ولكن أعضاء الوفد عرفوا النبأ في يومه، ثم علم به طلبة المدارس العليا وغيرهم في اليوم التالي، وسرى في أنحاء القاهرة ومنها إلى الأقاليم.
وقد أضرب طلاب المدارس العليا في صباح اليوم العاشر من شهر مارس، وخرجوا من مدارسهم في مظاهرة كبيرة طافت بدور المعتمدين السياسيين للاحتجاج على اعتقال الزعماء، وعلى كبت شعور الأمة وحرمانها الحق في إبداء مشيئتها، وهي تسمع كل يوم دعوة الأمم كافة إلى بيان حقها وتقرير مصيرها.
وأضرب عمال الترام بعد الظهر، ثم أضرب الحوذية في اليوم الحادي عشر، وأصبحت الدكاكين مغلقة في معظم أنحاء المدينة إلا الدكاكين الأوروبية، وتجددت المظاهرات من طلاب المدارس وطلاب الأزهر وطوائف شتى من الجماهير، فقابلها الجنود البريطانيون بإطلاق المدافع الرشاشة غير مفرقين بين كبير وصغير ولا بين مشترك في المظاهرات أو غير مشترك.
وكانت نقابات المحامين قد أعلنت الإضراب، فانقطع المحامون عن المحاكم، واستثارت القسوة في قمع المظاهرات غضب الناس وحنقهم، فكثرت المظاهرات بدلا من أن تقل، واضطرمت وقدتها بدلا من أن تخمد، وطاش صواب الحراس العسكريين من جراء المفاجأة، فأصبحوا لا يميزون ولا يطيقون النظر إلى حشد من الناس، ففي يوم الجمعة الرابع عشر من مارس، أطلقت السيارات المدرعة نيرانها على حشد كبير بجوار المسجد الحسيني، فقتلت منهم بضعة عشر رجلا وجرحت خلقا كثيرين ولم يكونوا في مظاهرة ولكنهم كانوا خارجين من المسجد بعد أداء الصلاة. وتعددت المظاهرات في مدن القطر، فقوبلت بمثل ما قوبلت به في القاهرة، وشاع خبر القتل وإطلاق الرصاص في أنحاء الأقاليم، فانفجر السخط الذي طال كظمه في الصدور، وانفجرت الثورة في كل مكان.
على أنه من الخطأ أن يقال إن المظاهرات كانت هي سبب الثورة الوحيد، أو إن الثورة ما كانت لتنفجر في القطر لولا مظاهرات العاصمة، فالمظاهرات كانت مثل الشرر الذي يتطاير في البداية من فوهة بركان يغلي على وشك الانفجار، فمن شهد تلك الثورة الجارفة التي اندفعت اندفاعا يدل على عمق مكامنها وتأجج وقودها، أيقن أنها قوة لا تحبس طويلا، وأنها هي سبب المظاهرات وليست نتيجة المظاهرات.
فقد صبر الناس زمنا على مظالم الحرب وآثارها، ثم انتظروا الفرج بعد الهدنة، فإذا بهم يتجرعون مرارة الخيبة ويوجسون من مخاوف المستقبل فوق ما أوجسوا من مخاوف السنوات الماضية. وزاد من المرارة أنهم يعانون هذا الكظم كله في الوقت الذي تعلو فيه دعوة الإنصاف وتتجاوب فيه الصداء بالظفر والرجاء، وإنهم يطلبون أمرا يسيرا هو حق الشكوى والاحتجاج فإذا بهم يجابهون بالتهديد والإقصاء عن البلاد.
وعندما شاع خبر إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وشاعت أخبار الموتى والمعتقلين من الطلاب والشبان، طغى الغضب وعم، وكان ظهوره على نمط واحد في جميع أنحاء البلاد بغير تدبير ولا سابق اتفاق فبدأ انقطاع السكك الحديدية ما بين طنطا وتلا في اليوم الثالث عشر من مارس، ثم انقطعت في جهات كثيرة دفعة واحدة، وتناول التحطيم والتخريب أسلاك التلغراف والتليفون وقضبان السكك الحديدية؛ حيثما وصلت إليها أيدي الثائرين.
ولم يخل هذا التحطيم من غرض تعمده الثائرون بتدبير مقصود، وهو إعاقة القطارات المسلحة والفرق الجوالة عن الطواف بالمدن والقرى لجمع السلاح وتفتيش المنازل وإيذاء الناس.
إلا أن الباعث الأكبر للتحطيم والتخريب كان اندفاعا جامحا بغير قصد مرسوم ... اندفاع الساخط يحار فيما يصنع وهو ساخط ... كأنما هو في هذه الثورة الجامحة يريد أن تسمعه الدنيا ولو بتدمير أثاثه وإحراق داره، فجاءت عوارض الثورة متفقة في كل مكان؛ لأنها هي كل ما يستطاع في تلك الحالة.
وقد ظل الإنجليز ضالين في فهم شعور هذه الأمة، يفسرون أعمالها بأسباب المصالح ولا ينظرون إلى بواعثها النفسية، كأنما البواعث النفسية عامل لا يحسب له حساب في حركات الجماهير، فظنوا أن أعمال الثائرين لا تتفق هذا الاتفاق إلا بتدبير مصطنع ودسيسة أجنبية.
अज्ञात पृष्ठ