200

पिकविक की डायरी

مذكرات بكوك

शैलियों

ولبثت الفرس تعدو مرسلة الرشاش من حولها وسط الأوحال والمياه، متهدلة الأذنين، مطوحة بين لحظة وأخرى برأسها، كأنما تريد بهذه الحركة التعبير عن اشمئزازها من هذا المسلك الجاف الذي تسلكه عناصر الطبيعة، وإن احتفظت مع ذلك بسرعتها، حتى تعود الرياح فتهاجمها مرة أخرى بأشد وأقسى مما هاجمتها به من قبل، فلا تلبث أن تقف عن المسير فجأة، وتغرز قوائمهما الأربع في الأرض؛ حتى لا تكتسحها من مكانها، وهي رحمة أحاطت بها؛ لأنها لو انساقت مع الريح، وهي خفيفة، والعربة خفيفة مثلها، وتوم سمارت من الوزن الخفيف كذلك، لذهب الجميع يتدحرجون إلى أقصى أطراف الأرض، أو ريثما تهدأ الرياح، وأغلب الظن في كلتا الحالين أن الفرس والعربة الطفلية اللون ذات العجلات الحمر، وتوم سمارت ذاته، لن يعودا صالحين للخدمة بعد ذلك.

وقال توم سمارت، وكان مولعا في بعض الأحيان بالسب واللعن: «لعنة الله على ذقني وطوقي، إن كان هذا سيطول شرحه، فلتنسفني الريح نسفا.»

ولعلكم تسألونني: لماذا أبدى توم سمارت - بعد أن كادت الريح تطوح به - رغبة في التعرض لهذه العملية مرة أخرى، ولكني لست أدري ما الباعث له على هذا، وكل ما أعرفه أنه قال ذلك فعلا، أو على الأقل كان هذا هو ما اعتاد أن ينبئ عمي بأنه قال كذلك، وكلا الأمرين سواء.

وصاح توم سمارت: «لتنسفني الريح!» وصهلت الفرس كأن هذا هو رأيها في الموقف تماما.

ولكن توم سمارت راح يربت على عنقها بطرف سوطه قائلا: «استجمعي قواك، ولا تبتئسي أيتها البنت العجوز، لا فائدة من مواصلة المسير في هذه الليلة، وأول منزل نصادفه في طريقنا سنبيت فيه، فكلما أسرعت في السير بلغنا المأرب المقصود، هلمي أيتها البنت العجوز، هلمي، ولكن برفق، برفق!»

ولست أستطيع طبعا أن أقول: هل كانت تلك الفرس الشموس قد اعتادت سماع صوت توم إلى حد يكفي لأن تفهم المعنى المقصود، أو وجدت أن الجمود في مكانها أشد تعرضا للبرد والزمهرير من متابعة المسير، ولكن كل ما أستطيع أن أقوله إنها ما كاد توم ينتهي من كلامه حتى نشرت في الفضاء أذنيها، وانطلقت بسرعة جعلت المركبة الطفلية اللون تجلجل حتى ليخيل إليك أن كل عجلة من عجلاتها الحمراء موشكة أن تطير من موضعها على العشب في براري مارلبرة، وحتى عجز توم نفسه - وهو السائق الماهر - عن إيقافها أو الحد من سرعتها، إلى أن وقفت من تلقاء ذاتها أمام فندق على قارعة الطريق في الجانب الأيمن منه، على مبعدة نحو ربع ميل من نهاية تلك التلال الكلئة.

وألقى توم نظرة سريعة على الطبقة العليا من المبنى، وهو يلقي باللجام إلى السائس، ويرشق السوط في مقعده، وبدا له أن المكان غريب قديم العهد، بني من نوع من الحصباء، ومسقوف بالأخشاب، وله نوافذ منحدرة الشكل بارزة كل البروز إلى مشرع الطريق، وباب خفيض، وسقيفة مظلمة، ومدرجان عاليان يهبطان إلى البيت ولا يصعدان إليه، كالطراز المألوف في عصرنا الحديث، ولكنه كان على كل حال موضعا يلوح عليه أنه مريح يبعث الرضى؛ إذ ينبعث من نافذة «موضع الشراب» فيه نور قوي بهيج، يلقي شعاعا وهاجا على الطريق، وينير العدوة الأخرى المقامة من العوسج، ومن الشرفة المقابلة ينبثق نور خفاق يبدو لحظة ضعيفا لا يكاد يبين، ثم لا يلبث في اللحظة التالية أن يبرق بقوة من خلال الأستار المسدلة، موحيا بأن نارا متأججة تتقد داخل الحجرة، وما إن تبين توم هذه الأمارات والشواهد بعين الجوابة الخبير بالأسفار، حتى ترجل عن العجلة بكل خفة ممكنة تواتت لأوصاله وأطرافه التي كان البرد يهرؤها، ودخل البيت.

ولم تكد تنقضي بضع دقائق حتى كان توم مستكنا في الغرفة المقابلة لموضع الشراب، وهي الغرفة ذاتها التي خيل إليه أنها تحوي نارا مشوبة، وقد جلس قبالة نار متأججة فعلا، غنية بالوقود من فحم، ورأى فوق المدفأة أكداسا من الخشب، تكفي أن تتألف منها بضعة آجام، وقد راحت النار تزمجر وتطقطق، وتحدث صوتا يكفي في حد ذاته لأن يدفئ قلب أي إنسان عاقل، وكان هذا كله مرفها على النفس، مريحا للخاطر، ولكنه لم يكن كل شيء في الدار، بل كانت ثم فتاة رشيقة ذات عين براقة، وكعب نظيف، وهي تنشر غطاء أبيض متناهيا في النظافة فوق الخوان، وفيما كان توم جالسا، وقد أسند قدميه وهما في الخف إلى حاجز «الموقدة»، وولى ظهره إلى الباب المفتوح، استطاع أن يشهد على أديم المرآة المعلقة فوق الموقدة منظرا فاتنا، لما كان يحويه مكان الشراب من صفوف الزجاجات الخضر الذهبية، ومن قدور المخلل والأطعمة المحفوظة، وأنواع الجبن، ولحوم الخنازير السليقة، والقطع المستديرة من لحم العجول، كل أولئك قد صفت فوق الرفوف بصورة مغرية، وشكل جذاب، ونظام بديع، وهو مريح كذلك، ولكن ذلك لم يكن كل ما هنالك أيضا، فقد رأى في مكان الشراب أرملة غضة بضة قد جلست تشرب الشاي على أصغر وأبدع مائدة يمكنك أن تتخيلها، وهي قريبة من أوهج وأدق نار مشبوبة يمكن أن توقد، ويبدو على تلك الأرملة أنها في الثامنة والأربعين أو نحوها، ذات وجه مرفه مريح كمكان الشراب ذاته، والظاهر أنها ربة الفندق، وصاحبة الأمر والنهي في كل هذه الأملاك البديعة، والذخائر الممتعة، ولكن كان ثمة عيب واحد يغض من جمال الصورة، وفتون معالمها ودقائقها، وهو وجود رجل طويل مفرط الطول، في سترة سمراء، وأزرار براقة، وشاربين أسودين، وشعر فاحم متموج، كان يجلس إلى الشاي مع الأرملة، ولا يحتاج المرء إلى ذكاء وقاد لكي يتبين أن الرجل يحاول إقناعها بأنه قد حان لها أن لا تبقى أرملة، وأن تنعم عليه بحق الجلوس في مكان الشراب طيلة الأعوام التي بقيت له في الحياة.

ولم يكن «توم سمارت» بالرجل الذي تنتزع به النفس إلى الهياج أو الحسد، ولكن منظر ذلك الرجل الطويل ذي السترة السمراء، والأزرار المقعرة الشكل البراقة، لم يلبث لسبب ما أن أثار حفيظته وغضبه الشديد، وخاصة لأنه مضى بين لحظة وأخرى يلاحظ، وهو في مجلسه قبالة المرآة، بعض حركات لطف ومودة تجري بين ذلك العملاق وتلك الأرملة، مما يكفي للإيحاء بأن ذلك الرجل الطويل قد أصاب عندها حظوة عالية كقامته.

وكان توم مولعا بشراب «البنتش» الساخن، بل أجرؤ على القول بأنه كان به «جد» مولع، فبعد أن اطمأن إلى أن فرسه الشموس قد أحسن علفها، ومهد لها مربطها، وبعد أن أكل كل قطعة من الطعام الشهي الذي جعلت الأرملة تلقيه إليه بيديها، راح يطلب قنينة من «البنتش» على سبيل التجربة، وإذا كان ثمة شيء من مختلف فنون البيت وأساليب تدبيره، تحسن الأرملة إعداده أكثر من أي شيء سواه، فذلكم هو «البنتش» بالذات، وقد وافقت القارورة الأولى منه مزاج توم سمارت، وطاب لديه مذاقها، إلى حد أغراه بطلب أخرى في الحال، ولا يخفى أيها السادة أن «البنتش» الساخن شراب لذيذ ممتع غاية الإمتاع، في أي ظرف من الظروف، ولكنه في تلك الغرفة الدفئة القديمة، وقبالة تلك النار المتقدة الزائرة، وتلك الرياح القاصفة في الخارج حتى ليكاد كل لوح من الخشب في ذلك البيت يهتز ويتشقق من هول قصفها - كان ممتعا في تقدير توم سمارت كل المتعة، فطلب قارورة أخرى، ثم ثالثة، ولست متأكدا هل طلب واحدة بعد ذلك، ولكن الواقع أنه كلما أكثر من شرب البنتش الساخن، اشتد به التفكير في ذلك الرجل الطويل الفارع.

अज्ञात पृष्ठ