أجبتها بجدية: لا يمكن أن أتصور الوقت رقما ويمضي .. لقد عملت في مصنع ما، وكانت حياتي كلها مرهونة بالوقت .. ثمة ساعة للطعام وأخرى لبدء العمل وغيرها للانتهاء، ووقت للحصول على الأجر، و...
قاطعتني بهدوء: ثم ما تلبث أن تبدأ من جديد دون أن يأبه الوقت بمعاناتك .. هي ذي الحياة يا عزيزي: أن تفعل أي شيء يقتل الوقت. - اسمعي .. لقد قررت أن أعزف عن مجرد التفكير بمعنى هذه الحياة .. يكفي أن أعيشها .. ولكن .. لحظة، أنت لا تعرفين ما معنى الوقت! .. ربما لأنك نأيت بنفسك عن العالم الذي نعرفه، وربما لأن منطق الجزيرة لا يتوافق مع منطق العالم، لا يهم .. إن الوقت أقسى من محض رقم .. هو يشبه زجاجة ماء أخيرة لهائم يمشي في عرض الصحراء .. كلما شرب شربة ينقص الماء ولا سبيل لعودة قطرة واحدة مما يستهلك .. ويراقب الهائم الماء في الزجاجة، هو بذلك يراقب كم بقي عليه ليموت .. هكذا الوقت هارمونيكا .. الساعة تعود إلى نقطة الصفر، ولكنها قبل ذلك تسلب منا يوما من حياتنا نخسره إلى الأبد .. ونحن باستهلاك يوم آخر من حياتنا إنما نقترب يوما من الموت.
لقد كانت طول الوقت تنظر في وأنا أستطرد أكثر في الحديث، وما إن انتهيت حتى أدارت وجهها .. واتضح لي بصورة جيدة أنها لم تتفق مع ما أقوله، وما لم أفهمه هو شرودها في تلك اللحظة. لم أستطع أن أفهم أين ذهبت، وكل ما حدث أنها عادت للعزف مجددا، وراحت ترفع صوتها مغنية: «فأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود.» لقد أربكني تجاهلها، فاصطنعت معركة معها، وقلت منفعلا: لا أنين الناي ولا الموسيقى ولا شيء يبقى يا عزيزتي.
توقفت عن العزف وقالت بهدوء: يبقى الجمال.
وواصلت العزف كأنها تخبرني بأنها لا تريد معارك معي، ولكني لم أسمح بأن نصمت .. أريد أن أمارس أي شيء من حياتي، لا يمكن أن يكون الصمت جزءا من الحياة .. أردت يومها أن أحكي وأمشي ونتسامر ونغني حتى الهزيع الأخير من الليل .. أن نفعل أي شيء.
مضينا ليلتنا ما بين كر وفر كلاميين، لقد جذبتني بأبسط الأشياء .. ليس بغنائها ولا بعزفها وحسب .. كان يكفي أن أنظر إليها وهي تحك ما بين أصابعها المتسخة، لقد فعلتها أكثر من مرة وبمنتهى البساطة .. هارمونيكا لا تعرف أن البشر يرتدون الأحذية، لقد نسيت ذلك، وقد قاست سنين طويلة وهي تنتظر زرياب .. أخبرتني عن الوحدة والانتظار .. إنها تعرف الوحدة بأقسى حالاتها .. ولم تقنط من الانتظار .. إنها تؤمن بأنها تعيش معنى الجمال .. ذاك الذي نصنعه، كما تقول، ثم نجعله يشكلنا كما يشاء، ثم تردف «الجمال عدو المنطق.» أما أنا فبالطبع شعرت بسخافتها .. أجل إنها سخيفة بل سخيفة جدا .. ولكن أيمكن أن أقول لامرأة تعجبني أنها سخيفة؟
على مشارف الصباح سألتها: كيف وصلت إلى هنا؟
فأجابت بأنهما اختارا .. هي تؤمن بأن الإنسان وحده من يختار، وهو حر في ذلك .. هو مجبور بأن يكون حرا في خياراته. هنا أيضا كان علي أن أضحك، وكان عليها أن تدافع عن نفسها من سخريتي وتكرر بوضوح أعلى: بالطبع الإنسان هو من يختار، وهذا مقلق لأمثالك؛ فهو يجعلك مسئولا عن خياراتك في الحياة، وهذا ما يجعلك كثير التفكير قليل الممارسة.
مرة أخرى تزعجني .. ومرة أخرى أتجاهل الأمر، وتركت لها أن تواصل قصتها بعيدا عن فلسفة الاختيار الساذجة، وما إن أنهت بعضا من قصصها فهمت أنها لا تذكر إلا ما يتعلق بزرياب، فهي تعرف أنه تركها تسافر وحدها ليلحق بها بعد يومين، ولكنها لا تعرف كيف سافرت، تعرف لماذا اختارت البحر معه ولكنها لا تعرف كيف وصلت الجزيرة. - وماذا بعد؟
قلت وكلي دهشة مما تتصرف، فأجابت: أنتظره، ليأت. - حتى الآن؟
अज्ञात पृष्ठ