه شيئا من الصعوبة التي يواجهها كانط في شرح كيفية تحويل روح الأخلاق إلى صورة مادية. فهناك كلية الأشياء المتعينة، وهناك - كما في فكر آلان باديو - دائرة منفصلة تماما من اللاتناهي تتقاطع معها بطريقة عنيفة، لكن من الصعب معرفة كيف يمكن التوفيق بينهما.
كيف إذا نواجه مشكلة المجهولين بالنسبة لنا؛ أي الذين يقعون خارج دائرة النفس والآخر الكبير الغامضة؟ إن كانت هذه قضية حيوية كما هي عند مناصري مذهب الخير؛ فذلك لأنها تثير قضية السياسة، أي كيف للأخلاق أن تؤثر في كل القضايا التي تتجاوز نطاق العلاقات التي بين الأشخاص؟ إن مشكلة ليفيناس هنا هو أنه وضع إطارا للأخلاق بأسلوب دموي غير اجتماعي، بلغة لا تبالي بالمجتمع والتوافق والمساواة والحقوق المدنية والقانون والكلية والتبادلية والسمات الطبيعية وخلافه، لدرجة أنه يجعل من المستحيل تقريبا على نفسه أن يستحضر منها أي أفكار سياسة تتجاوز أبسط أشكال التعددية الليبرالية. إن هذه حقيقة يعترف بها الجميع تقريبا من بين المعلقين على أعماله. فليفيناس - شأنه شأن دريدا - يقر بأن البعد السياسي لا مناص منه؛ لكننا نشعر أحيانا بأنه يفضل زواله. وبصفة عامة، فإن النظام الرمزي يتضح أنه حجر عثرة أمام مزجه الرائع بين النظامين الخيالي والواقعي. وثمة تعارض في كتابات كل من ليفيناس ودريدا بين النبرة الطليعية الجذابة لنظريتهما والشكل المعتاد من التعددية الثقافية الذي يبدو أنه يوجد بهما من الناحية العملية. فليفيناس شأنه شأن ديفيد هيوم يعاني من صعوبات في التعامل مع الغرباء؛ قطعا ليس مع «القريبين» منهم، لكن مع الجموع المجهولة التي يتصادف في أي لحظة ألا تكون كذلك. (تزداد الأمور سوءا عندما تكون هذه الحشود غير أوروبية؛ تأمل نفوره الشديد مما يسميه «الخطر الأصفر» في عمله «التاريخ غير المتوقع»). فإن رأى مناصرو النظام الخيالي أن من الصعب التعامل مع من يتجاوزون دائرتهم السحرية الخاصة، فكذلك يرى مناصرو النظام الواقعي ولكن بصورة مختلفة.
مع ذلك فإن ليفيناس أمامه فرص متعددة للوصول إلى حل؛
9
ففي المواجهة مع الآخر الكبير المتمتع بالأفضلية، يبدو ضمنيا الوجود المحتمل لعدد لا نهائي من الآخرين. من هذا المنطلق فإن ما يسميه ليفيناس بالطرف الثالث يظهر بالفعل في هذا المشهد الأولي، الذي يمكننا أن نسميه لحظة ليفيناس الأوديبية، ممزقا العلاقة بين النفس والآخر. وفي بعض المواضع في كتابات ليفيناس، يبدو أن الطرف الثالث يدخل في مشهد تال للعلاقة المباشرة، وهو وضع يختلف كثيرا عن وضع لاكان. فإن اعتبر لاكان أن الآخر هو الآخر الكبير فذلك لأنه يصر على استحالة وجود علاقة بدون وسيط معه، فلا يوجد اتصال مع الآخر «الفريد» لا يمر بمؤثرات النظام الرمزي في مجملها. إذا فما يسميه ليفيناس ب «الطرف الثالث» موجود في أي مواجهة مباشرة منذ البداية، باعتباره بعدا اغترابيا لهذه العلاقة.
إلا أن وجود الطرف الثالث في مواضع أخرى عند ليفيناس يوجه العلاقة مع الآخر الكبير من البداية. وعندما يكون هذا هو الحال فإن تجلي الوجه يفتح أمامي باب الإنسانية المعوزة بالكامل بجانب خطاب العقل والعدالة العام. إن وجه الآخر الكبير نفسه يضع الفرد في علاقة مع الطرف الثالث، الذي يفتح بدوره مجال القانون والدولة والمؤسسات السياسية. وفي صياغة بديلة، يعلن هذا الوجه وجود «الآخر الكبير للآخر الكبير»؛ أي علاقة أخرى غير متماثلة بين الآخر الكبير وآخره الكبير، بما يوحي بأن المجتمع لم يعد سوى تجمع من النفوس المفردة؛ فالآخر الكبير قد صار الآن وجها لا ينسى بين مجموعة كاملة من الوجوه التي لا تنسى. إلا أن العلاقة المباشرة وجها لوجه تظل أولية، ليس فقط بمعنى أنها - إذ هي سابقة على الحرية والاستقلال واتخاذ القرار وغير ذلك - تسبق زمنيا كل قضايا السياسة والعدالة، بل كذلك لأنها الموضع الذي نتحول لأول مرة إلى النظام الرمزي، عندما نصبح على وعي بوجود شبكة المسئوليات التي تمتد لما وراء الآخر الكبير الذي لا بديل له. فمن خلال وجود الطرف الثالث تبرز العدالة والمعرفة الموضوعية والمساواة والاستقرار الأنطولوجي والتبادلية وباقي هذه المثل الرمزية.
من هذا المنطلق فإن الطريق من الأخلاق إلى السياسة يكمن فيما يمكن أن نسميه المشهد الأولي، وإن كان هذا المشهد يمثل نقدا دائما للبعد السياسي. إن الآخر الكبير في كتاب «الكلية واللاتناهي» هو تجل للمساواة (في صورة الطرف الثالث) بقدر ما هو تجل لعدم التماثل. فالآخر الكبير الفريد يتضمن إمكانية وجود آخرين، يمكنهم أيضا دائما أن يصبحوا آخرين كبارا؛ فالآخرون الكبار إذن يمكن أن يكونوا محل اهتمام للنفس دون أن يدخلوا في علاقة معها؛ وهي حالة تنتمي لما يسميه ليفيناس «التجسد الخارجي للنفس» الذي يعد - من بين عدة أشياء أخرى - مصطلحه الفريد للنظام الرمزي. إن العلاقة المتميزة مع الآخر الكبير الفريد يجب أن «تتوازن» بحيث يتسنى للقانون والعدالة والمساواة والضمير الاجتماعي أن يظهروا؛ فحب المرء لجاره يتضمن بالفعل العدالة؛ حيث إنه يجب أن يكون في إطار علاقات هذا الجار مع الأطراف الثالثة؛ إذ يجب علي ألا أنظر لعلاقتي مع الآخر الكبير وحدها، بل إلى علاقتي مع العلاقات بين الآخرين. فالعدالة إلى هذا الحد «ضرورية»؛ وهو مصطلح قد نظن أنه ينقل بالكاد التعطش اليهودي التقليدي نحو العدالة.
إذا ثمة مسالك تنقلنا من الأخلاق إلى السياسة، ومع ذلك فقضايا العدالة والتحرر والمساواة وغيرها تستمد من المواجهة الأولية مع الآخر الكبير (وهي مواجهة ممنوعة على المعرفة الخارجية) ويجب أن تعود إليها كما يجب على المسافر في الصحراء أن يعود إلى نبع الماء من أجل إعادة التزود الدوري بالماء. فالأخلاق هي الأساس الفينومينولوجي للسياسة، والنبي هو الرمز المسبب للقلق الذي يأخذنا من تنازلات الأخيرة البالية إلى الصفاء القلبي للأولى. يقول ليفيناس في هذا الشأن: «العدالة مستحيلة من دون أن يجد الشخص الذي يبديها أنه قريب لي.»
10
وهذا لا يعني أننا يجب أن نعرف شخصيا من نعدل في تعاملنا معهم، بل يعني أن المسئولية المطلقة تجاه من هو قريب يجب أن تكون المصدر الذي تنبع منه تعاملاتنا الأخلاقية مع الأشخاص الأقل قربا. إلا أن العلاقة بين هاتين الدائرتين تظل محيرة؛ فالأخلاق تحكم السلوك التقليدي لكنها لا يمكن أن تختزل فيه؛ فهي بوصفها التزاما لا متناه تجاه الآخر الكبير تمثل مصدرا للفضيلة العادية في الحياة اليومية، لكنها كذلك تبدو مجالا مختلفا عنها تماما؛ فالعالم الأخلاقي يجب ألا يخلط بينه وبين العالم التقليدي للقواعد والقوانين والالتزامات والأعراف والوصايا المحددة. إلا أن القواعد العامة والمؤسسات (السياسة) يجب بصورة ما أن تستمد من علاقة مفردة لا تقبل الاختزال (الأخلاق)، فما لا يمكن قياسه يجب أن يتمخض عنه ما يمكن قياسه.
لقد رأينا مع ذلك أن ليفيناس شديد التشكك فيما هو نوعي وكلي ومعياري وعرفي وقابل للقياس ومتبادل وما شابه، وهو ما يبدو أنه يخاطر بتقويض عين الأساس الأخلاقي ذاته الذي من المفترض أن تقوم عليه كل هذه المفاهيم؛ فالبعد الأخلاقي في خطر دائم أن يقوضه نظام للقوانين الكلية الذي يحتاجه رغم ذلك؛ فهو يقاوم الفكر المميز للمدينة الذي يعتمد عليه رغم ذلك. فالحاجة للعدالة تنشأ في الدائرة الأخلاقية، لكنها أيضا تنكر، بل وتخذل من قبل طبيعة هذه الدائرة اللاتبادلية. فتنشأ فجوة بين مملكة الأخلاق النزيهة وعالم المصالح الأخلاقية الدنيوية الأقل بريقا بكثير. وينتاب ليفيناس بطريقته الرجعية المعارضة للتنوير الخوف مما يسميه في كتابه «الكلية واللاتناهي» ب «طغيان الكلي واللاشخصي»؛ لكنه يجب أن يعترف مع ذلك بأن «المقارنة بين ما لا يمكن مقارنته» ضرورية إن كان للعدالة أن تزدهر. وهذا يتطلب بدوره، كما يقر، شكلا من أشكال الفكر يقوم على التوليف والتوفيق، وهما عمليتان نظن أن حماسه لهما ضعيف بقدر حماسه للقومية العربية مثلا. ولن يكون من المبالغة القول إن النظام الرمزي هو العدو اللدود لأهم قيم ليفيناس، وإن كان عليه - باعتباره فيلسوفا أخلاقيا - أن يتناوله بالطبع.
إن الأخلاق عند ليفيناس هي علاقة بين الفردية المطلقة لشخص مع تلك الخاصة بشخص آخر؛ أي حب الغريب للغريب، وإن كان الاثنان صديقين حميمين، والذي يكون خارج نطاق المجتمع السياسي كله. فإن كانت الأخلاق تعرف بأنها اللااختزالية المطلقة للآخر في المثيل (وهي أطروحة تثير جدلا شديدا بالتأكيد)، فهي إذن تبتعد عن مقارنات المجال العام. فالإنسان الأخلاقي يختلف عن المواطن، وإن كانا (مثلما هو حال العالمين الظاهري والحقيقي عند كانط) يشغلان نفس الجسد. ورغم أن من الواجب إثبات هاتين الدائرتين، يبدو أن ثمة حالة من الصراع الدائم بينهما؛ فالعالم الأخلاقي «يعيق» عالم السياسة؛ وهو وضع يعني ضمنا أن الاختلاف والغيرية وحس اللاتناهي يجب أن يستجلبوا إلى عالم السياسة من الخارج. وسيبدو أن السياسة ليست قادرة ذاتيا على توليد مثل هذه القيم، برغم الانتشار الغريب للتعددية الثقافية وثقافات الاحترام وعقائد الاختلاف الاجتماعي وغيرها التي تحيط بنا من جميع الجهات. فالأخلاق إذن تقتحم الساحة السياسية، لكنها لا تغيرها بالأساس؛ فعالم السياسة يميل بطبيعته إلى ما هو موحد ومنحط، ويبدو أن ما في وسع معظم النظم الأخلاقية أن تفعله هو أن تهز دعائمه من وقت لآخر. وقد نفرق بين هذا وبين الأخلاق الاشتراكية أو النسوية التي يمثل التغيير السياسي فيها أساس العلاقات الأخلاقية بين الأفراد. إن هذا النوع من السياسة يتضمن تحولا في معنى المجال السياسي نفسه. وليست الأخلاق في إطار هذه النظرة إضافة زائدة للصور القائمة للوجود السياسي؛ فهي - إذ هي أبعد من أن تكون تدخلا خارجيا في نظام المدينة - وسيلة محددة لوصفه.
يصور ليفيناس في أقل أفكاره إلهاما المجتمع السياسي في صورة مجتمع تمزقه حالة حرب دائمة، صراع هوبزي على السلطة بين ذئاب متنافسة؛ فنظام المدينة في أفضل الحالات يصور في شكل دائرة محايدة بدرجة كبيرة، مجال من الأعراف والتبادلات لا غنى عنه لكنه غير تهذيبي. وبينما يتمتع العالم الأخلاقي بالعاطفة المتقلبة لمسرحية بها أحداث درامية مثيرة، فإن عالم السياسة يشبه فيلما وثائقيا رديئا، فالنظرة التي ترى المدينة باعتبارها مكان اغتراب تعكس نظرة اغترابية تجاه السياسة. يتحدث ليفيناس في أحد اللقاءات عن «النظام الاجتماعي السياسي الساعي لتنظيم وتحسين استمرار البشرية»، وهو تعبير بلغة بيروقراطية لا يكاد يمثل وصفا مناسبا للسياسة عند روسو أو بيرك أو ماركس. فإن بدا أن السياسة قد أفرغت من قدر كبير من قيمتها واختزلت في دائرة من القرارات الاعتباطية والآليات الإدارية، فسيمكننا عندها أن نفهم السبب الذي يجعل الأخلاق في حاجة لأن تدخل مجموعة من القيم القائمة بذاتها من فضاء خارجي روحي ما. إذا فكيفية مزج العالمين ستكون مسألة معقدة. لكن ليس من اللازم أن يكون هذا هو الحال إن انطلقنا من نظرة للمستوى السياسي أقل استهجانا. يذكرنا هذا بالماركسيين الكانطيين الجدد في أواخر القرن التاسع عشر الذين اتجهوا إلى نظرية كانط الأخلاقية من أجل إضفاء بعض القيمة على تاريخ جردوه - بمذهبهم الجبري الخاص - من كل غاية أخلاقية. فالمجتمع السياسي من دون أن تعارضه الأخلاق وتقومه وتجدده لا يمكن أن تكون له قيمة راسخة في ذاته؛ فالأخلاق ضرورية لأسباب من بينها أن السياسة مفلسة من الناحية الروحية. أما فكرة أن السياسة قد تشكل بدورها تحديا للأخلاق؛ أي أن صورة ما من التعامل مع الآخرين مثلا قد تتغير بسبب تغيير مؤسسي، فتمر دون أن تسترعي أي انتباه.
ينطبق نفس الأمر - كما سنرى بعد قليل - مع جاك دريدا؛ ففي أعقاب أحداث عام 1968 العنيفة، وفي ظل تعزيز الرأسمالية الغربية لقبضتها واستفاقة قطاعات كاملة من اليسار السياسي من غفلتها بالتبعية، تعرض مفهوم السياسة بصورة متزايدة لنيران الفلسفة، وخاصة في فرنسا التي كانت تنزلق بسرعة نخبتها الفكرية إلى ردود الفعل الحادة. قليل من تلك الأرواح الثائرة تطلعت إلى عهد سابق متحرر من الوهم السياسي؛ تجربة الفاشية والستالينية المريرة التي بدا في ضوئها أن مصير كل المشروعات الجمعية أو المثالية أن تتمخض عن أنظمة استبدادية وحشية. إن ما يدين به جاك دريدا لإيمانويل ليفيناس - وهو رجل قضى بعض الوقت في معسكر عمل نازي - هو ذلك المزيج بين لحظتين تاريخيتين مختلفتين.
ثمة فرق عند ليفيناس بين نطاق الآخر الكبير ومجال السياسة وهو أن العلاقات في إطار الأول غير متماثلة، أما في الثاني فهي متعلقة بالمساواة أو التبادلية. لكن هذا الفارق يحتاج لدراسة، صحيح - كما رأينا - أن الحالة التي يعتبرها ليفيناس نموذجه الأخلاقي الأولي تتضمن لا تماثلا وبغضا؛ حيث إن الآخر الكبير أكثر دناءة وعوزا مني؛ ومن ثم فهو - في حوليات الحكمة اليهودية - أعلى مني أيضا، لكن هذا في الواقع ليس النموذج الأولي للحب البشري، الذي بالمعنى التام له لا يمكن أن يوجد دون مساواة وتبادل. صحيح أن العهد الجديد يأمر بالحب أحادي الجانب للأعداء، مثلما هو صحيح أننا يمكن أن نكن حبا أصيلا لمخلوقات كالأطفال الرضع، فضلا عن الأرانب، التي تعجز عن مبادلتنا عاطفتنا بصورة كاملة. لكن رغم أن الحب أحادي الجانب - الحب الذي يتضمن البذل الذاتي الطائش الذي لا طائل منه، والذي يصمد في وجه المكر والسخرية - أكثر قيمة أخلاقيا من الحب المتبادل؛ لأسباب ليس أقلها أنه لا يضاهى في تكلفته، فهو من ناحية معينة أقل كمالا. فهو أقل كمالا لأنه في هذه الحالة لا يزدهر أحد الطرفين بازدهار الآخر (أو الآخرين) على عكس ما يتضمنه الحب بمعناه الأكمل. إن عدم وجود الحب بمعناه الأكثر تماما إلا بين من هم سواسية، هو السبب - في العقيدة المسيحية - في أن الآب يحب مخلوقاته في صورة، ومن خلال بشرية أخيهم الأكبر الذي هو الابن، الذي من خلاله يسمون من مجرد كونهم مخلوقات إلى الصداقة والتساوي معه. وإلا فإن الرب لا يمكن أن يحبنا إلا كما نحب نحن حيواناتنا الأليفة أو سياراتنا مثلا. وعدم إدراك أن الحب والمساواة متداخلان بهذه الصورة يعني تعزيز الحدود الفاصلة بين الأخلاق والسياسة، أو الحب والعدالة. كما يعني أيضا - كما سنرى لاحقا - إغفال مفهوم الحب السياسي الذي ينهي على نحو مماثل الحواجز التي توجد بين المجالين.
ثمة وجه آخر لا تتعارض فيه المساواة والفردية كما يفترض ليفيناس؛ فالتعامل مع الآخرين بطريقة عادلة لا يعني التعامل معهم بنفس الشكل، وتكون النتيجة النهائية له هو الظلم البين، لكنه يعني تعامل الفرد باهتمام متساو نزيه مع احتياجاتهم المختلفة الفريدة؛ فالتماهي والاختلاف ليسا في هذا الإطار متعارضين. إذا فسيلفيان أجاسنسكي - التي تفرق مثل ليفيناس بين العلاقات بين الكيانات الفردية المطلقة من ناحية والتكافؤات اللاشخصية للنظام الرمزي من ناحية أخرى - مخطئة في زعمها أنه «في حالة الاحترام الأخلاقي أو الحب بدافع الواجب، تنشأ علاقتي من ضرورة لا تراعي فردية الآخر ...»
11
إن افتراض ليفيناس لمفهوم برجوازي للمساواة باعتبارها تكافؤا مجردا هو وحده السبب في أنه أجبر على التخلي عن هذا المفهوم لدائرة السياسة الثانوية، بينما تصير الفردية حصن الأخلاق.
أما عند ماركس - في المقابل - فكل الرجال والنساء يجب أن يمنحوا نفس القدر من الاحترام، لكنه احترام يعني الإقرار بأن احتياجاتهم فريدة ومختلفة. وهذا أحد الأسباب التي يعارض من أجلها فكرة التساوي في الدخل في عمله «نقد برنامج جوتا»؛ فالمساواة المجردة ليست فضيلة اشتراكية، مهما بلغت قيمتها التقدمية في عصرها؛ فالمساواة عند ماركس، وهو مفكر يدين بأفكاره لكل من الخصوصية الرومانسية والعمومية التنويرية، يجب أن تتجسد في الاختلاف بين البشر وليس في القضاء عليه. إن النسخة الماركسية من الاشتراكية ترى هذا ببساطة؛ ترى أن الوسائل المادية قد ترسخت في المجتمع الإنساني - الذي ازدهر في الغالب على حساب حرية الفرد - لكي يعاد اختراعها على مستوى الفرد المتميز المتطور. وهذا هو السبب وراء ترحيب الماركسية بتراث الطبقة الوسطى الليبرالي العظيم، وانتقادها له. ففي ظل نظام ديمقراطي اشتراكي سيتمتع كل الرجال والنساء بحق متساو في المشاركة في تقرير مصير الحياة العامة؛ لكن كيفية ذلك تعتمد على قدراتهم الفردية. •••
ليس لفكر جاك دريدا الأخلاقي أن يشغلنا طويلا؛ فهو في الغالب مجرد حواش مطولة لتأملات ليفيناس الذي أعلن دريدا ذات مرة - في غرابة سببها انتقاداته المتنوعة لأستاذه في الفلسفة - أنه في اتفاق تام معه؛ إذ يكتب دريدا بحماس عن أن ليفيناس قد أحدث ثورة في معنى الأخلاق برمته؛ لكن هذا يغفل حقيقة أن فكر الأخير كان لا يزال يعتمد على مفهوم تقليدي (مثير للريبة بشدة) عن الأخلاق بوصفها التزاما بالأساس، وكذلك حال دريدا نفسه. إن استحواذ كانط على اهتمام الدوائر الأكاديمية الفرنسية يكفي للتأكيد على أن حتى أكثر المفكرين الباريسيين بوهيمية وغرابة يدين بالفضل لمفاهيم الواجب الأخلاقي التي دخلت مقبرة التاريخ على نحو دائم في أماكن أخرى. ويفترض دريدا - مستكملا مسيرة زميله الأكبر دون تردد - أن الأخلاق الصحيحة يجب أن تدور حول فكرة المسئولية. وهو افتراض كان ليفاجئ أرسطو أو هيوم أو بنثام أو نيتشه؛ إذ يظل الفكر الأخلاقي لليفيناس ودريدا أسير قيود علم الواجب الأخلاقي؛ فهو يتمكن من ترجمة خطاب تقليدي للقوانين والحقوق والأفراد إلى خطاب أكثر شاعرية أو فينومينولوجية، خطاب عن المخاطرة والحث والأمر والمغامرة والغيرية والغموض واللاتناهي والاستحالة. ففي فكر ليفيناس ودريدا نجد نسخة روحانية من نظرية كانط الأخلاقية، نسخة تملؤها بصدى شعري ينقصه بشدة بصمة كانط. إن أعمال دريدا الأولى لا تعرف بتناولها للأخلاق؛ لكنه في مقاله المتأخر «قوة القانون» نجد أنه يناقش فكرة أن التفكيكية «هي» العدالة، مثلما يزعم في كتابه «أطياف ماركس» أنه اعتبر التفكيكية صورة متطرفة من الماركسية. ومن الصعب أن نحدد أي المدرستين النظريتين المذكورتين أكثر دهشة من الأطروحة الأخيرة.
يوظف دريدا الأخلاق - شأنه شأن ليفيناس - لمهاجمة العالم الاجتماعي السياسي؛ إذ يكتب: «لا مسئولية من دون انفصام مغاير ومبتكر عن التقاليد أو السلطة أو المعتقد التقليدي أو القواعد أو العقيدة.»
12
فالأخلاق صورة من الطليعة الروحية التي تهاجم بقوة الخمول الراضي للحياة اليومية. ولا يبدو أن هذا ما يراه دريدا؛ حيث إنه أسير التعارض الشديد بين ما هو معارض وما هو معياري، لدرجة أن يرى تقاليد مجددة وتقاليد قمعية، أو معتقدات تنويرية وأخرى بربرية، أو أعرافا ثورية وأخرى كابتة للحرية، أو قواعد وقائية وأخرى بيروقراطية، أو أشكالا حميدة وأخرى خبيثة من السلطة. وثمة الكثير من صور التهميش غير المقبولة، وأشكال الاعتداء الإجرامية، وأساليب المعارضة المظلمة، وأشكال خرق القواعد المؤذية. يمكن للإجماع أن يتطرف، ويمكن لعدم الالتزام أن يكون مفضلا على نحو بغيض؛ فالمجتمع - وهو مفهوم يخبرنا عنه دريدا في كتابه «عن الاسم» أنه طالما رآه مريبا - يمكن أن يكون بيئة داعمة بقدر ما هي خانقة. لكنه يعادي هذا المفهوم بشدة لدرجة أن جيه هيليس ميلر يمكن أن يرى على نحو منصف أن عمل دريدا يتميز ب «الافتراض الأساسي أن كل ذات أو كينونة معزولة تماما عن كل الآخرين.» فحسبما يقتبس دريدا وهو يكتب كما لو في ملف شخصي: «فبين عالمي وعالم الآخرين ... هناك ... انقطاع غير متناسب مع كل محاولات المرور والتجاوز والعبور والاتصال والترجمة والمجاز والنقل. فما من عالم، بل جزر منفصلة فقط.»
13
فنحن لا نتعامل مع الغيرية، بل مع الانعزالية.
أيا كان ما يعتقده دريدا، فما هو أخلاقي ليس على خلاف بطبيعته مع ما هو شائع، أو محدد، أو تقليدي، أو متوافق عليه. فكلمة «عقيدة» تعني ببساطة «ما يدرس»، دون أي إشارة بالضرورة للدوجماتية؛ فالعمل الذي يسجل فيه دريدا هذه الملاحظة المميزة هو عمل عقائدي، ولا ينقص ذلك منه شيء. ولا يمكنك الهروب من الفرضيات المحددة عن طريق استخدام الآلية الأسلوبية المستهلكة المفضلة لدى دريدا؛ الاستفهام البلاغي (ماذا يعني الضحك؟ هل يمكن أن يكون هناك نوع من الضحك الصافي المتحرر عن القانون، والواجب، والمسئولية، والالتزام؟ بل هل حتى هذا السؤال واضح؟ وماذا عن التساؤل الأول؟)
14
وهي آلية تشير لوجهة نظر مميزة بينما تولد إحساسا بالانفتاح المتحمس.
إلا أن العقيدة تنتمي إلى النظام الرمزي، وهذا هو السبب في خجل دريدا منها؛ فالأخلاق عدو لما هو محدد من الناحية المفاهيمية. وتتضمن المسئولية «قرارات مطلقة تتخذ بعيدا عن المعرفة وعن الأعراف المقررة؛ ومن ثم فهي تتخذ في ظل محنة العجز عن اتخاذ القرار.»
15
ليس من الواضح ما إذا كان اتخاذ قرار بإجراء عملية إجهاض ينبغي أن يتم دون معرفة مدى تقدم الحمل؛ لكن من الواضح أن دريدا لا يتحدث عن مثل هذه الأمور الدنيوية الفظة، بل هو يتبنى نظرة غريبة تقول إنه حيث لا يمكن للقرارات أن تختزل في أعراف أو معايير فهي شكل من أشكال «الجنون».
أما من الناحية اللاهوتية، فيعد دريدا شخصا إيمانيا يتمتع بارتياب بروتستانتي في العقلانية؛ فهو يرى على طريقة كيركجارد أن قفزة الإيمان المتضمنة في القرارات الأخلاقية مستقلة عن السبب. لكن القرارات قد تعتمد على أسباب دون أن تختزل فيها. ويشير دريدا إلى أن الخيارات الأخلاقية لا يمكن «ضمانها» من خلال قاعدة ما؛ ولكن هذا لا يعني أنه لا يمكنها الاسترشاد بواحدة منها. فإن كان يشعر بالحاجة إلى فصل هذه القرارات عن السبب، فذلك لأنه يريد أن ينقذها من خزي كونها ليست إلا استنتاجات من مبادئ مسبقة. ولكن هذا يشبه إنقاذ سباح لا يغرق فعليا؛ إذ يمكن للقرارات أن تكون عقلانية دون أن تستمد من المبادئ، مثلما يمكن للكلام أن يكون سليما من الناحية النحوية دون أن يمكن التنبؤ به آليا. لا يبدو أن دريدا يدرك بأن تحديد أسباب لالتزامات الفرد - أسباب لحبه مثلا لسائقه - لا يعني اختزال تلك الالتزامات في هذه الأسباب؛ فقد يشعر شخص ما بالوجاهة الكاملة لأسبابي لكن لا يشعر بالحب تجاه سائقي، فالالتزامات يجب أن تكون بالطبع عقلانية؛ لكن الإصرار على هذا الشرط لا يحل إشكالية لماذا نفي بها؛ حيث إن الحالات غير المتوافقة قد تكون على نفس القدر من العقلانية. إن اهتمامنا بعقلانيتها هو المهم؛ لكن هذا لا يستوي مع اتخاذ قرار من لا شيء.
إذا كان للمرء حقا أن يختار طريقا على نحو مستقل عن كل الأعراف أو المعايير، فمن الصعب أن تعرف من أي وجهة يمكن أن يسمى ذلك قرارا؛ إذ سيكون أشبه بوصف قرقرة البطن بأنه أمر ملكي. إن ما لا يدركه ما يسمى بالقرارية هو أنني لا يمكنني أن أسمي ما أقوم به خيارا إذا لم تكن هناك معايير يمكن من خلالها الاختيار. فالأخلاق، حسبما يزعم دريدا، هي مسألة قرارات مطلقة ضرورية و«مستحيلة» معا، وهو نوع من المصير العنيد الذي - كما عند أوديب - نلام مع ذلك عليه تماما. ولا يسع المرء إلا أن يتنفس الصعداء لأنه لم يعد مؤهلا للانضمام لهيئة المحلفين عندما تنظر قضيته.
تقوم النظرية الأخلاقية لدريدا - شأنها شأن تلك الخاصة بليفيناس - على نحو كبير على الشعور بالذنب، وهو ما قد يعتبر الوجه المقابل للمسئولية. إن مسئوليتي تجاه الآخر يجب أن تكون مطلقة؛ لكن إن كنت مسئولا تجاه الجميع، فكيف لذلك أن يكون؟ إن تبديد فرديتي بالمفهوم الجمعي أو العام يعني التصرف بطريقة غير مسئولة؛ ولكن من دون هذه المفاهيم العامة، كيف يمكنني التصرف بمسئولية تجاه الجميع؟ إن المسئولية كلها مطلقة، وفريدة، واستثنائية، وغير عادية؛ إلا أن أي تجل محدد لها سيمثل حتما خيانة لمسئوليتي تجاه الآخرين. إن هذه - كما سنرى بعد قليل - معضلة زائفة على نحو فاضح، كما أن المسئولية الفعلية يجب أن تتضمن الحساب المنطقي، وهو أحد الجوانب المتعددة في النظام الرمزي التي يراها دريدا مقيتة وحتمية. إن كلمة «الاقتصاد» عنده هي بعبع آخر؛ حيث تشير إلى التبادل المنظم على نحو بائس للسلع أو الواجبات أو الخدمات، وهو تبادل بعيد كل البعد عن جنون العطاء غير المحدود، والمشروع الخطير لالتزام يتجاوز الحدود، والخوف والرجفة من التعرض المطلق للآخر الكبير. ولكي يكون هذا التعرض صادقا، يجب أن يكون من النوع الذي «لا يقدم تفسيرا أو تبريرا إلى شخص ولا إلى الناس ولا إلى المجتمع ولا إلى رفقاء الفرد ولا إلى شخصه هو».
16
فالمسئولية - كما يصر دريدا - موجودة؛ لكننا نفهم من نبرته أنها تخص إلى حد كبير أطباء الأسنان والبقالين؛ إذ لا بد أن نعطي ما لقيصر لقيصر، ونعطي الأشياء المطلقة ما لها. فالمطالبة بالتفسيرات والتبريرات هو شكل من أشكال «العنف»؛ وهو تعبير منمق ما بعد بنيوي مبالغ فيه. هل نفس الشيء ينطبق على تحميل شركات السكك الحديدية المسئولية عن إهمالها المتسبب في الحوادث، أم أننا نتحدث عن مستوى أرقى تماما؟
إن المسئولية، كما يكتب دريدا، «تتطلب من جهة تقديم تفسيرات؛ أي الرد العام عن النفس فيما يتعلق بما هو عام أمام العموم؛ ومن هنا جاءت فكرة الاستبدال، وتتطلب من جهة أخرى التفرد، والفردية المطلقة؛ وبالتالي عدم الاستبدال وعدم التكرار والصمت والسرية».
17
وقد رأينا بالفعل أن هذا الاستقطاب يمكن تفكيكه؛ فالعمومية الحقيقية تنطوي على اهتمام بما هو خاص، وليس غض الطرف عن المطالبات الخاصة في ضوء السعي الحميم نحو العمومية. إن قوة مصطلح «عام» أو «عمومي» لا تظهر هنا إلا لتذكيرنا بأننا نتكلم عن أي خصوصية، مهما كانت. وما من محاولة هنا من جانب دريدا لإيجاد سبيل من الخاص إلى العام كما هو الحال - وإن كان بمشقة وغموض - في كتابات ليفيناس. وكما هو الحال بالنسبة للنطاقين الحقيقي والظاهري عند كانط، يتجاور هذان العالمان وتفصلهما هوة غير قابلة للاتساع. إن دريدا ليس برجل قرارات، والتي يشك - عن غير حق - في أنها دائما ما تكون مسكنة وعضوانية. فالأخلاق والسياسة في صراع دائم، وكلاهما بالتأكيد لا غنى عنه؛ لكن يبدو أن ثمة أشياء كثيرة تضيع فيما بينهما.
إن أخلاق النظام الواقعي تعارض مظاهر العزاء الزائف للنظام الخيالي، وفي نفس الوقت ترفض ضرورات النظام الرمزي. وهي تعارض ما يسميه دريدا دون اكتراث «سلاسة عمل» المجتمع المدني، أو «الرضا التقليدي بخطاباته عن الأخلاق والسياسة والقانون وممارسة الحقوق ...»
18
فهل كل أشكال السياسة والأخلاق إذا تؤدي ببساطة إلى سلاسة الوضع الراهن؟ وهل كل خطابات المجتمع المدني عن السياسة والقانون والأخلاق مرضية تماما؟ ماذا عن الحملات المضادة للحرب والفقر أو القوانين المجرمة لاستغلال الأطفال أو الكفاح من أجل حقوق المهاجرين؟ أين التناقضات في هذا النظام الاجتماعي المتجانس ظاهريا؟ لماذا هذا التأكيد القوي على تجانس الوجود الاجتماعي من قبل داعية الاختلاف؟ إن لدى دريدا الكثير ليقوله عن عنف القانون؛ ولكنه مثل معظم اليساريين التحرريين يسكت عن قدرته على الحماية والرعاية والتثقيف. يتسم التحرر السياسي بإلحاح لا يألفه ليفيناس المحافظ؛ لكن مفهوم اللاتناهي، لا السياسة، هو ما يشعل جذوة خيال دريدا. يتبنى سايمون كريتشلي وجهة نظر مماثلة عندما يكتب عن الأخلاق باعتبارها «سياسة ما ورائية فوضوية»، أو «تشكيك مستمر من القاعدة في أي محاولة لفرض النظام من الرأس ... فالسياسة تجسيد للاختلاف؛ غرس لتعددية فوضوية تشكك في سلطة الدولة وشرعيتها».
19
لكن ماذا لو كانت الدولة المعنية تكافح لتتحرر من الاستعمار عن طريق القوة الثورية؟ وماذا لو كان تيار معين من المعارضة رجعيا؟ أليس من الممكن ألا يوجد ثمة إجماع أصيل؟
إن مقال دريدا «قوة القانون» مثال تقليدي لهذه التحيزات؛ فالقانون عند دريدا متناه ومحدد وسلبي إلى حد كبير، في حين أن العدالة لا متناهية وغير محددة وإيجابية بامتياز. يبدو الأمر وكأن العدالة، التي تعد حجر الأساس الثمين في النظام الرمزي، لا بد من إخراجها من هذا المجال السيئ السمعة إلى حد كبير، وإحاطتها في المقابل بهالة شبه دينية. أما ليفيناس، فهو أكثر التباسا في هذه المسألة؛ إذ نجده حائرا أحيانا بين إدراج العدالة في المجال الأخلاقي وإدراجها في المجال السياسي. إن ما يسترعي اهتمام دريدا ليس الالتزام بالقانون بالمفهوم التقليدي، بل هو نوع من العدالة «لا يتجاوز ويناقض القانون فقط، بل أيضا قد لا يحمل أي صلة به أو تكون صلته به غريبة لدرجة أن يتطلب وجود القانون بقدر ما ينبذه».
20
إن ما يقدره قبل كل شيء هو كل ما هو مراوغ ومتسام ولا متعين، وكلها أمور أكثر بريقا من الأشياء المحددة الرتيبة الموجودة في العالم التقليدي. فالشيء المحدد - كطب الأسنان - في نظر دريدا لا مفر منه، لكنه غير جذاب. وبصورة عامة، فإن ما لا لبس فيه في رأيه لا إلهام منه. إنها عقيدة غريبة في جمودها؛ إذ لا يبدو أن دريدا يقدر أن ثمة عبارات مباشرة جذابة وأخرى متعددة المعنى رتيبة؛ فالتعدديون الحقيقيون يعرفون أننا بحاجة أحيانا إلى أن نتحدث بكل الدقة والتحديد الممكنين، وأحيانا العكس؛ فالتعريفات قد تكون كاشفة وقد تكون (كما يشير فتجنشتاين) مجرد نقل منمق. ورغم كل القوة الهائلة والأصالة اللتين يتميز بهما عمل دريدا (فهو بالتأكيد أحد أشهر فلاسفة القرن العشرين)، فهو بكلمات برنارد ويليامز المفكر الذي «يعتبر عدم اليقين ميزة، وبدلا من تكوين قناعة، يستمتع ... بعدم الحسم المنمق.»
21
وهذا لا يعني أن دريدا لا يمتلك أي قناعات على الإطلاق.
بالنسبة لدريدا، القانون قابل للقياس، في حين أن العدالة غير قابلة للقياس. ولقد صارت نقاط الاختلاف بين الجانبين متوقعة الآن على نحو واضح؛ فالقانون «آلية تشريعية قابلة للتثبيت والقياس، ومنظومة من الأوامر المحددة والمدونة.» وهذا تعريف يتظاهر بالحياد لكنه يكشف عن عداء سري في كلمة من كلماته. أما العدالة، على النقيض، فهي «لا متناهية، وغير قابلة للقياس، وعصية على التطبيق، ولا تتسم بالاتساق، ومتباينة العناصر ومتعددة المستويات».
22
وهي تتخطى القواعد والخطط والحسابات. ومن الواضح بالقدر الكافي أي طرف في هذا المقارنة أكثر جاذبية لدى دريدا، حتى إذا كان هو ذلك الذي ينطوي على نفور من التحيز. وتلا هذه المقارنة محاولة فاترة بعض الشيء من جانب دريدا للإنصاف؛ فالمساواة والحقوق العامة، كما يزعم، لهما نفس أهمية ما هو متباين العناصر وفردي على نحو متفرد. فعلى المرء أن يسلم نفسه إلى «القرار المستحيل» مع «مراعاة» القوانين والقواعد. إن فضل العدالة على القانون لا ينبغي أن يصير ذريعة لتجنب المعارك التشريعية السياسية. ولكن هذا الجهد الساعي لتحقيق التوازن بين الطرفين تقوضه القرارية الأخلاقية عند دريدا التي تبدو أنها تعتبر الخيارات الأخلاقية الحقيقية متجاوزة للقواعد والأسباب. ولو أعطى دريدا ما هو محدد وزنه الحقيقي، فقد يحمل نفسه على الإقرار بأن الخيارات الأخلاقية تظل خيارات حتى عندما تكون مرتبطة بقواعد ومحكومة بقوانين. فاتباع القواعد، كما يشير فتجنشتاين في عمله «تحقيقات فلسفية»، ليس هو نفسه الالتزام بقانون؛ إذ إن تطبيق القواعد في حد ذاته ممارسة إبداعية، بل لن تكون هناك حرية دونه. لذا، فلا حاجة لإنقاذ القرارات من وطأة القواعد في سبيل الحفاظ على حريتها؛ فالقرارات ليست ضربا من الجنون، كما يرى دريدا على ما يبدو، بل هو ضرب من الجنون أن يعتقد ذلك.
ماذا يعني الزعم بأن العدالة لا متناهية؟ ربما هي لا متناهية بمعنى أن الرغبة فيها لا متناهية - وذلك كما رأينا في حالة شايلوك عند شكسبير ومايكل كولهاس عند كلايست - أو بمعنى أنه: حيث إنه لا توجد نهاية ظاهرة للظلم، فلا توجد نهاية للعدالة كذلك. لكن من المناسب أكثر أن تعتبر العدالة متناهية؛ فعطش شايلوك لها قد يكون بلا ارتواء، لكن الشيء الذي تتعلق به رغبته شيء يعتبره ببساطة حقه. إن الحياد هو ما يسعى وراءه؛ فالعدالة - كما الانتقام - قضية رد العين بالعين؛ إذ هي مسألة تقدير المزايا وحساب العوائد، وهي الممارسات التي ليست بأي حال من الأحوال دنيئة أو ضيقة الأفق بطبيعتها، كما قد يعتقد الواقعيون الأخلاقيون؛ إذ لا غضاضة في أن تطلب رد دين جعلك شبه معدم بعد أن ورث مدينك تركة كبيرة. وإذا كانت فكرة العدالة تسبب نوعا من الإشكالية لكل من ليفيناس ودريدا؛ فذلك لأن كليهما (لأسباب ليس أقلها أصولهما اليهودية) شغوفان بها عمليا، إلا أنهما في الوقت نفسه حذران من القانون والتشريع والقواعد والتبادلية، وكلها أشياء يشوهانها ظلما باعتبارها أخلاق المدينة وليس التسامي.
ثمة وجه يتمكن فيه دريدا من أن يجمع بين أمرين مستحيلين في نفس الوقت. فإذا تخلى عن الأخلاق - بمعنى الرضا الرتيب بخطابات تجريم استغلال الأطفال - فهو يفعل ذلك من أجل الأخلاق - بمعنى تحمل المسئولية أمام أوامر النظام الواقعي. وهو، على هذا المحمل، يكرر مفارقة النبي إبراهيم الذي أوشك على ذبح ابنه في كتاب كيركجارد «خوف ورعدة»؛ إذ هو ممزق بين واجبه المطلق تجاه رب يبدو ساديا وحبه لابنه إسحاق. أو هو بتعبير آخر: عالق بين الأخلاق - التي هي مسألة عمومية عند دريدا (وإن لم تكن عند ليفيناس) - وخصوصية الإيمان. يختار النبي إبراهيم، المدفوع بالأمر الإلهي بذبح ابنه، الرب على ما هو عمومي؛ يختار الفردية المطلقة لإيمانه بالرب على القوانين العامة؛ ومن ثم فهو مسئول وغير مسئول على حد سواء؛ فهو يصبو إلى النظام الواقعي، الذي طالما هو أسمى من الأخلاق، بدلا من التزامات النظام الرمزي. يؤكد دريدا على أن «القيم المطلقة للواجب والمسئولية تفترض في الوقت ذاته أن يهجر المرء ويدحض ويتجاوز كل واجب وكل مسئولية وكل قانون إنساني.»
23
لكن تلك الروابط الرمزية يجب أيضا الحفاظ عليها؛ إذ لو لم يحب النبي إبراهيم ابنه حبا جما، لما كان ذبحه يعد بالطبع تضحية. ولا بد له، كما كان، أن يكره إسحاق بقدر ما يحبه، وهو بقتله يضحي بالأخلاق أيضا. لكن هذه أيضا لن تكون تضحية حقيقية إلا مع الإقرار كذلك بقيمة الأخلاق.
لم يكن توجه النبي إبراهيم عاطفيا على وجه التحديد، لكن كان يتمتع بالأمل المطلق. وهو تمييز بين الأمل والتفاؤل أوضحه على نحو مفيد الفيلسوف الأمريكي جوناثان لير؛
24
إذ يرفض النبي إبراهيم التخلي عن رغبته في المستحيل - في رب تتفق أوامره مع فروض النظام الرمزي - في المفارقة غير المتصورة المعروفة باسم «الإيمان»، ولأنه تمسك بعناد بالمستحيل؛ فقد تحقق هذا المستحيل؛ حيث يرجع الرب في أمره وينقذ عبده. إن تقبل النبي إبراهيم لعدم الجدوى الظاهرية لفعله هو ما يحقق له في النهاية ما يريد. فهو، كما يشير كيركجارد، «عظيم بتلك القوة التي لا حول لها ولا قوة.» وكما هو الحال في العديد من الحبكات التراجيدية، سيأتي شيء فجأة من لا شيء.
إن البطل التراجيدي الكلاسيكي في نظر كيركجارد يتحرك في الدائرة الأخلاقية، وهو ما يعني أن مصيره - وإن كان لا يحسد عليه - واضح على الأقل. أما النبي إبراهيم، في المقابل، فيتجاوز وساطات الأخلاق التي تقبل كل الخصوصيات فيها التبادل فيما بينها دون اختلاف؛ ليؤسس علاقة مباشرة مع المطلق، علاقة تذهب به إلى ما وراء حدود الخطاب الأخلاقي والفهم العقلاني. ومن الناحية الجمالية، يمكن للمرء أن يدعي أنه يمثل الرمز الرومانسي أكثر من ممارسته التمثيل الرمزي. إن إبراهيم - باستعداده لنبذ الأوامر الأخلاقية باسم النظام الواقعي - يثبت أنه تحد حي ليس فقط للأعراف التقليدية ولكن لجدلية هيجل؛ فهو يرفع الخصوصي على العمومي، متطلعا إلى اللغز المحير لإرادة يهوه مقابل التجليات الواضحة للنظام الرمزي. في نظر الإيمان، يوجد آخر كبير حتى فيما وراء الآخر الكبير الرمزي. ومن هذا المنطلق، يحاول النبي إبراهيم تحقيق المشروع الأكثر إثارة للرهبة عند كيركجارد: الوجود بصفته فردا. فالأفراد، كما رأينا بالفعل، من هذا المنظور البروتستانتي المتطرف كيانات متفردة تماما، لا يوجد تشابه فيما بينها على الإطلاق؛ وهي بذلك تمثل الدمار المحقق للنظام الرمزي ولأي سياسة عقلانية كذلك. والشيء الذي يظل على حقيقته بصفة خالصة وأبدية لا بد له أن يفلت من قبضة كل هذا.
إن النبي إبراهيم بسلوكه هذا يستبق الدراما المأساوية لصلب المسيح، ففقط إذا كان المسيح يجهل مصيره - وقوبلت دعوته المعذبة للشهامة بالصمت القوي الذي هو الرب - فيمكنه أن يعود ممجدا من بين الأموات. وإلا، سيظل عالقا في منطق العين بالعين أو التبادل الرمزي. هذا العذاب المؤقت في مقابل النعيم السماوي. لكن النبي إبراهيم، بعد أن برهن على إيمانه بالرب الذي يتجاوز كل هذه الموازنات والمعادلات، أرجع مرة أخرى للنظام الرمزي، واجتمع من جديد مع ابنه إسحاق. وهذه علامة على أن قانون الحب البشري هو في الواقع وسيلة حضور الرب في العالم. إن قوانين الأخلاق معلقة لكنها ليست غائبة، وبنية هذه الحكاية ساخرة. إن الحكاية التي تحمل لمسة كيركجارد يخطها قلم أحد أكبر أساتذة السخرية في العصر الحديث؛ إذ لا يمكن أن يتحول الإيمان إلى خطاب أخلاقي دون أن يبقى جزء غير مفهوم، ولكن كذلك لا يمكن للاثنين أن يسكنا عالمين منفصلين تماما. فإن كان الإيمان حماقة عند الحكماء، وضربا من الغموض والسمو لا يقبل حساب العوائد، فهو كذلك متجسد في الحب البشري التقليدي؛ والحب البشري هو ما تذود عنه حكاية إبراهيم في النهاية؛ حيث يعاد بابتهاج الابن إلى الأب.
إن رحمة الرب إذن هي ما ينقذ إسحاق من الهلاك؛ لكن ليس لنا أن نفترض قانعين أن منطق الرب يتشابه مع منطقنا؛ وأنه قد أرسل إلى النبي إبراهيم تذكرة في الوقت المناسب بهذه الحقيقة المزعجة من خلال مطالبته الوحشية له بإنهاء حياة ابنه. أما دريدا - في المقابل - فيسعى لجعل هذه الحكاية في خدمة فكر بروتستانتي متطرف؛ فشخصية الرب في هذه القصة تبدو متقلبة ومتغطرسة، لديها أهواء ونزوات، كنجوم موسيقى الروك المدللين . إن هذا في واقع الأمر هو ما يبغضه بشدة الإنسانوي الليبرالي العادي في هذه الحكاية؛ لكن هذا هو عين ما يراه دريدا جذابا. وبما أن إعجابه بالفضل أكبر من إعجابه بالعقل - أي بما أنه يربط العقل بالواقع السياسي، لا بالتحول السياسي (كما هو الحال مع هيجل) - فهو لا يرى هذه الصورة المتقلبة عن الرب التي تحمل طابع باسكال غير مستساغة بأي حال؛ فالخوف والرعدة ليسا شعورين مكروهين على الإطلاق.
إن الإخلاص للنظام الواقعي (لا يستخدم دريدا هذا المصطلح، لكنه يتحدث عن شهود الرب باعتباره شهودا «يذهل من الرجفة») سوف «يجبر فارس الإيمان عند كيركجارد على أن يقول ويفعل أشياء ستبدو (بل ويجب أن تكون) فظيعة.»
25
من الصعب تحديد ما إذا كان دريدا يعني فعلا ما يقول - أن «على» الإنسان أن يقوم (فعلا) بأشياء فظيعة - أو أنه تنميق بلاغي صارخ آخر من جانبه. على أي حال، فهذا غير منصف لقصة النبي إبراهيم الذي يصوره دريدا على نحو فظيع في موضع معين في صورة «قاتل»، لكنه بالطبع ليس كذلك، فهو لا يسعى لقتل ابنه، ويبدو من قصر النظر بعض الشيء أن يتجاهل دريدا هذه النقطة الحيوية في الحكاية. إن هذا مشابه لافتراض أن شخصية ديدمونة لم تمت وإنما أصيبت ببعض الخدوش الطفيفة. وتقع سيلفيان أجاسنسكي في خطأ مماثل؛ إذ تكتب بصورة متكررة عن «جريمة» النبي إبراهيم. لكن إبراهيم لا يرتكب أي جريمة، إلا إن كان الناظر إليه ينتمي لما يعرف بشرطة الأفكار. وفي النهاية، ما من تعارض بين أمر النظام الواقعي وفروض النظام الرمزي؟ فالرب يختبر ببساطة إيمان عبده. والحكاية محاكاة ساخرة للتهور الخلاق الملازم للإيمان؛ فالقانون الرمزي - الأمر بعدم القتل - «هو نفسه» أمر النظام الواقعي. ما من تعارض على هذا المستوى بين الحلول والسمو؛ فبحسب العقيدة المسيحية اليهودية، إن الرب حاضر عندنا بقدر حضور بعضنا أمام بعض؛ فهو متجسد باللحم والدم، ليس فقط (كما يرى دريدا بأسلوبه الجانسني) باعتباره ذاتا لا حاضرة مستغلقة أبدا تضع منطقا إنسانيا بائسا محلها. فعدم التناقض بين الربوبية والإنسانية يعرف في العقيدة المسيحية بعقيدة التجسد؛ فإن كان الرب فعلا على وجه ما آخر مغايرا تماما، فهو يتجسد أيضا في الجسد المعذب لمجرم سياسي مهان. وهذا الجسد، شأنه شأن أي فارماكوس أو كبش فداء ملوث على نحو رهيب، هو «آخر» أو لا إنساني بدرجة كافية ليكون علامة مناسبة عليه. والخبر الجيد في العهد الجديد هو أن الهلاك على يد الدولة في سبيل المناداة بالحب والعدل هو الحال الذي علينا جميعا أن نصبو إليه؛ فرسالة العهد الجديد هي أنك إن خلوت من الحب، فأنت ميت، وإن ملأك الحب، فسيقتلونك. هذا إذن هو مبتغاك المستحيل ومسكنك الزائف. فهي رسالة مخزية بنفس القدر عند الليبرالي المتحضر، والإنسانوي المناضل والتقدمي البريء.
إن عدم الغموض الكلي للرب نقطة يفهمها ليفيناس جيدا، والذي يرى أن مبلغنا إلى السمو هو وجه الآخر الكبير. أما دريدا - في المقابل - فيبالغ في الصراع بين النظامين الواقعي والرمزي، بين الرب والجار، بين الإيمان الديني والأخلاق الاجتماعية، لدرجة الوصول لطريق مسدود غير معقول. والمغزى من قصة النبي إبراهيم هي أن يهوه يتجلى فعلا في الحب البشري، غير أننا لا ينبغي لنا استغلال هذه الحقيقة بأن نعتبره على نحو وثني صورة مكبرة من أنفسنا؛ فذلك يعني رؤيته بعين النظام الخيالي؛ أي اختزال اللا رب هذا في «أنا» بديلة مواسية، قد نتلاعب بعد ذلك باسمها المحظور لأغراضنا الخاصة. هذا التلاعب، الذي يحول الإيمان إلى أيديولوجيا، يعرف بتاريخ الدين. لذا، فإن الاختلاف المطلق ليهوه يجب التأكيد عليه مع تجليه؛ مع لا وجوده وتساميه على الخبث البشري، مع الطريقة التي يتفادى بها تصوراتنا وأفعالنا المادية باعتباره ناقدا قاسيا لها من خلال ما لديه من حب هائل وغير مشروط. فالرب ليس كائنا أخلاقيا في ذاته وإن كان هو مصدر الأخلاق في الآخرين، فهو ليس شخصا ساميا منزها يمكن استمداد الصفات الأخلاقية منه، وهو لا يمكن أن يكون أساسا لعقيدة عقلانية صرفة مثل فلسفة كانط بكل معقوليتها المدنية المنمقة. كل هذا يدركه دريدا على وجهه الصحيح. لكن يهوه لا يمكن فصله عن الأخلاق الإنسانية في نوبة من التسليم الإيماني أو استراتيجية ما بعد بنيوية تلعب على وتر ما هو جنوني وعنيف وسخيف ولا عقلاني وغير مبرر ومستحيل. إن السياسة في نظر دريدا في نفس الوقت مجال «القرار» ومنطقة الإدارة؛ وهو ما يعني أنه يبالغ في تعظيمها ويحقرها في الوقت نفسه. إن كانت قرارية الفيلسوف النازي كارل شميت تنبع من نوبة من العقلانية التنويرية، فإن نظيرتها عند دريدا وأتباعه عرض لأزمة تاريخية لاحقة؛ فهي تنتمي لعصر يبدو أنه لا يوجد فيه أي أساس عقلي لسياسة راديكالية.
إن المعتقد الديني عند كيركجارد يقابله صورة سامية من الأخلاق عند ليفيناس ودريدا. فإن كان الفيلسوف الدنماركي يدعم الدين على حساب الأخلاق، فإن نظيريه الفرنسيين يبجلان أخلاق النظام الواقعي أكثر من أخلاق النظام الرمزي. فالآخر الكبير أصبح الآن آخر آثار السمو في عالم دنس. لكن من الخطأ اعتبار قصة النبي إبراهيم نموذجا للحياة الأخلاقية. هذه بدرجة كبيرة هي نظرة هؤلاء الذين يريدون لنظرياتهم الأخلاقية أن تكون أرقى روحيا من الحملات على المراكز التجارية مثلا، وأن تكون صدى للامعقول والمستحيل والمفارقات واللانهايات أكثر من النضال في سبيل الإبقاء على إحدى دور الحضانة. إن قصة العهد القديم هذه في واقع الأمر تتعلق بلا معقولية الإيمان في أعين المنظرين والفلاسفة؛ لكن الإيمان محل النقاش هو الإيمان بيهوه الذي يقدم للجوعى كل ما هو طيب ويرد الأغنياء خالي الوفاض. فالقضية إذا ليست الإيمان مقابل الأخلاق، ولا الدين في مقابل الفضيلة، بل القضية هي أن النبي إبراهيم - رغم كل الدلائل الملموسة - يتمسك برب الأخلاق والسياسة؛ نصير المعدمين ومعين المهاجرين ومحرر المستعبدين، الرب اللاديني الذي يبغض قرابين اليهود المحروقة ويبطش بالمتجبرين على الفقراء. قد تبدو أخلاق دريدا للوهلة الأولى متفقة مع وصية العهد الجديد بجعل ما لقيصر لقيصر، وما للرب للرب. فمطالب الدائرتين، الرمزية والواقعية، يجب أن تجاب؛ لكن سيبدو أن هناك عداء أكثر من الاتفاق بين الاثنتين؛ فالسياسة والدين لا يجتمعان. لكن من غير المرجح على نحو كبير أن هذا ما سيفهمه أحد اليهود المتدينين الأول من وصية المسيح؛ إذ من بين الأشياء التي هي للرب العدل والرحمة والصلاح، وهو ما تجسد في العهد القديم في حماية الضعفاء والترحيب بالمنبوذين؛ فأوجه التمييز الحديث بين السياسة والدين غير مناسبة هنا.
عادة ما يعد النبي إبراهيم صورة أخرى من المسيح المصلوب، الذي هو رمز آخر ظل مخلصا في خضم عذابه وحيرته لرب يبدو أنه تخلى عنه. لكن هذين الرمزين المذكورين في الكتاب المقدس يتشابهان من وجه آخر أيضا؛ فكلاهما ناقد لاذع للنظام الرمزي في ضوء القرابة؛ إبراهيم لأنه مستعد لقتل فلذة كبده والمسيح لأن سلوكه تجاه أسرته في أغلب الأمر سلوك رافض، فثمة صورة جديدة من النظام الرمزي أو الحركة الجماعية على وشك أن تتشكل، صورة ستتعارض بشدة مع دوائر السيادة وروابط الدم والولاءات الراسخة؛ فتفرق بين الأب وأبنائه وتفصل في عنف بين الجيران وتنزع جيلا من أيدي جيل آخر.
إن الصراع عند دريدا بين الفردية المطلقة والمسئولية العمومية - وهو صراع ينبغي في نظره ألا يقبل حلا - هو نموذج من التوتر عند ليفيناس بين الأخلاق والسياسة، لكنه في الغالب معضلة زائفة. ففكرة أنني بإطعامي قطتي (مثال دريدا المبالغ في السخف في عمله «هبة الموت») أتجاهل على نحو حتمي كل القطط الجائعة في العالم ليست مسألة تستحق اللوم كما يظن دريدا؛ ولا يسعني أن أشعر بالذنب بصورة معقولة إلا عن الأفعال أو حالات التفريط التي أستحق أن ألام عليها؛ إذ لا يمكنني أن أطعم كل القطط على وجه الأرض، وإن امتلكت أقوى إرادة في العالم وأسطولا من الشاحنات مليئا بلحم الكبد المفروم. والمسئولية بهذا المعنى متناهية، ومن المبالغة العديمة الجدوى الزعم بأنها لا متناهية. ثمة مواقف حقيقية كافية للشعور بالندم في العالم دون الحاجة لأن يختلق المفكرون الباريسيون بعض المواقف المتخيلة. ويلاحظ ليفيناس - بنفس القدر من اللاعقلانية الطنانة وعلى طريقة نجم روك مرتبك - أننا عندما نشرب القهوة كل صباح، فإننا «نقتل» إثيوبيا ليس لديه قهوة ليشربها. وهذا كما قد نظن فيض من المبالغة الميلودرامية المميزة لتيار من الفلسفة الفرنسية الحديثة، بمفرداته المبالغة عن «الجنون» و«الوحشية» و«العنف» و«الاستحالة» و«الاختلاف المحض» و«الفردية المطلقة» وما شابهها. إن الحقيقة العاقلة المنمقة هي أنني في لحظة الكتابة لست مرتكبا لظلم بحق طفل لا أعرفه يعاني في السودان، كما أنني باختياري الإقامة في مدينة جالواي لا أهين بأي شكل مدينة ناشفيل أو مدينة نيوكاسل. إن الحل الحقيقي للصراع بين الفردية والعمومية حل عرضناه من قبل. فعلى المرء أن يولي اهتمامه الكامل للغريب الذي يتصادف في اللحظة الحالية أنه يشغل موقع الجار، مع القيام بالأمر نفسه مع الرجل التالي الذي يتصادف وجوده في الجوار، أيا كان من هو. فالعمومية تعني المسئولية عن أي إنسان، وليس المسئولية المستحيلة عن الجميع في نفس الوقت، فافتراض أنها بالمعنى المستحيل - حتى مع الإصرار على استحالته - يكشف عن غطرسة معينة للامتناهي، مهما بدت نبرتها اعتذارية ولوامة للذات.
إن ليفيناس محق بالتأكيد في اعتقاده أن المسئولية لا متناهية، على الأقل بمعنى أن علي أن أكون مستعدا للموت من أجل الآخر الكبير. وهذا حتى إن كان غريبا أو عدوا، وهو حال الآخر الكبير دائما من وجه ما. في الحقيقة إن كان الآخرون أعداء فهذا يرجع جزئيا إلى أننا قد يطلب منا دائما أن نقدم حياتنا فداء لهم. ولا يسع الإنسان إلا أن يأمل من كل قلبه ألا يواجه هذا الواجب غير الملائم إطلاقا في طريقه، حتى وإن كان يواجهه مقاتلو حروب العصابات طوال الوقت. وطالما يجب على المرء أن يكون على استعداد للموت لأجل أي شخص دون تفريق، فإن المساواة والعمومية - في ظل الظروف المناسبة - ملازمتان للحب أو الأخلاق؛ فهما ليستا محدودتين بمجال السياسة، كما يتصور ليفيناس على ما يبدو، مثلما أن الحب لا يقتصر على الدائرة الشخصية. (آلان باديو فيلسوف آخر يقع في هذا الخطأ الفرنسي الطابع عن الحب؛ إذ يعرفه بصورة كبيرة في إطار شهواني ويزعم أن الحب يبدأ حيث تنتهي السياسة.) لكن لا يمكن للمرء على أي حال أن يموت من أجل كل شخص. ولا ينبغي للمرء أن يفرط في الحرص على إعفاء الآخرين من مسئوليتهم عن أنفسهم. فالمسئولية عن الآخرين شأنها شأن غيرها من الفضائل الإنسانية يجب أن تكون في حدود التعقل والواقعية؛ إذ يوجد نوع ملائم من التهور يكمن مثلا في الموت من أجل غريب، ونوع غير ملائم يكمن - لنقل - في إلقاء المرء بنفسه أمام شاحنة لكي يتمكن غريب من عبور الشارع دون أن يسقط من يده الآيس كريم الذي يمسكه بيده.
إذا يتسم الحديث عن اللاتناهي هنا ببعض المنطقية اليائسة؛ إذ ليس صحيحا - كما قد يتصور ليفيناس أحيانا - أن مسئوليتي تجاه الآخر الكبير لا متناهية، بينما واجباتي تجاه المواطنين المجهولين لي في النظام الرمزي منظمة تنظيما صارما. فمن ناحية، يجب أن أكون مستعدا في أشد الظروف لأن أقدم حياتي فداء لمن لا أعرفهم، وليس فقط لمن هم على مقربة روحية مني. ومن ناحية أخرى، فحتى عندما يشغل مواطن سابق مجهول لي موقع الآخر الكبير؛ فإن علاقتي به ينبغي أن تستمر في الخضوع لمتطلبات التعقل والعدل. فالعدل ليس مجرد علاقة بين مواطنين يجهل بعضهم بعضا. بل هو مرتبط بعلاقتنا بالآخر الكبير أيضا. وهذا من بين أسباب عديدة تجعل التمييز الواضح بين الأخلاق والسياسة غير ممكن، وهو موضوع سنعود لمناقشته في الخاتمة.
تمثل الغيرية عند دريدا وكذلك عند ليفيناس مسألة متعلقة بالفردية المطلقة، التي تتسم بأنها «مستغلقة ومنعزلة ومتسامية ولا متجسدة ...»
26
إنها تتسم بالانعزال لأنه بينما تختص الأخلاق بالعلاقات السليمة بين الفرد والآخرين، فهي ليست في منظور الواقعيين قضية مشاركة حياة الفرد معهم. ومن هذا المنطلق، فإن الواقعية الأخلاقية لا اجتماعية بقدر فلسفة كانط التي يظل الجزء الأكبر منها متفوقا عليها. فهذه الأخلاق ترتبط، بأسلوب واجباتي جيد عتيق الطراز، بالتزاماتنا تجاه الآخرين، لا استمتاعنا بهم؛ فالغيرية هنا ليست في الأساس محورا للصداقة والألفة؛ بل تتجسد في حالة مطلقة يصير فيها الأصدقاء والأقارب مستغلقين بنفس روعة استغلاق النظرة الشيطانية ليهوه. فالخوف من أن يسعى الآخرون ليجعلونا مثلهم - العصاب الرهيب لما بعد الحداثة - قد بلغ الآن في حدته مبلغا يرخص للااختراقية المتبادلة. وهنا عند اللاكانيين بداية الأخلاق بالضرورة؛ إذ علينا أن نصيغ وجودا مع الآخرين ينبني على هذه الغرابة المشتركة. أما عند ليفيناس ودريدا، فإن الاعتراف بهذه العتامة المخيفة يكفي غالبا ليكون منتهى الأخلاق. •••
في كتابات آلان باديو، الذي يعد ربما أكثر الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين تأثيرا، يتحول النظام الواقعي إلى «الحدث»؛ هذه المعجزة التي تنبع من موقف تاريخي لا تنتمي إليه في الوقت نفسه. فالأحداث عند باديو ليست حقائق تاريخية مجردة، بل نقاط إيمانية. إنها وقائع أصيلة بالكامل تقوم بذاتها تماما، ومنعطفات وبدايات خالصة ليست مرتبطة ب «موقعها» في التاريخ، وتتجاوز سياقاتها وتنبع عشوائيا ومن لا شيء (إن صح التعبير) من إيمان راسخ لا سبيل لديه للتنبؤ بها. إنها أفعال اعتباطية محضة، لا يمكن التنبؤ بها مثلما لا يمكن التنبؤ بالفضل أو استراتيجيات قصيدة لمالارميه.
إن أحداث الحقيقة، كما يدعوها باديو، تأتي بأشكال وأحجام متعددة، بداية من قيامة المسيح إلى اليعقوبية، من الوقوع في الحب إلى الاكتشاف العلمي، من الانتفاضة البلشفية إلى المدرسة التكعيبية، من مقطوعات شيونبيرج اللامقامية إلى الثورية الثقافية الصينية، والاضطرابات السياسية في فرنسا في مايو 1968 (وهو مثال باديو الشخصي المكون للذات). كل هذه التحولات الطليعية تمثل عنده «فراغا» في الموقف الذي تعد جزءا منه ظاهريا، واستحضارا لللاتناهي تنسل إلى هذا الموقف لكن لا يمكن أن يجرى تمثيلها بوضوح كامل. يرى بايدوا أنه يوجد عدد لا متناه من العناصر في أي موقف، وهي حقيقة تطرح احتمال الفوضى أو العشوائية يجب للسلطة التقليدية أن تسيطر عليه. إنها تلك التعددية الفوضوية - التي تظهر في صورة بداهة سامية أو أزلية غير متصورة، والتي يراها باعتباره «الفراغ» في الموقف - هي التي تكمن في الموقف، لكن لا يمكن تمثيلها؛ وإن نقطة «العدم» المتفردة هذه هي التي ينطلق منها ما يسميه الحدث.
يمكننا الزعم بأن هذا هو إعادة صياغة باديو للنظام الواقعي اللاكاني؛ فالحدث أمر لا يمثل أي شيء ، ولا يمكن تحديد ماهيته من منظور الموقف الذي يقع فيه. وكما أن أشد اللاهوتيين حرفية وأكثرهم عنادا لم يمكنهم تصوير قيامة المسيح، فكذلك الحدث لا يمكن تسميته في إطار الموقف الذي يقع فيه؛ فهو - كتحفة طليعية إبداعها يخطف البصر - يمثل أصلا خالصا أو بدعة مجردة؛ بدعة ليس لها أي علاقة بالسياق الذي تنتمي ظاهريا إليه، ولا يمكن وصفها أبدا بمفردات خطابه الضيقة؛ فالموقف لا يمكن أن يعبر عن فراغه الذاتي مطلقا. فما يعتبره الحدث حقيقة، يعتبره الموقف الذي يقع فيه الحدث فارغا من القيمة.
إن الكينونة في نظر باديو عبارة عن تعددية لا تنضب، والتي تظهر لنا في أجزاء قابلة للإدراك أو مواقف منفصلة فقط من خلال «الاتحاد» أو التوحيد المؤقت من قبل ذات بشرية. بخلاف هذا، فهي مستغلقة علينا بلا حد مثل دائرة كانط الحقيقية. لكن «التعددية غير الثابتة» التي يخفيها هذا التوحيد، في وجود الحدث، تبدو كما لو كانت تتفجر لحظيا مرة أخرى لتمنحنا لمحة من اللاتناهي غير النظامي للكينونة المحضة؛ فالأحداث استثناءات للقاعدة متفجرة وممتنعة عن الوصف، وتجليات للحقيقة دونما أساس على الإطلاق؛ فهي مثل الثورة الإيرانية عند ميشيل فوكو تمثل انقطاعا لا يمكن تفسيره تماما للسببية التاريخية التقليدية.
27
وعليه، فهذه الأحداث تعارض المعرفة والتفكير والأنطولوجيا والقدرة على التنبؤ والقانون والأخلاق. باختصار كل تلك المسميات التقليدية التي يعد عندها عين وجودها - كالمجموعات الرياضية المنتمية لذاتها تماما - مستحيلا من الناحية الحرفية.
قد يتوقف المرء برهة ليتساءل كيف لنا أن نحدد ما يعتبر حدثا، أو كيف لنا أن نعرف مثلا المواقف التي تتسم بالتعددية اللامتناهية دون أن يكون مفهوم الحقيقة حاضرا منذ البداية. لكن الحقيقة عند باديو أدائية أكثر منها افتراضية، بل والأخطر من ذلك، يمكن للمرء أيضا أن يتشكك في صحة منظومة أخلاقية ترى الفضيلة - بمعنى الحكم اليومي على ما هو صواب وما هو خطأ - مرفوضة على نحو عنيف. ويقول باديو مدافعا عن العنف الثوري في ترنيمة مدح لثورة ماو الثقافية إن «فكرة التحرر الكامل ... مكانها يقع فيما وراء الخير والشر ... إن الشغف اللينيني بما هو واقعي ... لا يعترف بالفضيلة؛ فالفضيلة - كما أدرك نيتشه - عبارة عن مجرد سلف؛ فهي من مخلفات العالم القديم.»
28
فالأخلاق طليعية، بينما الفضيلة برجوازية صغيرة ومن الماضي. فنخبوية نيتشه تتماشى جيدا مع النقائية الثورية.
إن الأصالة المطلقة ل «الحدث» عند باديو - في مفارقة - هي «تصور شائع». فليس هناك ما هو أكثر حداثة في العادة من الحلم بهذا الانفصام الذي لا يوصف عن الواقع. ويمكن أن نفكر مثلا في روايات جوزيف كونراد المليئة بالأحداث السردية المحورية - قفزة لورد جيم المهمة والطقوس التي لا توصف، المحيطة بكيرتس في رواية «قلب الظلام»، وقتل ويني فيرلوك لزوجها في رواية «العميل السري»، وتفجير ستيفي في نفس الرواية، وتفكك ديكود التدريجي في «نوسترومو» - التي كلها تحدث، إن جاز التعبير، بعيدا عن عين القارئ، وتلمح بطرف العين بدلا أن ترى مباشرة. وفي عالم حتمي رتيب، فإن الحقيقة والحرية والذاتية ستظل ألغازا مستعصية على الاختراق مثل مجاهل أفريقيا. لذا، فإن شخصيات كونراد تمنح لحظة سمو عليا لتشهد فقط هذا الحدث الأقرب إلى المعجزة وهو يغرق حتما من جديد في العالم الظاهري، ويعاد امتصاصه في سيل المادة الخالية من المعنى والزمن الفاسد إلى أن تواجه الذات الحرة الآن وجودها الذاتي باعتباره حقيقة محضة. إن القفز ربما يكون قرارا حرا، لكنه يسلمك لقوى الطبيعة التي ليس لك عليها أي سيطرة.
إن أحداث الحقيقة، كما يسميها باديو، لا يمكن معرفتها وقت حدوثها؛ فوجودها لا يمكن القطع به إلا بعد مرور الوقت، مثلما يعلن القديس بولس أن المسيح الذي لم يقابله في الواقع قط هو الرب أو الإله؛ إذ لا يوجد حدث من أحداث الحقيقة من دون الفعل الحاسم لذات ما، وفي معضلة عويصة، لا توجد ذات غير تلك التي أخرجها للوجود إخلاصها الثابت والمضنى، والبطولي أحيانا، لهذا الكشف الأولي. يرث باديو العقيدة الطليعية المشكوك فيها القائلة بأن الذات البشرية غير حقيقية إلا عندما تخاطر بوجودها في جرأة في الظروف الشديدة؛ فالحقيقة هي كل شيء أو لا شيء. بخلاف ذلك وفي صورة علمانية نوعا ما من عقيدة الاختيار الإلهي، فما نحن إلا أفراد بيولوجيون محدودون يحتاجون لأن يتحولوا إلى ذوات لا محدودة أو أصيلة من خلال مثل هذا الالتزام. فالفرد نوع من العدم، شفرة يجب إلغاؤها وولادتها من جديد من رحم إيمانها بحدث شديد الأهمية، والذي يظل مستعصيا على البيان العقلاني وخارجا على نظام الوجود؛ فالذات البشرية هي دائما ذات لحدث من أحداث الحقيقة. وما يدفعها إلى الوجود هي حقيقة أبدية ونقية واستثنائية وشديدة الخصوصية. فتشكل الذات هو هداية إيمانية. ولا يمكن لهذه الذات أن تؤكد وقوع حدث الحقيقة فعلا إلا كما تتحرك معرفتنا عن الرب في العقيدة المسيحية اليهودية في إطار الإيمان. إن قيامة المسيح بالنسبة لبولس لم تعد قضية رؤية عين أكثر مما تمثله قضية غرف الغاز عندنا اليوم.
إن هذا الإخلاص للحدث الذي يطرح نظاما جديدا للحقيقة هو ما يعنيه باديو بما هو أخلاقي. فهو، كما هو الحال بالنسبة للفضل الإلهي، دعوة متاحة للجميع، وبهذا المعنى، يمجد باديو المساواة والعمومية الخاصتين بالنظام الرمزي. لكن بما أن الحقيقة التي يراهن المرء بوجوده عليها دائما ما تكون فردية وصادمة ولا محدودة ومغيرة ويتعذر وصفها في النهاية، فهي تنتمي للنظام الواقعي. وهي تشترك مع النظام الواقعي كذلك في عزلتها البروتستانتية القاسية. وكما أن الذات اللاكانية للنظام الواقعي توجد عند حد متطرف ولا اجتماعي، رافضة الاعتدال المغري في مجتمع المدينة، فإن فارس الإيمان عند باديو عبارة عن فردية خالصة. وهذه الحالة ليست حالة أخلاقية فقط بل هي حالة أنطولوجية. إن من بين الجوانب الأكثر إثارة للجدل في فكر باديو هو إصراره على عدم ارتباط الذوات - على انتشارها العشوائي وتقاطعها - بالصدفة ومواجهاتها العفوية ومقاومتها للاتصال المنظم. قد تتعاون الذوات البشرية في نوع من «الوجود الجمعي» أو «شيوعية من الفرديات» لكن الذوات البشرية لا ترتبط معا بصورة تكوينية. إن باديو يؤمن بالجماعات؛ لكن إعطاءها تسمية وشكلا معينا طالما يمثل دائما كارثة سياسية في نظره. وفي لمحة لا بنيوية، فإنه يرى أن عناصرها المتمايزة وليس الروابط بينها هي ما يحظى بالأولوية. وليس من العجيب أن فيلسوف الحدث معجب بجيل دولوز.
ونتيجة لهذا الولع بالتمايز، نلاحظ أن باديو الناشط اليساري معاد لفكرة وجود «نظام» رأسمالي عالمي تماما مثل معظم المعلقين السياسيين غير المستنيرين؛ فنظرته للعزلة المنقطعة للكينونة نظرة حداثية تقليدية. ويمكن قول الشيء نفسه عن أبطال لاكان الأخلاقيين في المستوى الواقعي؛ عن نماذج أوديب وأنتيجون الذين يوليهم هذا الثناء. إن الحقيقة - شأنها شأن الرياضيات أو الشعر الرمزي - قائمة بذاتها ومكونة لذاتها ومؤصلة لذاتها ومرجعيتها ذاتها؛ فهي منفصلة عن مجالات الطبيعة والتاريخ والبيولوجيا الدونية، شأنها شأن السياسة التي تمثل عند باديو الماوي السابق علاقة بين الإرادة والروح، بين القرار والاستثناء، والقناعة البديهية، بعيدا عن النطاقين الدنيوي لعلم الاجتماع والاقتصاد؛ فالسياسة مرتبطة بالذات لا بتنظيم إمدادات الطعام. وكما يشير بيتر هالوورد، فإن باديو لديه تصور «رفيع» عن السياسة؛
29
تصور مقترن بكراهية يسارية متشددة للاتحادات العمالية والأجندات الاجتماعية السياسية والديمقراطية الاجتماعية وغيرها من الظواهر غير البراقة نظريا؛ إذ يجب على المرء - على الطريقة البولسية الحقة - ألا يتماهى مع العالم؛ وهي عقيدة تتحول على يد باديو إلى الصفائية اليسارية المتشددة؛ فالقديس بولس على الأقل كان لديه سبب لامتناعه عن هذا التماهي؛ فهو كالكنيسة القديمة بوجه عام كان يؤمن حتما بأن الظهور الثاني للمسيح وشيك، وهو حدث كان ليقضي على الممارسة التاريخية لأنه سيهدم التاريخ نفسه. وهذا هو أحد أسباب عدم اشتمال العهد الجديد على مفهوم حقيقي عن العمل السياسي؛ فالزمن فيه ببساطة غير موجود. بل يبدو أن المسيح نفسه كان يعتقد أن التاريخ سيصل إلى نهايته في حياة بعض من تلامذته.
صحيح أن باديو نفسه استمر في مسعاه كناشط سياسي؛ لكننا نتذكر دريدا في عمله «أطياف ماركس» ورغبته في وجود ماركسية دون عقيدة أو برنامج أو حزب أو تطرف أو مؤسسات. إن هذا أشبه بأنجليكاني ليبرالي متطرف يبحث عن مسيحية متحررة من الأمور المربكة مثل الرب والمسيح والجنة والجحيم والخطيئة والتوبة. إن أقصى ما يمكن أن يصل إليه دريدا هو ماركسية بلا اسم؛ اشتراكية يملؤها الشعور بالخزي تتبرأ من جرائم أسلافها فقط من أجل أن تكون فارغة سياسيا. إن هذا يذكرنا بالحلم الرمزي بالقصيدة المثالية، تلك التي لا تتلوث بالعالم الفاسد لدرجة أنها لا تكون سوى ورقة خالية. إن أهل الفكر اليساري الفرنسي، في عدائهم المرضي لما هو وضعي، ظلوا محبطين بسبب ذنب الستالينية وظل الفاشية. بالنسبة لباديو، لا يمكن للمرء أن يقول كل الحقيقة، كما لا يجب عليه ذلك، كما لو أن أي إعلان كامل عن الحقيقة يجب أن يكون لا محالة استبداديا. أما بالنسبة لدريدا، فيمكن للمرء أن يطرح الحقيقة؛ لكن فقط في خوف ورعدة وسخرية وتقويض للذات. إن هذا الشكل من التحفظ (الذي يمكن للمرء أن يزعم أنه ينطبق أيضا بدرجة ما على أدورنو) يمكن أن يشيد بطريقة غير مباشرة بضحايا الاستبداد؛ لكن من الصعب تحديد كيف يمكن أن يساهم في منع تكرار حدوثه. بهذا المعني لا تعد إشادته إقرارا بقدر ما هي نوع من المواءمة.
أقام باديو فكرته عن اللاتناهي اعتراضا على الحسابات الحقيرة للمصالح الاجتماعية. إن عداءه تجاه المصالح الإنسانية هو أحد الأمور التي ظل فيها مخلصا لفكر كانط، الذي يعد - للمفارقة - الرسول العظيم للتناهي الإنساني. إن العدالة مسألة متعلقة بالخلود وليس بالتناهي. إن الحدث يبدأ الزمن الخاص به، وهو زمن منفصل تماما عن التاريخ العادي. إن الحقيقة في هذا المنظور المتسامي على نحو عميق تكون في عداوة شديدة مع ما هو معطى وغير مبالية على نحو كبير لما هو محسوس أو تجريبي. إن باديو في هذه النقطة أيضا متفق مع كانط؛ فالأخلاق يجب أن تنفصل عن الطبيعة الحيوانية للإنسان. ربما يكون باديو معجبا بالفردية، ولكن لديه نفورا أفلاطونيا من الخصوصية. إن الأخلاق الطبيعانية، تلك القائمة على التناهي والجسد من ثم ترفض بقوة أخلاق اللاتناهي؛ أي: هذا الالتزام العنيد تجاه أحد أحداث الحقيقة الذي يسمو بنا فوق طبيعتنا الحيوانية، وبفعله لهذا، يمثل نوعا من الخلود. إن هذه أخلاق عالم رياضيات ، وكذلك متبن سابق لفكر ألتوسير. لكن هناك أيضا لمحة كانطية في الاعتقاد بأن الأخلاق متسامية؛ أي أن حقيقتها تقودنا فيما وراء الطبيعة إلى مكاننا في الأبدية.
كما هو الحال بالنسبة لليفيناس ودريدا، يجد باديو أن الأخلاق تكبح جماح الفضيلة اليومية. ورغم معارضته الشديدة لفكرهما (إذ هاجم بعنف واقتضاب رؤيتهما للآخر الكبير في عمله «الأخلاق» وقال عنها إنها «فاسدة»)، فإن جوانب من نظريته تتوافق كثيرا مع أفكار كبيري دعاة الغيرية اللذين كان وقحا معهما بشدة دائما. ورغم كل نقده لهما، فهو يشاركهما بغضهما الراسخ للنظرية والتوافق والمعرفة والمجتمع والقانون والمصالح والفكر الإصلاحي والحسابات والحقوق المدنية والإحسان والمسئوليات المدنية والعقائد الاجتماعية وباقي هذه الأمور المألوفة. تهتم السياسية بالذات الإنسانية، وليس بحقوق الإنسان أو الديمقراطية الجماهيرية أو الاقتصاد.
30
إن كل مساعي التوافق، كما يلاحظ باديو، تسعى لتجنب الانقسام، متناسية على نحو ملائم التضامن الذي أطاح بالفصل العنصري والستالينية الجديدة. إنه أيضا يشترك مع زميليه الباريسيين في نظرتهما القاتمة للمتعة والسعادة والرفاهية والمنفعة والعاطفة. وكما هو الحال بالنسبة للاكان، وكما يشير بيتر هالوورد، فإن باديو يرفض «كل المعايير الاجتماعية المتوافق عليها (السعادة والمتعة والإيمان وغيرها) من أجل استثناء لا اجتماعي وصادم بنحو أساسي.»
31
إن ما يرفضه هو ما يطلق عليه سلافوي جيجك بفظاظة مماثلة «التسيير المرن للأمور في عالم الوجود»،
32
كما لو أن أي شيء آخر غير أخلاق النظام الواقعي يعد ببساطة شكلا مملا من الإدارة التقليدية. يعلق هالوورد قائلا: «بالنسبة لباديو، وكذلك للاكان وجيجك، تشكل الذات لا يبالي على نحو أساسي بتسيير الحياة ومتطلباتها في حد ذاتهما.»
33
إنها تبدو كنوع غريب من الأخلاق يرى أن تسيير الحياة أمر قليل الأهمية. وبدلا من تلك الأهداف القليلة القدر، اقترح باديو نفسه أخلاقا تقوم على «الإصرار الخارق»، تلك التي تتلخص في شعار «لا تتراجع!» أو «حافظ على التزامك!» والتي تشتمل على ما هو أكثر من صدى لشعار لاكان «لا تتخل عن رغبتك.» (إن باديو يعتبر لاكان «أعظم من رحلوا عن عالمنا».) وفي كلتا الحالتين، إنها أخلاق تعد كمحاولة أخيرة وخط دفاع أخير صارخ في وجه عالم يرى الآن أن حالته ميئوس منها على نحو مزمن. ومن ثم فإن دعوات الاستنفار هذه التي تبدو عمومية لها شروطها التاريخية الخاصة بها.
إن التمسك بحدث الحقيقة بالنسبة لباديو - كما هو الحال بالنسبة لباسكال الذي كان باديو معجبا به - مسألة إيمانية خالصة. وفي لمحة من العفوية الماوية، تعد المعرفة والتأمل عدوين للإيمان، وليسا من العناصر الأساسية العاملة على تقويته. كما أن التحليل والممارسة السياسية يجب أن يظلا منفصلين. تعد الأخلاق علاقة حية مع الحقيقة، وليست مسألة تحديد ما يجب على المرء فعله. إن الحقيقة في حد ذاتها بدهية وليست تداولية؛ وهي دوجماتية كان من الممكن أن يتفق معها ماو بشدة. إنها لا تتعلق كثيرا بالتأمل، وتوجد على أقصى حدود المعرفة. وهكذا، تصبح لدينا مجموعة من التقابلات الصارخة والقابلة للتفكيك على نحو بارز: الحقيقة (أو الإيمان) في مقابل المعرفة، والسياسة في مقابل الحياة اليومية، واللاتناهي في مقابل التناهي، والحدث في مقابل الأنطولوجيا، والصدفة في مقابل النظام، والذات في مقابل الموضوع، والتمرد في مقابل التوافق، والاستقلالية في مقابل السببية، والسمو في مقابل الحلول التاريخي، والأبدية في مقابل الزمن. وحيث إن كل أحداث الحقيقة معرضة للخطر الوشيك المتمثل في تحييدها أو استيعابها من قبل العقائد الاجتماعية، فيمكن أن نضيف ثنائية أخرى مألوفة قدمها ماكس فيبر للأقطاب السابقة، ألا وهي: الكاريزما والبيروقراطية.
كما هو الحال بالنسبة لدريدا - وفي واقع الأمر، بالنسبة للفكر الما بعد حداثي بوجه عام - يتفق باديو مع الزعم السخيف القائل بأن كل العقائد مستبدة، وكل وسائل التوافق خانقة، وكل البدع يجب أن يرحب بها. غير أنه من الصعب معرفة السبب وراء ضرورة الهجوم على الاعتقاد القائل بأن العمال يحق لهم في بعض الأحيان الامتناع عن العمل، تماما كما هو من الصعب معرفة ما هو مستنير على وجه التحديد فيما يتعلق بالمرتدين العابدين للشيطان. إن هؤلاء الذين من المفترض أن ينظروا بحياد للتقابلات الثنائية يجدون أنفسهم في النهاية أمام نظام سياسي مشيطن من جانب ومعارضة مبدعة على نحو أصيل على الجانب الآخر. إن الحقيقة قائمة دائما على التضاد. وإذا كان بإمكانها تنصيب نظام سياسي جديد، فهي لا يمكنها إحداث تغيير سياسي عام. يرى باديو أن عصر الثورات انتهى. إن الوضع السياسي القائم يمكن تحسينه وليس تغييره بالكامل، وهو افتراض ربما كان سيستقبله قادة الاتحاد السوفيتي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين بشيء من الدهشة. إن باديو، في تأييده للتغيير الجزئي دون التغيير الكلي، يتفق مع النظرية الما بعد حداثية التي يمقتها. إنه أيضا يتفق مع لاكان ودريدا فيما يمكن أن نطلق عليه المغالطة الطليعية؛ وهي الاعتقاد بأن البدعة الجذرية يجب دائما تثمينها؛ لأنها تخرج عن ماض ينظر إليه على نحو مشوه على أنه عقيم من كافة الجوانب. إن هذا التحطيم الفج للمعتقدات التقليدية، في تفريقه الساذج ببين التقليد والابتداع، يتجاهل القوة التجديدية للماضي ويغفل الطبيعة المدمرة للإفراط في التجديد. لا يوجد شكل من أشكال الحياة أكثر ابتداعا وتخريبا وإخلالا بالنظام من الرأسمالية. إن هذا الفكر، رغم كل تمجيده للتنوع والتمايز، يرى أن كلا من الماضي والحاضر موحدان على نحو مخيف، وخاليان على نحو إعجازي من التناقض الداخلي. إن الفلسفة التي تمجد السياسة هي بالتالي عرض لأزمة السياسة. إن كل القيم متسامية وليست محايثة. وفي دوجماتية الانحراف، تنبع كل حقيقة أصيلة من استثناء للقاعدة. إننا لسنا بعيدين عن التمجيد الرومانسي السخيف للعبقري العنيد (لينين وروبسبيير وسيزان) الذي يخرج عن المألوف ويكسر كل القوالب.
إن باديو، في رفضه لأخلاق الآخر الكبير، يتخذ موقفا عدائيا غير مألوف تجاه سياسة التماثل. إن الأخلاق باعتقاده قد حلت في عصرنا محل السياسة، حيث حلت أيديولوجية خيرية زائفة قائمة على المظلومية والغيرية والهوية وحقوق الإنسان محل المشروعات السياسية. (ربما كان سيضيف باديو أن البديل الكبير الآخر للسياسة في عصرنا يحمل اسم الثقافة.) إن شيوع اصطلاحي الاختلاف والغيرية يعكس ما يسميه باديو «الإعجاب الشديد» بالتنوع الأخلاقي والثقافي، في حين أن تيار حقوق الإنسان يقسم العالم إلى: ضحايا لا حول ولا قوة لهم، ومحسنين معتدين بأنفسهم. وحيث إن التعددية الثقافية لا تحترم إلا الآخر «الصالح» (أي، الشخص الذي يشبهني إلى حد كبير)، فإنها لا تحترم أي آخر على الإطلاق. وبهذا المعنى، تبقى محصورة في النظام الخيالي؛ فهي لا تستطيع احترام اختلاف هؤلاء الذين لم يستطيعوا احترام اختلافاتها المقدرة لديها. يوجد قدر كبير من الحقيقة في هذه الحالة، وكذلك من المبالغة الفرنسية الطابع. وفي عودة جريئة لفكرة العمومية، وهو أمر لم يكن شائعا بين أهل الفكر الباريسي، يزعم باديو بدلا من ذلك أن الاختلاف أو الغيرية هي علامة على الوضع الراهن، وأن الكفاح الحقيقي هو كفاح من أجل تحقيق التماثل. إن مهمة السياسة، باختصار، هي ما كانت عليه منذ بدء حركة التنوير الجذرية، وهي مقاومة المصالح الخاصة الظالمة باسم العمومية الثورية. إن مفهوم باديو عن العمومية، بالتأكيد، متفرد بالقدر الكافي؛ فنطاق العمومية عنده لا يمنح وإنما يبنى؛ فهو ليس حقيقة مسلما بها وإنما عملية ذاتية. بهذا المعنى، كل ما عمومي استثنائي، مثل نتاج القرار الذاتي. لكن عداءه للاعمومية ليفيناس ودريدا وليوتار وفوكو يظل ثابتا؛ فهو يرى أن الفلسفة دائما ما تؤسس نفسها في مواجهة السفسطة؛ بداية من مجادلات أفلاطون مع بروتاجوراس إلى خلاف كانط مع هيوم؛ ويعد أنصار ما بعد الحداثة ببساطة آخر ممثلي تيار السفسطة الذين يجب مجادلتهم.
إن تلك الجوانب العمومية والمساواتية في فكر باديو هي ما تربطه بالأخلاق الرمزية. إن الحقائق واحدة لدى الجميع، ويمكن لأي شخص أيا كان أن يعبر عنها. وهي تتعارض مع كل الاعتقادات المحلية والعرقية والمجتمعية. غير أنها في حد ذاتها فردية على نحو عنيد. وهناك في حقيقة الأمر عدد هائل منها بقدر عدد الذوات البشرية. وبخلاف حقائق النظام الرمزي؛ فهي غير نظرية أو افتراضية أو تحكمها القواعد، لكنها تشبه الحدث وغير مفاهيمية وملهمة ومكونة للذات. فالحقيقة كيركجاردية أكثر من كونها كانطية. بهذا المعنى، النظام الرمزي والنظام الواقعي متحدان؛ فالحقائق تنتمي للنظام الواقعي، لكن يجب تعميمها من خلال إجراءات محددة تتم عبر النظام الرمزي. بالنسبة لباديو في دراسته الصغيرة الرائعة «القديس بولس: تأسيس العمومية»، فإن العلاقة بين المسيح والقديس بولس تعد رمزا لهذا الاتحاد؛ حيث إن الجانب الواقعي لصلب المسيح وقيامته - الحدثين المستغلقين على النظرية والمعرفة والخطاب الأخلاقي والرمزية وما شابه - يروج له بولس باعتباره عقيدة عمومية. وهكذا، يظهر شكل جديد من النظام الرمزي أو الكنيسة، كل أعضائه متساوون ومتماثلون في المسيح، يتجاوز بعنف فروق النظام الرمزي التقليدية الخاصة بالجنس والقرابة والطبقة الاجتماعية والعرق. إنه بهذا المعنى يطلق أول حركة عمومية حقيقية في التاريخ الإنساني، وكذلك أكثرها استمرارا عبر الأمم والقرون. إن النظام الرمزي يواجه النظام الواقعي عن طريقة إعادة تشكيله حسب صورته وهيئه؛ فالكنيسة المسيحية تنشئ من النظم الاجتماعية الحالية شكلا جديدا من الاجتماع، ينبني حول الجانب الواقعي لموت المسيح وبؤسه.
وخلافا لأنصار ما بعد الحداثة والتعددية الثقافية، يتبنى باديو اللامبالاة التي يبديها كانط تجاه الخصوصية؛ غير أنه في نفس الوقت يجرد هذا التوجه الكانطي من معاييره والتزاماته. لقد رأينا نسخة انتقائية مماثلة من الفكر الكانطي في حالة ليفيناس. إن فكر باديو مزيج مثير من العقلانية التنويرية والإيمان الرومانسي بالحقيقة باعتبارها وحيا ساميا. لكن هناك وجها يختلف فيه هذا المفهوم للحقيقة عن ذلك الخاص بأنصار الواقعية الأخلاقية الذين يفضلون الاضطراب على الاستمرار، غموض الوحي على الاستمرار المخيف للتاريخ؛ إذ إن الغرض الأساسي لنظريته الأخلاقية هو محاولة العيش في إخلاص دائم لحقيقة ملهمة - أو «التزام الاضطراب»، بحسب قوله - ومن ثم الجمع بين الاستمرار والتجديد. إن الظهور القوي للحقيقة يجب أن يصاحبه استقرار وضع الأخلاق. وبهذا المعنى، يختلف فكر باديو عن فكر الراديكاليين الذين تعد المشكلة بالنسبة لهم هي ما الذي يجب فعله عندما ينتهي الإضراب العام، أو عندما تستهدف الساعات الجدارية العامة أو عندما ينتهي الحدث الدادي تقريبا بمجرد أن يبدأ، أو عندما يتلاشى الوحي أو عندما لا تكون المتعة سوى ذكرى جميلة ترجع لمنتصف العمر. وعلى عكس هؤلاء المتحررين من الوهم، يرغب باديو في إدخال الأبدية في الزمن والتوصل لكيفية الانتقال من حدث الحقيقة إلى الحياة اليومية، وهو ما نطلق عليه بوجه عام اسم السياسة. إن هؤلاء الذين يصرون على عدم الارتباطية المحضة للحدث، مما يعني فصله عن تبعاته الزمنية في النظام الرمزي، سيجرى تجاهلهم باعتبارهم «متصوفة».
لكن هذا لا يجب أن يبدو كما لو أن الحدث والحياة اليومية متقاطعان بالكامل؛ إذ يختلف «الزمن» الخاص بالتزام المرء الحقيقة عن ذلك الخاص بالنظام الرمزي؛ فهو ينتمي بالكامل للنطاق الشخصي. ولا يوجد تاريخ واحد يمكن أن ترتبط به الأحداث؛ بل هناك فقط التواريخ المتعددة التي تبدأها الأحداث نفسها. وهكذا يتأكد الفرق بين العادي والملهم، بين المحايث والمتسامي. إن باديو لا يثق في العالم العادي بالقدر الكافي بحيث يعتقد بإمكانية وجود قوى محايثة داخله قادرة على تغييره. تتصف الحياة اليومية بنحو شبه بيولوجي بأنها عالم الرغبة والمصلحة الشخصية والإلزام الممل. هناك طابع هوبزي فيما يتعلق برؤيته لما هو عادي. ولو كان يمتلك نظرة له أقل تحيزا، فلربما كان سيحتاج لبديل أقل سموا. ألا توجد حقا أي شجاعة أو تعاطف أو إيثار في هذا العالم؟ ألا توجد أي ميزة فيما هو معياري أو إعجاز فيما هو عادي؟ وهل حياة الفضيلة تنبع فقط من الالتزام تجاه أحداث الحقيقة الاستثنائية؟ من وجه ما، أعطي النظام الرمزي حقه تماما؛ حيث نظر للحرية والمساواة والعمومية باعتبارها أهدافا سياسية مهمة، غير أن كل هذا يجب، بحسب تعبير هالوورد، أن «ينبني على البعد الواقعي لأخوة جذرية»؛ أخوة لا يمكن تمثيلها، والتي في عدائها تدمر أنماط التماثل المنمقة الخاصة بالنظام الرمزي.
تجاهل باديو أخلاق الفضيلة الأرسطية، وهو تيار أخلاقي سنلقي نظرة عليه لاحقا. (يمكن أن نقول نفس الشيء عن دراسة جيه إم بيرنشتاين الرائعة «أدورنو: التحرر من الوهم والأخلاق» التي امتدت لنحو 450 صفحة ولم تذكر تقريبا أي شيء عن أرسطو.) في حالة باديو، يرجع هذا التجاهل إلى حد كبير إلى أن أخلاق الفضيلة لا تهتم بالحقيقة وإنما بالأمور الأخلاقية المدنسة من أمثال السعادة والرفاهية. لكنه يرجع أيضا إلى أن تلك الأخلاق تتضمن أيضا تكويننا الحيواني أو (بالتعبير الماركسي) جوهر نوعنا؛ ومن ثم فهي تنتمي من وجهة نظر باديو الأفلاطونية العقلانية للنطاق التابع الخاص بالطبيعة والتاريخ والحياة اليومية. إن الأخلاق بالنسبة لباديو تتضمن قفزة متحدية للموت من منطقة الزيف البائسة هذه للاتناهي الالتزام تجاه الحقيقة. ففقط من خلال تلك المغامرة المتهورة، يصبح الفرد إنسانا «خالدا» وليس حيوانا معرضا للموت، ومقيدا بالأمور البيولوجية. إنه لا يعتقد أن اللاتناهي - إذا كان هذا المصطلح صحيحا - يمكن الوصول إليه فقط من خلال المواجهة التراجيدية مع تناهي الفرد. يقول ميلان كونديرا في روايته «الخلود» إن «الإنسان لا يعرف كيف يكون خالدا.» ليس من السهل إدراك أن الخلود هو الوهم الذي نحن مولودون به، وأن التخلص من هذا الوهم المدمر، ذلك الذي يمزق الأجساد ويدمر المجتمعات، يحتاج لجهد أخلاقي مضن. فإذا كنا أكثر إدراكا لتناهينا، فربما نكون أقل استعدادا لنسيان أن كل رغباتنا وأحقادنا ستنتهي في النهاية في التراب. لكن التناهي، من وجهة نظر باديو، ينتمي إلى النطاق الوضيع الخاص بجوهر نوعنا. إنه النقيض التام لأي أخلاق صادقة. وهو يصرح بأن مسعاه هو «إنهاء الاهتمام بما هو متناه».
34
وهكذا، يتحيز باديو لأحد طرفي المعركة بين دعاة اللاتناهي وأنصار التناهي. وبداية من عمل هايدجر «الكينونة والزمان» إلى عمل جيورجيو أجامبين «الإنسان المستباح» وعمل آلاسدير ماكنتاير «الحيوانات العاقلة المستقلة»، فإن الإنسان الضعيف المعرض للموت هو محط الاهتمام. إن ميشيل فوكو أيضا بطريقته يعد شاعر التناهي، وإن كان بدافع خفي مجنون يقوم على التطلع لما هو لا محدود. ويرى جيل دولوز بطريقة نيتشوية العملية المادية نفسها باعتبارها تدفقا لا حدود له من الإبداع، ليست حياة الأفراد بالنسبة له سوى نتاجه الفاني. من ثم فإن ما هو واقعي يجرى التقليل من شأنه من أجل ما هو افتراضي أو محتمل، والذي ليس سوى تسلسل الزمن اللامتناهي بالكامل.
إن إيمانويل ليفيناس حالة أصعب في تصنيفها؛ فهو يعد مناصرا للضعف والفناء ومع ذلك يدعو للحاجة إلى المسئولية اللامتناهية. وهكذا الحال في واقع الأمر بالنسبة لسورين كيركجارد، المفكر الذي ينبع منه أغلب هذا الحديث عن اللاتناهي، الذي يصر على تناهي حالتنا، غير أنه يرى أن البشر لديهم روحا لا متناهية. إن كانط يعد في نفس الوقت أعظم فلاسفة التناهي الإنساني المحدثين والداعية لعقل بعيد المنال على نحو متسام. فرويد بالمثل شخصية محيرة؛ فكما يشير إريك سانتنر، إن البشر يتميزون عن الحيوانات الأخرى، فقط لأن وجودهم تبرزه فردية يحركها دافع الموت.
35
فنظرا لكوننا الحيوانات الوحيدة القادرة على التفكير في موتها، فإن لدينا ما يجعلنا أعلى منزلة من الكائنات الحية الأخرى؛ لكن نظرا لأن هذا التفكير يزيد إدراكنا للموت، فإننا نصبح أدنى مرتبة منها.
هناك أيضا أولئك الذين تحولوا من تأييد التناهي إلى تأييد اللاتناهي. فقد غيرت المجلة الأدبية الفرنسية الطليعية «تل كل» (أي، كما هو) - التي كانت تتحدث في سبعينيات القرن الماضي باسم حركة شعرية وسياسية مادية ذات صبغة ماوية - اسمها، بمجرد أن انحسرت تلك التيارات اليسارية، إلى الاسم الأقل مادية «لي إنفيني» (أي، اللاتناهي). إن جاك دريدا، بحلمه بالمسئولية المطلقة والرقص اللانهائي للدال، يعد بلا شك أحد أنصار اللاتناهي، وهذا ينطبق أيضا - وإن كان بطريقة مختلفة - على آلان باديو، الذي يشير على نحو قاس إلى أن الفرد باعتباره ضحية تعاني بوجه عام لا يقل دناءة عن الجلاد الذي يعذبه. إن هؤلاء مؤيدون للسمو البيركي وليس للتماثل الاجتماعي الذي يسميه بيرك الجمال. إن أخلاق الجسد الفاني غير بطولية للغاية بالنسبة لباديو، وكذلك غير طبيعانية. وكما هو الحال بالنسبة لمعظم الواقعيين، هناك لمحة فوق إنسانية في رؤيته؛ رفض للخضوع لأي شيء منحط ودنيء مثل الجسد. تكتب الفيلسوفة اللاكانية ألينكا زوبانتيتش قائلة «إن أساس الأخلاق لا يمكن أن يكون أمرا يدفعنا للتأكيد على محدوديتنا والتخلي عن تطلعاتنا «الأسمى» و«المستحيلة»، وإنما أمر يدعونا لأن نعزو لأنفسنا «اللامتناهي» الذي يمكن أن يحدث كشيء يعد بالأساس نتاجا فرعيا لأفعالنا».
36
غير أن نظرية التراجيديا التي تقوم عليها الأخلاق اللاكانية لا تدعم في واقع الأمر أيا من المعسكرين؛ فهي تعاقب غطرسة هؤلاء الذين يطمحون للمستحيل؛ فتطلق العنان لغرورهم المجنون وتجردهم من فرديتهم وتدخلهم إلى حضرة النظام الواقعي المخيفة. لكن لو أن بإمكان هؤلاء ملاحظة فظاعة حالتهم دون أن يصابوا بالعمى أو يتحولوا إلى حجر؛ فيجدوا في مرآة أنفسهم ليس «أنا» بديلة خيالية وإنما شخصا منبوذا بشعا، فمن الممكن أن تكون القوة اللامحدودة التي سمحت لهم بإدراك هذا السواد الذي بداخلهم هي أيضا تلك التي يمكن أن تنقلهم فيما يتجاوز نطاق العظام المحطمة والجماجم المدمرة لهؤلاء الذين ماتوا قبلهم، إلى النطاق البعيد لما يطلق عليه لاكان «الحب اللامحدود» في عمله «المفاهيم الأربعة الأساسية للتحليل النفسي». وإذا كان يجب تجاوز المتناهي، فإن هذا لا يتم برفضه وإنما بمواجهته على نحو مباشر. لكن لكي يحدث ذلك، فهناك حاجة لحالة من الفاقة أو دخول جهنم وهو شيء لا يمكن أن تقدمه أخلاق باديو الأكثر إيجابية. وكما كتب سلافوي جيجك عن أوديب المدمر: «إنه «إنسان أكثر من اللازم»، ولقد عاش «الحالة الإنسانية» حتى نهايتها المريرة، مدركا احتماليتها الأساسية؛ ولهذا السبب، لم يعد من ناحية «بشرا» وتحول إلى «وحش غير إنساني»، لا تردعه أي قوانين أو اعتبارات إنسانية ...» إنه، بمواجهته لدافع الموت باعتبارها أقصى التجارب الإنسانية، «يدفع الثمن بمروره ب «فاقة ذاتية» شديدة؛ إذ يختزل إلى فضلات متحللة».»
37
إن ما لم يذكره جيجك هنا (رغم أنه بلا شك يدركه جيدا) هو أن هذا، بالنسبة لبطل «أوديب في كولونوس» الملوث والملعون، هو مقدمة لنوع من التقديس؛ فبتحول أوديب إلى غثاء ونفاية المجتمع - «خبث العالم» كما وصف القديس بولس على نحو حاد أتباع المسيح، أو «الضياع الكامل للإنسانية» كما وصف ماركس البروليتاريا، يكون قد تجرد من هويته وسلطته؛ ومن ثم يمكنه أن يهب جسده الممزق ليكون بمنزلة حجر الأساس في نظام اجتماعي جديد. إن هؤلاء الذي يعدون لا شيء في أعين نظام السلطة الحالي هم الذين يرفضونه بالقدر الكافي بحيث يطلقون نظاما جديدا على نحو جذري. يتساءل الملك الشحاذ أوديب بصوت عال قائلا: «هل أصبح إنسانا في تلك الساعة التي أتوقف فيها عن أكون أي شيء ؟» (أو ربما «هل سأعد شيئا فقط عندما أكون لا شيء/لم أعد بشرا؟») إن تجرد الفرد من اختلافه الثقافي ورجوعه لكينونة جنسه يعني أن يوجد باعتباره لا شيء سوى قطعة من الخبث التافهة التي لا طائل منها (حيث إن الثقافة هي التي تشكل إنسانيتنا)؛ ولكن أيضا أن يصبح تجسيدا حيا لما هو بشري على نحو أصيل؛ لدال لا يطاق لفنائنا وضعفنا المشترك. إن هذه الجدلية هي التي تعيها التراجيديا على نحو أعمق.
يمكن أن يقوم مجتمع بشري دائم فقط على هذا الأساس «اللاإنساني». وإذا كان النظام الخيالي يتعلق بالتماثل، والرمزي بالاختلاف، فإن نقطة فناء البشرية غير القابلة للتمثيل تلك، التي أطلق عليها لاكان النظام الواقعي، تتعلق بكل من التماثل والاختلاف؛ مما يسمح لنا بأن نجد أنفسنا منعكسين في مرآة الاختلاف أو عدم الارتباط أو الفردية القاتلة للآخر. إن حب الآخر في فرديته يعني حبه في ذاته؛ لكن حيث إن أهم ما يمثل ذات الآخر هو إنسانيته الخالصة - هذا الفراغ أو نقطة الفناء التي تنصهر في بوتقتها كل الاختلافات - فإن هذا الحب له بعد لا شخصي على نحو ملائم، وهذا هو السبب وراء إمكانية النظر للإحسان باعتباره قانونا. ولا عجب بالتالي أن الحب يعد ذلك الأمر المستحيل؛ نظرا لأن هؤلاء المجردين من أي دلالات ثقافية محددة يعدون وحوشا، وشخصيات مستهجنة ومخيفة مثل أوديب الأعمى ولير البائس والمسيح المصلوب. إن السبب وراء اشتمال المسيحية على معتقد الفضل الفدائي هو اعتقادها في نفس الوقت بضرورة واستحالة مثل هذا الحب.
إن الكثير منا، وهو أمر مرض بالقدر الكافي، ليسوا مطالبين بأن يكونوا أبطالا تراجيديين. فمعظمنا ليسوا بمقاتلي حروب عصابات يخاطرون بحياتهم من أجل رفاهية الآخرين. لكن هناك طرقا بديلة لإحداث هذا التحول من تجريد الذات إلى الحياة الجديدة. تتمثل إحداها في الفن الأدائي المعروف بالتحليل النفسي، وتتمثل أخرى في الممارسة المسيحية المعروفة بالأفخارستيا؛ ذلك العيد الخاص بالحب أو العشاء الممثل للتضحية الذي يتضامن المشاركون فيه بعضهم مع بعض من خلال جسد مشوه. وهم، بهذه الطريقة، يتشاركون على مستوى الرمز أو سر التناول في تحول المسيح الدموي من الضعف إلى القوة، ومن الموت إلى حياة مغايرة. إن القديس بولس من وجهة نظر باديو، على العكس، هو شخص يتحدث عن قيامة المسيح فقط، وليس الحدث المأسوي بالكامل الذي تنتمي إليه. ويهاجم رايموند ويليامز في عمله «التراجيديا الحديثة» المعلقين الذين يفصلون لحظة الموت والدمار في الفن التراجيدي عن الحياة الجديدة التي قد تنتج عنها. لكن يمكن للمرء أن يفعل العكس أيضا؛ أن يحتفي بتلك الروح الباقية دون النظر إلى الثمن الرهيب التي يجب أن تدفعه لقاء عبورها عبر الجحيم. إن باديو بهذا المعنى ليس بمفكر تراجيدي. إن ويليامز نفسه، الذي عمله مشوب أحيانا بإنسانوية إيجابية شديدة العناد، ليس بريئا تماما من هذا الخطأ. أدرك دبليو بي ييتس أن لا شيء يمكن أن يكون مترابطا أو كاملا ما لم يكن قد جرى تمزيقه؛ لكن تلك الرؤية أيضا كثيرا ما تؤدي في أعماله للمحة نيتشوية قائمة على الانتصارية التراجيدية. إن هؤلاء الذين يوازنون على نحو رائع بين المعاناة والأمل - الأبطال التراجيديين الحقيقيين، إن جاز التعبير - هم الذين يتمردون لأنهم ليس لديهم الكثير ليخسروه، غير أنهم لنفس هذا السبب لديهم القدرة على تغيير وضعهم.
هوامش
الفصل العاشر
ابتذال الخير
بدءا من روبسبيير إلى رامبو، ومن برتون إلى ليوتار، تعد فرنسا واحدة من أعظم مراكز الطليعة. ومصطلح الطليعة نفسه يقال إنه من ابتكار كلود سان سيمون. غير أن الطليعية هي التي كثيرا ما تظهر ازدراءها للحياة العادية، ومثل هذا الازدراء، المناقض للاعتقاد العام، ليس متضمنا في فكرة الطليعة؛ فمن بعض الجوانب، العكس هو الصحيح؛ إذ لا توجد مقدمة جيش من دون جيش تكون في خدمته وتستكشف نيابة عنه المنطقة التي تتقدمه. إن المصطلح نفسه يشير ضمنا إلى علاقة بكيان أقل عظمة من جنود المشاة، وذلك بخلاف كلمات مثل «نخبة» أو «صفوة». إن الطليعة هم أول من يشعرون بالأمور غير الواضحة التي ستحدث في النهاية في المستقبل، لكن بقيامهم بهذا، يأملون في نقل تلك التحركات لمن يسيرون في الخلف والذين لم يتوافقوا معهم بعد. وإذا كانت الطلائع تتضمن تسلسلات هرمية، فإنها مؤقتة وليست دائمة. وكما هو الحال مع الحركات الراديكالية بوجه عام، فإنهم ينجحون فقط لأنهم يفصلون أنفسهم عن الحاضر. ويوما ما، إذا سار كل شيء على ما يرام، فإن الأغلبية سوف ترتفع فوق الأفق وتلحق بهم.
لكن في الواقع، الخط الفاصل بين الطليعيين والنخبويين غير واضح بعض الشيء. ففي العصر الحديث، هناك العديد من الحالات التي لا تستطيع فيها التفرقة بينهما؛ فأنجح النخب، على سبيل المثال، هم من لديهم جذور شعبية، ويربطون أقلية ما بالناس العاديين في معاداة مشتركة للجموع التقليديين المتزمتين. فالفاشية تمجد الشعب أو الناس العاديين، تماما كما تمجدهم الحركة اليسارية الرومانسية. وقد كان تي إس إليوت يستمتع بموسيقى الجاز وصالات الموسيقى، ويحلم بأن يقرأ له قراء شبه أميين. وسعى دبليو بي ييتس إلى تكوين تحالف بين ملاك الأراضي الأنجلو أيرلنديين المتكبرين والفلاحين المتحدثين بالأيرلندية، الذين يعدون جميعا ينابيع للحكمة الخالدة في حين أن لدى عدد قليل منهم جنونا نابضا بالحياة. بالنسبة للبلاشفة، كان الحزب رسميا في خدمة العمال السوفييت، رغم عدم تحقق هذا الرؤية فعليا على نحو كبير. تختلف النخب بهذه الطريقة عن الجماعات والأندية والجمعيات السرية وما شابه، والتي جميعها في واقع الأمر خاصة وغير شعبوية.
1
وبدءا من مالارميه وسوريل إلى سارتر وباديو، حلم مجموعة من المفكرين الفرنسيين بلحظة الأزمة التي ستكشف زيف الحياة اليومية. أو تخيلت وجودا يسمو بالكامل فوق عقم هذا الوجود. والناتج كان سلسلة من التقابلات الواضحة: «الشعر الخالص» في مقابل الكلام العادي، الخرافة في مقابل الوهم الاجتماعي، الهبة في مقابل التبادل المتكافئ، النظام الواقعي في مقابل النظام الرمزي، النظام السيميائي في مقابل النظام الرمزي، الحرية في مقابل سوء النية، النظرية في مقابل الأيديولوجيا، الاختلاف في مقابل الحتمية، الإصابة بالفصام في مقابل الإصابة بجنون الارتياب، الحدث في مقابل الأنطولوجيا. ورغم اختلاف تلك المتناقضات، يبقى الشيء الذي تقوم عليه جميعا متسقا على نحو ملحوظ. وهذا الشيء هو إنقاذ القيمة الحقيقية من براثن الحياة اليومية؛ من الامتثالية المجهولة التي يطلق عليها هايدجر على نحو مزدر «المرء». ووراء تلك المتناقضات، يوجد تقليد قوي من الفكر التحرري؛ فالتمرد أمر فرنسي الطابع مثل الشهوانية. فهو أيضا مثل الجنس ممتع في حد ذاته.
بالنسبة لسارتر في بداية مسيرته، فإن التناقض يكمن بين حرية «الوجود لذاته» والجمود الذي لا روح فيه ل «الوجود في ذاته». لاحقا، سيصبح هذا التناقض الأنطولوجي سياسيا؛ بين الممارسة والممارسة الجامدة. بالنسبة لجاك دريدا، فإن لعبة الاختلاف الخالص مقيدة بحدود الميتافيزيقا، لا تنفك منها إلا بين الحين والآخر مثل رجل مجنون يتملص فرحا من القائمين على رعايته. بالنسبة لمفكري ما بعد نيتشه، بدءا من باطاي إلى دولوز، فإن الجنون والتجاوز يحاصران النوازع الأبولونية الغامضة للحيز المدني. هناك أحيان يعامل فيها ميشيل فوكو ما يسمى بالعلوم الحياتية أو خطابات الحياة اليومية (البيولوجيا والطب وعلم النفس والاقتصاد والديموغرافيا وهكذا) وكأنها إلى حد كبير أمور تابعة مشئومة للمراقبة الاجتماعية. هناك أحلام ب «فعل مجاني»؛ لحظة تحول أو التزام وجودي تنقلك بقوة من مملكة الضرورة إلى نطاق الحرية، تاركا وراءك الأمور المملة على نحو مخيف للتقليد والبيولوجيا والخطاب الأخلاقي والتشدد السياسي من أجل العالم المثير للحرية والرغبة و«الانخراط» والذاتية الحقة. يمكننا إعطاء لمحة تفكيكية لهذا السرد المتجدد بالإشارة إلى أنه لا شيء سيهجر «ببساطة»؛ فكل طرف من طرفي التناقضات السابقة يتضمن في داخله الطرف الآخر؛ ولن يجري التخلص من كل ما هو ميتافيزيقي بهذه السهولة؛ ولا فكاك من السلطة والقانون والافتقار والأنا وسوء النية والانغلاق والعرف في نهاية الأمر. وحتى في ظل هذا، من الواضح بما يكفي أي خيار من الخيارات المتاحة يمكن الحكم عليه بأنه الأهم.
إن هذه القطبية لدى بعض المفكرين الفرنسيين المحدثين تتضمن نوعا من الإدراك المنقسم. فمن جانب، هناك الوجه الحذر لجاك دريدا بقراءاته الدقيقة على نحو نموذجي واحترامه لحركة التنوير والبحث العقلاني وإصراره الواعي على أنه ليس «ضد» النظام والحقيقة والذات والجدل والاستقرار والعمومية وما شابه. وعلى الجانب الآخر، يجري تحت هذا الحذر مثل تيار تحتي عاصف نص أكثر جنونا وفوضوية، مكتوب تارة بدفقات شعرية وتارة أخرى بومضات من التأمل اليوتوبي. يمكن قول نفس الشيء تقريبا عن ميشيل فوكو الذي تتناقض استقصاءاته الأرشيفية الكئيبة التي تهاجم كل ما قيل عن النفي أو التسامي أو الكبت مع شخصيته الأكثر جنوحا وديونيسيوسية والتي يمكن أن تحس بها وهي تطوف بأطراف تلك الاستقصاءات التحليلية المحضة. إن تلك الشخصية المتمردة ستظهر على نحو مفاجئ في مدح مبالغ فيه لباطاي أو دولوز، وقد أطلقت العنان لنزعة داخلية ترفض كل النظم وتقاوم كل القوانين وترقص على حافة الإعلان عنها دون أن تفعل ذلك أبدا. يوجد استثناء لهذا العرف الما بعد البنيوي والذي يتمثل في جيل دولوز الذي يرى بطريقة سبينوزية أن هناك نوعا وشيك الحدوث في الواقع المادي نفسه من الإفراط «المتسامي» أو اللاتناهي. فدولوز، الذي بالنسبة له كل شيء عادي وإعجازي في الوقت ذاته، لديه رؤية لشعر الحياة اليومية أقرب للسريالية منها إلى لاكان أو باديو.
يمكن أن نرى أن هذا الإدراك المنقسم باعتباره شكلا من أشكال التشاؤم التحرري الذي لم تنطفئ فيه إطلاقا شعلة النزعة التحررية، والذي لا يزال بالإمكان الإحساس فيه بنبض وحياة الرؤية الخاصة بعام 1968، لكن الذي يجب أن يعترف الآن - في أعقاب الأحداث المحبطة لتلك الحقبة - بسذاجة الحلم بإمكانية تحرر الرغبة من القانون أو الذات من السلطة. في المجمل، يفضل الفرنسيون أن يراهم الناس أشرارا عن أن يروهم قليلي الخبرة؛ لذا يجب في نفس الوقت التأكيد على وجود الرغبة واستحالتها، وكذلك الحال بالنسبة للتحرر والشك في ذلك. يمكن القول إن هناك قدرا كبيرا من هذا الإدراك المنقسم، المتمرد والخاضع في نفس الوقت، في الفكر الأخلاقي اللاكاني. فيجب ألا تتخلى عن أحلامك الجامحة بالاختلاف الخالص أو التدفقات الشهوانية الحرة أو مملكة العدل أو عالم الحب المتحرر من القانون، لكن يجب ألا تحاول في نفس الوقت تحقيقها؛ إذ إن هذا السبيل سيجعلك عرضة للإصابة بالذهان أو الخضوع لنظام شمولي أو التعرض لأي وسيلة أخرى مريعة لموت الروح.
إن للطموح الطليعي لوقف الاهتمام بالتاريخ تاريخا طويلا على نحو بارز؛ فكلمة
Modern (حديث) أصلها الكلمة اللاتينية
Modernus
وهي كلمة - وفقا ليورجن هابرماس - استخدمت من قبل مسيحيي القرن الخامس لتمييز أنفسهم عن الوثنيين الأكبر سنا.
2
إن المسيحية وفق هذه الرؤية كانت أقدم أشكال الحداثة؛ إذ إنها خرجت على النظام الديني القديم بجدتها الواعية بذاتها، غير أن محاولات التجديد المطلق ببساطة أضافت مزيدا من التاريخ على ما كان لدينا بالفعل. وإعلان موت التاريخ في حد ذاته فعل تاريخي ذو عواقب مادية، وهو بذلك أمر ذاتي الدحض تماما كإعلان الشخص لوفاته. إن الطليعة مخطئون في اعتقادهم أن الماضي دائما ما يكون بمنزلة كابوس بالنسبة لعقول الأحياء. ولأن الماضي هو ما نحن مصنوعون منه، فيمكننا صنع المستقبل فقط من خلال الموارد الغامضة التي يتيحها لنا الماضي؛ فالتاريخ تحرر كما أنه استعباد، والطليعة أداة رأسمالية جديدة تماما مثل التمرد السياسي. ويعد الانفصال عن الماضي ضمن أشياء أخرى للابتعاد عن إمكانية تجاوزه. هناك طليعيون ألمان إلى جانب الطليعيين الفرنسيين؛ لكن نظرا لطابع الفكر الألماني المائل أكثر للجدل، فهناك أيضا رؤية لما يمكن أن نطلق عليها الاستمرارية الثورية؛ حيث يمكننا بالنظر إلى الماضي من منظور الحاضر المتغير إدراك أن الحاضر منسجم معه ورافض له في نفس الوقت.
ربما يزعم أنه إذا كانت فرنسا أحد أعظم مراكز الطليعية، فإنها أيضا البيئة الثقافية التي ندين لها بمفهوم الحياة اليومية.
3
يبرز هنا قبل أي شيء ما أطلق عليه لوي أراجون «الإحساس بالأشياء المدهشة في الحياة اليومية». وماذا عن شارل بودلير، الذي يعد أكبر شعراء الوجود المدني المنحط، أو الأشياء العادية الشاردة لمالارميه وأبولينير؟ من غير هنري لوفيفر، في عمله الرائع المكون من ثلاثة أجزاء «نقد الحياة اليومية» الذي وضع فكرة الحياة اليومية على الخريطة الفكرية، وتبعه في ذلك مشاهير لاحقون تناولوا الحياة اليومية مثل ميشال دي سيرتو وجورج بيريك؟ كتب لوفيفر في الجزء الأول من عمله المميز السابق الإشارة إليه يقول: «بالقدر الذي يوجد به العلم الإنساني، فإنه يجد مادته فيما هو «تافه»، الحياة اليومية.»
4
إن هذا زعم أكده الإرث الضخم للواقعية الأدبية، بدءا من ستندال إلى مالرو؛ فلقد وصف فرانكو موريتي الرواية الواقعية بأنها تمثل «ثقافة الحياة اليومية» وليس نقدا لها.
5
والصور الشديدة التفاصيل من الحياة التاريخية التي قدمتها مدرسة الحوليات، إلى جانب استقصاءات بيير بورديو الاجتماعية، من الأمثلة البارزة الأخرى على ذلك. وحتى البنيوية لها جانب عام؛ إذ إن الشفرات الخفية التي تكشف النقاب عنها تعد أساسا لمناح مثل المصارعة والموضة تماما مثلما تعد أساسا لفكر شخصيات مثل رامبو وفورييه. وعلى هذا النحو، يعد رولان بارت في بداياته وريث خبراء تشخيص الحياة اليومية الأوائل من أمثال ميشال ليريس وريمون كنو. كما أن أعظم أعمال القرن العشرين المعبرة عن الحياة اليومية، «مشروع الممرات المقنطرة» لفالتر بنجامين، عمل كتبه مفكر ألماني، غير أنه كان يتحدث عن باريس. وكتابات موريس ميرلو-بونتي هجرت الذروات الأفلاطونية للفينومينولوجيا المتعالية من أجل تأويل الحياة اليومية. ربما تتهم الوجودية الحياة اليومية بالزيف؛ لكنها أيضا تفكر في إطارها، وهذا ما يتيح إمكانية وجود رواية وجودية في مقابل - لنقل - رواية وضعية منطقية. لقد كان ميرلو-بونتي هو من ألمح ل «جان بول سارتر» وهو في بداية مسيرته بأن الفلسفة يمكن أن تخلد إذا خرجت من رحم ما هو اعتيادي، أوليست السريالية والموقفية شعر ما هو تافه ومعتاد؟
إن الثراء الكبير لهذا الجهد ليس محل نقاش، غير أننا يجب أن نتذكر أن العديد من تلك المحاولات للانخراط فيما هو يومي تمت من منطلق سعي للهجوم بشدة عليه، أو لعلاجه من بؤسه الأخلاقي. وإذا كان بودلير قد وجه انتباهه للعاهرات والمتشردين، فقد كان هدفه أن يعطيهم هالة من الخلود. ويرى لوفيفر وأتباع الموقفية أن التجربة اليومية غامضة على نحو لا يصدق، وتافهة بقدر ما هي مهمة. كما أن رؤية جي ديبور للمستهلكين المغيبين الذين يعيشون في رخاء موجه تكاد تكون مدحا للطاقات الإبداعية للحياة اليومية.
6
إن لوفيفر وأتباع الموقفية طليعيون حتى النخاع؛ إذ أخذوا يبحثون بحماس في كلمات لوفيفر عن ميلاد «الإنسان الجديد». وصحيح أن السرياليين يسعون لاستخلاص سحر الحياة اليومية، ناسجين أشكالا جديدة من الأساطير الحضرية، غير أنهم في نظر لوفيفر متهمون باتباع توجه يقوم على اللحظة الخاصة والذي يدين كل ما هو عادي. إنه كان يرى أن نفس الشيء ينطبق تقريبا على الوجودية والتي هاجمها لأنها «اقتربت أكثر من الحياة ... فقط لتنال منها»؛ مما قلل من قيمتها لصالح «اللحظات الخالصة أو التراجيدية - نقد الحياة من خلال الألم أو الموت - والمعايير المصطنعة للعيش بأصالة ... إلخ.»
7
بالنسبة لأندريه برتون وأتباعه، فالأخلاق العامة يجب إنكارها باعتبارها شيئا لا أساس له ينتمي للبرجوازية الصغيرة، على عكس الجوانب البطولية التي يرونها في التجاوز. وهذا الاعتقاد سيجد طريقه لاحقا إلى أخلاق النظام الواقعي. وفي أثناء التحول من الواقعية إلى الحداثة، تحول الافتتان بنسيج الحياة اليومية إلى تشكك شديد بشأنه؛ فالتجربة العامة أصبحت الآن موطن الوهم وليس موضع الحقيقة. وإذا كان الفكر الأخلاقي لهيوم أو هتشسون متسقا مع عالم سموليت وريتشاردسون، فإن الفكر الأخلاقي لدريدا وباديو ينتمي إلى حقبة الرمزية والشكلية والتجريد.
يمكننا مقارنة هذا التقليد من الثقافة الفرنسية مع تقليد إنجليزي معين مهتم بالحياة العادية، بداية من ويليام كوبيت وجورج إليوت وجون راسكين حتى ويليام موريس وتوماس هاردي وإف آر ليفيس وجورج أورويل وريتشارد هوجرت ورايموند ويليامز وإي بي تومبسون. هناك بالتأكيد أوجه نقص كثيرة في هذا التقليد أيضا؛ فالرؤية الشديدة الانخراط في الحياة اليومية تعد نقيصة في التقليد الإنجليزي، تماما كما أن التعامل المتساهل معها يعد نقيصة في التقليد الفرنسي. إن الفلسفة التحليلية في أوجها كانت متحمسة بشدة للوصول إلى مجمل الحكمة البشرية من خلال اللغة اليومية لشمال أكسفورد. غير أن هناك أيضا تقديرا أصيلا لما هو عادي في هذا التقليد الإنجليزي، والذي يمكن أن يكون مصدر إلهام للراديكالية السياسية بدلا من أن يجد نفسه في تعارض معها. هناك صراع أساسي داخل فكر اليسار بين احترام الحياة اليومية وعداء القوى والأوهام التي تشكلها. وإذا كان رايموند ويليامز في بداياته أحيانا يفضل العداء على الاحترام، فإن الطليعيين بوجه عام يقعون في الخطأ العكسي. إن الطليعيين الذين يحتقرون الحياة العادية أحيانا يفعلون هذا لأنهم يخلطون بينها وبين النظام السياسي الذي يحكمها، ويغفلون أن هناك مقاومة يومية لهذه السلطة كما أن هناك خضوعا معتادا لها. كان فتجنشتاين في فترة لاحقة من مسيرته من ضمن الشخصيات البارزة القليلة في القرن العشرين الذين كانت لديهم ثقة شديدة فيما هو معتاد واستنكار شديد للسياسة البرجوازية.
8
هناك أيضا اختلاف بين التقليدين الفرنسي والإنجليزي فيما يتعلق بالأسلوب. فإذا كانت المبالغة هي إحدى الأدوات البلاغية المميزة للنظرية الطليعية الفرنسية، فإن الأداة البلاغية الأساسية لنظريتها الإنجليزية هي الإسفاف أو نفي الضد. إن بعض الكتابات الإنجليزية في هذا المجال كانت ذات أسلوب بسيط، في هجوم شديد على الأسلوب المنمق أو المفخم. ويكمن أحد الجذور الأقل شهرة لذلك في الشك التجريبي الشديد في الأفكار المبالغ فيها. ومع ذلك، فعندما كتب ديفيد وود في عمله «خطوة للخلف» عن بعض «القطط غير المعروفة في مدراس»، في معرض حديثه عن شعور دريدا السخيف بالذنب لعدم قدرته على إطعام كل القطط على كوكب الأرض، فقد استخدم أداة أسلوبية لا يمكن تقريبا تخيل استخدامها في أعمال الفلاسفة الباريسيين. إن أقل قدر من الانحطاط الأسلوبي كان يضر بشدة بأعمال هؤلاء الفلاسفة ذات الجودة الفكرية العالية، وكان على نحو مساو غير ملائم للطابع الأكاديمي الشديد للكتابات الأمريكية الأكثر راديكالية. ويمكن أن نجد نفس هذا الأسلوب المتهكم الممتعض، مثلا، في كتابات سايمون كريشتلي أو جوناثان ري أو سايمون بلاكبيرن. كتب ري عن «التقليد الإنجليزي بدءا من هوبز إلى شافتسبري إلى بنثام والذي جعل من التهكم المعيار الأساسي للحقيقة.»
9
في اللغة الرفيعة للنظرية الفرنسية، على العكس، حتى المزاح أو التسلية تبدو أمورا مخيفة وغير ملائمة على نحو واضح. ويظل الأسلوب الكرنفالي الذي يعتمد على الفكاهة عقلانيا على نحو واضح. هناك بالتأكيد استثناءات لهذه القاعدة. كثيرا ما يلام لاكان على غموض أسلوبه، ولهذا الاتهام أسباب عديدة وجيهة، غير أن هؤلاء الذين يلومونه في ذلك بوجه عام يتجاهلون بذاءاته المفاجئة وعباراته العامية اللاذعة ولمحات مزاجه الجيد المازح وتلميحاته الذاتية الساخرة ودعاباته الخبيثة مع جمهوره.
إذا كان سلافوي جيجك قد نجح في أن يكون عقلانيا ومتهكما، مزيجا من الفيلسوف الواسع الاطلاع والمهرج الما بعد حداثي، فربما يرجع ذلك إلى أنه سلوفيني، وفي نفس الوقت فرنسي حاصل على المواطنة الفخرية من فرنسا. بوجه عام، تميل الأمم الصغيرة، كما لاحظ المراقبون للفكر الأيرلندي منذ أمد بعيد، إلى النظر باستمتاع وإعجاب للطرائف المهيبة لجيرانها الإقليميين. وليس من قبيل الصدفة أن أكثر الروائيين الطليعيين العظام مادية وبساطة هو جيمس جويس. كما يكشف عمل صامويل بيكيت - الذي ينتمي إلى نفس موطن جويس؛ دبلن - عن التزام ثابت مماثل تجاه ما هو عادي. وأبدى مفكر سابق، موطنه هو الآخر دبلن، وهو إدموند بيرك استجابة جمالية تجاه أساس التقاليد اليومية والأعراف المسلم بها. إن تناقضات جيجك وجمله المعكوسة وشطحاته تعد علامة على النخبة المثقفة لأمة صغيرة تماما كفطنة أوسكار وايلد. إن التحليل النفسي في حد ذاته شكل من الإسفاف؛ انحدار مما هو سام إلى ما هو ساخر والذي يستجلي أحط الدوافع الكامنة داخل مشاعرنا المتسامية الأكثر علوا. في هذا الإطار، يقول لاكان: «بحسب اعتقاد فرويد، يتطلب كل شيء يسير باتجاه الواقع تلطيفا معينا؛ أي، تخفيفا للنبرة.»
10
يرى ويليام إمبسن على نحو حكيم أن «أسمى الرغبات كامنة في الأمور الأكثر بساطة، وستكون غير حقيقية إن لم تكن كذلك.»
11
بالنسبة للاكان، يمكن أن تصبح أكثر الأشياء روتينية شذرة من النظام الواقعي.
كان لدى الكثير من التيارات الفكرية العظيمة في القرن العشرين شكوك تجاه الحياة اليومية. بالنسبة لأتباع فرويد، الحياة اليومية إلى حد كبير مسألة باثولوجيا نفسية. والشكليون يمكنهم إيجاد قيمة في اللغة العادية فقط عندما تكون مفككة وغريبة بحيث تبدو العبارة العادية باعتبارها ذلك الشيء الأكثر ندرة وصقلا، ألا وهو التعبير الشعري. يمكن إفراغ اللغة العادية من معانيها الثرية فقط بإخضاعها لعنف منظم. ويكمن وراء جماليات الشكلية، باهتمامها الفينومينولوجي الشديد بالكلمة، تشكك عميق في اللغة العادية. إنه تشكك حداثي على نحو مميز؛ وهو عكس، إن جاز التعبير، الإيمان الهابرماسي الساذج جدا بموارد الحديث اليومي. وبطريقة مماثلة، ترفض الهيرمينوطيقا افتراض أن المعنى سهل المنال.
فرقت الكانطية الجديدة بين ما هو واقعي وما هو ذو قيمة. وقد قام فتجنشتاين في بداية مسيرته تقريبا بنفس الشيء. ففي عمله «رسالة منطقية فلسفية»، لا توجد قيمة في العالم العادي على الإطلاق. وأعمال هايدجر تتضمن من بدايتها لنهايتها تمييزا بين ما هو بطولي وما هو متوسط، بين ما هو استثنائي وما هو عادي، وقد وصل هذا إلى ذروته في ثلاثينيات القرن العشرين بإعلان هايدجر ولاءه لهتلر. صحيح أن هايدجر كان مولعا بشدة بالحياة العادية والموطن والناس العاديين، لكن كل هذا منح في عمله هالة شبه روحية جعلته يرتفع فوق ما هو عادي لعالم أكثر سموا. إن الحداثة حافلة بهذا التعلق الغريب بما هو عادي، بداية من إعجابها الشديد بالفلاحين والشعوب البدائية وحتى تبنيها لمذهب طبيعي يذوب بامتياز في الواقع المرير. إن الفينومينولوجيا تركز على العالم الاجتماعي اليومي حتى تتعامل على نحو أكثر يقظة مع الطريقة التي يظهر بها في الوعي. وتفضل حركة فلسفة الحياة «الدافع الحيوي» على القشور الخارجية الفارغة للمؤسسات اليومية. وهناك توتر مماثل في عمل ماكس فيبر بين الكاريزما والبيروقراطية. وترفض البنيوية، شأنها شأن الماركسية والفرويدية والواقعية العلمية، أن تنخدع بالمظاهر الاعتيادية للأشياء، وتبحث بدلا من ذلك عن الآليات الخفية التي تؤدي إليها.
تضع الوجودية اللحظة القصيرة للعيش بأصالة في مقابل «سوء النية» الخاصة بالحياة اليومية. ويناقض جانب كبير من الحداثة التجلي المفاجئ والمطلق وشبه المرئي أو الشدة الشاردة مع «الأوقات المملة» للحياة اليومية. ويعادي الشكليون ما يطلق عليه الروسيون
byt ؛ أي، العقم المدمر للروح للوجود اليومي. إن هايدجر، كما هو الحال لكيركجارد الذي جاء قبله، كان كاهله مثقلا بالملل، وهو مفهوم استطاع إعطاءه صبغة شبه فلسفية. ووجد سارتر نفسه غارقا في الفوضى الشديدة ل «الوجود في ذاته»، في حين كان ليفيناس يرزح تحت نير مزيج من التعب والخمول والأرق؛ ضوضاء كئيبة ومجهولة في خلفية وجود الشخص والذي أشار إليه ب
il y a (الهناك). كل هؤلاء المفكرين يعانون بشدة مما هو يومي. ويرون الحياة اليومية باعتبارها عملا عدائيا وشيئا يدعو للخمول وحالة مدمرة للروح من الطمأنينة و«السأم». إن جانبا كبيرا من النظرية الأخلاقية الحديثة يكمن مصدره الخفي في الاغتراب. ويعكس الفقدان الكارثي للإحساس بوجود قيم مشتركة وتضامن يومي. •••
هناك نوع من الأبطال الحداثيين المنعزلين الموجودين على أحد التخوم النائية للروح، وهذا الشخص يعاود الظهور على نحو متأخر في أخلاق النظام الواقعي. إنه عادة ما ينتمي لذلك التيار الحداثي الذي يخطئ بافتراض أن الحقيقة تكشف عن نفسها فقط في الظروف الشديدة. إن هذا ما يمكن أن نطلق عليه متلازمة غرفة التعذيب: فما يصدر عن الفرد وهو مكره، تحت تعذيب شديد، من المفترض أن يكون صادقا. في حقيقة الأمر، وكما ربما تكون قد اكتشفت الآن هيئة الاستخبارات المركزية الأمريكية، هذا في الغالب ليس هو الحال. يفترض الاعتقاد الحداثي، الذي يرى أن ما هو حقيقي أو صالح سيظهر فقط في تلك المناطق البعيدة للروح، أن التجربة العامة خالية من الصحة، وأن ما هو قريب دائما ما يكون زائفا، وأن من يقول بالوعي يقصد الوعي الزائف، وأن حقيقة الإنسانية في اللاإنسانية، وأنك تستطيع إثبات إنسانيتك فقط عند الحد الخارجي للتجربة.
هناك قدر كبير من هذه النقائية في كتابات الواقعيين الأخلاقيين، والذين يعدون، في هذا الإطار، حداثيين متأخرين وليس ما بعد حداثيين. إن سيادة الرغبة هي الشغل الشاغل للسريالية من البداية إلى النهاية. وأنتيجون لاكان هي بطلة تنمي للحداثة العالية بقدر أنتيجون جون أنويه. هناك أسئلة يجب طرحها بشأن قيمة نظرية أخلاقية يبدو أنها مقصورة على مجموعة من المتشددين روحيا. فهل الجموع يجب إلهاؤهم بالأخلاق، في حين تتمتع النخبة باتصال مباشر بالنظام الواقعي؟ إن هذا شكل مألوف للنخبوية الأخلاقية، ويتصف بأنه شيطاني على نحو غير متناسب، تماما كما أن النظام الرمزي ملائكي على نحو مفرط. إن الرجال الجوف التقليديين المحترمين الذين رسمهم تي إس إليوت جبناء روحيا بشدة بحيث لا يكونون ضمن الملعونين؛ والملعونون، أيا كان ما يمكن أن يقال عنهم، على الأقل أشخاص ذوو عقلية ميتافيزيقية على طريقتهم الخاصة، وهم أقرب للناجين مما يمكن أن نسميهم الطبقات الوسطى الأخلاقية.
يتضمن رفض الخير الأسمى أن تكون على معرفة ضئيلة به، وهذا لا يمكن أن يقال عن الشخص حسن السلوك فحسب. بالإضافة إلى ذلك، فالأشرار غير مبالين تماما، يخربون من أجل الخراب؛ ومن ثم يشبهون على نحو مخيف من يتشبثون برغبتهم على حساب المنطق والمنفعة العامة. يرى كانط أن الفعل الشيطاني، حال وجوده، ستكون له تقريبا نفس سمات الفعل الأخلاقي الأسمى. ولا ينشأ نمطا السلوك هذان من دافع مدرك؛ فنحن نسلك أيا منهما كغاية في حد ذاته، وكلاهما غير قابلين للفهم من الناحية العقلية. ومن يمارس الشر المحض يسعى عن وعي لمخالفة القانون الأخلاقي، تماما كما يفعل الفوضوي الأكثر سذاجة، الذي يتخذ من كسر القواعد أساسا لفكره. إنه يفعل ذلك حتى وإن كان هذا يعني التصرف على نحو مخالف لمصالحه، وحتى إن كان هذا سببا في موته. في هذا الإطار، هو صورة مرآة معكوسة من البطل الأخلاقي عند كانط.
12
إن الشيطان، كما أشرنا من قبل، هو ملاك ساقط، عرف كلا من الفزع والعظمة. والأشرار يعرفون الرب عن طريق النفي، أما سيئو السلوك فحسب، فلا. والشر يسعى لتدمير الإبداع الإلهي لأنه الشكل الوحيد من الإبداع المطلق الذي ما زال متاحا أمامه؛ لأن الرب قد استأثر لنفسه على نحو غير مبال بأهم أشكال الخلق.
إذا كان البروفسير الفوضوي المعتوه في رواية جوزيف كونراد «العميل السري» يرغب في تدمير الواقع بالكامل والبدء ثانية من جديد، فإن الفعل الأخلاقي عند لاكان وباديو يشبه تماما مثل هذا الفعل الإبداعي الجديد اللافت للنظر. كتبت ألينكا زوبانتيتش، وقد تملكها اعتقاد طليعي أصيل يرى أن ما هو جديد إيجابي دائما، تقول إن الفعل الأخلاقي الأصيل فعل يتجاوز الحدود الحالية؛ ومن ثم لا يختلف عن الشر.
13
إن المسألة هنا شكلية محضة. ووفقا لوجهة النظر هذه، الأخلاق الحالية دائما ما تكون وعيا زائفا؛ فبينكي، البطل الشرير في عمل جراهام جرين «برايتون روك»، أسمى روحيا من الواعظة الضيقة الأفق إيدا أرنولد؛ على وجه التحديد؛ لأنه يؤمن بالرب رغم أنه يكن ازدراء واعيا شديدا له. وهو، في هذا الإطار، صورة مصغرة من شخصية إيفان كارامازوف لدوستويفسكي. وقد علق جورج أورويل في مجلة «ذا نيويوركر» في عام 1948 قائلا: إن جرين «يبدو أنه كان مؤمنا بالفكرة، التي كانت مطروحة منذ أيام بودلير، والقائلة بأن هناك شيئا مميزا بعض الشيء فيما يتعلق بكون الشخص ملعونا.» ووفقا لهذه الرؤية، وكما قال هيجل، فإن كل الفنانين والمبتكرين والمشرعين العظام لديهم الجرأة الكافية للتجاوز. وقد قوبلت مسألة كون بعضا من أعظم المستغلين والمستبدين والإمبرياليين قد فعلوا تقريبا نفس الشيء فيما يتعلق بتلك الحالة «الجذرية» بصمت مطبق.
وهكذا، يصبح الأشرار والقديسون سواء، فيما يتعلق بالخلاص والجحيم. وهناك نوع من الشر - كما يشير باسكال في عمله «خواطر» - نادر مثل الخير، ومن السهل أن يحدث خلط بينهما. وأن تكون سيدا في الجحيم أفضل من تكون حارسا في الجنة. والتمرس في الفعل المتطرف، بل وتعلم الشر، أفضل من التوسط الأخلاقي. والشخص السيئ الأخلاق الحق ذو صلة بالرب، كما أن الشيطان واسع الحيلة، والملحد مؤمن ولكن في الاتجاه المعاكس. إن الشيطان في عمل توماس مان «دكتور فاوستس» يشعر بأنه أعلى مكانة من تفاهة البرجوازية الصغيرة، ويعلن متباهيا أنه الحامل الوحيد للحقيقة اللاهوتية. وهو يقصد أن الشر هو كل ما يبقى مما هو ميتافيزيقي في العصر الحديث. فالحداثة تعلم ما هو ميتافيزيقي فقط من خلال نفيه؛ فوق كل شيء، كما يمكن أن يزعم أحدهم، في شكل معسكر الاعتقال النازي أوشفيتس. إن كل ما تبقى من الخالق هو الظل المهجور لغيابه. في عمل «دكتور فاوستس»، تكشف موسيقى البطل الشرير لمان، أدريان ليفركون، «الهوية الحقيقية لأكثر الناس مباركة، وفي نفس الوقت أكثرهم لعنا». يرى نافتا، اليسوعي المتشدد المؤمن بفكرة المطلق الأخلاقي في عمل مان «الجبل السحري »، أن الرب والشيطان يشتركان في معارضتهما للعقل والفضيلة التقليديين على نحو رتيب.
إن هذه خرافة مغرية وشديدة الخطورة، وبعيدة كل البعد عن الاعتقاد التقليدي الذي يرى أن الشر في واقع الأمر نوع من النقص أو النفي؛ عدم قدرة على الحياة وليس وفرة فيها. إن الشر هو الذي يتصف بالملل والهشاشة، وليس الخير، الذي يتصف بالمرح والحيوية. وإذا كنا قد فشلنا في إدراك هذه الحقيقة، فإن هذا يرجع جزئيا إلى أن الطبقات المتوسطة قد آثرت أكثر الفضائل تقليدية ومللا. في بعض النواحي، تعد أخلاق النظام الواقعي نسخة حديثة من الأيديولوجيا البودليرية. ويجب النظر إلى هذا في ضوء نظرتها التراجيدية على نحو ملائم التي تقول إن الحياة الأصلية يجب أن تنبع من العوز الذاتي؛ فأخلاق النظام الواقعي أعمق كثيرا مقارنة بتلك الخاصة بالنظام الخيالي أو الرمزي؛ غير أنها أيضا لنفس هذا السبب مبالغ فيها جدا ونخبوية جدا وشبه مقدسة. والنقاش بشأنها، كما هو الحال مع الأخلاق الرمزية لكانط، بالغ الصعوبة. فعندما تحدث كانط في عمله «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» عن «الازدراء والاستخفاف» اللذين يرى بهما القانون الأخلاقي الميول الإنسانية العرضة للخطأ، فإن الليبرالي الكبير يكشف عن كونه أحد مصادر تلك النخبوية الروحية.
كتبت سيلفيان أجاسنسكي عن تشككها فيما ترى أنه «تمجيد للعظمة والسعة والمطلق» في كتابات كيركجارد، مضيفة أن «الدعوة أو الحاجة السامية التي تنبع من اللامتناهي أو المطلق تتضمن إدانة للتناهي؛ إدانة لكل ما هو موجود في كل أشكال الحنين لما هو غير قابل للقياس.»
14
ربما تكون أجاسنسكي قد تحققت من شكوكها فيما يتعلق بالسمو الكيركجاردي من خلال الحماس الشديد له من قبل جورج ستاينر، بنفوره الأرستقراطي مما هو قابل للحساب ونفعي. إنه، بلا شك، لأمر مزعج للواقعيين، الذين يرون أنهم راديكاليون، أن يحيوا بقبلة الموت الرهيبة هذه من شخص رجعي بارز يعد أحد المناصرين القلائل الأحياء ل «النقد الثقافي» في أواخر العصر الحديث. كتب ستاينر مادحا كيركجارد قائلا: «عندما تكون الأخلاق في أرفع مستوياتها في شخصية مثل سقراط أو كانط، فإن اللاإنسانية والسخف اللاعقلاني لا مكان لهما.»
15
وهذا، كما يجب أن نشير، المقصود منه أن يكون توبيخا لسقراط وكانط، وليس إدانة لهما. إن اللاإنسانية التراجيدية والعبث اللاعقلاني، اللذين قليلا ما يتصدران قائمة حالات الوجود المفضلة لدينا، في نظر ستاينر هدنة مرحب بها من ملل البرجوازية الصغيرة للعقل والأخلاق ومذهب المساواة والديمقراطية الجماهيرية؛ باختصار من حداثة جديرة بالازدراء تفتقد بنحو أو بآخر إلى العناصر التعويضية. إن إعداد النبي إبراهيم ابنه للذبح، كما يقول ستاينر اليميني مستحضرا روح دريدا اليساري، «يتجاوز كل الادعاءات القابلة للتصور للمسئولية العقلية والمعايير الأخلاقية»، والتي تعد لا شيء مقارنة ب «إنسان عادي في قبضة اللاتناهي».
16
إن الكيفية المحددة التي كان بها النبي إبراهيم إنسانا عاديا تظل غير واضحة. فلا يمكن لنا أن نقرنه على نحو عادي بالبيئة المدنية للطبقة المتوسطة.
إن التشابه بين ستاينر ودريدا ليس عرضيا تماما؛ إذ إن هناك تصورا يرى أن الواقعيين من ضمن الورثة المتأخرين لتقليد «النقد الثقافي».
17
إن ما يميز هذا التيار الفكري، بدءا من كولريدج وأرنولد وراسكين إلى إف آر ليفيس وتي إس إليوت وتوماس مان في بداية مسيرته وكارل مانهايم وخوسيه أورتيجا إي جاسيت، هو عداؤه للتنوير ومذهب المساواة وشكه في الليبرالية والمادية والحضارة الجماهيرية، ورفعه لمكانة القليل من الأرواح الإنسانية النادرة مقارنة بالديمقراطية الشعبية وتسيد التوسط. ويمكن أن نجد واحدا من أفضل الأمثلة المعبرة عن ذلك في أدب سول بيلو. إنه تقليد مفجع سياسيا وبارع على نحو ثري، تقليد يفضل إلى حد كبير العبث المعذب على الرخاء الموجه؛ فالتعقل يكون لأصحاب المتاجر وليس للحكماء. هناك بالتأكيد نقاط اختلاف واضحة بين هذا المنظور وأخلاق النظام الواقعي؛ فبالاستثناء البارز لليفيناس، يميل الواقعيون الأخلاقيون في الغالب لليسار، وستجدهم بوجه عام يهاجمون الاشتراكية والديمقراطية. ويمزج دريدا جوانب من «النقد الثقافي» بمسيرة حياتية مميزة كمعارض سياسي، غير أن الازدراء اللاكاني للسعادة والسياسة والمنفعة والرخاء والإجماع الاجتماعي والممتلكات وتقوي الطبقة الوسطى قريب على نحو بارز من فكر ليفيناس أو إليوت. هناك عداء من قبل اليمين واليسار على السواء للبرجوازية؛ عداء أدى إلى بعض من أبرز الإنتاج الحداثي المكتوب. وكما اتضح من مسيرة دريدا، تحول الانشقاق اليساري عن الحضارة الرأسمالية تدريجيا إلى ازدراء روحي للمجال السياسي في حد ذاته، على الرغم من استمراره الشجاع في خوض المعارك فيه.
خذ، على سبيل المثال، التقارب بين لاكان ودي إتش لورانس، وهو كاتب يعد من أبرز المنتمين لتقليد «النقد الثقافي». تقليديا، اختلف الأخلاقيون حول ما إذا كانت الأخلاق معنية بالأساس بما هو خير أو صواب. لقد كان صداما بين النفعيين وأنصار أخلاق الواجب، حملة شعلة الفضيلة والسعادة والمدافعين عن الحقوق والواجبات.
18
يتفق لورانس ولاكان على رفض نمطي الفكر الأخلاقي السابقين من أجل أخلاق الرغبة، وهي أخلاق تقلل بشدة من مكانة الحقوق والفضائل. وكما أن الذنب الوحيد الحقيقي عند لاكان يكمن في تخلي الفرد عن رغبته، فإن الجريمة الحقيقية الوحيدة عند لورانس هي التنصل من الرغبة التي تعد أساس ذاتية الفرد. إنها تعني رفض الفرد ل «الرب» الذي بداخله؛ ومن ثم فهي تعد نوعا من الكفر. في الفكر الميتافيزيقي للورانس، تعد هذه الرغبة، كما هو الحال بالنسبة للرغبة الخاصة بالنظام الواقعي عند لاكان، هي «الآخر» العنيد بالنسبة لمن يمتلكونها. وهي بعد لا يمكن سبر غوره ولا مقاومته من الوجود، والذي سيفعل ما يشاء بنا مهما كانت تفضيلاتنا الواعية. عندما كتب لورانس أن «ذات الفرد قانون على نفسها، وليس على «نفسه»»،
19
فالاختلاف محل النقاش هو بين عالم الأنا ونزعاته التافهة من جهة وعالم النظام الواقعي العظيم. إنه اختيار بين الرغبة والنزعات؛ بين تجريد ميتافيزيقي هائل من ناحية، والرغبات والاحتياجات التي تهتم بها على نحو كبير الأخلاق الكلاسيكية من الناحية الأخرى.
إن من لديهم ولاء لرغبتهم من وجهة نظر لورانس هم أرستقراطيو الروح؛ الأشخاص المتباهون والمنشغلون بتفرد وجودهم والذين تمثل لهم الجموع إلى حد كبير عدما جديرا بالازدراء. إن هؤلاء الذين لا يمكنهم أن يشبعوا هذه الرغبة أو يشبعها لهم الآخرون في حقيقة الأمر تقريبا غير موجودين، وستتجاهلهم حتما قوة الحياة. إن ما يهم هو نقاء الروح، وليس التعاطف الإنساني. يهاجم لورانس بضراوة في لحظاته الأكثر انحطاطا أخلاقيا، كما في عمله «فانتازيا اللاوعي»، «الخير المفرط، وحسن النية البغيض، والإحسان الكريه، والمثل المؤذية.»
20
إن الليبرالية والخيرية، مثل «تقديم الخير» عند لاكان، تعدان ملجأ للحضريين المهذبين الجبناء بشدة بحيث لا يمكنهم مواجهة النظام الواقعي. يتحدث لاكان في مقاله «كانط مع ساد» عن «أنوية السعادة»، وهي رؤية كان سيقبلها بالتأكيد لورانس؛ فبالنسبة له، الشعور والأخلاق والوعي وحتى الإنسانية في حد ذاتها ببساطة مثل الزبد الذي يعلو طوفان قوة الحياة بظلمته. وكما هو الحال بالنسبة لجانب كبير من تقليد «النقد الثقافي»، يجب إسقاط الأخلاق والسياسة والمجتمع والعقلانية باعتبارها «آليات» لا روح فيها، أو في أفضل الأحوال يجب تحملها باعتبارها من الشرور الضرورية. إن الديمقراطية والمساواة تهديدان بغيضان للاستقلال الذاتي. وإن ما تدفعك الروح أو الرغبة الموجودة بداخلك لفعله هو الشيء الصحيح الذي يجب عليك القيام به؛ فعملية القتل المرتكبة باسم الحياة العفوية-الإبداعية لها قيمة أخلاقية أكبر من إطعام الجوعى النابع من الإحساس بالواجب.
تعد فكرة التراجيديا من الأشكال المألوفة لتقليد «النقد الثقافي»، فإذا كانت الثقافة الغربية الحديثة تزخر على نحو كبير بما هو تراجيدي، والذي بدا ضمن اهتمامات الفلاسفة البارزين، الواحد تلو الآخر، فإن هذا لا يرجع - كما يمكن أن يتوقع المرء - إلى أن تلك الفلسفة تنبع من حقبة مثقلة بالمآسي المفرطة في عددها مقارنة بأي حقبة أخرى في التاريخ البشري، ولكن كانت هناك أربعة أسباب رئيسية للظهور اللافت للنظر للتراجيديا في عصر ما بعد ميتافيزيقي وغير بطولي؛ أولا: سعت التراجيديا لأن تكون بديلا للدين في عالم علماني؛ فقد انتزعت، بتناولها للمطلق والسامي، الهالة التي كانت تحيط بالدين، مع ترك محتواه العقائدي غير الموثوق فيه. ثانيا: سعت فكرة التراجيديا لتقديم حل جمالي للمفارقة التي تتمثل في أن الناس في العصر الحديث أحرار وعبيد في نفس الوقت. إنها رد عملي، باختصار، على المسألة النظرية الخاصة بالحرية والجبرية. إن البطل التراجيدي، الذي يذعن لما هو حتمي في روح تتسم بحب القدر وفي نفس الوقت يختار مصيره، يكشف في هذا عن حرية لا متناهية تتجاوز حالته المريعة. ولا شيء يجسد تلك الحرية على نحو أكثر إقناعا من الإشارة النبيلة الخاصة بالتخلي عنها. ثالثا: لقد كانت التراجيديا بمنزلة شكلا حداثيا من فكرة العدالة الإلهية؛ إذ ركزت على مشكلة الشر ولم تحقق نجاحا كبيرا في تبرير وجوده شأنها في ذلك شأن أي محاولة أخرى في هذا الشأن. إن وجود الشر يعد حجة شديدة القوة لعدم وجود الرب.
وأخيرا، كانت التراجيديا بمنزلة رؤية نقدية في غير موضعها للحداثة - لثقافة عقلانية وعلمية ومساواتية ونفعية وتقدمية غير ناضجة ومدركة على نحو مباشر - والتي غضت الطرف عما في الفن التراجيدي من أمور غامضة وخرافات، واعتقاد خاص بالشعور بالذنب بسبب القتل وطقوس مقدسة، وتسلسلات خاصة بالوجود، وقيمة مطلقة، وازدراء لما هو محتمل، وروح سمو، وهيكل عظيم للآلهة والأبطال والأرستقراطيين.
21
لقد كانت بمنزلة تحسر على تدهور الثقافة الراقية، وحنين روحي لعالم أكثر سموا. إن التراجيديا نقد للعقل المتعالي؛ حيث إن محاولة الذات الحرة لكتابة تاريخها فشلت بسبب قدر عنيد. لقد اتضح أن الأمل السياسي خداع للذات؛ فلا يمكن لثقة ساذجة في التقدم المادي أن تعالج قدم فيلوكيتيس، ولا لهندسة اجتماعية أن تنقذ فايدرا من مصيرها المحتوم. والحكمة يجب تفضيلها على المعرفة، وأوديب يمثل المعرفة في منتهى حدودها. والتقديس هو عدو التفسير العقلاني. وهناك كرامة إنسانية أبدية تتجاوز الغوغاء السياسية أو معمل العالم. وفي مواجهة الكارثة التراجيدية، يتضح أن الإنسانية رقيقة الشعور للطبقات الوسطى رياء حقير؛ فلا يمكن لأي شيء دنيوي أن يدخل هذا العالم المبهر. وكما لاحظ جورج ستاينر، بمزيج معبر من البراعة والتعالي: «إذا كانت هناك حمامات في منازل التراجيديا، فستكون لأجاممنون كي يقتل فيها.»
22
إن مقابل المأساة هو السباكة؛ فقصة أجاممنون، بالنسبة للعديد من المنظرين المعنيين بالتراجيديا، تراجيديا، أما معسكر الاعتقال النازي أوشفيتس، فلا.
ليس من الصعب أن نرى أن أخلاق النظام الواقعي ترث بعضا من التحيزات الأرستقراطية لتقليد «النقد الثقافي». إن النظرية التراجيدية في أقل صورها إقناعا مزيج من العدمية والانتصارية؛ فالوجود همجي وعبثي، لكن الإرادة التي لا تقهر للبطل ترفعه على نحو واثق فوقه. إن التراجيديا في أقوى صورها تهاجم كلا من العدمية والانتصارية، وترشدنا لكيف أن يكون لدينا أمل دون تفاؤل. لذا، فهي، كما هو الحال بالنسبة للأخلاق عند لاكان، عقيدة مناسبة للراديكاليين غير الواهمين الذين يرغبون في الاحتفاظ بالإيمان دون هجر الواقعية السياسية. فإذا قللت من قيمة الروح الإنسانية كما يفعل العدمي، فأنت تحرم البشر من المعايير التي يمكنهم من خلالها أن يقيموا سعادتهم؛ وسيكون نتيجة ذلك مخاطرتهم بالنظر إلى بؤسهم باعتباره شيئا حتميا وليس غير محتمل. أما إذا أعليت على نحو مبالغ فيه من مكانة الروح الإنسانية كما يفعل الانتصاري؛ فستبدو المعاناة البشرية أمرا تافها إلى حد ما.
يختلف الأمل عن التفاؤل في أنه لا يتوقع على نحو واثق حدوث شيء إيجابي. وهذا ما يميز أنصار تقليد «النقد الثقافي» عن التقدميين المتحمسين. فالأمل الوحيد المرن على نحو كاف بحيث يمكنك تحقيقه هو ذلك القادر على جعل إمكانية الفشل واضحة بثبات أمام عينيك. إنه ما نكتشفه عندما تخور قوانا ونحتار، ومع ذلك، يبقى لدينا شيء ليسجل الحقيقة. ويوضح ذلك ما جاء على لسان إدجار في مسرحية «الملك لير» حين قال: «ليس أسوأ أحوالنا ما يكون ما دمنا نستطيع أن نقول: «إن هنالك ما هو أسوأ»» (4، 1: 29-30). وهذا ليس بعدمية ولا انتصارية. فإذا كان المسيح قد استسلم لموته وهو يتطلع بدهاء إلى قيامته الوشيكة، فما كان سيعود ثانية للحياة. لكن أيضا هو ما كان سيعود مجددا إلى الحياة إذا كان قد تخلى عن رغبته؛ والتي تمثلت في حالته في هذا النوع العجيب من الحب المعروف بالإيمان. (كتب كيركجارد في «المرض طريق الموات» يقول: «المؤمن، رغم كل شيء، شخص محب».) فقط إن لم يكن صلب المسيح خدعة غير شريفة وكان مواجهة عصيبة مع البعد الواقعي للعوز، فإنه يمكن أن يمثل السبيل إلى حياة مغايرة، وفقط إذا اعترف المسيح بأنه أخفق في مهمته وأنه فاشل بائس هجره رفقاؤه المذعورون ومع ذلك أكد في خضم هذا الاعتراف على إخلاصه المحب لما رآه مصدر وجوده، فيمكن لموته أن يؤتي ثماره في حياة الآخرين.
إن هذ التقابل بين التقبل والتغيير قائم أيضا بين ما هو عادي وما هو استثنائي. إنه في هذا الصدد يختلف عن التناقض بين النبل الأخلاقي والتفاهة الاجتماعية الذي يصر عليه تقليد «النقد الثقافي» والنظرية التراجيدية «المتسامية» والواقعية الأخلاقية. من الجدير بالملاحظة أن العهد الجديد لم يقدم في أي موضع فيه معاناة المسيح على أنه عمل بطولي؛ فلا يوجد أي شيء مجيد على نحو جوهري في موته. ويشير سورين كيركجارد في عمله «خوف ورعدة» إلى أن البطل التراجيدي يتخلى عما هو مؤكد من أجل ما هو أكثر تأكيدا؛ لكنه أيضا يدرك أنه لا توجد انتصارات مضمونة في مقابل الأعمال الإيمانية. إن موت المسيح لا يجب أن يحتفى به أكثر من موت أي شخص آخر. إن المعاناة بالنسبة للثقافة المسيحية اليهودية التي أدت لظهور الأناجيل شر على نحو قاطع، وهو أمر يجب مقاومته وليس تمجيده. لم يطلب المسيح يوما من المرضى أن يتسامحوا مع مصابهم. بل على العكس، بدا أنه كان يبارك الخرافة التي تقول إن المرض من أعمال الأرواح الشريرة. فإذا أمكنك انتزاع شيء إيجابي من محنتك، فهذا جيد، لكن سيكون من الأفضل لو لم تكن بحاجة لذلك.
يجب أن تتضمن الشهادة - تسخير ثاناتوس من أجل إيروس؛ أي، الموت من أجل الأحياء - تقبل الموت باعتباره حقيقة تراجيدية دون انتظار شيء من ورائه. يمكن أن يتغير حاجز الموت أو العوز الذاتي إلى أفق فقط بالنسبة لهؤلاء الذين حتى في هذه الظروف لا يمكنهم التخلي عن إيمانهم أو حبهم، مهما قلت احتمالية تحققه أو الإثابة عليه. ففقط الذين يرون أن الموت والفشل والفناء هي نهاية المطاف وليس أوراق مساومة في تبادل رمزي ما، هم من قد يثبت لهم أن هذه الأشياء ليست نهاية المطاف في نهاية الأمر، تماما كما انتهت السيمفونية الشيطانية التي ختم بها توماس مان عمله «دكتور فاوستس» بنغمة مستحيلة وخافتة على نحو متناه وتكاد تكون غير مسموعة؛ مجرد شبح واهن أو إيماءة في الهواء؛ «أمل يتجاوز اليأس» والذي قد يشير فقط إلى طريقة أخرى مختلفة تماما للتأمل والعيش. إن الاشتراكية أيضا مشروع تراجيدي بهذا المعنى، إنها ممارسة للتضامن مع الفشل، وهي تعلم أن السلطة الباقية الوحيدة هي تلك التي تنبع من التضامن مع هذا الضعف. ففقط هؤلاء الذين لديهم القليل ليفقدوه هم من يحتمل مخاطرتهم بمواردهم القليلة من أجل الاحتمال المحفوف بالمخاطر بوجود مستقبل أكثر عدلا.
إن صلب المسيح ينظر إليه تقليديا على أنه اللحظة التي تبنى فيها المسيح فكرة الذنب البشري وأخذ على عاتقه تخليص البشر من هذا الذنب. وهذا الذنب ينبع من التواطؤ المدمر بين القانون والرغبة؛ حيث إن القانون أو الأنا العليا تدفعنا ليس لنعاقب أنفسنا على تطلعاتنا غير المشروعة ولكن لنختلس لذة فاحشة من هذه العملية؛ وهذه اللذة تؤدي بدورها لذنب أعمق، ومن ثم لتمزق أكثر بربرية للذات. وإذا كان القصد من موت المسيح هو كسر هذه الدائرة، فإن هذا يرجع، كما رأينا، إلى أنه يكشف أن قانون الآب هو قانون الحب والعدل وليس قوة خاصة بالموت. إنه يعلن أن القانون فضل وحب ونشوة وتحرر ووفرة مبهجة من الحياة؛ وليس نير ظلم.
يرى الفكر اللاكاني أن هناك صدعا مأسويا بين الذات والآخر الكبير؛ بين ما نحن عليه كذوات وما قد يتطلبه الآخر الكبير الغامض منا. على العكس، يعني قولنا إن المسيح هو «الابن» الزعم بأنه يمثل بالنسبة للآخر الكبير المعروف بالرب ما يمثله هو أيضا لنفسه. إن مصدر الحب ومصدر وجوده الشخصي واحد. إنه متماه مع قانون الآب؛ دال واضح عليه (أو «كلمته»)، وهو مولود بالكامل من الحب وليس من لحم ودم؛ وبسبب هذا التماهي المخلص مع جذور هويته - هذا الرفض للتخلي عن وثوقه المحب في أساس وجوده - عذب وقتل. إن إخلاصه لقانون الآب في حد ذاته نموذج للحب الذي لا حدود له؛ ومن ثم تجل للآب نفسه. إن الرب ليس ببساطة محل رغبته ولكن مصدرها بحيث يؤدي اللاتناهي «الشرير» للرغبة اللاكانية، التي هدفها ينفلت منها على الدوام، إلى رغبة للخير تكون ممكنة فقط إذا كان الخير يتم الاستمتاع به بالفعل على نحو ما. فلا يمكن للمرء البحث عن الرب، كما تقول الحكمة المسيحية القديمة، ما لم يكن قد وجده بالفعل. من هذا المنطلق، يؤدي لا تناهي الرغبة إلى أبدية الحياة الغنية. إن الإحسان هو الذي فوق كل شيء غير محدود وليس الرغبة؛ فالرغبة لم تعد ضياعا دائما، بمجرد أن تصطبغ بصبغة الإيمان. لكن بسبب رغبتنا المرضية في أن يعاقبنا الآخر الكبير بدلا من أن يسامحنا؛ فنحن نأبى التخلي عن المتعة التي نحصل عليها من مثل هذه الخيالات المعاقبة للذات. ومن الصعب قبول الفكرة القائلة بأنه يمكن أن يكون هناك آخر كبير كان بالفعل في صفنا. ويعني قول هذا التخلي عن المتعة المازوخية التي تربطنا بالقانون؛ ومن ثم الحاجة إلى تحول جذري في الذات.
ومن ثم فإن ادعاء أن المسيح هو «ابن» الآب يعني أنه هو الصورة الأصلية للآب، مقدما إياه كصديق ومحب وضحية بدلا من «نوبودادي» متسلط أو قاض شرير أو طاغية متعطش للدماء. إن المسيح لم يقتل على يد الآب ولكن على يد الدولة الرومانية وأتباعها الاستعماريين اللامبالين الذين فزعوا من رسالته القائمة على الرحمة والعدل، وكذلك من شعبيته الكبيرة لدى الفقراء، وتخلصوا منه في وضع سياسي شديد التفجر. ومما زاد الأمور تعقيدا أن عددا من رفقائه المقربين كانوا على الأرجح ينتمون لجماعة الزيلوت المتحمسين أو كانوا ثوريين معارضين للاستعمار. وهكذا فإن الإرهاب المقدس للحب الإلهي أصبح الإرهاب المقدس للبريء المذنب؛ كبش الفداء الذي ضحي به من أجل الآخرين. ليس الأمر أن الرب له وجود غير مؤثر وأيضا جانب خفي سادي على نحو شنيع، وإنما الأمر أنه إرهابي الحب. إن الرسالة من وراء صلب المسيح هي أن هؤلاء الذين يدعون على طريقة أنبياء العهد القديم لوصول الفقراء للسلطة سيجرى تصفيتهم من قبل السلطة. وتشير قيامة المسيح إلى أن هذا الانتصار ليس في واقع الأمر نهاية المطاف.
وبهذا فإن صورة القانون بوصفه أنا عليا علينا اتباعها على نحو أعمى قد تهاوت من مكانتها العالية. وبسبب ذلك، أصبح من الممكن الآن مبدئيا أن نحب ونرغب دون شعور بالذنب. ويمكن النظر إلى انعدام الوجود المتمثل في الرغبة على أنه من بقايا تلك السلبية الأكثر عمقا المتمثلة في الرب. وهكذا، فإننا قد تحررنا من الحالة المأسوية التي تثير فيها الرغبة السادية الظالمة للقانون وتنمي فينا من ثم تلك الثقافة المؤلمة الخاصة بالشعور بالذنب التي يمثلها المصطلح المسيحي الكلاسيكي الخطيئة الأولى. والمدهش أن شكلا غير فاحش من المتعة أو النشوة قد أصبح ممكنا الآن. إن هذه المتعة، مثل «ثاناتوس» أو دافع الموت، «لا طائل منها» بعبارة لاكان، على نحو يفوق كثيرا المنفعة؛ لكنها أصبحت هي الشيء الذي لا طائل منه للخلق نفسه، الذي، شأنه شأن الهبة والفضل المجردتين اللتين لا هدف من ورائهما، لا غرض له سوى السعادة الذاتية العليا للرب. اتضح أن إرهاب القانون هو التطرف العنيد للحب الإلهي؛ فقد اتضح أن الحب ذاته هو حاجة عنيفة ومؤلمة ومدمرة؛ ومن ثم ليس سوى النظام الواقعي على نحو يذكرنا بالإله يانوس. وإذا كانت الرغبة قد أصبحت مشروعة؛ إذا كان بإمكاننا الآن أن يحب كل منا الآخر دون شعور بالذنب، فإن هذا يرجع إلى أننا تقبلنا الحقيقة التي لا يمكن تحملها والمتمثلة في أن مصدر هذا الحب كان دائما ما يغفر لنا ويقبلنا على ما نحن عليه رغم كل بؤسنا الأخلاقي ولا يطلب أي شيء منا سوى أن يسمح له بأن يحبنا. هناك، على نحو مثير للدهشة، شكل من أشكال النظام الواقعي الذي يرغب في رخائنا بدلا من أن يدمره، والذي لن يسمح لنا بأن نسقط. وبذلك نكون قد حرمنا عنوة من المتعة الفاحشة الخاصة بالندم، والتي على الأقل تؤكد لنا أننا موجودون.
يمكن النظر إلى كل هذا كرمز لأخلاق النظام الواقعي. إن النظام الواقعي، شأنه شأن حب الرب، إرهاب مقدس؛ هو شيء مقدس وملعون في نفس الوقت. إنه المكان الذي نسقط فيه ضحية الغضب الانتقامي لدافع الموت، ومع ذلك، فهو أيضا المكان الذي يمكننا فيه أن نتحرر من أصفاده. إن بؤس اليأس ربما يكون أقرب مما يبدو من التجريد الذاتي للحب، وبامتلاك قوى الموت، يمكننا التحول - حسبما يرى لاكان - من مستوى الرغبة إلى ذلك الخاص بالدافع. وبقيامنا بهذا، فإننا نحمل عبر النطاق المنظم للقانون ثم نخرج من الجانب الآخر إلى منطقة خارج سيطرة القانون أو الغرب المتوحش للروح حيث قانون رغبتنا هو القانون الوحيد المهم. لقد استعضنا بالقانون الرمزي قانون النظام الواقعي. وحلت محل الضرورة المضنية للقانون الرمزي الضرورة المانحة للحياة للتمسك برغبتنا، الذي نرى أنه مثل كل الدوافع الأخلاقية الأصيلة لا يمكن مقاومته. إن الذنب الوحيد الذي يجب الخوف منه الآن هو التخلي عن هذه الرغبة التي تأكد كونها أساس وجودنا. في هذا الشأن، لاكان على طريقته يعد مناصرا للمذهب الجوهري تماما مثل لورانس.
إن الموتى الأحياء هم هؤلاء المعذبون لأنفسهم الواقعون في شراك القانون والمحبوسون في الجحيم الأبدي لجدلية عقيمة بين الرغبة واحتقار الذات؛ لكن بمجرد أن ينظر للموت باعتباره معبرا بدلا من نهاية طريق، فيمكن لتلك الكائنات الشبيهة بالزومبي أو مصاصي الدماء أن يموتوا بالفعل، مؤمنين بتناهيهم ومتقبلين لدافع الموت ومحولين إياه إلى الدينامية الأساسية لرغبتهم. وبقيامهم بهذا، فهم يدعون نوعا غريبا من الخلود. فكونهم لم يعودوا خائفين من الموت يعني أنهم يتمتعون بنوع من الحياة الخالدة. إن هذه الحالة هي التي كانت يقصدها لاكان عندما أشار إلى أنه فقط في ذلك العالم الذي يتجاوز النظام الرمزي «يمكن أن يبرز مغزى الحب الذي لا حدود له؛ لأنه يوجد خارج نطاق القانون؛ حيث يمكن فقط أن يعيش».
23
وفقط بالتخلي عن الأشياء الفورية لحبنا والتي يراها لاكان برؤية كانطية «مرضية»، يمكننا أن نتأكد من نقاء الرغبة التي تمثل النظام الواقعي. وبقيامنا بهذا، نحن نحرر أنفسنا من الشعور بالذنب؛ ونصبح بالتالي قادرين على الحب بلا تحفظ.
إذن، وكما هو الحال بالنسبة للمسيحية، فإن الأخلاق اللاكانية تقوم على التضحية. في الواقع، أشار لاكان ذات مرة إلى أنه إذا كان هناك أي دين حقيقي، وهو الأمر الذي لم يؤمن به ولو للحظة، فسيكون المسيحية. لكن هناك اختلافات جوهرية بين العقيدتين. يرى لاكان أن هناك تعارضا بين حب الأشياء الدنيوية والرغبة الخاصة بالنظام الواقعي والتي من أجلها يجب التخلي عن هذه الأشياء. أما المسيحية على الجانب الآخر، فلا ترى هذا التعارض الشديد بين ما هو دنيوي والنظام الواقعي؛ فقد ترك المسيح العالم بسبب حبه له، وكان مستعدا لخسارة كل شيء من أجل حبه للبشرية. وبالنسبة لمعتقد يقوم على فكرة التجسد، فإن النظام الواقعي ليس بديلا لحب الآخرين، كما سيبدو لبعض أنصار لاكان، وإنما يتحقق من خلاله. وفي هذا الشأن، يقول إريك سانتنر: «نحن لسنا ... بحاجة للرب من أجل الأمور الروحية ولكن من أجل الانتباه الملائم للأمور الدنيوية.»
24
بهذا المعنى، لا يوجد عداء مطلق في الدين المسيحي بين النظام الواقعي والنظام الرمزي، بين الرب والآخرين، بين الرغبة والحب، بين ما هو روحي وما هو دنيوي؛ فالأشياء المحبوبة ليست طعما على طريق الرغبة، وإنما السبيل الذي ربما يصادف فيه على نحو روتيني الجانب الواقعي للحب الإلهي. في حقيقة الأمر، في العقيدة المسيحية اليهودية، الآخرون يكونون فقط بحق أشياء محبوبة عندما تجرى مصادفتهم «في النظام الواقعي»؛ أي باعتبارهم حملة الغرابة السامية التي تقاوم «الأنانية الثنائية» الخاصة بالنظام الخيالي، والتي مصدرها سمو الآب.
إن الزعم بأنه يجب على المرء أن يحب جاره الغريب عنه على نحو كبير كما يحب «نفسه» وصفة للعمل الشاق، وليس للنرجسية. يرجع هذا إلى أن حب النفس ليس بالمهمة السهلة؛ إذ يتضمن تقبلا للنظام الواقعي المشوه الذي يقبع في قلب هوية الفرد. غير أن هذا، على عكس الإعجاب المتبادل للنظام الخيالي أو الترتيبات التعاقدية بين ذوات مستقلة التي تميز النظام الرمزي، يمكن بالتالي أن يصبح الأساس الصلب الذي ربما يجتمع عنده البشر. إن الأمرين الدينيين المتلازمين - بأن نحب الرب وأن نحب جارنا كما نحب أنفسنا - من ناحية يجب النظر إليهما باعتبارهما غير قابلين للانفصال؛ فحب الجار ممكن فقط إذا كان له أساس ثابت في النظام الواقعي. غير أنهما أيضا يجب التمييز بينهما للتأكيد على أنه ليس كل حب للجار له أساس جيد. فهناك طرق خيالية لحب الجار بعيدة كل البعد عن النظام الواقعي؛ أي ينقصها نوع الحب القائم على الموضوعية والتضحية والتجريد الذاتي الذي سيكون ضروريا لظهور نظام اجتماعي جديد إلى حيز الوجود.
في هذا الإطار، ليس كل أشكال حب الجار تمثل نوع النرجسية الخفية التي يبدو أن بعض أنصار لاكان مستعدون لاختزالها فيه. إن الحب الذي لا يمثل هذا هو من هذا النوع القائم على التضحية. إنه ذلك النوع الذي رسمه ماركس في عمله «مقدمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل» ويرى أنه مطلوب إذا أردنا أن يتحول «الضياع الكامل للإنسانية» إلى «الاستعادة الكاملة للإنسانية». إن كبش الفداء أو الشيء المضحى به - الذي، في حالة ماركس، هو البروليتاريا - هو ذلك الشيء الذي يتحول من الضعف إلى القوة؛ ويسمى هذا التحول مما هو أدنى لما هو أعلى في التحليل النفسي بالتسامي. وكما أدرك هانس كاستروب في مشهد الثلج العظيم في عمل توماس مان «الجبل السحري»، فإن الحب وليس العقل هو الذي أقوى من الموت، ومن خلال هذا المنظور فقط يمكن أن تنبع عذوبة الحضارة؛ لكن «دائما في إقرار غير معلن بأهمية التضحية بالدم». يجب على الفرد أن يثني على جمال ونبل الروح، مع الوضع في الاعتبار الرعب والبؤس اللذين يقعان في أساسها.
في النهاية، الفكر الأخلاقي للاكان أو ليفيناس أو باديو ليس ببساطة مملا أو هزليا بالقدر الكافي؛
25
ففي حقبة يبدو للكثيرين أنها كانت تفتقد للكثير من القيم الجوهرية، كان هؤلاء المفكرون على استعداد للتخلي عما هو محايث من أجل ما هو متسام. وفي هذا الإطار، فإن فكرهم يتناقض على نحو غير ملائم مع الأخلاق المسيحية، والتي لا حاجة بالنسبة لها للاختيار بناء على هذا المقياس؛ فإعطاء الخبز للجائع يعني عيش حياة الفضل الإلهي. إن الواقعيين الأخلاقيين أكثر زهدا و«تدينا» وأخروية بكثير من الأخلاق المسيحية اليهودية، والتي تعد بالتأكيد مادية؛ فالانحدار مما هو سام لما هو محايث هو العنصر الأساسي الذي تقوم عليه هذه الأخلاق؛ وهكذا الحال بالنسبة للتحليل النفسي الذي بالنسبة له الموضوع سيكون دائما على نحو باعث للأسى مقصرا في الرغبة فيها. لا يوجد صراع هنا بين ما هو محايث وما هو متسام؛ فيهوه العهد القديم يعلن أن أتباعه سيعرفونه على ما هو عليه عندما يرحبون بالمهاجرين ويعطفون على البائسين ويحمون الفقراء من بطش الأغنياء.
هناك سمة كرنفالية في عقيدة ترى أن العالم بأكمله يقع تحت رحمة كوب من الماء. إن «ابن الإنسان» - المسيح - يظهر بعظمة على سحب المجد فقط ليتساءل على نحو تقليدي عما إذا كنت قد زرت المريض وأطعمت الجائع أم لا. إن المخلصين المنتظرين يميلون إلى دخول عواصم بلادهم القومية في سيارات فارهة مقاومة للرصاص، ويصاحب مواكبهم رجال شرطة، وليس على ظهر حمار. إن المسيح مقدم كمزحة سخيفة تتمثل في صورة مخلص. غير أن الإنجيل المسيحي يرى في النشاط الرتيب المتمثل في كساء العاري إرهاصا إلى تبدل الأرض والمجيء الثاني للمسيح، وهي فكرة يراها الفرنسيون حمقاء. إن ما هو خارق وما هو عادي ليس مجالين منفصلين، كما يعتقد تلاميذ لاكان. والعالم المادي هو المكان الوحيد للخلاص. وكما كتب جراهام بيشي، «كان يوجد وراء نبذ الكتابة الحديثة لمسألة «اختلاف الأسلوب الطبقي» التقليدية واكتشافها لما هو جاد ومأساوي في الحياة اليومية المواجهات العسكرية في يهودا الرومانية والتي هزت العالم».
26
ينطبق الأمر نفسه على الأخلاق الاشتراكية التي ترى أن الأشكال الروتينية من الرفقة في الحاضر هي التي ترسم مقدما معالم النظام الثوري للمستقبل. إن الماركسية الكلاسيكية تتمسك بالجانب «الواقعي» للثورة، بكل ما فيه من مآس وأزمات واختلالات؛ لكن هذا الاضطراب الشديد يحدث من أجل الحياة العادية ويحدثه الناس العاديون. وإذا كانت هناك بطولة، فإنها تلك الخاصة بالجموع غير البطولية. إن العالمين الواقعي والرمزي يجب ألا ينفصلا. وإن هذا يصدق فيما يتعلق بالتحليل النفسي الذي يرى أن دافع الموت هو الجانب الخفي للحياة اليومية.
يبرز هذا الصراع بين ما هو محايث وما هو متسام في إنجيل القديس يوحنا كصراع بين حب العالم ورفضه. إن العالم، بمعنى نظام السلطة السائد، سيقلل من شأن رسل العدل؛ ومن ثم يجب رفضه. غير أن هذا ليس شكلا من أشكال الازدراء الدريدي للوجود اليومي، مثلما لا يعكس الأخروية اليسارية المتطرفة لآلان باديو؛ فالعالم أيضا، أو هكذا قيل لنا، هو ما يحبه الرب. وحيث إنه من عمل يده؛ فالتمرد السياسي لا يجب الخلط بينه وبين ازدراء متشدد لما هو جسدي ومتناه. إن الجسد، كما اكتشف باديو من خلال دراسته للقديس بولس، يشير ليس للبدن، الذي هو من إبداع الرب العظيم، وإنما للشكل الفاسد والعنيف للحياة السياسية. إن المسيحية والاشتراكية بالتأكيد عقيدتان أخرويتان؛ إذ إن كليهما يتطلعان لعالم آخر ينصلح فيه حال البشرية. لكنهما يفعلان ذلك بسبب اهتمامهما بشئون البشر الموجودين بالفعل وليس لأنهما يسعيان وراء تحقيق تصور مستحيل. هناك بعض التضليل العجيب في تحذير المسيح لأتباعه بأنهم سيقتلون إذا تمسكوا بتعاليمه. ويعرف هؤلاء الذين يزدرون تلك الأخروية بالليبراليين أو المحافظين. إنهم الذين انخدعوا بالافتراض الغريب القائل بأن هذا العالم، بصرف النظر عن محاولات الإصلاح المتعقلة الغريبة، أفضل ما يمكن الحصول عليه ولا يمكن إصلاحه. إن هذا الافتراض هو الذي غير واقعي على نحو ساذج، وليس الاعتقاد بأن الوجود البشري يمكن إصلاحه على نحو كبير. •••
يقول لاكان في عمله «أخلاق التحليل النفسي» إن صوت البطل (الأخلاقي) «لا يرتعش أمام أي شيء ... وبخاصة أمام صالح الآخر».
27
إن الإيثار والمساواة واحترام الحقوق تقع في نطاق الأخلاق الرمزية والتي يكن لها لاكان كل الاحترام، لكنه يعتقد أن تلك الأخلاق فشلت في أن تكون عميقة الأثر بالقدر الكافي. إن الأخلاق الواقعية تنطوي على انحياز ضد حب الخير، الذي لا يؤمن به بحماس هؤلاء الذين بحاجة إلى مساعدة عاجلة. إن الأخلاق ليست مسألة سعادة أو إشباع ذاتي أو عمل من أجل صالح الآخرين.
غير أن حجج لاكان المعارضة لهذه الفكرة في عمله «أخلاق التحليل النفسي» ضعيفة على نحو ملحوظ؛ فنطاق الخير أو الفضيلة يتضمن على نحو حتمي، كما يشير، وجود سلطة؛ إذ من سيتحكم ويوزع نواتج الخير الاجتماعي المتعددة؛ تلك التي في رأيه على أي حال ليست سوى مشتتات على طريق إشباع الفرد لرغبته؟ غير أن الرغبة الخاصة بالنظام الواقعي ربما تتضمن بالتأكيد سلطة على نحو مساو. إن كلاريسا هارلو بالتأكيد تمارس سلطة كبيرة من خلال تصميمها الشديد على الموت. بالإضافة إلى ذلك، يزعم لاكان أن موضوع الخير يثير مسألة لصالح من هو يمارس، كما لو أن هذا كاف للنيل منه. تناول جيجك وزوبانتيتش نفس الأمر تقريبا. ولا يبدو أنهما يريان أن الخلاف الذي لا ينتهي حول نوعية الخير ولصالح من هو يمارس في أي موقف معين هو على وجه الدقة ما يقصد تقليديا بالأخلاق. إن فعل الخير لا يقلل من شعور المرء بالذنب، كما يذكرنا لاكان على نحو صارم، كما لو أن أحدا قد تصور يوما أنه يفعل هذا؛ فهو يعتقد أن حب الشخص للخير للآخرين يعد بوجه عام حبه للخير لنفسه. وحب الخير، باختصار، نوع من الخداع. فيجب أن نستهدف أمورا أخلاقية أسمى من الاهتمام بشئون الآخرين؛ إذ إننا يمكننا بلا شك أن نوكل هذا الأمر للجهات المعنية بالرعاية الاجتماعية.
في دراسة بارزة من نواح أخرى، تحدثت ألينكا زوبانتيتش بازدراء عن «متعة» أخلاق النظام الواقعي التي جرى «ترويضها» من خلال حب الفرد لجاره.
28
إن هذا، كما سيخمن البعض، ليس رأي هؤلاء الذين يجري سحقهم تحت عجلات شاحنة في شارع مزدحم بالمارة. تعتقد الفيلسوفة كاثرين شاليه أن كانط وليفيناس محقان في رفض الأخلاق القائمة على السعادة؛ حيث إنها من المفترض أن تنبع من حب الذات.
29
ليس من الواضح لماذا تكون السعادة شيئا أنانيا، وليس - لنقل - الرغبة. إن ليفيناس نفسه غاضب بشدة من مفهوم السعادة، والذي يخاطر بتخديرنا في مقابل الألم الذي من المفترض أن نشعر به في حضرة الآخر الكبير. إنه يخشى أننا يمكن أن ننسى الرب في خضم استمتاعنا بالأمور الدنيوية؛ وذلك بخلاف لاكان الذي يرى أن هذا التلذذ يمكن أن يؤدي بنا إلى نسيان النظام الواقعي. إن السعادة يراها ليفيناس في الغالب باعتبارها نوعا من الرضا الذاتي الممل.
30
أعلن أحد أنصار الواقعية الأخلاقية الآخرين، ويدعى كينيث رينهارد، أنه يعارض معاملة الفرد لجاره «باعتباره «أخا» و«شبيها» له، يرى صالحه (حفاظه على نفسه وإشباعه لاحتياجاته) في مرآة ذاته.»
31
لكن ليس هناك سبب للاعتقاد بأن كل الخير البشري من هذا النوع النرجسي البسيط؛ فحب الفرد لجاره ربما يؤدي إلى موت الفرد، كما حدث في حالة أنتيجون. يقارن بعض الواقعيين بين ما يعرف بالمتع الحيوانية للغيرية (التي تعد على نحو أساسي أمرا خياليا) والمتعة المتسامية للنظام الواقعي. ولكن كما يرى لاكان نفسه، «المتعة» تتضمن تقبل الموت، وهكذا الحال بالنسبة إلى حب الآخرين. وحتى إن لم يمت الشخص فعليا، كما في حالة الشهيد، يبقى الموت مجازا لهجر الذات الذي يقتضيه هذا الحب. لا يوجد صراع ضروري بين الشفقة والنظام الواقعي، والجار والغريب. لقد أعرضت كلاريسا عن البشر ووهبت نفسها للرب، غير أنه من أسس الدين المسيحي الذي تعتنقه أن هذا الرب موجود على نحو جوهري في المحرومين. وبرسمها في عمل أدبي، فقد ماتت بالنيابة عن كل النساء المنتهكة حقوقهن الموجودات في عصرها، وليس ببساطة في عزلة مهيبة.
بالإضافة إلى ذلك، على المرء ألا يتحمس بشدة لتجاهل قيمة حب الفرد لذاته، كما قد يبدو على رينهارد؛ فهناك رؤية أخلاقية معروفة ترى أن الشخص الطيب والعادل سيرغب لنفسه في الأشياء الطيبة والعادلة، والتي من دونها سيكون أقل استعدادا للاهتمام بشئون الآخرين؛ فليس كل حب الذات عجرفة وعقم، فلماذا يكون علي أن أعامل نفسي على نحو أسوأ مما أعامل به أي شخص آخر؟ ولماذا يجب أن أستثنى من القانون العام للخير فقط لأنني تصادف ألا أكون من الآخرين؟ إن التوجيه بأن أعامل الآخرين كما أعامل نفسي يؤتي ثماره فقط إذا عاملت نفسي بدرجة من الاحترام. ولا يوجد داع لافتراض أن هذا أمر طبيعي أو تلقائي. ففي العقيدة المسيحية، يتطلب حب الفرد لنفسه فضلا من الرب تماما كما هو الحال بالنسبة لحب الآخرين.
إن كريون في مسرحية سوفوكليس، باعتباره ممثلا للمدينة، كان يتحكم في الخير ويوزعه، في بيروقراطية للروح لم تثر اهتمام لاكان على نحو غير مبرر؛ فهذه هي الأخلاق باعتبارها مجرد «تقديم للخير». إن كريون، رمز العقل العملي الكانطي، ليس من استحوذ على خيال لاكان وإنما أنتيجون؛ فلم يستحوذ عليه التقديم الموجه للخير العام، وإنما فرط رغبة وحيدة يدفعها الموت، رغبة تسامت فوق كل الاهتمامات والمتع الدنيوية. يعلق لاكان هنا بتباه قائلا: «فقط الشهداء هم الذين لا يعرفون الجزع أو الخوف.» وقد نسي ربما بستان جثسيماني والمشهد الذي ظهر في الكتاب المقدس، والذي يقدم المسيح وهو مضطرب بشدة قبيل موته.
32
إن الشهيد التقليدي يجعل موته في خدمة الأحياء، مسخرا ثاناتوس من أجل إيروس؛ أما البطل الشهيد اللاكاني، فيجعل موته فداء القضية أو الشيء الكبير الموجود بداخله، والمتمثل في رغبته، والتي يراها كمتعة وحيدة تتجاوز حدود الوجود الاجتماعي.
لذا، فإن زوبانتيتش هي التي يمكنها التحدث عن الرفض الأخلاقي ل «الإغواء» من قبل اللذة والتعاطف وحب الجار والمساعدة والصالح العام وما شابه. إن النظر للأخلاق عبر تلك الجوانب الدنيوية - كما هو الحال بالنسبة للأخلاق الحيوية والأخلاق الثقافية والأخلاق الطبية والأخلاق البيئية وهكذا - يضفي على تلك الرؤية عجزا جبانا عن تأمل أخلاق النظام الواقعي.
33
إن الإحسان العادي هو دفاع لا شعوري ضد المباهج الرهيبة ل «المتعة»؛ أي، تكلفة لا طائل منها بخلاف الإصلاح الاجتماعي أو أماكن تقديم الطعام للفقراء. ويجب التمييز بين «الأفعال» الأخلاقية العادية و«الأعمال» الأخلاقية الثورية، وهو مصطلح أضفت عليه زوبانتيتش في مواضع أخرى في سردها المزيد من الجلال، ربما في محاولة لتقريب الأمر أكثر. وإذا كانت تلك الأعمال الخالصة فقط هي الأخلاقية بحق؛ إذن فالأخلاق ستبدو شحيحة بشدة مثلها مثل الثورات السياسية. يهاجم سلافوي جيجك الفضيلة التقليدية أو الرمزية معتبرا إياها «التسيير المرن للأمور في عالم الوجود»،
34
كما لو أن الفضيلة هي مجرد التزييت العادي للعجلات الإدارية. إن الأخلاق أرستقراطية، في حين أن الفضيلة برجوازية صغيرة. تبدو الحياة اليومية من البرج العاجي للنظام الواقعي رتيبة وآلية على نحو مضجر؛ فيجب ألا ينظر إليها في المقام الأول (كما فعل جيجك بوجه عام) باعتبارها ساحة للصراع الأخلاقي والسياسي. فصراعاتها وتناقضاتها الداخلية، مقارنة بالعظمة السامية للنظام الواقعي، تبدو تافهة نسبيا، وتتعلق بالفضيلة البرجوازية وليس بالأخلاق النخبوية.
إن الهدف من التحليل النفسي، كما يشير جون راجمان، «ليس جعلنا مواطنين أكثر صلاحا أو عمالا أكثر إنتاجية.» المغزى هنا هو أن المواطنين الصالحين هم ببساطة هؤلاء الأشخاص التقليديون التعساء بعض الشيء الذي يدعمون بلا تفكير الدولة، وليس هؤلاء، لنقل، الذين يمارسون فضيلتهم من أجل التشكيك في سلطتها. إذا كان إدجار جيه هوفر مواطنا صالحا، فإن روبسبيير كان كذلك. بالمثل، ربما كان إخراج عمال منتجين مشروعا محافظا في ألمانيا في عهد هتلر، لكنه يظل مشروعا بناء في مناطق عديدة في عالم ما بعد الاستعمار. إن مادة التحليل النفسي، كما يزعم راجمان، هي في واقع الأمر عدم الرضا البشري؛ لكن هناك تمييزا مهما إلى حد كبير بين عدم الرضا عن الحياة في ألمانيا النازية والقلق بشأن التخلص من «النظام القديم» في كوبا في ظل حكم كاسترو. إذا لم يجر ملاحظة هذه الاختلافات؛ فالمرء يكون عرضة لإعادة إنتاج التمييز الرومانسي المتناقض بين الدولة القمعية على نحو منظم والشخص المنشق المنفرد، ولكن على نحو أكثر تعقيدا. إن قدرا كبيرا من أخلاق النظام الواقعي يندرج في هذا الوضع المبتذل.
هناك لمحة ديونيسيوسية متوقعة فيما يتعلق بموقف لاكان تجاه الحياة الأخلاقية؛ فهو يتصور أن رغبة البشر في عصرنا هذا قد جرى تغيير معالمها وإضعافها وإسكاتها وترويضها من قبل الوعاظ والمصلحين والتربويين التقليديين. يبدو الأمر وكأن الفضيلة أنثوية والأخلاق ذكورية. لقد هجرت الثقافة السياسية الحديثة المنشغلة فقط ب «تقديم الخير» - أي، السعادة والرفاهية والرخاء والحقوق المدنية وغيرها من الأشكال المسكنة لمبدأ الواقع - المسألة الأخلاقية الرئيسية المتعلقة بعلاقة الإنسان برغبته. إن مجال الرفاهية والحقوق وما شابه، كما يقر لاكان على نحو ينم عن سعة أفقه، «موجود بالطبع ولا جدوى من إنكار ذلك».
35
في حقيقة الأمر، يمكن أن يتكون شيئا فشيئا لدى المرء الانطباع بأن لاكان كان يفضل عدم وجوده، تماما مثل مرض التيفود. ثم انتقل لاكان، مدركا ربما لأخطار النخبوية الأخلاقية، ليؤكد على أنه لا يوجد اختلاف جوهري بين البطل التراجيدي والإنسان العادي. وكتب يقول: «داخل كل منا، مسار البطل محدد، ونحن نتبعه تماما كأناس عاديين حتى نهايته.»
36
يختبر البطل كل عواطف الإنسان العادي، «فيما عدا أنها في حالته نقية وأنه ينجح في دعم نفسه بشأنها بالكامل».
37
وهكذا، فإن البطل في واقع الأمر ليس إلا الشخص الذي بالجوار، غير أنه يقال لنا في نفس الوقت إنه ليس كذلك. وبعد أن أبطل لاكان بنبل الفرق بين ما هو استثنائي وما هو عادي، أعاد فجأة التأكيد عليه؛ فهو يخبرنا بأن الشخص العادي يميل إلى التخلي عن رغبته عندما يتعرض للخداع، ويعود إلى المجال الأدنى الخاص بتقديم الخير، في حين أن البطل يبقى مخلصا لشغفه. إن مثل هؤلاء الأبطال البارزين يأخذون رغبتهم إلى الحد الذي لا يمكن معه إدراكها، إلى الحد الذي يهلكون فيه بسبب الحقيقة.
تحدث كانط في كتابه «الدين في حدود العقل» عن تلك الثورة في طبيعة الفرد والتي بمقتضاها يصبح إلى حد كبير مخلوقا جديدا. إن هذا ما نحتاج إليه إذا أردنا الانتقال مما هو «مرضي» إلى ما هو أخلاقي. ترث أخلاق النظام الواقعي على نحو مهم هذا الاعتقاد، وتعتمد على كشف «مستحيل» أو تطرف ما يقلب العالم الرمزي رأسا على عقب؛ حدث عاصف يزلزل أركاننا، ويعيد تشكيل عالمنا، ويصيغ من جديد بعنف أسس وجودنا. إن مثل هذه الأخلاق الثورية فقط، كما يرى الواقعيون على نحو محق، هي التي يمكنها تصحيح وضعنا العصيب، سواء على المستوى الشخصي أو السياسي. وعندما يتعلق الأمر بالسياسة، يمكن فقط لهؤلاء الذين رفضوا الواقعية - الليبراليين والمحافظين والإصلاحيين ومن على شاكلتهم - أن يروا أن أي تغيير أقل عمقا من هذا، مع الوضع في الاعتبار وضعنا السياسي المفجع، لن يوفر لنا ما نحتاج إليه.
غير أن مشكلتنا مع هذا الكشف الشديد الأهمية هو ما سيحدث في أعقابه. لم تذكر النظرية اللاكانية الكثير عن كيف أن مواجهة البطل الأخلاقي المنفردة مع النظام الواقعي قد تحدد ملامح مسار الإصلاح السياسي. وفيما يتعلق بالسياسة، فإن هذه الأخلاق نخبوية وعنيدة جدا بحيث لا تسمح بأن تخضع بسهولة لمثل هذا التحول. إن السياسة والأخلاق في الغالب متعارضتان. وعلى أي حال، نحتاج إلى معرفة ما إذا كان كل الرجال والنساء يجب أن يصبحوا مثل لير أو أنتيجون حتى يعيشوا على نحو جيد. إن الواقعيين أخطئوا عندما اتخذوا ما هو في حقيقة الأمر تجربة استثنائية على نحو كبير مرشدا إلى الحياة الأخلاقية؛ إذ على هذا النحو وبطريقة حداثية، يحدد ما هو استثنائي ما هو معياري. لكن يحتاج المرء لأخلاق مناسبة، للحياة العادية، وليس للحياة في معسكرات الموت والمتاريس. إن الأخلاق التي تبرز لحظة التحول أو الكشف أو الاضطراب أو الثورة، كما تفعل تلك الأخلاق على نحو مهم، لا يمكن أن يجرى إسقاطها على الحياة الاجتماعية ككل، إذا سيتضح حتما أنها لا تتلاءم معها؛ ومن ثم فإن النظام الواقعي سيكون في خطر التحول للأنا العليا الفرويدية أو القانون الأخلاقي الكانطي بحيث نجد أنفسنا باستمرار مواجهين بضعفنا عندما نحدد لأنفسنا مطالب يكون من المستحيل أن نفي بها.
بالنسبة لآلان باديو، يمكن أن يكون هناك تحول من أحد النطاقين للنطاق الآخر. والسبيل لتلاقي النظام الواقعي مع النظام الرمزي هو الإخلاص اليومي للحقيقة والذي سيجعلها واضحة. إن هذا، إن جاز لنا القول، هو نسخة باديو من «تجسد المسيح»، أي، تقاطع اللامتناهي مع المتناهي. ليس من السهل معرفة ما سيعنيه تحويل ما هو استثنائي إلى ما هو عادي بهذه الطريقة، لكن على الأقل يفترض باديو وجود بعض الارتباط بين الاثنين. لكن بوجه عام تحويل أخلاق صيغت في الغالب باعتبارها معارضة للمدينة إلى نظرية سياسية يعد مشكلة بالنسبة للواقعية الأخلاقية. وكما يلاحظ برنارد ويليامز في سياق آخر، إن المرء «سيكون عليه أن يقر بأن الفضيلة، بمعنى نقاء القلب، رغم أنها هي الخير الوحيد، فيمكن أن تكون إنجازا لفئة محدودة، وأن هذا بدوره سيبرز الحاجة إلى نظرية سياسية أخرى، لصياغة علاقة هذه الفضيلة بالمجتمع الآثم».
38
إن هذا بالضبط هو، كما أوضحنا، ما سعى ليفيناس على نحو غير فعال بعض الشيء لتحقيقه.
إن المسيحية لديها إجابتها الخاصة على التساؤل المتعلق بما إذا كان يجب على كل الرجال والنساء أن يكونوا مثل لير أو أنتيجون، والتي تتمثل في العقيدة المتمثلة في أنه ليست ثمة حاجة لتكرار ما فعله المسيح من تضحية. وحيث إنه كان كبش الفداء أو الفارماكوس الذي تحمل مسئولية تطهيرنا من ذنبنا باعتباره الدال المذنب الملوث للبشرية النقية، فليس على أتباعه أن يمروا فعليا بأنفسهم بنفس تجريد الذات الدموي هذا. بدلا من ذلك، إنهم يشتركون فيه سيميائيا؛ أي، على مستوى الرمز أو سر التناول. إن الطعام والشراب في الأفخارستيا يحيان ذكرى التحول المضطرب من العهد القديم إلى العهد الجديد، تماما كما تظل ذات الحقيقة عند باديو مخلصة للحدث الأساسي. لكن رغم أن كل المسيحيين مطالبون بأن يكونوا جاهزين للشهادة؛ أي، مستعدين فعليا للتضحية بحياتهم من أجل الآخرين، فإنه من خلال الدال يمكن استحضار التحول الأصلي للمسيح من الموت للحياة الأبدية. إنه من خلال الدال أيضا، من خلال العلاج بالحديث، يستطيع المريض الخاضع للتحليل النفسي أن يحدث التحول من حالة المرض إلى حالة التحرر من المرض. إن المهم، بعبارة جيجك، هو «عوز الذات» وليس الفقدان الفعلي للحياة. وفيما يتعلق بالسياسة، فإن هؤلاء الذين يتمنون وصول الفقراء إلى الحكم ليسوا مطالبين بأن يكونوا هم أنفسهم معدمين، رغم أنه قد يعزز من مصداقيتهم السياسية ألا يكون من بينهم الكثير ممن لديهم ثراء فاحش. إن التضامن السياسي هو الأهم، وليس مشاركة الآخرين فعليا حرمانهم.
لكن المسيحيين لا يعيدون تجسيد هجر الذات الذي قام به المسيح على نحو أساسي من خلال سر التناول. يتم ذلك بدلا من هذا عن طريق الحب التقليدي. إن حب يهوه يتحقق عن طريق الشفقة والتسامح، وليس في المقام الأول من خلال الطقوس أو القرابين التي تأكلها النار أو المبادئ الأخلاقية أو النظم الغذائية المفصلة. وفي هذا السياق الإنساني، إنه يتجلى على نحو رئيسي في الفقراء والمعدمين. انتهى عصر الدين الطقسي في المكان الذي صلب فيه المسيح؛ فكما لاحظ كاتب «الرسالة إلى العبرانيين»، كان المسيح آخر رئيس كهنة، والذي «ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديا» (9، 11). إن القربان المحروق الوحيد المهم في العهد الجديد هو جسد بشري منتهك. إن هذه الحقيقة العظيمة هي التي يجب أن يبنى حولها نوع جديد من التضامن، تضامن يتجاوز على نحو حاسم الأدوار المفترضة للنظام الرمزي. إن هذا هو أحد أسباب إغفال العهد الجديد البالغ للجنس وتجاهله الشديد للحياة الأسرية.
بخلاف الأخلاق الواقعية، تجمع المسيحية بين ما هو مستحيل وما هو يومي، ما هو محايث وما هو متسام، «الحدث» وآثاره التاريخية، فيما يمكن أن نطلق عليه السمو الدنيوي. تحدث كيركجارد عن فارس الإيمان قائلا إنه «يعبر عما هو سام من خلال ما هو عادي.»
39
إن الحب التقليدي يعيد تجسيد حادثة الصلب لأنه يتضمن موتا أو تضحية مجازية. إن هذا الارتباط بين الحب والموت تجاهله على نحو كبير مارتن هايدجر في عمله الفلسفي الكلاسيكي العظيم «الكينونة والزمان». يرى هايدجر أن مساعدة الآخرين والاستعداد للموت من أجلهم أمران أساسيان لوجود الفرد وإنسانيته، غير أنه عجز في الغالب عن إدراك كيف أن الشكل اليومي من الموت عن الذات المتمثل في الحب يعد بروفة لهجر الذات النهائي المتمثل في الموت؛ فالأخلاق تقوم على الحب وليس الرغبة. وليس هناك صلة بين الحياة اليومية للمدينة والأخلاق القائمة على الرغبة؛ لكن هناك صلة، كما سنرى، بينها وبين الأخلاق القائمة على الحب.
مما سبق يتضح أنه مع المسيحية برز تقدير جديد لما هو عادي. يرى تشارلز تايلور أن الثورة التي أحدثها بيكون في المجتمع في أوائل العصر الحديث «غيرت السبيل للحياة السعيدة من مجموعة خاصة من الأنشطة السامية وأدخلته «الحياة» نفسها.»
40
فقواعد الشرف والعظمة حل محلها الاهتمام بالعمل والتجارة والحياة الجنسية والحياة الأسرية. ولم تعد القيمة الروحية مسألة نخبوية، لكن أصبحت جزءا من الوجود اليومي. إن حركة الإصلاح البروتستانتي في المقام الأول، بتوقيرها للحياة العادية، هي التي ساهمت في تلاشي الحدود بين ما هو مقدس وما هو دنيوي مدنس؛ لكن تايلور عثر على أصول هذا التلاشي في العقيدة المسيحية اليهودية، بتأييدها لما هو يومي. إن نفاسة الحياة اليومية هي ما جعلت صلب المسيح أمرا مأساويا، في حين أن سقراط قد سيق لموته معتقدا أنه لا يفقد شيئا ذا قيمة كبيرة. تشير التضحية ضمنا لقيمة ما يجرى التنازل عنه. في هذا الإطار، كتب تايلور يقول: «بالنسبة للشخص المسيحي، ما يجرى التنازل عنه بالتالي من المؤكد أنه شيء مهم.»
41
وحيث إن كل ما في الحياة مرجعه الرب، فمجرد أن تكون حيا يعد الآن قيمة في حد ذاتها، وهو رأي لا يعارضه المحاربون الوثنيون الذين يرون أن الشرف يتجاوز بكثير مجرد الوجود.
يقارن إيريش أورباخ في دراسته العظيمة «المحاكاة» بين الشخصيات ذات السمات النفسية البسيطة على نحو جوهري في قصائد هوميروس والشخصيات الإنسانية المعقدة والمتعددة الجوانب والمتطورة في النصوص اليهودية المقدسة. في هذا الشأن، يعلق قائلا: «منذ البداية، في قصص العهد القديم، يتبلور ما هو سام ومأساوي ومعضل على نحو تام فيما هو تقليدي وعادي.»
42
وإذا كانت النصوص التي كتبها هوميروس تتناول شئون الأرستقراطية، فإن العهد القديم يشتمل على تقدير للناس العاديين: «تكون حركته دائما ملحوظة، ويكون غالبا في حالة اهتياج، ويؤثر على نحو متكرر في الأحداث ليس فقط على نحو كلي وإنما أيضا على مستوى المجموعات المنفصلة وعبر أفراد يتصدرون المشهد؛ يبدو أن أصول النبوة تكمن في تلقائية الناس التي لا يمكن السيطرة عليها.»
43
إن تلك هي الثقافة التي خرج من تتمتها المسيحية أول حركة عالمية يعرفها التاريخ للناس العاديين.
يحثنا آلان باديو، كما رأينا، أن نستمر في الإخلاص للحدث الثوري. غير أنه من الخطأ تصور أن المجتمع العادل يجب أن يظل في حالة امتثال دائم للحظة تأسيسه. على العكس، فإن أحد مؤشرات تحرره يكمن في أنه لم يعد بحاجة لتلك البطولة الأخلاقية، وبمجرد أن يتحقق الجانب «الواقعي» للثورة السياسية، تستطيع أن تدير ظهرها لتلك الدراما التراجيدية وتتمتع بوجود يومي مرض. هنا، كما هو الحال في العقيدة المسيحية، يجب النظر إلى الأزمة والتحول على أنهما في خدمة الوجود العام؛ فيجب اعتبار النظام الواقعي تابعا للنظام الرمزي. لكن الاثنين أيضا متناغمان في هذا الإطار؛ فمن أجل تحقيق فضيلتي العدل والمساواة الشائعتين غير البطوليتين هاتين على مستوى عام، في ظل هذا العالم الذي نعيشه، سنحتاج ليس أقل من تحول كامل. وحتى تكون للأخلاق طلاقة النظام الخيالي - والقدرة على تحويل ما نطلق عليه الفضيلة إلى عادة - فإنها تحتاج، من الناحية السياسية، إلى فاعلية النظام الرمزي وانضباطه الذاتي، وكذلك إلى الاضطرابات المؤلمة للنظام الواقعي. •••
إن لاكان معجب بأرسطو، لكنه يرى أن رؤيته الأخلاقية قاصرة على نحو يصعب إصلاحه؛ فأخلاق الفضيلة خطاب أخلاقي شديد البساطة على نحو لا يصلح مع أنصار أوديب وأنتيجون، وهي تتعلق بمسألة غير مهمة مرتبطة بالسمو أو التسامي. كما أنها تنتمي على نحو بليد للنظام الرمزي وليس للنظام الواقعي. إنها خط بحثي يجد الكثير مما يقدره في الوجود الاجتماعي اليومي على نحو ليس أتباع لاكان ودريدا وباديو مستعدين لتقبله. غير أن التقليد الأخلاقي الذي يمتد من أرسطو يقدم تحديا مهما لزهد الواقعيين. وإذا نحينا جانبا النظرة اللاجتماعية العنيدة للأخلاق الواقعية، فمن المفترض أن يبدو تيار الفكر الأخلاقي الذي يرى أن الأفعال البشرية الخيرة متضمنة على نحو عميق في الوجود الاجتماعي والسياسي جذابا. وفي مواجهة نشوة «المتعة» المعرضة للفناء، إنه لمن المريح التحول إلى فكر أخلاقي يرى أن ما هو خير يتمثل في وفرة الحياة المليئة بالحيوية؛ في الإشباع الممتع للطبيعة الحيوانية المميزة للفرد. وفي حين أن أنصار لاكان يرون تمسك الفرد برغبته باعتباره غاية في حد ذاتها، فإن أنصار أخلاق الفضيلة يرون نفس الشيء بالنسبة للرخاء البشري. إن المشكلة أن فكرة هؤلاء عن الرخاء تتمحور حول الذات المتماسكة على نحو أكبر مما يستطيع الفكر الما بعد الحداثي تقبله.
عند إطلاع الفرد على الحديث عالي النبرة لكانط والمتعلق بالقانون والحقوق والواجبات والمبادئ والالتزامات، فإنه من المفترض أن يصدم عندما يقرأ عن أخلاق الفضيلة التي لا تهتم كثيرا بهذه الأمور (وهذا لا يعني أن الحقوق والأوامر والنواهي، حتى المطلقة منها، من غير المفترض أن تلعب أي دور في هذه النظرية الأخلاقية). تتمحور الأخلاق عند كانط حول الأنا العليا، وذلك بخلاف أخلاق الفضيلة؛ وعلى الرغم من أن هذا بالطبع لا يحررنا من تلك السلطة البغيضة، فليس من الخطأ أن نرى أن أخلاق الفضيلة تزكي نمطا من السلوك البشري على الأقل لا يعزز تلك السلطة. إننا، في ظل أخلاق الفضيلة، في عالم من السياقات وليس من الأوامر الكهونتية، عالم من المؤسسات الاجتماعية وليس من حالات الوجود المتسامية.
44
إن ما هو أخلاقي ليس بالشيء المثالي المتعذر تحقيقه على نحو مغر وإنما هو ممارسة مادية عامة. ولا يوجد شيء ممتنع الوصف أو مبالغ فيه بشأنه. إننا نتحدث عن شكل ونسيج حياة الناس العادية، وليس عن العظمة الجمالية لأفعال منفردة.
لا يجب تقييم الأفعال فقط فيما يتعلق بما تحققه؛ فنحن نريد أن نتصرف بطريقة معينة، وليس فقط أن نحقق أوضاعا معينة. إن أخلاق الفضيلة تعيد دراسة الفعل والإرادة والشعور والنية والدافع والنتيجة وما إلى ذلك إلى نطاق «الشخصية الأخلاقية»، متناولة إياها ليس باعتبارها ظواهر منفردة، ولكن باعتبارها نواتج عملية تاريخية خاصة بتكوين الذات أو (إذا استخدمنا مصطلحا أقدم) «الشخصية». وبمقاومتها على هذا النحو للمكافئ الأخلاقي لفكرة موت المؤلف، فإنها تعيد تضمين الخطاب الأخلاقي في سياق الثقافة والطفولة والتنشئة والقرابة والسياسة والتعليم. وهي في ذلك أقرب إلى الرواية منها إلى القوانين مثل قانون المرور. إن التصرف الأخلاقي لا يعني فقط أن تفعل الشيء الصحيح، وهذا أمر يختلف فيه التيار الأخلاقي هذا عن بعض النظريات الأخلاقية الرمزية، لكن الفعل الأخلاقي لا يتحقق عن طريق التعاطف والشفقة، وهذا أمر يختلف فيه أيضا هذا التيار عن بعض النظريات الأخلاقية الخيالية. إن الأخلاق بالنسبة لأرسطو هو علم الرغبة الإنسانية؛ لكن أحد أسباب تناول بعض الواقعيين له بتعال شديد هو أن الرغبة المقصودة هي حاجة أو غاية ملموسة، وليس ذلك الشكل الحداثي من الميتافيزيقا المتمثل في الرغبة فقط. صحيح أن أخلاق الفضيلة، في ظل تلك النزعة التجريبية، يمكن دائما أن تنزلق إلى القبول القانع بما هو موجود، وهو نفس الاتهام الذي وجه لفتجنشتاين في أواخر مسيرته. فيمكن بلا شك أن يكون تبني ما هو يومي محافظا في تأثيره. مع ذلك، فقد ينتج عنه ضرر سياسي أقل على المدى البعيد مقارنة بالرؤية التدميرية المرتبطة بالنظام الواقعي.
تميز أخلاق الفضيلة بين السمات المختلفة للفعل والشخصية، بدلا من أن تشغل نفسها بتصنيف المسائل الأنطولوجية. وهي، بخلاف الواقعية الأخلاقية، تهتم بشدة بالسعادة والرخاء والرفاهية؛ فبالنسبة لأرسطو، السعادة الإنسانية نشاط، وليس في المقام الأول حالة ذهنية. إنها شيء يجب علينا أن نتقنه. إن الإنسان السعيد هو ذلك الذي استطاع إنجاح المشروع المحفوف بالمخاطر المتعلق بكيف يصبح إنسانا. في النهاية، الأخلاق تتعلق بمعرفة كيفية العيش في رخاء وسرور، وليس بالإخلاص الشديد لقانون أو رغبة. إنها تتعلق بفعلك ما ترغب في فعله (وهو أمر بالتأكيد صعب جدا في تحديده)، وكذلك بفعلك للشيء الصحيح. إن أخلاق الفضيلة لا تعتبر تمسك الفرد برغبته العميقة أو الخضوع للقانون الأخلاقي لذاته أمرين أعلى مكانة من الرحمة أو الشفقة. إن القوانين والالتزامات مهمتان لكن يجب النظر إليهما باعتبارهما الدعائم التي يقوم عليها أي شكل للحياة، وليس كأصنام يجب الخضوع لها لذاتها. إننا لا يمكننا أن نختزل الأخلاق لمجموعة من القواعد بنفس القدر الذي لا يمكننا فيه أن نحول على نحو كامل ثقافتنا إلى مجموعة من القوانين. أشارت سابينا لافيبوند إلى «اعتماد قوانا الخاصة بالتواصل العقلاني على «تماثل» ليس متعلقا بطبيعتنا؛ تماثل يتجاوز أي التزام جماعي نحو مجموعة مشتركة من القواعد.»
45
إن التشابهات الخيالية وليس الالتزامات الرمزية هي الفاعلة هنا. يتضمن العقل العملي نوعا من الكياسة، أو التمييز أو (كما يسميها أرسطو) «الحكمة العملية»، التي يكون من خلالها أقرب إلى النظام الخيالي منه إلى النظام الرمزي. إنه أقرب للنظام الخيالي أيضا لأنه يرى الفضيلة متجذرة في المحاكاة؛ إذ يراها تبدأ من التقليد في الصغر. ولا يرى هذا التيار الأخلاقي أن هناك فئة معينة من العقول يمكنها القيام بالأفعال الأخلاقية تسمى العقول «الأخلاقية» والتي تختلف على نحو حيوي ما عن الفئات الأخرى للعقول. في هذا الإطار، وكما يؤكد برنارد ويليامز، فإن الفكر اليوناني القديم «يفتقد على نحو أساسي لمفهوم «الأخلاق» تماما.»
46
إن كانط، بحسب زعم ويليامز، هو من قدم هذا المفهوم المثير للجدل للعالم.
هناك مشكلات تكتنف أخلاق الفضيلة، كما هو الحال في أي نظرية أخلاقية أخرى؛ فهي أخلاق أنثروبولوجية، تقوم في بعض الحالات على تصور للطبيعة البشرية سيجده الكثيرون اليوم غير قابل للتصديق. بالإضافة إلى ذلك، لا تروق الفضائل المفضلة لأرسطو بصراحة للعقلية المعاصرة. فنموذجه الرئيسي للشخص الفاضل، ما يطلق عليه «الإنسان ذو الروح العظيمة»، متعال على نحو بغيض، ولا يراجع نفسه أبدا، وهو مكتف ذاتيا على نحو مغرور، ومتكبر جدا بحيث لا يمكن أن يدين لأحد بشيء، وهو يحتقر الآخرين على نحو واضح. إذا كانت تلك هي الفضيلة؛ فالقليل من الرذيلة ربما يكون مفيدا. إن مثل هذه الأخلاق يجب أيضا أن تواجه الزعم الخاص بالتحليل النفسي القائل بأنه يوجد داخل رغباتنا اليومية ما يسعى إلى تدميرها. وفيما يتعلق بتحقيق الذات، ما الذي يمكن أن ينظر إليه باعتباره نموذجا حقيقيا لهذه الأخلاق؟ وفوق كل ما سبق، يبدو أن تلك الأخلاق لا تتضمن تصورا لجوانب كثيرة من النظام الواقعي؛ فهي تنتمي على نحو كامل للنظام الرمزي ولا تستطيع إدراك الأهمية الكاملة لأمور مثل الموت والتضحية والتراجيديا والتجريد الذاتي والضياع والرغبة والسلبية والتأزم والغرابة الشديدة للذات. إنها، في بعض الجوانب، أخلاق سامية جدا بحيث لا يمكنها إدراك كل هذا. إن أرسطو هو أول منظرينا العظام فيما يتعلق بالتراجيديا، غير أن عمله «الأخلاق» مختلف تمام الاختلاف عن عمله «فن الشعر». وما كان له أن يفهم أن الرخاء والضياع مقترنان على نحو كبير.
رغم ذلك، هناك ما هو أكثر في فكرة الفضيلة - شيء يتصف بأنه «مدني» على نحو مفرط رغم أنها نادرا ما تكون كذلك - من الإجبار العصابي للعادة، والذي يبدو أنها الكيفية التي يراها بها جاك لاكان. إن عدم رواج أخلاق الفضيلة في أوروبا الطليعية يرتبط على نحو كبير بلا شك بتقديرها للانتظام والاستمرار والقابلية للتنبؤ والذات المتماسكة. كما أنها ستبدو للبعض محافظة في تأكيدها على أعراف أسلوب حياة معين؛ وهذا لا يعني أن وجود أخلاق فضيلة راديكالية مستحيل تماما.
47
لكن عدم رواجها يرتبط أيضا بالتقليل من شأن هيجل، الذي يعد الوريث الرئيسي لهذا التيار في العصر الحديث، في مقابل التمجيد الشديد لكانط. لقد نظر العديد من الفلاسفة الأخلاقيين لكانط بنوع من التبجيل وهو أمر يستحقه بسبب فكرة القانون الأخلاقي. إن كانط بلا شك كان جذابا أكثر من هيجل لعصر معارض لفكرة التجميع يعتقد أنه تجاوز السرديات الكبرى. وبسبب تحديده للفروق الدقيقة بين مجالات البحث، كان أيضا ملائما لحقبة تتطلع للأخلاق بحثا عن بديل للسياسة التي فشلت في مهمتها. إذا كانت السياسة قد فشلت على نحو كارثي؛ إذن فالأخلاق قد تكون مصدرا بديلا للقيمة. لكن هيجل، التلميذ الوفي لأرسطو، لم يقم بتلك التفرقة الدقيقة بين المجالين. إنه في ذلك وفي لمعلمه اليوناني القديم. هناك علم يدرس الخير الأسمى للإنسان؛ وذلك كما يشير أرسطو لقارئه في بداية عمله «الأخلاق النيقوماخية»، مضيفا على نحو مفاجئ بعض الشيء أن اسمه هو السياسة.
في حقيقة الأمر، إن مسألة ما إذا كانت الأخلاق تمثل «مجالا» منفصلا أم لا، وعلى أي نحو يحدث، هو أمر يستحق البحث. نفى جاك دريدا أنها كذلك في عمله «في الروح»، رغم أنه كان كثيرا ما يتحدث عنها وكأنها كذلك. لقد كان ينظر في عمله «قوة القانون» لما هو أخلاقي وسياسي واقتصادي وغير ذلك على أنها «مجالات»، لكنه كان أيضا يرى أنها شديدة الارتباط بعضها ببعض لدرجة أن المصطلح الذي يطلق على كل منها لم يعد كافيا إلى حد كبير للتعبير عنها.
48
بالنسبة لسورين كيركجارد، الأخلاق بالتأكيد بعد مميز من الوجود الإنساني. ويرى مارتن هايدجر في عمله «رسالة في النزعة الإنسانية» أن مسألة «الأمور التي ينبغي فعلها» باعتبارها مجال بحث خاص قد دخلت متأخرة إلى دائرة الفكر الإنساني، وظهرت فقط مع بزوغ الفلسفة الأفلاطونية. وتنبع المحاولات المعقدة المتعلقة بربط الأخلاق بالسياسة في كتابات ليفيناس من افتراض أنهما نطاقان منفصلان. ويتحدث الناقد الأمريكي جيه هيليس عن لحظة أخلاقية في القراءة «ليست معرفية ولا سياسية ولا اجتماعية ولا شخصية، ولكن أخلاقية على نحو ملائم ومستقل.»
49
سيكون من الصعب في ظل أي مفهوم مكثف على نحو معقول للحياة الأخلاقية أن نحدد شكل تلك اللحظة؛ لكن إذا تبنينا المفهوم الكانطي غير المكثف للأخلاق، كما فعل ميلر، فإنها، على نحو متوقع، ستتمثل في الواجب المطلق. إن هذا الواجب، كما يرى ميلر، «لا يمكن تفسيره من خلال القوى الاجتماعية والتاريخية التي تتصادم معه.»
50
ويرى الناقد بول دي مان البعد الأخلاقي للقراءة باعتباره «قانون النص» الذي يفرض نفسه علينا على نحو لا يمكن تجنبه.
يرى سايمون كريتشلي في عمله «الأخلاق التفكيكية» أن «السياسة تبدأ كأخلاق»، وهو افتراض سأوضح عدم صحته لاحقا؛ وأن المجالين السياسي والأخلاقي مع ذلك متزامنان؛ حيث إن كلمة «تبدأ» هنا تشير لأسبقية أنطولوجية وليست زمنية؛ وأن المجتمع له بنية مزدوجة؛ فهو في نفس الوقت علاقة تشارك بين أشخاص متساويين (السياسة) ونظام أقل تناسقا يقوم على اللحظة اللامساواتية للأخلاق (الليفناسية). يعتقد كريتشلي أن النطاق السياسي «يقوم على عدم اختزالية السمو الأخلاقي ... إنه شبكة مفتوحة وجمعية ومبهمة من العلاقات الأخلاقية التي لا يمكن تجميعها ...»
51
من الصعب إدراك أن السياسة قد جرى هنا بنحو أو بآخر إزاحتها من قبل الأخلاق. يتساءل المرء على أي حال، مع وضع صفات «مفتوحة» و«جمعية» و«لا يمكن تجميعها.» في الاعتبار عما قدمته الأخلاق التفكيكية المزعومة للمسألة أكثر مما تقدمه التعددية الليبرالية المألوفة على نحو ممل. يرى كينيث رينهارد أن ليفناس يفترض وجود «فجوة متعذر تجاوزها» أو «معضلة أساسية» بين الأخلاق والسياسة، وأنه محق في ذلك؛ رغم أنه «يمكن للحب في حد ذاته أن يظهر فقط من منظور السياسة في اللاعلاقتها الراديكالية مع الأخلاق ...»
52
من المفيد معرفة أن اللاعلاقة بين الأخلاق والسياسة راديكالية وليست لا علاقة فقط.
يمكن للمرء أن يقارن بين هذه الأفكار وآراء الفيلسوف هربرت مكيب الذي يزعم أنه لا يوجد ما يسمى بالنظر لشيء «على المستوى الأخلاقي» أو «في ضوء الأخلاق». إن صحة هذا الزعم ربما تكون محل شك؛ فنحن في بعض الأحيان نحتاج لتمييز «وجهة النظر الأخلاقية» عن وجهة النظر الفنية أو الجمالية أو السياسية. لكنه، إن جاز لنا التعبير، يعد خطأ محمودا؛ فالأخلاق بالنسبة لمكيب هي نقد أدبي أكثر منها تنفيذ لقواعد أو مبادئ. إنه يعتقد أن هدفها «هو تمكيننا من الاستمتاع بالحياة على نحو أكبر عن طريق الاستجابة لها بحساسية أكبر واستكشاف أهمية الفعل الإنساني.»
53
وهذا الاستكشاف، شأنه شأن تحليل أي نص أدبي معقد، لا حدود له نظريا. إن هذا لا يعني أن مكيب يرفض القوانين أو المبادئ الأخلاقية (في واقع الأمر، هو متشدد فيما يتعلق بالتمسك ببعضها)، لكن تلك الأوامر والنواهي تكون مقبولة فقط في سياق بحث أوسع ومكثف على نحو أكبر من الناحية المفاهيمية. تتعلق الأخلاق ببنية ونوعية شكل كامل من الحياة. إن هذه هي النقطة التي يجب أن ننطلق منها، وليس من الالتزامات المطلقة والمسئوليات اللامتناهية. إن الأخلاق والسياسة نمطا استكشاف مختلفان، بمعنى أن كلا منها يفحص الوجود الاجتماعي من زاوية مختلفة؛ في حالة الأخلاق، القيم وسمات السلوك البشري والعلاقات الإنسانية؛ وفي حالة السياسة، المؤسسات العامة والعمليات الخاصة بالسلطة. غير أنه لا يوجد تمييز أنطولوجي واضح في هذا الإطار، والاختلاف منهجي أكثر منه حقيقي.
يرفض سلافوي جيجك المكانة التي أعطاها ليفيناس للعلاقة وجها لوجه مع الآخر الكبير.
54
وهو يصر، بدلا من ذلك، محقا على أن السياسة هي الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق، وليس العكس. إنه يعتقد أن العدالة تسبق الحب وأن ما يسمى بالطرف الثالث له الأولوية على الشخص الأكثر قربا إلينا. غير أن الهدف من ذلك هو عكس التقابل الذي قدمه ليفيناس وليس تقويضه. إن الحب الذي يقلل من مرتبته جيجك لا يزال، كما هو الحال بالنسبة لليفيناس، هو العلاقة المباشرة بين الأفراد؛ في حين أن العدالة، التي يقدمها على الحب، يصفها بأنها عمياء. لكن الحب، كما رأينا من قبل، لا يتعلق في المقام الأول بوجود علاقة مباشرة؛ إذ نجد أن رسالة بطرس الثانية في العهد الجديد تميز بين الحب، والذي يكون غير شخصي تماما، وما تسميه «الحب الأخوي». وبعيدا عن كون الحب يتناقض مع العدالة، فإنه يشبهها في كونه أعمى؛ بمعنى أنه يرفض تفضيل بعض الأشخاص على غيرهم. على الجانب الآخر، فيما يتعلق باهتمام العدالة بمزاعم البشر، فإنها ليست عمياء أكثر من الحب. إن القانون، شأنه شأن الحب، يجب أن يكون حساسا لما هو محدد. إن العدالة ليست عكس الحب، ولكن بعدا منه. إنها تلك المجموعة الفرعية من علاقاتنا مع الآخرين التي تهتم بإعطائهم حقهم حتى يمكن أن تزدهر حياتهم.
يزعم كينيث رينهارد أن «حب الجار لا يمكن تعميمه إلى حب اجتماعي عام.»
55
لكن هذا، مرة أخرى، يعني النظر إلى الحب على نحو أساسي باعتباره أمرا شخصيا، وهذا هو السبب في أن من الصعب تحويله إلى شيء اجتماعي. إن هذا يتجاهل الحقيقة التي ترى أن علاقة الفرد بجاره من جانب مهم غير شخصية؛ فحبك للآخرين «من أجل المسيح» يعني أنك تحبهم من أجل إنسانيتهم المجردة؛ وهو تجريد لا يعني رغم ذلك الاهتمام «بهم». إن «الحب الاجتماعي العام» يبدو مثل نوع غامض من الخيرية العامة، وهي فكرة كان رينهارد محقا تماما في الشك في صحتها؛ لكنه أخطأ في تصور أن مقابل هذا يتمثل في حب على نحو أساسي غير شخصي.
ربما يبدو أن هناك توترا بين أخلاق الفضيلة وأخلاق الحب. إن أرسطو، على سبيل المثال، أغفل على نحو مخز تضمين الإحسان في قائمة الفضائل الخاصة به. يقول آلاسدير ماكنتاير في هذا الشأن: «لا يجد أرسطو مكانا لحب الشخص في مقابل صلاحه أو لطفه أو نفعه.»
56
بالنسبة للمسيحيين، حل هذا التوتر في أعمال توما الأكويني الذي يعد مفهومه «السعادة» نسخة من مفهوم أرسطو «الرفاهية»، غير أنها، كما رأينا من قبل، رفاهية يمكن أن توجد بالأساس فقط في حب الرب. إن ما يطلق عليه أنصار أرسطو الفضيلة، أو القدرة التلقائية على عمل الخير، يسميه المسيحيون الفضل. ويعني عيش حياة الفضل اكتساب العادة التلقائية الخاصة بعمل الخير على غرار الفضيلة عند أرسطو، تقريبا بنفس الطريقة التي يؤدي بها الراقص الموهوب حركاته دون تعب. إنه يعد عكس الالتزام الكانطي المرهق بالقانون، كما أنه مقبول على نحو أكبر بكثير.
بالنسبة لذوي التوجه العقلي الأقل روحية، فإن التحول من الفكر الأخلاقي الأرسطي نحو أخلاق أكثر اجتماعية تم من خلال هيجل وماركس. إن هيجل هو من وضع رغبة الفرد في تحقيق ذاته في سياق نفس الرغبة من جانب الآخرين؛ وهو بالتالي من خلص إلى أن كل فرد في ظل نظام اجتماعي عادل يمكنه تحقيق ذاته من خلال، وفي ضوء، تحقيق الآخرين لذواتهم. يصبح الآخرون السبيل والشرط لتحقيق الإنسان لفرديته. إن تحقيق كل فرد لمراده، كما أعاد ماركس صياغة الأمر في عمله «البيان الشيوعي»، شرط لتحقيق الجميع له. ويعد هذا تجسيدا للحب بقدر علاقة الفرد مع الآخر الكبير لدى ليفيناس. إن حقيقة أن الحب هنا سياسي وليس شخصيا لا يهم. لذا، فإن لاكان أخطأ عندما اقتبس باستحسان مقولة مازران «السياسة هي السياسة، لكن يبقى الحب دائما هو الحب.»
57
إن الماركسية ببساطة هي محاولة التوصل لصورة التحول الاجتماعي المطلوبة لرخاء هذا الشكل من الحياة. وعندما يحدث هذا التحقيق الذاتي المتبادل بين فردين - عندما يصبح كل منهما السبيل والأساس لرخاء حياة الآخر - فإنه يعرف أيضا بالحب، سواء كان شهوانيا أم لا. إن الحب ممارسة وليس في المقام الأول حالة روحية. إنه يتضمن كلا من الحرية والاستقلالية؛ حيث إنه يسمح للفرد بالتحرر من الخوف من أن يكون ذاته. إن الخوف، وليس الكراهية، هو الذي مقابل الحب. وهو يتطلب أيضا وجود مساواة؛ حيث إن هذه العملية لا يمكنها في واقع الأمر أن تحدث سوى بين أشخاص متساويين. إنها مسألة متعلقة بما يطلق عليه أرسطو «الصداقة». فلا يمكن أن تكون هناك صداقة حقيقية بين الفرد وخادمه، مهما يشرق وجه الفرد ويتحمس عندما يدخل عليه خادمه الغرفة.
إن تحقيق الفرد لذاته بحيث يوجد مساحة للآخرين كي يفعلوا نفس الشيء ليس بأخلاق القانون أو الواجب أو الضمير أو الالتزام، غير أنها على نحو واضح أخلاق تتضمن هذه الأمور. إنها تستبعد، في واقع الأمر، أي معاملة للآخرين لا تؤدي لتحقيقهم لذواتهم أو لتحقيق الفرد لذاته؛ مثل الاغتصاب والتعذيب والقتل. إن أوامرها ونواهيها مشتقة من مفهوم إيجابي للخير، بدلا من أن تكون مثلا للخير للأسمى في حد ذاتها (وذلك كما هو الحال بالنسبة للقانون الأخلاقي الكانطي أو على الأقل الرغبة في الالتزام به). إن فكرة التعاون المستقل التي اطلعنا عليها من قبل، والتي تكون الأمور فيها منظمة بحيث - بقدر الإمكان - يساعد تحقيقي لأهدافي على تحقيق الآخرين لأهدافهم والعكس، قد تسهم في تحقيق تلك الرؤية السامية على أرض الواقع. وهذه الأخلاق، دون شك، أخلاق مثالية، لكن هذا لا يعيبها. وفي هذا، هي تتشابه مع المثالية الأخلاقية الكانطية. فلا معنى لأن نضع لأنفسنا أهدافا أخلاقية متدنية للغاية. ومن الصعب أن نفكر في هدف أكثر أهمية نسعى وراءه، حتى وإن كان تحقيقه على نحو تام قد يكون متعذرا. إن هذه بالتأكيد شكل من أشكال الحياة الذي يعد أكثر استحسانا من أخلاق النظام الواقعي، حتى وإن كانت تلك الأخلاق لديها الكثير المهم لتقوله عما قد يكون مطلوبا لتحقيق هذا النوع من الصداقة السياسية.
إن التأثر الشديد بالفكر الكانطي البادي في أعمال مفكرين مثل لاكان وليفيناس ودولوز وليوتار وفوكو ودريدا، والتقدير الغريب لفكره في باريس، مستحقان تماما؛ لأنه يستحق أن يكون أعظم أو ثاني أعظم فيلسوف في تاريخ البشرية. يشعر المرء أن هؤلاء المفكرين يرون أن كانط «هو» الفلسفة الأخلاقية. غير أن هذا التبجيل أيضا مفاجئ؛ إذ كان هناك اتجاه واضح في العصر الحديث للهجوم على فكرة الواجب الأخلاقي، والذي كان عمل برنارد ويليامز «الأخلاق وحدود الفلسفة» من أبرز الأمثلة عليه. وبينما كان ليفيناس ودريدا وآخرون يتحدثون عن الالتزامات المطلقة والمسئوليات اللانهائية، كان ويليامز وآخرون يشيرون إلى كيف أن هذا التقديس لفكرة الواجب يجعل الفكر الأخلاقي فقيرا جدا. في هذا الإطار، كان لتفضيل فكر كانط على فكر هيجل بعض التبعات الكارثية بعض الشيء؛ فالخطاب المعروف بالخطاب الأخلاقي يفترض على نحو خاطئ أن الالتزام يكمن في قلب المسألة الأخلاقية؛ وهو رأي نشره بحماس ليفيناس ودريدا، رغم كل تشككهما في الفكر الأخلاقي التقليدي. وينطبق تقريبا نفس الشيء على اللاكانيين، الذين يرون، كما أوضحنا، أن الالتزام المطلق المقصود ليس قانونا أخلاقيا وإنما رغبة متعلقة بالوجود المميز للفرد. لكننا لا نهرب من استبداد شيء مفروض باستبدال إلزام بإلزام آخر. إن الالتزامات، شأنها شأن المبادئ، لها دور بالتأكيد في الخطاب الأخلاقي؛ لكن باعتبارها أحد العوامل المساهمة فيه ضمن عوامل عدة أخرى، وليس بالضرورة ذلك العامل الذي يجب أن تخضع له دائما كل العوامل الأخرى.
إن جانبا كبيرا من الخطاب الأخلاقي مهووس بمسألة المبادئ والالتزامات، وورثته الطليعيون لم يختلفوا كثيرا في هذا الشأن. إنه يفترض أن هناك فئة خاصة من الدوافع للفعل تسمى الدوافع «الأخلاقية»، والتي تختلف على نحو شديد في طبيعتها عن أي دوافع أخرى. كما أنه يميل لتصور أن تعقد المسائل الأخلاقية يمكن اختزاله في مبدأ واحد أو مجموعة من المبادئ. وهو يدور على نحو ضيق الأفق في فلك مجموعة من المفاهيم الصارمة بعض الشيء المتمثلة في إصدار الأحكام ولوم الآخرين، والقبول والرفض. إن الفارق بين الفضيلة وأخلاق الفضيلة في هذا الإطار يشبه الفارق بين الروائي المعتمد في أسلوبه على المواعظ والفيلسوف الواقعي. ولأن الفضيلة تعتقد على نحو خاطئ أن أي فعل يمكن الحكم عليه أخلاقيا يجب أن يتم بمحض اختيار الفرد، وأن البديل الوحيد لتلك النزعة الاختيارية هو الحتمية ، فإنها خطاب يفسده تبادل الاتهامات. إنها تمثل الرؤية المتشددة للوجود الإنساني التي جعلت المسيح يصب ويلات شديدة على رءوس الفريسيين؛ رغم أنهم، من الناحية اللاهوتية، كانوا قريبين إليه إلى حد كبير في بعض الجوانب.
إن الفضيلة بهذا المعنى تتعلق بالندم وتأنيب النفس والمسئولية المطلقة. إنها السبب في وضع العديد من الأفراد على منصة الإعدام في الولايات المتحدة الأمريكية. إن الفكرة التي ترى أن الفرد مسئول مسئولية مطلقة عن أعماله فكرة تشترك فيها الأيديولوجيا الأمريكية مع إيمانويل ليفيناس. إن أقوى أمة في التاريخ أصبحت في قبضة شكل مجنون من النزعة الاختيارية. إن اللاكانيين أيضا، بإخلاصهم الشديد للفكر الكانطي، يفترضون أن الأخلاق تتعلق في الواقع في الغالب بلوم الآخرين والندم والقانون والالتزام والواجب؛ لكن بهدف إيجاد مخرج من هذا الوضع البغيض للوجود. إن هذا المخرج يمكن إيجاده فيما يتجاوز القانون، في أخلاق النظام الواقعي (المنظور له على نحو إيجابي). وإن لم يكن هؤلاء قد تبنوا على نحو رسمي هذا الشكل الممل من الأخلاق منذ البداية، فربما ما كان عليهم أن يلجئوا لمثل هذه المحاولات البارعة (والمستبعدة أحيانا) للهروب منه. إن ما تشترك فيه كل من الفضيلة والأخلاق الواقعية هو نقائيتهما. إنها روحانية شبه دينية ورثها اللاكانيون من كانط؛ تلك التي يمكن أن تراها الديانتان اليهودية والمسيحية باعتبارها أمرا مطلوبا بشدة في هذه الحياة الدنيا. عندما كتب سلافوي جيجك يقول إن «الحياة الدنيا ذات أهمية ثانوية» في المسيحية،
58
كما لو أن المسيحيين مخلوقون من مادة أخرى غير البشر الآخرين ولهم هيئة أخرى تختلف عنهم، فإنه نسي للحظة أن الخلاص أمر دنيوي؛ وأن جسد المسيح بعد قيامته ينظر إليه تقليديا على أنه لا يختلف كثيرا عن جسده عند ميلاده؛ وأن ملكوت الله ينظر إليه تقليديا على أنه أرض جديدة وليس مدينة في السماء.
هناك شيء غريب على نحو مميز فيما يتعلق بأخذ مفكرين ما بعد بنيويين من أمثال دريدا وليوتار وهيليس ميلر ودي مان لحقائقهم الأخلاقية عن حكيم كونيجسبرج، كانط. فمن ناحية، كان كانط يدعو لصورة من العمومية كانت تهاجمها بشدة ما بعد البنيوية. ومن ناحية أخرى، إن هذا المدافع المتزمت عن الواجب والقانون سيبدو مختلفا بشدة في نبرته ورؤيته عن نسبويي «ريف جوش» الكسالى اللعوبين الساعين وراء المتعة. ونحن لا يمكن أن ندعي أن شخصيات مثل رولان بارت أو جون بودريار يمكن أن تدعو للالتزامات الحتمية والأوامر المطلقة. لكن هناك عددا من الأمور التي يتفق فيها الفريقان؛ إذ يشتركان، على سبيل المثال، في نوع معين من الشكلية. فكما أن القانون الأخلاقي الكانطي يفتقد كل المادة التي تتجاوزه، فإن المادة بالنسبة لما بعد البنيوية خاضعة لقواعد الخطاب، ولعب الدوال والفعل العشوائي المتمثل في افتراض الاختلاف أو تبدله الدائم. إن الفرض الكانطي للقانون على الفرد تحول على يد ما بعد البنيويين إلى نسخة أخرى من العلامة ذاتية المرجع.
تشترك النظريتان أيضا في معارضتهما للرؤية التأسيسية. إن القانون الأخلاقي الكانطي لا يرتكز على الإله أو الطبيعة البشرية ولكن على نفسه. إن ما بعد البنيوية على نحو مماثل مستعدة بالطريقة النيتشوية للعيش دون أسس مطلقة. لكن ما هو أخلاقي، الذي يرى باعتباره قانونا قهريا على نحو غامض، يمكن أن يمد هذا العالم المضطرب ببعض الأساس الذي يضمن له بعض الاستقرار. يكتب بول دي مان قائلا: «الأخلاق لا علاقة لها بالإرادة (المقيدة أو الحرة) للذات ولا بالأحرى بالعلاقة بين الذوات.»
59
وهنا يبرز، في أخلاق تتجاوز الذاتية، مظهر آخر من مظاهر التشابه بين كانط وما بعد البنيويين؛ حيث إن الذات الأخلاقية لكانط، التي لا تعدو كونها تابعا خاضعا للقانون، تتشابه مع الذات غير المتمركزة لما بعد البنيويين. وكما أن العشوائية التامة تهمش الذات، فهكذا تفعل الالتزامات الحتمية الذي يجعلها تبدو غير مهمة على نحو كبير.
إن ما هو أخلاقي، في هذا السيناريو الكئيب الذي نسجه دي مان، لا علاقة له بفاعلية الإنسان أو قدرته على اتخاذ القرار. إنه بالأحرى قوة تفرض، مثل اللغة، نفسها علينا بكل الإلزام التعسفي الموجود في أي عمل درامي لإسخيلوس. يتحول القانون الأخلاقي الكانطي إلى لغة أو نص؛ يقول دي مان في هذا الإطار: «ما يجعل قراءة ما حقيقية بنحو أو بآخر هي حتمية أو ضرورة حدوثها، بصرف النظر عن رغبة القارئ أو المؤلف.»
60
إذا كان دي مان يقصد أن المطلقات الأخلاقية تشبه إجبار الفرد على قراءة نص بطريقة معينة؛ إذن فقد أساء فهم طبيعة تلك الالتزامات، التي يمكن بالطبع دائما مخالفتها. إن الإلزام عنده سيبدو طبيعيا أكثر منه أخلاقيا؛ أشبه بزلزال أكثر منه فرضا أخلاقيا.
إن هيليس ميلر أيضا، شأنه شأن دي مان، ينظر إلى الأخلاق من منظور المطلقات والملزمات. إنه أيضا يتشابه مع دي مان في إعادة صياغة أفكار كانط بأسلوب ما بعد بنيوي أكثر عصرية. إن القوانين المطلقة موجودة، لكن «لا يوجد إطلاقا أي أساس لها في المعرفة؛ أساس يخضع في النطاق المعرفي إلى تصنيف الصحة أو الخطأ.»
61
كما هو الحال مع قرارية دريدا، فإن ملكة الإدراك التابعة لا يسمح لها بأن تلعب أي دور في القيمة الأخلاقية. لا يمكن أن تنبني القيم الأخلاقية على حسبما يكون الحال؛ لأن ذلك في حد ذاته تأويل لا أساس له. ليس الأمر أن العقل الخالص والعقل العملي يجب أن يميز بينهما على نحو واضح، كما فعل أنصار كانط، لكن بالأحرى أنه لا يوجد في واقع الأمر عقل خالص في المقام الأول.
يرى أنصار كانط أن الحقائق شيء والقيم شيء آخر، أما ما بعد البنيويين وأتباعهم ما بعد الحداثيين، فيرون أنه لا يوجد فرق بين الاثنين؛ لأن الحقائق ببساطة قيم في صورة تجريبية. إن قيمك هي التي ستحدد ما تراه. بالنسبة لكانط، إن نوعية المعرفة التي يمكن أن تكون لدينا عن العالم التجريبي ليست من النوع الذي يمكن أن يكون أساسا لنظرياتنا الأخلاقية، ليس فقط لأن العالم يقوم على الحتمية والأخلاق على الحرية. وبالنسبة لما بعد البنيويين، المعرفة ببساطة أمر غير مستقر جدا؛ بحيث لا يمكن أن يمثل أساسا لأي شيء على الإطلاق. في حقيقة الأمر، إن هذا هو أحد أسباب تبنيهم للفكر الكانطي. لقد أشرنا في فصل سابق إلى أنه بحلول نهاية القرن التاسع عشر وجد عدد من أنصار الوضعية والحتمية العلمية والماركسية الثورية أنفسهم غير قادرين على استدعاء القيمة الأخلاقية من عالم كانوا هم أنفسهم يسعون بشدة لتفريغه من معناه؛ ومن ثم كانوا مجبرين على تضمين أجزاء مختارة من الفكر الكانطي في نظرتهم للعالم من أجل ملء الفجوة الأخلاقية التي أحدثوها هم بأنفسهم. لقد وجدت ما بعد البنيوية - في ظل نظرتها للعالم باعتباره الإشارة السيميائية الباقية أو الفورة الشهوانية أو لعبة السلطة - نفسها بالمثل تسعى إلى الوصول لطريقة لاستدعاء القيم في ظل هذه الظروف، وكررت ما قام به سابقوها في نهاية هذا القرن في استدعائها لأفكار كانط.
صحيح أن الحقائق والقيم من ناحية مرتبطتان في الفكر ما بعد البنيوي؛ حيث اتضح أن كلتيهما خيالات لا أساس لها. لكنهما من ناحية أخرى منفصلان؛ حيث إن الوضع الخيالي للحقائق من الأسباب التي تمنعنا من الاستعانة بالإبستمولوجيا للمساهمة في الأخلاق. إن الالتزامات الأخلاقية والسياسية يجب أن تكون مستقلة عن الحقائق، مع افتراض وجود حقائق في المقام الأول. هنا، يوجد انحدار مستتر من الزعم المعقول القائل بأن القيم الأخلاقية لا يمكن ببساطة أن تتأسس على الحال الواقع أيا كان، إلى الزعم غير المعقول القائل بأن ما هو معرفي وما هو أخلاقي منفصلان تماما. ليس هذا هو الحال في أخلاق الفضيلة التي ترى أن الشخص الفاضل سيرى بالفعل الجوانب الموضوعية للوضع والتي لن يراها الشخص الأقل فضيلة، وقد يرى أن هذه الحقائق تعد سببا كافيا وراء ضرورة اتخاذ نوع معين من الفعل.
62
لكن هيليس ميلر يرى أنه كلما قلت الحقائق التي تدخل لعالم القيم، أصبحت أحكامنا الأخلاقية أكثر نقاء. يقول ميلر بنبرة مانح متحفظ على وشك أن يرجع فيما منحه على نحو روتيني: «لا شك أن السياسة والأخلاق دائما ما يرتبطان على نحو وثيق، لكن الفعل الأخلاقي المتحدد بالكامل من خلال مسئوليات أو اعتبارات سياسية لم يعد أخلاقيا. بل يمكن أن يقال عنه من ناحية معينة إنه لا أخلاقي .»
63
كلما ازداد الطابع السياسي لأفعالنا، أصبحت أقل أخلاقية، وهو وضع ربما كان سيمثل مفاجأة بعض الشيء لمارتن لوثر كينج. إن المجال السياسي، كما هو الحال عند الواقعيين الأخلاقيين، قد انحط إلى مستوى نفعي على نحو قاتم، وهكذا يكون من الصعب على نحو مفهوم ربطه بأخلاق جرى تعريفها من خلال مقارنتها به. وكلما انحط مستوى ما هو سياسي، بدا ما هو أخلاقي متعاليا أكثر. إن كون هذا في حد ذاته تأثير تاريخ سياسي معين هو أمر ما كان هيليس ميلر بلا شك سيعتبره حكما أخلاقيا خالصا.
إذن، فالأخلاق تعسفية ومطلقة في نفس الوقت، تماما مثل قواعد لعبة معينة. إنها أساس، لكنها ليست بأساس على الإطلاق. كما أنها لا يمكن تجنبها ولا يمكن كذلك تبريرها. وكما هو الحال بالنسبة للغة، على الأقل في ضوء النظرة الما بعد بنيوية لها، فإن الأوامر الأخلاقية تمتلك القوة غير المدفوعة لما هو مبني بالكامل على نفسه. إنها أوامر متماثلة مع ذاتها على نحو مهيمن في عالم ليس متماثلا مع ذاته. إنها تبدو تعسفية فقط لأنها تبدو أنها تصدر من لا شيء؛ إذ لا يوجد مصدر لها في المعرفة أو التاريخ أو السياسة أو الطبيعة؛ لكن هذا الغياب الظاهر للسياق هو أيضا ما يجعلها مطلقة أو متسامية بدرجة ما. إننا نشعر بأننا مجبرون على التعامل مع هذه الأوامر باعتبارها كيانات غامضة في حد ذاتها، ومطلقة على نحو غريب في قوتها. إنها مطلقة ليس لأنها مبررة على نحو قوي، لكن على وجه التحديد لأنها ليست كذلك. إن كونها مطلقة يتناسب مع كونها مبررة؛ بحيث، كما هو الحال بالنسبة لفعل متهور لا أساس له، يبدو عدم وجود تبرير لها نوعا فاسدا من التبرير. فإذا لم يكن هناك سبب محدد للالتزام بها، فليس هناك سبب محدد لمخالفتها كذلك. وهكذا، يمكن لما بعد البنيوية أن تتجنب أوجه النقص الموجودة في النسبية الأخلاقية مع الاحتفاظ برؤيتها المعارضة للتأسيس. لكنها يمكنها فعل ذلك فقط على حساب الخلط بين المطلق وغير المدفوع.
هناك سبب آخر وراء ترحيب ما بعد البنيويين بالزعم الخاطئ القائل بأن الأخلاق تتمثل بالأساس في أوامر ونواه ووعود والتزامات وما شابه، وهو أنه يعد باختزال مسألة الأخلاق في النطاق الأدائي المألوف بشدة بالنسبة لهم؛ إذ تحل اللغة محل القانون، بحيث تحل القوة غير البشرية للغة نفسها محل الطبيعة غير البشرية للقانون الأخلاقي الكانطي؛ أي تجاهله القاسي لقدرات الذوات البشرية. إنها أخلاق الأجناس الأدبية. وفكرة أن مصدر بشريتنا شيء غير بشري تعد فكرة حداثية تمتد من كانط إلى دريدا. إن هذا الإحلال بالتالي له تأثير على مسألة صحة الأحكام الأخلاقية؛ فالأحكام الأخلاقية تعد في حقيقة الأمر عبارات خطابية، لم يعد بالإمكان تقييم قيمة صحتها أكثر من أي نوع آخر من الفعل الكلامي الأدائي. إن الأحكام الأخلاقية، كما يرى ميلر، «افتراض لقانون أخلاقي لا أساس له، ودائما يكون غير عادل وغير مبرر؛ وبالتالي دائما من المنتظر أن يحل محله افتراض لقانون أخلاقي آخر أكثر قوة أو إقناعا على نحو مؤقت، لكنه أيضا لا أساس له.»
64
سيكون من المثير للاهتمام معرفة كيف أن هذا «التحذير» قد ينطبق على الحكم المتعلق بقتل ماو تسي تونج لملايين من مواطنيه. إن القانون الأخلاقي بالنسبة لميلر مطلق حتى يطيح به قانون أخلاقي آخر أصلح، وعندها يتوقف الأول تلقائيا عن كونه مطلقا. بالمثل، لم تغير الكنيسة الكاثوليكية الرومانية من فكرها قط؛ فهي ببساطة تنتقل من حالة يقين لأخرى، كما تفعل إذا أرادت تغيير رأيها عن الإجهاض أو منع الحمل. هناك لمحة تذكرنا بنيتشه أو الدارونية الاجتماعية في إحلال ميلر الأقوى محل الأضعف، كما هو الحال بالنسبة لقرارية «الافتراض الذي لا أساس له» الخاص به وبدي مان. في واقع الأمر، إن هذه الأخلاق بأكملها تعد مزيجا مثيرا من أفكار نيتشه وكانط. كتب نيتشه في إحدى حالاته المزاجية الأقل تواضعا يقول: «الفلاسفة الحقيقيون ... قادة ومشرعون؛ إنهم يقولون: «هكذا» يجب أن يكون عليه الحال!»
65
إذا لم يعد بالإمكان تبرير الأحكام الأخلاقية من خلال العقل أو الأدلة، فيمكن للفرد دائما الرجوع للقوة البلاغية الخالصة. «فقط افعلها!» هو الشكل الذي يأخذه هذا النوع من الأمر الأخلاقي. ولأنه لا تبرره أي سلطة عقلية، فلا يمكن إنكاره لأنه لا يوجد ما يمكن إنكاره. إن مثل هذه الأوامر ببساطة تهبط علينا على نحو غامض من أعلى. وبمجرد أن يضفي الفن بعد الحداثة هالته الموقرة، تصبح الأخلاق الشكل الجديد من التسامي في حقبة ما بعد التدين.
توجد نفس هذه القرارية الراديكالية في عمل جان فرانسوا ليوتار «مجرد لعب» والتي أدخلت تغييرا ما بعد بنيوي على الحظر الفلسفي المعتاد المتعلق باستخلاص ما هو معياري من عبارة وصفية. يشير ليوتار إلى أن الأخلاق والسياسة لا يمكن أن يقوما على علم المجتمع. يتفق ميشيل فوكو مع ذلك ويضيف: «ليس من الضروري على الإطلاق الربط بين المسائل الأخلاقية والمعرفة العلمية ... أعتقد أن علينا أن نتخلص من تلك الفكرة المتعلقة بوجود رابط تحليلي أو ضروري بين الأخلاق والبنى الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية الأخرى».
66
إن الفكرة المقابلة قدمها دينيس تيرنر حين قال: «إننا نريد أن نعرف لأننا نريد أن نكون أحرارا؛ ومن وقت لآخر، نطلق مسمى «معرفة» على أشكال البحث التي نحتاج إليها إذا أردنا أن نحرر أنفسنا من تلك المفاهيم القديمة التي تحولت على مدار التاريخ إلى مفارقات تاريخية للأيديولوجيا.»
67
ليست كل المعرفة، بالتأكيد، من هذا النوع السياسي؛ لكن تيرنر يرى أن النوع الحيوي من المعرفة الذي نسميه المعرفة التحررية لا يمكن بسهولة أن يتلاءم مع التقسيم الصارم بين ما هو وصفي وما هو معياري. ويضيف أن الأخلاق بصورتها الكلاسيكية «استكشاف علمي للنظام الاجتماعي يمكن أن ينتج قواعد للفعل.»
68
ومن ثم هي عكس الأيديولوجيا. إن ما قام به ماركس في أعماله، على سبيل المثال، هو استكشاف أخلاقي بالمعنى التقليدي للمصطلح، حتى وإن فشل في معظم الأحيان في إدراك الأمر على هذا النحو. لكنه سرعان ما رأى أن هذا الاستكشاف الأخلاقي نوع من الوعظ الأخلاقي؛ مما جعله يستبعده باعتباره خطابا أيديولوجيا إلى حد كبير. إنه في ذلك اتبع عن غير قصد الكانطيين والعاطفيين والليبراليين والإنجليكانيين المتشددين، الذين سعوا جميعا لاختزال الأخلاق في مثل هذا الأمر عديم الفاعلية سياسيا.
يجب بالطبع أن تتضمن الأوامر الأخلاقية معتقدات عن حال العالم. فعلى سبيل المثال، لا معنى للضغط من أجل إلغاء العبودية الإقطاعية في مدينة هيمل هيمبستيد الإنجليزية، ولا يجب إغلاق المتاجر التي تبيع الفيديوهات الإباحية في المناطق التي تسكن فيها قبائل الدينكا، على الأقل الآن. لكن بالنسبة لليوتار، سيبدو أن ما هو تجريبي قد فشل في الدخول إلى المجال الأخلاقي حتى بهذا المعنى الواضح. ويؤكد في عمله «مجرد لعب» على أننا يجب أن نصدر أحكامنا «دون معايير ... لقد أصدرت الحكم، وهذا كل ما يمكن قوله ... أعني أنني، في كل مرة، يكون لدي اعتقاد ما، وهذا كل ما في الأمر ... لكن إذا سئلت عن المعايير التي استخدمتها في حكمي، فلن أجد إجابة أقدمها.»
69
وبعد بضع صفحات من هذا التأكيد، نجد أن ليوتار أعلن عن هذا الاستدعاء الصادم على نحو مقصود لدوجماتية الحدس بطريقة كانطية أكثر مهابة؛ إذ يخبرنا على نحو مقبول أكثر بأن الأحكام الأخلاقية والسياسية يمكن أن تصدر «دون المرور بمنظومة مفاهيمية يمكن أن تكون بمنزلة معيار للممارسة.»
70
إنها قريبة من الفكر الجمالي لكانط منها إلى الإبستمولوجيا الخاصة به. إن القواعد الأخلاقية لا يمكن تبريرها، وهو الأمر الذي يعد بالنسبة لليوتار جزءا من جاذبيتها الغامضة. إن القانون الأخلاقي نتاج تسامي غير مبرر. ولا توجد طريقة مبدئية أو عامة أو مفاهيمية لتحديد السبب وراء تبني شخص لتوجه أخلاقي أو سياسي بعينه. إن ما يلزمنا هو نوع من السمو الأخلاقي «المتجاوز على نحو مطلق لإدراكنا».
71
إن هذا يصور على نحو محير حدسا خالصا، ويشير إلى أن الالتزامات الأخلاقية الأساسية ليست قرارات واعية تماما، وإنما هناك لمحة من الحتمية بشأنها؛ فأنت لا تستطيع تغيير نفورك من فكرة الإبادة الجماعية فقط لأنك ترغب في فعل هذا. وبهذا المعنى، فإن أكثر المواضع التي نكون فيها على طبيعتنا ليست على الإطلاق تلك التي نكون فيها في قمة حريتنا، على الأقل في إطار أحد المعاني المألوفة لكلمة «حرية». إن هذا ربما يكون إحدى الطرق العديدة التي يمكن من خلالها تقويض التفرقة الكانطية بين الحرية والحتمية. إن هذه التفرقة غير موجودة أيضا في العقيدة المسيحية؛ فالرب في نفس الوقت المصدر الضروري لوجود الفرد والقوة التي تتيح له أن يكون حرا. وفقط لأن البشر معتمدون على الرب، فإن بإمكانهم تحديد مصيرهم. يرى ليوتار أن القانون الكانطي «يرشدنا إلى معرفة ما هو عادل وما هو غير عادل. لكنه، في نهاية الأمر، يرشدنا دون أن يفعل ذلك في واقع الأمر؛ أي، دون أن يحدد لنا ما هو عادل.»
72
وكما هو الحال في كتابات دريدا، فإن القرارية والشكلية الكانطية والاستدعاء شبه الروحي للغموض تتلاقى مع الهجوم الما بعد ماركسي على الأجندات الحتمية.
إن الأخلاق، كما يقر هيليس ميلر على مضض بعض الشيء، مرتبطة ارتباطا شديدا بالسياسة؛ لكنها أيضا تتلوث بطبيعتها الفاسدة، ومن الأفضل أن تنفصل عنها، تماما كما هو الحال بالنسبة للزوج الذي تتنمر عليه زوجته. نجد هنا رؤية صارمة ترى السياسة والأخلاق والإبستمولوجيا باعتبارها عوالم منفصلة (وإن لم تكن متمايزة). إن تحرير الأخلاق من السياسة يعني استرجاع القيمة الأخلاقية من المناخ الفاسد للتاريخ في القرن العشرين. إن ما دمر البرامج والمبادئ العالمية قبل كل شيء أوهام الفاشية والستالينية. هذا بالتالي يمثل آخر أوجه التلاقي بين الكانطية وما بعد البنيوية، وهما نظريتان لأسباب شديدة الاختلاف تحذر بشدة مما هو تاريخي. بالنسبة لأرسطو، ستكون الفضيلة غير السياسية فكرة من الصعب فهمها؛ ليس فقط لأن لديه مفهوما مختلفا عن الفضيلة مقارنة، لنقل، بميلر أو لاكان، ولكن أيضا لأن لديه مفهوما أقل توهما بكثير للسياسة. فكيف يمكن للمرء أن يقيم سمات الفعل والشخصية بمعزل عن «المدينة» التي تنتجها؟ إن الحكم الذي يعجز عن أخذ تلك الاعتبارات في الحسبان لن ينتمي إلى نطاق الأخلاق وإنما إلى نطاق الوعظ الأخلاقي. إن الأخلاق والسياسة ليسا نطاقين منفصلين ولكن منظورين مختلفين للشيء ذاته؛ فالأولى تتناول أمورا مثل الحاجات والرغبات والسمات الشخصية والقيم، في حين أن الثانية تتناول المواثيق وأشكال السلطة والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية التي تكون في إطارها وحدها تلك الأشياء معقولة. هذا السبب هو الذي جعل أرسطو ينظر إلى الأخلاق باعتبارها أحد فروع السياسة. ولمعرفة بعض تبعات هذا الأمر، يمكننا الانتقال الآن إلى خاتمة الكتاب.
هوامش
خاتمة
ثمة وجه يكون فيه جميع الغرباء غرباء دم؛ إذ يتحدث القديس بولس في رسالته إلى أهل أفسس عن انهيار الحواجز بين إسرائيل والأغيار؛ الغرباء الذين وصفهم بقوله: «كنتم قبلا بعيدين وصرتم الآن قريبين بدم المسيح.» وبولس نفسه، كما يشير، «بشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين». فقد أعاد المسيح تشكيل الفضاء الجغرافي، ماحيا الاختلاف بين من هم خاضعون للقانون ومن هم غير خاضعين له، ولم تعد الأمكنة المادية مهمة.
من الخطأ أن نعتبر عواطفنا التلقائية مقتصرة على من نعرفهم، في حين يجب أن يحال اهتمامنا بأولئك البعيدين عنا إلى الآلية العقيمة الخاصة بالعقل المجرد؛ فكثير من الناس يشعرون بعاطفة أكبر تجاه ظاهرة نائية عنهم من شعورهم تجاه جيرانهم، أو حتى من هم أقرب إليهم من ذلك؛ إذ يمكن أن تؤرقك مجاعة بعيدة، أو حتى هزيمة سياسية مر عليها قرون، أكثر مما يؤرقك إفلاس أخيك. ويخطئ أنصار مذهب الخير في تصور أن العواطف شأن محلي إلى حد كبير؛ فليس صحيحا، كما يرى العديد من المحافظين، أن الشعور هو عدو الوحدة العالمية؛ فالمشاعر تنشأ في المنزل فقط بالمعنى الذي يقول إن هذا غالبا هو المكان الذي نتعلمها فيه لأول مرة. غير أن أول ارتباطاتنا الحميمية قد تكون تجاه الزعيم أكثر من الأقارب. ويمكن القول إن النزعة العاطفية هي إحدى أشكال العاطفة التي لم تتمكن قط من مغادرة المنزل. وفي رد فعل على هذا التقسيم المناطقي، يرى كانط أنه من الأجدر التعامل مع من نحبهم تقريبا بنفس الطريقة التي نتصرف بها مع الغرباء. وإذا كان كانط لا يعني بهذا أننا يجب أن نعامل شركاءنا أو أطفالنا بلامبالاة عاطفية، فإن هذا وأشياء أخرى ترجع إلى أننا لسنا دائما غير مبالين عاطفيا تجاه الغرباء. وحتى الإنجليز يمكن أن يتفقوا مع هذا.
ترى سيلفيان أجاسنسكي أن «في حالة الاحترام الأخلاقي أو الحب بدافع الواجب، تنشأ علاقتي من ضرورة لا تراعي فردية الآخر.» وإن كان هذا يعني أننا دائما نتصرف بلا عاطفة عندما يتعلق الأمر بالغرباء، فإن هذا الزعم غير صحيح بالقطع. لقد رأينا أيضا أن عدم مراعاة فردية شخص آخر بمعنى عدم حصر الحب في أشخاص معينين (أصدقاء، على سبيل المثال، أو أبناء نفس البلد أو مواليد نفس البرج أو أصحاب نفس لون الشعر) لا يعني بالضرورة عدم مراعاة فرديتهم، بمعنى عدم الالتفات إلى احتياجاتهم الخاصة. وعلى أي حال، ثمة طرق لاحترام فردية الآخرين أكثر من الشعور بالمودة الشخصية تجاههم؛ فالقانون - كما تضيف أجاسنسكي - يتطلب دائما «حل الروابط؛ أي العلاقات التي تربطنا بفرديات متناهية، والعلاقات التي تربط الكيانات الجسدية الفردية معا.»
1
لكننا رأينا في حالة شايلوك أن القوانين موجودة لحماية العلاقات الجسدية، وليس لحلها؛ فعلاقات المرء الجسدية مع الآخرين ليست مقصورة ببساطة على العلاقات المباشرة. كما أن الروابط العاطفية بيننا وبين الآخرين لا تنحل بالضرورة من خلال القوانين القائمة بيننا، سواء كانت قوانين الأرض أو قانون الحب. وترتكب أجاسنسكي خطأ هيوم المتعلق بافتراض أن المشاعر محلية بالضرورة، وأن القوانين هي مجرد بدائل بعيدة المدى لها؛ بينما الحقيقة هي أننا لا يمكن أن نتعاطف مع من لا نعرفهم فحسب، بل إن تعاطف المرء مع المقربين منه ينشأ جزئيا مما تعلمه من التعامل مع الغرباء.
إلى الآن، لا توجد عداوة واضحة بين النظامين الخيالي والرمزي؛ إذ نشعر بشكل طبيعي بروابط مودة تجاه من نعرفهم أعمق منها تجاه من لا نعرفهم؛ لكن المودة ليست هي الشعور الوحيد المعني عندما يتعلق الأمر بالغرباء، فكما يشير بروس روبنز «ليس عليك أن ترتبط بالشعوب البعيدة حول العالم بصورة خيالية وعاطفية كاملة لكي تؤيد تبني سياسات أفضل فيما يتعلق برفاهتهم.»
2
فالروابط «الوثيقة» ليست دائما روابط بين الأشخاص: «فالعلاقات الشخصية الوثيقة القوية التي تعد بسهولة حقيقة محلية»، كما يكتب روبنز، «لا يمكن إنكارها أمام المزاعم والعلاقات العابرة للحدود.»
3
وعلى أي حال، كما يشير الأكويني، يمكن للحب البشري أو الصداقة الإنسانية أن تكون بمنزلة ساحة تدريب أخلاقية للعلاقات الأقل شخصية؛ فالصداقة الإنسانية ليست عند الأكويني شأنا شخصيا في المقام الأول؛ ولكنها هي الشيء الذي يمكننا من تغذية هذا النوع من الحساسية الذي نحتاج إليه أيضا في مسائل أكثر محايدة؛ كالعدالة والسياسة.
إن العلاقات الرمزية هي علاقات يتوسطها القانون والسياسة واللغة؛ وهذه العلاقات - الآخر الكبير عند لاكان - دائما ما تمثل وسائل للتقسيم بقدر ما هي وسائل للتوحيد. ويمكن لهذه العلاقات أن تتحول بسهولة إلى مجرد منفعة أو علاقة تعاقدية. إلا أن النظام الرمزي، في إعطائه الأولوية لعلاقاتنا مع الغرباء، يذكرنا أيضا بأنها، وليس علاقتنا بالجيران بالمعنى الحرفي، هي أساس السلوك الأخلاقي، والذي يتضمن سلوكنا تجاه الجيران بالمعنى الحرفي. ليس الأمر أن الغرباء هم ببساطة أصدقاء؛ لم نكون بعد صداقة معهم، بل إن الأصدقاء هم غرباء تصادف أننا عرفناهم؛ فالفعل المميز للحب ليس التقاء الأرواح، بل الحلول محل الغريب في قائمة الانتظار لغرف الغاز؛ إذ يمكن للمرء أن يموت من أجل صديق، تماما مثلما يمكن للمرء أن يحب غريبا؛ لكن الموت من أجل شخص غريب هو «الحدث» الأخلاقي الأسمى. إن اعتبار المسيحيين أن هذا الموت أمر من الرب هو أحد الأسباب في أنه ليس محبا ورهيبا بالتناوب، بل في أن حبه إرهاب مقدس.
ليست هذه، إلى حد كبير، الحكمة الأخلاقية التقليدية؛ فمثل هذا الامتداد لتعاطفنا تجاه عدد لا يحصى من الآخرين غير المعروفين لنا، كما يلاحظ اليميني الأمريكي روبرت سيبلي، «يفرض امتداد كينونتنا الملموسة لتشمل بعض «الآخرين» البعيدين والغرباء عنا والذين يقال لنا إنهم جيراننا العالميون».
4
فامتداد الكينونة الملموسة للولايات المتحدة إلى الدول الأخرى القاصية والغريبة، والمعروف باسم الإمبريالية، قد وضعها في أزمات من وقت لآخر. ويضفي النظام الرمزي شعورا بالاغتراب على أمورنا، بما في ذلك علاقاتنا مع القريبين منا، وهو ما يزيد عمقها وربما يدمرها. وهذا هو الموضع الذي يتدخل فيه النظام الواقعي؛ فالجار، في إطار النظام الواقعي، هو من يقبلنا على حالتنا غير الإنسانية وهو الذي نتقبله على نفس الشكل. فالجيرة ليست متعلقة بالمكان بقدر ما هي ممارسة. ووحدها العلاقات التي تعود أصولها إلى نقصنا الأخلاقي هي التي لها الفرصة في أن تتطور إلى ما بعد نطاق النرجسية.
5
يمثل النظام الواقعي إذن شرخ النظام الرمزي الداخلي؛ أي التناقضات التي تهدد بانهياره، والصدمة التي تشوه حقيقته، والسلبية التي يجب أن يستبعدها من أجل أن يزدهر، والمواجهة المميتة مع حدوده الخاصة التي قد تتيح له إعادة تشكيل نفسه. إن الجسد قد يكون أساس النظام الخيالي، في مقابل الدوال اللامتجسدة فيما يتعلق بالنظام الرمزي؛ لكنه أيضا علامة على النظام الواقعي؛ على الإنسانية الضعيفة التي يطاردها الموت والتي يشترك فيها الجنس البشري كله. إن أساس الحميمية هو إذا أساس العمومية؛ فلقاء بعضنا بعضا باعتبارنا أجسادا يمكن أن تترافق لقاء ملموس بقدر ما هو مجرد. ولأن اللحم والدم هما ما يكوننا، فتتجلى عمومية النوع في كل نفس وإشارة من جانبنا. إن هذا هو ما ينكره على نحو عنيف تيار ما بعد الحداثة؛ وهو تيار فكري استبدل بالأشكال الأكثر كلاسيكية من الرؤية التأسيسية أساسا مطلقا جديدا يعرف بالثقافة.
إن الجسد هو الصورة الممثلة للإنسانية؛ فهو وحشي في مجهوليته وهو أيضا الوسيلة التي يتم بها أهم اتصال بالنسبة لنا. ولأن الجسد الفاني الواهن هو أساس الحضارة كلها، فليس هناك تعارض إطلاقا بين الخاص والعمومي؛ فالجسد عند يهود ما يسمى بالعهد القديم، كما رأينا، ليس بالأساس منضبطا أو مثيرا، مزينا أو مجملا، بل هو الأساس الذي يوحدنا مع أجساد بني جنسنا. إن من بشريتنا، كما يرى أنصار مذهب الخير، أن ننظر نظرة خاصة إلى ما يمكن أن نشعر به وندركه على نحو مباشر. لكن من طبيعتنا الحيوانية كذلك، كما لا يسلم أنصار هذا المذهب، أن نتعاطف مع الآخرين لمجرد أن لديهم أجسادا مثلنا، وإن اختلفت هذه الأجساد ماديا أو ثقافيا؛ فالاختلاف في حد ذاته ليس ببساطة أساسا سليما بالقدر الكافي لنبني عليه الأخلاق أو السياسة. وهو لا يبدو كذلك إلا عندما تخفق الأشكال المحددة من العمومية التي نراها أمامنا لسبب ما.
لقد رأينا أن القريب والبعيد متفقان بهذا المعنى على الأقل لدرجة أن الجار هو ببساطة كل غريب يتصادف دخوله إلى نطاق رفقتنا. وتصير هذه التبادلية المجردة للأفراد ممكنة بفضل النظام الرمزي؛ لكنها موجودة، أخلاقيا، ليجري تجاوزها. فاللامبالاة التي يتسم بها عمل الخير تخدم الآخرين، وهي ليست وسيلة لطمس اختلافهم. ولأن النظام الرمزي يجردنا من الخصوصية، فهو يمكن أن يجردنا من أجلها كذلك. فيمكن الآن الاعتزاز بأي شخص بوصفه فريدا، وهو ما لا ينطبق بالنسبة للنظام الخيالي؛ فالتنوير، كالعادة، يتقدم بفضل جانبه السيئ.
إن هذه الحقيقة الرمزية بالنسبة للعقيدة المسيحية غير متعارضة مع النظام الواقعي؛ وهو ما يعني، في هذا السياق، وجود فائض أو لا تناه هدام أو تسام على المتناهي يمكن أن يكون قوة دافعة ومؤذية معا. والنسخة المسيحية من اللاتناهي هذا هو عدم وجود نهاية لعمل الخير، وهو شكل من تقاسم المتعة في الحياة الأبدية؛ بحيث بينما يوجد تماثل أو تكافؤ رمزي بين الكيانات المفترضة المتلقية لهذا الخير، فإن الحب المكرس لأي منها يتجاوز بتهور هذا المقياس المتساوي على طريقة النظام الواقعي؛ فاستعداد المرء لتقديم حياته فداء لآخر - أي آخر - يدفع بهذا التهور إلى درجة اللامعقولية السامية؛ وبذلك يجسد شيئا من جوانب الخزي والجنون في المسيحية. إلا أن هذا النظام الواقعي غير المتصور ليس أكثر من تبادلية النظام الرمزي في صورتها المبالغة.
إذا كانت العقيدة المسيحية تشمل كلا من النظام الرمزي والنظام الواقعي، فهي تطرح أيضا نسختها الخاصة من النظام الخيالي؛ فالمحاكاة المعنية ليست قضية تقليد ما بطريقة بيرك للشخصيات المتحضرة من حولنا، بل «تقليد المسيح»؛ وهو ما يعني، عمليا، الاستعداد للتعرض للقتل من قبل الدولة خلال السعي إلى تحقيق العدالة. إن هذا المصير المشئوم هو ما يدعو إليه المسيح رفاقه صراحة. إن ما يعرف في القرن الثامن عشر بالتعاطف - أي استحضار حالة شخص آخر داخل النفس - يخضع هنا إلى تحريف أكثر دموية، حيث نتحول من الحب بمعنى الخيرية الاجتماعية إلى الحب بمعنى التضحية والموت؛ فالقول إن المسيحيين يجب أن يشتركوا في الوجود من أجل الآخرين، الذي اتصف به المسيح، يعني القول إنهم يجب أن يستعدوا لتجربة بذله اللامعقول لنفسه إلى حد الموت. مع ذلك، فإن إهدار الذات المتهور الذي يطالب به الكتاب المقدس، خلافا لأخلاق العين بالعين الضيقة، ينبغي عدم الخلط بينه وبين الفرق عند ليفيناس بين المسئولية الشخصية اللامتناهية وأوامر السياسة الحكيمة. إن لا محدودية عمل الخير لا ينبغي أن تعتبر ذريعة لتجاوز التعقل والواقعية، والتي هي نفسها صفات أخلاقية مرغوبة. فعمل الخير - مثلا - يجب أن يضع في الاعتبار الحاجة إلى العدالة، التي هي جزء منه. وكما يقول آلاسدير ماكنتاير: «فعل الخير تجاه «جارنا» يصل لما وراءه، لكنه يشمل دائما العدالة.»
6
فليست المسألة أن العدالة في جانب السياسة، بينما الحب مسألة شخصية بحتة.
وليست المسألة، كما قد يصر أتباع ليفيناس، أن علاقة الحب أو المسئولية الشخصية غير متماثلة من جميع الجوانب، في مقابل المساواة الصارمة للنظام الرمزي. ويصح هذا، بالتأكيد، بالمعنى الذي بيناه للتو: أن عمل الخير لا حد له من حيث المبدأ. كما ينطبق هذا على تعامل المرء مع أعدائه. وعدم التماثل هنا كلمة مهذبة لتقبل السباب الفاحش في مقابل الأفعال السخية. ولكن لا يصح هذا بمعنى أن الحب بأتم معانيه، كما سبقت الإشارة إليه، يجب أن يبنى على المساواة والمعاملة بالمثل. لذلك، ما من فرق قاطع هنا بين الأخلاقي الواقعي والسياسي الرمزي. وهذا من بين الأسباب التي قد تجعل الحب الشخصي يحدث بسهولة أكبر في نظام اجتماعي يتبنى فضائل التبادلية والمساواة. وهناك بالطبع صور سلبية من عدم التماثل - كظلم لطبقة أو جنس، وهو ما يغض ليفيناس الطرف عنه بصورة متوقعة - بجانب الصور الإيجابية.
علينا أن ننتبه، من الناحية الأخلاقية، إلى أوجه قوة وضعف كل من النظم اللاكانية التي تناولناها؛ إذ يتسم التعاطف بالسرعة في النظام الخيالي وهو أمر لا يمكن لأي نظرية أخلاقية أصيلة أن تستغني عنه بسهولة. وهذا يمثل أحد الجوانب التي تفتقدها الأخلاق القائمة بالكامل على القانون. وفي النهاية، القانون ليس بوسيلة قوية بما فيه الكفاية للتواصل الإنساني. لكننا إن حرمنا من هذا البعد الرمزي، فيبدو أننا سنكون في خطر الانتكاس إلى الأنانية الممتدة للجماعة الخاصة، يرهقنا وجود الغرباء ويقلقنا الاختلاف. كما تكشف الأخلاق الخيالية عن نفور من النظام الواقعي، بتشككها المتحفظ، على سبيل المثال، في حقيقة الشر الخالص. فإن كانت أخلاق النظام الواقعي مفرطة في انطوائها على نفسها، فإن أخلاق النظام الخيالي مفرطة في انفتاحها الاجتماعي بعض الشيء.
يفتح النظام الرمزي، من جانبه، لنا الباب إلى السياسة، لكنه ينتزع ضريبة من لحم ودم أعضائه باعتبارها تذكرة دخولهم لعموميته الثمينة. ويجب علينا، كما يبدو، أن نضحي بما لدينا من خصوصية شخصية في سبيل غايات العدل والحرية والمساواة والعمومية. وإن كان النظام الخيالي مفرطا في شغفه، فإن النظام الرمزي مفرط في بروده؛ إذ تتراجع دوافع القلب مفسحة المجال للحسابات العقلانية، حيث يتراجع التفاعل الخيالي بين النفوس المنعكسة أمام جدلية الاختلاف والتماثل. وقد أشرنا بالفعل عدة مرات إلى أن من بين وسائل التوفيق بين الفريد والعمومي في هذا الصدد هي الاهتمام بالاحتياجات الخاصة لأي شخص، أيا كان. إن هذا هو ما يتجاهله بشدة أمثال أنجيلو - أشد مبشري النظام الرمزي صرامة - في هذا العالم.
ثمة تفاعل مشابه بين المجرد والملموس فيما يتعلق بالنظام الواقعي؛ فمن ناحية، كما رأينا، يعد الجسد أبرز الأشياء الملموسة فينا، لكنه يعد الشيء الأكثر عمومية كذلك. ومن ناحية أخرى، فإن معرفة الآخرين معرفة قوية تعني من ناحية التعامل معهم بوصفهم غرباء، وهي الحقيقة التي يعيها تماما دي إتش لورانس في أقل حالاته تنفيرا. ولعل هذا هو ما يجعل إيمرسون يتحدث عن الصديق بوصفه نوعا من «العدو الجميل». علاوة على ذلك، يرى لاكان، إن أردنا أن ننسب الفضل في ذلك له، أننا لا نسلك سبيلا عبر النظام الرمزي المجرد إلا لنكتشف عند نهايته الرغبة الخاصة غير القابلة للاختزال التي تشكل ذاتيتنا. لكن هذه الرغبة لا تزال غريبة عنا كما القانون اللاإنساني للنظام الرمزي نفسه. ومن هذه النقطة الكاشفة، كما يشير لاكان في غموض، نصير قادرين على الحب بلا حدود؛ إذ نعود إلى الحضور المباشر للآخرين، وإن لم يكن إلى النظام الخيالي بالتحديد؛ إلا أننا نستطيع الآن أن نحبهم بكل القوة الغامرة لقانون رمزي مجهول؛ قانون تحول جذريا إلى الرغبة في إطار النظام الواقعي. مع ذلك وكما رأينا بالفعل، فإن جزءا من الثمن الذي ندفعه للدخول إلى هذه المنطقة هو نوع من النخبوية الروحية والتطرف المأساوي.
ثمة حلم رومانسي مستمر بشيء يتمتع بكل دفء الجسد وحميميته، لكن يتميز بعمومية اللغة. إنه مزيج من النظامين الخيالي والرمزي والذي نجده في الرمز الرومانسي أو في العام الملموس. وقد رأينا لمحة منه أيضا في تصور كانط الجمالي للجسد (العمل الفني) الذي يبدو أنه يجسد قانونا عاما، ولكن يبدو كذلك أنه مصمم لتحقيق متعتنا تماما مثل اهتمام الأم. وتذهب المسيحية إلى مرحلة أبعد؛ إذ تضيف النظام الواقعي إلى هذا الاتحاد بين النظامين الآخرين. فالمسيح بعد قيامته، كلمة الله، له جسم إنسان ويتمتع بكامل عمومية اللغة.
7
ولقد رأينا بالفعل كيف أن البعد «الواقعي» لهذا الجسم في عشاء الأفخارستيا - المتحقق بالعبور من بوابة الموت على هيئة قربان - يبرز في «لغة» الخبز والنبيذ العمومية، وهي وسيلة الاتصال الرمزي بين المشاركين في العشاء، كما يبرز المعنى في الكلمة. وهكذا يمتزج النظامان الواقعي والرمزي في فعل واحد. ويجري تشارك عناصر الأفخارستيا باعتبارها شكل الحياة المشتركة؛ ولكن لأن تناول الخبز والنبيذ يمثل حصدا للحياة من عمل تدميري، فهما يمثلان في ذات الوقت خروج الحياة من الموت وهو البنية الواقعية أو المتعلقة بالتضحية الخاصة بهذا الحدث. كما أن البعدين الواقعي والرمزي مربوطان بالبعد الخيالي؛ حيث إن مشاركة الخبز والنبيذ تتضمن كذلك تبادلا مشتركا للهويات في المسيح. وثمة نوع من المستوى الخيالي المسيحي، تجسده آية «بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم.» إنه مثال، إن جاز التعبير، على العبورية الإلهية؛ إذ إن المبدأ القائل: عامل الآخرين بما تحب أن يعاملوك به - وهي نصيحة خطرة للمازوخيين - يتحول كذلك إلى تبادل خيالي للأماكن؛ فالأفخارستيا إذن تحتفل بوجود بهيج مع الآخرين بصفتها عيد حب يبشر بمملكة سلام وعدل مستقبلية؛ لكنها مملكة تقوم على أسس الموت والعنف والتحول الثوري، وهي الظروف التي تتجاوز مبدأ المتعة تماما.
ربما تكون بالطبع المسيحية باطلة. لا شيء بالتأكيد في هذه الدراسة يعتبر صحتها أمرا مسلما به. وكذلك ربما ينطبق نفس الوضع على التحليل النفسي. ربما من بين أسباب بطلانهما هو أن كليهما يفترضان حالة وهمية اسمها الحالة الإنسانية. وإن كان هذا هو الحال، فأحد أسباب التي تجعل كلا منهما باطلا قد يكون أحد أسباب صحة التيار ما بعد الحداثي. وتنشأ المشكلة إن كان التحليل النفسي صحيحا، لكن المسيحية باطلة. وإذا كان هذا هو الحال، فقد يكون من المنطقي أن يقال إن البعد التراجيدي للحالة الإنسانية يتعذر في النهاية تغييره؛ إذ إن الكتاب المقدس يقدم حلا جذريا لأهوال النظام الواقعي وويلات دافع الموت؛ حلا - بدلا من أن يتبرأ من هذه الأشياء كما يفعل الإنسانوي الليبرالي أو الاشتراكي - يجد الحقيقة المخلصة تحديدا في تلك المواضع الأكثر بغضا. فمن خلال الثورة الروحية المعروفة باسم الإيمان، تتحول المتعة الفاحشة لدافع الموت - التي «لا جدوى منها» - إلى تهور الحياة الجيدة الذي «ليس لديه ما يخسره».
إن لم يكن أي من المسيحية أو التحليل النفسي صحيحا، فيمكننا أن نطمئن قليلا؛ إذ لا خلاص، لكن لا حاجة له أيضا. فما من حاجة للحل لأنه ما من مشكلة. أو على الأقل، لا مشكلة من النوع الذي يفترضه التحليل النفسي. وإن كانت المسيحية حق لكن التحليل النفسي باطل؛ فنحن نستخدم الأخير لنخطئ في تعريف الحالة التي وعدت الأولى بتحقيقها. لكن ماذا لو كانت المسيحية (لنعرض تساؤلنا الأول مرة أخرى) باطلة والتحليل النفسي صحيحا؟ يمكننا أن نقول في هذه الحالة إننا نعود إلى إمكانياتنا السياسية لعلاج المصاعب التي يشخصها الأخير. صحيح أن السياسة يمكنها أن تخفف من وضعنا أكثر بكثير مما قد يقر به المتشككان السياسيان فرويد ولاكان، لكن من غير المؤكد أن يكون التغيير السياسي في حد ذاته قادرا تماما على إنهاء الحالة المأساوية التي يعرضاها. لذلك، فإن الإنسان - كما ترى المسيحية - بحاجة إلى تحول يصل إلى مكونات الجسد نفسه. وإن كان تلك خرافة، فالسؤال هو: كيف يمكن جعل وضعنا أكثر احتمالا دون وجود هذه التدخلات الإعجازية؟ •••
لا تستتبع العلاقة بين الأخلاق والسياسة تعارضا بين الحب والإدارة، أو بين اللامتناهي والمتناهي، أو بين القريب والبعيد، أو بين المقربين والغرباء، أو بين غير المتماثل والمتماثل. فالاثنان غير مرتبطين، كما لا يرتبط الروحي بالمادي، والداخلي بالخارجي، والفردي بالمجتمعي، والفردي بالعمومي. فالمسئولية تجاه الآخرين، كما يرى ليفيناس ودريدا، ليست مطلقة وبلا حدود، بل يجب أن تضبطها العدالة والتعقل والواقعية. فالمسألة ليست أن الأخلاق تختص بالجيران في حين تختص السياسة بالغرباء؛ فالأخلاق ليست ببساطة هي الانفتاح المبجل على الآخر الكبير، بل مسألة تتعلق، لنقل، بصياغة السياسات الخاصة بالإعلانات أو بمواجهة عمليات قتل الأطفال التي تؤثر فيمن لا نعرفهم؛ فالتركيز على أمور محددة لا يقلل أبدا من قيمتها، كما يتخيل الواقعيون بإصرار.
تتضمن الأخلاق أوامر غير شخصية مثلها مثل السياسة، بل إن القضايا السياسية كالعدالة والمساواة تنطبق على العلاقات بين الذات والآخر الكبير بقدر ما تنطبق على العلاقات بين الغرباء. إذن، فالأخلاق والسياسة ليستا عالمين غير متناسبين لا يربطهما إلا مناورة التفكيك الماهرة، بل هما منظوران مختلفان لنفس الواقع. فليس ثمة ما يسمى بالاشتراكية «الأخلاقية» مثلا في مقابل التيارات «غير الأخلاقية» من هذا الفكر. فالأخلاق تتعلق بطريقة العيش معا بما يحقق أقصى نفع، بينما السياسة تتعلق بتحديد المؤسسات المثلى لتحقيق هذه الغاية. إن غاية الاجتماع السياسي، كما يقول أرسطو في كتابه «السياسة»، هي «الحياة والحياة الجيدة». وإن كنت ترى الأخلاق والسياسة دائرتين منفصلتين، أو تشعر بالحاجة إلى تحرير الأولى من البراثن الوضيعة للأخيرة، فسينتهي بك الحال على الأرجح باعتبار السياسة حقيرة والأخلاق مثالية. وفي عصر ينكشف فيه وهم السياسة، يفرض على الأخلاق أن تترك المجال المجتمعي وأن تستوطن مجالا آخر: في الفن أو الإيمان أو التسامي أو الآخر الكبير أو الحدث أو اللامتناهي أو القرار أو النظام الواقعي.
يمكن لوجهة نظر معينة تجاه محرقة اليهود أن تعزز هذا الفصل بين الأخلاق والسياسة. ولأن المحرقة يبدو أنها تتطلب إصدار أحكام أخلاقية مطلقة، وكذلك الإشارة عند بعض المعلقين إلى سمو الشر، تظل قضية الأخلاق أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. ولكن نظرا إلى أن السرديات السياسية أو التاريخية الكبرى التي من المفترض أن تكون قد أنتجت مثل هذه الكارثة يجب التخلي عنها لهذا السبب بعينه، أو لأنه لا يوجد أي منهج تاريخي خالص يمكنه تفسير مثل هذا الشر، فإن هذه الأحكام المطلقة صارت بلا أساس؛ فهي راسخة بقدر ما هي بلا أساس؛ فالأحكام الأخلاقية تطلب وتعطل معا، ولا يبقى أمامنا سوى أخلاق قائمة على السمو الفارغ.
قد يكون النظام الرمزي في الواقع بيئة أكثر هشاشة بحيث لا يمكن أن تترعرع فيها الأخلاق. لكن هذا لا يعني أن القانون والسياسة والحقوق والدولة ورفاهية الإنسان ينبغي الترفع عنها باعتبارها أمورا لا مفر منها لكنها قاتلة للروح. ففقط أولئك الذين يتمتعون بامتيازات كافية بحيث لا يحتاجون لحماية القانون والسلطة هم من يمكنهم اعتبارهما خبيثين بطبيعتهم؛ فالنظام الرمزي يكون أكثر فاعلية عندما تكون جذوره في الجسم؛ أي في احتياجات الإنسان ورغباته، وليس في المجردات الأخلاقية. لقد أثنى ماركس ثناء بالغا على الديمقراطية البرجوازية، لكنه رأى أنها لم تبلغ درجة كافية في هذا الجانب؛ إذ لم تشمل الرجال والنساء إلا باعتبارهم مواطنين أحرارا متساوين، ولم تضع في الاعتبار خصوصيتهم المتفردة. إن الديمقراطية الاشتراكية وحدها - التي قلصت الفجوة بين الدولة السياسية والحياة اليومية والعمل - هي ما يمكنها فعل ذلك.
أما فيما يتعلق بالنظام الواقعي، فيمكننا القول إن شعار «تمسك برغبتك!»، رغم كل عيوبه الواضحة، يمثل وصية سياسية ممتازة في الوقت الحاضر؛ إذ لا جدوى من يسار سياسي يقبل بأنصاف غاياته. إن ما زاد صعوبة تحدي الرأسمالية العالمية في عصرنا هذا هو أنها ازدادت افتراسا، وليس العكس . وهذا يعني أن عين التغييرات في النظام التي ساعدت على إضعاف اليسار واستنزافه هي كذلك السبب الذي يجعل مكافحة هذا النظام تظل ضرورة أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. ينبغي إذن على اليسار الحفاظ على إيمانه، بدلا من الانصياع لمغريات الاتجاه الإصلاحي أو الانهزامي. ويجب أن يواجه نظاما سياسيا غير قادر على إطعام الناس أو منحهم العدالة الكافية بشيء من الرفض المعاند المميز لأنتيجون؛ وهو رفض يعد حماقة عند المحافظين وحجر عثرة عند الليبراليين. وحتى إن فشل في هذا المشروع، فيمكنه على الأقل أن يشعر بالرضا الحلو المرير عن أنه كان على حق طوال الوقت.
هوامش
अज्ञात पृष्ठ