ومن هنا أستطيع أن أقول: إن الانتخابات لم تكن حرة ... ولا أقصد من ذلك أنه كان هناك ضغط إداري استعمل ضدي، بل أعني أنه كان هناك ضغط نفساني أوجدته شخصية سعد زغلول القوية، وهو والضغط الإداري سواء، في بلد لم تصل بعد إلى درجة النضوج السياسي، ولم تتكون فيها الروح الدستورية.
وربما يسأل سائل هذا السؤال: لماذا لم أعين في مجلس الشيوخ ما دمت قد سقطت في انتخابات النواب؟ وجوابي عن هذا السؤال هو: أنه لو حدث ذلك وعينت في الشيوخ بعد سقوطي في النواب لحمل هذا التعيين على أنه تحد للرأي العام ... ثم لا تنس أنه كان هناك فريق رجعي ذو نفوذ، لا يحب أولئك الذين كانوا السبب في قيام الدستور ...!
في وزارة زيور باشا
على الرغم من سقوطي في الانتخابات، وعدم اشتراكي في البرلمان، أنا والذين حصلوا على الاستقلال والدستور، فإنني كنت مرتاحا لهذه المرحلة الأولى التي فازت بها البلاد ... وقد لزمت وقتئذ الحياد، فلم أشترك في أي نشاط سياسي طوال مدة قيام وزارة المغفور له سعد زغلول باشا في الحكم، حتى وقعت كارثة مقتل السردار - وأقول «كارثة» - لأنها كادت تعصف باستقلال البلاد، وتضيع علينا ما كسبناه؛ ولهذا حين دعيت للاشتراك في وزارة زيور باشا، التي خلفت وزارة سعد لم أتردد في القبول؛ لأني شعرت أن من واجبي في هذه الظروف أن أساهم في إنقاذ البلاد من ورطتها، وأن أعمل على صيانة استقلالها.
وقد توليت في تلك الوزارة شئون وزارة الداخلية، وكانت مسئوليتها عظيمة بعد تلك الكارثة، وفي إبان الاضطرابات الشديدة، وكان همي أن يعود الأمن إلى نصابه، كما كان من أول واجباتي أن أعنى بالقبض على قتلة السردار؛ لأنه لو لم نفعل، أو لو قصرنا في ذلك، لازدادت الحالة سوءا بيننا وبين الإنجليز ... خصوصا وقد نص عليه الإنذار البريطاني الموجه لسعد باشا، فضلا عن أنه كانت هناك أيد أجنبية تعمل لهدم الاستقلال، وضياع حقوق مصر والسودان.
حفظت لمصر سودانها!
وقد كان الإنجليز يريدون أن يتخذوا من مقتل السردار ذريعة لفصل السودان عن مصر فصلا تاما، وقد تضمن إنذارهم لحكومة سعد باشا «صدور الأمر في خلال 24 ساعة بإرجاع جميع الضباط المصريين، ووحدات الجيش المصري من السودان، وتحويل الوحدات السودانية التابعة للجيش المصري إلى قوة مسلحة سودانية، تكون خاضعة ووالية للحكومة السودانية وحدها، وتحت قيادة الحاكم العام العليا، وباسمه تصدر البراءات للضباط!»
ورأى زيور باشا أن يوكل إلي وقتئذ بعض المهام خصوصا «السودان»، وكان الإنجليز يريدون أن يتمادوا في فصله عن مصر، علاوة على ما فعلوا من طرد الجيش المصري، وقطع علاقاتنا العسكرية به، والاستقلال بإدارة شئونه، فلم يبق لنا من العلاقات معه إلا تلك العلاقة المالية الخاصة بمبلغ العجز في ميزانية السودان، الذي تدفعه مصر سنويا، ومفروض أن ميزانية السودان شيء مقرر لمصلحة إخواننا السودانيين، فأراد الإنجليز قطع هذه العلاقة أيضا حتى لا تصبح لمصر أية صلة به، ولا أية حجة لها للتدخل في شئونه!
خفت من عاقبة هذا العمل الذي ينظر إليه في ظاهره كأنه لمصلحة مصر، وهو في الواقع حجة عليها، ومضر بمستقبل مصالحها وحقوقها في هذا القطر، فعملت على بقاء هذا المبلغ الذي تدفعه مصر للسودان، والذي لا يؤثر في ميزانيتها تأثيرا يذكر، وقد نجحت في ذلك، واعتبرته فوزا لمصر ولو أنه نظر إلى هذه المسألة من الآخرين بالنظرة الحزبية، التي تقلب الحق باطلا، والباطل حقا ...!
مصر والري في السودان
अज्ञात पृष्ठ