جلس جيمي بغتة وأقر بأنه كان مشغولا بسبيل واحد. فقد كان ذاهبا في السبيل المؤدي إلى الموت والزوال حين أقدم على مغامرة الزواج الحمقاء هذه. أما الآن فهو في السبيل المؤدي إلى بيت، وإلى مهمة في الحياة، وإلى الأشياء التي يرغبها كل الرجال حين يكونون عقلاء وأصحاء، لكنه أصبح مقيدا بأشد القيود التي يستطيع القانون تقييده بها بالسجلات الموجودة في مكتب أذون الزواج التابع للبلد الذي يعيش فيه. كان ذلك أمرا آخر يستدعي التفكير. وهكذا مضى جيمي يؤدي مهام مربي النحل، وسيد المنزل، وشريك الكشافة الصغير، بينما ذهنه منشغل بعدة مشكلات ملحة جدا.
الفصل الخامس عشر
حصاد العاصفة
بدأت الأيام تنسل سريعا. وحين أصبح جيمي أكثر دراية بالعمل الذي عليه القيام به وجد أنه كثيرا ما يستطيع أن يرى من تلقاء نفسه أشياء لم يخبره أحد بها، لكنها أشياء زادت نشاط النحل، أشياء أضافت إلى جمال الحديقة، أشياء أدت إلى إنتاج كميات أكبر من مختلف أنواع الخضراوات. كذلك اكتشف أن هناك أكشاك فاكهة وخضراوات في موقع غير بعيد عنه على استعداد لشراء أي شيء لم يمكنه استخدامه هو ومارجريت كاميرون من هذه الأصناف مقابل أسعار مجزية. وبعد ذلك بدأ يملأ سلالا من أجل الكشافة الصغير ليحملها إلى منزله حتى لا تثار تساؤلات بشأن عدم العدالة في التقسيم.
مرت عشرة أيام كان نادرا ما يرى فيها الكشافة الصغير، ثم جاء يوم بهيج إذ جاء الصغير إلى الحديقة صاخبا يتبعه بيل السمين الطيب والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي. فأشاعوا جوا من المرح، وملأت ثرثرتهم الأجواء، وضحك جيمي حتى استلقى على قفاه. حيث كانوا يحتفلون بنهاية الدراسة. فأخذوا يخططون لصيف طويل سيشمل المزيد من الشغب أكثر ربما مما كانوا يملئون به المدة الزمنية نفسها فيما قبل.
وجد جيمي نفسه في غاية الامتنان لوجود الكشافة الصغير في الحديقة. لم يكن حصوله على الكثير من المساعدة المفيدة في رعاية النحل وتقليم الزرع وريه هو السبب الوحيد؛ وإنما لأنه أصبح يحب الصغير حبا جما. ولما ترسخ في نفسه اهتمامه بالطفل أكثر، انتابه القلق وأصبح مشغولا بإحساسه بأن الأمور ليست كما ينبغي لها أن تكون؛ إذ إن قائد الكشافة لم يكن طوله يزيد، ولا يكتسب القوة البدنية التي يفترض أن تؤدي إليها التمارين التي كان جميع فتيان الكشافة يؤدونها. وقد فكر جيمي جديا عدة مرات في زيارة أم قائد الكشافة وسؤالها إن كانت لا ترى أن جين يجهد نفسه للغاية في التمارين، ويرهق ذهنه لأقصى درجة، جاعلا من كل يوم سلسلة من نشاط لا ينتهي. وقد أدرك جيمي من بعض الأخبار هنا وهناك أن الطفل لم يكن ينام جيدا البتة في الليل. إذ كان الكشافة الصغير يتسلل إلى حجرة المعيشة أحيانا ويتمدد في الشرفة، أو إلى حجرة جيمي، وينام بضع ساعات كما قد ينام الموتى، عند نهاية الفراش.
ومع تنامي قوة جيمي، وازدياد سمك الجلد المغطي لصدره وزوال لونه، ومع تحقيق المواظبة على النظام الغذائي الدقيق وحمامات الملح والعلاج بالشمس وعصير الطماطم والبرتقال أهدافها، أصبح ذهن جيمي صافيا بالتناسب مع قوته بدنيا. وجعل ينمو لديه شعور بالقوة، والقدرة على تحمل المسئولية. فكاد يتوقف تماما عن التفكير في نفسه. وأصبح كل تفكيره منصبا على عمله، والكشافة الصغير، ومارجريت كاميرون، ووجد أنه لم تمر ساعة من يومه وإلا وكان ذهنه في صراع يكر فيه ويفر، ويقبل ويدبر، فيما يخص الفتاة التي تزوجها.
ومن ثم تساءل إن كان لا بد أن يبدأ بحثا منظما عنها، وإن كانت ستسر أم تبتعد عنه في غضب، إذا عثر عليها. وتساءل إن كان ثمة مساعدة يستطيع أن يقدمها لها. وتساءل إن كانت ثمة ظروف تشفع لها. لم يستطع جيمي أن يحمل نفسه على رؤية فتاة العاصفة بصفتها فتاة خالفت القوانين؛ قوانين الخالق وقوانين الإنسان.
في تلك الأيام كان لديه قلق دائم بخصوص مارجريت كاميرون. كان قد ألف أن يحترم جارته غاية الاحترام. وكان قد ألف أن يقدر أفعالها الكريمة الطيبة العديدة بالغ التقدير. وقد شعر بأنه لو كان العالم كله مليئا بأمهات مقبلات على البقاء في المنزل، وتحمل واجبات رعاية البيت، والتمسك بالمنطق السليم والآراء السديدة كما فعلت مارجريت كاميرون، لكان هناك المزيد من الفتيان والفتيات المقبلين على البقاء بالمنزل، والمقبلين على البحث عن التسلية فيه بدلا من البحث عنها في الشواطئ والوديان وقاعات الرقص الرخيصة. ثم تصور أن مشكلة مارجريت كاميرون في تلك اللحظة، حسب تخيله، هي أن ابنتها الوحيدة قد غادرت المنزل وستظل بعيدة عنه عن عمد. كانت مارجريت قد أخبرته لتوها ذلك الصباح أن لولي قد حسمت قرارها بالذهاب مع مجموعة من الشباب إلى يوسيميتي وغابات موير. وقد قالت في خطابها إنها ستحاول إن أمكن أن تعود إلى المنزل لقضاء بضعة أيام قبل بدء الدراسة في الخريف، وبذلك كان أمام مارجريت كاميرون صيف طويل موحش، وقد اعترفت لجيمي بأن ثمة قلقا، وخوفا يتملكها حتى إنه يستحيل عليها تماما صرفه.
لذلك كان جيمي حين يفكر في مارجريت، يفكر متعاطفا ومتعجبا، وفي كثير من الأحيان بكثير من السخط. فلم يملك سوى الشعور بأنه ثمة واجب تجاه الآباء والأمهات الذين حافظوا على بيوتهم، وصمدوا في وجه السنوات، وطببوا أبناءهم وتعهدوهم بالرعاية وصلوا من أجلهم، الذين بذلوا أقصى ما في طاقتهم وأحبوا من أعماق قلوبهم، الذين أعطوا بلا مقابل، ومنحوا كل ما يملكونه، لكنهم لم يجنوا من ذلك أي شيء مطلقا فيما يبدو، ولا حتى الامتنان. لم يستطع جيمي تصديق أن الاهتمام الذي كانت مارجريت توليه إياه كان متأثرا بعمق التفاني ومشوبا بنوعية الاهتمام والحب الذي منحته أيا من الثلاثة الصغار الذين أحبتهم وتفانت من أجلهم حتى بلغوا السن التي استطاعوا فيها إعالة أنفسهم. فقد حلت الإجازة. وحان وقت رجوع الأطفال الآخرين إلى منازلهم، لكن لم تكن أي من ابنتي مارجريت كاميرون قادمة؛ لا الفتاة التي أنجبتها، ولا الفتاة التي منحتها المأوى. لماذا لم تأت كلتاهما لقضاء بضعة أسابيع؟ لماذا لم تخططا للحضور واحدة تلو الأخرى بحيث تحظى مارجريت بإجازتها كما سيحظى بها الآخرون؟ لماذا لم تضعا من أجلها بعض الخطط؟ لماذا لم تفعلا شيئا لكسر وتيرة الضجر والتضحيات والعمل الشاق في حياتها؟
अज्ञात पृष्ठ