الواقع أن الأدب المصري من هذا في أشد الحيرة والاضطراب، على أنه لا ينبغي لنا أن نبتئس بهذا ولا أن يشتد ضيقنا به، فإن من الواقع المحسوس أيضا أن أساليب أصحاب البيان جعلت تتقارب رويدا رويدا، كما جعلت منازع تفكيرهم تتصل شيئا فشيئا، ولا شك في أن الفضل في هذا يرجع إلى قوة انتشار الثقافة العامة وتعاظم وسائلها في هذه السنين.
كفاح اللغة العربية في سبيل الحياة والنهوض1
لقد أدال القدر من الدولة العربية، فكان أول ما دهيت به من جلى الأحداث سقوط بغداد في أيدي التتار، ثم طرد العرب من الأندلس، وتشريد من سلم منهم على التقتيل والإحراق، ثم استيلاء الدولة التركية شيئا فشيئا على البلاد التي تتكلم العربية في الشرق والغرب جميعا، خلا مراكش في المغرب الأقصى، وما لا خطر له في هذا الباب إذا كان قد سلم من الفتح التركي بعد ذلك شيء من البلاد.
لست الآن بسبيل سرد الأحداث التاريخية التي صبها القدر على الأقطار العربية والمستعربة، ولا بسبيل طرد تلك الأحداث وتسلسلها، والكشف عن أسبابها وبواعثها، وإنما الذي يعنيني تقريره في هذا المقام أن العربية، بزوال سلطان العرب في كل مكان، لم يبق لها معقل تلوذ به، ولا مدد تسترفده، بل لم يبق لها مجال في مذاهب الحياة، فإن الترك الحاكمين كانوا يفرضون لغتهم فرضا في جميع الأسباب الحكومية، كما كانوا هم وعمالهم لا يتحدثون إلى الأهلين إلا بالتركية، فأصبحت هذه لغة الخاصة أولا كما شاع كثير من صيغها وبخاصة في الشئون الدائرة على ألسنة العامة أيضا ، فشوهت العربية بهذا الخلاط تشويها شديدا.
ولو اقتصر الخطب على حديث الحاكمين وعمالهم لما أعيا على أبناء العربية أثره، ولكن حكم القوم إنما كان قائما على استخراج الأموال للساعة من أي سبيل، واقعا ذلك حيث وقع من أسباب التعمير والتثمير والتحضير، فكان ذلك بالضرورة مدعاة إلى جثوم التجارة وتقلص الصناعة، بل إلى فرار جماعات الزارعين من زراعة أرضيهم، وما لهم لا يفرون بل ما لهم لا يخلعون ملكية الأرض عنهم إذ هي قد أصبحت لا تغل مع الجهد إلا قليلا بالقياس إلى ألوان الجبايات تقتضى عليها اليوم بعد اليوم والساعة بعد الساعة، فإذا عجزوا عن الوفاء وهم لا بد عاجزون، ففي السوط (الكرباج) فضل للإبراء!
أظن أنك بعد هذا في غير حاجة إلى من يقيم لك الدليل من مراجع التاريخ على أن المدارس قد عطلت، وأن دور العلم قد عفيت، وأن الناس قد ارتدوا إلى جهالة عمياء، وانكسروا في وسائل الحياة جميعا على طلب ما يقيم الأود، ويستر الجسد، فإذا بقي بعد ذلك فضل من الجهد، فهو حبس على التحرف عن مواقع سطوة الظالمين! وبحسبي أن أقول لك: إن السلطان سليما لما فتح مصر جمع كل الحذاق في فنون الصناعات المختلفة وحملهم إلى الآستانة ليبنوا له هناك ويعمروا وينجدوا ويزخرفوا، وبهذا قضى على جميع الصناعات البارعة في مصر القضاء الحاسم!
وبعد، فإذا صارت أمة إلى ما صارت إليه مصر بالفتح التركي - قفر وفقر وظلم تغشاه ظلمات ، فلا علم ولا فن ولا تجارة ولا صناعة، ولا أي مظهر من مظاهر الحضارة - ففيم تجري اللغة، وماذا عسى أن تتناول من الأغراض، وعم تترجم من ألوان المعاني؟ اللهم إنه لم يبق بين يديها إلا ما يغني في أدائه أخس العامية ولو شاهت بخلاط هذه التركية!
العربية تنبعث للعلم
لقد ركدت اللغة العربية في مصر إذن وجف عودها، وجعلت تتقلص يوما بعد يوم إلى الغزو الفرنسي، وإلى قيام محمد علي، حتى خيل إلى مترسم التاريخ أنها ماتت موتا لا بعث لها منه إلى غاية الزمان!
ولا يتعاظمنك أنه كان يقوم في مصر في تلك الأيام «أدب» وأنه كان يقوم فيها «أدباء» فلقد كان فضالة الثمرة الجافة، وأثارة البقلة الذابلة، وناهيك بأدب كل همه إلى التحرف لإصابة نكتة بديعية، إذا لم تغن في إسلاسها الحيلة جرت جرا، واستكرهت استكراها، أما دقاق المعاني وأما كرائم الأغراض فمما لا تستحق عند الكاتبين ولا الشاعرين جليلا من الاحتفال والتشمير!
अज्ञात पृष्ठ