لقد رأى دماء كثيرة جدا لدرجة أن رؤية أي شيء يذكره بها أصبح يثير غثيانه؛ لذلك فقد تولى عن الزهور البديعة التي تصبغ جانب الجبل بشغف، وارتفع ببصره إلى زرقة السماء. لكن النظر إلى السماء لم يزد سوى أن جعل المسار الوعر الذي عليه سلوكه أكثر جلاء. هنا خطر له فقرة كان يسمع أباه يقرؤها من منبره في صباح أيام السبت بتفخيم حرف الراء المعهود لدى الاسكتلنديين الذي لم يمحه بقاؤه عمرا في بلدنا: «أرفع عيني إلى الجبال، من حيث يأتي عوني.»
راح يرفع عينيه إلى التلال والجبال لكن لم يأته أي عون. فتساءل إذا ما كان السبب أنه يطيع أوامر رجال آخرين، أم لأنه قد نسي الله. لقد علمه أبوه وأمه في طفولته أن يصلي ويؤمن بأن صلواته ستلبى. لكنه حين سافر لخدمة بلده، توقف عن الصلاة لسبب ما يتعذر تفسيره وركز كل قواه في القتال . فقد ارتكبت فظائع في حق رجال من عرقه ودمه في بداية الحرب دفعت كل الرجال الاسكتلنديي الأصل والميول إلى الجموح بعض الشيء.
لقد شارك في الحرب وهو واحد من أكثر الرجال تهذيبا. لكنه انبرى للمجازفة، التي كان رجال آخرون من بلدنا بأصولهم المختلفة يشعرون بأنها ستحرر العالم من الطغيان، بينما يعتمل في صدره غضب، وشعور يتشاطره كل الرجال من سلالة شعبه وبلدهم. فقد ألم بفرقة معينة من الاسكتلنديين أشياء، لا يمكن لرجل تسري في عروقه قطرة دم اسكتلندي أن ينساها مطلقا وإن أراد. تحت وطأة هذا الشعور، نسي الشاب، الذي كانت أمه دائما ما تشير إليه بحب قائلة: «عزيزي جيمي»، التعاليم والدين الذي ربته عليه، وسافر ليرى كم يستطيع أن يشفي غليله الشخصي من الرجال الذين جرحوا قلب اسكتلندا بأسرها جرحا أعمق مما تستدعي مقتضيات حرب عادية أن تحدثه في قلب أمة.
لقد ذهب للثأر وانتقم أشد الانتقام من أكثر من عدو، ثم حانت الساعة التي دخلت فيها صدره شظية مسننة من الحديد المغطى بالوسخ وسممت دمه. وبعد أسابيع على الحدود، عاد يجرجر قدميه، وهو يحمل الآن جرحين لن يندملا؛ أحدهما في قلبه لا يستطيع الناس رؤيته، والآخر في صدره ظل الأطباء والممرضات يطببونه دون جدوى.
حين حسم قرار عدم إمكانية عودته إلى الخدمة أعيد إلى الوطن. هنا أضيف جرح آخر للجرحين الغائرين بالفعل اللذين كانا يعذبانه. إذ إنه خلال سنوات غيابه الثلاث، قضت الأم الضعيفة الضئيلة نحبها، متأثرة بخوفها وقلقها على ابنها الوحيد، فلم يصمد طويلا أبوه، الذي كان دائما ما يعتمد عليها، ولحق بها. وبيع بيتهما الصغير لسداد نفقات مثواهما الأخير، فلم يبق في هذا العالم بأسره شيء يعود له؛ لا قريب ولا بيت. حتى أصدقاؤه تفرقوا ولم يكن أمامه سوى أن يظل تحت وصاية الحكومة حتى يحين الوقت الذي يعلن فيه بأهليته أن يبدأ حياة لنفسه مجددا.
تقديرا لخدمته الشجاعة، التي دل عليها زوجان من الميداليات وشارة ثبتت فوق الجرح الذي حمله؛ أرسل إلى كاليفورنيا، حيث كان من المأمول أن تأتي الشمس الساطعة، والفاكهة، وهواء المحيط النقي، والصيف الدائم للأرض الطيبة، بالشفاء الذي فشل الأطباء في أن يأتوا به. لقد منح نعيم أفضل مكان يمكن أن يرسل إليه رجل في حالته. المنتجع الجبلي، أروهيد سبرينجز - القابع عاليا فوق جبل تغطيه خضرة كل الأشجار والشجيرات والكروم المحلية، حيث الهواء معبق برائحة الزهور ومفعم بشدو الطيور - كانت الحكومة قد أخذته وجعلته مستشفى كبيرا، ويرجع سبب اتخاذ الموقع في هذه النقطة إلى أن الطبيعة قد أخرجت للسطح جدولا من الماء الساخن لدرجة الغليان، ماء شديد السخونة حتى إنه لا يمكن أن تمد فيها يدا، ماء يغلي آت من مغارة سفلية حيث النيران التي لا تخمد لا تزال تضطرم في قلب الأرض بالغة أقصى درجات التوهج، وتنبثق الينابيع وهي تفوح برائحة الكبريت والعديد من المواد الكيميائية، وبحرارة لا تتغير عاما تلو الآخر. كانت الينابيع تضخ إلى المستشفى، حيث توجه جميع خصائصها الطبية إلى الرجال الذين، مثل جيمي ماكفارلين، يجب علاجهم من جروح عنيدة قبل أن يستطيعوا العودة إلى ديارهم ليقوموا بمهام الرجال في شئون بلدنا.
تدفق العرق على وجنتيه وهو يصعد الجبل بمشقة في ذلك الصباح. وبينما كانت ركبتاه تصطكان ويداه البيضاوان تتشبثان بأي شجرة أو شجيرة يمكن أن يستند إليها، أخذ جيمس ماكفارلين يفكر. كان يفكر سريعا وعميقا. وتساءل، ما دام قضاء عام في ينابيع المياه المعدنية الساخنة هذه لم يعد عليه بأي منفعة على الإطلاق، فهل سيحقق عام آخر ما فشل فيه العام الأول. كما تساءل هل صار أكثر ضعفا وتدهورا عما كان عليه منذ عام. تساءل حتى متى تبقيه الحكومة في هذه الينابيع رغم أن مياهها لم تعد عليه بأي فائدة. كان على علم بكل الشكاوى المرة المترددة في أنحاء البلد من أولئك المسئولين عن رعاية جنودنا العائدين. كان على علم بالإجراءات الحكومية المعقدة، والفساد، والبطء في حصول الجنود المصابين على العلاج الذي يحتاجون إليه والذي لا بد أن يمنح لهم بالسرعة نفسها التي أرغموا بها على أن يبدءوا مغامرتهم الخطيرة. كان يعلم أن ثمة ألما مضنيا في قلب كل رجل مصاب تقريبا حيال هذا الأمر. بل كان ثمة ألم مضن في قلبه هو. لقد مضت أسابيع عديدة عبثا. مضت شهور عديدة قبل اتخاذ قرار بشأن ما سيفعل وكيف سيفعل، وأين سيفعل. أشياء كثيرة جدا لم تأخذ حقها من التقدير، وأشياء قليلة جدا أنجزت بكفاءة منذ أعلن السلام.
في اللحظات التي يضطر فيها إلى الاستراحة، كان يظل رافعا عينيه إلى السماء. لم يكن يستطيع أن ينظر إلى السماء دون أن ترتقي أفكاره عاليا جدا، وذلك الصباح كادت أحيانا أن تحاذي قاعدة العرش. أدرك أنه سيضحي بأي شيء في العالم لو أمكن له أن يعود إلى المنزل ويجثو عند ركبتي أمه ويضع رأسه على حجرها، وأن يجرب الشيء الذي لم يجربه بعد ذلك التصرف البسيط المهجور، وهو أن يطلب من الله العون الذي لم يستطع الحصول عليه من البشر.
أخيرا وصل إلى النخيل والورود، والبشملة والبرتقال، والمنحدرات المغطاة بالأعناب حيث بدءوا استصلاح الأرض من أجل توفير غذاء لأولئك المقيمين فوق قمة الجبل. تطلع إلى البساتين المحملة بالزهور بنظرة كاد يغشاها النفور. فقد كان من التعب في غاية. وكان الهواء حلوا إلى حد يثير الغثيان معبقا بعبير نفاذ ومقيم. خطر له متبرما أنه سيسر لو استقرت عيناه على بقعة دون أن يعيده وهج أحمر بلون الدم إلى ذكرى مؤلمة؛ إذ كان يتقد لهيب اللون الأحمر لزهور المحارب الهندي باستمرار حول صخور سفح الجبل، قرب مواقع الزراعة حيث امتدت جذور كل شجرة من الأشجار. وأخيرا صعد الدرب متثاقلا وصعد الدرجات الأمامية، حيث فعل شيئا لم يكن معتادا.
كانت كل الأراضي والشرفات الجانبية متاحة للرجال، لكن لم يكن مسموحا للجنود المعاقين بالاستلقاء على الأرائك الخيزرانية قرب أبواب المدخل الكبير. وتصادف وجود أريكة تحت نافذة عريضة على أحد جانبي المدخل اعتبرها ملائمة كمكان للراحة. ألقى نظرة خاطفة على عدة سيارات لم يتعرف عليها أثناء صعوده الدرجات، ثم اتجه مباشرة إلى الأريكة وتمدد عليها ، حيث استلقى بعض الوقت غير واع بما كان يدور حوله.
अज्ञात पृष्ठ