قال جيمي ماكفارلين: «شكرا، لقد تناولت فطوري.» ثم أضاف: «إذا تكرمت بالسماح لي بالركوب معك ما دمت متجها شمالا وغربا، فسوف أصبح ممتنا لك.»
قال رب عائلة برونسون وعائلها: «لا يشغلك البتة كم من الوقت يمكنك الاستمرار في مواصلة رحلتك مع عائلة برونسون.» وتابع: «يمكنك البقاء مثلما شئت. لن أبالي بتاتا إن لبثت طوال الطريق حتى ولاية آيوا!»
وبعد ذلك التقط جيمي الجريدة الصباحية وراح يقرؤها حتى جاءت السيدة برونسون وسوزي إلى الاستقبال، وبالفعل لم تتعرفا عليه، فكان عليه أن يستخدم لكنته المشددة على حرف الراء متحدثا معهما حتى صدقتا أنه المسافر الذي كان معهما الليلة السابقة. اتفق كلاهما تماما مع رأي الزوج والأب. حيث لم تأبها كم سيبقى هذا الرجل معهما في السيارة وهو أيضا لم يأبه. وهكذا قطعوا مسافة طويلة في ذلك اليوم، وتناولوا العشاء على جانب الطريق وقضوا الليل في فندق صغير، ثم شعر جيمي أن الوقت قد حان للاتجاه غربا. كان بإمكانه السفر على مسافات قصيرة. حيث لديه في جيبه ما يكفي من النقود ليتكفل بالطعام والمبيت لعدة أيام، حسبما يظن، ومن ثم، فقد اتجه غربا، أثناء النهار الطويل، المشمس، متقدما على مهل. ثم اكتشف أنه قد توغل بعيدا للغاية في اتجاه الشمال، فعزم على المضي غربا عن طريق الجنوب.
لم يكن لديه رغبة في الذهاب حيث قد تتعذب عظامه المتألمة بفعل البرد. أراد البقاء حيث تظل أشعة الشمس نافذة ودون انقطاع. أخذ يمشي وئيدا ويجلس من حين لآخر، وفي الظهيرة يستريح، وحين شعر أن الوقت قد أوشك للتفكير في الغداء، غط في نوم عميق، في ظل شجرة بلوط حي تخللته خيوط من أشعة الشمس، متوسدا ذراعه على حجر، وحين أيقظه أخيرا مرور قطيع من الماشية، التقط العصا التي كان يحملها وتمطى استعدادا لرحلته. بينما يفعل ذلك شعر بفقدان شيء. استغرقه التفكير مدة دقيقة ليتذكر ماذا قد يكون. لاحظ أن سرواله ليس بالضبط على نفس وضعه الذي كان عليه حين غفا، وعندما تفحص بيديه على جسده وجد جيب سرواله الخلفي خاليا، وكذلك جيب المعطف؛ كما سرق السلاح، أيضا.
عاد جيمي للجلوس على الصخرة، في شبه إعياء من الصدمة وخيبة الأمل، وأخذ ينظر حوله. استطاع أن يرى المحفظة التي استولى عليها ملقاة على الأرض على بعد عدة ياردات فوق جانب الجبل. لم يكن هناك جدوى من إجهاد نفسه بالصعود لتفقدها. فقد كانت مفتوحة وقد سلبت بالطبع، وبذلك عاد مرة أخرى من حيث قد بدأ. كان لا يزال لديه في سرواله القصير من الفكة فئة الخمسة والعشرة سنتات ما يكفيه لآخر اليوم وربما لفطور الصباح التالي، لكن المبيت الذي كادت حاجته إليه أن تكون أشد من الطعام قد ذهب أدراج الرياح في غموض كما جاء.
بدا جيمي أقرب إلى الاسكتلنديين من الأمريكيين في جلوسه عابسا متجهما، على الصخرة. لم يفهم مطلقا أي سبب على وجه التحديد جعله لا يضع المحفظة في جيب صدره ويغلق عليه المعطف. كان قد وجدها في الجيب الخلفي للسروال، حيث يناسبها حجمه، وقد وضعها فيه تلقائيا. وفكر في أنه لو كان قد استخدم عقله، لتوخى الحذر. وفكر، أيضا، في حقيقة فقد قطاع كبير من الناس في العالم لحسهم القديم بالشرف وأن هذه الحقيقة تحمل في طياتها بعض الوجاهة. لم تكن مسألة الشرف قائمة بين المجرمين اللذين انتويا الهجوم على عائلة برونسون. فقد كانا يتحدثان كأنه يجوز لهما شرعا امتلاك أي شيء يخص عائلة برونسون. وتذكر جيمي حقيقة أنه لم يعان من أي تأنيب ضمير إزاء أخذ ما وجده في سروال ذلك المجرم. قضى دقيقة يفكر في الأمر وظل على اقتناعه الراسخ بأنه كان لديه حق مكتسب فيه؛ ولذلك السبب أحس بضيق شديد أنه لم يوله رعاية أفضل. لماذا كان في غاية الإهمال إزاء ما كان سيضمن له الضروريات والضمادات الجديدة التي سيحتاج إليها قريبا، في الوقت الذي كان تأجيره لمكان يبيت فيه هو ما سيقرر إن كان سيعيش أطول قليلا أم يموت سريعا، وربما ميتة مؤلمة جدا؟
بعد برهة هب جيمي واقفا ليستكمل طريقه ويستمر في الاتجاه إلى الجنوب الغربي. ومن ثم تحول الجوع الشديد الذي كان قد أحس به في معدته قبل ساعة إلى غثيان خالص، ولم يكد يبتعد حتى وجد أن العرق البارد راح يسيل من راحتيه، وعلى صدغيه، ومن جسده. لم يرفع نظره إلى السماء حتى ليقرر ما إن كان سيعرب عن رجائه أم لا. إنما سار بأناة تحت أشعة الشمس بقدر ما تيسر له، فقد اعتقد، من تجربته المبيت في الخارج، أنه سيحتاج إلى تخزين كل الدفء الذي يستطيع جمعه.
وفي آخر الأماكن التي استراح فيها أخرج كل الفكة من جيبه وقسمها بعناية. قد يبلغ في مسيره بلدة حيث يستطيع استئجار فراش في فندق رخيص. وسيتعين عليه تقسيم المتبقي بين الغداء والفطور. وبعد ذلك سيصبح تحت رحمة الدنيا مرة أخرى، وقد شعر في تلك اللحظة أن احتمال وقوف الدنيا ضده مساو لوقوفها معه. كان العزاء الوحيد الذي جعله مطمئنا هو أنه إذا نشر المستشفى إعلانا عن هروبه متضمنا أوصافه، فلن يشعر أحد أنه الرجل الذي تنطبق عليه الأوصاف المذكورة حيث إنها قد تغيرت بدرجة كبيرة، والفضل في ذلك يعود إلى قاطع الطريق. وهكذا اتبع جيمي البرنامج الذي وضعه حتى بعد فطور الصباح التالي، وعندئذ، وبينما هو ما زال متجها غربا عن طريق الجنوب، وليس لديه سوى بضعة سنتات متبقية، تعثر في مشيه. فأدرك أنه كاد يبلغ أقصى درجات احتماله. فقد أنهك السير المستمر قدميه وساقيه إلى أن بدأت تتورم حتى ضاق حذاؤه جدا عليها. وتسلطت الشمس بأشعتها على رأسه الذي لم يعتدها حتى شعر بدوار. وأصبحت عيناه متعبتين بشدة حتى كاد أن يصرخ للحصول على نظارة شمس تريحهما، وقد فقد أمس النقود التي كان من الممكن أن يشتريها بها وهو في أمس الحاجة إليها اليوم.
لم تبق لجيمي ذكرى بالغة الوضوح عن الجزء الأكبر من ذلك اليوم. جل ما يتذكره أنه ظل يناوب بين السير إن استطاع وبين الارتماء في أي مكان حيث يستطيع الجلوس أو الاستلقاء حين لا يقوى على الاستمرار. أما كيف وصل إلى الطريق الذي أودى به إلى أحد الوديان فهو لا يدري. فقد واصل السير حتى كاد لا يشعر بأي شيء مما حوله لدرجة عدم إدراكه أن الطريق قد ضاق فصار مسارا للخيل، وأن مسار الخيل قد ضاق فصار مدقا، وأن المدق راح يلتف حول قاعدة أحد جوانب الجبل الذي انشق من أعلاه لأسفله مع الاضطراب الذي أدى إلى نشوء الجبال على وجه الأرض. ومن ثم دار مع منحنى فوجد نفسه فجأة في مواجهة مشهد واسع، وفي الوقت نفسه أدرك أمرين. حيث سمع صوت مياه تغني. صوت مياه تتدفق وتنساب وتتناثر وتضحك وتفعل شتى الأشياء المحبوبة التي تعلم المياه كيف تفعلها حين يتاح لها الانسياب في قاع صخري أسفل أحد الوديان.
وقف جيمي ساكنا ونظر عن يمينه وعن يساره وإلى موضع قدميه. رأى عن يمينه جدرانا متشعبة بدأت بارتفاع عادي ثم ارتفعت لتبلغ آفاقا أعلى وأعلى حتى بلغت مئات الأقدام ثم آلاف الأقدام. صمدت تلك الجدران طوال عصور طوال حتى إن الشقوق والنتوءات امتلأت بأشجار البلوط الحي والبهشية والمريمية، مع نبات اليوكا وزهرة الشمس، ونبات أذن الخنزير بلونه الأزرق في الأخضر. وقد تدلت السراخس قرب الأماكن التي نضحت فيها الجدران الشاهقة بالمياه. وعلى اليسار امتد أمامه المنظر الخلاب نفسه، وعند قدميه امتد مسار واضح المعالم، ممهد في سلاسة، مسار بدا له أنه قد ارتادته أقدام عدد لا حصر لهم من المسافرين، حتى إن عينيه، وإن كانتا متعبتين للغاية، استطاعتا أن تتعرفا على أثر حافر حصان ظن أنه قد يكون حصان حارس المنطقة.
अज्ञात पृष्ठ