هارمونيكا
شيء أخير قبل الانتحار
حالة سقوط
هوية غريب
جلسة علاج
محاولات للنجاة
تقمص
حلم
جسد ومشنقة
خطايا
شهيد
الرمية الأخيرة
هارمونيكا
شيء أخير قبل الانتحار
حالة سقوط
هوية غريب
جلسة علاج
محاولات للنجاة
تقمص
حلم
جسد ومشنقة
خطايا
شهيد
الرمية الأخيرة
محاولات للنجاة
محاولات للنجاة
تأليف
غسان نداف
إلى أبي الذي يعلمني أن يكون لي وجود ما في الوطن المعاش.
وإلى أمي التي تعلمني بأننا وجدنا لنكتب رسالة ونمضي إلى الوطن المجهول.
إليهما حيث الحياة والموت رحلة واحدة.
فالموت هنا ما هو إلا محاولة لفهم معنى الحياة .. أن نكون.
والنظر إلى ما بعد الحياة .. أن نترك أثرا.
غسان
«خسارة، قلت لنفسي، أن تمر على سطح الأرض، ولا تغير شيئا، أو تترك أثرا، خسارة، يا ابن هذا الإرث العظيم!
خسارة أن تولد وتموت في زمن مهزوم، بوعي مهزوم، وخائف.»
حسين البرغوثي
هارمونيكا
1
كل ما في الأمر أنني أريد أن أحيا ولا شيء آخر .. لقد تعرضت للموت مرتين، مرة شاهدته وفي الأخرى سببته. وفي الحالتين ارتعبت من مجرد التحديق إلى تلك الحقيقة التي أسموها موتا.
دفنت أمي فقتلت قاتلها ثم هربت وعبرت البحر مع المهاجرين فارا من موت محتمل، ثم نجوت من موت آخر عبر رحلتي صوب النجاة، ثم همت في البحر ووصلت إلى هذه الجزيرة، ولم أفهم بعد كيف يمكن لإنسان ما أن يكون ثم يفنى ويزول، وكيف يمكن لإنسان ما أن ينهي حياة أحدهم؟ قد يكون الأمر غريبا بعض الشيء ولكن لا بأس، فالمهم أن أعيش، وليس مهما أن أجد لنفسي تفسيرا ما لأي شيء في حياتي.
قبل الآن عشت وحدي مع أمي؛ فقد مات أبي مذ كنت صغيرا، أما زوجتي فقد هاجرت إلى اليونان وتركتني وحدي مع شقاء أمي، ولكن بعد أن ماتت أو فلأقل: قتلت، وبعد أن قتلت من قتلها، حينها لم أجد أمامي ولو خيطا وحيدا يربطني بالبقاء، وقد كنت طموحا بما فيه الكفاية؛ إذ قررت الرحيل إلى اليونان لألتقي بزوجتي مصادفة وأكون معها، وحينها لا يكفي أن أكون موجودا وحسب، بل علي أن أتناسل في وجودي، وأكبر، وستكون لي عائلة كبيرة ممتدة. «أجل، كنت بهذا القدر من السذاجة».
لم أكن أعرف أنني سأجد نفسي على هذه الجزيرة المجهولة.
إذن فقد نجوت مجددا من الموت، أعرف أني الآن وحيد، وأعرف أن هذا ما لم أرده يوما، ولكن في لحظة الخطر يبقى الهدف الوحيد المنشود في الحياة هو أن أبقى على قيد الحياة، وبالفعل تبدو هذه الجزيرة كافية لأعيش؛ فكل سبل الحياة تتوفر هنا؛ ثمة جذوع مقطوعة من الشجر، وبجانبها سبيكة معدنية حادة قادرة على قطع أي من الجذوع، جذوع مستعدة في أية لحظة لتكون مركبي في أي رحيل قادم .. اقتربت من الجذوع وإذ بي أرى عدة حبات من الفواكه الاستوائية تبشرني بأنني لن أموت جوعا، فثمة الكثير منها. بل أكثر من ذلك، إنها تعترف صراحة أن ثمة بشرا يعيشون هنا يقطعون الجذوع ويقطفون الفواكه.
بعد لحظات من وصولي سمعت صوت عزف يشبه صوت الناي، يدندن على لحن أغنية «أعطني الناي وغن.» وهنا قطع الشك باليقين، لقد سبقني بشر إلى هنا بالفعل .. ابتهجت وأخذت أنادي مغنيا: «فالغنا سر الوجود.» توقف العزف، وناديت بصوت أعلى: «الوجود .. الوجود.»
مرت دقيقة من صمت متوجس، قبل أن تطل علي امرأة ثلاثينية جميلة جدا لولا أن شعرها مقطوع بصورة مريبة، كأنها قطعته بنفس السبيكة التي قطعت بها الجذوع، ترتدي فستانا مزركشا، ولا ترتدي حذاء. تحمل بيدها قطعة من قصب السكر، نحتتها وصنعت منها نايا، أو ما يشبه الناي.
يا إلهي كم تبدو الحياة سهلة! أيعقل أن تكون النجاة بهذه السهولة؟ بالفعل كانت ستكون بهذه السهولة لولا أنها صاحت في وجهي: «ارحل عن جزيرتي.»
2
أيعود ناج من البحر مصادفة إلى البحر الذي شرع بقتله؟ ولست أتساءل عن أي ناج، أتحدث عني أنا الذي أريد النجاة بكل السبل! أيعقل هذا؟ ببساطة لا، لم أعد إلى البحر ولم أعرض نفسي لأية مخاطرة، ولكني وفي الوقت نفسه قد لبيت رغبتها فابتعدت ولم أرحل. شعرت أنني بهذا إنما أنقذ نفسي منها، هي التي قالت إن تلك جزيرتها ولا تريد لأحد أن يشاركها فيها. ولكن أيعقل لامرأة مجنونة حافية ذات شعر مقطوع تعيش وحدها في جزيرة رحبة أن تقتل؟ لا يهمني أن أعرف فلست أريد أن أعرف شيئا.
إني، والحق أقول، أرفض أن أنزلق إلى أية فكرة أو أسئلة قد تقودني يوما ما إلى البحث في معنى الحياة، فمن معرفتي بنفسي قد بدا واضحا أنني أريد أن أحيا وحسب .. علي إذن أن أواصل السير، كما أفعل الآن، على غير هدى.
مشيت في جزيرة لا أعرفها ولا أعرف إن كانت هي نفسها التي وصلتها سابقا أم لا، فلست أرى جذوعا ولا ثمارا ولا صوت ناي، وبعد ساعة من حياتي أنفقتها في المشي وصلت إلى المرأة الثلاثينية مجددا.
بدأ الأمر أنني سمعت صوتها تحكي مع إحداهن، واستطعت أن ألتقط بعض الكلمات قبل أن أصل إليها. كانت تقول لإحداهن أنها تعفنت، وقالت أيضا: «ستزولين ككل باطل زائل .. ولكن ماذا بعد الفناء؟»
ولم أسمع أكثر من ذلك .. وهل كنت بحاجة لأكثر من ذلك حتى أشعر بالريبة والخوف من تلك المرأة الغريبة؟ .. الحقيقة أن المشهد الذي شاهدته لا يقل غرابة عن الصوت. فلم أجد الأخرى التي كانت تحدثها، أما هي فكانت تقف في منطقة مرتفعة إلى الأعلى مني، وإلى الأسفل منها صخرة تحجب عني رؤية التفاصيل، وبجانبها ثمة شجرة باسقة تتدلى من أحد أغصانها ضفيرة صفراء حادة كما الشمس، تمتد الضفيرة إلى الأسفل بحيث تتوارى في نهايتها وراء الصخرة، وتبدو الضفيرة مشدودة إلى الأسفل بحيث ينحني الغصن ولم ينكسر. وبدا واضحا إلى حد اليقين أن تلك الضفيرة كانت منذ أيام قليلة تشكل امتدادا لشعر المرأة المقطوع.
اقتربت خطوة لأفهم إلى أين تمتد الضفيرة، فإذ بي أشتم رائحة نتنة تهبط من الأعلى، وهنا امتزجت الغرائب الثلاثة؛ الصوت والصورة والرائحة، وشكلت في داخلي شعورا واحدا غريبا حفز فضولي لأفهم ما الذي يحدث، فاقتربت أكثر وأنا أهم بالصعود إلى الأعلى، فأسرعت المرأة إلى الصخرة واضعة كفيها على أطرافها وصاحت في وجهي: خطوة أخرى كفيلة بأن أحطمك بدفعة بسيطة من يدي لهذه الصخرة!
تسمرت ولم أجبها بشيء، فرمقتني قليلا وواصلت: أستطيع ذلك .. أجل .. أنا أستطيع أن أدفع الصخرة، ألا تصدق؟
أخذت خطوة إلى الوراء؛ فقد بات واضحا لكم أنني لا أريد أن أموت، وها هي ذي تهددني بحياتي كما فعلت في السابق، إنها ترفضني قولا واحدا كما فعلت في السابق، هي لا ترفضني لشخصي بل ترفض أن يشاركها في الجزيرة أحد، أي أحد. وهي صادقة أشد الصدق في تهديدها لي، وقد بدا ذلك واضحا في وضعية جسدها وملامح عينيها المكتظة بالافتراس، وقد باتت تشبه قطة حشرت في ركن ضيق وتخبئ خلفها صغارها، فيما تحدج المعتدي بنظرة تملؤها الشراسة. أما أنا فلم أعتد على أحد، ولست أعرف إن كانت تخبئ عزيزا كصغار القطة وراءها، وتستعد لأن تقتل لأجله أم أنها محض مجنونة. كل ما أعرفه أنها قطعت بالسبيكة ضفيرتها وعلقتها ولكن ما شأني أنا؟ فلست أطمح بعد الآن أن أعرف أي شيء عنها .. أريد أن أحيا وحسب .. وهي قادرة على قتلي؛ فإن كنت أنا الضعيف والعاجز قد تمكنت ذات لحظة انفعالية بأن أقتل، فكيف بها وهي التي تعرف أكثر من أي أحد في الكون كل شبر من هذه الجزيرة .. حتما تستطيع قتلي. - ما خطبك؟
قالت وهي تحافظ على وضعيتها الهجومية فعدت خطوات أخرى إلى الوراء حتى أصبحت في مأمن من صخرتها، وحينها تملكتني نوبة لا بأس بها من الجسارة، وقلت لها بأنني لم أرحل عن الجزيرة ولن أفعل؛ فليس من حق أحد أن يستولي على ما هو مشاع، أخذت نفسا من الصمت وأردفت: لن أجازف بحياتي مرة أخرى؛ فأنا أرفض الموت .. لن تقتليني، أتسمعين؟ لقد نجوت مرارا من الموت ولن أعطيه فرصة أخرى للتمكن مني .. سأبتعد عنك الآن، ولكن دعيني وشأني.
لم أكن أريد ذلك البتة .. كثيرة هي الأشياء التي لم أكن أريدها، حلمت بأن أصل اليونان بدون شقاء وألتحق بزوجتي، وهناك سنعيش معا، وننجب ما يكفي لأكون ربا لعائلة كبيرة وممتدة. أما إن لم أستطع فكان يكفي أن أمارس وجودي هنا مع امرأة جميلة لولا شعرها المقطوع، ومن يدري فقد يصبح جزءا من جمالها! أما الآن وبعد أن اصطدمت بالخطر في البحر وهنا، فلم يكن مني إلا أن أحتفظ بحياتي وأنجو، ابتعدت وأنا أقول لها: سأرحل بهدوء عن هذه البقعة وأجد لنفسي مكانا آمنا أعيش فيه .. صدقيني لن أزعجك.
ما لبثت أن أدرت ظهري حتى أوقفتني منادية: سآتي معك.
3 «وماذا تفعلين هنا؟» سألتها، فأجابت: «أنتظر زرياب.»
وراحت تعزف كما اعتادت أن تفعل، إنها تجيب ولا تتحدث إلا ما ندر، كان علي أن أجد صياغات مختلفة للأسئلة ذاتها حتى أعرفها جيدا، وقد فعلت.
عرفت أن اسمها هارمونيكا، وهذا ليس اسمها الحقيقي، بل هو الاسم الذي منحه لها زرياب، وهذا أيضا ليس اسمه الحقيقي .. قد أسماها هارمونيكا وأسمى نفسه زرياب .. كانا معا في كلية الفنون، هو مغن وهي عازفة .. ليس ثمة ما هو مثير في قصتها إلا أنها وعندما سألتها عن اسمها الحقيقي، أجابتني: «لا أتذكر». حينها عرفت كم من الوقت انقضى وهي تمكث ها هنا في جزيرة لا يقطن فيها إنس ولا جان.
كان علي أن أعرف المزيد ولكنها لا تجيد الاسترسال، أو هكذا بدت في البداية، لا تجيد إلا العزف .. كانت تعزف عبر ما يشبه الناي، تكرر اللحن نفسه وأحيانا تغني أثناء العزف: «أعطني الناي وغن». ولأعترف أن شيئا ما راقني فيها، ليس الصوت ولا الكلمات، ربما أثارتني الطريقة التي تردد فيها عبارة: «بعد أن يفنى الوجود» .. كانت تكررها باستمرار، وبشعور آخذ في الشرود والحزن أحيانا. كأنها بتلك الغصة في صوتها كانت تريد قول شيء ما، وهي لا تقول إلا عندما تسأل؛ لذا سألتها حول انتظارها البائس: كم مضى من الوقت وأنت هنا؟
أجابت ببرود: لا أتذكر.
من البديهي أن أظن أنها فقدت الذاكرة، لكنها تعرف أن لها عاشقا اسمه الجديد زرياب، وأنها درست الموسيقى والآن تعزف .. إنها تعرف شيئا ما عن ذاكرتها، ترددت قليلا ثم أردفت : إذن فقد انقضى وقت طويل على حياتك هنا. - هكذا يبدو. - ماذا فعلت به؟ - كنت أنتظر ..
هذه المرة لم توجز في الحديث، ربما شعرت بإلحاحي وربما كانت تحب الحديث عن الانتظار، وهذا ما دفعها للإسهاب، فراحت تحكي لي عن انتظارها الطويل لزرياب .. كل تلك السنوات تخطتها في انتظار من لن يأتي .. ذكرتني بلاهتها بمسرحية «في انتظار غودو». تذكرت أن أحدا لن يأتي مهما طال الانتظار .. ألم يأن للبشر أن يمتنعوا عن الانتظار بعد تلك الصفعة التي صق «غودو» بها وجههم؟ أما زال البشر ينتظرون؟ لقد غضبت، إني أعترف، هناك ما يثير الغضب حتى لو عزفت عن معنى الحياة؛ فالأمر مثير للحنق حقا! رفعت صوتي قليلا: وهل يعرف أين أنت؟ وهل تعرفين أنت ذلك؟ وإن كان سيأتي فلم يدعك ترحلين وحدك؟ ويتركك كل تلك السنين تنتظرين! - لا أعرف.
لقد عادت إلى الإجابات القصيرة. يبدو أنها من ذاك النوع من الناس الذين يخشون معرفة الحقيقة، الحقيقة القاسية، تلك الفجة المتجبرة بنا نحن بني البشر .. لقد أخبرتني فيما بعد أنها لا تعرف أين هي، ولا هو يعرف. وألحقتها بكلمتين باردتين: أسئلتك غريبة.
لم يكن مني إلا أن أضحك وبكل ما أوتيت من دهشة، ورفعت صوتي أكثر مع شيء من الضحك: غريبة؟ حسنا، كم تأخر عن موعده، أتعرفين؟ أم هو سؤال غريب آخر؟ - لا أعرف شيئا عن الوقت .. يبدو أنك من أولئك الذين يثيرون الشفقة.
لم أستطع التوقف عن الضحك وسألتها: وهل ثمة من صنف بشري يدعى الصنف المثير للشفقة؟
وواصلت ضحكي فيما رفعت صوتها ليطغو على ضحكتي: أولئك الذين يعلقون حياتهم بمحض رقم جامد، يمشي وتلف عقاربه .. يتصاعد ثم يعود إلى نقطة الصفر .. أربع وعشرون ساعة تسير يومنا، تمشي بنا وتعود وتعيدنا إلى حيث البداية.
أجبتها بجدية: لا يمكن أن أتصور الوقت رقما ويمضي .. لقد عملت في مصنع ما، وكانت حياتي كلها مرهونة بالوقت .. ثمة ساعة للطعام وأخرى لبدء العمل وغيرها للانتهاء، ووقت للحصول على الأجر، و...
قاطعتني بهدوء: ثم ما تلبث أن تبدأ من جديد دون أن يأبه الوقت بمعاناتك .. هي ذي الحياة يا عزيزي: أن تفعل أي شيء يقتل الوقت. - اسمعي .. لقد قررت أن أعزف عن مجرد التفكير بمعنى هذه الحياة .. يكفي أن أعيشها .. ولكن .. لحظة، أنت لا تعرفين ما معنى الوقت! .. ربما لأنك نأيت بنفسك عن العالم الذي نعرفه، وربما لأن منطق الجزيرة لا يتوافق مع منطق العالم، لا يهم .. إن الوقت أقسى من محض رقم .. هو يشبه زجاجة ماء أخيرة لهائم يمشي في عرض الصحراء .. كلما شرب شربة ينقص الماء ولا سبيل لعودة قطرة واحدة مما يستهلك .. ويراقب الهائم الماء في الزجاجة، هو بذلك يراقب كم بقي عليه ليموت .. هكذا الوقت هارمونيكا .. الساعة تعود إلى نقطة الصفر، ولكنها قبل ذلك تسلب منا يوما من حياتنا نخسره إلى الأبد .. ونحن باستهلاك يوم آخر من حياتنا إنما نقترب يوما من الموت.
لقد كانت طول الوقت تنظر في وأنا أستطرد أكثر في الحديث، وما إن انتهيت حتى أدارت وجهها .. واتضح لي بصورة جيدة أنها لم تتفق مع ما أقوله، وما لم أفهمه هو شرودها في تلك اللحظة. لم أستطع أن أفهم أين ذهبت، وكل ما حدث أنها عادت للعزف مجددا، وراحت ترفع صوتها مغنية: «فأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود.» لقد أربكني تجاهلها، فاصطنعت معركة معها، وقلت منفعلا: لا أنين الناي ولا الموسيقى ولا شيء يبقى يا عزيزتي.
توقفت عن العزف وقالت بهدوء: يبقى الجمال.
وواصلت العزف كأنها تخبرني بأنها لا تريد معارك معي، ولكني لم أسمح بأن نصمت .. أريد أن أمارس أي شيء من حياتي، لا يمكن أن يكون الصمت جزءا من الحياة .. أردت يومها أن أحكي وأمشي ونتسامر ونغني حتى الهزيع الأخير من الليل .. أن نفعل أي شيء.
مضينا ليلتنا ما بين كر وفر كلاميين، لقد جذبتني بأبسط الأشياء .. ليس بغنائها ولا بعزفها وحسب .. كان يكفي أن أنظر إليها وهي تحك ما بين أصابعها المتسخة، لقد فعلتها أكثر من مرة وبمنتهى البساطة .. هارمونيكا لا تعرف أن البشر يرتدون الأحذية، لقد نسيت ذلك، وقد قاست سنين طويلة وهي تنتظر زرياب .. أخبرتني عن الوحدة والانتظار .. إنها تعرف الوحدة بأقسى حالاتها .. ولم تقنط من الانتظار .. إنها تؤمن بأنها تعيش معنى الجمال .. ذاك الذي نصنعه، كما تقول، ثم نجعله يشكلنا كما يشاء، ثم تردف «الجمال عدو المنطق.» أما أنا فبالطبع شعرت بسخافتها .. أجل إنها سخيفة بل سخيفة جدا .. ولكن أيمكن أن أقول لامرأة تعجبني أنها سخيفة؟
على مشارف الصباح سألتها: كيف وصلت إلى هنا؟
فأجابت بأنهما اختارا .. هي تؤمن بأن الإنسان وحده من يختار، وهو حر في ذلك .. هو مجبور بأن يكون حرا في خياراته. هنا أيضا كان علي أن أضحك، وكان عليها أن تدافع عن نفسها من سخريتي وتكرر بوضوح أعلى: بالطبع الإنسان هو من يختار، وهذا مقلق لأمثالك؛ فهو يجعلك مسئولا عن خياراتك في الحياة، وهذا ما يجعلك كثير التفكير قليل الممارسة.
مرة أخرى تزعجني .. ومرة أخرى أتجاهل الأمر، وتركت لها أن تواصل قصتها بعيدا عن فلسفة الاختيار الساذجة، وما إن أنهت بعضا من قصصها فهمت أنها لا تذكر إلا ما يتعلق بزرياب، فهي تعرف أنه تركها تسافر وحدها ليلحق بها بعد يومين، ولكنها لا تعرف كيف سافرت، تعرف لماذا اختارت البحر معه ولكنها لا تعرف كيف وصلت الجزيرة. - وماذا بعد؟
قلت وكلي دهشة مما تتصرف، فأجابت: أنتظره، ليأت. - حتى الآن؟
هزت رأسها قبل أن تقول: نحن مجبرون أن نجد شيئا ما ننتظره حتى لا نموت. وكما فهمت فأنت لا تريد الموت.
بات واضحا أن كلانا يريد أن يحيا .. ولكن ما معنى ذلك؟ لقد أخبرتها بأنني كنت أسعى للحاق بزوجتي، وهناك سأمارس وجودي، وهل لهذا معنى أيضا؟ لا أعرف. لا أعرف شيئا .. كان واضحا لكلينا أنني لا أريد إلا أن أتزوج وأتناسل وأظل إلى الأبد موجودا .. قلت لها إن الجمال يفنى .. تجرأت واعترفت بأننا لسنا أحرارا وأن الجمال لا معنى له إن انتهينا.
كل ما في الأمر أنني أردت عائلة فهي الأثر الوحيد المضمون في هذا العالم .. أما هارمونيكا فلم تجبني بشيء .. مجددا تصمت، ترفض شيئا ما مني، لا أعرف ما هو .. ها أنا ذا أعود إلى الأسئلة مجددا .. ولكن لا بأس فقد كان يجب أن أسألها مجددا «ماذا بعد؟» لترد بنفس الإجابة، لأسألها بإلحاح: ولو جاء زرياب مصادفة، ماذا بعد؟ - سأعانقه. - وماذا بعد؟ - نغني معا، فهو يمتلك صوتا جميلا. - وماذا بعد؟ - نجلس على الشاطئ ونحصي النجوم. «يا لسخافتها!» قلت في سري وسألتها بصوت أكثر وضوحا: ماذا بعد؟ - لا شيء! - حسنا .. لا شيء إذن. - أجل. لا شيء.
غضبت وأردفت: حرفيا لا شيء .. أنت وهو ووجودكما والناي والجمال .. فناء .. ليس ثمة ما يبقى بعد الموت! - يبقى الجمال، ألم أخبرك؟
إنها مصرة إذن على هذا النوع الساذج من المثالية. قلت بشيء من الهدوء: كل شيء زائل! .. فما معنى الجمال إن غبنا عنه؟ وما معنى الوجود بأكمله إن غاب من يدركه؟ صدقيني: نحن عابرون رغم كل ما نفعله؛ صراعاتنا، حقائقنا الصغيرة والكبيرة، انتظاراتنا التي تسخر منها، كلها ستهوي إلى عدم لحظة موتنا! - شيء ما يبقى .. وإلا لم نحيا؟
غابت مجددا في عزفها وغبت مجددا وأنا أومن بأن شيئا ما يبقى .. أعرف جيدا أن حياتنا ما هي إلا رحلة من الولادة إلى الموت، وأن وجودنا ما هو إلا محاولة لأن نخلد الطريق والرحلة، لقد ذقت من البؤس أكثر من غيري، ورغم ما عشته من تعاسة وفقدان، إلا أنني ازددت إيمانا بحقيقة بسيطة خاصة بي وهي أن الحياة نفسها هي مشروعي في الحياة، ولكن هارمونيكا لا تفهم .. لا تفهم ولا تريد أن تفهم، وأنا أومن مثلها أن شيئا ما يبقى. نظرت إلى عينيها وهي تعزف، وقلت فيما أنا أنظر إليها: أجل .. شيء ما يبقى.
ابتسمت وواصلت العزف، وهنا تعبت منها، تعبت من تجاهلها عن جهل أم قصد، لست أعرف، فأوضحت: ليس الجمال .. قد يكون الموت هو الحقيقة الأقسى، وأننا بوعينا لحقيقة الموت إنما نعي قسوة الحياة نفسها؛ لذا وجب على البشرية أن تتحايل على الموت.
توقفت عن العزف، فقلت مصارحا: ما الجدوى من الجمال إن كان صاحبه سيموت؟ لمن سيبقى؟ - للبقية من الأحياء، ألا يكفي؟ - لا .. يجب أن يبقى شيء منا أولا.
لقد ضحكت وهي تقول: أسخف فكرة للخلود هي التناسل للوجود.
إذن فهي تفهمني منذ البداية .. ورغم ذلك لم أكتف بهذه الإجابة وطلبت منها أن توضح أكثر، فقالت: إنها فكرة تزدرينا وتستخف بإنسانيتنا .. تجعل منا محض مركب محمل بالجينات .. وفي اللحظة التي تتسرب جيناتنا إلى أولادنا نفقد أنفسنا تماما. - ولكنها قبل ذلك تضمن لنا الاستمرار. - وما الجدوى؟ أي حيوان تافه، يا عزيزي، يستطيع فعل ذلك وبكل تواضع، ولا يضطر لأن يصرع الدنيا أنه تمكن من تمرير جيناته .. أترى كم تزدرينا هذه الفكرة وبكل قبح؟ - ومن قال إن الحقيقة دائما جميلة؟
عادت إلى صمتها، دون أن أفهم هل تتجاهلني، أم تسخر مني، أم أنها تشرد مجددا؟ كل ما أعرفه أنني أحتاجها بقدر ما أحتاج الحياة. ولو أنفقت تلك الساعات في الثرثرة بأمور كهذه فذاك لم يكن إلا محاولة لأن أكون معها.
4
استيقظت ولم تكن .. ناديتها ولم أسمع أيما إجابة، رفعت صوتي مغنيا: «وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود.» لقد ناديتها بكلمات الأغنية كاملة، وأحسست بشيء في داخلي يسخر مني؛ ذاك أنني أرفض هذه الكلمات، ولا تعنيني الأغنية في شيء. يبدو أنني من ذاك النوع الذي يمتلك قدرة مهولة على الإلقاء بأفكاره مهما كانت، ويتبنى أية فكرة تربطه بالمرأة التي يرغب بها ويريد أن يحيا معها.
لم يكن علي إلا أن أمشي وأعود إلى منطقة «الخطر»، تلك التي لا تريدني أن أعرف شيئا عنها، هناك حيث الشجرة والضفيرة والرائحة النتنة، وبالفعل ذهبت ورأيتها دون أن تراني، لقد قطعت بالسبيكة جزءا آخر من شعرها، كانت تبدو كمازوخي يهوى تعذيب نفسه، تقطع من شعرها كمن يقطع من جلده ولحمه .. ثم تنزل وتتوارى خلف الصخرة، وبعد هنيهة تصرخ .. أجل لقد صرخت، وقالت: «لا شعر يكفي!» ثم بكت، وقالت: «الديدان ستجد لنفسها ألف منفذ إلى هذا الجسد البائس.» وما هي إلا لحظات حتى وقفت وراحت تحكي بانفعال عارم كممثل تراجيدي يؤدي مونولوج النهاية: «أنا الآن هنا .. لقد تحدثت مع الغريب .. أعرف أنك ترفضين ذلك. لا لم أطرده، لقد كذبت، لم أكذب، بل طلبت إليه الرحيل في البداية ولم يفعل .. أنا أحتاجه .. تعرفين ذلك حق المعرفة .. وحده من يتيح لي ممارسة وجودي .. أما أنت؟ أنت الآن لا شيء .. فناء ثم لا شيء .. لقد انتهيت تماما، أتعرفين؟ قبل كل شيء قد انتهيت .. زرياب أنهى حياتك منذ زمن طويل .. تعفنت وأنت تنتظرين من لن يأتي .. والآن ماذا؟ أنا هنا وأنت لا شيء .. من منا يستطيع الاستمرار؟ قد يأتي الغريب ويتعثر بجثتك ولكن ما معنى ذلك؟ هل يعني موت كلينا؟ أم موت واحدة وحياة الأخرى؟ .. حتى الآن، أنا الباقية .. ككل شيء، كفكرة الغريب عن الجينات .. البقاء للأصلح .. للفكرة الأفضل .. للأقوى .. اختاري ما تشائين، لا يهم، وإن كان لكل هذا معنى فهو أن من حقي أن أختار حياتي وأستمر فيها كما أشاء الآن وهنا.»
انتهت من حديثها وانطفأت حرقتها شيئا ما مع المحافظة على شيء من الغضب، ثم قفزت لتنزل من الأعلى إلى الأسفل، تعثرت بحجر صغير جدا، وكادت تقع لولا أنها تمالكت نفسها في آخر لحظة، لقد نظرنا معا إلى قدمها، كانت تقف على رءوس أصابع قدم واحدة .. كلانا استغرب الأمر .. وبعد هنيهة واصلت نزولها برقصة ملفتة، والتقت بي في الأسفل، وهذا ما أحيا غضبها مجددا. - ماذا تفعل؟
لقد اشتعل عدد مهول من الأسئلة في رأسي، ولم أعرف من أين أبدأ، إلى أن سألتها في نهاية الأمر: لم تقطعين شعرك بهذا الشكل؟
أجابت بحسم: لا شأن لك.
ولم تطلب إلي الرحيل بل وقفت صامتة، ولأول مرة يكون الصمت بهذا الثقل، لقد كان صمتا طاغيا وكثيفا كالوحل، إنها لا تخفي سرا، بل حياة كاملة لا أحد يعرف عنها شيئا .. لم أعتد الإلحاح ولكن صمتها يلح على فضولي .. ربما ليس الفضول .. ثمة ما هو أبعد من ذلك، قد تكون الرغبة، بادئ الأمر كانت محض رغبة بالبقاء وعدم الموت .. رغبة بالتناسل .. أما الآن فهي رغبة جامحة بالدخول إلى عالمها .. لقد سألتها عن شعرها مجددا وحياتها، وعن الجثة التي كانت تحدثها في الأعلى، وبقيت أسأل وهي لا تجيب إلى أن انفجرت: لا شأن لأحد في حياتي .. لقد أنهى حياتي، أتعرف؟ زرياب .. أجل زرياب أخفى ملامحي وحياتي وأنا أبهت يوما بعد يوم .. أنا لا أذكر اسمي، أتعرف؟ لا أعرف شيئا عني .. أعرف أن أبي لم يكن يحبني وأن أمي امرأة مسكينة ولا شيء آخر .. أما الآن ومنذ أقل من دقيقة فقط، فأتذكر أنني ..
تنهدت ثم قالت بهدوء: أنا لست عازفة .. لقد دخلت قسم الرقص .. زرياب من أرادني موسيقية.
أخذنا جولة أخرى من الصمت قبل أن تقول ببرود وهدوء مفاجئين: لا أحب العزف يا رجل! .. أتعرف؟ زرياب لا يستطيع العزف .. وصوته قبيح أيضا .. نعم صحيح .. صوته نشاز .. أجل أجل نشاز .. أيستحق رجل بصوت بشع ونشاز أن أنتظره كل ذلك الوقت؟
قلت محاولا إخفاء ضحكتي: أريد أن أضحك، ولكني خائف .. أيغضبك لو ضحكت؟
هي من ضحكت لحظتها، وهنا تيقنت من أنها ليست سوية العقل .. «فليكن، وماذا يضير؟ المجانين والفئران والبشر يتناسلون».
انتهت من الضحك لتبدأ بالرقص وحدها، «ألم أقل إنها مجنونة؟» رقصت، هكذا، فجأة .. وليس هذا وحسب، بل جذبتني من يدي وراقصتني .. أنا لا أعرف الرقص ولكني راقصتها .. وما هي لحظات من رقص لا معنى له حتى بدأت تغني وهي تراقصني .. لقد غنت مقاطع من جدارية محمود درويش، وشاركتها الغناء، وكررنا هذا المقطع مرارا: «هزمتك هزمتك ..
هزمتك يا موت الفنون جميعها ..
هزمتك وانتصرت وأفلت من كمائنك الخلود
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد ..
وأنا أريد .. أريد أن أحيا.»
لقد رفعت صوتي معها مغنيا: «أريد أن أحيا.» وتوقفنا لحظتها عن الرقص بشفاه قريبة جدا، فحاولت تقبيلها. أبعدتني، فقلت: «لم أقصد». ردت بسخرية: «عفوا؟» هنا كان يجب أن أغير الموضوع، وأقول: كليشيه .. أقصد أن نغني ونرقص على هذا المقطع في مكان كهذا، كليشيه، ولكنه غير مزعج فهو يناسب الحالة.
ردت بجدية: متى ستفهمون يا معشر الرجال، أن الرقص ليس تأشيرة دخول للجنس؟
لا أعرف من أين أتتني الجسارة وسألتها: لم لا؟
السؤال الصريح ساعدها كثيرا لتجيب بوضوح: لأني لست مركبا لجيناتك .. أنت تريد الاستمرار وحسب! - وأنت؟ - أريد أن أمارس وجودي وحسب.
ضحكت وأنا أقول: هذه عبارتي أنا .. قلتها لك سابقا أليس كذلك؟ - لا تقلها .. بل مارسها .. دعنا نمارسها معا دون ممارسة للجنس، أيمكن ذلك؟
اتضح أن كلانا اتفق ضمنا على الحديث بهذا الأمر وبمنتهى الصراحة، وغدا واضحا مدى حاجتي إليها .. لشخصها ولرحمها .. من المؤرق أن تعطيني الجزيرة أملا بالنجاة ولا أجد فيها أي سبيل للاستمرار .. لقد حدثتها عن أمي وعن حلمي بالعائلة الكبيرة الممتدة .. حدثتها عن الخوف والعجز السابق في الإنجاب.
لم أتمكن يوما من الإنجاب .. الخوف يمنع أي إنسان من فعل هذا .. الخوف .. ذاك الشعور اللعين الذي يجعل مني عاجزا عن أبسط الأمور .. رفضتني زوجتي وهاجرت إلى اليونان .. بقيت وحدي مع أمي، ولم تكبر العائلة بل نقصت زوجتي قبل أن أخسر أمي أيضا .. كان يجب أن أهاجر إليها، هناك، حيث الأمل في مستقبل أكثر وضوحا وأقل خوفا .. لقد عشت الخوف بكل حالته .. قاسيت في المصنع وفي الفقر والفقدان، لقد مارست القتل والدفن والهرب .. ولم أمارس يوما الحياة بمعناها البسيط والهادئ .. أخبرتها بكل هذا وحدثتها أنني أشبهها بطريقة أو بأخرى، فهي تنتظر من لن يأتي، وأنا ذاهب إلى من لا ينتظرني .. زوجتي هربت ولا تنتظرني .. وعندما قررت الذهاب إليها لم أكن أعرف إن كنت سألتقيها أم لا، وإن التقينا فلست أعرف إن كنا سنكون معا أم أننا سنفترق بشكل أكثر وضوحا وحسما .. ولكن كان يجب أن أفعل شيئا. كنت بحاجة لأن أتحرك متجاوزا ما كنت فيه من سكون.
ورغم كل ما قلت، فقد رفضتني مجددا، ولكن رفضها هذه المرة كان حزينا .. لقد قالت إنها لا تريد أحدا .. لقد أقسمت لي أنها موجودة، دون أن أفهم، وأن الموجود بالضرورة حر .. وهذا ما يقلقها: يؤرقها التفكير بوجودها، وحريتها كشخص موجود، ومعنى حياتها الذي تصنعه عبر الحياة. «أجل، إنها ترهق نفسها بترهات كثيرة من هذا القبيل.»
وأنا أيضا بت أشعر بامتعاض شديد ثم قلت وفي داخلي توسل أرعن: «لا يكفي أن أكون وحدي لأكون قبيلة.»
وقد انتقيت هذه الكلمات تحديدا من نفس القصيدة كي أجد جسرا للتواصل بيننا؛ فإن كانت ترفضني لشخصي فقد تتقبلني لاقتباسي من قصيدة استخدمتها آنفا وتحبها. ولكنها ترفض الفكرة ولا ترفضني لشخصي، فقد قالت: القبيلة لا تعني لي شيئا، ولا المجتمع، ولا الخلود .. أريد أن أكون .. وأيضا أريدك جانبي، فلا تتخل عني .. ولكن أرجوك توقف عن محاولاتك بالتقرب من جسدي. - سأنسحب من كل المحاولات، ولكن ألا تظنين بأن الحرية التي تحدثت عنها قادرة لوحدها أن تلغي مجتمعا كاملا محتملا على هذه الجزيرة ويحق له أن يوجد؟ - أرأيت كم هو قاس أن يعي الإنسان لوجوده؟ لو كنت أرنبا لتناسلت دون أن تعي .. المأزق الإنساني بدأ من لحظة إدراكنا لوجودنا.
ابتعدت وهي تقول: سأفكر بذاكرتي .. فقد أستطيع البدء من هناك.
وبالفعل، راحت تسترجع ذاكرتها في محاولة لأن تكون موجودة، دون أدري ما الذي يدفعها لتثبت بل وتقسم أنها موجودة .. بدأت تحصي الضفائر لتحصي سنوات حياته على الجزيرة، وصمتت طويلا وهي تفكر محاولة لتعرف شيئا عن ذاكرتها، اسمها، عائلتها، أبيها، وكل ما يتعلق بماضيها.
لقد توقفت عن انتظار زرياب، وراحت تنقب في ذاكرتها لتبدأ حياتها، أما أنا فقد بدأت أنتظر بجدية سفينة متجهة إلى اليونان .. وهنا سألتني: «أحقا تنتظر السفينة؟» فقلت: «سفينة متجهة إلى اليونان.» ضحكت قبل أن أردف: «نحن مجبرون أن نجد شيئا ما ننتظره حتى لا نموت، أليس كذلك؟»
ربما كان كلانا يسخر من نفسه، ولكن لا بأس .. ففي لحظة كتلك، أن يلتقي مجنونان سيموتان يوما ما، فليس أمامهما إلا البحث عن دوافع لوجودهما .. استسلمت لهذه الحقيقة المرفوضة بالنسبة لي، ولم أتوقع يوما بأنني سأتصالح معها. لقد كررت هارمونيكا عبارتها حول الانتظار، ولكنها هذه المرة أردفت معترفة: «إن وجودي هنا لم يكن إلا مقاومة مستمرة لفكرة الانتحار.»
5
لقد انتحرت هارمونيكا.
قالت لي يوما إن الانتحار خيار أكثر سخافة من الحياة نفسها، وإن الحياة برمتها ما هي إلا تحد لفكرة الموت، ورغم هذا فقد انتحرت.
بدأ الأمر عندما أضعتها مجددا، فذهبت إلى الشجرة والضفيرة، صعدت إلى الأعلى، لفتني كم هي طويلة ضفيرتها ومع كل جدلة في شعرها كان هناك حياة لها على هذه الجزيرة .. ذهبت بنظري إلى آخر الضفيرة وراء الصخرة فصدمني أنها صنعت من الضفيرة حبل مشنقة وكان ملتفا حول عنق امرأة بلا ملامح واضحة، ولكني افترضت ضمنا أنها جثة هارمونيكا.
اهتزت ركبتاي وسقطت إلى الجثة ذات الرائحة النتنة، ولم أستطع أن أحتمل فكرة أن أكون أنا قد تمكنت من القتل ذات جنون وهي قد استطاعت أن تقتل نفسها ذات فاجعة .. لم أكن أعرف إن كان الحزن الذي شعرته هو حزن على فقدان من لم أعرفه جيدا، أم هو حزن على مستقبل فارغ في جزيرة فارغة، أم هو تعاطف فطري، أم هو رفض لفكرة أن ينهي أحد حياته .. أم هو حزن من نوع آخر.
لا يهم .. أما المهم فهو أن هارمونيكا جاءت ورأتني أمام الجثة .. «الأمر جنوني أليس كذلك؟» ربما .. ولكن هذا ما حدث .. لقد جاءت من وراء ظهري وهي تقول بشرود: كنت أعرف أنك ستأتي يوما ما إلى الجثة.
في لحظة كهذه لا يجدر بي إلا أن أشك في نفسي، وأفكر: هل تهيأ لي أني رأيت جثتها منذ هنيهة، أم يتهيأ لي أني أراها الآن أمامي .. ولم يكن مني إلا أن نظرت إلى كليهما مشدوها. وبعد برهة قالت: لست أذكر من منا الذي قال إن الحياة في الجزيرة لا تتبع لمنطق العالم.
قلت متوجسا: الموت حقيقة وليس بمنطق! - الموت ربما، قد يكون حقيقة، ولكن لا حقيقة محتومة لما بعد الموت.
اقتربت من هارمونيكا، وقصدت ألا أنظر إلى الوراء، وقلت بانفعال: لحظة .. أخبريني .. من هذه الراقدة في الحفرة؟
كانت واقفة أمامي، أقول الحق، رأيتها جيدا، لمستها، وجدتها بالفعل، وكانت حزينة جدا، بائسة، كانت تمتلك من الوجع ما لم أختبره في حياتي، مشت صوب الحفرة، تعثرت بحجر آخر ولم تقع، إنها تتعثر أيضا كسائر البشر الموجودين في العالم، وتمشي تماما مثلنا، وكأي بشري وقفت أعلى الحفرة وقالت: تعبت من الانتظار .. أو تعبت .. الأجدر أن أقول تعبنا أليس كذلك؟
انفجرت منفعلا: قولي أي شيء!
وهنا أخذت نفسا واسترسلت: انتظرت زرياب لوقت طويل لا أذكره .. تعبت من انتظاره لدرجة أنني تمنيت أن يكون قد مات غرقا في البحر على أن يتركني في تلك الحالة المريبة من الانتظار البائس .. أتعرف تلك اللحظة التي يتحول فيها كل شيء في حياتك إلى عبث؟ عبث وأسئلة، لا أعرف شيئا من حولي .. لم أعد متأكدة من أي شيء في حياتي .. انتظار وحسب .. حياتي هنا لم تكن إلا محاولة يومية للتأكيد على وجودي، أقول الصدق رغم ما في العبارة من تناقض ظاهري مع مقاومتي لفكرة الانتحار .. عبثت بالماء وعجنته بالتراب حتى صار طينا .. وضعت الطين أرضا وجربت أن أترك أثرا على الصخرة .. يا الله كم كنت ضعيفة! أبحث عن وجودي في الطين وعن المعنى في عبث الجزيرة! .. لقد حفرت هذه الحفرة .. إني أصنع شيئا ما .. لقد نزفت دما ولمسته بيدي .. ضربت كف يدي بالصخرة وطبعت أثر يدي هناك .. قد رأيت الطين والدم وكل آثاري ولم أتيقن بعد من وجودي.
شعرت ببدني يقشعر، وجسدي ينقبض على نفسه، لساني أصبح ثقيلا ولم أتمكن من إيقاف الرجفة في شفتي، وشعرت بنفسي أهذي وأنا أقول: لست أفهم أي شيء .. معدتي تؤلمني .. أمعائي ..
قاطعتني منفجرة: تنقبض وتكاد تتمزق، والقلب ينبض بسرعة، الجسد يوهن والنفس ثقيل، وشيء ما صلب داخل الصدر يضرب في قلبك .. أنا أيضا أصابني كل هذا قبل أن أقطع الضفائر وأقف محتارة: أأستخدمها لصناعة قارب من الجذوع وأرحل عبره إلى أي مجهول آخر؟ أم أصنع منها حبل مشنقة وأتخذ آخر قرار بحياتي أن أنهي حياتي .. ولم يكن مني إلا أن انتحرت.
صمتنا مجددا، هي لا ترغب بالحديث وأنا عاجز عن أي شيء .. مجددا أشعر بالعجز.
راحت تسكب الماء على الجثة؛ كي لا تتعفن، وأخبرتني أنها ما إن انتحرت حتى استيقظت لترى جثتها أمامها، ولم تستطع دفنها .. أي فعل كانت ستفعله كان سيهدد وجودها .. شيء ما فيها يستمر .. ثمة ما يبقى بعد الموت .. ليس المهم أن يكون حقيقيا أم وهما .. أيمكن أن نكون نحن أنفسنا الأثر الذي نتركه؟ لقد قلت إن الموت حقيقة والانتحار ممارسة للحقيقة .. وقد قالت بأن لا شيء في حياتها هنا كان يقينيا .. الموت هو اليقين الوحيد .. أما وجودها فقد بقي .. ذاك الوجود الذي شكت في كل تفاصيله .. بقي بعد الموت، وبقيت شكوكها حوله .. طلبت الحديث معي، وأصرت على بقائي هنا، تلك هي الممارسة الوحيدة الممكنة للوجود .. وفي هذه اللحظة شعرت بخوف مريب، فربما لا يوجد منطق هنا، ولأتفق ضمنا بأنه «لم يمت أحد تماما.» ولكن هناك شيء مرعب لشخص مثلي يريد أن يكون .. ربما الوجود نفسه هنا مغاير أو غائب .. قد تكون حاجتي الملحة لشريك يقاسمني المستقبل والتناسل هي من دفعتني لأن أتخيل هارمونيكا. ربما تكون هذه المرأة الغريبة ما هي إلا وحي من الرغبة. وربما لم تنتحر بل جاءت فالتقت مصادفة بجثة وتخيلت أن نهاية الطريق هنا هي الانتحار فعلقت هناك. لا شيء يقيني.
تملكني الخوف حقا، تجاهلتها تماما، أحضرت الجذوع التي كانت ستكون سبيلي للنجاة وصنعت منها تابوتا، وضعته فوق الجثة .. لأقل جثة الغريبة ولو بشكل مبدئي .. وظل الخوف مسيطرا .. فلم يكن مني إلا أن حدثتها وأنا أصنع التابوت دون أن أنظر: هارمونيكا .. أنت هنا؟ .. أريد أن أراك .. سأنتهي حالا من التابوت وأرفع عيني وسأراك، أليس كذلك؟ يجب أن أتأكد من أني لم أزل أستطيع رؤيتك .. يقال إن كل ما هو متخيل يظهر في لحظة العجز عن التفسير، أما الآن وبعد أن فهمت فلا يجدر بأي متخيل أن يظهر .. يجب أن أراك لأتأكد أنا الآخر من وجودي .. أنت هنا أليس كذلك؟
ولم أجسر أن أرفع عيني لأرى .. ولم أنظر إلا عندما سمعتها تعزف .. لقد عادت للعزف بمحض إرادتها.
كانت في الأسفل، حيث بدأت حكايتنا؛ أنا من هناك وهي من هنا، أما الآن فهي في الأسفل وأنا في الأعلى، وما هي لحظات حتى مرت سفينة من جانب الجزيرة التفت إلى هارمونيكا وقلت: تلك سفينة ذاهبة إلى اليونان.
توقفت عن العزف نهائيا، أما أنا فقلت العبارة ولم أتحرك.
شيء أخير قبل الانتحار
يبدو أن الطقس جميل جدا هذا الصباح، قد يكون أنسب صباح للانتحار، ولكن ربما علي أن أفعل شيئا ذا أهمية بقدر الانتحار، شيئا جديرا بخسارته عند الموت؛ فليس في حياتي قط ما يستحق الموت كما أنها ليست جديرة بأن تعاش.
سأزور أبي أولا، أتشاجر معه، ترتفع أصواتنا ثم يسب الساعة التي أنجبني فيها، وبالطبع سيشتم أمي العجوز المسكينة التي تزوج عليها لأنها لم تنجب غيري، أو كما يقول لها في كل عراك: «لم تنجبي لي غير هذا الأخرق.» على كل حال سيكون الأمر مسليا.
بعد ذلك سأتجه إلى أمي لأشحن مشاعري بشيء من الدراما والبكاء، وأنهي يومي بزيارة لحبيبتي وفاء، تلك التي تركتها تبكي قبل ثلاث سنوات، وسوف أقبلها بشبق ولكن لن أنام معها مهما فعلت. •••
وصلت صباحا إلى بيت أبي ولم أجد غير زوجته الثانية، وكانت ترتدي الأسود، وتضع قليلا من الكحل على عينيها، سألتها عنه فأجابت والبكاء يجرح صوتها: لقد مات ليلة أمس، وهم الآن يستعدون لجلب جثمانه من غرفة تغسيل الموتى. - اليوم يموت؟ ألم يكن بإمكانه أن يؤجل الأمر ليوم آخر؟ - بل مات في الأمس .. اذهب إلى المستشفى فهم يحتاجون رجلا من العائلة ليقوم ..
قاطعتها بهدوء: لا داعي لذلك، سأزور أمي. •••
ذهبت إلى مأوى العجزة، وهناك قابلت موظفة غريبة الأطوار، بقيت وقتا تتأمل في ملامح وجهي وبالمثل فعلت، نظرت فنظرت، تأملت وجهي فتأملت وجهها، اقتربت خطوة فاقتربت مثلها، إلى أن سئمت من نظراتها الطويلة، وقلت: هل ثمة من ملامح محددة لمن يحق لهم مقابلة أمهاتهم في هذا المأوى؟
ردت متلعثمة: لا تؤاخذني وإنما أستغرب؛ كوني لم أكن أعلم أن لأم وليد أولادا .. كنت أظن أن ابنها التي صدعت رأسنا به هو محض عرض من أعراض «الزهايمر». - لا داعي للارتباك؛ فأم وليد لديها ولد واسمه وليد .. يبدو هذا غريبا . - وهل أنت وليد؟ - تخيلي!
ودون أن تنبس ببنت شفة اصطحبتني إلى أمي، وخرجت.
كانت تقف هناك أمام النافذة وتنظر إلى الباب الرئيسي كأنها تنتظر أحدا ما، ناديت: أمي؟
التفتت ولم تجب. - هل تنتظرين أحدا ما؟
ردت بغضب: أنتظر عزرائيل، ألديك مانع؟ - لن يأتي اليوم .. جئت لزيارتك عوضا عنه. - ومن تكون أنت؟ - أنا وليد. - لا أعرف أحدا بهذا الاسم.
وعادت إلى انتظارها أمام النافذة، كأنها تريد انتظاري ولا تريدني .. حاولت عبثا أن ألفت نظرها إلي، أن أفعل أي شيء؛ فالنهار يمضي، حتى إنني مارست إلحاحا لم أعتده، فالتفتت إلي منفجرة: ارحل من هنا فقد مات ابني الوحيد، وأنا أنتظر عزرائيل ليأخذني إليه .. اشتقت إليه كثيرا .. أنت لا تعرف ابني فهو شاب نبيل لم يلق بي هنا كما تتخيل في قرارة نفسك، بل تركني أنتظره ريثما يعود وقد مات في طريق عودته إلي .. العودة دائما صعبة .. أخبرته بذلك ولكنه ..
توقفت برهة عن الكلام ثم صرخت: لماذا أتعب نفسي في الحديث معك؟ .. لا يمكن لك أن تفهم .. قلت لك انصرف .. هيا انصرف. •••
اليوم ينقضي بسرعة ولم أجد بعد ما يستحق الموت .. يبدو أن الموت من أجل شيء ليس بالأمر السهل، ولكنه في جميع الأحوال أقل تعقيدا من الحياة من أجل شيء.
أما الآن فلم يعد أمامي إلا وفاء، هي الأقدر على إعطاء الحياة قيمة تستحق بجدارة أن أخسرها .. فهي فتاة شاعرية جدا، بالتأكيد ستصرخ في وجهي ثم تشتمني وربما تصفعني كنوع من المبالغة التي اكتسبتها من الأفلام، وبعد ذلك سألاطفها قليلا وقد تحن لشيء ما معي، أي شيء .. ولكن الغريب في الأمر أنها لم تبال قط حينما رأتني، بل قالت بهدوء شديد: تخيل أن صديقك المقرب قد تذكرك اليوم بجملة عابرة، ربما يستطيع رؤيتك .. اصعد إليه إن أردت. - وما أدراك أنه لم يزل يتذكرني؟ - خرجت توا من بيته وقد مرت عبارة ما متعلقة بك .. هكذا أذكر. - وماذا فعلتما؟
ضحكت بسخرية وهي تقول: أشياء كثيرة ولكننا بالطبع لم نكن نصلي.
وذهبت كأن الأمر لا يعنيها. •••
أوشك اليوم على الانتهاء ولم أجد ما أفعله، ككل يوم .. كل يوم يمضي ولا أفعل شيئا .. يبدو أنني نسيت كيف يعيش الناس، وماذا يفعلون في يومهم العادي؟
عدت إلى سطوح بنايتي، وقفت طويلا على الحافة، الحق أنني لم أجد طريقة أخرى للانتحار؛ فأنا لا أعرف أيضا كيف يموت الناس! نظرت إلى نوافذ البناية وكانت مشرعة وفيها ضوء ما، فكرت أنني لو قفزت الآن لسوف ألمح حياة الآخرين الذين يتمسكون بتفاصيلها الصغيرة، أما أنا فلست أمتلك أي تفصيل جدير بخسارته.
موتي سيكون مجرد «لا شيء» في ذاكرة أي شخص، كما أن الطقس قد بدأ يختلف، لم يعد رائقا .. يبدو أنه لم يعد مناسبا للانتحار أو هكذا أخدع نفسي.
في الغد سوف أنتحر ولكن قبل ذلك سأفعل أي شيء، سأجعل لي ذاكرة ما عند أحدهم؛ فالحياة تصبح جديرة بالموت عندما أدرك أنها جديرة بالحياة. •••
يبدو أن الطقس جميل جدا هذا الصباح، قد يكون أنسب صباح للانتحار .. الآن وبعد خمس سنوات على تلك المحاولة الأولى، حتما، سأفعل شيئا ذا أهمية بقدر الانتحار.
حالة سقوط
شيء ما يسقط، وأشياء كثيرة قيد السقوط .. هكذا بدأ الأمر قبل أن يصير حالة من السقوط. تلك حقيقة لا يعتقد بها إلا المجانين، وقد أصبحت مؤخرا واحدا منهم.
البداية كانت في البحث عن الحقيقة، كنت واحدا من فرقة مسرح تحضر لعرضها الجديد، وكنا جميعا نبحث في عروضنا عن الحقيقة، تلك التي نؤمن بغيابها بشكلها الكامل، وإنما نسعى نحوها ونخوض الرحلة، قد يكون المسرح بهذا المعنى ما هو إلا رحلة إلى الأبد، ومع هذا علينا كممثلين أن نعثر على حقيقة ما ونصدقها كي يصدقنا الجمهور، وهذا لن يحدث إلا إذا صدقنا نحن أولا، وكيف أصدق ما لا أعرفه؟
لست أعرف إلا عبارات مرصوصة في نص يحتاج لتجسيد، وقد كان علي أن أبحث عن الجسد الحقيقي للنص؛ إذ تكون الحقيقة مجسدة، ولكن قبل أن أذهب إلى هناك حيث الشخصية الحقيقية أي التجسيد، علي أن أحصن نفسي تماما، حتما إنكم سمعتم عن ممثل ما يتورط بالشخصية. والشخصية هنا بأبسط كلمة هي شخصية مجنون، وهل ثمة من تجسيد آمن لشخصية مجنونة؟ لا أعرف؛ ولذا وجب التحصين.
إذن فقد قررت الذهاب إلى مصحة للأمراض العقلية والنفسية، وهناك التقيت بمديرة المصحة «السيدة رضوى»، وقد استقبلتني ببساطة وهدوء تشوبهما ابتسامة عريضة تبدو حقيقية تماما، ولكني لم أصدقها؛ فقد كانت طويلة جدا، امتدت على مدى المحادثة، أقلت محادثة؟ لا ليست كذلك، فوحدي من كان يتحدث.
أخبرتها عن مشروعي المسرحي، وطبيعة الشخصية التي سأجسدها، لم أقل لها تجسيدا وحسب، بل عدت وزدت في هذا الأمر، ربما لأني أحب أن أستخدم مصطلحات أخرى ولم أعترف لنفسي بذلك حينها، بل قلت في نفسي: «سأكرر كي تفهمني بشكل أوضح.» فقلت مثلا: «أعايشها»، ثم قلت «أمثلها»، وكررت «ألعبها.» أما السيدة فلا شيء؛ فقد اختفت البسمة عن شفتيها فجأة. قلت بأبسط عبارة: «أريد مقابلة أحد يعاني من تهيؤات.» وواصلت الصمت، وبعد لحظة حكت حاجبها من أعلى عويناتها، ثم عطست ولا شيء آخر، بل استمر صمتها.
كان يجب أن أشغل نفسي بأي شيء يخفي ذاك التوتر الغريب الذي سببه لي صمتها، وكوني ممثلا فلم أجد غير التأمل في طبيعة شخصيتها، وحركاتها عساني أجد فيها ما هو مجد للنص، جذبتني العطسة مثلا، إنها تعطس دون أن تعتذر أو تضحك حتى، ولم تستخدم منديلا، هي تعطس وحسب، يحمر أنفها البارز الكبير، ثم تومض عيناها فتعطي ردة فعل لا إرادية بأن ترمش، ثم تغلق جفنيها وتشدها فتبدو أهدابها وكأنها تتكاتف بشكل عنيف. وببساطة تخرج من الجارور منديلا، إنها تمتلك منديلا إذن، وتمسح به سائلا خفيفا انساب من عينيها. لست أقول «دموع»، الأمر له علاقة بالعطسة وإغلاق العين، ولا شيء آخر .. بالطبع لا تبكي بل تبتسم، مجددا، عادت تبتسم.
ما هي إلا دقائق حتى قررت أن تحكي، بدا ذلك واضحا عندما عدلت من جلستها، مسكت قلما وراحت تطرق به ملفا ما على المكتب، ثم نظرت صوبي من أعلى عيوناتها وشقت شفتيها قليلا، هذه جميعها مؤشرات جيدة أنها ستحكي، لقد عرفت ذلك وما لم أعرفه أنها لن تنطق إلا بكلمة ونصف: «لا بأس».
فرددت بسرعة: «ما الذي يتوجب علي فهمه من هذه «اللابأس»؟»
ولم تجب بل ابتسمت، وخرجت من المكتب متجاهلة وجودي؛ ما جعلني أشعر بإهانة بالغة دفعتني للحاق بها كي أصرخ في وجهها وأجد لنفسي طرقا ما لإهانتها، وما إن خرجت حتى اصطدمت بالمشرفة على الحالات المرضية جميعها، ترتدي بطاقة مكتوبا عليها اسمها «عنايات». ومن المثير للغرابة والدهشة أن تعلقها على صدرها، أيعقل أن هذه المصحة تحاول الاقتصاد بالحديث لدرجة أنهم لا يريدونك أن تسألهم حتى عن اسمهم؟ وقبل أن أسألها عن أي شيء ابتسمت لي، وقد بادلتها البسمة ببلاهة، وقبل أن أشرح لها الأمر قاطعتني قائلة: «لا بأس». كدت أفقد صوابي، وأصرخ في وجهها، وأستخرج كل الكلمات العاهرة من معجمي اللغوي، إلا أنها ضحكت. «إنه تطور جيد، من البسمة إلى الضحك.» ثم أردفت: «تفضل معي». وهنا كان لا بد من أن أهدأ تماما.
ساقتني صوب غرفة لم تسجل عليها أية أرقام أو أسماء، سحبت المفتاح من حقيبتها وفتحت الباب، طلبت مني الدخول وغادرت تاركة الباب مفتوحا. وهناك التقيت بحلمي، وقد كان يندفع إلى الأمام آخذا وضعية الهجوم، وعندما شاهدني انسحب من وضعيته وجلس على الكرسي.
ربما تحصنت جيدا كي لا أجن، ولكني بالتأكيد لم أتهيأ جيدا للمقابلة؛ فها أنا ذا أجلس قبالة حلمي دون أن أجد أية عبارة أبدأ بها الحديث، ليس ثمة من عبارات عفوية عادية تدفعنا للثرثرة في أي شيء؛ فليس المهم ما يقوله حلمي، بل في كيف يقول، وماذا يفعل؟ أردت أن أرى كيف يتعامل مع جسده، كيف يعبر به عن حالته، ولكن عبثا، لم يفعل شيئا وقد بدا وجهه فارغا تماما من أية ملامح.
ما هي إلا دقائق حتى دخلت عنايات وبيدها كأسا ماء وحبة دواء. وما لبثت أن خطت خطوتها الأولى داخل الغرفة حتى اندفع بوضعية مهاجم تشبه تلك التي شاهدته فيها لحظة دخولي، جسده منحن إلى الأمام، فيما ينزل رأسه قليلا ويرفع بؤبؤ عينيه إلى الأعلى حيث ينصب نظره على وجهها تماما، وراح يزمجر: «أين رامز؟»
قدمت لي كأس الماء، وقدمت الآخر لحلمي مع حبة دواء. وهمت بالمغادرة دون أن تعير ما قاله حلمي أدنى اهتمام، فأسرع صوب الباب وكأس الماء في يده، التفتت إليه فيما راح يرفع الكأس عاليا، ويوشك أن يصفعه برأسها، أما عنايات فلم تحرك ساكنا، بل نظرت صوبي وقالت: «إنها إحدى أعراض التهيؤات التي حدثتك عنها.»
صرخ في وجهها حلمي: «قلت لك ألف مرة: إني لا أتهيأ، بل أحلم .. كيف اختفى رامز؟ اعترفي.»
ولم تنبس ببنت شفة، بل غادرته ببطء فيما تشنجت يداه حول كأس الماء لهنيهة قبل أن يرخي يده ويعود إلى الكرسي، ثم التفت إلي قائلا: «لم تعطك واحدة، أليس كذلك؟ حتى لو أعطتك فلا تشربها. يظنون أنني مجنون .. حماقة!»
ثم شرب حبة المهدئ بملء إرادته، وأردف: «أنا أعاني من «الحلموفوبيا» وحسب.»
كان علي أن أشكر عنايات؛ ليس لأنها قدمت لي الماء، بل لأنها قدمت لي حديثا أجريه مع حلمي. ولنبدأ بمرضه، سألته: «ماذا تعني بالحلموفوبيا؟»
بدا واضحا استغرابه من سؤالي، حتى إنه صارحني قائلا: «ألست تدري حقا؟» ثم ضحك وأردف: «إفراط مزمن بالحلم.» منعت نفسي من الضحك، فهل ثمة من مشكلة بالحلم؟ ومن المصاب بالفوبيا تحديدا؟ هل يفرط في الحلم فيخشاه؟ أم يخشى منه لأنه يحلم؟ سألته عم يقصد، فضحك ساخرا مني.
إنه يفترض أن الناس جميعهم يعرفون هذا المرض، ويخافونه حتى، وكي لا نتوقف طويلا هنا، سألته عن سبب إصابته بهذا المرض، فقال: «تلقيت العدوى من رامز.»
قلت بتوجس: «لقد قالت إن رامز ليس موجودا.»
ارتسمت على وجهه ملامح الحزن، وهز رأسه آسفا على إجابتي كما يبدو، فاعتذرت إليه، ثم قال: «أرأيت في حياتك قط كائنا «أيا يكن» يكون ثم فجأة لا يكون؟! .. كان هنا بالفعل، وقد تحدثنا طويلا، أخبرني عن مشروعه .. أجل .. رامز كان لديه مشروع، وهذا أمر مشروع أليس كذلك؟ لم يخفونه عني إذن؟»
لا أستطيع أن أزعم أنني اكتفيت بهذا القدر من الثرثرة، ولست أدري إن كان ما قبل محض ثرثرة أم أنه يحكي شيئا ما مهما، وفي الحالتين كان يجب أن أرحل، لست هنا كي أعرف إن كان رامز موجودا بالفعل أم أنه من خلق مخيلة حلمي وإحدى أعراض تهيؤاته .. أنا هنا لأفهم حلمي، لأرقب شخصيته، لأسمع كيف يحكي وماذا يفعل، ولكن إن بقيت هنا قد أتورط بقصص لا شأن لي بها؛ ولهذا كله وجب رحيلي، استأذنت منه كما يستأذن من العقلاء، وابتعدت صوب الباب إلا أنه هاجمني ولكن بصورة أخرى مختلفة عن طريقته في الهجوم على عنايات، فلحظتها لم يحمل في ملامحه أي ازدراء أو نزق، بل كان في وجهه شيء من الرجاء والتوسل، ومع هذا فقد دفعني إلى الكرسي وراح يبكي.
لم أكن أتصور أنه جاد إلى درجة البكاء، الحق أقول، إنه يبكي ويقترب من الكرسي المقابل لي، يجلس فوقه وينقبض على نفسه، فيبدو وكأنه طفل صغير تمت معاقبته دون ذنب اقترفه.
قررت أن أستمع إليه، دون أن أفهم إن كنت أبحث عن تجسيد النص فيه، أم أنني بالفعل أستمع وأصغي لكل ما سيقوله .. وكي لا تقولوا بأني أكذب، سأدعكم مع القصة كاملة كما رواها حلمي. «رامز يسقط سهوا.»
ستقول إنني أكذب، فما سأقوله عصي عن التصديق، تماما كالحقيقة ..
لقد كان حالما وقد خذلت الحياة أحلامه، ولم أعرف بعد إن كان الحلم مرضا أم أن الحقيقة لا ترى إلا عبر الحلم، كثيرة هي الأشياء التي لا أعرفها، وما أعرفه تماما أن رامز كان هنا عندما جئت أول مرة.
أول الأمر أطلعني على مشروعه في المصحة، وكان عبارة عن تأسيس نقابة تكفل حقوق المجانين، هزأت بالفكرة في سري رغم أنها راقت لي، بل وأثارت اهتمامي لأعرف أكثر شخصية رامز، ربما من باب الفضول وربما من باب التعرف على هذا المجنون.
حدثني عن سلمى، قال إنها كانت تشاركه مشروعه وفكرته عن الحياة، قال إنها تجسر على فعل وقول ما لا يجسر عليه أعقل العقلاء، قال إنها قتلت، أما عنايات فقد قالت حينها إنها انتحرت، قالت إن سلمى صعدت إلى أعلى المصحة وألقت بنفسها، الكل كان يبكيها، أما رامز فلم يبك، أصر على جموده وقوله: «سلمى قتلت .. حتى لو انتحرت، فثمة قاتل ما.»
ودون فواصل أو ترتيب منطقي لقصته راح يحدثني عن المجانين هنا، كان يحب مصطلح مجنون كثيرا، بل ويومن بأن المجانين وحدهم من يلامسون أذيال الحقيقة، أولئك المجانين الذين فرض عليهم أن يعيشوا حياة عادية في عالم غير عادي، هكذا يقول، وقد بذلوا في سبيل ذلك شتى وسائل القمع، نعم لقد قالها بوضوح، قال: «القمع». وقد حدثني كيف تتهرأ أجسادهم لفرط الحبوب المهدئة ولكن لم يهدأ أحد، كان رامز يعرف جيدا أن الحياة العادية الرتيبة المنشودة من قبل إدارة المصحة ليست أكثر من خطة للقبول بالمعاناة.
كان يومن أن فساد هذا العالم ينصب على المقهورين وحدهم، وأن الحياة في عالم كهذا لا يمكن لها أن تنجب أناسا عاديين إلا بالتخدير؛ فالمجانين برأيه هم أولئك الذين لم تستجب عقولهم وأجسادهم للتخدير الحياتي اليومي، فوضعوهم في مصحة ليقدموا لهم جرعات أقسى وأكثر عنفا. «سلمى لم تطق رتابة الحياة.» قال لي وأردف باكيا: «سلمى تعجز عن الصمت، فباحت بما يجري، فقتلوها محاولين إسكاتها بإسقاطها عن سطوح المصحة.»
اسمعني جيدا، فأنا أقول لك ما حدث، أرجوك أن تصغي لما أقوله .. لم يعجبهم أن يتعثر رامز بالحقيقة، أو فلأقل إنه وجد لنفسه حقيقة ما يعيش لأجلها. وكان لا بد من علاجه فجربوا معه وسائل أخرى، وكان كل يوم يعود إلى هذه الغرفة منهكا دون أن أعرف ماذا يفعلون به، سألته مرة عن ذلك، فأجابني: «يقحمون أشياء غريبة في جسدي وعقلي فأخرج، وأتبرز في الحمام لأتخلص من ترهاتهم.» وظل على تلك الحال إلى أن أخذته مديرة المصحة خارج الغرفة، ولم يعد.
بعد عدة أيام، سمعتهم يحتفلون لأعرف فيما بعد أنهم نجحوا، ولم أعرف كيف .. في تلك اللحظة شعرت بأن كل شيء قيد الانهيار. أيعقل أن تسقط كل الأحلام بهذا الشكل؟ تلك الأحلام المعدية الغريبة، تلك التي تحمل في طياتها حقيقة ما، إنها تسقط دفقة واحدة .. كان يحلم بالعدالة في هذه المصحة التي رفض أن تصححه ولم يصح أبدا، فهو يدرك جيدا بأن الجنون هو الاعتراف بقذارة العالم، أما الآن فيستسلم للعلاج ويتعافى من حلمه وجنونه وفيما كنت منهمكا بهواجسي سمعت شيئا ما يسقط.
كان الارتطام قويا جدا، يكفي أن تسمعه لتصحو من هواجسك ثم تتساءل ببساطة: «أين رامز إذن؟ وإن كان فعلا قد تعافى، أم هي محض خدعة؟» لم أقبل بهذه النهاية، ورحت أطرق الباب بقوة؛ لأفهم ما الذي حل برامز فعلا.
استجابت عنايات لصوت الطرق، وجاءتني، سألتها عن رامز وعن مصدر ذاك الارتطام الغريب، فقالت: «هما شيء واحد»، ثم أخبرتني أن رامز قرر أن يصعد إلى أعلى المصحة، وظل يصعد حتى وصل أعلى نقطة، ومن هناك هوى، سألتها: «كيف سقط؟» فأجابتني: «سقط سهوا» .. قد تضحك وتقول إنني أقول شعرا سخيفا، فكر كما شئت، ولكن هذه هي الحقيقة، أسقطوه سهوا، وأسقطوا اسمه من القوائم، فقد جاءت مديرة المصحة وأخذت عنايات كي لا تواصل حديثها عن سقوط رامز، وبقي الأمر معلقا إلى أن قالت المديرة بصراحة ووقاحة ووضوح: «رامز لم يوجد قط.» •••
سمعت القصة حرفا حرفا، ونسيت أن أتأمله كيف يحكي وغرقت بما يحكي، بل نسيت دوري كله في المسرحية .. من القسوة أننا جميعا في الفرقة نعرف نصوص شخصياتنا ولا نعرف قصصها، فكيف لمجنون حلق إلى أعلى درجات الحلم أن يهوي؟ كيف لشخص كان هنا ألا يكون لا هنا ولا في قوائم المصحة؟ ومما لا ريب فيه أن حلمي تأثر برامز كثيرا، وبسببه أصيب بالحلم والجنون معا.
وما هي إلا دقائق إلى أن جاءت السيدة رضوى ومعها حارسان، استلما رامز وأخذاه خارجا، أما رضوى فقالت بهدوء: «لا بأس.» وسكتت برهة، ها هي تستعد لتواصل، ستشرح لي الأمر بالتأكيد، ستقول أكثر من «لا بأس.» وبالفعل انشقت شفتاها مجددا، وقالت: «يريد أن يرتاح قليلا فذهنه مشوش.» وخرجت لتتركني وحيدا في الغرفة أنتظر عودة حلمي، وعندما لم يعد قررت البحث عنه، اقتربت من الباب محاولا الخروج بحثا عن حلمي فوجدته موصدا.
بقيت هناك في الغرفة، أنتظر أن يأتيني أحدهم لأعرف ما الذي يحدث؟ هل نسوني هنا؟ أم هو سهو آخر؟ ولم يحدث شيء. وفي اليوم التالي فتح الباب لتدخل عنايات ومعها رجل أربعيني يحمل بيده جهاز تسجيل، وما إن دخلا حتى صرخت في وجه عنايات: «لم أنا هنا؟ وماذا حل بحلمي؟»
ولم تجبني بل ارتسمت على وجهها ملامح الحزن وقالت للرجل: «إنها إحدى أعراض التهيؤات التي أخبرتك عنها.»
وهنا تماما، سمعت شيئا ما يسقط ويرتطم بالأرض.
هوية غريب
1
كثيرة هي أخطاء أمي؛ أولها أنها تزوجت أبي، وآخرها أنها لم تتخلص مني، وأبي خطاء أيضا، البداية بزواجه من أمي والنهاية أنه أنجبني، لقد أخطآ إذ أنجباني بلا هوية ولم يتخلصا من ذاك الجنين الحالم الذي سئم عتمة الرحم الدافئ، وانبعث منه صوب ضوء العالم البارد. خرجت من عالم أمتلكه لي وحدي إلى عالم مشترك فان ويأبى حتى أن يمتلكني.
إنه يقذفني كل يوم، يحاول التخلص مني، أنا الذي أشكل عبئا وجوديا عليه، فلا أنا موجود ولا أنا غائب، وقد قبلت مؤخرا أن أظل في هذه الهوة بين الوجود والعدم.
يستطيع الإنسان أن ينسل من العقبات الصغيرة، ولكن مهما نأى يبقى هنا في الهوة التي هام فيها في نطاق الكون، أستطيع مثلا أن أترك عائلتي لأعيش وحدي كشكل من أشكال العقاب، أقذفه على أمي وأبي اللذين أنجباني ولم ينجبا هويتي معي ... ومن هنا بدأت المشكلة.
لم أجد مأوى ولا وظيفة فتلك أمور مرهونة ببطاقة هوية، ولكني لم أكترث؛ فالذي لا يمتلك بطاقة الهوية «العظيمة» لا يكترث بسفاسف الأمور، «وماذا يضير الإنسان أن يعيش دون مأوى؟»
سلكت دربا ما، وقادني لدرب ما، ولا أتذكر كيف أو متى وجدت نفسي فوق سطوح بناية شاهقة، واتخذت من السطوح مأوى، وهناك التقيت بإيناس للمرة الثانية في حياتي.
2
في لحظة غير عادية أصابت غريب نوبة مفاجئة وحادة من الجدية، فقرر أن يعثر على عمل ، ولكن لا أحد يعمل دون هوية، وقبل أن يتعافى من نوبة الجدية بهنيهة عثر على كومة من كراتين الأحذية الفارغة ملقاة بجانب القمامة، فأخذ بعضها، واتجه بها صوب وزارة الداخلية.
قام بقلبها ليرتب فوقها عددا من مغلفات بطاقة الهوية، وراح ينادي أمام المارة بأعلى صوت: «بيت هوية .. جدد هويتك .. جدد حياتك.»
وكان الأطفال، «كما يصفهم غريب»، يستلمون بطاقات هوياتهم ويشترون منه المغلفات، كان يضحك كلما أسعد طفلا بمغلف جديد. وهناك التقى بإيناس للمرة الأولى ولم تنتبه له. اقترب منها مسرعا ومد مغلفا أمام وجهها، وحتى إنه تجرأ وغازلها قائلا: «جددي حياتك.»
حركت كف يدها مبعدة المغلف من أمام وجهها وكأنها تبعد ذبابة طائشة ولم تر غريب، كأنه لا أحد.
3
أنا لا أحد بالفعل، أجدد حياة الآخرين ببطاقة هوية لا أمتلكها، ومن لا يمتلك هوية لا وجود له .. تلك حقيقة لم أكتشفها إلا بعد تراكم التهم الصادرة بحقي.
التهمة الأولى ..
لقد أصدرت الدولة قرارا بمنع الباعة المتجولين وأصحاب البسطات من العمل حرصا على المنظر العام، ولكني لم ألتزم به ظنا مني أن الهوية مكسب وطني عظيم لا يمكن له أن يفسد المنظر العام «أجل .. لقد كنت أحمق.»
التهمة الثانية ..
حينما اشتد الصراع بيني وبين موظف الهويات والجوازات، وبعد أن صرخ في وجهي أن لا وجود لي على جهاز حاسوبه، لكمته في خصيتيه، أولا لأبرهن له أني موجود، وثانيا لأحرمه من تناسله في الوجود.
التهمة الثالثة ..
عقدت صلحا مع نفسي، وآمنت أني لست هنا، وأنني فعلا لا أحد، فأنزلت سحاب بنطالي وتبولت على مغلفات ومخلفات الهوية.
وحتى وقت طويل من صدور التهم لم تصدر مذكرة واحدة بإيقافي وربما صدرت ولكن عناصر الأمن لم يجدوني كما حدث في محاولة الانتحار الأولى.
4
مرة أخرى لم تنتبه إيناس لغريب، ومرة أخرى تجده على حافة السطوح محاولا الانتحار .. مرة أخرى تمنعه من ذلك.
في كل ليلة كانت تشاهده وهو على حافة الموت كانت تجذبه إليها، وأكثر ما كان يثير ريبة وخوف غريب أنها لا تأتي إلا عندما يهم بالموت، فبعدما آمن غريب أن لا وجود له في هذا العالم، قرر أن ينتحر آملا بأن يجد لنفسه وجودا ما في مكان ما.
ولم يكن بحاجة إلى أي رجاء أو توسل من إيناس حتى يتراجع، فقد كان بالفعل مترددا ليس رغبة بالحياة، بل خوفا من المجهول الذاهب إليه؛ فإن عثر لنفسه عن وجود في المكان الآخر، فهل سيجد إيناس هناك؟ هذا سؤال يؤرق غريب في كل محاولة جديدة يخطوها صوب الموت، إلى أن فضل أن تكون هي ولا يكون، على أن يكون ولا تكون؛ فتشبث بالحياة رغم ما فيها من بؤس.
دائما ما تستطيع الحياة أن تفاجئه بقدرتها المهولة على سحقه بكل ما فيها من وجع، وأقسى ما حدث له أن إيناس قد سافرت منذ اليوم الأول الذي شاهدها فيه وتجاهلته. فبعد أن اقتنع غريب أن الحب نفسه بحاجة لإذن من الهوية حتى يصبح علاقة وحقيقة، عزم أمره بالتوجه إلى بيتها والسؤال عنها، تلك الفتاة الجميلة التي تمنعه مرارا من الانتحار، تلك الآسرة التي تسمعه كل ليلة أغنية وكلمات تثير فيه التشبث بالحياة، إنها تستحق وبلا شك أن يرتبط بها، فبارتباطه بها يرتبط بالحياة.
وعندما سأل عنها أخبروه أنها سافرت منذ زمن، لقد ذهبت إلى مكتب الجوازات والهويات استلمت جواز سفرها ورحلت في نفس اليوم.
اقترب غريب من حافة سطوح البناية وهم بالانتحار فلم تحضر إيناس. وهنا اكتشف مفجوعا أن الخيال أيضا بحاجة لبطاقة هوية وأن كل ما يتعلق به لا وجود له. حتى خياله قد غاب .. إذن فقد تلاشى غريب تماما، وهنا أخذ قرارا نهائيا بإنهاء حياته.
تراجع عن الحافة والتقط آلة حادة تقطع الأمل من الضربة الأولى، قطع بها وريده، وراح دمه يتناثر فوق السطوح، ترنح قليلا قبل أن يغمض عينيه وتغيب الرؤية تماما .. فقط سواد.
5
كثيرة هي أخطائي أولها وآخرها أنني قبلت أن أبعث إلى ضوء عالم يرفضني .. كان يجب أن أبقى هناك في الرحم، ذاك هو عالمي أنا، هناك حيث العالم وأنا شيء واحد . كان الأجدر بي أن أبقى هناك وأكبر فتكبر بطن أمي معي .. نكبر معا أنا والعالم الدافئ .. رجوت أمي أن تعيدني إلى رحمها، فأجابتني إجابة محددة ومباشرة كما يجيب البالغون الأطفال؛ إذ قالت إن العودة إلى رحمها أمر مستحيل. أما لو مت فقد أذهب إلى عالم شبيه برحم أمي، وإن لم أجد فحتما ستنهشني الديدان، وسأكون شيئا ما في بطن دودة جائعة، ربما تكون بطن الدودة أكثر اتساعا من هذا العالم.
لم أكن أعرف شيئا عن عالم الموت، ظننت أنني ما إن أنتحر حتى أجد نفسي في «أبدية بيضاء»، وأسرنم فيها خطوة خطوة، سأجتاز الاختبارات الصعبة أول الأمر: «من أنت؟ ماذا فعلت؟ وماذا اقترفت من ذنوب؟» ثم أشاهد البائسين يمارسون حياتهم خارج عالمي، أما أهلي فيبكون جثتي المسجاة في التابوت ولكن شيئا من هذا لم يكن.
كل ما في الأمر أنني وما إن أغمضت عيني حتى وجدت نفسي في عالم أسود وكل ما فيه عتمة، انتظرت شيئا ما يحدث، ناديت على أحدهم، صرخت، وانتظرت طويلا إلى أن جاءتني الملائكة، سألتهم: «من فيكم ملك الموت؟»
أجابوني: «جاء ولم يجدك.»
قلت: «أنتم وجدتموني.»
قالوا: «هو ملك مختص بالموت، ومهمته أن يقبض أرواح الموتى، لقد كلفته عناء البحث عنك قبل أن يكتشف أن لا بيانات لك في دفاترنا فعاد خائبا إلى السماء.»
أخبرتهم أني لا أمتلك هوية ولا وجود لي في دفتر الأحياء أيضا، فصرخوا في وجهي قبل أن يركلوني خارجا: «تعلم كيف تحيا ثم شرف ومت».
فتحت عيني فوجدت نفسي لم أزل فوق السطوح وأن شرياني التأم من جديد، ولكني لم أيأس من الموت، فارتجلت محاولات أخرى: رميا بالرصاص، طعنا، شنقا وقفزا عن البناية .. ولكن عبثا استطعت الموت.
يجب أن أموت لفرط ما انتحرت، ولكن منطق جسمي يختلف عن منطق الدولة، فبلا هوية لا يمكن أن أموت، فكيف لغير الموجود أن يفقد وجوده؟ إني بحاجة لهوية إذن حتى أتمكن من الموت.
6
استمع المحقق لرواية غريب بأكملها، كان العرق ينضح من مسامات جبينه، وقد صار واضحا مدى الارتباك الذي يعانيه المحقق. وهو يعرف جيدا أنه يجب أن يعدم غريب بعدما اعترف بكل تلك التهم، ولكن كيف له أن يحوله للقضاء دون بيانات وهوية، وإن أراد قتله بنفسه فلن ينجح، فإن مات غريب فسيعترف المحقق ولو في قرارة نفسه أن الهوية لا تثبت شيئا ولا تعلن وجودا حقيقيا لأحد، وإن لم يمت فسيشعر بالعجز ويتعرض للازدراء.
كما أنه ألقى القبض على غريب على عاتقه دون مذكرة إيقاف، فيجب أن يصل إلى نتيجة؛ لذلك أخذ قرارا آخر على عاتقه، وذهب به صوب مكتب الجوازات والهويات، وأمر بإصدار بطاقة هوية لغريب حتى يتمكن من إعدامه، وما إن استلم غريب هويته حتى سقط دفعة واحدة على الأرض، وتناثر الدم من وريده إثر قطعه السابق له، وظهر أثر رصاصة كان قد أطلقها على صدره، وعلامة حمراء طوقت عنقه كما المشنقة التي علق نفسه بها آنفا، ثم تهشم رأسه إثر انتحاره من سطوح البناية الشاهقة .. ثم مات ميتة حقيقية ونهائية.
جلسة علاج
1 «الطبيب»
مع نهاية الحرب تماما كانت الحافلة تمشي ببطء؛ لما يصيب الشارع من ازدحام، وكعادتي أجلس في الكرسي الأخير وأقرأ الجريدة فيما صرح مسئول ما عبر المذياع أن زمان العنف والحرب انتهى، ترددت الأصوات والهتافات في الحافلة وامتدت إلى الشوارع والأرصفة التي مررت بها لاحقا.
صدحت المآذن تكرر، وأحاديث المقاهي بملء الأفواه تعلو، النادل يكرر والزبون والعامل والفلاح والطالب والمثقف، نشرات الأخبار تعيد وتكرر: «هزمت الحرب .. وانتصرنا.»
تكاد العبارة تقتحم كل شبر أدركته الحرب في البلاد، أما أنا فلم أزل هناك في المقعد الخلفي ولا أعرف تماما لماذا بدأت أشعر بمغص قوي في معدتي، ذاك وجع يصيبني في حالات شعورية مختلفة، كأن أخلو مع امرأة للمرة الأولى، أو عندما أفقد عزيزا للمرة الأولى .. أو غيرها من البدايات التي تسبب مغصا شبيها .. على كل حال، الآن أستطيع أن أتوقف عن القتال وأذهب إلى المشفى.
2 «المصاب»
رائحة المعقمات تملأ أنفي، إبرة حادة منغرسة في شريان يدي اليسرى، عتمة متواصلة، صوت خطوات بإيقاع غير منسجم، تنهيدات أنثوية يبدو عليها الملل، تتردد وتغيب، أحاديث جانبية متقطعة، ربما أكون أنا الجانبي وهي التي تتصدر المشهد، لا أعرف تماما، فلست أرى شيئا.
صوت الباب يفتح، أحدهم يدخل الغرفة، بل يقترب مني أنا .. نعم الصوت قريب جدا، إنه يأخذ شكل الكلمات، ينطق: ألم يستيقظ بعد؟
سمعت صوتا أنثويا مرحا يرد: مبارك انتصاركم أيها الطبيب اللطيف.
شعرت بيده تتلمس جبيني، وأنا أعني ما أقول، يده وليست يدها، أعرف يدها جيدا رغم أنها لم تلمسني سوى مرة واحدة كما أذكر، ولكن ملمس يدها ناعم جدا، على الأقل أكثر نعومة من صوتها المكتظ بالحياة والعفوية والمرح، راح صوتها ينطلق من جديد: لم أتوقع مجيئك اليوم أيضا، أنت طبيب مثابر تواصل عملك حتى بعد سهرة طويلة كالتي حدثت في الأمس.
رد عليها بصوت تغلب عليه الدهشة: حسنا طوال الوقت وأنا أواظب على علاجه، ولكن لماذا لا آتي؟ أعني .. ما الذي حدث في الأمس؟
شعرت بها تقترب منه وتزيح يده عني وهي تقول: في الأمس احتفلنا. - حقا؟ - احتفلنا وشربنا نخب الانتصار ونهاية الحرب.
راحت الأحاديث الجانبية تبتعد عني وتبهت إلى أن تلاشت الأصوات تماما، كان يجب أن أحسن السمع أكثر؛ فذاك الصوت مألوف جدا، أعرف صوتا كهذا أقل رزانة وأكثر انفعالا، قد يكون .. ولكن لا .. لا أعرف .. هذا الصوت دافئ .. لا شيء الآن مؤكد إلا أن الحرب قد انتهت دون أن أعرف إن كنا قد انتصرنا أم لا، وكل ما أعرفه أن لحظة النهاية دوت في فترة كانت فيها كفة الحرب ترجح لصالح الطبيب، أما ما لست أعرفه فهو إن كنت أقاتل مع طرف الطبيب أم ضده. إجابة هذا السؤال كفيلة لأعرف إن كنت منتصرا أو مهزوما.
3 «الطبيب»
إنه يستيقظ أخيرا.
بقيت طوال ذاك الصباح جالسا بجانبه أنتظره ليفتح عينيه؛ لأحكي معه، ليقول أي شيء، شعرت بأنه لا يريد أن يستيقظ، «هل يخاف من شيء ما؟» وبقيت سويعات منهمكا في انتظاره أن يصحو.
ما إن فتح عينيه حتى التمعت ترمقني وكأنه يرى في عدوا شرسا، ربت على كتفه الأخرى، تلك التي لم تصب، وخفضت صوتي كي لا يلحظ اهتزاز كلماتي وتوتري: أشكر الله أنك بخير. - أنت؟ - ما الغريب؟ عادة ما نشكر الله على الأشياء الجميلة، الكل يفعل .. أقصد .. المؤمنون جميعهم يقولون هذا. - أنت هو الطبيب؟ - هل التقينا قبل الآن؟ - أتعرف ماذا حل بي؟ - أصبت برصاصة في كتفك، وكدت تموت لولا أني أنا الطبيب الجيد الذي يشرف على ... كفى يجب أن ترتاح الآن. - ولكني أريد .. - قلت كفى!
كان يجب ألا أستطرد في الحديث معه أكثر، مهمتي أن أعالج الجرحى والمرضى، لا أن أحكي لهم القصص، ولا أعرف لماذا صرخت في وجهه: أنا لست «حكواتيا» أتفهم؟
ظل يحملق في وجهي وتوقف عن الأسئلة .. لاذ طويلا بالصمت بينما لذت أنا بالخروج.
4 «المصاب»
الآن .. فقط الآن أستطيع أن أرى كل شيء بوضوح، كان ما أحتاجه هو فقط أن أرى لا أن أسمع .. أنا في المشفى إذن .. حسنا .. المشفى جيد والعناية على أفضل حال، والرصاصة استقرت لبعض الوقت في كتفي .. كانت تكفي لأموت لولا براعة الطبيب، ولولاه أيضا لما أصبت بالرصاصة .. يا إله التناقضات! كيف يمكن للإنسان أن يقتل ويعالج «القتيل» في آن؟
ربما لم يعرفني بعد .. ولكن كيف يمكن لقاتل أطال التحديق في عين الضحية ألا يحفظ ملامحها عن ظهر قلب؟ إنه ولا شك ينتظرني لأشفى تماما حتى يقتلني .. هذا الوغد القاتل يحضر لأمر خطير .. من المؤكد أنه يعرف جيدا أننا أعداء.
5 «الممرضة»
قلت إني والطبيب شربنا نخب الانتصار ونهاية الحرب، وما لم أقله كوني لم أعرفه البتة. إن نهاية الحرب لا تعني نهاية القتل.
كنت أتابع الحدث باحتراق وصمت بالغين: شاب صغير الحجم ممدد على السرير، الناربيش ممتد من شريان ساعده الأيسر إلى كيس الدم، أما الطبيب اللطيف ذو الشخصية النبيلة المخلصة فقد كان يقف أمام السرير إلى الأعلى من رأس الشاب المصاب.
كانا كأنهما يخوضان معركة صامتة؛ فذاك الصمت الذي خيم على غرفة المشفى لم يكن طبيعيا، بل كان صارخا، مشحونا بصوت الحرب والحقد، إلى أن كسر المصاب الصمت عندما عدل من جلسته وطلب من الطبيب أن يجلس بجواره، صمت قليلا قبل أن يصوب عليه بسؤاله الكافي للقتل: أنت من أطلق النار على كتفي؟ - أنا؟ ولكن ..
تلعثم الطبيب وهم بالرحيل .. صرخ المصاب بصوت أجش - لا يشبه حجمه - في وجه الطبيب، ونزع الإبرة من شريان ساعده الأيسر ثم لف الناربيش بشراسة حول رقبة الطبيب المسكين، وصار يشد فيما كانت ذراعه تنزف.
صرخت كثيرا حينما شاهدت الدم يقطر فوق السرير وعلى الأرض وقميص الطبيب الأبيض، ولكن أحدا لم يأت لحمايتي من هذا المشهد المؤلم، أما المصاب فكاد أن يقع أرضا وهو يردد: «أنت قاتل .. قاتل ...»
ظل يشد إلى أن سقط الطبيب أرضا وسقط فوقه .. ثم ماتا.
محاولات للنجاة
1 «مرة أخرى أعيد المحاولة، ومجددا أمزق ما أكتب .. كل يوم ألقي بعشرات المحاولات لكتابتك، ومع كل تمزيق أعرف أكثر كم أنا مهزوم .. أحاول أن أعيد ترميم انكساري بكتابتك وصياغة الحرب.
لم يجل في خاطري يوما بأنك أنت من ستكونين الرواية التي لم أكتبها بعد .. فالرواية توءم المأساة وأنت مأساتي، ولو عرفت مسبقا لتوقفت عن الكتابة برهة بل زمنا وعانقتك، لراقصتك حتى الصباح، كنت حتما سأتوقف عن متابعة نشرات الحرب، ولقطعت التواصل مع الجريدة التي كنت أكتب فيها .. لمنعت نفسي من الكتابة عن الحرب والموت وعشت معك دهرا آخر .. الآن وفقط الآن أدرك كم أخذ الحبر من حياتي.
اللعنة على هذا القلم، هذا الذي قتلك بوفائه لضحايا الحرب وخيانته لك .. أنا الذي كنت أظن أن الحرب شيء بشع سقط علينا من مكان ما، سقط على الشوارع والأزقة والأرصفة .. لم أعرف الحرب حقا إلا بموتك .. فخسارتك هي الشيء المؤكد الوحيد الذي فتح النوافذ لاستقبالها على طبق من الفاجعة.»
قاطعه صوت قرع الجرس، جفل جاد مستغربا، وتوقف عن الكتابة، نهض عن كرسيه متثاقلا، اقترب بتوجس من الباب، نظر من العين السحرية ثم فتح الباب ببطء ولم ير أحدا، هم بأن يخرج من عتبة الباب، ولكنه ما لبث أن تراجع ، وقبل أن يغلق الباب سمع صوت امرأة تناديه: المعذرة سيد جاد.
التفت مجددا ليجد امرأة مبتلة الشعر والوجه تقترب من الباب، فقال بشيء من الحرج: اعذريني .. لم أرك جيدا. - يبدو أنك استهلكت وقتا طويلا في الكتابة هذا اليوم.
راح يتأمل ملامحها، وظل صامتا في محاولة ليتذكر إن كان يعرفها أم لا، إلى أن قال باستغراب واضح في نبرة صوته: هل التقينا قبل الآن؟ .. يبدو أنك تعرفينني جيدا.
كانت لم تزل خارج عتبة الباب ولم يخط خطوة واحدة صوبها، فقررت أن تدخل إليه وتقول ببسمة خفيفة: لا عليك .. اسمي هدى .. أعتذر إن كنت قد أزعجتك في شيء، ولكن كما ترى قد سقط خزان ماء من أعلى البناية أمامي وامتلأت بالماء. أريد فقط أن أعيد تسريح شعري .. ألديك منشفة؟
ظل برهة في حيرته واستغرابه، فقالت وكأن صبرها قد بدأ ينفد: لا تمتلك مرآة أم أنك لا تريد استقبالي؟
أشار إلى جهة الحمام مجيبا: الحمام من هنا .. أذكر أن فيه مرآة ومنشفة أيضا.
اتجهت هدى صوب الحمام فيما عاد جاد إلى مكتبه وراح يمزق محاولته بالكتابة لنجاة أو عن النجاة؛ مزق الورقة وألقاها بين كومة أوراق أخرى، وبعد برهة اتجه إلى الحمام، وقف طويلا أمام بابه ينتظر خروجها؛ عساه يفهم من تكون تلك الفتاة وماذا تريد. طرق الباب بتردد، ولم يسمع إجابة، طرقه بشكل أقوى فانتبه إلى أن الباب لم يكن مغلقا. فتحه ببطء ولم يجد أحدا. فعاد إلى مكتبه ليبدأ محاولة أخرى في تخليد نجاة.
2 «لطالما اعتقدت أني الأكثر عنادا في هذا العالم، وقد كنت فرحا لعنادي، فلم أتصالح في أي يوم مع العالم وبؤسه، وقد أخبرتك بذلك أيضا ولكنك كنت أكثر عنادا مني، ربما لأنك كذلك، وربما لأنك كنت مأخوذة بحالة الحب التي أحاطت بنا، قلت لك حينها: لن تطيقي العيش معي.
وأجبت يومها: لن أطيق العيش إلا معك.
أخبرتك بل حذرتك بأنك سوف تندمين؛ فأنا إنسان يعيش في خياله وأحلامه، فصدح صوتك: دعنا إذن نعيد تخيل تجربتنا الإنسانية ونعيشها من جديد.
شعرت بأنني ورثتك الحلم؛ المرض المعدي الذي جعلني أخسر وظيفتي وحياتي، وجعل الأصدقاء ينفرون مني، الأصدقاء المتورطون بل المفرطون في واقعهم، وخسرتهم واحدا واحدا، أما أنت فقد فتحت ذراعيك ترحيبا بفيروس الحلم ولم يكن أحد في العالم بأسره يعرف بأن حلمنا سيغدو كابوسا بعد سنين قليلة من بدء حبنا لتموتي أنت وأنجو أنا، وربما نجوت أنت ولم يمت غيري .. ربما كل ما أفعله الآن ليس إلا محاولة فاشلة للنجاة من ذاك العذاب الذي يصيبني كلما مسكت قلما وجربت أن أخلدك به، هذا الذي ساهم بقتلك كيف يمكن له أن يخلدك؟»
كسر القلم من فرط ما ضغط عليه، ومرة أخرى مزق المحاولة بنزق عارم، باغته صوت هدى: أكثيرا ما تمزق كتاباتك؟
التفت إليها مشدوها من جلوسها على الأريكة خلف ظهره. - أنت؟ منذ متى و.. كيف دخلت؟ - أنت من فتح لي الباب هل نسيت؟ ولكنك انشغلت عني بالكتابة ولم أشأ إزعاجك. - ولكن .. لا شيء، ظننت أنك قد خرجت. - سأخرج لو أردت ذلك.
هذه المرة كان شعرها مسرحا بشكل آسر، ووجهها قد غدا أكثر إشراقا، اقترب منها ينظر في ذاك الوميض المنبعث من عينيها. وأخذ نفسا محاولا أن يتمالك نفسه. - ألم تنته بعد من قصتك الجديدة؟ .. لم أقرأ لك شيئا منذ فترة طويلة.
جلس بجانبها يقول: وربما لن تقرئي بعد الآن. - ما الذي تكتبه إذن؟ أو بالأحرى ما الذي تمزقه؟ - أكتب هزيمتي الجديدة. - «كم هزمتنا الحرب!» - ليست الحرب. - أنت قلت ذلك.
ذهب يتمشى في الغرفة ويسترسل: كنت أكذب .. أقصد كنت أكتب، أما الآن فأنا فقط أحاول الشفاء من هزيمة أخرى .. خسارة لا يمكن تعويضها .. أكتب لنجاة؛ زوجتي التي نجت مني لتتركني في برزخ ما بين موتها وسقوطي، حبيبتي التي دفعتني إلى العزلة عن كل شيء ... نجاة التي ماتت وتركتني محملا بذنب موتها .. فقد كان في وسعي أن أفعل شيئا ولكني ..
تدارك نفسه متوقفا عن البوح، ثم التفت إلى الأريكة ولم يجد هدى .. وهو ليس من النوع الذي يحكي للآخرين عن أوجاعه الخاصة ، لكنه - وربما - كان الآن فقط بحاجة لأن يحكي لا أن يكتب، إنه يريد أذنا ما تسمعه وتهدئ من روعه وتطمئنه، لكن هدى قد رحلت ولم تعطه حتى فرصة للبوح عما يضمر في قرارة نفسه .. جرب أن يشفى من نجاة دون أن يكتبها ولم يستطع .. لا بد من المحاولة مرة أخرى إذن.
3 «رحلت إذن وبقيت أنا وحدي في ركن مكتبي أتساءل عما إذا قتلتك الحرب أم القلم .. قلت لي مرة إن ما أكتبه لا يعني أحدا في زمن الحروب، والحبر لن يقف في وجه الحرب، وإن صوت اللغة لن يعلو فوق صوت القذائف.
نفرت منك ومن الكآبة السوداء التي أصبحت ترتدينها بعد توغل الحرب فينا، وزدت إصرارا وكتابة عن أولئك الذين نزفتهم الحياة من فرط مجازر الحرب، أعدت خلق حياتهم، رسمت واقعهم كما يجب أن يكون لا كما هو كائن، كتبت سيرة الحرب كما أفهمها وأحسها لا كما تحدث .. ظننت أنني أعرف تماما ما يحدث، عرفت أرقام الضحايا يوميا، رصدتهم وأحصيتهم وبكيتهم، لكني لم أشعر بمعنى أن تسقط الضحية إلا بموتك .. لم أفهم العلاقات إلا في تلك الحالة من الذهول عندما دوت صرختك ورأيتك تسقطين فيما كنت أحلم بهزيمة القلم للدبابة.»
دخلت هدى إلى المكتب، جلست على الأريكة وبدأت بخلع حذائها دون أن تنبس ببنت شفة، التفت جاد إليها وكاد يصرخ إلا أنها قاطعته: لا تقلق لن أزعجك أبدا؛ فأنا متعبة وأريد أن أستريح .. يمكنك أن تواصل الكتابة وتعود إلي بعد أن تمزق ما كتبت.
ثم استرخت على الأريكة ومدت رجليها. - لماذا جئت؟
قال، فردت ببرود دون أن تنظر إليه: وجدت الباب مفتوحا .. هل كنت تنتظرني؟
راح يمزق الورقة، ثم قال وهو يستشيط غضبا: هذا لا يعطيك الحق بأن تقتحمي بيتي! - أنا هنا بملء إرادتك .. تستطيع طردي متى تشاء.
ذهب يتحرك في الغرفة بشكل عشوائي دون أن يتفوه بكلمة واحدة، أما هدى فقد عدلت من جلستها وقالت: أنت لا تريد طردي.
تسمر في مكانه وهو يحدق فيها، ثم قال: والآن .. ماذا تريدين؟ - هل تظن أنك بالكتابة ستنتصر؟ - ماذا تريدين؟ - وأن الرواية تهزم الحرب وتخلد نجاة؟
لم يجب جاد، بل شرد بعيدا يفكر، اقتربت منه وسألته بهدوء يعتريه قليل من الحزن: هل مكثت نجاة طويلا وهي مختطفة؟ - بقيت ثلاثين يوما .. من أخبرك؟ - كل الصحف كتبت عن ذلك!
جلس على مكتبه متجاهلا لها، وعاد للكتابة مجددا، أما هدى فقد استطردت بحرقة: كتبوا أنك صمدت رغم كل الضغوطات التي تعرضت لها، وأنك رفضت مساومة الخاطف على قلمك، رغم اختطاف زوجتك، ولكن أحدا منهم لم يكتب كم قاست نجاة أثناء اختطافها .. الكل يقول بأن الكاتب «جاد» يتعرض لابتزاز وحصار ومنهم من قال مؤامرة وآخرون كتبوا: محاولة لاصطياده، وصحيفة أخرى نشرت بأن «جاد» يتعرض لمساومة بشعة، وكلهم ألحقوا الخبر بأن زوجة الكاتب «جاد» مختطفة ولم تذكر صحيفة واحدة اسم نجاة .. نجاة أقصد نجاة نفسها .. نجاة ... - كفى!
صرخ بملء فمه ومزق محاولته الجديدة.
4 «لست أنا، إنها الحرب .. أنا عاجز أمامها يجب أن أعترف، لم أستطع أن أخلصك وأخلص نفسي من وجع الفاجعة، وانتظرت شيئا ما ينقذك ولم يحدث، ومنذ ذلك اليوم وأنا مدفون في مكتبي بين محاولات عاجزة عن تخليدك.
إني أحس بهول فقدانك يستجمع نفسه كغيمة سوداء قاتمة، لقد تقيأت الكثير من الدم والحزن هذا اليوم، تقولين بأن هذا الحزن عام، والدم يفترش الطرقات، تلك هي الحرب .. ربما ولكن الحرب التي أخذت السنين الأخيرة من حياتي ليست أكثر من هذا الشعور الآسن بالهزيمة والوجع والفقد المشوب بالوجد».
استيقظ جاد من نومه أو من شروده؛ فقد قضى ليلته في سهد يتفرس النظر في سقف غرفة نومه، غرفة خيبته وبؤسه .. اتجه إلى المكتب المكتظ بالفوضى فوجد هدى تجلس هناك وقد جمعت جميع أوراقه الممزقة لتقرأها، اقترب منها مسرعا فقالت بهدوء: قرأتها للمرة الثالثة .. أعرف جيدا كم تحبها، ولكنك لن تستطيع كتابتها.
أخذ المحاولات منها ثم وضعها في سلة القمامة. - ستمزق كل المحاولات إن بقيت هنا .. لن تستطيع أن تكتب نجاة وأنت مطوق بأسوار بيتك .. كل شيء يحدث في الشارع .. الحقيقة هي ما يحدث خارج أسوار بيتك فقط.
قال وكأنه ينفجر: لا أستطيع أن أصدق أن الحرب شيء حقيقي وأنها لم تزل مستمرة! - تكذيبك لما يحدث لا يلغي حقيقته.
قالتها وذهبت إلى باب الخروج، لحقها صوته المرتجف: سترجعين .. أليس كذلك؟ - سأخرج .. يمكنك أن تأتي معي.
فتحت الباب ولم يلحقها، فقالت وهي تشدد على الكلمات: لا شيء داخل بيتك حقيقي. ولكني غدوت أعرف أن حبك لنجاة حقيقي جدا. - ابقي هنا أرجوك، ربما لن أستطيع كتابة نجاة، ولكني أستطيع أن أرويها لك .. منذ زمن لم أر أحدا، لم يثبت لي أي آخر أنني لم أزل حيا، وكل الآخرين منهمكون هناك في الحرب. - الآخرون في الشارع، والحرب في الشارع وحبيبتك قتلت في الشارع، والقاتلون والضحايا هناك .. لقد مررت بضحية كادت أن تكون أنا، لقد أخذت مكاني دون أن تعرف، كان القناص يقف على سطوح بناية، ويبحث عن ضحية، وانطلقت رصاصته تماما في لحظة ابتعادي واقتراب الأخرى مكاني .. لقد سقطت أمامي وأدركت أن الحرب كلها هي المسافة بين القناص والضحية .. لن ترى شيئا من هذا إلا إن خرجت .. هناك ستجد أن نجاة كل يوم تسقط. - ما لا تعرفينه أن نجاة هي التي رفضت المساومة ولست أنا .. لقد أنقذتني - بموتها - من التورط بالتفكير في الأمر.
خرجت هدى دون أن تنبس ببنت شفة، تردد جاد قبل أن يلحقها ويخرج لأول مرة منذ غياب نجاة، وصل أسفل البناية، بحث عنها ولم يجدها، كان يتوقع ذلك بل يعرف أنها لن تكون وأن عليه هو أن يكون ويرى، وأول ما أدركه أن هدى هي الضحية، ضحية المسافة بينها وبين القناص، وهذا أيضا لم يكن مفاجئا بالنسبة له، ولكن الصادم في الأمر، والشيء الوحيد الذي لم يكن يعرفه حينها أن الشارع الآن هادئ!
5 «خرجت اليوم إلى الشارع، ذهبت إلى الطريق الطويل الذي كنا نمشي فيه عادة قبل أن يسلبوه منا ويحولوه إلى ساحة حرب لطرفين لا يمكن لهما البقاء معا، على أحدهما أن يموت حتى يبقى الآخر، أو هكذا كنت أظن قبل أن أخرج وأرى الحقيقة.
رأيته يرجوه، تماما كما فعلت .. كان يحمل بيده سكينا ويضعه على عنق طفلة لم تتجاوز العامين من عمرها، أما أبوها فكان يقف بعيدا ويتوسل إليه، تماما كما فعلت، عجز عن الاقتراب، فقال للخاطف: أرجوك .. إنها طفلة لم تفهم الحرب، ولم يزدحم قلبها بالعنف بعد .. أرجوك أبقها لي؛ فالجينات لا تحمل في ذاتها الحروب.»
لم يسمع شيئا، تماما كما فعل معنا، وقبل أن يحز عنق الطفلة جاءه اتصال يبلغه بأن الحرب انتهت، فقطع بالسكين وردة وقدمها للطفلة ثم سلمها لأبيها وبدآ يتبادلان أطراف الحديث وكأن حربا لم تكن.
لقد ذهبوا ثلاثتهم معا، ولم يمت أحد .. كل أطراف الحرب يتسكعون معا في طريقنا الذي سلبوه منا، أما ضحايا الحرب فقد رحلوا قبل أن يعرفوا بأن الحرب ستنتهي بقرار القائدين .. بتصريح واحد. بلحظة .. دون أن يكترث أحد بمن انتصر ومن الذي هزم .. كل ما في الأمر أن الحرب هزمت الجميع.
تقمص
قالت كلمة «أحبك» أكثر من مائة مرة، وبالمثل أو أكثر قليلا كتبها علي ... في المرة الأخيرة قالتها لقاتلها قبل أن يغرز السكين في بطنها؛ ليقتلها ويقتل الجنين في أحشائها.
كانت تجلس باكية، مستسلمة لما يحدث، لما تعرف تماما بأنه سيحدث وأتقنت الادعاء بأنها لا تعرف ... اقترب منها قليلا، أخذ السكين وصوبه نحو صدره وفي اللحظة الأخيرة غير وجهته إلى بطنها وهو يصرخ صرخته الأخيرة الفاجعة، تلك التي دوت في كل الآذان المنصتة جيدا، ما جعلهم يسمعون أيضا صرخة الجنين، ثم هوت أرضا مصدرة تلك الآهة العميقة من أحشائها؛ من وجعها وجنينها الذي لحقها بموته.
أطفئت الإضاءة تدريجيا، وأسدلت الستارة، ثم صفق الجمهور بحرارة ممزوجة بالبكاء والابتسامات العريضة.
بدأ الناس بالخروج من الصالة، مروا جميعهم من جانب علي الذي كان يجلس قرب باب الخروج، وأصواتهم تسقط عليه بشكل عشوائي وسريع: كان عرضا مسليا. - تهيأ لي أني سمعت بكاء الجنين. - كل الرجال شكاكون. - الرجال مخلوقات قذرة .. معجونة من الشك والقتل. - هه .. تمثيل. - كانت مبهرة في المونولوج الأخير . - كم أحببته .. لا يستحق الخيانة قط. - يا إلهي كم أحببتها! .. كان يجب ألا تموت.
خرج الجميع واختفت الأصوات من حول علي فيما ظل وحده ينتظر قرب الباب ... أطال التأمل في خشبة المسرح، «قالتها أكثر من مائة مرة»، أسر في نفسه وواصل الانتظار.
جاءت مريم والبسمة ترتسم في كل تفاصيل وجهها المتألق، عانقته بعمق فيما ظل علي باردا شاردا في كل ما حدث. - ما بك؟
قالتها وقد أخذت نصف خطوة إلى الوراء، نظر في عينيها طويلا، وأومأ برأسه أن لا شيء، فأردفت: هل كنت جيدة؟ أعني ... هل كنت كما تخيلتني؟ - كنت صادقة جدا. - أتقصد لحظة الموت؟ - لم أكن أريدهم أن يتعاطفوا معك حينها.
ردت وقد امتلأت بالغيظ: آهه، أجل ... أردتهم أن يشفقوا على الرجل المسكين البائس، ذاك الذي كاد يقتله الشك ما جعله يعاني الفصل الأخير بأكمله، أليس كذلك؟ - لا ... أردتهم فقط أن يسمعوا صرخة الطفل ... أن يروه جيدا ... ذاك المسكين الذي دفع ثمن علاقة لا شأن له بها. - فيم صدقتني إذن؟ - في كلمة أحبك.
نزل درجات الصالة متجها إلى خشبة المسرح، لحقته بهدوء فيما كانت لم تزل ترتدي ملابس الشخصية، ورائحة الدم ما زالت تفوح من المشهد ... وقفا في منتصف الخشبة تماما، في منتصف الصراع، منتصف الخيال .. إلى أن صرخ علي ليوقظ الواقعي فيه: قلتها أكثر من مائة مرة في أقل من خمس سنوات! - لأنك كتبتها أكثر من مائة مرة. - وفي كل مرة أصدقها أكثر .. أنت تجيدين الحب بصدق على الخشبة فقط. - وأنت لا تجيده إلا في النص.
دخل أحد المتفرجين إلى الصالة يبحث عن شيء ما، فاستوقفه المشهد، ثم لحقه آخر وشاهدا عليا يقف في عمق المسرح، ينظر في الستارة السوداء ويتحدث كأنما يحدث نفسه: عشقتهم بصدق ... كدت أسمع أمعاءك تنطق حبا، تراءى لي قلبك يقفز من مكانه فرحا بحبه كما تمزق حزنا لفقده ..
دخل متفرجون آخرون إلى الصالة، وعلي يواصل: كنت طوال الوقت مستسلمة للموت فداء للمعشوق .. بل لكل المعشوقين الحمقى.
جاء آخرون إلى الصالة، فيما قالت مريم : أنت الذي أردتني مشابهة ككل اللائي خلقتهن؛ مستسلمة، بائسة ومهزومة .. أنت لا تحتمل وجودي خارج نطاق خيالك. - بعد كل عرض يحدث ما يحدث الآن .. مع كل دور تلعبينه كنت تخلعين قناعا آخر. - ومع كل نص كنت ترسم جانبا آخر من فتاتك المشتهاة .. تلك التي لم ولن أكونها يوما.
هم علي بأن يصرخ، ولكنه اختار أن يصمت.
كان يعرف جيدا أن المسرح في كل عرض يعيد تعريف العلاقة بينهما؛ تلك العلاقة التي ترفضها كل الأعراف، أراد بالكتابة أن يفصح عن عمق حبه، أن يعري كل شيء بحبه فقط .. وأدرك تماما بأن الخيال لا يكفي ليكونا عاشقين. وكانت مريم توقن بأن الخشبة تبرز الفجوة بينهما وتفضحها، تحاول عبثا أن تعري المجتمع ولكنها لا تصلح شيئا.
جلست في منتصف الخشبة شاردة، كأنها تحاول بشرودها أن تمنع دموعها من الانهمار، أما علي فقد واصل الصراخ كأنه أراد بصراخه أن يخفي المشكلة الحقيقية بينهما.
كانت الصالة قد ازدحمت بالجمهور تماما، فيما اقترب علي من مريم ووجد السكين بجانبها، «كانوا قد نسوه هنا بعد العرض». أحنى ظهره ينظر فيه، لاحظ لونه المصطبغ بالأحمر، تماما كالدم، أطال النظر فيه ولم يأخذه .. تسمرا على تلك الحال لبضع ثوان إلى أن بدأ الجمهور بالتصفيق الحار والطويل.
حلم
حبيبي .. قبل أن أبدأ .. اسمح لي أن أكررها: حبيبي، حبيبي .. أتسمع؟ أقول لك حبيبي .. منذ ولادتك لم أقلها لأحد، أسمعها كل ليلة وأعجز عن قولها .. لست أشتاق إليها فهي تعيدني إلى تلك الحالة المريبة من الانقباض والاشمئزاز من كل شيء .. ولكني طوال الوقت أشتهيها كما تشتهيني كل العيون المكتظة على الأرصفة والمطاعم وفي كل مكان.
أعرف بأنك تبغضني وأعرف حجم النقمة التي تعشش في صدرك منذ سنين، وأعرف بأنك طوال هذه السنين وأنت تستجمع البصاق لتقذفه في وجهي، طوال الوقت وأنت تقحم الكلمات العاهرة في معجمك لترشقها الآن في وجهي .. أعرف ذلك حق المعرفة، ستقول عاهرة رفعت رجليها لأول عاهر طريق كي تحبل بخطيئتها تسعة أشهر صامدة صامتة لتقذفها في نهاية الأمر إلى قاع المدينة المزدحم بالخطايا، ومضت تكمل حياتها وكأن وجعا لم يكن .. ستقول أيضا بأنني قاسية ملعونة ألقيتك عن جسدي وكأنك العار، أجل فعلت، حررتك مني وجعلتك تتخبط في منعطفات الحياة وحدك.
كان يمكن أن أقتلك في رحمي، فقد طلب مني أبوك أن أفعل وأجهضك ولم أشأ، قذفك في رحمي لأقذفك إلى الحياة ثم تركلك بدورها إلى الشوارع والأزقة وشارات المرور ومأوى الأيتام ليعيدوك مجددا إلى حضني ..
كم أشتهي أن أضمك إلى صدري ولكني أخاف أن تصفعني لتنهي بذلك لقاءنا الوحيد .. لا أريد له أن ينتهي، أريده أن يطول لأخبرك الحقيقة التي أملكها وتفقدها أنت، ولكن الحقيقة بحاجة إلى قوة كي تقال، قد أموت قيد المحاولة البائسة في قولها.
مهلا لا تهرب .. استمع حتى النهاية، أعرف بأنك مشبع بالأفكار عما حدث .. لا تريد أن تمحى تلك الصورة المشوهة من رأسك، لا تريد لذلك الحقد الذي توغل في صدرك أن ينطفئ .. ستشعر بالعجز عن ضربي وشتمي إن سمعت، ستشعر بالتشوه والأسى إن لم تجدني العاهرة التي أردتها لتنتصر على وجعك بضربي.
تستطيع الآن أن تراني جيدا .. انظر فأنا امرأة جميلة، يقولون إنني أمتلك جاذبية ما .. أرتدي ملابس جيدة وأنيقة، وأسرح شعري كما ترى، الديدان لا تخرج من أنفي، والعفن لا ينمو من مسامات جلدي، هل ترى؟ رائحتي ليست كريهة كما أنني لا أضحك بصخب فاجر، أتفهم؟
أرأيت؟ تقول إنني أنثى الشيطان، أنجب الأطفال لألعنهم .. ألقي بأطفال شهوتي إلى الجحيم .. تقول بأنني أنام مع عشرات الرجال يوميا لأكتنز ثروة هائلة بحجم ضحايا جسدي .. انتظر فأنت تستطيع أن تسمع الحقيقة فهي بعيدة عنك وعن تصوراتك كلها .. قد تكون موجعة، قد تجعلك عاجزا وتجمد قبضة يدك التي ستحاول عبثا لكمي.
الحق أنني أكذب، فأنا أيضا لا أعرف الحقيقة حق المعرفة .. ما أذكره أنك فعلا كنت الخطيئة التي ركلتها أقدام من عرفوها .. كنت الشاهد الوحيد على عارهم وعلى أمومتي .. خبأتك بكل ما أوتيت من وجع .. ضغطتك بالأقمشة والملاءات، شعرت بك تختنق في بطني وأنا أشدك بالمشد في محاولة مني لأن أخفيك وأحميك، ونجحت في أن أراك تبعث أمامي إلى الحياة.
عندما أنجبتك كنت في بداية بلوغي، كان صدري قد نهد فأبصرته كل العيون .. كل العيون تبصر صدري ولكن واحدة منها لم تبصر ما في داخل صدري .. حاصرتني العيون وحملتني من يد إلى أخرى وفي كل رحلة تزداد تشوهات جلدي التي امتدت إلى قلبي.
أنا امرأة شقية يا حبيبي .. كل تلك السنين وأنا في هذه الحالة من الانتظار البائس لألقاك وأخبرك كم قاسيت لننجو معا .. ولكن ما حدث فعلا هو أنني ... •••
انزلقت الدمعة الأولى من عينها ولم تواصل حديثها، بل طوت قطعة القماش التي كانت طوال الوقت تحدثها ومسحت بها دمعتها .. في تلك الأثناء خرج رجل ثلاثيني العمر من الحمام يجفف جسده العاري. وضع لها بعض النقود دون أن ينظر في عينها وراح يرتدي ملابسه.
جسد ومشنقة
انتظرت مجيئه طويلا؛ ليس ليخرجني من السجن، بل لأشعر بأن أحدا ما ينتظرني في الخارج .. ولم أكن أعرف بأن انتظاري مثير للسخرية والشفقة معا، أعرف جيدا أنه لن يأتي ولكني كنت في أمس الحاجة لشيء ما يدفعني للحياة في الزنزانة؛ ليس حبا في الحياة ولا خوفا من الموت، بل بسبب انعدام الخيارات، فلا سبيل للانتحار هناك، علي أن أجد دوافع للحياة إذن.
بدأ الأمر بإنشاء علاقة طيبة مع فأر، تذكرت أول الأمر كم كنت أخشى الفئران، ولم أجرب يوما بأن أقيم علاقة طيبة مع واحد منها، ربما كنت بحاجة لزنزانة حتى أكتشف كم هم لطفاء .. إنه يصعد على جسدي ويتجول على سطحه دون أن يؤذيه، لقد بات يلعب معي، يصل إلى صدري ويهبط، اكتشف في ذلك لعبة مسلية، لم يؤذني البتة، لم أشعر بأي خطر لملامسته جسدي!
عدت وحيدة بموته؛ فقد ضحى بحياته لأجلي، أرجوكم لا تهزءوا بي، لقد فعلها حقا .. حينها قدموا لي وجبة ذات رائحة نتنة، ولكني قد اعتدت الروائح حيث لم أعد أفهم متى يكون الطعام فاسدا ومتى يكون نتنا وحسب، لقد تناول الفأر جزءا منها وانقلب على ظهره، ثم بدأ يترنح إلى أن انطفأ ومات.
كان علي أن أجد سبيلا آخر للاستمرار في الحياة، فبدأت أترقبه وهو يفنى، ظننت أنني سأفهم العدم والفناء من فأر جامد أمامي، ولكن الحراس لم يسمحوا بذلك، وأخرجوه من الزنزانة حرصا على سلامتي ومشاعري.
عدت للانتظار ثانية، وحيدة، بائسة في مكان قاتم وغامض وزمن غائب، السؤال عن الزمن في مكان كهذا يبدو ضربا من المهزلة، الزمن هنا دون ملامح، يفتقد بقسوة أبعاده الثلاثة ليضيق معناه في شيء واحد وهو الذاكرة، أو فلأكن أكثر صدقا .. الحنين، هذا الشعور الساذج بتجميل الماضي حيث لم أعد أفهم إن كان ما أعيشه هو ذاكرة أو ذاكرة مشتهاة، «نعم، الحنين يخدعنا.» وليكن، اتركوني غارقة في تلك الخدعة عساني أنتصر بالذاكرة على العزل والوحدة.
كنت أومن بأن تلك العزلة ستنتهي، لكني أردتها ألا تقتلني قبل أن تنتهي، كان يجب أن أرمم نفسي باستمرار حتى لا أخرج من هنا منهارة فاقدة لأبسط ملامح الحياة، فكان لا بد من تلك الخدعة المتعلقة بالحنين، وسألت مجددا: «لماذا لم يأت؟» زيارة واحدة تكفي كي أدرك أن لي في الخارج حياة ما، أعرف أنهم يخشون أثر الزنزانة، أعرف أن الزنزانة إذ تنطبع على أجسادنا يصعب التعافي منها، ولكن كان يجب أن يأتي لمرة واحدة فقط، لقاء واحد يكفي ليعرف الحراس أن لي زوجا وحبيبا في الخارج ينتظرني. لا لشيء وإنما كي يحمي جسدي من الحراس.
في الزنزانة أو حتى في السجن كله، لا مكان لجسد امرأة وحيدة، لو أن أحدا في الخارج سأل عني مرة واحدة! لو أن أي رجل في الخارج أحضر لي رسالة أو وجبة أو قميصا لما كنت وحيدة ولما تعرضت لكل ما تعرضت له فيما بعد.
بدأ الأمر بهمس يشبه حفيف ثعبان خلف باب الزنزانة، اقتربت لأسمع ذاك الهمس، فكان صوت الحارس يقول لحارس آخر: «لا تقلق .. ليس لها أحد.» ولم أفهم كل ما قيل ولكني أدركت أنهما قررا أن يتقاسما جسدي مناصفة، وكل ما يحدث ما هو إلا تفاوض على من يبدأ؟ وكيف؟
كيف يمكن لامرأة مزقتها العزلة، فتركت معلقة بذاكرة قد غاب أبطالها أن تقاوم سجانا ورجلا؟ لا أحد في هذا الكون يدري بما شعرت، ولا أن يفهم معنى أن تكون مسلوب الحرية بين عالم من الحراس الرجال، كيف يمكن لأحدهم أن يدرك ما الذي أعانيه وما الأشياء التافهة التي أحتاجها؟ لا شيء .. فقط رجال، وأصوات رجال، وتحقيق من رجل، وتعذيب من رجل.
وأقسى ما شعرت به لحظتها أنني كنت أعيش وسط الهمسات؛ حيث تتحفز كل الحواس ولا تدرك شيئا، الرؤية معدومة، سوداء، قاتمة، روائح نتنة لم تزل تفوح من هذا العالم الغريب، ولا أستطيع أن ألمس سوى جسدي المرتجف، والذي راح يتصبب عرقا .. أما السمع فهو أقسى ما أحس، أصوات خشنة منخفضة، همس مرعب دون أن تدرك إن كانت همسات بشر حقيقيين أم لا.
فتح باب الزنزانة بعد لحظات من التمتمة التي لم أسمعها جميعها، وقد بدا واضحا أن الحارسين أخيرا أنهيا تفاوضهما واتفقا أن يدخل الأول ويراقب الآخر له المكان ريثما ينهي مهمته ثم يتبادلان الأدوار، دخل الحارس وقد أغلق بنفسه باب الزنزانة علينا، وترك المفتاح في سكرة الباب. لقد رأيته جيدا، لم يكن وحشا، صدقوني، كان يبدو كائنا بشريا يشبه أولئك الذين نراهم في الشوارع والساحات العامة، يمتلك عينين اثنتين تماما كأي إنسان، ذو ذقن وشعر عاديين، حتى إنه يجيد الابتسامة، لا تتصوروا أنها ابتسامة صفراء شريرة توحي بالجريمة، لا، أقول الصدق، إنها ابتسامة عادية بسيطة فيها شيء من الفرح العادي، كما أنه يستطيع أن يسعل، لا أتحدث عن سعلة مرض، رغم أنه يجيد المرض أيضا، بل أحكي هنا عن تلك السعلة التي تسبق فعلا أو قولا ما، تلك اللحظة التي تضع يدك أمام فمك وتسعل سعلتين خفيفتين قبل أن تصارح الآخر بشيء ما، تماما مثلهما سعل قبل أن يأخذ خطوة إلى الأمام.
انقبضت على نفسي في زاوية الزنزانة، فك حزامه وتركه يسقط أرضا، لم أزل هناك في الزاوية فيما بدأ جسدي ينضح بالعرق وقلبي يصدح بنبضات سريعة وكثيرة، فك زر بنطاله الأول واقترب، أخذت زاوية أخرى، لأحافظ على أكبر مسافة ممكنة بيننا والتي لا تتجاوز المتر، فك زره الثاني وبدأ جسدي يقشعر ويرتجف من رأسي إلى أخمص قدمي، فك الزر الثالث فامتلأ صدري بشحنة من الاشمئزاز من كل شيء، فك الزر الأخير، سرقت حزامه عن الأرض وقمت بلفه حول عنقه فيما راح يزمجر كخنزير يختنق، أما الحارس الثاني فقد بدأ يدق بصوت خفيف على باب الزنزانة، وأنا أشد، هو يزمجر والآخر يدق وأنا أشد، رفع صوت الطرق بقوة وأنا أشد بقوة أكبر إلى أن انطفأ صوت الخنزير تماما وسقط أرضا.
في لحظة موته تذكرت الفأر الذي قتله بالطعام الفاسد، وتساءلت: أيعقل أن يموت الفأر اللطيف الآمن ويبقى هذا الرجل حيا؟ لم أحتج إلى أدنى تفكير قبل أن أجزم بضرورة موت الحارس دون أدنى شعور بالتعاطف.
لطالما شعرت بأن التعاطف سمة إنسانية تفرض نفسها على الأفكار والمعتقدات ولا تكترث بآرائنا، ولكني اكتشفت حينها أن مشاهدة جثة الحارس مسجاة أمامي لا تبعث على التعاطف أبدا، كل ما في الأمر أنني شعرت بالاشمئزاز، بل كدت أموت لفرط التقزز .. كنت سأكون المرأة الأولى في الحياة التي تموت اشمئزازا. •••
استمع القاضي لرواية القاتلة، طرق بمطرقته الطاولة، دون أن يفهم أحد إن كانت غضبا أم محض فعل عادي يوحي للنطق بالحكم، وما هي إلا دقائق حتى طوقوا عنقها بحبل مشنقة فيما كانت تنظر إلى عبارة مرسومة على لوحة كبيرة، ابتسمت قليلا وهي تقرأ: «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.» فضحكت ثم قهقهت، سحب الكرسي من أسفل قدمها وماتت وهي تضحك بصوت مرتفع ظل صداه يتردد بعد موتها.
خطايا
في ذاك الليل الغريب الذي يتفتح على خلاياي، كنت أجلس في الساحة الواقعة أمام المطعم، أنتظر مديري ليأخذني إلى سكن العاملين، فوحده من يعرف حقيقة أمري، تأخر قليلا فأخذت أستعيد لحظاتي الجامعية والسنوات الفائتة التي تنبعث منها رائحة الطيش والرعونة.
تملكني ذعر شديد من أن تداهم سيارة شرطة المكان، ويأخذوني إلى السجن فلا يعود للعائلة من معيل، وراحت تتطاير أفكاري اليائسة وتحوم في نسيم هذا الليل من حولي .. كان يجب ألا آتي إلى هنا ولأنتظر أية وظيفة قذرة .. في غمرة ما أحياه من تخوف تهجم مثل هذه الهواجس وتشعل فتيلة الخيالات المروعة، وما تلبث أن تنطفئ إذ تأتي «ديفال»، فهي وحدها القادرة على تخدير عقلي وترويض هواجسي.
انتابني فضول فادح لأنظر إليها في الوراء، وأرى ماذا تفعل تلك الشقراء الروسية التي تبعث في ذاك التحفز الغريزي المجنون لأقترب منها حد الالتصاق .. ترددت قليلا وعقدت حاجبي جديا لأدع الأمور تجري وتنساب على مهل، كما أنني أحب هذا النوع من المماحكة النسائية الجميلة ولاسيما إن اندلعت من امرأة محترفة مثل ديفال.
شعرت بالوقت بطيئا جدا إلى أن تركت لصوتها الرقيق حرية الانسياب: تبدو نزقا إلى حد ما.
ذهلت أول الأمر فنادرا ما يتدخل أحد في شئون الآخر هنا، في حيفا مجمع الغرباء، وبعد قليل من الصمت ابتسمت وقلت في محاولة لاستثارة فضولها: قليل من الشرود وحسب.
وقفت بمحاذاتها أنظر في وجهها الحائر وسط هذا الليل الذي يطيب فيه الهواء، وكانت النسمات الرهوة تداعب شعرها الأشقر، وعنقها يشع متوهجا .. رمقتني بنظرة مسروقة وما لبثت أن أدارت وجهها الشفاف المتألق. حركت في أعماقي موجة عاتية من اللهفة المجنونة ما جعل الأمور تبدو أكثر وضوحا؛ لأجترعها على مهل، وأنبس بكلمة لتشق الطريق إلى ما يريده كلانا: أوشك الفجر على الانبلاج .. قد تتأخرين.
أزاحت بضع شعرات عن عينها الزرقاء، وارتسمت بسمة خفيفة على ركن شفتيها، ثم قالت: ذهب زوجي في مهمة وقد يغيب أسبوعا عن المنزل.
نظرت متوترا إلى الخلف ورحت أجوب المكان بعيني باحثا عن المدير، وباندفاع مرتبك اقتربت منها وتقلصت المسافة بين عينينا حتى أحسست بأنفاسها الحارة تغسل خدي، وهمست: هل نتجول قليلا؟
ودون أدنى إجابة مشينا في شوارع المدينة التي تسترخي ببطء وكأنها تذوب في الليل، وعدة أضواء متناثرة تتلألأ هنا وهناك، أما الخوف فقد هرب مني وسقط خلفي غير مكترث ؛ فرجال الشرطة لا يقبضون عادة على عشاق آخر الليل. - تعرف أنني متزوجة، أليس كذلك؟ - وأعرف كم أنت ..
مرت دورية شرطة فلذت بالصمت قليلا وابتلعت ريقي، ثم حاولت أن أكون طبيعيا حتى لا تدرك شيئا عني، رمقتني بنظرة تكسوها بسمة خبيثة وهي تقول: تبدو خائفا ... هل أنت عربي؟ - أبدا. ولكن أنا .. لا، لا شيء.
ترددت قليلا وانسل الخوف إلى أضلعي وأطرافي، واجترعت الصمت الحائر متوترا أنتظر فرصة ما تسنح لي بالتهرب منها والاختباء ريثما يطلع الصباح، تأملت في عيني قليلا وهي تقول: لا تخف. - أنا مضطر للعودة .. قد نلتقي في يوم آخر.
وهممت بالرحيل، فأمسكت بيدي وجذبتني إليها لتهمس في وجهي: قلت لك ألا تقلق، فلن أشي بك.
التفت يمينا ويسارا وقلت برجفة في لساني: لماذا؟ - لأنني لا أحب الشرطة كما أن زوجي غائب عن البيت كما أخبرتك. - وما شأنه؟ - العرب أقل حماقة مما أنت عليه.
تنهدت وهي ترمقني بنظرة مثيرة، وشعرت بحرارة في وجهي الذي بدأ يتعرق، وضعت يدي برفق على خصرها من أسفل ظهرها ثم نبست: سيطلع الصبح بعد أقل من ساعتين.
قالت مستثارة: ألا تكفي؟
ضحكت وطلبت سيارة أجرة لتذهب بنا إلى منزلها. •••
كان الليل قد بدأ يضمحل وبان الخيط الأبيض من الأسود، وبدت لي أضواء البنايات باهتة وأقرب إلى الومض الممزق. نزلنا عند مدخل منزلها، وما إن دخلنا وأغلقنا خلفنا الباب حتى اجتاحتني دفقة من التوتر الغامض مع قليل من الخوف، ورغبة حادة في الهرب، جلست على الأريكة وذهبت ديفال إلى غرفة النوم.
لا أعرف ما هو ذاك الصوت الصاخب الذي كان يصرخ في أعماقي، ربما كان صوت أمي، وكلما هممت بالخروج كان ثمة ما يشدني إلى الأريكة، قد تكون العلاقة الأولى دوما مرعبة بهذا الشكل، وأنا لم أصل، يوما، في أية علاقة إلى السرير .. وبقيت جالسا منقبضا، يتراءى لي شرطي سمين يخرج من خلف الباب عاريا ويرفع لي أصبعه الأوسط .. أضحك من سذاجتي، أتذكر شهادتي، أمي، المنزل، المطعم، المدير ...
ثم أطلت ديفال من الغرفة رشيقة وقد بدلت ملابسها، وكانت كفيلة لتجلي كل ما يجول في رأسي من هواجس، كانت مثيرة بقميص نوم فضفاض نهدي اللون، ويمتد من منتصف صدرها إلى أعلى ردفيها، تأملتها طويلا فاغرا فمي محملقا عيني مشدوها بما أرى من شفتيها الشهوانيتين إلى عنقها الوهاج مرورا بصدرها الناهد والذي يبرز أعلاه من فتحة قميصها الرخوة، وصولا إلى ساقيها الممشوقتين.
اقتربت لتجلس بجواري، كانت تحرك شفتها السفلى المتهدلة بشكل مثير، وتحدق في وجهي المرتبك، فتحفزت أعصابي وأدركت أمام سلطة جسدها كم أنا ضعيف!
وبعد هذا الاجتياح المثير بمفاتنها تناثر ضباب مشوش في ذهني ولم أعد أرى إلا الطريق القصير إلى السرير، ومثل حفيف ثعبان همست في أذني فيما كان هواء فمها الحار يمسح أذني: أنت تكثر من الشرود والتفكير.
ثم اقتادتني إلى السرير وأنا في غاية من الاستسلام. وهناك بدأ كل شيء وانتهى في بضعة دقائق.
ارتميت على السرير وذهبت ديفال إلى الحمام. •••
خرجت من الحمام وهي تجفف شعرها وجسدها، ثم اتجهت إلى خزانة ملابسها دون أن تكلمني، فقد مضى كل شيء بسرعة فائقة. أما أنا فقد انطفأت تماما، ارتديت ملابسي وقلت بتردد: لنا لقاء آخر.
لم أكن متأكدا من أني أريد اللقاء الآخر، ولكن كان يجب أن أقول أي شيء لأهدئ من روعها. اقتربت أكثر فشاهدت في خزانتها قميصا رسميا وبطاقة ملتصقة بأيسر القميص من الأعلى مكتوبا عليها بالعبرية، سألتها عنها فأجابت ببرود: إنها ملابس زوجي، ألم أخبرك بأنه ضابط في المخابرات؟
أجبتها وكأن الأمر لا يعنيني: على الأقل ليس في الشرطة.
خرجت صوب الباب، تبعتني لتفتح لي، سمعنا صوت محرك سيارة، ذهبت مسرعة إلى النافذة المطلة على الشارع، وعادت هلعة لتخبرني بأنه زوجها وقد وصل على حين غرة، ولم يكن مني إلا أن أندفع مجنونا إلى الباب الخلفي، فأسرعت صوبي وشدتني من قميصي وهي تتلعثم: مهلا .. ولكن .. حسنا، ثمة مركز شرطة في نهاية هذا الشارع.
تراجعت عدة خطوات ثم تسمرت مرتجفا في مكاني، وشعرت بشيء جنوني يحدث لي لأول مرة، وكل الأشياء الفوضوية صارت تسير في خط واحد؛ الدراسة، غياب الوظيفة، أمي، المطعم، تصريح العمل، الشرطة، رجل المخابرات .. كلها في خط واحد تطفو فوق كل شيء ثم تعلو وتنقض منفجرة على قلبي تماما. كنت ألهث خوفا، والعجز اللعين يقتل كل الحلول الممكنة التي بدت مريبة وتبعث في وجداني ذاك الحقد الأسود على كل شيء.
أن أقف على مفترق مأزقين: التورط برجل مخابرات أم بدورية الشرطة؟
أما ديفال فقد جلبت لي قميص زوجها وقدمته لي، فلا أحد، كما قالت، يفتش رجال المخابرات، أخذته من يدها وارتديته سريعا حائرا فيما يجري، عدلت لي قبة القميص فكادت تخنقني ومسحت بيدها بطاقة المخابرات، ثم لذت بالفرار من الباب الخلفي لأسمع صوتها يلحقني: لا تنس لقاءنا القادم .. وقد غدا الآن أكثر أهمية!
وبعد عدة أيام اتصلت بي وأخبرتني بأنها وزوجها يريدان مقابلتي لأمر هام للغاية.
شهيد
علقوا له العديد من الصور، أغلقوا الشارع العام ورفعوا فوق سطوح بيته رايات بألوان العلم الأربعة، أوصى البقال على كمية كبيرة من التمر، أحضر الشاعر أوراقه وبدأ ينظم قصيدة، أما أمه فقد احتمت من البكاء بالزغاريد؛ في كل لحظة توشك الدموع أن تنهمر كانت تطلقها على شكل زغرودة أخرى.
هم أحد أصدقاء الشهيد بمنعها لولا أنه كان يحمل التابوت، كان ثقيلا جدا ولم يستطع أن يتركه ويذهب إليها، نظر فيه عابر جنازة، وقال: «دعها وشأنها .. يجب أن تواصل الزغاريد.» وبدأ بالهتاف بأعلى صوت: «زغردي يا أم الشهيد .. ابنك في الجنة أكيد.» الناس كلها تكرر الهتاف ذاته.
أمه تواصل ولا تبكي .. ربما الجنة وحدها ما تدفع الدموع إلى الجفاف لتنطلق بسمة الأم ويتحول النواح إلى هتاف، والحزن إلى فخر واعتزاز. أما عن الشيخ الذي كان يمشي في المقدمة فقد قال: «كان دوما يرتاد المساجد.» علق آخر: «كان مثقفا.» وبدأت الأصوات تخرج بين الهتاف والهتاف وتغزو التابوت: رحمه الله كم كان شجاعا! - رأيته عندما كان يترأس المواجهات. - هجم وحده على الدورية. - يقال إنه كان يملك سلاحا. - نعم .. الجنود سيقتحمون البلدة ليلا .. أنا متأكد.
كان يسمعهم جيدا وهو يرتجف داخل التابوت، جسده ينزف، والألم يخز صدره ويعتصره بصمت، ولم يصرخ، وضع يده على فمه مرغما نفسه على الصمت، ثبت باليد الأخرى ركبته كي لا يرتجف التابوت مع ارتجافه إلى أن حانت لحظة الدفن وقرر أن يصرخ كي لا يقتله التراب، أطلق صرخة موجعة تكفي ليصمت الجميع مذهولين بما يرون ويسمعون. •••
انتزعت كل الصور المعلقة، سقطت الجدارية، وأخذوا الرايات المعلقة وعلق دورها إلى لحظة استشهاد أخرى، سكتت الأغاني الوطنية، وعاد الأصدقاء إلى المقهى يتبادلون أطراف الحديث، وأعاد البقال كراتين التمر إلى تاجر الجملة، وغير الشاعر عنوان القصيدة، أما أم «الشهيد» فقد عادت إلى البيت وأجهشت بالبكاء ... عندها فقط استطاعت البكاء بكل ما أوتيت من فرح وحزن.
الرمية الأخيرة
«إلى الشهيد غسان عباس الريماوي،
ذاك الذي حسم سؤال الموت والحياة.»
1
إنها الرمية الأخيرة .. رمية لا دور للحظ فيها .. فالإنسان هنا من يختار، هو صاحب القرار .. هي رمية بوجهيها؛ الموت والحياة .. هل كان عليه أن يختار حياته؟ ذاك الإنسان الذي قضى السنوات الأخيرة من حياته في مجابهة ندية مع الموت إلى أن تعطلت خلاياه وأجهزته.
وحدها الأجهزة الأمنية ما تعمل؛ تلك التي عرفت حياة غسان جيدا، ولكنها لم تستطع أن تجد ذلك الإله العملاق في جسده الصغير، الواهن، المتهالك والعاجز، ذاك الذي كان أشبه بستارة تعصفها الريح!
2
الرمية الأولى .. تنطلق قطعة النقد من يد الضابط «خيمي» فيما كان غسان ينظر في وجه شقيقه المكبل أمام الدورية، أحد الجنود يصوب بسلاحه على وجه أخيه وقطعة النقد لم تزل تعلو.
الضابط يدنو من غسان فيما كانت الخلايا السرطانية تنتشر بشراسة محاولة تمزيق جسد غسان الذي غدا نحيفا وهزيلا. ثم راح يحدق في وجه «خيمي» الذي كرر العبارة للمرة الثالثة: الأمر بسيط، والخيارات واضحة: أن تموت أو أن نأذن لك بالعلاج كي تعيش .. الاختيار سهل، لو أن كل خيارات الحياة بهذه السهولة!
يومن «خيمي» بأن الإنسان بمنتهى البساطة عليه أن يختار حياته .. لكن غسان يعرف جيدا معنى «أن أكون»؛ لذا تبدو خياراته دائما صعبة ومفاجئة، نظر غسان في وجه «خيمي» متذكرا أيام اعتقاله قائلا: أيعقل أن هذا الوجه يستطيع أن يمنح الحياة؟
نسيت أن أقول إن قطعة النقد سقطت أرضا وحسم الأمر.
3
كانت قطعة النقد تتقلب في الهواء ما بين الطبيب وغسان، ينظر الطبيب إلى غسان بعينين آملتين أن يختار نجاته إلى أن سقطت أرضا، أحنى الطبيب ظهره يأخذها عن الأرض وهو يتحدث وكأنما يحدث نفسه: إذن فقد فشلت محاولة التهريب إلى القدس؟
أشعل غسان سيجارة ولم يجب. - وتدخن أيضا؟ ألم أطلب منك أن تكف عن هذا؟
سحب نفسا عميقا من السيجارة وتنهد ينفث الدخان بصورة تلخص حكايته مع السجائر، ثم قال بعد صمت: لم أسمع كلام الضابط عندما وضعني أمام خيار كهذا .. أنسيت أنه أيضا وضعني في مأزق ما بين الموت أو الحياة؟ - أما أنا فلست الضابط، والتوقف عن التدخين لا يتساوى بالاعتراف عما يضمر أخوك.
أخذ قسطا من الصمت قبل أن يردف: ماذا ستفعل الآن؟ .. السرطان قد توغل في دمك، عليك أن تجد خيارا لا يحمل موتك.
أمسك غسان بقطعة النقد ونظر في وجهيها يقول: لا أعرف خيارا كهذا. - ولكن يا غسان أنت الخاسر .. في كل دقيقة تأخير تزداد بحجمها الخلايا وتخسر من حياتك. - ليس مهما أن أنجو من موتي .. المهم أن أنجو من حبي الشديد للحياة بتجلياتها .. إنها تداعبني بمغرياتها وسجائرها وفتاتها التي كنت أحبها، تداعبني بطريقي الجميل من بيتي إلى مقهى البلدة، ذاك الذي كان محض طريق أمضي فيه بلمح البصر، لا أعرف له من بداية ولا نهاية، وصار الآن طويلا وشاقا أحسبه بالخطوة وفي كل خطوة يزداد تلهفي لرائحة المقهى والرفاق، وصار فنجان القهوة يحمل معه متاعب الطريق وشقائي ولهاثي واستراحاتي الطويلة والكثيرة على أرصفته.
4
إنها الرمية الأخيرة .. مضى الوقت فيما مضى السرطان منتشرا في جسد غسان المفخخ بالخلايا السرطانية .. لو يستطيع تفجير نفسه في مكتب العقيد بل في جهاز المخابرات بأكمله .. لو يستطيع ذلك فتتناثر الخلايا في الجهاز بأكمله عساهم يدركون أمام أية خيارات يقف غسان وفي أي مأزق هو. «فلنحذف السطور الأخيرة فربما تكون قاسية، ولكن كيف يتوقف العقيد «الفلسطيني» عن ابتزازه؟»
توقف العقيد عن اطلاعه الطويل والممل على ملف غسان، وكرر ما بدأ الجلسة به: كما أخبرتك؛ قضية سفرك وعلاجك أبسط مما تتصور .. تستغرق أقل من ثانية .. هي ضغطة زر على حاسوبي .. الأمر بسيط يا غسان، أفلا تساعدني بمساعدتك يا صديقي؟
ابتسم غسان وهو يرد: سمعت الكلام نفسه من الضابط «خيمي»، أتعرفه؟
لم يكن غسان ليتصور أن يصفعه العقيد في هذه اللحظة تحديدا، تحسس جبينه وهو يبتسم، فيما راح العقيد يخفي وجهه وراء حاسوبه كأنه قد غاب فيه.
5
سقط شعر رأسه مع سقوط الأمل الأخير بالحياة وسقوط أجهزة المخابرات، ومع سقوط كل شيء كان ثمة ما يقرع جدران صدره وينبض بحياة ما، كأنه «الموت يلد حياة» .. ذاك الموت الذي كان خيارا، ونادرا ما يجسر المرء على اختيار الموت.
كل شيء قد سقط فتحالفت الخلايا السرطانية مع أجهزة المخابرات وأجهزة الطب العاجزة وأجهزة غسان المعطلة في احتلال واحد انقض عليه وحاصره من كل جانب .. وقتله سريعا قبل أن يصحو ذاك الإله الضخم الذي بدأ بدودة الرفض.
سقطت قطعة النقد الأخيرة أرضا على إحدى وجهيها. كثيرون قالوا بأنه وجه الموت، أما الذين عرفوا غسان فقالوا: كان وجه الحياة.
अज्ञात पृष्ठ