1 - سيد قراره
2 - المغامرة الكبرى
3 - سيد النحل
4 - في حديقة النحل
5 - الكشافة الصغير
6 - «ماذا أفعل، يا إلهي؟»
7 - سيدة العاصفة
8 - زفاف من نوع جديد
9 - فيتامينات وكشافة
10 - إنها إرادة الخالق
अज्ञात पृष्ठ
11 - عبير روح وزهرة
12 - رؤية ما وراء الحجب
13 - مربي النحل
14 - معجزة بشرية
15 - حصاد العاصفة
16 - طفل الشراكة
17 - الدخيلة
18 - الكشافة الصغير يستعد للحرب
19 - مسئولية الصديق
20 - تمرد الكشافة
अज्ञात पृष्ठ
21 - ثم تأتي رؤية
22 - الكذبة النبيلة
23 - ما زالت المغامرة مستمرة
1 - سيد قراره
2 - المغامرة الكبرى
3 - سيد النحل
4 - في حديقة النحل
5 - الكشافة الصغير
6 - «ماذا أفعل، يا إلهي؟»
7 - سيدة العاصفة
अज्ञात पृष्ठ
8 - زفاف من نوع جديد
9 - فيتامينات وكشافة
10 - إنها إرادة الخالق
11 - عبير روح وزهرة
12 - رؤية ما وراء الحجب
13 - مربي النحل
14 - معجزة بشرية
15 - حصاد العاصفة
16 - طفل الشراكة
17 - الدخيلة
अज्ञात पृष्ठ
18 - الكشافة الصغير يستعد للحرب
19 - مسئولية الصديق
20 - تمرد الكشافة
21 - ثم تأتي رؤية
22 - الكذبة النبيلة
23 - ما زالت المغامرة مستمرة
مربي النحل
مربي النحل
تأليف
جين ستراتون بورتر
अज्ञात पृष्ठ
ترجمة
دينا عادل غراب
مراجعة
محمد يحيى
إلى جين الصغيرة التي أوحت لي بشخصية الكشافة الصغير.
الفصل الأول
سيد قراره
«جيمس لويس ماكفارلين.»
أنزل صاحب هذا الاسم قدميه على الأرض وجلس منتصبا فجأة، محيطا ركبتيه بيديه الكبيرتين حتى يتوازن. كان طوال الساعة الماضية، يصغي بين فترات من النعاس شبه الواعي، إلى الحكم الذي يتلوه رجال في موقع المسئولية على الرجال الذين يملكون زمام مصائرهم في أياديهم، لكن لم يرق له أن تعرض حالته هو عليهم للبت فيها.
لقد جلس في ذلك الصباح طوال ساعة تحت أشعة الشمس أمام مبنى المستشفى الضخم حيث يحاول بلدنا علاج الرجال الذين كانوا بالخارج للمشاركة في الحرب. وأدرك مؤخرا أنه في معركته لاستعادة عافيته يشن حربا خاسرة. إذ لم يستطع التغلب على الجرح الناجم عن إصابته بشظايا في الجزء الأيسر من صدره بالنجاح نفسه الذي حارب به العدو. لذلك عزم على اختبار قوته. فنهض ونزل إلى الطريق ليعرف إلى أين قد تحمله ساقاه على وجه التحديد. لكنه نسي أن يضع في حسبانه أن نزول الجبل أسهل كثيرا من صعوده؛ ومن ثم واصل السير حتى بدأت ركبتاه تخوران ووجد أن طاقته قد استنفدت. فاستراح بعض الوقت ثم استدار عائدا، لكن كانت رحلة الصعود بطيئة الوتيرة، بذل خلالها مجهودا مؤلما؛ مجهودا جعل العرق البارد يسيل منه والنار المتأججة تشتعل في صدره الأيسر، فيما صارت الأربطة المحيطة بكتفيه وحول جسده أدوات لتعذيبه. وظلت شمس كاليفورنيا الحارة مسلطة عليه حتى تقطعت أنفاسه. فاضطر مرارا إلى أن يتوقف ويلتمس مكانا للاستراحة على أي صخرة ناتئة أو رصيف جاف على جانب الجبل. وقد أنهكت عيناه المتعبتان من مشهد الألوان المبهرة الذي امتد محيطا به من كل جانب؛ فهناك اللون الأخضر لأشجار البلوط الحي ونباتات البهشية الزاهية، واللون الأبيض المخالط للزهري لزهور أشجار المانزانيتا المتخذة شكل الجرار، والمخمل المائل إلى اللون الأرجواني لنبات المريمية، والأزرق الأرجواني لزهور المريمية الشوكية بنسيجها الرقيق المتكتل. الأشياء الوحيدة التي رآها كانت رءوس نبات المحارب الهندي المتواترة، وقد لفتت نظره لأنها كانت مثل الجروح على الأرض، في حمرة الدم الحقيقي، في حمرة الدم الذي أغرق العديد من ساحات المعارك، الذي سال في عدة مستشفيات، الذي يراه كل يوم في الضمادات التي تزال من جانبه.
अज्ञात पृष्ठ
لقد رأى دماء كثيرة جدا لدرجة أن رؤية أي شيء يذكره بها أصبح يثير غثيانه؛ لذلك فقد تولى عن الزهور البديعة التي تصبغ جانب الجبل بشغف، وارتفع ببصره إلى زرقة السماء. لكن النظر إلى السماء لم يزد سوى أن جعل المسار الوعر الذي عليه سلوكه أكثر جلاء. هنا خطر له فقرة كان يسمع أباه يقرؤها من منبره في صباح أيام السبت بتفخيم حرف الراء المعهود لدى الاسكتلنديين الذي لم يمحه بقاؤه عمرا في بلدنا: «أرفع عيني إلى الجبال، من حيث يأتي عوني.»
راح يرفع عينيه إلى التلال والجبال لكن لم يأته أي عون. فتساءل إذا ما كان السبب أنه يطيع أوامر رجال آخرين، أم لأنه قد نسي الله. لقد علمه أبوه وأمه في طفولته أن يصلي ويؤمن بأن صلواته ستلبى. لكنه حين سافر لخدمة بلده، توقف عن الصلاة لسبب ما يتعذر تفسيره وركز كل قواه في القتال . فقد ارتكبت فظائع في حق رجال من عرقه ودمه في بداية الحرب دفعت كل الرجال الاسكتلنديي الأصل والميول إلى الجموح بعض الشيء.
لقد شارك في الحرب وهو واحد من أكثر الرجال تهذيبا. لكنه انبرى للمجازفة، التي كان رجال آخرون من بلدنا بأصولهم المختلفة يشعرون بأنها ستحرر العالم من الطغيان، بينما يعتمل في صدره غضب، وشعور يتشاطره كل الرجال من سلالة شعبه وبلدهم. فقد ألم بفرقة معينة من الاسكتلنديين أشياء، لا يمكن لرجل تسري في عروقه قطرة دم اسكتلندي أن ينساها مطلقا وإن أراد. تحت وطأة هذا الشعور، نسي الشاب، الذي كانت أمه دائما ما تشير إليه بحب قائلة: «عزيزي جيمي»، التعاليم والدين الذي ربته عليه، وسافر ليرى كم يستطيع أن يشفي غليله الشخصي من الرجال الذين جرحوا قلب اسكتلندا بأسرها جرحا أعمق مما تستدعي مقتضيات حرب عادية أن تحدثه في قلب أمة.
لقد ذهب للثأر وانتقم أشد الانتقام من أكثر من عدو، ثم حانت الساعة التي دخلت فيها صدره شظية مسننة من الحديد المغطى بالوسخ وسممت دمه. وبعد أسابيع على الحدود، عاد يجرجر قدميه، وهو يحمل الآن جرحين لن يندملا؛ أحدهما في قلبه لا يستطيع الناس رؤيته، والآخر في صدره ظل الأطباء والممرضات يطببونه دون جدوى.
حين حسم قرار عدم إمكانية عودته إلى الخدمة أعيد إلى الوطن. هنا أضيف جرح آخر للجرحين الغائرين بالفعل اللذين كانا يعذبانه. إذ إنه خلال سنوات غيابه الثلاث، قضت الأم الضعيفة الضئيلة نحبها، متأثرة بخوفها وقلقها على ابنها الوحيد، فلم يصمد طويلا أبوه، الذي كان دائما ما يعتمد عليها، ولحق بها. وبيع بيتهما الصغير لسداد نفقات مثواهما الأخير، فلم يبق في هذا العالم بأسره شيء يعود له؛ لا قريب ولا بيت. حتى أصدقاؤه تفرقوا ولم يكن أمامه سوى أن يظل تحت وصاية الحكومة حتى يحين الوقت الذي يعلن فيه بأهليته أن يبدأ حياة لنفسه مجددا.
تقديرا لخدمته الشجاعة، التي دل عليها زوجان من الميداليات وشارة ثبتت فوق الجرح الذي حمله؛ أرسل إلى كاليفورنيا، حيث كان من المأمول أن تأتي الشمس الساطعة، والفاكهة، وهواء المحيط النقي، والصيف الدائم للأرض الطيبة، بالشفاء الذي فشل الأطباء في أن يأتوا به. لقد منح نعيم أفضل مكان يمكن أن يرسل إليه رجل في حالته. المنتجع الجبلي، أروهيد سبرينجز - القابع عاليا فوق جبل تغطيه خضرة كل الأشجار والشجيرات والكروم المحلية، حيث الهواء معبق برائحة الزهور ومفعم بشدو الطيور - كانت الحكومة قد أخذته وجعلته مستشفى كبيرا، ويرجع سبب اتخاذ الموقع في هذه النقطة إلى أن الطبيعة قد أخرجت للسطح جدولا من الماء الساخن لدرجة الغليان، ماء شديد السخونة حتى إنه لا يمكن أن تمد فيها يدا، ماء يغلي آت من مغارة سفلية حيث النيران التي لا تخمد لا تزال تضطرم في قلب الأرض بالغة أقصى درجات التوهج، وتنبثق الينابيع وهي تفوح برائحة الكبريت والعديد من المواد الكيميائية، وبحرارة لا تتغير عاما تلو الآخر. كانت الينابيع تضخ إلى المستشفى، حيث توجه جميع خصائصها الطبية إلى الرجال الذين، مثل جيمي ماكفارلين، يجب علاجهم من جروح عنيدة قبل أن يستطيعوا العودة إلى ديارهم ليقوموا بمهام الرجال في شئون بلدنا.
تدفق العرق على وجنتيه وهو يصعد الجبل بمشقة في ذلك الصباح. وبينما كانت ركبتاه تصطكان ويداه البيضاوان تتشبثان بأي شجرة أو شجيرة يمكن أن يستند إليها، أخذ جيمس ماكفارلين يفكر. كان يفكر سريعا وعميقا. وتساءل، ما دام قضاء عام في ينابيع المياه المعدنية الساخنة هذه لم يعد عليه بأي منفعة على الإطلاق، فهل سيحقق عام آخر ما فشل فيه العام الأول. كما تساءل هل صار أكثر ضعفا وتدهورا عما كان عليه منذ عام. تساءل حتى متى تبقيه الحكومة في هذه الينابيع رغم أن مياهها لم تعد عليه بأي فائدة. كان على علم بكل الشكاوى المرة المترددة في أنحاء البلد من أولئك المسئولين عن رعاية جنودنا العائدين. كان على علم بالإجراءات الحكومية المعقدة، والفساد، والبطء في حصول الجنود المصابين على العلاج الذي يحتاجون إليه والذي لا بد أن يمنح لهم بالسرعة نفسها التي أرغموا بها على أن يبدءوا مغامرتهم الخطيرة. كان يعلم أن ثمة ألما مضنيا في قلب كل رجل مصاب تقريبا حيال هذا الأمر. بل كان ثمة ألم مضن في قلبه هو. لقد مضت أسابيع عديدة عبثا. مضت شهور عديدة قبل اتخاذ قرار بشأن ما سيفعل وكيف سيفعل، وأين سيفعل. أشياء كثيرة جدا لم تأخذ حقها من التقدير، وأشياء قليلة جدا أنجزت بكفاءة منذ أعلن السلام.
في اللحظات التي يضطر فيها إلى الاستراحة، كان يظل رافعا عينيه إلى السماء. لم يكن يستطيع أن ينظر إلى السماء دون أن ترتقي أفكاره عاليا جدا، وذلك الصباح كادت أحيانا أن تحاذي قاعدة العرش. أدرك أنه سيضحي بأي شيء في العالم لو أمكن له أن يعود إلى المنزل ويجثو عند ركبتي أمه ويضع رأسه على حجرها، وأن يجرب الشيء الذي لم يجربه بعد ذلك التصرف البسيط المهجور، وهو أن يطلب من الله العون الذي لم يستطع الحصول عليه من البشر.
أخيرا وصل إلى النخيل والورود، والبشملة والبرتقال، والمنحدرات المغطاة بالأعناب حيث بدءوا استصلاح الأرض من أجل توفير غذاء لأولئك المقيمين فوق قمة الجبل. تطلع إلى البساتين المحملة بالزهور بنظرة كاد يغشاها النفور. فقد كان من التعب في غاية. وكان الهواء حلوا إلى حد يثير الغثيان معبقا بعبير نفاذ ومقيم. خطر له متبرما أنه سيسر لو استقرت عيناه على بقعة دون أن يعيده وهج أحمر بلون الدم إلى ذكرى مؤلمة؛ إذ كان يتقد لهيب اللون الأحمر لزهور المحارب الهندي باستمرار حول صخور سفح الجبل، قرب مواقع الزراعة حيث امتدت جذور كل شجرة من الأشجار. وأخيرا صعد الدرب متثاقلا وصعد الدرجات الأمامية، حيث فعل شيئا لم يكن معتادا.
كانت كل الأراضي والشرفات الجانبية متاحة للرجال، لكن لم يكن مسموحا للجنود المعاقين بالاستلقاء على الأرائك الخيزرانية قرب أبواب المدخل الكبير. وتصادف وجود أريكة تحت نافذة عريضة على أحد جانبي المدخل اعتبرها ملائمة كمكان للراحة. ألقى نظرة خاطفة على عدة سيارات لم يتعرف عليها أثناء صعوده الدرجات، ثم اتجه مباشرة إلى الأريكة وتمدد عليها ، حيث استلقى بعض الوقت غير واع بما كان يدور حوله.
अज्ञात पृष्ठ
وبينما هو يحصل على بعض الراحة، كانت الأصوات القادمة من داخل النافذة مجرد أصوات، وبعد ذلك، حين هدأ قلبه وانحسر الألم الذي في جنبه واسترخت أطرافه المتعبة، أدرك أنه كان يتلى اسم تلو الآخر من قائمة، وأن كل اسم يمثل رجلا تناقش حالته وبناء عليها يقرر مصيره في نهاية المطاف. لكنه لم يدرك أنه مع الانتهاء من الذين تبدأ أسماؤهم بحروف الجيم والكاف واللام سيبدأ حرف الميم على الفور. لقد أقام في هذه المستشفى طويلا جدا؛ حتى أصبح يألف للغاية حجرته، والممرضات، والنظام، والرجال الذين تعرف عليهم، لدرجة أن المكان قد صار بمثابة بيته، البيت الوحيد الذي تبقى له في العالم. كان الكل طيبا معه. فهو لم يجد عيبا في الأطباء ولا الممرضات. لقد بذلوا ما في وسعهم، وبذل هو ما في وسعه؛ لكن ظلت الحقيقة أنه لم يتحسن، حتى إنه قد ثارت مؤخرا شكوك عما إذا كان على الحال نفسها منذ جاء. وعندئذ، بكل ما تسببه ضربة غير متوقعة من تأثير مفاجئ، سمع اسمه يذكر بوضوح، بتلك النبرة الباردة، المجردة التي يتحدث بها رجال أعمال يبرمون صفقة تجارية متطلعين فقط لأكبر فائدة لأكبر عدد. لم يذكر أنه قد سمع اسمه ينطق بتلك النبرات تحديدا قبل ذلك. وقد جعله هذا يشعر كأنه ليس بشرا، وإنما مجرد شيء. ثم أدرك أن الموضوع الجاري مناقشته هو التخلص من ذلك الشيء المحدد. سمع موقع تجنيده، وخدمته في الحرب، ومكافآته، ووصفا لإصاباته وهي تتلى بنبرة رتيبة جعلته يدرك أنها تتلى من سجل ما، ثم تساءل صوت أكثر نشاطا قائلا: «كم مكث ماكفارلين هنا؟»
فجاءته الإجابة: «أكثر من عام بقليل.»
ثم كان السؤال: «هل أفادته الينابيع بأي شيء؟ هل صار أفضل حالا؟»
فكانت الإجابة: «ليس كثيرا. إن جرحه عنيد؛ فهو يأبى الالتئام رغم كل ما نفعله.»
كان العرق الذي تصببه جيمي في معافرته قد جف على جسده، لكنه تدفق مرة أخرى مع السؤال التالي: «هل هو مصاب بمرض السل؟»
فكانت الإجابة: «لا. ليس بعد. لكنه في حالة تجعله عرضة للإصابة بالسل في أي لحظة. فهي بمثابة تربة خصبة تماما لنمو المرض.»
جلس جيمي ماكفارلين قابضا على ركبتيه وهو يلعق شفتيه الجافتين في انتظار سماع القرار. وقد جاء في كلمات قليلة. «أرسلوه إلى كامب كيرني.»
طوال دقيقة ظلت حمرة زهور المحارب الهندي تتوهج أمام عيني الرجل المنصت حتى لم يعد يرى شيئا سوى اللون الأحمر. طوال دقيقة ظل الغضب العارم يعتمل داخله في احتجاج مضطرم. لقد سمعهم يقولون إنه ليس مصابا بالسل، لكنه معرض بشدة للمرض المريع. وها هم يخططون لإرساله إلى مكان كل من فيه إما مصاب بالوباء، أو كان قاب قوسين من الإصابة به حتى إنه أرسل ليصبح عرضة للعدوى به، كما اقترح في حالته. هذا ليس عدلا! هذا ليس إنصافا! لقد تطوع في الجيش مبكرا ومتحمسا. لم يكن ممن استدعوا للتجنيد. وقد حارب بأقصى طاقته. وقبل كل ما واجهه دون شكوى. وتشهد الميداليات التي يرتديها بجسارته. كان سيدخل الحجرة ويخبر أولئك الأطباء برأيه فيهم وفي قرارهم القاسي.
حاول أن ينهض فوجد أنه أوهن من أن يقف على قدميه، ثم سمع الطبيب الذي تلا الأسماء وهو يعرب عن شكوى بالنيابة عنه: «أشعر أنه ليس من العدل مطلقا أن نرسل رجلا حقق إنجازات رائعة مثل ماكفارلين وهو في حالته الضعيفة تلك إلى البؤرة المعروفة بأنها منفى للمصابين بمرض السل.»
أجابه الصوت الآخر: «إذا لم يجعله قضاء عام هنا في حال أفضل، فلماذا نتوقع أن يفعل ذلك عام آخر، كل ما سنحصل عليه هو أنه سيشغل مكان ذي حالة بدنية أفضل كان سيأتي ويتعافى إن تسنت له الفرصة مثل ماكفارلين؟»
अज्ञात पृष्ठ
عند إدراكه للعدالة القاسية في ذلك القول انهار جيمي ماكفارلين على الأريكة، واستلقى على الوسادة، ولم يحسب الوقت الذي مر عليه مستلقيا هناك. كل ما أدركه أن الأصوات ظلت تتصاعد من النافذة وأن الرجال كان يتخذ بشأنهم القرارات، حيث ترسل الحالات الميئوس منها إلى ما بدا له مكان بلا أمل، وأما الذين لديهم فرصة فقد كانوا يمنحون أفضل فرصة للتعافي. وكان ذلك عدلا؛ كان ذلك إنصافا. لكن نظرا إلى كونه اسكتلندي الأصل، ولد مع روح القتال تجري في دمائه، وحب أبدي وطيد للجبال والنجوم والسماء والبحر وأبناء جلدته؛ فقد قرر ألا يصير تابعا لأي رجل أو حكومة بعد الآن. لقد كان وحيدا ومنبوذا. لكنه سيصبح سيد قراره. إن كان لا بد أن يموت، فلماذا يموت في كامب كيرني حيث ينخر في صدر كل من الرجال الهالكين أفظع الأوبئة التي فتكت بالبشرية؟ من دون أن يستغرق وقتا للتأمل الواعي، من دون أي استعداد على الإطلاق، نهض جيمس لويس ماكفارلين وتشبث بحافة النافذة بيد، وبالأخرى استمسك بذراع الأريكة، وتمكن من حمل نفسه على الوقوف. عاد أدراجه هابطا إلى الطريق، وهناك اتجه يمينا، بحيث أصبح يواجه اتجاه الشمال، وبخطوات وئيدة حذرة، بدأ مغامرته الكبرى.
الفصل الثاني
المغامرة الكبرى
قد تكون المغامرة الكبرى لأحد الرجال هي صيد أفراس النهر البيضاء في أفريقيا، ولرجل آخر هي السيطرة على روحه لمدة ساعة. أما لجيمي ماكفارلين، فبعد سنوات من تلقي الأوامر باستمرار من ضباط أعلى رتبة، كان ثمة شيء مثير في أن يتخذ موقفا مستقلا ويقرر لنفسه لأول مرة إذا ما كان سيسعى وراء حظه شمالا أو جنوبا. فلماذا قرر الذهاب شمالا، هو شيء لم يدر له سببا على الإطلاق، لكن ربما كان السبب أن الطريق المؤدي لتلك الوجهة كان ينحدر إلى أسفل، وهو قد وجد أن صعود الجبل أكثر مما يسعه احتماله. لذلك بدأ المسير باتجاه الشمال على الطريق المنحدر. ومن ثم سار ببطء شديد، وظل يتطلع إلى السماء والأشجار، وبدا له أن بساتين البرتقال المزدهرة التي مر بها والليمون والبشملة كان عطرها أهدأ، وأن الهواء قد صار منعشا أكثر. بدأ يتساءل إذا ما كان بإمكانه مطلقا الوصول إلى البحر، وإن كانت قد تهب عليه رائحة ملح قوية في الهواء، وإن كان سيجدها منعشة. التقط عصا من جانب الطريق واستخدمها عكازا ليتكئ عليه. بعد برهة بلغ مفترق طرق وهناك توقف موجها اهتمامه لتفحص كل من الاتجاهات الثلاثة، التي قد يسلك منها واحدا إن وقع عليه اختياره. لقد كان يخوض مغامرة مثيرة بحق!
بينما هو واقف هناك أقبلت سيارة من الشرق، ولما لاحظ السائق الزي الرسمي لجيمي، ووجهه ويديه الهزيلتين، توقف، مثلما يتوقف كل السائقين في تلك الأيام، وهو ما كان جيمي وحده لا يعلمه، نظرا إلى احتجازه في المستشفيات، وسأله إذا كان يبتغي الركوب. كانت السيارة متجهة شمالا، فقال جيمي إنه يسره للغاية أن يركب. وهكذا تصادف أن حملته السيارة بعيدا عن منطقة المستشفى؛ لذا حين لاحظوا غيابه فعلا وأرسلت الممرضات للخارج للبحث عنه، كان هو على بعد مائة ميل متجها شمالا بسرعة ظلت تزيد أكثر فأكثر، ليحرز جيمي تقدما عظيما في مغامرته الكبرى.
راق له الطريق المؤدي إلى الشمال. راق له كثيرا حتى إنه حين أخبره السائق أخيرا أنه سيتجه غربا في مفترق الطرق التالي، حيث لديه أعمال في أحد المدن الكبرى، ارتأى جيمي أنه لما كان من المحتمل لرجل يرتدي الزي الرسمي أن يبحث عنه مسئولو الحكومة فمن الأفضل له أن يبقى في الريف؛ لذلك خرج من السيارة وسار ببطء نحو الشمال.
في استراحة اضطر إليها، بدأ يدرك أن الليل قد اقترب وأنه كان جائعا. لم يكن لديه ولو سنت واحد في جيوبه، وكان الاستلقاء على الأرض في برد ليل كاليفورنيا من الممكن أن يقضي عليه في أسرع وقت. وهنا أدرك أنه من الجائز جدا أن يكون الموت هو المغامرة الكبرى التي يسعى إليها، وأنه بتوليه زمام مصيره وخروجه من المستشفى بعيدا عن المؤن التي كانت توفرها له الحكومة، سوف ينهك نفسه حثيثا حتى يبلغ المرحلة التي تنتهي فيها مشكلاته بأسرع طريقة. ظل بضع دقائق يتساءل ما إن كانت مشكلاته سوف تنتهي أم أنها قد بدأت للتو؛ إذ إن الاسكتلنديين لديهم طريقة في الوعظ بشأن الجحيم والنار وعذاب الآخرة؛ ونظرا إلى أنه شارك في آخر الحروب العالمية، فقد كان جيمي ماكفارلين أكثر علما بالجحيم من أي قس اسكتلندي وصفه من منبره، ونظرا إلى أنه ظل يحمل جرحا مفتوحا في صدره طوال عامين، فلم يكن بإمكان أحد أن يحدثه عن النار، فحتى الكبريت الذي في الينابيع لم ينفع معه.
هكذا مضى في عتمة المساء حتى لم يعد قادرا على الاستمرار؛ فجلس على جلمود مريح كبير دافئ على جانب الطريق، وجلس القرفصاء، وانتظر ليرى ما سيحدث. فحدث الشيء نفسه الذي كان يجدر به أن يتوقعه، لو كان يعيش قبل ذلك بين رجال أصحاء. إذ جاءت سيارة أخرى، ولما لاحظ مالكها شحوبه وزيه الرسمي، ولما كان لديه مقعد شاغر؛ فقد توقف، وسئل جيمي مرة أخرى إن كان يريد الركوب. «رائع!» قال جيمي لنفسه. «ربما لن يصبح الأمر في غاية السوء رغم كل شيء.»
نظر إلى السيارة التي كانت محملة حتى الدواسات الجانبية بمعدات التخييم. استطاع أن يرى المفارش الملفوفة، واستطاع أن يشم رائحة الطعام. كان الرجل ذا وجه سمح، والفتاة الجالسة على المقعد بجانبه صغيرة وجميلة. أما السيدة التي دعي لمشاركتها المقعد الخلفي فقد دل مظهرها على أنها الأم. كان وجهها المستدير قويا وجذابا، وتحت تأثيره، اضطر جيمي إلى الكذب. إذ قال إنه قد غادر المستشفى لتوه حيث أقام طوال عام. وأعطاهم الانطباع بأن الأطباء قد سمحوا له بالخروج. لم يقل إنه هو من أعطى نفسه حق الخروج، وإنه كان هاربا. لكنه قال إنه يبحث عن عمل وإنه سيسره كثيرا الركوب معهم حتى يصل إلى موقع يقدم شيئا مبشرا للرجال الذين سرحوا مؤخرا من الجيش وأعياهم المرض.
قال السائق إنه يدعى ويليام برونسون من ولاية آيوا، وكان هو وزوجته وابنته يتجولون في كاليفورنيا بسيارتهم أثناء الشتاء، لكنهم الآن متجهون إلى الجزء الشمالي من الولاية لزيارة أصدقاء حتى يحين وقت العودة إلى الديار؛ إذ لا بد أن يصلوا إلى ألبيون في الوقت المناسب لزراعة المحاصيل.
अज्ञात पृष्ठ
وخوفا من أن يذيع أمره وهو ما زال في بداية مغامرته الكبرى، فقد أغفل جيمي ذكر اسمه، لكنه قال إنه يسعده للغاية الاستمرار في الركوب معهم ما داموا ماضين في وجهته.
كان مسرورا بالركوب، لكن ليس بقدر سعادته حين توقفت السيارة ونصب مخيم عند مدخل أحد الأودية بجوار الطريق. تمنى ألا يلاحظ أحد أنه يترنح في سيره أو كم أخذ يلهث حين حاول المساعدة في إنزال حمولة السيارة. كان عليه توخي الحذر لأن الشيء الهام الذي جعله من الامتنان في غاية قد حدث. ومن ثم نظر فقط نحو التلال. ولم يكن قد خطر له سوى أن يطلب العون من الله. وتساءل نوعا ما إن كان ربما من المحتمل أن الله ينظر إليه في تلك اللحظة، إن كان قد رأى حاجته، إن كان قد أرسل هؤلاء الناس الطيبين المؤنسين الذين قدموا له غداء، ومرتبة مخيم لقضاء الليل، وتوصيلة في رحلته خلال اليوم التالي. فقد كان أمرا جللا. وهكذا تظاهر بقدر ما استطاع بأنه رجل معافى وبكامل صحته وهو يجمع الحطب لإشعال النار ليلا، ويبحث عن مكان ليفرشوا فيه مراتب المخيم ويلتمسوا الراحة. وقد راوده شعور أنه لا يستحق ذلك الشيء الذي يحدث له. لقد راح يتساءل إن كان سيضطر إلى الزحف بين الشجيرات مثل كلب ضرب بالسوط حتى يجد ملاذا أكيدا في برودة الليل وإن كان مؤلما. لكن ما يحدث له الآن ليس بالضبط ما قد توقعه. فها هو سيحصل على غداء من طعام ساخن ودثار. ومراعاة لوجهه الشاحب ويديه المرتعشتين؛ سمح له باختيار موقع قريب من نار المخيم، ومن ثم لم يكن هناك سبب يجعله أسوأ حالا في مغامرة اليوم التالي.
كانت آن برونسون شخصية مرحة. وهي ممن يأنس بصحبتها الكل. وقد راحت تنادي جيمي «أيها السيد الجندي»، وحين رأت كم كان شديد الشحوب ومضطرب الخطوات، أشفقت عليه وأعطته مقعدا وجعلته يقشر البطاطا، بينما تركت ابنتها وزوجها يتوليان مهام إتمام المخيم الأشد مشقة.
حين مضى في سبيله هابطا الدرب من المستشفى إلى الطريق، خطر لجيمي ماكفارلين أن خروج رجل في حالته من المأوى الوحيد المكفول له على وجه الأرض من دون قرش في جيوبه كان مغامرة كبرى. وبينما هو جالس يقشر البطاطا من أجل آن برونسون في الوقت الذي راحت فيه ابنتها وزوجها يريانه كل الحيل التي يمكن بها إخفاء أشياء داخل وحول جسم سيارة تتسع فقط لخمسة ركاب - من الخزانة الصغيرة المرتبة عند الدواسات الجانبية من أجل الصحون والطعام، والثلاجة الصغيرة، وموقد الغاز ذي الصفيحتين من أجل تسخين القهوة وطهي اللحم والبطاطا، وإمكانية وضع الأشياء في حيز صغير لدرجة مذهلة - خطر على باله أن مغامرته ستكون مؤنسة وعادية، وأن البلد مليء بالناس الطيبين الذين لم ينسوا أبناءهم الجنود. كان هناك أمل ضئيل في أن يجد عملا خفيفا يقوى على القيام به، وفي أن يحدث شيء ما أفضل على الأقل من الانعزال إلى الأبد في مدينة الطاعون الأبيض. وهكذا حاول توخي الحذر بشدة وقشر البطاطا تقشيرا رفيعا وتفحصها كما علمته أمه المدبرة حين كان يساعدها في المطبخ صغيرا. أثناء عمله لم يخطر له احتمال أنه مع كل دقيقة كانت ثمة مغامرة تقترب أكثر فأكثر. لقد اتخذ احتياطه بالجلوس خلف السيارة حتى لا يراه أي مار، وبعد الانتهاء من الغداء وإعداد الأفرشة، ارتفع بعينيه المدربتين على الاستكشاف فرأى ضوءا وامضا بعيدا في الأفق، لكنه كان يهبط ببطء، فقال إنه سوف يذهب في تمشية قصيرة.
ومن ثم ترك عائلة برونسون وسلك طريقه عائدا على مهل وفي هدوء، متوغلا في الوادي بين أجمة أشجار البلوط الأخضر والحي، باحثا عن بقعة يمكنه الخلود فيها للراحة ولو مدة قصيرة، ومراقبة ذلك الضوء الغامض، والانفراد بنفسه ومحاولة التخطيط لليوم التالي. وقد أدرك أن هناك شيئا ضروريا يجب فعله من أجل نجاح عملية هروبه، هو التخلص من زيه الرسمي بأسرع ما يمكن. فإذا لاحظ المسئولون غيابه من المستشفى بالفعل، وإذا وزعوا استدعاء عاما، فسوف يصبح زيه هو الشيء الذي سيفصح عن هويته سريعا. سوف يخضع كل رجل يرتدي زيا رسميا لنظرات متفحصة، وسوف تلاحقه محطات إذاعية واتصالات هاتفية وصحف. لا بد أن يفكر فيما يمكنه فعله وكيف عساه أن يفعله.
وهكذا ارتقى جانب الوادي حتى غاب عنه ضوء المخيم الواقع وراءه والأصوات الآتية منه، وحين وجد نفسه متعبا، جلس في ضوء القمر الأبيض وتطلع ببصره باحثا عن الضوء لكنه اختفى. كان من الحماقة أن يجزع. فعلى ما يبدو كان ذلك أحد الأشخاص ضل السبيل وقد وجدها الآن. لم يدرك أن الصخرة التي جلس عليها كانت متداخلة جدا مع الفروع المتدلية لشجرة بلوط حي مما جعله غير ظاهر. لم يدرك ذلك حتى وجد نفسه، بعد هبوب نسمة خفيفة واحدة على الجبل القائم خلفه، وجها لوجه مع مغامرة عظيمة وبالخطورة التي ترضيه. لم يدرك كم أمضى جالسا يفكر فيما قد يسعه فعله. ما نبهه كان شيئا ما، راح يهبط الأخدود على يمينه، وحين أدام النظر في ذلك الاتجاه، رأى خيال رجل ضخم يخرج من بين الشجيرات ويهم بشق طريقه في حذر، محدثا أقل صوت ممكن، متجها إليه مباشرة.
لما صار الرجل واضحا للعيان ودخل في ضوء القمر الساطع استطاع جيمي رؤية أنه كان طويلا، وعاري الرأس، يرتدي قميصا من دون معطف، وينتعل حذاء برقبة ويرتدي سروالا حتى الركبة. وقد أحاط بخصره حزام سميك مليء بطلقات الخرطوش، وحين استدار ليلقي نظرة على المسار الذي قد قطعه وليصغي السمع، استطاع جيمي ماكفارلين أن يرى المسدس الكبير المعلق على الفخذ اليمنى في متناول يد الرجل. هنا انخفض صوت أنفاسه جدا، وبالهدوء نفسه الذي يسود المناطق المحرمة ظل يتسلل للخلف بين الفروع المتدلية.
السبب الذي يجعل من مغامرة كبرى مغامرة من الأساس هو أن الأشياء التي تحدث بسيطة للغاية وطبيعية للغاية. أما ما يجعلها كبرى فهو مجرد أن الشخص لم يتوقعها، وليس لأنها من الأشياء التي من الممكن أن يتوقعها المرء وهو في كامل وعيه. ظن جيمي أن نزول رجل ضخم بمسدس كبير متجها نحوه قد يشكل مغامرة نوعا ما. وتطور الاحتمال إلى احتمالات كثيرة حين أدرك جيمي بأذنه، وهو الذي له باع طويل في الاستطلاع والزحف على بطنه بين خطوط إطلاق النار، أن ثمة شيئا آخر حيا يتحرك إلى أسفل الجبل على يساره، شيء ينزلق، متوخيا أقصى حذره، ومتجها نحوه ببطء وثقة.
بدت المغامرة خطيرة خطورة تليق بأكثر أفكار جيمي جموحا عن المغامرات حين باعد بين الشجيرات ببطء رجل ثان، ليس بنفس ضخامة الرجل الأول لكنه ضخم أيضا، وقد بدت هيئته أكثر قتامة نظرا إلى أنه يرتدي معطفا وقبعة، وهو يحمل مسدسا قبيحا في يده اليمنى، وخطا نحو الوادي من جهة اليسار قليلا.
حينئذ جلس جيمي فاغرا فاه في حيرة أثناء لقاء هذين الرجلين بناء على إشارة الضوء التي قد رآها، حيث أخبر الرجل الضخم الرجل الآخر أنه قد نزل نحو الطريق ليرى ما وراء الدخان والنار، وأن هناك مجموعة من السائحين، مجرد رجل ضئيل الحجم يستطيعان إلحاق الأذى به لكونه غير مسلح، ويستطيع أي منهما تولي أمره بيد واحدة. بدا في نهاية المطاف أنه من المؤكد وجود بضع مئات من الدولارات في مكان ما مع الرجل، أو إحدى المرأتين، أو في السيارة.
अज्ञात पृष्ठ
اعتدل الرجل الثاني وقال على مهل: «رجل وامرأتان. هل المرأتان صغيرتان وحسناوان؟»
اندفع كل دم جيمس ماكفارلين إلى رأسه، ثم عاد إلى يديه وقدميه، حيث المكان الأمثل لوجود الدم أثناء العراك. وإذ به لم يعد جنديا مريضا يتكل على عطف الأغراب العابرين. كانت معدته قد تقوتت بالبطاطس واللحم والقهوة والخبز الذي قاسمته إياها آن برونسون الباسمة. كما قد شرب المياه التي أتته بها سوزان الصغيرة المرحة، وغسل وجهه المنهك بها. لم يكن لديه أدنى شك أن النقود التي ستسدد بها نفقات الرحلة كانت في جيب أحد أفراد المجموعة. لقد اكتسبوها بالعمل الشاق في مزرعة. وقد خرجوا في نزهة ترفيهية وهذا يحق لهم، وقد حظوا بوقت ممتع حتى الآن، لكن إن كانوا سيجردون من مالهم، وإن كان ويليام برونسون سوف يضرب حتى يفقد الوعي أو يقتل، وإن كانت المرأتان اللتان عطفتا على جيمي ستتركان تحت رحمة هذين الشخصين الواقفين في الوادي أمام عينيه، فما زال في العالم شيء عظيم الشأن ليفعله، أو حتى يبذل ما تبقى له من عمره محاولا القيام به.
ومن ثم، مثل ثعبان فوق الأحجار، استجمع قواه ومد يده متلمسا قطعة كبيرة من صخرة سائبة، وحين حانت اللحظة الحاسمة عندما اقترب الرجل الضخم من الأصغر حجما ليسمع وصفه لنساء المخيم، عندئذ بهدوء، وقد تستر بفرع البلوط، فعل جيمي ماكفارلين شيئين في الوقت نفسه. مد يده اليمنى إلى المسدس الذي في الجراب على ظهر الرجل الضخم، وبيده اليسرى هشم الصخرة المثلمة مباشرة في وجه الرجل الذي كان لعابه يسيل من وصف فتاة صغيرة رقيقة. حين استدار الرجل الضخم وجد مسدسه وقد أشهر في وجهه، ولم يكن أمامه سوى التراجع رافعا يديه في الهواء كما أمر، بينما نزل جيمي ماكفارلين من فوق الصخرة، وقد شعر بأنه الأطول قامة والأضخم بنيانا، وخلص السلاح من أصابع المجرم الذي راح ينزف وكاد يفقد وعيه. وبعد أن استحوذ على السلاحين، ابتعد جيمي بنفسه عن الرجلين مسافة كافية من أجل سلامته.
ثم قال للرجل الأضخم جثة: «ارم لي حزام الخرطوش وحذاءك وسروالك.» وبخصوص الرجل الأصغر قال له: «اخلع عنه هذا المعطف وارمه لي، وقبعته أيضا.» حين صارت هذه الملابس بحوزته، ظل يتراجع مبتعدا أكثر، ثم وضع أحد السلاحين على مقربة شديدة منه، وبدل الآخر من يده اليمنى إلى يسراه، وهكذا تمكن من خلع زيه الرسمي كجندي في جيش الولايات المتحدة. ونزع عنه الحذاء ذا الرقبة والسروال والمعطف، ولم يحتفظ سوى بصفيحته المعدنية التعريفية وميدالية الشجاعة، ثم ارتدى الأشياء التي جمعها.
ثم أزاح الأشياء التي كان سيتركها بقدمه مجمعا إياها، وتراجع ومعه الأسلحة وحزام الخرطوش بحوزته هابطا نحو الوادي حتى صارت بينه وبين المجرمين مسافة كافية ليجرؤ على أن يوليهما ظهره ويمضي في سبيله بأسرع ما يمكن للرجوع إلى المخيم.
في عتمة ظل أحد الفروع، أيقظ ويليام برونسون بأقصى ما استطاع من الهدوء وشرح له لماذا غير ملبسه، ودس في يد مضيفه أحد السلاحين اللذين كان يحملهما. وخشية أن يكون هناك شركاء ربما يتبعون المجرمين، فض المخيم على عجل، وكوم كل شيء في السيارة، وسرعان ما ابتعدوا أميالا عن الرجلين اللذين ينهبان من دون تمييز أموال الآخرين وسعادتهم.
حين ابتعدت السيارة بحملها، استلقى جيمي ماكفارلين وأسند رأسه إلى دعائم غطاء السيارة وضحك ضحكة واهنة.
وقال لآل برونسون: «ليست تدريبات الجيش بالغة السوء، على أي حال. فإنني أشك حقا أنني كنت سأتمكن من الاختباء أو أستطيع سلب أحد الرجال سلاحه وتحطيم وجه الآخر في آن واحد، لو لم أكن جنديا قط. وبالنسبة إلى أخذ ملابسهم، فإنني أعلم أن حكومتنا لا تريد أن يستخدم جنودنا الذين سرحوا من الجيش ملابسهم الرسمية لمزيد من الوقت؛ لذا فمن المستحسن أن أتخلص من الزي الرسمي منذ اليوم الأول الذي أعود فيه مواطنا أمريكيا عاديا.»
إن ما قد يدور بخلد ويليام برونسون وزوجته وابنته بشأن هذا الأمر وهم في أمان في مزرعة داخل ولاية آيوا، حيث هناك متسع من الوقت للتفكير، هو أنه أمر عادي. لكن ما خطر ببالهم وهم يهربون على طريق كاليفورنيا مع سلاحين في سيارتهم، وخلفهم اثنان من المجرمين الحانقين اللذين قد يلحقان بهم في سيارة أسرع في أي لحظة، بصحبة مجرم ثالث ربما، فقد كان مسألة مختلفة تماما. جلست سوزي برونسون في المقعد الأمامي وهي تحمل المسدس الذي أعطي لأبيها ليكون في متناول يده. وجلست السيدة برونسون في المقعد الخلفي بعينين متسعتين وقلب ملؤه الارتياع. داس ويليام برونسون على دواسة الوقود وانعطف مع كل مفترق طرق قابله. لم يأبه البتة إلى أين سيذهب. فقد كان كل ما يريده هو الابتعاد عن المكان الذي كان فيه. انتابه شعور أن رؤية أضواء أي بلدة صغيرة في كاليفورنيا ستبدو له غاية المراد في تلك اللحظة.
أما جيمي ماكفارلين، فكان قد استمتع بغدائه، وحصل على ملابس لا تدل على أنه الرجل الذي اختفى من مستشفى آروهيد؛ كان يعلم أين يتوقع أن يحصل على فطوره، واعتبر علاقته منتهية بعالم المستشفيات، وما دام استطاع القيام بهذه المغامرة في أول يوم من أيام حريته، فقد كان الأمل كبيرا في أن يظل على الأقل قادرا على الاحتفاظ ببأسه في اليوم التالي. وهكذا، في ظل ما اعتراه من إنهاك تام، بدأ رأسه يسقط بطيئا على صدره واستغرق في النوم. ظلت السيدة برونسون، التي اعتراها الشك إزاء مسألة الملابس، تتفحصه بتمعن بقدر ما استطاعت في ضوء الليل. وقد بدا تماما مثل أي أمريكي محترم ذي أصول اسكتلندية، أعياه المرض. وأخيرا همست لابنتها قائلة: «سوزي، هل تستطيعين البحث عن وسادة لهذا الفتى المسكين؟ فإنه كما ترين كان معتلا للغاية وقد بلغ منه الإنهاك مبلغه.»
अज्ञात पृष्ठ
تمكنت سوزي من إحضار وسادة من طرف مرتبة المخيم الموضوعة على الدواسة الجانبية، فوضعتها السيدة برونسون على كتفها وعلى الجزء الخلفي من السيارة، وشدت رأس جيمي عليها، بينما جثت سوزي على ركبتيها في المقعد الأمامي، وشدت ملاءة على كتفي جيمي ماكفارلين، ودموع الامتنان لا تزال تبلل وجهها الغض، وهي تقول: «أعتقد، يا أماه، مما حكاه لأبي، أننا نجونا بأعجوبة، وأعتقد أنه من الأفضل أن نشحن السيارة ونستقل القطار، لنتجه شمالا بأسرع الطرق وأكثرها أمنا.»
أجابتها الأم برونسون، التي كانت أقوى شكيمة: «أوه، لا أظن ذلك. إنما سنقترب أكثر من البلدات عند حلول الليل. وسنتوقف عن النوم على جانب الطريق. سنحتفظ بالسلاح الذي حصل عليه أبوك ونحصل له على بعض طلقات الخرطوش من أول بلدة نتوقف فيها. أعتقد أن بإمكاننا أن ننجو وننتهي من رحلتنا.»
الفصل الثالث
سيد النحل
قال ويليام برونسون متسائلا وهو ينظر من فوق كتفه في الساعات الباردة، الساكنة بين الثالثة والرابعة من صباح اليوم التالي: «هل تعتقدين أننا قد تخلصنا منهما، يا عزيزتي؟» «هل تعلم كم ميلا قطعنا؟» سألته زوجته، لكن ويليام قال إنه لا يدري. فقد نسي أن يلقي نظرة على عداد السرعة حين توقفوا لإقامة المخيم، لكنه متأكد من أنه دار مع مائة منعطف وانحرف مع كل مفترقات الطرق التي قابلها، وبدا ممكنا أن تحتوي البلدة الصغيرة التي كانوا سيدخلونها على مكان يجدون فيه فراشا نظيفا وينعمون ببضع ساعات من الراحة. وبينما هم يسيرون في الشارع الرئيسي رأوا باب فندق مفتوحا وأنواره مضاءة، ومن ثم قرروا النزول فيه كي ينعموا بقسط من الراحة، ثم يتحمموا ويفطروا، وبعد ذلك يتشاوروا ويقرروا ما سيفعلونه.
حين هموا بمغادرة السيارة، وجدوا ضيفهم عابر السبيل يغط في نوم عميق حتى إنه عز عليهم أن يوقظوه، فأوصدوا السيارة، وبسطوا عليه دثارا آخر وتركوه يحظى برفاهية المقعد الخلفي بالكامل. ومن ثم حين بدأت الحياة تدب في شوارع البلدة، استيقظ جيمس ماكفارلين يغلبه شعور مرتبك بأنه قد ضل. لم يدر ماذا حدث لعائلة برونسون أو أين كان، لكنه سريعا ما عرف، بقراءة لافتات الشوارع من حوله، وأدرك عدم إمكان حدوث شيء لعائلة برونسون في بلدة بها عدة آلاف من السكان؛ ومن ثم كان شاغله الأول الفطور. لقد تمنى في الليلة السابقة أن يظل مع عائلة برونسون، ربما في الموقع الذي كانوا يخيمون فيه قبل أن تبدأ أحداث اليوم. أما الآن، فمن الواضح أن خططهم قد تغيرت. من المحتمل أن يخرجوا من الفندق الذي تقف السيارة أمامه، وقد أنعشهم النوم والاستحمام والطعام. رأى أنه قد استمتع بنوم مريح، وأن بإمكانه تأجيل الاغتسال، لكن كان هناك حاجة ملحة إلى الطعام في وهدة معدته. لم يكن تواقا لاختيار شيء على وجه التحديد. فهو جائع جوعا شديدا حتى لقد شعر أن بإمكانه التهام أي شيء تقريبا، وقد انبعثت روائح فواكه ناضجة من المطاعم، ومن مبنى الفندق، والمقاهي والأكشاك حوله فأثارت شهيته. بعد ذلك، هاجمت رائحة القهوة والطعام المخبوز أنفه، فبدأ يفكر كيف يستطيع جعل فطوره حقيقة ملموسة.
خطر له أن يخرج من السيارة ويتمشى قليلا على الرصيف ليرى إن كان بإمكانه تنشيط دورته الدموية قليلا. وجد نفسه يتشمم رائحة اللحم المشوي والبطاطا المقلية والخبز المحمص والقهوة واللحم المقدد وحلوى الوافل في مكان ما قريب، وبدافع العادة وحدها، إذ كان يعلم أنه لا يوجد بنس واحد في جيوبه، أدخل يديه حيث المكان الذي تقع فيه جيوب الذكور عادة ووقف في دهشة مذهولا؛ لأنه عاد بيده إلى الضوء وفيها تشكيلة كبيرة من العملات المعدنية؛ فئة الخمسة والعشرة سنتات، وربع دولار أو ربعين، وقطعة من فئة الخمسين سنتا. انفرج فاه بطيئا واتسعت عيناه، ودون أن يعرف السبب البتة لما قام به، نظر أعلى صف المباني القائمة على سلسلة الجبال بعيدا في أنحاء سماء كاليفورنيا الخالية من الغيوم داكنة الزرقة وقال، بتأدب شديد: «أحمدك، يا رب.»
لم يكن يدري كم مضى منذ قال بخشوع: «أحمدك يا رب.» ظل يعتقد أنه لم يحدث له خلال السنوات القليلة الماضية أشياء كثيرة يشكر عليها الله، لم يشكره على الأقل منذ أخذت النار تتقد في صدره والضعف يغير على أعضائه ويصيب يديه الكبيرتين القويتين بالرجفة. لم يتوقف ليتفكر أن الله قد لا يرضيه ارتداؤه سروال رجل آخر، لكن، في نهاية الأمر، شعر جيمي أنه بحاجة إلى السروال؛ كان في أشد الحاجة إليه، وقد تخلى عن سرواله، الذي كان أفضل بكثير وأنظف بمراحل، مقابل هذا السروال الذي حصل عليه، الذي كان مجرد النظر إليه يملأ روحه ذات الذوق الرفيع نفورا. تصور أنه لو كان في موقف يسمح له برؤية هذا السروال قبل الحصول عليه من المجرم لجازف بارتداء زيه الرسمي يوما آخر.
نظرا إلى أنه لم يكن لديه أي فكرة متى قد ترجع عائلة برونسون إلى سيارتهم، ونظرا إلى أن جوعه يزداد منذ صار لديه نقود في يديه ولم يعد بحاجة إلى إيهام نفسه بأنه ليس جائعا، فقد رفع منكبيه ونظر حوله ليرى إن كان بإمكان أنفه مرهف الحساسية تعيين المكان الذي انبعثت منه أطيب رائحة من بين الأماكن المحيطة التي يطهى فيها الطعام. أعاده ذلك إلى الفكة التي يحملها في راحة يده. فرد يده اليمنى أمام مجال رؤيته وعلى مهل راح يباعد بين العملات بسبابته اليسرى. كان في غاية الفرح بما وجده لدرجة أنه كاد أن يصيح مهللا مثل صبي صغير. كان مجموع نصف الدولار والأرباع يساوي دولارا؛ علاوة على العملات فئات الخمسة والعشرة سنتات وبعض البنسات التي بلغ مجموعها سبعة وثمانين سنتا.
رأى أنه بالتنظيم الرشيد، بالاقتصار على القهوة مع القليل من الخبز المحمص واللحم المقدد ليقيم أوده، لن يصبح في احتياج إلى أحد ليوم آخر على الأقل. وحيث إنه قد حمد الله لمجرد شعوره بالفكة القليلة في يده، فقد خطر لجيمي، حتى أثناء شعوره بالجوع وحاجته إلى البقاء على مقربة من السيارة، لعله يركبها لنحو أبعد إن أمكن، أنه من المستحسن أن يعرب عن امتنانه ثانية. فنظر إلى السماء مرة أخرى، وقال مشددا هذه المرة على حرف الراء، بلكنة ربما ورثها من لسان أحد جدوده من أسرة أبيه أو أمه، بصوت مدو على رصيف تلك البلدة في كاليفورنيا: «هذا كرم بالغ منك، يا رب.» وحين التقطت أذناه أنه يتكلم مثل الاسكتلنديين أبرقتا إلى دماغه تصرفه الغريب، فضحك جيمي مقهقها، وهو الذي كان يشعر قبل بضع دقائق بحزن لا مراء فيه، واستدار، واتجه عبر الشارع نحو أقوى رائحة للحم المقدد والقهوة استطاع تحديدها.
अज्ञात पृष्ठ
أثناء جلوسه على مقعد مرتفع واضعا قدميه على قضيب قبالة منضدة، صارت الملابس التي استعارها أكثر التصاقا بجسمه، فأدرك أن لديه جيبا خلفيا في سرواله يحتوي على شيء أحس من ملمسه أنه قد يكون عدة أشياء؛ لكن في المحاولة الأولى استقر تخمين جيمي على أنه محفظة نقود. ثم خطر له أنه قد يكون من المستحسن، ما دام جيب واحد قد أثمر عن قوت يوم على الأقل، أن يفتش في الجيوب كلها. ومن ثم بدأ بجيب الصدر الخارجي في المعطف، فوجد فيه سيجارين من النوع الرخيص. وفي الجيوب الأخرى بعض الخيوط وبضعة أزرار ومنديل متسخ، والمسدس الكبير وحفنة من طلقات الخرطوش. ثم بحث في الجيوب الداخلية ووجد خطابين، قرر الانتباه إليهما فيما بعد. ثم وضع يده في الجيب الأيسر لسرواله وأخرجها خاوية. وبعد ذلك، ولينتهي من الأمر، مد يده إلى الجيب الخلفي وأخرج محفظة النقود. فوجدها محفظة نقود فعلا، وتصادف أنها تحتوي على بعض النقود الورقية، وما لبث أن داهم الحذر الاسكتلندي ذهن جيمي. حيث سمع كثيرا عن مجرمين ونشالين خفيفي اليد واستيلائهم على أملاك من يجاورهم من دون علمهم أو موافقتهم. وبمجرد أن علم بوجود ورقتين نقديتين أو ثلاث بفئات قد تكون معقولة، أغلق المحفظة ودسها ثانية في جيبه، ثم مال بمرفقيه على المنضدة وراح في تفكير عميق وسريع.
إنه ليس لصا. ولم يكن كذلك قط. لكنه في وسط مغامرة كبرى. تزداد أبعادها في كل لحظة. وقد تخيل أنه لو كانت أمه المسكينة، وهي في السماء قرب العرش، تنظر إليه وتصلي بكل طاقتها من أجل سلامته وفلاحه في مسعاه، ولو أن الله يتقبل منها ويستجيب لصلواتها بكل الحب والاهتمام، ما كان جيمي ليوفق أكثر من ذلك حتى الآن. لم يمض سوى نصف يوم، فقط ليلة واحدة، وبفضل ما حظي به من سيارة - أو سيارتين، على وجه الدقة - صار على بعد أكثر من مائتي ميل من حيث بدأ، وحيث إن ذينك المائتي ميل يؤديان إلى الشمال، والغرب؛ فلا بد أنه اقترب من البحر بدرجة كبيرة. لم يعلم جيمي السبب المحدد، الذي جعل كيانه بأكمله يصخب مطالبا بالبحر منذ اللحظة التي وقف فيها على قدميه وبدأ رحلته. ولم يضع وقتا في استجلاء نفسه أو محاولة الوقوف على أسباب رغبته في المياه، عوالم من المياه، مياه نقية، بلون أخضر مائل إلى الزرقة وأزرق سماوي وأزرق نيلي، مياه مالحة، وزبد، مساحات شاسعة من الزبد الأشبه بالثلج. أراد أن يرى أمواجا، أمواجا هائلة، تتلاطم على الشاطئ، وعندئذ استحوذ عليه ذلك الشعور الساذج، ربما لأنه لم يستحم هذا الصباح، بأنه يريد الخوض في تلك المياه. كما أراد الاستلقاء على الرمال والتشبع من الشمس والاستغراق في النوم، ثم العودة إلى مياه البحر مجددا. قد لا تكون المياه المغلية القادمة من ينبوع في باطن الأرض هي ما يلزم لعلاج حالته الخاصة. قد يكون الماء البارد، الماء المالح، ماء البحر هو الذي سيحدث الأثر المطلوب.
كان يفكر باستغراق شديد في احتمال أن البحر قد يفعل له شيئا لم تفعله الينابيع حتى إنه كاد ينسى روائح الطعام حوله. كان بإمكانه النسيان، ما دام لن يصبح مجبورا على الزهد. خلال دقيقة واحدة فقط، سيحصل على كوب قهوة، عليها طبقة كثيفة، من القشدة الغنية، وخبز محمص هش ولحم مقدد من النوع الجيد. فيما يخص النقود التي في جيبه؛ فهو لم يعلم على وجه التحديد ما الذي يدين به الرجل، الذي يرتدي هو سرواله الآن، للمجتمع عامة، لكنه أدرك من الواقعة التي رآه منخرطا فيها، ومن حديثه وألفته للموقف، أن ذلك الرجل قد يكون مدينا للمجتمع بدين كبير جدا. راود جيمي شعور بأنه، ما دام استحوذ على سلاحين وأثنى الهمجيين كليهما عما سمعهما يقولانه جهارا بلغة واضحة من نيتهما إلحاق الأذى برجل بدا واضحا أنه شديد الاحترام، واستحق عن جدارة، من خلال سنوات طويلة من الاقتصاد والعمل الشاق، الإجازة التي كان ينعم بها؛ إذن يحق له الحصول على محتويات جيوبهما. أما بالنسبة إلى الفتاة الصغيرة النشيطة وأمها الرصينة واللطيفة على حد سواء، فقد اجتاح كيان جيمي (لدى تذكر ما كان سيحدث لهما) غثيان مفاجئ، ودون أن يعبأ بمن قد يراه، أخرج المحفظة من جيبه الخلفي وفتحها على اتساعها وأفرغها، فوجد في أصابعه المذهولة تسعة وأربعين دولارا بالتمام والكمال، وبأوراق من فئة الدولار والخمسة دولارات والعشرة دولارات. كان هذه المرة مشدوها فعلا، ولم يكن سقف المطعم مشجعا مطلقا، فإن كان قد نظر لأعلى حقا، حتى ولو لا إراديا، إلا أنه نسي الإعراب عن امتنانه. في الحال اتخذ قرارا جريئا وملحا؛ أنه بعد أن يأكل الطعام الذي طلبه، سوف يذهب للاستحمام، وسوف يحصل على ملابس داخلية نظيفة وجديدة، وسيحصل على سروال ومعطف على مقاسه، ولا يملآنه نفورا، وسوف يحصل على قبعة يمكن أن يبدو فيها على الأقل جذابا بقدر الإمكان.
لم يعر الجانب الأخلاقي للمسألة اهتماما كبيرا. فقد أحبط الهجوم على المخيم، وهرب من رجلين بأسلحتهما. لقد كان مفيدا فائدة كبيرة لويليام برونسون وزوجته وابنته؛ فلا بد أن يرحبوا بحصوله على التسعة والأربعين دولارا كمكافأة له، وقد شعر من أعماق روحه والوجع الدائم الناجم عن الجرح في يسار صدره أن الله سيغفر له شراء ملابس جديدة ونظيفة. ما الذي كان قد قاله الطبيب؟ أن جسده قد أصبح أفضل بيئة ممكنة لنمو الجراثيم، أليس كذلك؟ ومن ثم فإن نظرة واحدة على ساقي السروال الذي يرتديه جعلته يشعر كأنه المصنع الأصلي الذي اخترعت فيه الجراثيم. لذا أخرج ذراعيه الطويلتين من كمي المعطف بعيدا بقدر ما استطاع، وأزاح تلابيب المعطف بقدر ما أمكن، وتجرع القهوة التي كانت ساخنة جدا حتى إنها كادت تلسعه، وأكل اللحم المقدد الذي كان هشا حقا والخبز المحمص الذي اكتسب لونا بنيا كما ينبغي. ودفع فاتورته، وعاد إلى الرصيف حاملا ثروة من العملات في حوزته، وبحث عن سيارة برونسون.
كانت واقفة حيث تركها، فمضى وسار إلى مكتب الفندق. لم ير أثرا لأي من أفراد عائلة برونسون، فذهب إلى الموظف وطلب الاطلاع على السجل. حين وجد ما كان يبحث عنه، طلب من الموظف أن يخبر أصدقاءه، إذا نزلوا قبل عودته، أنه قد ذهب للحلاقة والحصول على بعض الملابس الجديدة. انتابه على نحو ما شعور حاسم بالكبرياء نبع من حقيقة أنه ليس مضطرا إلى إخبار ويليام برونسون وزوجته وابنته أنه كان منهكا وحانقا، حطام إنسان لا يملك بنسا في جيبه يولي الفرار من حكومة لا علم له حتى بلوائحها، مع أمل ضعيف جدا في الفرج. لم يكن قد خطر له قط أن يفعل شيئا مثل الخروج عن رعاية الحكومة دون أدنى فكرة عن المكان الذي سيتجه إليه أو ما سيحدث له، حتى بين الاحتمالات الخيالية، أما الآن وقد أقدم على ذلك، فعليه الإقرار بأنه لا يعلم ما إن كان فارا من الجندية أم لا. لا يمكن قطعا أن يكون فارا من الجندية؛ لأن الحرب وضعت أوزارها منذ شهور طويلة عديدة. لا شك أنه قد خضع لإجراء ما غالبا ليظل مقيدا في السجلات وفي عهدة الحكومة. لم يكن الاحتمال معدوما أن يأتي اليوم الذي قد يحتاج فيه إلى المطالبة بالسجل الرسمي المتعلق بالأوسمة التي يحملها.
غادر الفندق بعد أن حصل على إرشادات من الموظف عن السبيل للوصول إلى أفضل متجر ملابس في البلدة، فابتاع لنفسه الملابس اللازمة لينعم بالنظافة والراحة. متوخيا الاقتصاد، اشترى ما شعر أنه يلزمه من بين أرخص الأشياء التي وجد أنها قد تفي باحتياجاته، ثم ذهب إلى الحلاق، وبعد قص شعره وحصوله على حلاقة منعشة، دفع نقودا مقابل الحصول على حمام، وتبع هذا بارتداء ملابسه الجديدة. حين ارتدى قبعته الجديدة قبالة المرآة في الحمام، تصور أنه ما دام النشاط يدب في أوصاله والطعام يملأ معدته فإنه قد لا يكون بالرجل قبيح المنظر. فهو طويل القامة، وعريض البنيان مثل أسلافه الاسكتلنديين، وذراعاه المشدودتان مستدقتا الطرف، وملامحه متناسقة، وعيناه الواسعتان ذات اللون الرمادي الممتزج بزرقة تبدوان رغم كل شيء عينين صريحتين، عينين طيبتين، عينين آسرتين.
ومن ثم عاد جيمي إلى الفندق حاملا صرة ملفوفة بعناية احتوت على معطف رجل آخر وسروال رجل آخر أيضا. انتوى أن يلقي بها على جانب الطريق في مكان ما أثناء رحلته، فقط تحسبا لاحتمال أن يكون هناك رجل في عوز شديد مثلما كان، فيجدها وتسد حاجته، كما قضيت حاجته.
حين سار ويليام برونسون إلى الاستقبال، نهض جيمي مبتسما، وقد استمد الثقة من سروال رمادي مهندم والمعطف الذي جاء على مقاسه بالضبط والقميص الذي كان نظيفا وجديدا، فمد يده، لكنه بدلا من التعرف عليه قوبل بنظرة باردة. كان عليه أن يخلع قبعته ويتكلم بلكنته الاسكتلندية حتى يعلم ويليام برونسون أنه المسافر الذي قابله في اليوم السابق، وعندئذ تلاشى من ذهنه تماما التساؤل الذي ظل يدور فيه إلى أن خلد للنوم عما إذا كان قد ترك سيارته في حوزة مجرم ثالث. فلم يكن هناك ولو شبح مجرم طوال عشرة أجيال من أسلاف الرجل الماثل أمامه. كان ويليام برونسون يستطيع أن يقسم على ذلك. وبينما وقف يصافح يد جيمي، راح ينظر إليه ضاحكا وقال: «مهلا، يا للعجب! لم أتعرف عليك، وأراهن أن زوجتي وسوزي أيضا لن تعرفاك، إن وقفت بعيدا عنك!»
ضحك جيمي بدوره. ثم قال: «لقد أقدمت على ذلك التغيير المفاجئ في العتمة ليلة أمس. إن ضوء القمر مخادع كبير. لم أرد سوى أن أخلع الزي الرسمي للعم سام (الجيش الأمريكي) سريعا، فانتهزت أول ما عرض لي، لكن حين استيقظت هذا الصباح وجدت ملابسي شديدة الاتساخ ومليئة بالجراثيم حتى إنها تكاد تسير وحدها، فقررت أن أرى كيف لي أن أغيرها سريعا.»
قال ويليام برونسون: «هلم للفطور!»
अज्ञात पृष्ठ
قال جيمي ماكفارلين: «شكرا، لقد تناولت فطوري.» ثم أضاف: «إذا تكرمت بالسماح لي بالركوب معك ما دمت متجها شمالا وغربا، فسوف أصبح ممتنا لك.»
قال رب عائلة برونسون وعائلها: «لا يشغلك البتة كم من الوقت يمكنك الاستمرار في مواصلة رحلتك مع عائلة برونسون.» وتابع: «يمكنك البقاء مثلما شئت. لن أبالي بتاتا إن لبثت طوال الطريق حتى ولاية آيوا!»
وبعد ذلك التقط جيمي الجريدة الصباحية وراح يقرؤها حتى جاءت السيدة برونسون وسوزي إلى الاستقبال، وبالفعل لم تتعرفا عليه، فكان عليه أن يستخدم لكنته المشددة على حرف الراء متحدثا معهما حتى صدقتا أنه المسافر الذي كان معهما الليلة السابقة. اتفق كلاهما تماما مع رأي الزوج والأب. حيث لم تأبها كم سيبقى هذا الرجل معهما في السيارة وهو أيضا لم يأبه. وهكذا قطعوا مسافة طويلة في ذلك اليوم، وتناولوا العشاء على جانب الطريق وقضوا الليل في فندق صغير، ثم شعر جيمي أن الوقت قد حان للاتجاه غربا. كان بإمكانه السفر على مسافات قصيرة. حيث لديه في جيبه ما يكفي من النقود ليتكفل بالطعام والمبيت لعدة أيام، حسبما يظن، ومن ثم، فقد اتجه غربا، أثناء النهار الطويل، المشمس، متقدما على مهل. ثم اكتشف أنه قد توغل بعيدا للغاية في اتجاه الشمال، فعزم على المضي غربا عن طريق الجنوب.
لم يكن لديه رغبة في الذهاب حيث قد تتعذب عظامه المتألمة بفعل البرد. أراد البقاء حيث تظل أشعة الشمس نافذة ودون انقطاع. أخذ يمشي وئيدا ويجلس من حين لآخر، وفي الظهيرة يستريح، وحين شعر أن الوقت قد أوشك للتفكير في الغداء، غط في نوم عميق، في ظل شجرة بلوط حي تخللته خيوط من أشعة الشمس، متوسدا ذراعه على حجر، وحين أيقظه أخيرا مرور قطيع من الماشية، التقط العصا التي كان يحملها وتمطى استعدادا لرحلته. بينما يفعل ذلك شعر بفقدان شيء. استغرقه التفكير مدة دقيقة ليتذكر ماذا قد يكون. لاحظ أن سرواله ليس بالضبط على نفس وضعه الذي كان عليه حين غفا، وعندما تفحص بيديه على جسده وجد جيب سرواله الخلفي خاليا، وكذلك جيب المعطف؛ كما سرق السلاح، أيضا.
عاد جيمي للجلوس على الصخرة، في شبه إعياء من الصدمة وخيبة الأمل، وأخذ ينظر حوله. استطاع أن يرى المحفظة التي استولى عليها ملقاة على الأرض على بعد عدة ياردات فوق جانب الجبل. لم يكن هناك جدوى من إجهاد نفسه بالصعود لتفقدها. فقد كانت مفتوحة وقد سلبت بالطبع، وبذلك عاد مرة أخرى من حيث قد بدأ. كان لا يزال لديه في سرواله القصير من الفكة فئة الخمسة والعشرة سنتات ما يكفيه لآخر اليوم وربما لفطور الصباح التالي، لكن المبيت الذي كادت حاجته إليه أن تكون أشد من الطعام قد ذهب أدراج الرياح في غموض كما جاء.
بدا جيمي أقرب إلى الاسكتلنديين من الأمريكيين في جلوسه عابسا متجهما، على الصخرة. لم يفهم مطلقا أي سبب على وجه التحديد جعله لا يضع المحفظة في جيب صدره ويغلق عليه المعطف. كان قد وجدها في الجيب الخلفي للسروال، حيث يناسبها حجمه، وقد وضعها فيه تلقائيا. وفكر في أنه لو كان قد استخدم عقله، لتوخى الحذر. وفكر، أيضا، في حقيقة فقد قطاع كبير من الناس في العالم لحسهم القديم بالشرف وأن هذه الحقيقة تحمل في طياتها بعض الوجاهة. لم تكن مسألة الشرف قائمة بين المجرمين اللذين انتويا الهجوم على عائلة برونسون. فقد كانا يتحدثان كأنه يجوز لهما شرعا امتلاك أي شيء يخص عائلة برونسون. وتذكر جيمي حقيقة أنه لم يعان من أي تأنيب ضمير إزاء أخذ ما وجده في سروال ذلك المجرم. قضى دقيقة يفكر في الأمر وظل على اقتناعه الراسخ بأنه كان لديه حق مكتسب فيه؛ ولذلك السبب أحس بضيق شديد أنه لم يوله رعاية أفضل. لماذا كان في غاية الإهمال إزاء ما كان سيضمن له الضروريات والضمادات الجديدة التي سيحتاج إليها قريبا، في الوقت الذي كان تأجيره لمكان يبيت فيه هو ما سيقرر إن كان سيعيش أطول قليلا أم يموت سريعا، وربما ميتة مؤلمة جدا؟
بعد برهة هب جيمي واقفا ليستكمل طريقه ويستمر في الاتجاه إلى الجنوب الغربي. ومن ثم تحول الجوع الشديد الذي كان قد أحس به في معدته قبل ساعة إلى غثيان خالص، ولم يكد يبتعد حتى وجد أن العرق البارد راح يسيل من راحتيه، وعلى صدغيه، ومن جسده. لم يرفع نظره إلى السماء حتى ليقرر ما إن كان سيعرب عن رجائه أم لا. إنما سار بأناة تحت أشعة الشمس بقدر ما تيسر له، فقد اعتقد، من تجربته المبيت في الخارج، أنه سيحتاج إلى تخزين كل الدفء الذي يستطيع جمعه.
وفي آخر الأماكن التي استراح فيها أخرج كل الفكة من جيبه وقسمها بعناية. قد يبلغ في مسيره بلدة حيث يستطيع استئجار فراش في فندق رخيص. وسيتعين عليه تقسيم المتبقي بين الغداء والفطور. وبعد ذلك سيصبح تحت رحمة الدنيا مرة أخرى، وقد شعر في تلك اللحظة أن احتمال وقوف الدنيا ضده مساو لوقوفها معه. كان العزاء الوحيد الذي جعله مطمئنا هو أنه إذا نشر المستشفى إعلانا عن هروبه متضمنا أوصافه، فلن يشعر أحد أنه الرجل الذي تنطبق عليه الأوصاف المذكورة حيث إنها قد تغيرت بدرجة كبيرة، والفضل في ذلك يعود إلى قاطع الطريق. وهكذا اتبع جيمي البرنامج الذي وضعه حتى بعد فطور الصباح التالي، وعندئذ، وبينما هو ما زال متجها غربا عن طريق الجنوب، وليس لديه سوى بضعة سنتات متبقية، تعثر في مشيه. فأدرك أنه كاد يبلغ أقصى درجات احتماله. فقد أنهك السير المستمر قدميه وساقيه إلى أن بدأت تتورم حتى ضاق حذاؤه جدا عليها. وتسلطت الشمس بأشعتها على رأسه الذي لم يعتدها حتى شعر بدوار. وأصبحت عيناه متعبتين بشدة حتى كاد أن يصرخ للحصول على نظارة شمس تريحهما، وقد فقد أمس النقود التي كان من الممكن أن يشتريها بها وهو في أمس الحاجة إليها اليوم.
لم تبق لجيمي ذكرى بالغة الوضوح عن الجزء الأكبر من ذلك اليوم. جل ما يتذكره أنه ظل يناوب بين السير إن استطاع وبين الارتماء في أي مكان حيث يستطيع الجلوس أو الاستلقاء حين لا يقوى على الاستمرار. أما كيف وصل إلى الطريق الذي أودى به إلى أحد الوديان فهو لا يدري. فقد واصل السير حتى كاد لا يشعر بأي شيء مما حوله لدرجة عدم إدراكه أن الطريق قد ضاق فصار مسارا للخيل، وأن مسار الخيل قد ضاق فصار مدقا، وأن المدق راح يلتف حول قاعدة أحد جوانب الجبل الذي انشق من أعلاه لأسفله مع الاضطراب الذي أدى إلى نشوء الجبال على وجه الأرض. ومن ثم دار مع منحنى فوجد نفسه فجأة في مواجهة مشهد واسع، وفي الوقت نفسه أدرك أمرين. حيث سمع صوت مياه تغني. صوت مياه تتدفق وتنساب وتتناثر وتضحك وتفعل شتى الأشياء المحبوبة التي تعلم المياه كيف تفعلها حين يتاح لها الانسياب في قاع صخري أسفل أحد الوديان.
وقف جيمي ساكنا ونظر عن يمينه وعن يساره وإلى موضع قدميه. رأى عن يمينه جدرانا متشعبة بدأت بارتفاع عادي ثم ارتفعت لتبلغ آفاقا أعلى وأعلى حتى بلغت مئات الأقدام ثم آلاف الأقدام. صمدت تلك الجدران طوال عصور طوال حتى إن الشقوق والنتوءات امتلأت بأشجار البلوط الحي والبهشية والمريمية، مع نبات اليوكا وزهرة الشمس، ونبات أذن الخنزير بلونه الأزرق في الأخضر. وقد تدلت السراخس قرب الأماكن التي نضحت فيها الجدران الشاهقة بالمياه. وعلى اليسار امتد أمامه المنظر الخلاب نفسه، وعند قدميه امتد مسار واضح المعالم، ممهد في سلاسة، مسار بدا له أنه قد ارتادته أقدام عدد لا حصر لهم من المسافرين، حتى إن عينيه، وإن كانتا متعبتين للغاية، استطاعتا أن تتعرفا على أثر حافر حصان ظن أنه قد يكون حصان حارس المنطقة.
अज्ञात पृष्ठ
بدت المياه عند قدميه نظيفة. لا بد أنها باردة. إذ كانت تتدفق على الصخور. منحدرة على منحدرات صغيرة. وتنساب أمام كهوف، حفتها السراخس، بديعة الجمال، بينما راحت تنطلق طيور دج صغيرة رشيقة من خلال الرذاذ، غالبا متجهة إلى أعشاشها المستترة بالمياه المتدفقة.
جلس جيمي من فوره في أشد الأماكن إشراقا بأشعة الشمس على أدفأ الصخور التي أمكنه العثور عليها وجعل يتأمل الموقف، وبعد أن استراح برهة نزل وشرب مغترفا المياه بيديه. ثم نفض الغبار عن ملابسه الجديدة، التي استخدمت استخداما قاسيا بعض الشيء، وتناول عصاه وسلك المدق. لم يكن السير عبره صعبا، حيث ينحدر لأسفل حتى نهايته، وقبل أن يقطع مسافة كبيرة بدأ يسمع أصواتا. فأدرك أن مكانا بذلك الجمال الفريد لا بد أن يجذب الناس، فلعلهم مخيمون أو متنزهون يرفهون عن أنفسهم بجوار المياه التي تتدفق بسرعة شديدة لم ير لها مثيلا قط. خطر لجيمي أنه ربما قد أخطأ بالتخلص من ملابسه الرسمية. فقد استنتج من عدد المرات التي عرض عليه فيها الركوب حين كان يرتديه، ومن التجاهل التام الذي لقيه من مئات السيارات التي مرقت بجانبه ذلك اليوم، حتى حين وقف مقتربا جدا ورفع يده طالبا فرصة للركوب معهم، أن الرجل الذي يرتدي زيا رسميا يلقى المساعدة. أما الرجل الذي يرتدي ملابس مدنية فقد يكون محملا بالأسلحة وتملأ رأسه النوايا الشريرة. بدا الوقت متأخرا حتى إن أي مسافر لديه مقعد شاغر سيحتقر نفسه إن لم يتفضل على أي شخص مسافر على قدميه بميزة الركوب.
صار الركوب ضروريا الآن. تقدم بقدمه اليمنى، ثم اليسرى، ثم اليمنى مرة أخرى، يا للألم! كانتا متيبستين من الورم، وآه كم كانتا تؤلمانه! ما إن قرر جيمي خلع حذائه وجواربه وغسل قدميه في المياه الباردة ليرى إن كان سيستطيع الحد من الألم والورم، حتى صار وجها لوجه مع لوحة كبيرة طليت حديثا جاء فيها أن المنطقة الممتدة أمامه تمد بالمياه مدينة كليفتون، التي لا بد أنها مدينة قريبة، وأن ثمة حارسا يطوف الوادي لحمايته، وأن أي شخص يلوث المياه بأي طريقة سيقبض عليه في الحال. فابتسم جيمي ابتسامة جافة ونظر إلى قدميه المتوجعتين فأدرك أنه من المفضل أن يترك حذاءه كما هو، فمن الوارد جدا ألا يستطيع العودة بقدميه إلى الحجم الذي يتسع له الحذاء إذا خلعه.
كان يسير في الاتجاه الصحيح، على كل حال. كانت كل خطوة يجبر نفسه على اتخاذها تحمله للغرب والجنوب. في البداية، رغم تعبه لم يستطع أن يتغافل عن جمال الوادي الذي سلكه. فقد كان نبات مخلدة السطوح مزدهرا على مرمى يده. وهناك سراخس وطحالب، ونباتات العائق والخزامى، وترمس أزرق وأصفر، وخماسية الأسدية حمراء والعديد منها صفراء، وكانت هناك بركة صغيرة امتلأت باللون الأبيض اللؤلؤي لنباتات ذيل السحلية المزدهرة، بأوراقها الكثيفة، وزهورها الفاتنة. لم يكن جيمي على دراية بأسماء هذه النباتات؛ فهي لم تكن ضمن المعلومات المذكورة في منهج علم النباتات الذي درسه أثناء نشأته في شرق البلاد.
ظل جيمي ماضيا في هبوطه نحو قاع الوادي. لم يلحظ كم كان بطيئا في سيره، لكنه بدأ يرى ناسا بعد مدة قصيرة. هنا أدرك أنه كان على صواب حين تخيل سماع أصوات. كان الدخان يتصاعد من بعض الأماكن، فشعر جيمي فجأة على نحو مبهج أن مشكلته فيما تبقى من ذلك اليوم قد حلت. فكل ما كان عليه فعله هو الانتظار لحين مغادرة المتنزهين للوادي وعندئذ يبحث في مكان تجمعهم فيجمع الخشب الجاف من الفروع والأغصان الميتة التي جمعوها أو سقطت، وفي أحد الأماكن التي كانوا يطهون فيها يضرم نارا كبيرة ودافئة جدا حتى يمكن له قضاء الليل دافئا. فجلس وظل ينتظر حتى اقتصرت الأصوات الصادرة من الوادي على شدو الطيور والمياه المتساقطة، المياه الجارية، المياه الضاحكة، المياه الصادحة بالغناء. ثم شرع يلتقط كل ما كبر حجمه بدرجة مناسبة للاحتراق، وراح يكومه في ثنية ذراعه اليسرى أثناء سيره، حتى بلغت حمولته أقصى ما يمكنه حمله. وبعد برهة وجد كهفا حجريا في جدار جانبي من الجدول، حيث كان الناس يطهون، وبعد التفتيش في قاع الرماد الذي صب عليه الماء وجد القليل من الجمرات المشتعلة. فكشط الرماد المبتل وأخذ الجمرات إلى المقدمة وحكها بالأغصان الصغيرة والحشائش الجافة، وبعد قليل حصل على شعلة ضعيفة، فظل يغذيها حتى حصل، مع غروب الشمس ونزوع الهواء للبرودة، على الحرارة التي يريح بها جسده المتعب.
وبعد ذلك، في إحدى جولاته بحثا عن الحطب، عبر الجدول وشق طريقه بمحاذاة الضفة اليمنى القريبة من قاعدة الجدار الهائل الذي مال مقطبا فوقه. وهناك وصل إلى هضبة صغيرة منبسطة من الحجر، فرأى ما جعله يضج بالضحك. كان المتنزهون الذين قضوا يوما سعيدا هناك قد تركوا بقايا غدائهم. وقد وضعوها على الصخور من أجل الطيور والسناجب، ولم تكن السناجب قد عثرت عليها بعد، كما أن الطيور قد رحلت منذ وقت طويل للخلود للراحة. فوجد هناك عدة شرائح من الخبز والزبد. وشطيرة لسان بارد، وبيضة مسلوقة ونصف خيارة مخللة بالشبت، فضلا عن قطع مفتتة من الجبن.
من ثم جلس جندي الحكومة، الذي أضحى جنديا مغامرا حقا، على الصخرة الكبيرة التي كانت لا تزال دافئة من حرارة النهار، وتناول كل ما أراد لغدائه من طعام ممتاز جدا. حين نهض ليذهب قال الأب الكامن بداخله: «اترك ما تبقى للكائنات الصغيرة كما وجدته.» وخاطبه صوت الأم بداخله فقال: «خذ معك كل فتاتة تتبقى من أجل الغد. فإن الكائنات البرية تعرف كيف تعتني بنفسها. أما أنت فمريض وكدت تبلغ حدود قدرتك على التحمل، وسوف تحتاج، وبشدة، إلى شريحة الخبز من أجل فطورك في الصباح.»
تأمل جيمي في الأمر. لم يكن قد وجد أي غضاضة حين أخذ سروال قاطع الطريق. كما أنه لم ينزعج الانزعاج الذي يثنيه عن استخدام محتويات المحفظة. وقد ملأ معدته إلى حد التخمة بما كان متروكا للكائنات البرية، فلم يعتد عليه أي من الكائنات البرية أو يحرمه من أي شيء. قد يكون في كل تلك النباتات التي تسلقت الجدران التي أحاطت به هناك وتدلت منها وكللتها طعام أشهى لذائقة الحيوانات البرية مما قد ترك لها. بيد أن جيمي كان به مسحة من خصلة ما، نفس المسحة التي أخذته إلى الغابات والأحراش، والتي أرسلته أميالا لا تحصى على امتداد ضفاف جداول أسماك التراوت في طفولته، مسحة من اللياقة والنقاء في روحه، وإنها تلك المسحة التي تقول له الآن: «فلتغامر مثلما تغامر تلك الكائنات البرية الصغيرة.»
هكذا جثا جيمي مرة أخرى وفتت الخبز وقطع حوافه. وبحركة عفوية وضع قطعة أخيرة من حواف الخبز في فمه، ثم ذهب للبحث عن حطب. حين شعر أنه قد جمع كمية كافية، زاد من اشتعال النار، فصارت باعثة على الدفء والراحة بقدر ما استدعت حاجته، فتكور أمامها، ومتوسدا ذراعه ومستندا إلى حجر، راح في النوم خلال دقائق قليلة جدا. لم يشعر البتة بالسحالي الصغيرة التي أخذت تجري على قدميه، ولم ير جرذ الغابة الذي جلس على فخذيه وظل يتفحصه بعينين متسائلتين ليرى ما إن كان معه أي شيء قد يريد أن يبادله بنصف الزرار المصنوع من اللؤلؤ الذي كان يحمله في خده الأيسر. استيقظ في الليل من صلابة فراشه قبل أن تنطفئ النار، فحشد عليها ما تبقى من الحطب وتحول بجنبه البارد تجاه النار والدفء ونام على جنبه الدافئ وعاد للنوم مجددا.
حين أقبل الصباح غسل وجهه ويديه بأن بلل منديله في الجدول، وبعد ذلك بلل منديله عدة مرات واعتصر ماءه على الجمرات التي كان قد تركها، مبعثرا بعضها بعيدا عن بعض، وماحيا أي أثر للنار يحتمل أن ينتشر. ثم، بقدميه اللتين كانتا لا تزالان تؤلمانه في الحذاء الذي لم يقدم على خلعه، بدأ السير هابطا نحو قاع الوادي.
अज्ञात पृष्ठ
في نحو الساعة العاشرة ذلك الصباح التقى بالحارس. لم يكن حارس هذا الوادي على وجه الخصوص منعزلا تماما شأن حراس الجبال؛ لذا كان ودودا. فقد توقف للتحدث معه مدة دقيقة، وبينما كان ينظر إلى جيمي نظرة عابرة لاحظ ضعف جسده، وشحوب يديه، وكيف أن بشرة وجهه مشدودة على عظام هزيلة، ولأنه شاب ومفعم بالحيوية، ويجري في دمائه عطف جارف على أخيه الإنسان، فقد قال لجيمي: «تقول لي أمي إنني إذا أفرطت في امتطاء الخيل فسأصاب بالنقرس في قدمي. ما رأيك أن تركب الحصان خلال الأميال القليلة القادمة وتسمح لي أنا بالسير؟»
قال جيمي إنه يسره ركوب الحصان إن كان هذا يناسب الحارس، لكنه لم يكن قد وضع في اعتباره ما سوف يفعله خطو الحصان بالجزء الأيسر من صدره. ورغم أنه استقر على السرج في وضع مريح بقدر ما استطاع، فقد كان الركوب مؤلما حتى إنه لم يستطع تحمله طويلا، ومن ثم، بعد ميل أو اثنين، اضطر إلى السير مرة أخرى. لكنه كان ممتنا بالعرض، وقد بدأ يستنبط في ذهنه على نحو مبهم الشعور بأن العالم يتكون من أشرار وأخيار، من أشخاص أنانيين وأشخاص يراعون الآخرين، من أشخاص قساة وأشخاص رحماء، وأي النوعين ستقابل حين تضطلع بمغامرة كبرى ما هي إلا مسألة حظ فحسب.
منذ التقى بالحارس فصاعدا، صارت مغامرة جيمي أميالا بطيئة من العذاب، وهو لا يزال متجها نحو الجنوب الغربي، حتى صارت الساعة الثالثة تقريبا من عصر ذلك اليوم. لم يكن أحد قد ترك علبة طعام ولم يكن هناك مكان يمكنه أن يشتري منه طعاما بالبنسات القليلة التي يحملها. كان قد غادر الوادي واتبع طريقا راح يتسع حتى صار مستوعبا للخيل والمركبات، فكانت تمر به سيارة من وقت لآخر؛ لكنه ليس طريقا كثير المسافرين؛ ليس من الطرق المزدحمة، ولا المعتنى بها، وقد صار من الصعب على جيمي مواصلته أكثر فأكثر؛ لأن قدميه كانتا قد تحملتا كل ما يمكن لقدم بشرية تحمله حين تتصل بشخص مريض يدفع نفسه ببسالة لأقصى حدود طاقته.
قرب الساعة الرابعة بدأ الجوع الذي كان معلقا منذ الليلة السابقة يعذبه مجددا. كان الإرهاق قد بلغ به درجة أنه وجد نفسه يحيد عن دربه خطوتين أو ثلاثا؛ لكيلا يضطر إلى رفع قدميه ولو قليلا ليخطو فوق نتوء صغير على الطريق. وقد بدأ يدرك أن فرصة الحصول على مأوى لقضاء هذه الليلة قد أصبحت ضئيلة. وكذلك فرصة العثور على طعام ضئيلة بالمثل. حتى الآن أسفرت مغامرته عن نقاط مضيئة، ومواقف مثيرة، ومواقف مؤلمة. أما في تلك اللحظة، بين الشعور بالوجع المتأجج في صدره والالتهاب المشتعل في حذائه والألم الذي عم جميع أنحاء جسده المعذب، فإنه لم يستطع أن يرى جدواها. شرع يتساءل ما إن كان يستطيع أن يعود أدراجه إلى المستشفى وما إن كانوا سيقبلونه، ثم خطر على ذهنه أمر الطاعون الأبيض الذي قالوا إنه لم يصبه بعد، فأغلق شفتيه بإحكام شديد بينما وقف مترنحا وهو يحدق مثل رجل شبه مخمور في الطريق الممتد أمامه، محاولا أن يحدد ما إن كان مسار العربات على يمينه يبدو أكثر سلاسة ولو قليلا من مسار العربات الذي على اليسار. حين قرر أن الذي على اليمين هو المناسب له ليسلكه سار مترنحا بخطوات واسعة وبدأ التقدم، وراحت عيناه تتفقدان الطريق خلسة على الجانبين بحثا عن البقعة التي سينهار فيها أخيرا. وتساءل، ما إن كان سيعثر عليه أحد إذا تعثر وسقط ولم يستطع النهوض، إذا استلقى غائبا عن الوعي في منتصف الطريق، وماذا سيفعلون به إن عثروا عليه.
إن البحث في جانبي الطريق جعل جيمي لا يلاحظ النقطة التي تحول فيها الطريق حتى وجد قدميه تتبعانه، ثم نظر قبالته فاتسعت عيناه وشهق شهقة خفيفة. إذ تسنى له أن يرى على الطريق، على بعد بضع قصبات (وحدة قديمة لقياس الطول تساوي خمس يارادات ونصفا) فحسب عن اليمين، منزلا صغيرا، ومن بين كل المنازل التي قد حلم بها من قبل، واعتقد أنه يود للغاية أن يمتلكها ويعيش فيها، بدا له ذلك المنزل الأكثر جاذبية.
كان قائما على مقربة من الطريق. وقد امتد بحذاء واجهته سور أبيض من الأوتاد الخشبية. وحجبه عن الطريق بوابة بيضاء أنيقة. وبدت واجهته المطلية رقيقة وساحرة. وقد تجلت سمات نيو إنجلاند في أرجائه. وتسلقت زواياه نباتات معترشة مزهرة واعتلت شرفاته الصغيرة الأمامية. خارج البوابة استطاع أن يرى دائرة من الصدف المجروش، وخيل إليه أن الممشى المؤدي إلى الباب الأمامي قد يكون مصنوعا من الأصداف. بدا واقعا في موقع قريب جدا من الطريق ولم يكن هناك مساحات كبيرة من التربة الخالية على جانبيه. حيث بدت كلها مليئة بالزهور نفسها التي كان جيمي يساعد في العناية بها في حديقة أمه في نيو إنجلاند. أمكنه أن يرى زهور الخطمية، التي استطالت حتى طالت أفاريز المنزل، وتعددت ألوانها، وعن اليمين واليسار استطاع أن يلحظ تدرج ألوان الكبوسين والزينيا والمخملية، واستطاع أنفه الحساس التقاط الرائحة النفاذة لزهور رقيب الشمس والبليحاء وأذن الفأر والبنفسج، لكن ما طغى على كل شيء آخر كان الانطباع لديه بوجود سحابة زرقاء، زرقة لطيفة جميلة تبعث على السكينة.
ظل جيمي يتمايل محملقا في المنزل في لهفة. وحمله نظره لما وراءه، فرأى أنه على الجانب الآخر من السور الفاصل يوجد فناء آخر ومنزل آخر، ثم أخذت المنازل تتجمع على نحو يبث الألفة على جانبي الطريق، وظلت المنازل تنتشر على مرمى بصره هنا وهناك، كدلالات أخرى على الحياة. وفي تلك اللحظة بلغ أذنيه على نحو رقيق ارتداد الأمواج ببطء، وانتظام فيما ربما كان أدنى مستويات المد والجزر للبحر.
في ظل ما انتابه من إنهاك، خدر الألم حواسه؛ إذ كان قد سار طوال الجزء الأكبر من وقت ما بعد الظهر، مثقلا، شبه واع، أما الآن وقد مسه اقتراب البشر، ومسه جمال منزل أحد الأشخاص، فقد تحمس لوجود احتمال ما أنه قد يجد المأوى والطعام، فتدفق دمه الراكد، ورفع رأسه، ولمعت قليلا عيناه المطفأتان، واتجه أنفه القوي نحو الغرب وتشمم مستطلعا. ثم قال جيمي، بصوت جهوري، من أغوار المجهول: «إن لم يكن أنفي الخبير يكذبني،
فيبدو أنني أشم ...
ما لا بد أنه المحيط «الهادر»!»
अज्ञात पृष्ठ
لم يدر البتة لماذا سماه المحيط «الهادر». ربما فعل ذلك لأنه كان في غاية من الإنهاك لدرجة أنه إذا لم يتدبر أن يضحك في نفسه بشأن شيء ما، فمن الوارد جدا أن ينهار على الطريق ويرقد بلا حراك دون أن يعبأ البتة بملابسه الجديدة، أو أي شيء آخر في العالم بأسره .
في تلك اللحظة انفتح الباب السلكي المؤدي من الشرفة إلى داخل المنزل الجميل، الذي كان خارجه بأكمله بمثابة دعوة رقيقة تستميل الزوار، وخرج منه رجل طويل القامة نحيل القد، أرستقراطي الهيئة من رأسه إلى قدميه، ممشوق القوام، ذو شعر أبيض طويل مثل الحرير مسترسل إلى الوراء بداية من جبهته، ولحية ناعمة قصيرة من حرير أبيض فضي متموج ممتدة حتى صدره، رجل ذو أنف طويل نحيف، وعينين واسعتين غائرتين، وشفتين شاحبتين. راح يترنح وهو يعبر الشرفة، وقد قبض على جانبه الأيسر بكلتا يديه وظل يتهادى يمينا ويسارا حتى بلغ البوابة. فرفع يديه عن جنبه وتشبث بالبوابة. فمال إليها وتعلق بها وجال ببصره في الطريق من أقصاه إلى أدناه، وهناك لمح جيمي. فرفع إحدى يديه ولوح بها.
ظل جيمي واقفا هناك يحدق إليه، وببطء وتأن، أنزل قدمه المتورمة على الطريق الصلب ثم تبعها بالأخرى، وأخذ بضع خطوات في اتجاه الرجل. توقف مرة أخرى ليحدق فيه، فلاحظ الخطوط الدقيقة في الوجه الهرم المكروب للبدن المتعلق بالبوابة، وملابسه المهندمة، وسلوكه المضطرب. ومن ثم، بكل ما استطاع حشده من قوته، أخذ جيمي بضع خطوات أخرى وصار على مرمى سمعه، فنزل على أذنيه المذهولتين والمرتابتين صيحته المكتومة إذ قال: «النجدة! أنقذني أيها الفتى أستحلفك بالله!»
قبل دقيقة لم يكن جيمي ليصدق أن باستطاعته مساعدة أي شخص أو أي شيء. فقد كان يتصور أنه قد بلغ حدود طاقته، وأنه إن لم يجد من ينجده هو نفسه في غضون دقائق قليلة فسوف يفوت أوان نجدته. لكن كان ثمة شيء في بياض الرأس العجوز الطيب، شيء ما في عرض منكبيه ونحول جسده ذكر جيمي بأبيه، وربما لأنه تذكر أباه، رفع جيمي عينيه أعلى المنزل الأبيض البديع، وفوق الأشجار المتشابكة المحيطة به، وفوق كرومه التي سترته، لأعلى نحو السماء، وفي أعماق قلبه أعطى أمرا حاسما. «لا بد أن تساعدني الآن، يا رباه! لا بد أن تساعدني الآن!»
ثم كور قبضتيه بإحكام شديد إلى جنبيه وعبر الخطوات الثلاث الأخرى نحو البوابة . واستجمع قواه ليفتحها، ووضع ذراعه حول الجسد العجوز المستند إليها، وسمع نفسه يقول بصوت جاف لاهث: «مهلا، بالطبع، سوف أساعدك!» ولم يكن لديه أدنى فكرة إن كان هو نفسه يستطيع السير ثلاث خطوات أخرى أم لا.
لكنه بالفعل خطا الخطوات الثلاث الأخرى، وفتح الباب السلكي، واتجه بالرجل المتعب الذي يحاول إسعافه نحو أريكة كبيرة وأنزله عليها، موفرا له الراحة على الوسائد التي ضغطها سريعا. ثم هبط إلى ركبتيه، وتشبث بجانب الأريكة، وتكلم مرة أخرى بصوته الجاف منقطع الأنفاس: «ماذا أفعل؟»
في حركة عفوية لمست يدا الرجل المتعب منطقة قلبه. فحدث جيمي نفسه، وقد صفا ذهنه إزاء مصاب رجل آخر قائلا: «إن ألمه قريب جدا من مكان ألمي.» فكرر سؤاله مرة أخرى: «ماذا أفعل؟»
فجاء الرد: «الهاتف. يجب أن تتصل بطبيبي. يجب أن تصل بي إلى مستشفى.»
نهض جيمي بالاتكاء على الأريكة ونظر حوله. ثم رأى هاتفا على الجدار ومنضدة صغيرة أمامه وعليها دليل هاتف مفتوح، فجلس على المقعد وتنفس بعمق مرة أو مرتين. ثم سأل من فوق كتفه: «هل تستطيع إعطائي الرقم؟»
بعد نوبة من الألم جلبت العرق للجبهة البيضاء المرتفعة فوق الحاجبين الأبيضين اللذين ظللا عينين كبيرتين بدتا مثل بركتين من السواد، جاءت الإجابة: «ستجد الرقم والاسم في القائمة الموجودة بجانب الهاتف. دكتور جرايسون.»
अज्ञात पृष्ठ
بحث جيمي عن السطر ووجد الاسم والرقم، ثم أجرى الاتصال، وأثناء انتظاره أن يرد سأل مرة أخرى من فوق كتفه: «ما اسمك حتى أخبر الطبيب به؟»
فكانت الإجابة اللاهثة: «سيد النحل.»
ومن فوره وجد جيمي نفسه يلح على أن يأتي الدكتور جرايسون إلى الهاتف بنفسه، وحين أكد له أن الدكتور جرايسون هو الذي يتحدث، وجد نفسه يستجمع قوته ليقول: «لقد أصيب سيد النحل بنوبة قلبية خطيرة جدا. ويريدك أن تأتي وتحضر عربة إسعاف. فهو يريد أن يؤخذ إلى المستشفى في الحال.»
فكان الرد: «حسنا. يمكنني أن أصل إليه خلال ساعة.»
عندئذ صاح جيمي عبر الهاتف قائلا: «تعليمات! أعطني تعليمات! ماذا يجب أن أفعل له؟»
فجاء الرد: «روح الأمونيا العطرية. اغسل وجهه ويديه. وأعطه بضع نقاط. اجعله في وضع شبه منتصب. وأنا سآتي سريعا بقدر ما أستطيع.»
هكذا عاد جيمي إلى الأريكة، وهمس وهو يضع يديه على الرجل المأزوم فقال: «فلتساعدني، يا رب، الآن!» واستمد القوة من حيث لا يدري ليشد سيد النحل لوضع أقرب إلى الجلوس وليكوم الوسائد عاليا وراءه. ثم بدأ ينظر حوله ليرى من أي مكان يمكنه استحضار روح الأمونيا العطرية. لقد تحدث الطبيب عنها كما لو كان ذلك العلاج موجودا في مكان قريب ومعتادا استخدامه. حين لم يستطع أن يرى أي شيء يفيد بمكان الزجاجة، أقدم على السؤال، فوجهته إشارة باليد إلى غرفة ملحقة حيث وضعت، على منضدة بجوار الفراش، زجاجة عليها ملصق كتب فيه «أرواح عطرية». فأخذها جيمي، ثم سار بخطوات متعثرة لمؤخرة المنزل وفي بحث سريع للمطبخ الذي وجد نفسه فيه التقط منشفة. لبرهة قصيرة من الوقت ألقى نظرة من الباب الخلفي، حيث يؤدي ذلك الباب الخلفي إلى شرفة، امتدت الأرض بعده مستوية لبضعة أقدام، بعدها بدأ ممشى على منحدر غير ممهد بالمرة وقد بدا أنه يؤدي لأسفل، أكثر فأكثر، وبنظرة سريعة تهلل جيمي بهدوء: «يا إلهي، لقد بلغت البحر!»
التقط المنشفة وعاد مسرعا ليبلل أحد أطرافها بالزجاجة، وبينما هو يمدها تجاه الرجل المريض مر بها خلسة أمام وجهه واستنشقها ملء رئتيه. ظل قريبا جدا بحيث يتمكن من غسل يديه ووجهه، وقد استمد من الأمونيا قوة كافية للوقوف والرجوع إلى المطبخ. ثم سمح لنفسه بنزع الغطاء الورقي عن زجاجة الحليب التي كان قد رآها عند الباب الخلفي، وببطء، وبتأن، تجرع نصف محتوياتها. أعطاه ذلك همة عالية حتى إنه استطاع العثور على حقيبة كانت فوق خزانة في غرفة نوم، واستطاع أن يفتح صندوقا وينقل في الحقيبة أوراقا معينة، ويعيد غلق الصندوق ويعطي المفتاح للرجل المعتل. ثم عثر على معطف وخفين وغيرها من الأشياء الصغيرة التي أمر بجمعها، وحين صار كل شيء جاهزا جلس بالمنشفة المشبعة بالأمونيا لينتظر الإسعاف. ثم طلب منه البقاء في المنزل، ورعاية النحل حتى التحقق من درجة مرض مربيها، ومتى يصبح قادرا على العودة إلى عمله.
قال جيمي معترضا: «إنني لا أعلم أي شيء عن النحل.» وتابع: «لا يمكنني رعايتها. ألا تستطيع أن ترشدني إلى شخص يمكنه رعاية أملاكك بأسلوب حكيم؟»
قال سيد النحل: «الأعمال ليست كثيرة.» وأضاف: «املأ الأحواض بالماء باستمرار. أما طعامي فتأتي به جارتي في البيت المجاور. ويمكنك النوم في فراشي. أنت نفسك تبدو متعبا ومريضا. وأنا لا أخشى أن أثق في رجل لديه لمستك ووجهك وصوتك. عدني أنك ستأخذ مكاني حتى أعود.»
अज्ञात पृष्ठ
هنا مد جيمي يده في جيبه وأخرج وسام الشجاعة ليحمله قبالة عيني الرجل المريض. وقال إنه قد سرح مؤخرا من الجيش، وإنه ليس لديه منزل في الوقت الحالي، وسيسره أن يبقى في ذلك المنزل الدافئ ويفعل ما في وسعه، لكن لا بد أن يحصل على توجيهات، توجيهات كاملة، بخصوص ما عليه أن يفعله للنحل.
ابتسم سيد النحل ابتسامة نادرة ومضيئة، واستلقى على الوسائد كما لو كان راضيا، ثم قال: «في أي يوم قد يأتي الكشافة الصغير، إنه مساعدي، ويمكنك أن تسأله أي شيء تريد معرفته وستحصل على إجابة سديدة. ومن الممكن أن تخبرك جارتي مارجريت كاميرون بالكثير، كما أنها طاهية ممتازة. أخبرها بما تحبه ويمكنك أن تستخدم ملابسي وفراشي.»
وهنا أغمض عينيه وسقط غائبا عن الوعي.
بعد دقائق قليلة جاءت سيارة الإسعاف ومضى في طريقه نحو المستشفى جسد الرجل العجوز ذي الوجه الذي يمثل نموذجا رائعا لتجسيد أي من القديسين القدماء. في غضون ما لا يزيد عن دقيقة حصل جيمي على عنوان المستشفى من الطبيب الذي كان قد جاء من أجله، وعلى وعد باتصال هاتفي بعد إجراء الفحص. وقد راق له الدكتور جرايسون، وراقت له اللمسة التي وضع بها يده على حطام الرجل العجوز الطيب الراقد على الأريكة، والطريقة العطوفة التي انحنى بها على الجسد العليل، وكل نبرة في الصوت الذي شرح به الحالة. «ظل سيد النحل يتحاشى انهياره حتى داهمه. لا بد أن يذهب إلى المستشفى. ولا بد أن يبقى لإجراء عملية ظل يتجنبها طوال عام أو عامين. أرجو أن تستطيع أن تعد العدة للإقامة هنا، ما دمت الرجل الذي اختاره، لعدة شهور على الأقل.»
رفع جيمي يده المرتعشة إلى شفتيه الجافتين وقال مكررا ومرددا: «لكنني لا أعرف شيئا عن النحل! لا أعرف أي شيء عن النحل مطلقا!»
بعد أن تحركت سيارة الإسعاف بعيدا، عاد مترنحا إلى المنزل ودخل المطبخ مباشرة، حيث أنهى ما تبقى من الحليب، وقد أكسبه هذا بعض القوة حتى إنه تخطى الباب الخلفي ونظر باتجاه سفح جبل صغير حيث بدا العالم كله نابضا بالحياة ومتألقا بالزهور تلو الزهور من الأنواع قديمة الطراز نفسها التي ازدهرت حول الواجهة، وعلى الجانبين على امتداد الخط الخارجي لأرض واسعة لا بد أن مساحتها بلغت فدانين على الأقل، كان هناك حرفيا مئات القفائر البيضاء المقببة التي أخذ النحل المثقل يطير نحوها بطنين خفيض. ثم أمكنه أن يرى مساحة من الرمال الذي بدا مثل الفضة، بعدها استطاع رؤية وسماع الحركة المنتظمة للمحيط الهادئ عند انخفاض المد.
ظل واقفا هناك إلى أن لم يعد قادرا على الوقوف؛ ثم أغلق الباب وأوصده وعاد إلى الأريكة. هوى عليها، وتخلص من حذائه، وخلع معطفه عن كتفيه، وسحب دثارا هنديا فوق صدره، وأنزل الوسائد أكثر، ثم غاب عن الوعي كما غاب عن الوعي سيد النحل قبل قليل.
الفصل الرابع
في حديقة النحل
لم يستيقظ جيمس ماكفارلين قبل عصر اليوم التالي، ولم يستعد وعيه شاعرا بالانتعاش أو النشاط. حين حاول اتخاذ وضع الجلوس اكتشف أنه كان يشعر بالألم في كل موضع، أن كل عظمة في جسده تتوجع وجعا غير محتمل، وحين وضع قدميه على الأرض وفحصهما بدقة ثم نظر إلى حذائه، أدرك أن الحذاء سيظل ضيقا على قدميه لبعض الوقت.
अज्ञात पृष्ठ
وحين تذكر أن سيد النحل قد عرض عليه استخدام ملابسه وفراشه، راح يجوب المنزل وهو يعرج حتى وجد غرفة النوم، وقد ندت عنه صيحة امتنان حين دخل بالمصادفة الحمام الملحق بها. فقد ساعد الاستنقاع التام في المياه الساخنة ثم الاستحمام بالمياه الباردة بعد ذلك على تخفيف الوجع والألم إلى حد كبير. كما أنه استعار ملابس داخلية وجدها في خزانة أدراج داخل غرفة النوم ليمنح نفسه شعورا بالراحة، ووجد على أحد الرفوف خفين مناسبين لقدميه.
ثم هبت على أنفه رائحة طعام مطهو، وحين دخل غرفة المعيشة كانت المرة الأولى التي يرى فيها مارجريت كاميرون لدى الباب.
لم تكن مارجريت كاميرون تشبه أم جيمي مطلقا، لكن بدا عليها سيماء امرأة يجوز أن تكون نموذجا للأم في المطلق، بل النوع الأمثل من الأمهات. كان وجهها جميلا الجمال البسيط الذي دائما ما يدل على روح لا تقهر. من نظرة واحدة إلى مارجريت كاميرون يمكن للمرء أن يعتقد مطمئنا أنها تفضل الغرق وتقطيع أوصالها على التخلي عن دينها أو بلدها أو آرائها السياسية أو أسرتها. كانت امرأة طويلة، وهي رشيقة إذ لم يكن بها أوقية من لحم زائد. وشعرها أبيض وعيناها زرقاوان. مع بعض الحمرة في شفتيها ووجنتيها. وقد بدت لجيمي رائعة حين ابتسمت له.
قالت له: «لقد تلقيت اتصالا من الدكتور جرايسون هذا الصباح. حيث اعتقد أنك ستكون نائما ولم يرد أن يوقظك. وأخبرني أنك سترعى الأمور هنا حتى يعود إلينا سيد النحل. لشد ما يؤسفني أنني كنت غائبة أثناء مصابه. كانت شابة من أقاربي بحاجة ماسة إلي؛ فقد وقعت وفاة في أسرتها واضطررت إلى الذهاب إليها.»
قال جيمي: «أعتقد أنني وفرت كل ما احتاج إليه سيد النحل، وأعتقد أنني لم أضع وقتا.»
كان ثمة إيحاء بالحسم في الحركة البسيطة التي مدت بها مارجريت يديها.
قالت بلا مواربة: «ليس لدي شك أن سيد النحل حصل على كل ما يحتاج إليه. لا يوجد على وجه الأرض من يرفض أن يفعل أي شيء يطلبه منه مايكل ورذينجتون. إن قصدي هو أنه اضطر إلى الاستغاثة بغريب، من أجل النجدة التي كنت سأود تقديمها له، بصفتي صديقة قديمة العهد.»
قال جيمي بهدوء: «أدركت مقصدك.» وتابع: «يؤسفني أنك لم تكوني هنا. وأعتقد أنك محقة أنه لا يمكن لأي شخص أن يرفض له أي طلب؛ فها أنا ذا، رغم أنه لا يمكن أن يوجد في الولاية شخص أقل أهلية للقيام بما طلبه مني. لكن لأنه طلب ذلك، فإنني هنا لأحاول.»
عبرت وجه مارجريت كاميرون ابتسامة باهتة. وضاقت عيناها وهما تتابعان خط رؤية امتد في حجرة المعيشة، مرورا بالمطبخ وحجرة الطعام المدمجتين، عابرا الرواق الخلفي خارجا نحو الفراسخ الممتدة بلا عدد للبحر بعيدا؛ البحر الهادئ، المحيط الآمن الذي يبتسم ويستميل ويدعو، ونادرا جدا ما يكشف عن أنياب وفكي الوحش المتربص في أعماقه.
قالت بهدوء: «أعلم ذلك.» وأضافت: «أعلم سبب وجودك هنا، وأستطيع أن أرى أنك لست أهلا للعمل. لقد ذكر لي الدكتور جرايسون أنك بدوت في غاية التعب. لقد اعتقد أنك ربما تكون أحد جنودنا، الذين كانوا في الخارج.»
अज्ञात पृष्ठ