عندنا شعراء عظام، وكذلك عندنا كتاب عظام، على أنك حين تبلو آثارهم، وتقلب النظر في ألوان بلاغاتهم، لا تصدق - لولا أنك تعيش فيهم - أنه يجمعهم عصر واحد في أمة واحدة! وليس هذا التبلبل مقصورا على أساليب البيان ونسج الكلام والملاءمة بين الألفاظ، بل ليتعدى هذا إلى الأغراض والمطالب، وطريقة نفض العواطف الباطنة، وبزل النزوات الكامنة.
هذا شاعر فحل لا يرى الشعر يجود، بل لا يرى فيه شعرا ألبتة إلا إذا خرج في كلام جزل، وتحرى الإتيان فيه بغريب اللفظ وشامسه،
2
وحسبه من المطالب الوقوف بالديار، والبكاء على النؤي والأحجار، والتشبيب بهند ودعد، والهتاف برضوى وسلع، وطلع بك على مضارب القباب، وما أجنت من عاتكة والرباب، ووصف لك النياق وما صنع بها الوجيف في الموامي حتى أتت أنقاضا على أنقاض!
وهذا شاعر لا يرى الشعر إلا أن يكون الكلام جزلا سهلا، متين الرصف، متلاحم الأجزاء، مشرق الديباجة، واقعة أغراضه ومعانيه بعد ذلك حيث وقعت!
وهذا شاعر يعتصر ذهنه، ويكد عصبه، في تصيد معنى جديد، والوقوع على تشبيه طريف ... إلخ.
وهذا كاتب أجل همه تجويد العبارة وصقلها، وتلقط ما جالت به أقلام السابقين من الألفاظ المشرقة والجمل النيرة لا يسوقها إلى معان قائمة في نفسه، وإنما يسوقها لنفسها، ولو استكره المعاني عليها استكراها!
وهذا أديب لا يراك حقيقا بالبقاء في هذا العالم إذا زل بك القلم فقلت: «أثر عليه» ولم تقل: «أثر فيه» أو قلت: «الشماعة» ولم تقل: «المشجب» أو قلت: «غير مرة» ولم تقل: «أكثر من مرة» إلخ إلخ - لا يراك كفؤا للحياة بله حمل القلم، ولو لم يتعلق بغبارك في العلم والأدب والبيان أحد!
وهؤلاء كتاب وجلهم من ساداتنا أصحاب التجديد، لا يعجبهم كاتب عربي، ولا فكر شرقي، ولا شيء مما يتصل بأسبابنا باعتبارنا مصريي البيئة، عربيي اللغة، ذلك بأنهم قرأوا شكسبير، وبيرون، وماكولي، ودنتي، وفلانا وفلانا من تلك الأسماء التي تسكبها أقلامهم في آذاننا كل يوم، ولقد يطلعون علينا بألوان من البيان لا ندركها لأنها لا تتصل منا بسبب، ولقد يريدوننا على اتخاذ نماذج لألوان من البيان لا نفهمها ولا نستطيع فهمها ولا تذوقها، فضلا عن أن نصنعها ونجودها، لأن طبيعتنا غير طبيعة أصحابها، وبيئتنا غير بيئتهم ولساننا غير لسانهم ، وكل شيء فينا مغاير لكل شيء فيهم!
وعلى الجملة، فإنك لو تصفحت هذا الأدب المصري القائم، لرأيته موزعا بين حياة في الجزيرة لعصر الجاهلية وصدر الإسلام، وبين حياة في بغداد أو الأندلس، فيما يلي ذلك العصر، وبين حياة في لندن أو برلين أو باريس أو روما أو موسكو، ولكن أين هذا الأديب الذي يعيش في مصر ويصور عواطفه المصرية التي يلهمها ما ينبغي أن يلهم المصري من عواطف وإحساس؟
अज्ञात पृष्ठ