199

पिकविक की डायरी

مذكرات بكوك

शैलियों

وقال التاجر: «أحقا؟» ولم يرد، بل ظل يدخن بشدة بالغة.

وقال المستر طبمن، ولم يكن تكلم قبل هذه اللحظة: «وأنا كذلك.» فقد كان متشوقا لزيادة مدخره من العلم والتجربة.

وقال ذو العين الماكرة، وهو يحيلها بالاختلاج أشد مكرا: «أحقا تريد أن تسمعها، حسن جدا، سأقصها، ولكن كلا، ما أنا بقاصها؛ لأني أعرف أنكم لن تصدقوها.»

وقال المستر طبمن: «إذا قلت إنها حقيقة ... فسأصدقك بالطبع.»

وأجاب التاجر الجواب: «على هذا الشرط إذن سأقصها، فهل سمعتم يوما باسم بيت تجاري كبير يدعى بيلسن وسلام؟ ولكن ليس بذي بال أن تكونوا قد عرفتموه أو لم تعرفوه؛ لأنه بيت ترك التجارة من عهد بعيد، وقد وقع ما ستسمعونه للوكيل المتجول في خدمة ذلك البيت منذ ثمانين عاما، وكان صديقا حميما لعمي، وكان عمي هو الذي قصها على مسمعي، وقد جعل لها عنوانا غريبا، ولكنه كان قد اعتاد أن يدعوها:

قصة التاجر المتجول

وقد اعتدت أنا أن أقصها على النحو التالي:

في ذات مساء خلال أيام الشتاء، وحوالي الساعة الخامسة، حين أخذ الغسق يغمر الكون، كان رجل يستقل عجلة ذات حصان واحد، وهو يستحث حصانه المكدود على الطريق الذي يشق «براري مارلبرة» في اتجاه برستل، وكان من المحتمل أن يراه أحد من الناس، بل لا أشك في أن أحدا من الناس كان لا بد أن يراه حتما، إلا إذا كان من عساه أن يمر به في تلك الناحية أعمى لا يبصر، وكان الجو من السوء، أو الليل من شدة البرودة والبلل، بحيث لم يكن ثمة شيء في طريقه غير هطل الأمطار، وغزارة الماء من حوله، فكانت العجلة تشق طريقها وحيدة مكفهرة مقرورة، ولو أن تاجرا متجولا في تلك الأيام لمح تلك العجلة الصغيرة المتجردة التي يضرب هيكلها إلى لون الطفل، وتبدو الحمرة على عجلاتها، وشاهد تلك الفرس الشموس الشكسة السريعة التي تبدو هجينا بين حصان جزار، ومهرة موزع بريد؛ لعرف في الحال أن ذلك التاجر لم يكن أحدا غير «توم سمارت» الذي يعمل في خدمة بيت «بيلسن وسلام» في شارع «كاتيتن» بحي الأعمال في لندن، ولكن لم يكن ثمة أحد من التجار الجوالين في ذلك الطريق ليشاهده، فلبث أمره مجهولا لا يدري مخلوق عنه شيئا، وظل منطلقا بعربته الطفلية اللون، وعجلاتها الحمراء الأديم، وفرسها الشموس السريعة الخطى، كأنما قد احتفظ الكل بالسر، فلبث الأمر مكتوما على الناس مخفيا.

وفي الأرجاء المهجورة من هذا العالم بقاع أخف رحمة من «براري مارلبرة» حين تهب عليها الرياح العاتية، فإذا أضفت إلى هذا كله ذلك المساء المكفهر القاتم، والطريق الموحل الزلق، وهطل المطر الشديد ، وجربت ما يكون من الأثر بنفسك، على سبيل الاختبار الشخصي، أدركت قوة هذا الوصف كاملة، ووعيت رهبة ذلك المشهد جملة.

وكانت الريح تهب في الطريق، لا في اتجاه البلدة، ولا في الاتجاه المضاد، وكلا الأمرين لا يقل عن الآخر سوءا، بل كانت تهب في عرضه، تاركة المطر ينحدر ويميل كالأسطر التي كان الطلبة في المدرسة يسطرونها في كراساتهم؛ حتى تستقيم كتابتهم عليها، وقد تسكن الريح لحظة وتتلاشى، ويبدأ المسافر يوهم نفسه أنها قد تعبت، واضمحلت من هياجها السابق، فهدأت من روعها، وأخلدت إلى الراحة، وإذا هي تهب مرة أخرى، وتزمجر زمجرة، وتصفر صفيرا بعيدا، ثم تندفع فوق أعالي الربى، وتكتسح السهول، مستجمعة زفيفها وقوتها، وهي مقتربة، حتى تصطدم بإعصارها العنيف بالفرس والرجل معا، ملقية بقطرات المطر العصيب في آذانيهما، وأنفاسهما الباردة الرطبة في مستدق عظامهما، وتنطلق مبتعدة في زئير يصم الأسماع، كأنما تسخر من ضعفهما، وتغتبط بانتصارها واعتدادها بشدتها وسلطانها.

अज्ञात पृष्ठ