وطبيعي أن يرافق ذلك الانحطاط السياسي والعلمي انحطاط اجتماعي واقتصادي، فتناقص عدد السكان في أواخر ذلك العصر حتى أصبح أقل من 2000000 نفس في القطر المصري أعلاه وأسفله، وتناقصت البقاع المزروعة في وادي النيل حتى نقصت عن مليون فدان وبعض المليون، والأرض يومئذ ملك الحكومة وليس للناس إلا أن يتمتعوا بريعها وللحكومة حصة من ذلك الريع في مقابل حمايتها أو إصلاح شئونها وهو الخراج. على أن فساد الأحكام في عهد المماليك شغل الناس عن الزراعة فقلت الجباية فتعسر حلها، والحكام في ذلك العهد إنما يلتمسون السلطة طمعا بالمال، فعمدوا إلى طريقة «الالتزام» وهو تضمين الخراج لأناس يتولون جمعه عن الحكومة، ويشاركونها في نفوذها، فلا يزيدون الأهالي إلا ضغطا وعسفا.
وذلك أن الحكومة كانت تعرض خراج البلاد بالمزايدة لمن يضمنه من أهل النفوذ، فيضمن أحدهم بلدا أو بضعة بلاد فإذا وقع عليه المزاد أعطاه كبير المماليك «شيخ البلد» عهدا بذلك يسمونه تقسيط ويصحبونه بأمر يسمونه «فايك» وهو عبارة عن خطاب من الحكومة إلى أهالي البلد الواقع فيها التزام ذلك الملتزم، توصيهم فيه أن يطيعوا الملتزم ويؤدوا له الخراج، والملتزم يدفع للخزينة في مقابل ذلك مال سنة معجلا، ويقوم مقام الحكومة في السيادة والإمارة في البلاد الداخلية في التزامه، وله عدا ذلك بقعة من الأرض يستغلها بنفسه، لا يدفع عنها شيئا وتسمى «أوسية» «جمعها أواسي» وعلى الأهالي أن يحرثوها له ويزرعوها ويحملوا إليه غلاتها بلا أجرة فضلا عن منافع أخرى.
وكان الالتزام في بادئ الرأي لمدة محدودة، ثم جعلوه لمدى العمر فلا ترجع الأرض للحكومة إلا بعد وفاة الملتزم. فكان الانتفاع بغلة الأرض مقسوما بين الحكومة والملتزمين، والفلاح عبد رق يعمل بقوته ويشقى بعمله. فهل يلام إذا قعد به القنوط من العمل أو حمله الخوف على الفرار؟ (4-2) التجارة
أما التجارة فكانت في زمن المماليك ضعيفة جدا، لأنها لا تنمو إلا في ظل الأمن والعدل. فكانت قاصرة على بعض ما يحمل من محصولات هذه البلاد إلى «أوربا» وأهمها الحبوب والسكر والرز، وما يمر بها من واردات السودان كالصمغ والعاج والريش ونحو ذلك، وبعض ما يحمل إليها من المصنوعات الإفرنجية من «إيطاليا» و«فرنسا» و«ألمانيا» وغيرها.
ذكر «فولتي» الرحالة الفرنساوي في رحلته إلى «مصر» أواخر القرن الثامن عشر أن تجارة «مصر» كان معظمها في أيدي السوريين المسيحيين ثم أهل البندقية والإنكليز والفرنساويين وكانت الجمارك يومئذ «بالإسكندرية» و«رشيد» و«دمياط» و«السويس» و«القصير» وفي «بولاق» و«مصر القديمة». وكانت الحكومة تضمن دخل هذه الجمارك كما كانت تضمن خراج الأرض. والغالب أن يضمنها بعض اليهود. فلما أفضت «مصر» إلى «علي بك الكبير» المتقدم ذكره تحولت ضمانة الجمارك إلى أيدي السوريين، ولم يكن منهم يومئذ في مصر إلا عائلات قليلة من أهل دمشق وكانوا يتعاطون التجارة فيها.
على أن الجمارك كثيرا ما كان يتولى شئونها أمراء المماليك أنفسهم وخصوصا في أواخر القرن الثامن عشر. إن «إبراهيم بك» و«مراد بك» اقتسما الانتفاع بها، فاختص «إبراهيم» بجمرك السويس وعهد به إلى عمال يديرونه بالنيابة عنه، واستولى «مراد» على سائر الجمارك فضمنها بعض أهل الوجاهة. وكانت إيرادات الجمارك نحو مليون ريال أبو طاقية أو نحو 120000 جنيه أكثر تجمع من جمرك السويس. (4-3) النقود المصرية
وقد تقدم الكلام عن حل النقود المصرية أواسط العصر العثماني وهي الأنصاف والبندقي والزر محبوب. في آخر القرن الثاني عشر للهجرة كان الدينار يساوي 110 أنصاف، والبندقي 225 نصفا، والبنتو 400 نصف. فكانت الأنصاف تقل قيمتها بتوالي الأعوام مع بقاء قيمة الذهب على حالها تقريبا، فالدينار كان يساوي سنة 193ه 11 أنصافا مثلا، فصار يبدل بعد عشر سنين بنحو 150 نصفا، وهكذا، وكانت أسعار الأشياء التي تفد بالأنصاف ترتفع كل سنة عما قبلها ارتفاعا تدريجيا. ولم يكن ارتفاعها من توفر الثروة كما حدث لهذا العهد، وإنما كان سببه تلاعب رجال الحكومة بالنقود الفضية وغشها، فإذا رخصت قلت النقود وظهرت المبيعات غالية، وهاك على ذلك بأثمان أهم المأكولات في أول القرن الثالث عشر للهجرة إلى سنة 1219 باعتبار الأنصاف من كل رطل:
سنة
اللبن
الضأن
अज्ञात पृष्ठ