مقدمات تمهيدية
التاريخ العام
مزايا التاريخ الإسلامي على سائر التواريخ
موضوع هذا الكتاب
تاريخ مصر العثمانية
المعركة الفاصلة بين الجيشين
الدور الأول من تاريخ مصر العثمانية
الدور الثاني من سيادة الدولة العثمانية على مصر
الدور الثالث لسيادة الدولة العثمانية على مصر أو علي بك الكبير
الدور الرابع من سلطنة العثمانيين على مصر
مقدمات تمهيدية
التاريخ العام
مزايا التاريخ الإسلامي على سائر التواريخ
موضوع هذا الكتاب
تاريخ مصر العثمانية
المعركة الفاصلة بين الجيشين
الدور الأول من تاريخ مصر العثمانية
الدور الثاني من سيادة الدولة العثمانية على مصر
الدور الثالث لسيادة الدولة العثمانية على مصر أو علي بك الكبير
الدور الرابع من سلطنة العثمانيين على مصر
مصر العثمانية
مصر العثمانية
تأليف جرجي زيدان
مقدمات تمهيدية
التاريخ الإسلامي بالنظر إلى سائر التواريخ
التاريخ العام
التاريخ العام، عبارة عن الحوادث التي رافقت الإنسان في أول وجوده إلى الآن أو ذكر ما انتاب الأمم من التقدم أو التأخر والصعود أو الهبوط في السياسة والاجتماع، أو هو بيان تدرج البشر في المدنية؛ ولذلك فهو مقصور على الأمم التي كان لها شأن في ترقية الهيئة الاجتماعية.
وقد عبر بعضهم عن التاريخ بقوله إنه الفلسفة مشروحة بالأمثال حتى تكون حوادث المتقدمين عبرة للمتأخرين.
والتاريخ العام يقتضي معرفة أخبار الناس من أول عهد الإنسان إلى الآن. وهذا غير ميسور لأن ما وصل إلينا من حوادث البشر إنما هو جزء صغير جدا في تاريخهم. والإنسان لم يدون تاريخه إلا بعد أن وفق لاختراع الكتابة. وهو لم يوفق إليها إلا بعد التدرج في الرقي أدهارا، ظهرت في أثنائها دول وأمم انتشبت بينها الحروب، وعقدت المعاهدات، وذهب العقلاء في أثنائها مذاهب في الفلسفة. فهذه كلها ذهبت أخبارها فلم يصلنا منها شيء، حتى أسماء تلك الأمم، فإنها ضاعت. وإنما استدللنا على وجودها من ثمار أعمالها، أو بما خلفته من الأدوات أو الأحافير أو الخرائب.
وعلماء التاريخ لا يعدون تلك المعرفة تاريخا؛ ولذلك سموا المدة التي قضاها الإنسان قبل تدوين أخباره «الزمن قبل التاريخ » وهو أطول كثيرا في زمن التاريخ تقدم فيها الإنسان شوطا بعيدا في سلم المدنية والارتقاء العقلي. وفيها تألفت الهيئة الاجتماعية ووضعت سنن الزواج والإرث، وانتظمت العائلة. وفيها شكلت الحكومات، وأنشئت الأديان. وفيها حدثت أهم الاختراعات والاكتشافات التي بنى عليها البشر رقيهم في زمن التاريخ؛ لأن في تلك الفترة المظلمة، اخترعت الكتابة، واستنبط الطبخ والعجن والخبز والغزل والنسيج والخياطة والبناء، واكتشفت النار والملح، وهما من أهم الاكتشافات.
من لنا بمن يخبرنا عن مخترع الكتابة الصورية لنشيد له تذكارا، أو مخترع الإبرة لننصب له تمثالا، بل لو عرفنا مكتشف النار؛ أي أول من ولد النار بالفرك، لحق له علينا الإكرام الجزيل. إن ذلك وأمثاله من أعمال الإنسان قبل زمن التاريخ لا يدخل في علم التاريخ ولا إلى معرفته سبيل إلا بالتخمين.
أما زمن التاريخ فهو الذي عرفنا أممه وقبائله ودوله وبعض حوادثه، إما من الكتب التي وصلت إلينا أو من النقوش التي قرأناها في الآثار أو من أحوال أخرى. وهو لا يتجاوز في مدته ستة آلاف سنة، نصفها الأول ناقص، وأكثره مبني على الحدس والتخمين، والنصف الآخر محشو في أوائله بالمبالغات أو الخرافات، ولكن أكثره ثابت لرجوعه إلى النصوص التاريخية بعد شيوع الكتابة. (1) ما معنى لفظ تاريخ؟
وقبل التقدم إلى ذكر أقسام التاريخ؛ نتكلم عن أصل هذا اللفظ في العربية. وقد اختلفت الأقوال فيه؛ فذهب جماعة إلى أنه فارسي، وقال آخرون إنه يوناني. وتكلفوا في تخريجه تكلفا نحن في غنى عنه لأن اللفظ عربي، وفي القاموس «أرخ الكتاب يأرخه أرخا: وقته»؛ أي عرف وقته. ثم تفرع المعنى فصاروا يدلون بها عن علم التاريخ أي ذكر الوقائع والحوادث. ولعل سبب الشك في كون هذا اللفظ عربيا أن العرب أخذوا التاريخ عن الفرس. وقيل لهم إن اسمه عند الفرس «ماه روز» فعربوها «مؤرخ» ثم اشتقوا منها مصدرا «تاريخ» وهو تكلف لا حاجة بنا إليه؛ فدفعا لكل شك في كون هذا اللفظ عربيا نأتي بأشباهه من أخوات اللغة العربية.
فهو في العبرانية «يرخ» ومعناه: القمر ، ومثلها «يرحا» في السريانية لنفس هذا المعنى ونحو ذلك في الكلدانية والأشورية. وهي أيضا تدل عندهم على الشهر؛ لأن حسابهم كان قمريا. وكذلك الشهر والقمر في العربية بمعنى واحد، ولا عبرة في إبدال الخاء «حاء» بين العربية وأخواتها، فإنه عادي فيها. ومن بقايا دلالة «يرح» أو «أرخ» على القمر في العربية، قول العرب «راح» أي ذهب أو جاء في العشي؛ أي في نور القمر. والمعنى راجع إلى العشي بدون تقييد بالذهاب أو المجيء، مثل قولهم أصبح وأمسى. ثم غلبت فيها الدلالة على الذهاب في العشي ثم صارت تدل على مطلق الذهاب. وقد يكون اللفظ الواحد معناه القمر في إحدى هذه اللغات، والشهر في اللغة الأخرى، فإن «سهر» في السريانية معناها قمر في العربية وهو «الشهر» بإبدال السين شينا. وقد بقي في معناها الأصلي في العربية «الساهور» وهو القمر أو غلافه. والخلاصة أن لفظ التاريخ عربي الأصل والاشتقاق. (2) أقسام التاريخ العام
اختلف المؤرخون في تقسيم زمن التاريخ وتبويبه. والأكثر يرون قسمته إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: التاريخ القديم ويبدأ بأقدم الأزمان، وينتهي عند سقوط رومية سنة 476 للميلاد. والقسم الثاني: القرون الوسطى أو المظلمة، وهي تمتد من هذا التاريخ إلى اكتشاف أميركا سنة 1492 مسيحية. والثالث: التاريخ الحديث، من اكتشاف أميركا ولا يزال.
ذلك هو تقسيم التاريخ العام عند كتاب الإفرنج، وهو في اعتبارنا تقسيم ناقص، مبني على الأحوال التي توالت في أوربا وأميركا، ولا يدخل فيها من تاريخ الشرق إلا الدول القديمة في مصر وبابل وفينيقية وغيرها من التمدن القديم. ولم يراعوا فيه الانقلابات السياسية العظيمة التي توالت في الشرق بعد ذهاب تلك الدول، وكان لها تأثير كبير في تاريخ العمران في سائر أنحاء العالم المتمدن.
أما أقسام التاريخ العام بالنظر إلى الشرق وأممه ودوله، فإنه في نظرنا يقسم إلى قسمين كبيرين، أو هما شطران؛ شرقي وغربي، نعبر عنهما بتاريخ الشرق، وتاريخ الغرب. ونقصد بالشرق آسيا على الإجمال ومعها وادي النيل وما يليه من البلاد التي تمدنت قديما في أفريقيا، ونعني بالغرب أوربا وأميركا وما يلحقهما.
ولكل من هذين الشطرين ثلاثة أطوار أو أعصر تتشابه في التقسيم ولكنها تختلف في الزمن، لكل منها عصر قديم وعصر متوسط وعصر حديث، لكن الشرق متقدم فيها على الغرب وسابق منه في عوامل المدنية.
فتاريخ الشرق القديم يمتد من أقدم الأزمنة إلى فتح الإسكندر المكدوني بلاد فارس سنة 331 قبل الميلاد.
وتاريخه الأوسط أو قرونه الوسطى أو المظلمة تمتد من فتح الإسكندر إلى ظهور الإسلام سنة 622 للميلاد أو السنة الأولى للهجرة.
وتاريخه الحديث يبدأ بظهور الإسلام ولا يزال. ثم إن تاريخ الإسلام ينقسم إلى عصور سيأتي بيانها.
أما تاريخ الغرب القديم فيبدأ من أول تمدنه نحو القرن الخامس عشر قبل الميلاد في بلاد اليونان. وقد اقتبس أصول تمدنه من أمم الشرق القديمة في مصر وفينيقية وبابل وغيرها، وينتهي بسقوط رومية سنة 476م. وسبب انقضائه، هجوم البربر، بدو شمال أوربا «قبائل الجرمان» على المملكة الرومانية. وفي أثنائه دخل الشرق في أجياله الوسطى بسقوط دولة الفرس، كما تقدم.
وتاريخ الغرب الأوسط هو عصر الظلمة أو القرون الوسطى في أوربا. يبدأ بسقوط رومية، وتسلط البربر إلى بزوغ نور التمدن الحديث بعد اكتشاف أميركا سنة 1492م. وقد أغفل فيه الغربيون علوم أسلافهم اليونان. ونهض الشرق في أثنائه من عصوره المظلمة بظهور الإسلام وقيام دولة العرب، فأخذوا تلك العلوم وترجموها.
فتاريخ الإسلام هو تاريخ الشرق الحديث، وبه نهض الشرق من غفلته واستعاد رونقه ومجده، وامتد سلطان المسلمين على أضعاف ممالك أسلافهم الشرقيين، وخفقت أعلامهم على مماليك الفراعنة والفينيقيين والآشوريين والبابليين والفرس والأرمن والهند والترك والمغول والمغاربة وسائر بلاد المشرق، وقسم من أوربا؛ في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، مما لم يسبق له مثيل. (3) أقسام تاريخ الإسلام
يقسم تاريخ الإسلام إلى خمسة أعصر: (1) «عصر التكون والنمو»: من ظهور الإسلام إلى آخر الدولة الأموية بالشام وهو عصر الفتوح في الدولتين، أو العصر العربي. (2) «عصر البلوغ»: من أول الدولة العباسية 132ه إلى تغلب الجند التركي سنة 222 للهجرة. وهو يشتمل على إبان الدولة العباسية، وفيه نشأ الأدب، ونقلت علوم القدماء إلى العربية . وهو عصر الإسلام الذهبي، ويعرف بالعصر الفارسي؛ لأن الدولة فيه كانت بأيدي الوزراء الفرس. (3) «عصر التفرع والتشعب»: من تسلط الأتراك إلى سقوط بغداد. وفيه تفرعت هذه الدولة إلى دول من أمم مختلفة في أنحاء مختلفة. ونشأت دول جديدة كدولة الفاطميين بمصر والأمويين بالأندلس والسلاجقة في الشام وغيرها. ونشأت سائر دول الأتراك والأكراد والفرس وغيرهم. (4) «القرون الإسلامية الوسطى»: من سقوط بغداد إلى أوائل القرن التاسع عشر. (5) «النهضة الأخيرة»: من أوائل القرن الماضي، ولا تزال. وهي مقتبسة من تمدن الغرب الحديث.
ويقسم التاريخ على الإجمال أيضا إلى عام وخاص. والعام يتضمن تاريخ البشر عموما. والخاص يشمل التاريخ الخاص المتعلق بموضوع واحد؛ كتاريخ أمة، أو مملكة، أو ولاية، أو مدينة أو دولة أو عائلة أو شخص. والمتعلق بشخص واحد يسمى ترجمة، أو سيرة، أو حادثة مأثورة؛ كتاريخ الإخلاص، ومذبحة المماليك، وحادثة عرابي، وظهور المتمهدي، ونحو ذلك.
ويسمى التاريخ الخصوصي بأسماء تختلف باختلاف موضوعه؛ كتاريخ الكنيسة والتاريخ السياسي والشرعي والقضائي والتجاري والأدبي والعلمي ونحو ذلك.
مزايا التاريخ الإسلامي على سائر التواريخ
فتاريخ الإسلام من التواريخ الخاصة المتعلقة بالأمم أو الدول؛ لأن المراد بها ذكر حوادث الأمة الإسلامية أو الدولة الإسلامية، ومقابلة تاريخ الرومان أو اليونان أو الفرس ونحوهم، لكنه يمتاز عنها بأمور جديرة بالاعتبار، أهمها: (6)
أن تاريخ الإسلام حلقة موصلة بين الشرق والغرب؛ لأنه بامتداد أصحابه إلى أقصى الشرق وإلى أقصى الغرب تمكنوا من الوصل بينهما. وهو أيضا حلقة موصلة بين التمدن الغربي القديم، والتمدن الغربي الحديث؛ لأنه حفظ ما توالى على عوامل التمدن الغربي القديم من التغيير أو التحوير في العلوم الفلسفية والطب مما اشتغل به المسلمون في أثناء تمدنهم، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بتاريخ الإسلام. (7)
يمتاز تاريخ الإسلام عن سائر تواريخ الأمم والدول، بما يدخل تحته من تواريخ العناصر المختلفة التي أنقها الإسلام في أواسط آسيا وغيرها، وكانت في حال البداوة أو الهمجية، فساقها إلى المدنية، أو العلم حتى نبغ منها العلماء والفلاسفة ورجال السياسة والإدارة. وأشهرهم الأتراك والمغول والبربر والزنوج.
وهنا نقطة يحسن بنا الوقوف عندها لحظة، لنذكر شيئا عن كل من تلك الأمم: (1) الأتراك
كان الأتراك قبل الإسلام، أهل بادية يقيمون في أواسط آسيا بين الهند والصين وسيبريا. ولم يعرفوا عن أهل الغرب من اليونان أو الرومان إلا قليلا. فكان الفرس يقتنونهم للرق والخدمة، ويتهادونهم كما يتهادون المتاع. فلما جاء العرب وفتحوا بلادهم وجندوهم، نهضوا في جملة الناهضين، وتولوا الإمارات. ثم أنشئوا الدول العظمى في فارس والعراق والشام ومصر وآسيا الصغرى والقسطنطينية وأفغانستان وتركستان. وأشهرها الدولة الطولونية والإيليكية والإخشيدية والغزنوية والسلجوقية بفروعها ودول الأتابكة التي تخلفت عنها. ويزيد عدد الدول الشرعية الإسلامية على ثلاثين دولة. واتسع سلطانهم حتى وطئت خيولهم أواسط أوربا، ونبغ منهم القواد والساسة والفقهاء والكتاب وشادوا القصور والمساجد والمعاهد. وأنشئوا المارستانات والمدارس والتكيات.
وأكثر ما بقي من آثار الإسلام في مصر والشام والعراق من بنائهم، فهؤلاء لا سبيل إلى معرفة أحوالهم إلا بتاريخ الإسلام. (2) المغول
والمغول طوائف رحل، كانوا يقيمون حوالي بحيرة «بيقال» في جنوبي سيبريا. ولم يظهروا للعالم إلا بعد الإسلام. وكانوا قبل ذلك قبائل يعيشون بالغزو والنهب والصيد والقنص.
فلما احتكوا بالمسلمين في تركستان ورأوا دولهم وجيوشهم، عملوا على الاقتداء بهم، حتى عمدوا إلى فتح مملكتهم ففتحوها ببداوتهم وخشونتهم، وأمعنوا فيها قتلا ونهبا وإحراقا على يد جنكيز خان. ولكنهم ما لبثوا أن تحضروا، لمعاشرتهم المسلمين في فارس والعراق. وأنشئوا دولا عظمى حكمت الشرق خمسة قرون ونصف قرن، أشهرها أربع دول كبرى هي دول أقطاي وطلوي وجوجي وجغطاي.
وتفرعت منها دول أخرى امتدت سطوتها وخفقت أعلامها على زنقاريا وبلاد المغول والقبجاق وتركستان. وفتحوا المملكة الإسلامية، وأمعنوا في بلاد فارس والعراق والشام.
ونبغ منهم الساسة والقواد، بعد أن كانوا أهل أوثان، أسلموا وشادوا المساجد والمدارس والمعاهد، وعمروا المدن في أقصى الشرق وأقاموا فيها الأبنية الباذخة، والقصور الشامخة، وغرسوا الحدائق والبساتين وهذه الدول لا سبيل إلى معرفة أخبارها إلا بتاريخ الإسلام. (3) البربر
ويراد بهم أفريقيا الشمالية، وهم قبائل رحل، كانوا قبل الإسلام من الهمجية والجهلة على جانب عظيم، وكانوا أصحاب أوثان، يعتصمون الجبال ويتقاضون إلى الكهان، يكرهون المدنية وأهلها، وقد قاسى اليونان واليونان والرومان من غزوهم ونهبهم عذابا شديدا، ولم يكن لهم شغل غير ذلك، ولاقى العرب أيام الفتح مشقة كبرى في إخضاعهم، فلما خضعوا وأسلموا تجندوا للخلفاء والأمراء، وافتتحوا البلاد، ولاسيما في الغرب فاكتسحوا الأندلس بقيادة طارق بن زياد، وكانوا عونا كبيرا في قيام دولة الأدارسة والدولة الفاطمية، وأنشئوا دولة الملثمين والمرابطين والموحدين والمصامدة وآل زبري وغيرهم مما لا يحصى، وقد جندوا الجنود وبنوا المعاقل وأخذوا بأسباب المدنية ولا وسيلة لمعرفة أخبارهم إلا بتاريخ الإسلام. (4) الزنوج
كان الزنوج، ولا يزال السواد الأعظم منهم، يحملون إلى الآفاق كما تحمل الأغنام - يباعون بيع السلع - فكانوا يرضخون تحت نير المتمدنين، وكانوا يعبدون الحجارة أو الشجر، وبعضهم لا يفهم معنى الدين أو العبادة. وكان المعروف في مواطنهم عند ظهور الإسلام شمالي أفريقيا وبعض غربيها وشرقيها.
فلما انساج العرب في الأرض للفتح أو المهاجرة، ذهبت قبائل منهم إلى أواسط أفريقيا، فضلا عن شواطئها، فاكتسب الزنوج منهم أخلاق الأمم المتمدنة، وأسلموا. ثم انتظموا في الجندية، وتألفت منهم فرق حاربت تحت رايات الخلفاء في بلاط الخلفاء، حتى صاروا من أهل الحل والعقد.
وتولى بعضهم الحكومة، ثم تجندوا لأنفسهم، ونهضوا كما تنهض الأمم الراقية، فألفوا جيشا حاربوا به الدولة العباسية عدة سنين، حتى أقلقوا راحتها. وفتحوا المدن، وكادوا يؤسسون دولة إسلامية كبرى.
على أنهم أنشائوا دولا صغرى في أواسط أفريقيا وغربيها، ونبغ منهم الحكام والقواد، وأشهرهم: كافور الإخشيدي صاحب مصر. وظهر غير واحد من الشعراء ونظموا القصائد الحسنة، ونبغ منهم جماعة من القراء والفقهاء، وتدخل أخبارهم في تاريخ الإسلام.
وقس على ذلك أخبار أمم الشمال: كالكرج والأرمن والأكراد والخزر والصقالبة وغيرهم.
ناهيك بالعرب أنفسهم وتاريخهم قبل الإسلام وبعده، لولا الإسلام لذهبت أخبارهم وأخبار الأمم الإسلامية الأخرى. وأكثر ما يعرفه المتمدنون في هذه الأمم، أخذوا تاريخ الإسلام. (8)
أرخ المسلمون فترة من الدهر، لم يعرف تاريخها لولاهم؛ لأن حوادث ظهور الإسلام وما تلاه من أخبار الفتح وما عقب ذلك من إنشاء التمدن ونشر لواء العلم ونقل الفلسفة وغيرها من علوم القدماء، وما اقتضاه ذلك من التغيير والتبديل، قلما عرف عنه الإفرنج شيئا لولا تاريخ الإسلام. (9)
إن مدة هذا التاريخ أطول من مدد سائر التواريخ؛ لأن الإسلام يشمل دولا شتى إسلامية، إذا انقضت دولة قامت أخرى. ونحن في القرن الرابع عشر من تاريخ الهجرة. وقد توالى في الإسلام مئات من الدول من أمم مختلفة في آسيا وأفريقيا وأوربا. ولا يزال من هذه الدول كثير حتى الآن في هذه القارات. منها الدول الكبرى كالدولة العثمانية والفارسية والدول الصغرى في الهند وجزيرة العرب وأفريقيا.
ولا نعرف أمة طال سلطانها في الأرض مثل هذه المدة. ولا يزال عمر الإسلام طويلا، بل هو في نهضة إصلاحية تساعده على طول بقائه. فهو لذلك يحتوي على تاريخ أطول من سائر التواريخ. (10)
يمتاز تاريخ الإسلام عن سواه أنه يشتمل على تاريخ السياسة والدين والعلم والشريعة. وهذا قلما يجتمع في التواريخ الأخرى.
وتاريخ الفقه الإسلامي لا يدانيه تاريخ فقه لأمة من أمم الأرض بما يدخل فيه من إعمال الفكر واستنباط العقل. وقس عليه تاريخ العلم؛ لأن المسلمين أتوا في نهضتهم العلمية في العصر العباسي بما لم يأته غيرهم في نهضة، فقد اشتغلوا بعلوم اليونان والفرس والهنود والسريان وغيرهم ونقلوها إلى لسانهم وذكروا أخبارها وأحوالها، فضلا عما في اختلاف أجناس المؤرخين من جوامع الفوائد، فإن بينهم العربي والفارسي والتركي والرومي والمصري والسرياني والهندي وغيرهم. ولكل امة مزية، فاجتمعت هذه المزايا في تاريخ الإسلام. (11)
يشتمل تاريخ الإسلام على عبر تاريخية لا يتيسر اجتماع مثلها في تاريخ أمة أخرى؛ لكثرة العناصر والأجناس الداخلة في الإسلام، ولكل منها عادات وأخلاق.
وكان في كتاب المسلمين ميل إلى ذكر الحوادث والإشارة إلى العبرة والوفاء فيها. على أننا لا ننكر ما في تواريخ الأمم الأخرى من المزايا التي قد تمتاز بها على تاريخ الإسلام. (5) تاريخ مصر بالنظر إلى سواه
إن تاريخ مصر من قبيل التواريخ الخاصة؛ لأنه يختص بمصر دون سواها من البلاد، وهو تاريخ طويل؛ لأن مصر من البلاد التي تمدنت قديما، ولعلها أقدم الممالك المتمدنة التي وصل إلينا خبرها. ويقسم تاريخها إلى قسمين كبيرين: قديم وحديث.
فالتاريخ القديم يشتمل على تاريخها من أول عهدها إلى الفتح الإسلامي، ويدخل فيه تاريخ دول الفراعنة، وينتهي هذا بفتح الإسكندر الإسكندرية سنة 332ق.م. ودولة البطالسة تبدأ بفتح الإسكندر وتنتهي بالفتح الروماني سنة 30ق.م. والدولة الرومانية تبدأ بهذا الفتح وتنتهي بفتوح الإسلام سنة 640م.
وتاريخها الحديث يبدأ بفتوح الإسلام سنة 640م، ولا يزال، وهو تاريخها الإسلامي.
ويقسم تاريخها الحديث الإسلامي إلى 12 دولة كلها إسلامية، يتخللها الفتح الفرنساوي على يد «بونابرت» ثلاث سنوات. ونعدها دولة ثالثة عشرة، وهي: (1)
دولة الخلفاء الراشدين: من سنة 18-41ه أو من 640-661م. (2)
الدولة الأموية: من 41-132ه أو من 661-750م. (3)
الدولة العباسية: للمرة الأولى من 132-257ه أو من 750-870م. (4)
الدولة الطولونية: من 257-292ه أو من 780-905م. (5)
الدولة العباسية: للمرة الثانية من 292-323ه أو من 905-934م. (6)
الدولة الإخشيدية: من 323-358ه أو من 934-969م. (7)
الدولة الفاطمية: من 358-567ه أو من 969-1171م. (8)
الدولة الأيوبية: من 567-648ه أو من 1171-1250م. (9)
دولة المماليك الأولى: من 684-784ه أو من 1250-1382م. (10)
دولة المماليك الثانية: من 784-923ه أو من 1382-1517م. (11)
الدولة العثمانية: من 923-1213ه أو من 1517-1798م. (12)
الحملة الفرنساوية: من 1213-1216ه أو من 1798-1801م. (13)
الدولة المحمدية العلوية: من 1216ه أو 1801م ولا تزال.
موضوع هذا الكتاب
فموضوع هذا الكتاب يقتصر على الدولة الحادية عشرة من الدول الإسلامية التي دخلت مصر في حوزتها؛ نعني الدولة العثمانية بعد إخراج المدة التي كانت مصر في أثنائها تحت سيطرة الفرنساوي، على أثر الحملة الفرنساوية من سنة 1798-1801 فيكون موضوع هذا الكتاب، تاريخ مصر العثمانية من الفتح العثماني سنة 923-1213ه أو من 1517-1798م وهو أظلم أقسام التاريخ المصري الحديث؛ لأن مصر كانت في أثنائه مضطربة. وقد استبد بها المماليك وفسدت حكومتها، وقل من كتب في تاريخها من المحققين. على أننا سنبذل الجهد في إيضاح ذلك التاريخ.
ولا بد لنا قبل التقدم إلى الكلام فيه من أن نقدم القول بمقدمات تمهيدية لزيادة الإيضاح فنقول: (1) ما كانت عليه مصر عند الفتح العثماني
ويقتضي بيان ذلك أن نأتي بفذلكة تاريخ السلاطين المماليك الذين انتقلت مصر من أيديهم إلى العثمانيين على يد السلطان سليم الفاتح. (1-1) السلاطين المماليك
ويراد بالسلاطين المماليك؛ الدولة التي أنشأها مماليك الدولة الأيوبية بعد انقضائها.
حكمت الدولة الأيوبية من سنة 567-648ه، وهي كردية؛ لأن مؤسسها السلطان صلاح الدين الأيوبي، كردي. وهو من أعظم رجال الإسلام تعقلا وسياسة وبسالة وتدبيرا، أنشأ دولته على أنقاض الدولة الفاطمية بمصر، وبايع فيها للخلفاء العباسيين، وحارب الصليبيين وردهم عن سوريا، وأنقذ بيت المقدس من أيديهم. ومآثره أشهر من أن تذكر، وارتفع شأن الأكراد في أيام دولته، وتولوا الإمارات والولايات في مصر والشام وكردستان واليمن وخراسان.
ولما مات اقتسم مملكته، إخوته وأولاده وأولاد إخوته؛ ولذلك لم يطل حكمها، فغلبهم على معظمها مماليكهم الأتراك، كما غلبت الأتابكة ملوكهم السلاجقة قبلهم، فكان المماليك في مصر دولتان تعرفان بالسلاطين المماليك. (1-2) أصل السلاطين المماليك
يدل اسم المماليك على أصلهم فقد كانوا أرقاء مملوكين، ثم صار الحكم إليهم. وهم من الأتراك، كانوا في الأصل جندا مأجورا أو مبتاعا، بدأ استخدام الأتراك في الجندية على هذه الصورة في أيام المعتصم العباسي في أوائل القرن الثالث للهجرة. فإنه استقدم منهم جماعة من تركستان ابتاعهم أو استرضاهم أو استأجرهم لتعزيز حاشيته خوفا من تغلب أحد الحزبين اللذين استفحل شأنهما يومئذ في أثناء الفتنة بين أخويه الأمين والمأمون؛ إذ قام العرب مع الأمين، والفرس مع المأمون. وكان الشأن الأكبر في أول الدولة العباسية للجند الخراساني (الفرس) وهم الذين نقلوا الدولة الإسلامية من بني أمية إلى العباسيين. وكان العرب أقوياء لأنهم قوام الدولة، ومنهم الخلفاء وهم مادة الإسلام وأصله. وكان الفرس من حزب البرامكة. وكان الرشيد ذا عصبية للعرب ويخاف الفرس؛ لأنهم أنصار الشيعة العلوية فنكب البرامكة خوفا.
ولما اختلف الأمين والمأمون وتنازعا على الخلافة بعد الرشيد. كان العرب مع الأمين، والفرس مع المأمون، لأن أمه فارسية ، والأمين أمه عربية هاشمية «زبيدة». وكان الفوز للمأمون وقتل الأمين، فانحط شأن العرب، وصارت السيادة إلى الفارسيين أنصار المأمون واستبدوا في الدولة.
وكانت الحضارة قد أضرت بالمسلمين وأذهبت منهم قوة التغلب والفتح. ففكر المعتصم أخو المأمون في ذلك قبل أن تفضي الخلافة إليه، وكانت أمه تركية، وفيه كثير من طبائع الأتراك مع الميل إليهم؛ لأنهم أخواله. كما كان يميل المأمون إلى الفرس لنفس هذا السبب.
وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل أخيه الأمين حتى أصبح يخافهم على نفسه. ولم تكن له ثقة العرب وقد ذهبت عصبتهم وأخلدوا إلى الحضارة والترف وانكسرت شوكتهم فرأى أن يتقوى بالأتراك وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش مع الجرأة على الجر والصبر على شظف العيش فجعل يتخير منهم الأشداء يبتاعهم بالمال من مواليهم في العراق، أو يبعث في طلبهم من تركستان وغيرها. فاجتمع عنده عدة آلاف منهم. وفيهم جمال وصحة، فألبسهم أثواب الديباج والمناطق المذهبة والحلية المذهبة، وميزهم بالزي عن سائر الجنود. (1-3) دولة المماليك الأولى
وصار تجنيد الأتراك من ذلك الحين قاعدة في الدول الإسلامية. ومن جملتها الدولة الأيوبية بمصر، فإن الملك الصالح ابن الكامل (637-647ه) استكثر من اقتنائهم حتى جعل منهم بطانته وأمراء دولته والمحيطين بدهليزه وصارت مناصب الدولة إليهم، وأمنع حصون البلاد في قبضتهم قد اتخذوها مستقرا لهم حتى إذا ضاقت ذرعا من الإحاطة بهم ابتنوا - بأمر الملك الصالح - قصورا عظيمة متقنة البناء منيعة الجانب من جزيرة الروضة بضواحي القاهرة قرب المقياس. وقد زادها مركزها الطبيعي مناعة وجمالا، لأن النيل يتفرع هناك إلى فرعين، وكان يدعى نقطة تفرعه بالبحر؛ لعظم اتساعه، فسمي هؤلاء المماليك بالمماليك البحرية، ومنها اسم دولتهم تمييزا لها عن دولة المماليك الشراكسة، الآتي ذكرها.
وكانت سطوة المماليك البحرية تنتشر يوما فيوما إلى أن طمعوا بخلع السلطان وتولي الملك مكانه. فلما تولى الملك المعظم آخر سلاطين بني أيوب، وكان على ما كان عليه من الاستبداد، أنفت نفوسهم من أعماله فسعوا فيه إلى أن قتلوه.
ولما قتل الملك المعظم اختلفت الأحزاب فيمن يبايعون بعده وكل فئة تحاول استبقاء الحكم في يدها وتعاظم الخصام فتداركت الأمر شجرة الدر، وهي محظية كانت لها منزلة عند الملك المعظم وسائر رجال الدولة فرأت حزب المماليك أعز جانبا من الجميع. وكانت قبلا قد تواطأت مع أيبك عز الدين وهو من أعظم الأمراء المماليك نفوذا وبينهما علاقات ودية من أيام الملك الصالح، فتمكنت بهذه الصداقة من مبايعة الجميع لها مما لم يسبق له مثيل في الإسلام لكنها لم تستطع استبقاء الحكم في قبضتها أكثر من سنة فخلعها المماليك وولوا أيبك عز الدين المذكور سنة 648 وله منازعون ومناظرون. وزاد الأمر إشكالا تعدي الصليبيين على دمياط في تلك الأثناء.
وما زالت السيادة تنتقل من واحد إلى آخر منهم حتى أفضت إلى الظاهر بيبرس البندقداري أعظم سلاطينهم (658-676ه).
الملك الظاهر بيبرس
وكان الملك الظاهر ملكا حازما، شديد البطش كثير الغزوات، خفيف الركاب يحب السفر، وكان مشهورا بالفروسية في الحرب. وله إقدام وعزم على القتال، وثبات عند التقاء الجيوش حتى لقبوه بأبي الفتوح. وكان شعاره الأسد، إشارة إلى شجاعته.
ومن أعماله المأثورة أنه عمر الحرم النبوي، وقبة الصخرة في بيت المقدس. وزاد في أوقاف الخليل، وعمر قناطر شبرامنت بالجيزة وسور الإسكندرية ومنار رشيد. وردم فم بحر دمياط ووعر طريقه، وعمر الشنواني، وعمر قلعة دمشق وقلاعا عديدة في أنحاء سورية، وعمر المدرسة بين القصرين في القاهرة والجامع الكبير بالحسينية وهو المعروف الآن بجامع الظاهر، وحفر خليج الإسكندرية القديم وباشره بنفسه. وبنى هناك قرية سماها الظاهرية، وحفر بحر أشمون طناح، وجدد الجامع الأزهر بالقاهرة وأعاد إليه الخطبة، وعمر بلد السعيدية من الشرقية بمصر، وبنى القصر الأبلق في دمشق، وغير ذلك من الآثار الباقية إلى اليوم.
واشتهر الملك الظاهر بحروبه مع الصليبيين، فاستولى على بلاد كثيرة من سوريا وفلسطين وحلب، وفتح بلاد النوبة وبرقة.
وفي أيامه جاء العباسيون إلى مصر على أثر فرارهم من بغداد بعد سقوطها بأيدي التتر وقتل الخليفة المستعصم سنة 656ه، فجاء منهم إلى مصر الإمام أحمد بن الخليفة الظاهر بأمر الله. فوصل مصر سنة 659ه. فاستقبله الملك الظاهر أحسن استقبال، وبايعه، وأثبت نسبه في مجلس من القضاة والعلماء، وأراد أن يسترجع لهم بغداد، فأرسل جندا لاستخراجها من سلطة التتر فلم يفلح، في حديث يطول شرحه، لكنه أفلح في جعل مصر مقر الخلفاء العباسيين، وصاروا لا يثبت سلطان منهم على كرسي مصر إلا إذا بايعه الخليفة العباسي بما له من السيادة الدينية.
بقية دولة المماليك الأولى أو البحرية
مات الملك الظاهر سنة 676ه. وخلفه على الملك ولداه بركة خان ثم سلامش، ولم يكونا أهلا للرئاسة، فتغلب عليهما وحتى كان على سلامش، اسمه سيف الدين قلاوون الألفي، فخلع سلامش وتسلم زمام الأحكام، فبويع ولقب بالملك المنصور.
وكانت مدة حكمه بضع عشرة سنة من 678-698ه. وكان حسن الشكل، ربع القامة، قليل الكلام بالعربية. وكان شجاعا بطلا مقداما في الحرب، مغرما بشراء المماليك حتى قيل إنه تكامل عنده 12000 مملوك أكثرهم من الشراكسة. وحارب الصليبيين وغيرهم. وخلف آثارا بنائية لا يزال بعضها قائما إلى اليوم، منها المارستان المنصوري، وجامع قلاوون في شارع النحاسين بمصر.
وبلغ من عنايته بالمماليك أنه غير ملابسهم، وألبسهم المخمل الأحمر والأخضر والسمور والفرو، وكان استكثاره من المماليك الشراكسة، سببا في خروج السلطة من نسله كما أصاب الملك الصالح باستكثاره من المماليك الأتراك، فتوالى على الملك بعده بعض أولاده وبعض مماليكه الأتراك. ولم يثبت الملك طويلا إلا لابنه الناصر بن قلاوون من سنة 709-741ه، فخلف آثارا كثيرة، وحارب حروبا جمة. ومن جملة آثاره مجراة الماء، والسقايات السبع على حدود مصر القديمة في القاهرة.
وتكاثرت مماليك الملك الناصر المذكور في أواخر أيامه، وانتقل الحكم بعده إلى أبنائه الواحد بعد الآخر، وهم ثمانية، من سنة 741-762ه. ومنهم السلطان حسن صاحب الجامع المعروف باسمه في مصر. وانتقل بعدهم إلى جماعة من أهلهم حكموا 22 سنة أخرى، حتى انتقل سنة 784ه إلى دولة المماليك الشراكسة أو «دولة المماليك الثانية». (1-4) دولة المماليك الثانية، أو الشراكسة
والمماليك الشراكسة هم مماليك السلطان قلاوون المتقدم ذكره. وهم جنس من أهل آسيا يخالف الأتراك، أصلهم من جهات سيبريا ونواحي بحيرة «بيقال». وهاجروا في القرن السادس للميلاد إلى غربي بحر قزوين يحملون من بلادهم للاتجار بهم في أنحاء العالم، فاقتنى منهم سلطان المماليك البحرية الأخير عددا وافرا فضلا عن المماليك البحرية اقتداء بأسلافه. وكانوا يستخدمونهم في صالح الدولة فارتقوا فيها تبعا لما خصتهم به الطبيعة من الجمال والذكاء حتى صارت إليهم حماية الحصون والقلاع فجعلوا سكناهم في الأبراج فلقبوا «بالبرجية» وما زالوا يزدادون عددا وقوة ومنعة حتى تاقت نفوسهم إلى تسلق كرسي الملك يجعلونه إرثا في نسلهم.
فتمكنوا من ذلك على يد مملوك منهم اسمه حازم برقوق، وهو ابن مرتد شركسي اسمه أنس. تدرج في مصالح الدولة من أدناها إلى أعلاها بحزمه ودهائه حتى تمكن من تسلق كرسي الملك سنة 783ه، وما زال حاكما نافذ الكلمة إلى سنة 801ه.
وفي أيامه حمل «تيمورلنك» القائد التتري على العالم الإسلامي حتى هدد حدود سوريا فحمل عليه برقوق في صفد وأوقفه عند حده. (1-5) أول علائق العثمانيين بمصر
وفي أثناء ذلك أفضت سلطنة آل عثمان إلى السلطان بايازيد في آسيا الصغرى، وقد طمع بمصر فجاء تيمورلنك لينازعه عليها وعلى مصر، فبعث كل منهما وفدا إلى القاهرة. فطلب وفد بايازيد إلى برقوق أن يعاهده على السلم، وإلى الخليفة العباسي المقيم في القاهرة أن يقر بايازيد رسميا على سلطنة الأناضول، فأجابهم إلى ما طلبوه.
أما وفد تيمورلنك فاتخذوا خطة أخرى لأنهم استعملوا الخشونة والفظاظة في أقوالهم ومطالبهم، فطلبوا منه أن يسلم لهم قرا يوسف، وأحمد بن أويس اللذين قد التجآ إليه. فطيب برقوق خاطرهم وأخذهم بالملاينة فازدادوا فجورا، فأمر بقتلهم، فشق ذلك على تيمورلنك، فساق جيشه وقدم للانتقام فمر بالرها وقتل من فيها، ثم جاء حلب فأنكى فيها، ثم توقف عن مسيره لغرض في نفسه يسهل عليه افتتاح مصر. فلم يغفل برقوق عن ذلك، فأكثر من الجند والسلاح، وتأهب للدفاع أو الهجوم لكنه لم يكد يتم هذه التأهبات حتى أدركته الوفاة.
والسلطان برقوق أعظم سلاطين دولة المماليك الشراكسة أو الثانية، وله آثار منها جامع لا يزال يعرف باسمه وكان له ولع خاص باقتناء الأسلحة، ونظم الجند، وعين رتبه، وجعل مناصب الدولة إلى تسعة من كبار الموظفين أكبرهم أتابك العساكر، فرأس نوبة الأمراء، فأمير السلاح، فأمير المجلس، فأمير الياخور، فالدوادار، فرأس النوبة الثاني ، فحاجب الحجاب، وهو أول من عقد مع العثمانيين صلحا أو عهدا، كما رأيت.
وتولى الملك بعده اثنان من أولاده الواحد بعد الآخر، ثم تنازع السيادة مماليك آخرون، يطول بنا ذكر عدد حكمهم، أهمهم فيما نحن فيه؛ الملك الأشرف قايتباي من سنة 872-901ه.
تولى الملك والمملكة المصرية في اضطراب، وفي أيامه اقتضت الأحوال أن تتداخل الدولة العثمانية بمصر، وتعاديها. وذلك أن السلطان محمد الثاني حارب ملك الفرس «أوزون» وتغلب عليه. وكان بين المصريين والفرس تحالف، ثم ما لبث «قايت بك» أن سمع بعزم السلطان المذكور على فتح «سوريا» سنة 885ه. ولكن لم يخرج من بر الأناضول حتى داهمته المنية في مدينة «طيفور جابر»، وتخاصم ابناه «بايازيد»، و«جم» أو «زيزم» على الملك، فشغلا عن الفتح، فاغتنم قايت باي تلك الفرصة وانسحب بجيشه إلى مصر.
وما زال الخصام يتعاظم بين ابني محمد حتى كانت بينهم واقعة «يكي شهر» فانهزم جم حتى أتى مصر، والتجأ إلى قايت بك، فأكرم وفادته، ثم علم أن ذلك الإكرام يهيج حاسة الانتقام في بايازيد «الثاني» فقال في نفسه: «إذا كان لا بد من محاربة العثمانيين فلنكن مهاجمين أولى من أن نكون مدافعين»، فجعل يناوئ الأتراك ويقطع السبل على قوافلهم الناقلة الحجاج إلى الحرمين حتى قبض على وفد هندي مرسل في مهمة سياسية إلى بايازيد. واستولى على «أدنة» و«ترسوس» وكانتا في حوزة العثمانيين.
أما بايازيد فكان واقفا بالمرصاد ينتحل حجة لمهاجمة المصريين فجاءت تلك الإجراءات طينة على عجينة، إلا أنه رأى أن يأتيهم من باب الحزم فأنفذ إليهم رسلا في طلب التعويض عما سببوه من الخسائر والأضرار. فأرجع «قايت باي» الرسل وبعث يهاجم الجيوش العثمانية، فقاومته أشد المقاومة، وأرجعت جيشه إلى ملاطية، فأنجدهم «قايت باي» بخمسة آلاف رجل فعادوا إلى العثمانيين وهم في مضايق الجبال، فهجموا عليهم بغتة، وذبحوا منهم عددا كبيرا، وفر الباقون وتحصنوا في «ترسوس» و«أدنة»، فأنفذ جيشا كبيرا تحت قيادة صهره أحمد، وهو ابن أمير البوسنة، فلما وصل إلى معسكر الأزبكي، اقتتل الجيشان فهجم أحمد هجمة قوية، لكن رجاله لم يستطيعوا الثبات، ففازت الجيوش المصرية، وأسر أحمد بعد أن جاهد جهادا حسنا، فعاد الأزبكي بأسيره إلى مصر ظافرا، فبنى جامعه المشهور المعروف بجامع الأزبكية، وكانت في أيامه بركة يتجمع إليها الماء أيام الفيضان وهي التي صارت الآن حديقة الأزبكية.
فلما بلغ بايازيد ما كان من انكسار جيوشه، استشاط غضبا، وجند جندا كبيرا جعله تحت قيادة «علي باشا» لمحاربة المصريين، فسارت تلك الحملة من الآستانة فعبرت البوسفور في 3 ربيع آخر سنة 893، ونزلت قرمان، فاتصل خبرها بقايت بك، فأوجس خيفة فعمد إلى المصالحة، فأنفذ إلى بايزيد صهره أحمد واسطة لعقد شروط الصلح، فرفض بايازيد ذلك رفضا باتا، وسار حتى التقى بالمصريين في «أدنة» و«ترسوس» فحاربهم وفاز عليهم، واسترجع المدينتين الواحدة بعد الأخرى، بعد أن أهدر دماء غزيرة ثم سار إلى أرمينيا وأخضعها، وحاصر عاصمتها، فافتتحها بعد أن دافعت دفاعا قويا، وأسر حاكمها، وأرسله بعد ذلك إلى مصر بدلا من الأمير أحمد، فبعث قايت باي الأزبكي ثانية لدفع العثمانيين فواقعهم في «ترسوس»، فغلبوه أولا ثم عاد إليهم وفاز بهم وأعادهم القهقرى وعاد إلى القاهرة ظافرا، فخلع عليه قايت باي، ثم رأى أن يغتنم كونه ظافرا لمصالحة العثمانيين، فبعث إلى بايزيد في ذلك فأجابه وطلب إليه أن يتنازل له عن «ترسوس» و«أدنة» وأنه إذا لم يفعل يدعو الناس إلى الجهاد، فيجتمع تحت لوائه كل من يدعو لآل عثمان، فيجيء مصر ويفتحها فتحا مبينا. فخاف قايت بك وتنازل عن المدينتين اكتفاء بأهون الشرين وكان ذلك سنة 896ه. فقايت بك أول من حارب العثمانيين. وكان عادلا محبوبا، وما زال العقلاء الذين عاصروا سائر دولة المماليك يضربون المثل بأيامه، ويطلبون الرجوع إلى مثلها. (2) حرب أخرى مع العثمانيين: قنسو الغوري
خلف قايتباي على مصر خمسة سلاطين لم يطل حكمهم أكثر من خمس سنين لاضطراب الأحوال فجاء بعدهم السلطان قنسو الغوري حكم من سنة 906-922ه وكان مخلصا في الحكم وهو صاحب الجامع المعروف باسمه في القاهرة.
ويهمنا هنا أن في أيامه حدث اختلاف آخر بين العثمانيين والمصريين. وذلك أن كركود أخا السلطان سليم بايازيد جاء مصر سنة 918ه، فارا من أخيه، وكانا قد تخاصما على الملك كما حصل بجم وبايازيد قبلا، فرحب قنسو الغوري به ترحابا عظيما وجهزه بعشرين بارجة بحرية لافتتاح القسطنطينية، فذهبت العمارة غنيمة لمراكب «أورشليم» في البحر المتوسط ولم تكن النتيجة إلا إثارة غضب السلطان سليم على مصر فجهز إليها، وابتدأ بفتح الحدود السورية وأرسل إلى مصر رسائل التهديد، فاتحد الغوري مع ملك الفرس إسماعيل شاه على قهر العثمانيين، وكان الفرس في حرب معهم وسنعود إلى تفصيل ذلك إلا أن الجيوش العثمانية لم تبال بكثرة العدد فشتتت الجيشين وأي تشتيت! فعمد قنسو الغوري إلى مخابرة العثمانيين بأمر الصلح على أي وجه كان، وبعث إلى السلطان سليم بذلك فسارت الرسل إلى السلطان سليم فخروا ساجدين وخاطبوه بأمر الصلح، فقال لهم وقد استشاط غيظا: «لقد فات الأوان. انهضوا وارجعوا إلى سلطانكم وقولوا له، إن الرجل لا تعثر بحجر واحد مرتين، وها إني ذاهب إلى القاهرة فيستعد للدفاع إن كان له أهلا.»
فعادوا وأخبروا بما كان، فجمع قنسو رجاله وزحف لملاقاة الجيوش العثمانية فالتقى بها في «مرج دابق» قرب حلب فانتشبت الحرب هناك وأظهر الغوري بسالة وثباتا عظيمين حتى أوشكت رجاله أن تستظهر، فمنعتها مدافع العثمانيين من ذلك ولم يكن للمصريين مثل ذلك السلاح فتشوش نظامهم ووقع الرعب في قلوبهم، وانحاز قائدا جناحيهم إلى العثمانيين، وكان الغوري قائدا لقلب الجيش فاضطر إلى الفرار، فحول شكيمة جواده، فسقط عنه لشدة الازدحام وقتل تحت أرجل الخيل سنة 922ه. (2-1) آخر السلاطين المماليك
فخلفه الملك «الأشرف طومان باي» ابن أخيه، وفي أيامه فتح السلطان سليم مصر وصارت عثمانية، ولم يتم طومان باي سنة في حكمه. وقبل التقدم إلى تفصيل ذلك الفتح، نأتي بفذلكة عن تاريخ الدولة العثمانية إلى سنة الفتح فنقول: (3) الدولة العثمانية
هي دولة تركية لكنها تختلف عن دولة المماليك التركية (الأولى) المتقدم ذكرها أن أصحابها لم يكونوا من المماليك بل هم قوم أحرار أهل سيادة، جاءوا فاتحين. وقد نشأت في الإسلام عدة دول تركية منها أربع دول نشأت وانقرضت في أيام العباسيين قبل سقوط بغداد، وكان مؤسسوها في الغالب عمالا للعباسيين في بعض الولايات ثم استقلوا، وهي: الدولة الطولونية والأيلكية والإخشيدية والغزنوية، وليس في الدول التركية دولة كان أصحابها أهل سيادة في بلادهم وجاءوا المملكة الإسلامية فاتحين إلا السلاجقة والعثمانيين.
أما دولة السلاجقة فمؤسسها أمير تركي كان في خدمة بعض خانات تركستان فعلم باختلال المملكة العباسية، فطمع بها وعلم أنه لا يبلغ ذلك وهو على غير دين الإسلام، فأسلم هو وقبيلته وسائر جنده ورجال عصبيته دفعة واحدة. ونهض بجميع هؤلاء من تركستان وساروا غربا فقطعوا نهر جيحون وتدرجوا في الفتح ونشر السيادة حتى اكتسحوا المملكة العباسية، وامتد سلطانهم من أفغانستان إلى البحر الأبيض وكانت لهم بعد ذلك دولة عريضة تفرعت إلى خمسة فروع لا محل لذكرها هنا. ولما شاخت دولتهم، أفضت المملكة إلى مماليكهم، ويسمونهم الأتابكة، واحدهم «أتابك» فتفرعت المملكة السلجوقية بهم عشر ممالك، وبقي من السلاجقة فرع عرف بسلاجقة الروم في آسيا الصغرى، تفرع إلى ثماني إمارات أخذها منهم العثمانيون، وأقاموا دولتهم على أنقاضها كما سيجيء.
والعثمانيون شأنهم في تأسيس دولتهم مثل شأن السلاجقة، فإنهم جاءوا من تركستان وهم أهل دولة وأصلهم من التتر الذين يقطنون ما يجاور جبال التاي عند حدود الصين الشمالية، ويغلب على الظن أنهم الإسكتيون المعروفون قديما بالشجاعة وشدة البأس، ويقال إن جماعة منهم ينتسبون إلى جد يقال له «ترك» نزحوا غربا في القرن الأول للميلاد، وأقاموا فيما هو الآن تركستان، وهي مشهورة بجودة الإقليم وخصب المرعى وجمال المكان وقوة الأبدان.
وما استتب لهم المقام هناك حتى أخذوا يمدون سلطتهم وهم لا يزالون في حال الجاهلية، ولم يعتنقوا الإسلام إلا في أواسط القرن الرابع للهجرة وأشهرهم طائفتان، إحداهما السلاجقة المتقدم ذكرهم. وقلنا إن منهم فرعا ظل سائدا في آسيا الصغرى إلى أواخر القرن السابع للهجرة، وسلطانه يومئذ علاء الدين كيقباد الثاني، تولى الملك سنة 696ه / 1296م.
أما الأوغوزية فما زالوا مقيمين في تركستان حتى ظهر جنكيزخان القائد المغولي وغزا قبائل تلك البلاد، فأذعنوا له إلا الأوغوزية فإنهم هاجروا بقيادة أمير يدعى سليمان يطلبون مقاما ومرعى لماشيتها، وما زالوا يسيرون غربا حتى حدث وهم يعبرون الفرات أن أميرهم سقط بجواده في النهر ومات، فدفنوه هناك وهو جد السلطان عثمان مؤسس هذه الدولة فأصبحوا بعده جماعات متفرقة، فاتخذ ابنه أرطغرل قيادة جماعة منهم وسار بهم يخترق آسيا الصغرى، وهو في بعض السهول شاهد أرطغرل عن بعد غبارا متصاعدا وحربا قائمة، فتقدم على نية الانتصار لأضعف الفئتين المتحاربتين، ففعل وهو لا يدري لمن ينتصر، فقيض الله النصر له، وتقهقرت الفئة الأخرى ثم علم أنه انتصر للسلجوقيين وقهر المغوليين، فشكر الله على ذلك.
فنال منزلة رفيعة لدى علاء الدين السلجوقي فأقطعه بقعة كبيرة يقيم فيها برجاله على حدود فريجيا وبيثينا فكانت أرضا خصيبة ذات مرعى حسن - وفي تلك البقعة نشأ ابنه عثمان.
وشب وترعرع وما زال أرطغرل تحت رعاية علاء الدين حتى توفي فخلفه ابنه عثمان.
ثم توفي علاء الدين فاقتسم أمراؤه مملكته، فاستقل عثمان بما لديه سنة 1300م وهو أول أمراء آل عثمان.
ومن التقاليد المأثورة بين العثمانيين، أن عثمان هذا عشق وهو شاب فتاة تدعى «مال خاتون» وكان والدها شيخا تقيا ورعا طاعنا في السن اسمه أدبالي، فلما شعر بمحبة عثمان لابنته، خاف العاقبة وصار يحاول إبعادهما الواحد عن الآخر، وبالغ في حجاب ابنته لأنه لم يكن يطمع بمصاهرة ابن حاكمه.
فجاء عثمان ذات ليلة ليبيت في منزل أدبالي وقضى معظم الليل هاجا بحبيبته حتى غلب عليه النعاس، فرأى في الحلم كأن القمر خارج من صدر أدبالي، ثم رآه يتسع بسرعة حتى غطى كل ما كان واقعا تحت نظره من الأرض، ثم أخذ في التقلص حتى عاد إلى حجمه الأول، وارتد إلى صدر أدبالي كما كان، ثم رأى شجرة عظيمة خارجة من صلب أدبالي، وأخذ ظلها يمتد حتى غطى البر والبحر وتراءى له أن أنهر دجلة والفرات والطونة والنيل خارجة من أصل تلك الشجرة. وجبال قوقاس وأطلس وطوروس وهيموس تستظل بأغصانها. ورأى أوراقها تستطيل وتسترق حتى صارت كالسيوف ورءوسها مصوبة إلى أشهر عواصم العالم، خصوصا القسطنطينية الواقعة في ملتقى القارتين ومجمع البحرين. وخيل له أنها جوهرة بين زمردتين وياقوتتين مصطنعة في فص خاتم وأنه أهم أن يجعل ذلك الخاتم في إصبعه، فاستيقظ مبغوتا، فأخبر أدبالي في الصباح بما كان، فاستبشر بما سيكون من مستقبل ذلك الشاب، وأنه سيمتلك القسطنطينية.
وما انفك خلفاء عثمان كلما اتسع سلطانهم يزدادون ثقة بمآل ذلك الحلم، وقد حاول بعضهم فتح القسطنطينية، فرجع ولم ينل وطرا، حتى ظهر محمد الفاتح السابع من سلاطين آل عثمان، وبينه وبين صاحب الحلم نحو 160 سنة، ففتحها بعد أن يئس المسلمون من فتحها.
وحارب العثمانيون أعظم ملوك أوربا، وطاردوهم إلى بلاد المجر، وحاصروا فيينا عاصمة النمسا، وأخذوا الجزية من الأرشيدوق فردينان، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطئ آسيا، ووجهوا مطامعهم من الجهة الأخرى نحو الشرق ففتحوا العراق والشام ومصر على يد السلطان سليم الفاتح الذي نحن في صدده. (3-1) الإنكشارية
وقد تمكن العثمانيون من هذه الفتوح العظيمة بواسطة الإنكشارية، وهم جند أنشأه العثمانيون على شكل خاص لم يسبق له مثيل؛ لخلوه من عصبية تبعثه على التمرد، لأنه مؤلف من الغلمان الذين كان العثمانيون يأسرونهم في الحرب وأكثرهم من أصل مسيحي. فكان العثمانيون في أول دولتهم إذا فتحوا بلدا دخل في حوزتهم من أهله المأسورين جماعة من غلمان النصارى الذين قتل آباؤهم وأصبحوا لا نصير لهم، ولا مرجع لمآلهم، فارتأى قرة خليل وزير السلطان أورخان ثاني سلاطين آل عثمان (سنة 726-761ه) أن يربي أولئك الغلمان تربية إسلامية ويدربهم على الفنون الحربية، ويجعلهم جندا دائما لا يخشى منه التمرد؛ لأنه لا يعرف عصبية غير الدولة، ولا عملا غير الجندية، ولا دينا غير الإسلام، فجندهم وسار بهم إلى الحاج بكطاش شيخ طريقة البكطاشية بأماسيا، ليدعو لهم فدعا لهم وسماهم «يكي جري»؛ أي الجند الجديد.
ولم يكن قره خليل هذا أول من فكر في تجنيد غلمان النصارى كما يظن أكثر مؤرخي الأتراك، فإن الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر الذي تقدم ذكره، فعل ذلك قبل تأسيس الدولة العثمانية وهو متوجه إلى دمشق سنة 665ه لملاقاة عساكره العائدة من غزوة بلاد سيس، فنزل بلدا اسمه قارا بين دمشق وحمص، فأمر بنهب أهلها النصارى وقتل كبارهم لأنهم كانوا يسرقون المسلمين ويبيعونهم سرا للصليبيين، وأخذ صبيانهم مماليك رباهم بين الأتراك في الديار المصرية، فنشئوا على الإسلام وتجندوا في الجيش التركي.
على أن قره خليل جعل للإنكشارية شروطا لم يسبق لها مثيل، فقسمهم إلى وجاقات واحدها وجاق، والوجاق يقسم إلى أورط إحداها أورطة، ولكل أورطة عدد تعرف به، ولبعضها أسماء خاصة. ويختلف عدد الجند في كل أورطة حسب العصر من 100 إلى 500، ويختلف عدد الأورط في الوجاقات بمقتضى ذلك، وأكبر ضباط الوجاق أو قائدها الأكبر يسمى «أغا» تحته سكبان باشي، تحته غيره فغيره على هذه الصورة.
الأغا:
قائد الوجاق ويقابل اللواء في هذه الأيام.
سكبان باشي:
ينوب عن الأغا في الآستانة ويقابل القائمقام اليوم.
قول كخيا أو كخيا بك:
نائب الأغا أو السكبان باشي.
سمسونجي باشي:
قائد أورطة نمرو 71.
زغرجي باشي:
قائد الأورطة نمرو 64.
محضر أغا:
ينوب عن الإنكشارية عند الصدر الأعظم.
خصكي:
ينوب عن الأغا في القيادة على الحدود.
باشجاويش:
قائد الأورطة الخامسة.
كخيا بري:
ينوب عن الوجاق لدى الأغا.
الأفندي:
الكاتب.
ولكل أورطة ضباط يقتسمون قيادتها وإدارة شئونها على هذه الصورة: (1) «الجوربجي»: رئيس الأورطة يشبه الكولونيل. (2) «أوده باشي»: نائب الجوربجي في المناورات العسكرية. (3) «وكيل الخرج»: يتولى أمر الطعام والشراب. (4) «بيراقدار»: يتولى الأعلام والبيارق. (5) «باش اسكي»: يتولى قيادة القراقولات. (6) «اشجي»: الطاهر.
قوانين الإنكشارية
قد رأيت أن جند الإنكشارية تجند في زمن السلطان أورخان ولكن الفضل الأكبر في تنظيمه وترتيبه يرجع إلى السلطان مراد الأول (تولى سنة 761ه) وهذه خلاصة قوانينهم: (1)
الطاعة العمياء لقوادهم وضباطهم أو من ينوب عنهم. (2)
تبادل الاتحاد بين الفرق كأنها فرقة واحدة وتكون مساكنها متقاربة. (3)
التجافي عن كل ما لا يليق بالجندي الباسل من الإسراف أو الانغماس ويكون سؤلهم على البساطة في كل شيء. (4)
الإخلاص في الانتماء إلى الحاج بكطاش من حيث الطريقة مع القيام بفروض الإسلام. (5)
لا يقبل في سلك الإنكشارية إلا الذين يشبون من غلمان الأسر على التربية الخاصة بين غلمان الأعاجم. (6)
إن الحكم عليهم بالإعدام ينفذ بشكل خاص. (7)
يكون الترقي في المراتب حسب الأقدمية. (8)
لا يجوز أن يوبخ الإنكشارية ولا يعاقبهم غير ضباطهم. (9)
إذا عجز أحدهم عن العمل يحال على المعاش. (10)
لا يجوز لهم إرسال لحاهم. (11)
لا يجوز لهم أن يتزوجوا. (12)
لا يجوز لهم الابتعاد عن ثكناتهم. (13)
لا يجوز لهم أن يتعاطوا عملا غير الجندية. (14)
يقضون أوقاتهم بالرياضة البدنية والتمرين على الحركات العسكرية.
فإذا تدبرت هذه القوانين هان عليك تصور الأعمال العظيمة التي أتاها هذا الجند في مصلحة الدولة العثمانية من الفتوح العظام.
وقد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة ترفع الناس عن الانتظام في هذا الجند لأنه مجموع من لقطاء لا يعرف لأحد منهم أب ولا أم، ولكنك تفهم من البند الخامس من قوانينهم أنهم كانوا يحظرون على غير اللقيط أو المملوك الانتظام في جندهم، وكان السلاطين يشددون في تعظيم هذا الأمر في عيونهم.
رواتب الإنكشارية (العلوفة)
الأصل في ترتيب العلوفة أن تدفع يوميا، لكنها لم تكن تدفع إلا مرة كل ثلاثة أشهر، تخفيفا للثقلة، فكانوا يؤدونها أربع مرات في السنة، وتعرف كل مرة باسم مؤلف في ثلاثة أحرف مقتطعة من أسماء أوائل شهورها، فالربع الأول من السنة مؤلف من ثلاثة أشهر محرم وصفر وربيع، فالأحرف الأولى من هذه الأشهر إذا جمعت من هذا الترتيب كانت «مصر» وعلى هذا النسق كانوا يسمون الربع الثاني رجج، وقد يقطعون من اسم الشهر غير حرفه الأول مراعاة للفظ، فالربع الثالث (رجب ، شعبان، رمضان) يسمونه رشن بإقطاع النون من رمضان بدل الراء، وقس على ذلك. وكانت لهم رسومهم في تفريق العلوفة لا محل لها.
أما مقدار العلوفة فقد كان في أول إنشاء هذا الجند درهما واحدا عن كل إنكشاري في اليوم ثم ارتفعت إلى ثلاثة دراهم. وفي ختام سنة 1000 صارت العلوفة خمسة دراهم، وكان للإنكشارية هدايا ينالونها في الأعياد، وعند تولية السلاطين يسمى بخشش الجلوس، وكان هذا البخشش يعطى لسائر الجند ولكبار الموظفين، وله مقادير معينة.
ملابس الإنكشارية
وكان المعول عند العثمانيين في التفريق بين الرتب وتمييز أصحابها بعضهم عن بعض بأشكال القلانس (القاووق)، أو الأقبية (القفطان)، أو الأحزمة (الكمر) أو ألوانها فكان لكل طائفة من رجال الدولة قلنسوة شكلها خاص بهم وكذلك الأقبية والأحزمة وغيرها على اختلاف في ألوانها وأشكال أزرارها فضلا عن الأعلام. واختلف المؤرخون في وصف هذه الألبسة، واختلفوا في أسمائها وأشكالها باختلاف العصور، وفي الرسوم المنشورة هنا مثال منها. (3-2) السلطان سليم الفاتح
ولد سنة 859ه وتولى 918ه وفتح مصر سنة 923ه وتوفي سنة 926ه.
هو السلطان التاسع من سلاطين آل [عثمان]، وهو أول خليفة منهم لأن السلاطين قبله لم يكونوا خلفاء، وهو أول من بويع بالخلافة كما سيجيء، وأصبح السلاطين بعده خلفاء أيضا؛ أي إن كلا منهم سلطان وخليفة أي له السلطتان السياسية والدينية. وبما أنه هو فاتح مصر حق علينا أن نذكر ترجمته.
هو ابن السلطان بايزيد الثاني وقد تقدم في ترجمة قنسو الغوري أنه تخاصم مع أخيه كركود وفر هذا إلى مصر واحتمى بسلطانها قنصو. وسبب هذا الخصام أنه كان لبايزيد الثاني (سنة 886ه-918ه) ثمانية أولاد ذكور، توفي منهم خمسة وبقي ثلاثة، وهم كركود وأحمد وسليم. وكان كركود يحب العلم ومجالس العلماء، فمقته الإنكشارية لأنهم أهل حرب لا رزق لهم إلا بها، وكان أحمد محبوبا لدى أعيان الدولة والأمراء، أما سليم فكان رجل حرب وبطش فأحبه الإنكشارية ونصروه.
ولحظ والدهم اختلافهم في المشارب والمناقب فخاف تنازعهم ففرق بينهم، فعين كركود واليا على إحدى الولايات البعيدة ، وولى أحمد على أماسيا وسليما على طرابزون. وكان لسليم ولد اسمه سليمان (صار بعد ذلك سليمان القانوني) فعينه جده بايازيد واليا على «كافا» من بلاد القرم، فلم يرض سليم بمنصبه في طرابزون فتركه وسافر إلى كافا، وبعث إليه أبيه يطلب إليه أن يعينه على ولاية في أوربا. فلم يقبل السلطان بايازيد، وأصر على بقائه في طرابزون، فجاهر سليم بالعصيان على والده، وزحف بجيش جمعه من قبائل التتر إلى بلاد الروملي، فبعث والده جيشا لإرهابه، فلم يتهيب، فلم ير بايازيد بدا من مراضاته حقنا للدماء، فعينه واليا على مدينتي سمندرية وودين في بلاد البلغار سنة 1511.
فلما علم كركود بنجاح أخيه أحب أن يقتدي به، فانتقل إلى ولاية صاروخان، وتولاها بدون أمر أبيه، ليكون قريبا من القسطنطينية عند الحاجة، وخرج سليم على أدرنة وأعلن نفسه سلطانا عليها، فجرد والده عليه جندا لمحاربته، وجندا لمحاربة أخيه كركود في آسيا. ففر سليم إلى بلاد القرم، وفر كركود أيضا، فأخذ الإنكشارية يناصرون سليما، وألجئوا السلطان إلى العفو عنه، وإعادته إلى ولايته في سمندرية، فلاقاه الإنكشارية في أثناء الطريق وحملوه إلى القسطنطينية، وأدخلوه سراي السلطان باحتفال وطلبوا إلى بايازيد أن يتنازل عن الملك لابنه هذا فأطاع وترك القسطنطينية ليقضي باقي حياته في ديموتيقا، فتوفي في الطريق ويظن أن ابنه سليمان دس له السم خوفا منه.
تولى السلطان سليم العرش العثماني سنة 918ه بقوة الإنكشارية فوزع فيهم الجوائز، وعين ابنه سليمان حاكما على القسطنطينية وخرج بجيوشه على أخويه وأولاده حتى يهدأ باله ويستقر له الملك بلا منازع، فاقتفى أثر أخيه أحمد إلى أنقرة، فلم يقدر عليه هناك، فذهب إلى «بورصة» فقبض فيها على خمسة من أولاد إخوته، وأمر بقتلهم. ثم شخص إلى «صاروخان» مقر أخيه «كركود» ففر «كركود» إلى الجبال. وما زال يطارده حتى قبض عليه وعاد إلى أحمد، فحاربه، فانهزم فطارده حتى قتل سنة 919ه.
فاطمأن بال سليم من جهته الداخلية؛ إذ استقر له الملك بذهاب منازعيه، ومال إلى المهادنة. فعاد إلى أدرنة وكان في انتظاره هناك سفراء البندقية والمجر وموسكو ومصر. فأبرم معهم عهدا على المهادنة لمدة طويلة؛ لأن مطامعه كانت متجهة إلى بلاد الفرس، لمحاربة الشيعة. وكان الفرس في عهد الدولة الصفوية، وقد أسسها شاه إسماعيل سنة 907ه. وفتح شروان واستقر في تبريز، فجعلها عاصمة مملكته، ثم فتح العراق وخراسان وما وراءها إلى هرات. فغلب على حكامها التيموريين التتر. فامتدت سلطته من نهر الأكسوس إلى خارج فارس؛ أي من أفغانستان إلى الفرات ، فخافه العثمانيون، وهاجت فتوحه مطامعهم وتنبهت الضغائن بين السنة والشيعة، والعثمانيون حماة السنة كما كان الصفويون حماة الشيعة.
وكان إسماعيل شاه، لما تمرد سليم وأخوه أحمد على أبيهما، أخذ يناصر أحمد في عصيانه على أبيه، ثم على أخيه سليم. وكتب من الجهة الأخرى إلى مصر يطلب محالفتها على العثمانيين عند الحاجة، فبلغ ذلك إلى السلطان سليم، وهو رجل حرب وبطش. فهاجت مطامعه، ولم يعد يقنع بغير الفتح والتغلب على الدولتين جميعا، وأمر بالقبض على من كان في شيعته في حدود مملكته، وعددهم نحو 40000 وقتلهم، وأعلن شاه إسماعيل بالحرب وخرج بجيوشه من أدرنة في 22 محرم سنة 920 (19 مارس 1514م) وعددهم 40000 ماش و80000 راكب. وجرت بينه وبين الشاه إسماعيل في أثناء مسيره مكاتبات محشوة بالتهديد والوعيد. وجعل السلطان سليم وجهته مدينة تبريز عاصمة الشاه المذكور.
وكانت الجنود الفارسية في أثناء الطريق تتقهقر أمام العثمانيين خداعا حتى يتبعوهم، ثم ينقضون عليهم. حتى إذا وصلوا إلى أرباص تبريز؛ جرت واقعة انتصرت فيها الجنود العثمانية بقيادة «سنان باشا»، وفر الشاه بمن بقي من جنده وخلف وراءه كثيرين من قواده وأهله في الأسر، وكان من جملة الأسرى إحدى زوجاته، فزوجها السلطان سليم من بعض كتابه انتقاما من الشاه. وفتحت تبريز أبوابها، فدخلها الفاتح العثماني ظافرا واستولى على خزائنها وذخائرها وأرسلها إلى القسطنطينية وفي جملتها عرش مرصع بالماس والياقوت ومطرز باللؤلؤ هو الآن في جملة ذخائر آل عثمان في سراي طوب قبو بالآستانة، وقد شاهدته ووضعته في مجلة الهلال السنة 18.
وبعد ثمانية أيام اضطر لإخلاء تبريز لقلة المئونة اللازمة لجنده وأخذ في مطاردة الشاه، ففتح ديار بكر وغيرها، وأراد الإيغال في بلاد الفرس، فتوقف الإنكشارية عن ذلك، وقد ملوا الحرب، وتعبوا من الأسفار فعاد إلى أماسيا للاستراحة في أثناء الشتاء والاستعداد للحرب في أوائل الربيع.
فلما كان الربيع، استأنف الحملة، ففتح بعض البلاد ورجع إلى القسطنطينية، وخلف بعض قواده لإتمام الفتح. وحال وصوله إلى القسطنطينية؛ حاسب قواد الإنكشارية على توقفهم عن السير في حملته المشار إليها، وقتل عددا كبيرا منهم ، وقتل قاضي العسكر جعفر جلبي؛ لأنه كان من أكبر المسببين لذلك التمرد. وخاف تمردهم ثانية، فغير نظام تعيين الرئيس، وكانوا يعينونه من أكبر قوادهم، فجعل لنفسه الحق في تعيين ذلك الرئيس.
وأما جنوده فإنها واصلت الحرب، ففتحت ماردين وأورفه والرقة والموصل، فتم بذلك الفتح ولاية ديار بكر، وخضعت قبائل الأكراد له. ولما تأتى له ذلك، فكر في فتح مصر انتقاما من قنسو الغوري على تحالفه مع الشاه إسماعيل وجرت معركة مرج دابق، وقتل قنسو الغوري، كما تقدم، فحمل على مصر. (4) كيف كانت مصر لما جاءها السلطان سليم؟
كانت مصر في غاية الاضطراب والتضعضع، وقد فسدت النيات، واستفحل الظلم من عهد الغوري؛ لأن هذا السلطان ارتكب فظائع عديدة، غير قلوب الناس عليه، وهذه شهادة مؤرخ معاصر له نفس ابن إياس صاحب كتاب بدائع الزهور، فقد قال في مساوئ قنصو الغوري ما نصه:
إنه (قنسو) أحدث في أيام دولته من أنواع المظالم ما لم يحدث في سائر الدول من قبله، ومنها أن معاملته في الذهب والفضة والفلوس الجدد أنحس المعاملات جميعها زغل ونحاس وغش لا يحل بها بيع ولا معاملة في ملة من الملل، ومنها ما قرره على الحسبة في كل شهر وهو مبلغ 2700 دينار، وكانت السوقة تبيع البضائع بما يختارونه من الأثمان، ولا يقدر أحد أن يكلمهم فإن كلمهم أحد يقولون علينا مال السلطان فكانت سائر البضائع في أيامه غالية بسبب ذلك، وقرر على دار الضرب مالا له صورة في كل شهر فكانوا يضيفون في الذهب والفضة النحاس والرصاص جهارا فكان الأشرفي الذهبي إذا صفي يظهر فيه ذهب يساوي اثني عشر نصفا. وقد سلم السلطان دار الضرب إلى شخص يسمى جمال الدين، فلعب بأموال المسلمين وأتلف المعاملة وسبك ذهب السلاطين المتقدمة حتى صار لا يلوح لأحد من الناس منها دينار ولا درهم، فلما شنق جمال الدين قرر في دار الضرب المعلم «يعقوب اليهودي» فمشى في طريقة جمال الدين، وقد استباح أموال المسلمين، فكان النصف الفضة ينكشف في ليلته ويصير في جملة الفلوس الحمر، فاستمر الغش في معاملته في مدد دولته إلى أن مات.
ومنها أنه كان يولي الكشاف ومشائخ العربان على بلاد المقطعين والأوقاف فيأخذ منهم المثل أمثالا. فضعف أمر الجند يومئذ وتلاشى حال البلاد الشامية والحلبية. وكان يفرض عليهم الأموال الجزيلة في كل سنة، فيأخذونها من الرعية. وزيادة الظلم والعسف فكان كل واحد من الرعية أصحاب الإقطاع والأوقاف يتمنى الرحيل من بلاده إلى غيرها، من عظم الظلم الذي يصيبهم من النواب، ولا سيما ما حصل لعربان جبل نابلس بسبب المال الذي قرره عليهم لأجل المشاة عند خروج التجريدة فما حصل لأهل البلاد الشامية بسبب ذلك خير، وكان حسين نائب جده يأخذ العشر من تجار الهند، المثل عشرة أمثال، فامتنعت التجار من دخول بندر جده، وترك أمره إلى الخراب، وعز وجود الشاشات بمصر، وعز وجود الأصناف التي كانت تجلب من بلاد الإفرنج والأرز والأنطاع وخرب البندر، وكذلك بندر الإسكندرية، وبندر دمياط، فامتنعت تجار الإفرنج من الدخول إلى تلك البنادر من كثرة الظلم وكان كل أحد من أراذل الناس، يتقرب إلى خاطر السلطان بنوع من أنواع المظالم. فقرر على بيع الغلال قدرا معلوما يؤخذ على كل أردب، ثلاثة أنصاف من البائع ومن المشتري، وكذلك على البطيخ والرمان حتى حرج على بيع الملح.
وجدد في أيامه عدة مكوس من هذا النمط، ولم يفته من أعيان التجار أحد لم يصادره، وصادر أمير المؤمنين المستمسك بالله يعقوب، وأخذ منه مالا له صورة، ودخل في جملة ديون، حتى أورد ما قرره عليه.
وأما من مات تحت عقوبته بسبب المال، فمنهم: «القاضي بدر الدين بن مزهر» كاتب السر، ومنهم: «شمس الدين بن عوض»، و«معين الدين بن شمس الدين»، و«علم الدين» كاتب الخزانة، وغير ذلك، جماعة كثيرة من المباشرين والعمال، ماتوا في سجنه بسبب المال والصادرات.
ومن أفعاله الشنيعة، ما فعل مع أولاد الناس من خروج أقاطيعهم، ورزقهم من غير سبب، وإعطاء ذلك إلى مماليكه الجلبان، ومنها قطع جوامك الضعفاء والأيتام من الرجال والنساء والصغار. وحصل لهم الضرر الشامل بسبب ذلك.
ومنها أنه أرسل فك الرخام الذي بقاعة ناظر الخاص يوسف، التي تسمى نصف الدنيا، ووضع ذلك الرخام في قاعة البيسرية التي في القلعة.
ومنها أنه قطع معتاد الناس في الديوان المقرر من قديم الزمان، وجدد أخذ الحمايات من المقطعين من قبل أن يزيد النيل وتزرع الأراضي.
ثم تزايد حرصه على جمع الدنيا حتى صار يحاسب السواقين، الذين في سواقي القلعة والخولة الذين في سواقي الميدان في الجلة وروث الأبقار، وما يتحصل كل يوم مما يبيعونه وقرر عليهم مبلغا يؤدونه للذخيرة الشريفة.
وكانت أرباب الوظائف من المباشرين والعمال منه في غاية الضيق، لا يغفل عنهم من المصادرات يوما واحدا. وكان من حين توفي الأمير خاير بك الخازندار يباشر ضبط الخزانة بنفسه، ما يدخل إليها، وما يخرج منها، وما يعرضون عليه من الأمور في ذلك جميعه، من الوصولات، وما يصرف من الخزائن في كل يوم.
وكانت هذه الأموال العظيمة، التي تدخل له، يصرفها في عمائر ليس بها نفع للمسلمين، ويزخرف الحيطان والسقوف بالذهب، وهذا عين الإسراف لبيت مال المسلمين.
وكان يهرب من المحاكمات، كما يهرب الصغير من الكتب وما كانت له محاكمة تخرج على وجه مرض، بل على أمور مستقبحة، وكان يتغافل عن أمر القتلى، ويدفعهم إلى الشرع، ويضيع حقوق الناس عليها.
وكان يكسل عن علامة المراسيم، فلا يعلم على المراسيم إلا قليلا، فتتعطل أشغال الناس بسبب ذلك، حتى كانت تشترى العلامة العتيقة بأشرفي حتى تلصق على المرسوم، لأجل قضاء الحوائج، ولو شرحنا مساوئه كلها، لطال الشرح . انتهى. (5) سلطنة الأشرف طومان باي
تلك حال مصر في زمن «قنسو الغوري» ثم أفضى عرشها إلى الأشرف طومان باي سنة 922ه. وكانت سيادة المماليك منتشرة يومئذ على مصر، وسوريا إلى حدود العراق.
وكانت الخلافة العباسية، قد أفضت إلى المتوكل على الله محمد بن المستمسك بالله يعقوب، وكانت مناصب الدولة الكبرى، التي تقدم ذكرها يشغلها الأمراء الآتية أسماؤهم:
الأتابكي سودوه العجمي:
أمير السلاح.
الأمير أركماس بن طراباي:
أمير المجلس.
المقر الناصر بن محمد:
أمير ياخور.
الأمير سودون الدوادار:
رأس النوبة.
الأمير أنسباي بن مصطفى:
حاجب الحجاب.
فضلا عن بضعة عشر أميرا من القواد، وناهيك بالأمراء النواب في البلاد الشامية والحلبية وهم عديدون.
وقد تقدم أن جند مصر معظمه من المماليك المبتاعين بالمال. فهم إنما يعملون طمعا بالكسب الشخصي، وليس لأحد منهم عائلة أو أسرة، يغار على وطنه من أجلها إلا نادرا.
فلما قتل الغوري في معركة «مرج دابق» التف أكبر رجاله حول السلطان سليم، وصاروا من أتباعه، وأخذوا يتقربون إليه بذكر مساوئ مولاهم وأمرائه ويظهرون له معائبهم وقبائحهم، ولم يذكروا شيئا من إحسان الغوري إليهم. وبعضهم خانه في حياته، فإن نائب قلعة حلب سلم القلعة للعثمانيين من غير حرب.
أما سائر الجند والأمراء فهربوا إلى مصر، وحال وصولهم طلبوا تعيين «طومان باي» سلطانا محل عمه «الغوري»، فامتنع لأنه كان لا يعجبه تصرفهم في الرعايا على نحو ما تقدم عن أعمال الغوري، ولم يكن «طومان باي» ممن يرضى بذلك، فألحوا عليه أن يقبل ذلك المنصب، فاصطحبهم إلى الشيخ أبي السعود، وهو من أهل الكرامة، فأحضر لهم مصحفا، وحلف الأمراء الذين حضروا بصحبة طومان باي، بأنهم إذا سلطنوه، لا يخونونه، ولا يغدرون به، ولا يخامرون عليه، وأنهم يرضون بقوله وفعله، فحلف للجميع على ذلك ثم إن الشيخ حلفهم ألا يعودوا إلى ما كانوا عليه من ظلم الرعايا، وألا يشوشوا على أحد بغير طريق شرعي، ولا يجددوا مظلمة، وأن يبطلوا جميع ما أحدثه الغوري من المظالم، ويبطلوا ما كانت على الدكاكين من المشاهدة والمجامعة ، وأن يجروا الأمور كما كانت في أيام الأشرف قايدباي، فحلفوا وانفض المجلس.
فتولى «طومان باي» سلطنة مصر رغم إرادته وهو يرى ما كانت عليه من الفساد والخلل، وما استولى على الرعايا من اليأس على أثر مظالم عمه الغوري التي ذكرناها. وكان من بين ما احتج عليهم به، أن بيت المال ليس فيه درهم ولا دينار. قال: «فإذا تسلطنت من أين أنفق على الجند؟» وهو يخاف ألا يطيعه الأمراء في محاربة العثمانيين ، لكنهم ما زالوا عليه حتى بايعوه كما تقدم ودفعوا له بخلعة السلطنة، وهي يومئذ الجبة السوداء والعمامة السوداء والسيف البداوي، ثم قدموا له فرس النوبة بغير كنبوش ولا سرج ذهب، ولا وجدوا آلة في الزردخانات، لا قيمة ولا طيرا، ولا الغواشي الذهب، ولكنهم أتموا الاحتفال بالبيعة؛ تلك كانت حال المصريين لما جاءهم السلطان سليم لفتح بلادهم.
ولكن «طومان باي» كان حازما عاقلا، فلما حكم عليه أن يكون سلطانا لم ير بدا من الثبات والصبر وأخذ في رد المظالم وإصلاح الأحوال، ولكن بعد فوات الفرصة، على أنه أخذ إعداد حملة أخرى لمحاربة العثمانيين.
تاريخ مصر العثمانية
فتح العثمانيين مصر سنة 922ه
المعركة الفاصلة بين الجيشين
كان العثمانيون في سوريا قد توقفوا للاستراحة، فظن «طومان باي» أن الرمال المتراكمة بين سوريا ومصر، تحول بين العثمانيين وما يريدون، إلا أن الأمر لم يكن كما ظن؛ لأنه لم يكد يتم إعداداته حتى أتاه كتاب السلطان سليم إلى القاهرة، وهذا نصه:
من السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد خان سلطان البرين وخاقان البحرين السلطان ... إلخ، إلى طومان باي الشركسي
الحمد لله، أما بعد؛ فقد تمت إرادتنا الشاهانية، وباد إسماعيل شاه الخارجي، أما قنسو الكافر، الذي حملته القحة على مناوأة الحجاج، فقد نال جزاءه منا، ولم يبق لدينا إلا أن نتخلص منك؛ فإنك جار «عدو»، والله سبحانه وتعالى يساعدنا على معاقبتك، فإذا أردت اكتساب رحمتنا الشاهانية اخطب لنا، واضرب النقود باسمنا. وتعال إلى أعتابنا وأقسم على طاعتنا والإخلاص لنا وإلا ...
فلما قرأ طومان باي الكتاب ، وما في ذيله من التهديد المستتر، استشاط غيظا، وأصر على المقاومة. وكان عالما بعجزه، لكنه فضل الموت في ساحة الحرب على التسليم، فزاد في حصون دمياط وغيرها من الحدود السورية، وجمع ما أمكنه جمعه من الرجال، وسار لملاقاة العثمانيين حتى أتى الصالحية فعسكر هناك.
أما السلطان سليم، فسار إلى مرج دابق وافتتح غزة والعريش والقطيعة، ثم علم مقر الجيوش المصرية في الصالحية، وما هم فيه من العزم على المدافعة بشدة بأس، فعرج بجيشه تاركا الصالحية عن يمينه، وسار حتى أتى الخانكاة على بضع ساعات من القاهرة.
فلما بلغ «طومان باي» تقدم العثمانيين إلى هذا القدر، عاد بجيشه لمهاجمتهم من الوراء. فالتقى الجيشان في سهل قرب «بركة الحج» يوم الجمعة في 29 ذي الحجة سنة 922ه، واقتتلا طويلا، والمصريون يحاربون ببسالة شديدة. لكنهم لم يكونوا يعرفون البارود ولا المدافع كما قدمنا، ولا يعرفون استخدامها، فكانت الغلبة للعثمانيين. ففر المصريون إلى القاهرة، وعسكر العثمانيون في الروضة. فجمع إليه «طومان باي» عددا كبيرا من العربان، بعد أن أرضاهم بالمال، وهجم على معسكر السلطان هجمة اليأس فلم ينل منهم وطرا. فعاد إلى القاهرة على نية مواجهة الحصار، فزاد في حصونها واستحكامها. وحصن القلعة تحصينا عظيما، وأقام في كل شارع وفي كل بيت طابية للدفاع، وحمل السلاح كل من يستطيع حمله للدفاع عن الوطن ولكن رغم هذه الإعدادات، وما أظهره «طومان» من البسالة والإقدام، وما سعى فيه أمراؤه، لم تنج القاهرة من أيدي العثمانيين، فإنهم دخلوها عنوة وأمعنوا فيها قتلا ونهبا وحرقا.
لا غرو إذا غلبت المماليك على أمرهم بعد ما علمت من اضطراب أحوالهم وتغير قلوبهم، وخلو خزائنهم من المال، فالعسكر كيف يحارب بلا مال؟ فقد كانوا في الحرب يأتون إلى القلعة للاستيلاء على جامكيتهم فيجيبهم ولاة الأمر «ليس في هذا اليوم جامكية لأن البلاد خراب والعرب مشتتة في الطرقات.» وكان لهم ستة أشهر لم يقبضوا رواتبهم من اللحم ونحوه. ومن أسباب الكسرة أن جند المغاربة الذين كانوا في مصر، توقفوا عن المحاربة، وقالوا نحن لا نحارب المسلمين، لا نحارب إلا الإفرنج.
ومع ذلك فإن «طومان باي» لم يأل جهدا في ترغيب الجند في الاتحاد والدفاع عن الوطن وشدد عزيمتهم وسبك مناصل، وعمل بندق الرصاص، وأكثر من الرماة.
ولكن الرعب كان سائدا على أهل القاهرة، وعلى الجند، وهؤلاء إنما خرجوا للحرب لأن السلطان كان يجاهد بنفسه، حتى في بناء الاستحكامات، وكان يحمل حجارة بيده لبناء خطوط النار أو حفر الخنادق.
على أن جماعة من رجاله، انحازوا سرا إلى العثمانيين وأهمهم خاير بك صاحب حلب الذي تقدم أنه قامر على الغوري فكان عونا للعثمانيين، ودسيسة لهم عند المصريين. وزد على ذلك أن المماليك كانوا في عصر الانحلال، والعثمانيون في أوائل دولتهم، وقد جاءوا بالمدافع والبارود، ف «طومان باي» جاء متأخرا، وقد فسدت الأمور، فلم يستطع إصلاح شيء، رغم ميله الشديد إلى ذلك. وشدة إخلاصه في الدفاع عن الدولة والوطن وشأنه في ذلك شأن «مروان بن محمد» آخر خلفاء بني أمية فإنه كان حازما، شجاعا، حسن النية، لكنه جاء متأخرا فلم يمنع سقوط دولة بني أمية ولا منع طومان باي سقوط دولة المماليك.
فلما انهزم المماليك، وقد غلبوا على أمرهم، وتعقبهم العثمانيون إلى القاهرة. أخذوا في نهبها، وقد تعود أهلها ذلك في زمن المماليك إذا اختلفوا بينهم، فالعثمانيون أخذوا في نهب بيوت الكبراء، ودخلوا الطواحين، وأخذوا ما فيها من البغال والأكاديش، وأخذوا جمال السقايين، وصاروا ينهبون ما يلوح لهم من القماش إلى القروب وتوجهوا إلى شون القمح بمصر وبولاق، ونهبوا ما فيها من الغلال، وقد قال بعض الشعراء المعاصرين في ذلك:
نبكي على مصر وسكانها
قد خربت أركانها العامرة
وأصبحت بالذل مقهورة
بعدما كانت هي القاهرة
وفي سلخ سنة 922ه، دخل الخليفة المتوكل القاهرة، ومعه وزراء السلطان سليم والجم الغفير من العساكر العثمانية.
ودخل معهم الأمراء خاير بك، وقاضي القضاة الشافعية وغيره ممن كان في أسر السلطان سليم في حين مات السلطان الغوري. دخل الخليفة المذكور من باب النصر وقدامه المشاعلية تنادي الناس بالأمان والاطمئنان، والبيع والشراء ، والأخذ والعطاء، وأن العساكر العثمانية لا يشوشون على أحد من الرعية، وأنه قد أغلق باب الظلم وفتح باب العدل، وأن كل من عنده مملوك شركسي، ولا يدل عليه، ثم ظهر عنده يشنق، وادعوا للملك المظفر سليم شاه بالنصر. فضج الناس بالدعاء، ولكن لم يلتفت أحد من العثمانية لهذه المناداة، وأخذوا ينهبون بيوت أولاد الناس بحجة أنهم يفتشون عن المماليك الشراكسة، فاستمر النهب في بيوت الأمراء، وأهل البلدة ثلاثة أيام متوالية، لا يتركون جمالا ولا بغالا ولا قماشا.
وفي يوم الجمعة، خطب باسم السلطان سليم على منابر القاهرة، ومصر القديمة، وهذا نص الخطبة:
وانصر اللهم السلطان ابن السلطان، ملك البرين والبحرين، وكاسر الجيشين، وسلطان العراقيين، وخادم الحرمين الشريفين الملك المظفر سليم شاه، اللهم انصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا مبينا، يا مالك الدنيا والآخرة، يا رب العالمين.
وبالغ العثمانيون في مطاردة الشراكسة ... حتى كانوا يدورون في الحارات والأزقة والأسواق. وكل من رأوه من أولاد الناس لابسا زنطا أحمر وتخفيفة، وهو لباس المماليك قالوا له أنت شركسي، وقطعوا رأسه، فلبس الناس العمائم، حتى أولاد الأمراء والسلاطين، وأبطلوا لبس الزنط والتخافيف في مصر. على أن ذلك لم يمنع تعديهم، فكانوا يتهمون الناس أنهم من الشراكسة، ثم يقولون لهم: افتدوا أنفسكم بالمال. فيفعلون.
وفي يوم الإثنين، ثالث المحرم سنة 923ه دخل السلطان سليم القاهرة. وبين يديه الخليفة المتوكل، والقضاة، وشق المدينة في موكب حافل، وقدامه الجنائب المسومة الكثيرة، وحوله العساكر المتزاحمة بين مشاة وفرسان، حتى ضاقت بهم الشوارع، وما زال سائرا في المدينة حتى دخل من باب زويلة، ثم عرج من تحت الربع، وتوجه من هناك إلى بولاق، ونزل في المعسكر الذي نصبه تحت الرصيف، فلما شق المدينة، ارتفعت الأصوات بالدعاء في الناس قاطبة، وقد وصفه أحد المعاصرين الذين شاهدوه في ذلك اليوم، فقال: إنه دري اللون، حليق الذقن وافر الأنف، واسع العينين، قصير القامة، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وفيه خفة وهرج، كثير التلفت إذا ركب.
أما «طومان باي» فإنه ثبت في تلك الحروب ثبات الأبطال، لكنه اضطر أخيرا للفرار في 8 محرم، فذهب إلى الصعيد، واتفق مع بعض قبائل العرب هناك على الدفاع عن الوطن، ومصادرة ما يحمل العثمانيين من الغلال ونحوها. فالتف حوله جماعة كبيرة ممن خافه السلطان سليم، ثم جرت المخابرة بشأن الصلح والأمان ولم يتم شيء.
وأتى «طومان باي» برجاله إلى الجيزة، فخرج إليهم السلطان سليم، فحدثت معركة كالتي حدثت ببركة الحاج، وكان الفوز أولا ل «طومان باي» ورجاله.
ثم تكاثر العثمانيون وأكثروا من رمي الرصاص فانكسر المماليك وانهزم «طومان باي» فأمعن السلطان سليم فتكا فيمن وقع في أيديه منهم، ذكر «ابن إياس» أن العثمانيين، قطعوا رءوس المماليك الشراكسة وجماعة من العربان الذين كانوا مع «طومان باي». فلما تكامل قطع الرءوس، أحضروا مراكب نصبوا فيها مداري من خشب، وعلقوا عليها تلك الرءوس وحملتها النواتية على أكتافهم ولاقتهم الطبول والزمور، وزينوا القاهرة لذلك.
وبعث السلطان سليم يتعقب «طومان باي» حتى تمكن منه بالحيلة، فأتوا به مغلولا إلى ما بين يدي السلطان، فنظر إليه، فإذا هو في حالة الغضب، وقد علا وجهه القنوط لما حل ببلاده من الذل فتحركت عواطف السلطان سليم، فأمر أن تحل قيوده، وبأن يؤذن له بالحضور في مجتمعات كان يعقدها السلطان سليم للمداولة في أمر البلاد، فكان يسأله مسائل كثيرة تتعلق بأحوال البلاد الاقتصادية والسياسية والإدارية ظلوا على ذلك عشرة أيام. وفي اليوم العاشر، رأى السلطان سليم أنه لم يعد في حاجة إلى مشورة «طومان باي» فأمر بشنقه في 19 ربيع أول سنة 923 فعلقوه تحت رواق باب زويلة بكلاب من حديد، كان باقيا هناك إلى عهد غير بعيد.
وبقتل «طومان باي» انتهت دولة المماليك الشراكسة، أو البرجية. بعد أن تسلطنوا نحو 139 سنة وأصبحت مصر إيالة عثمانية. والسلطان سليم أول من خطب على منابرها من العثمانيين، ولا تزال عثمانية إلى الآن.
ولكن المراد في هذا الكتاب التكلم عن تاريخ سيادتها الفعلية عليها سنة 923ه (1517م) إلى الحملة الفرنساوية سنة 1212ه (1797م) وهي نحو 290 سنة، كانت الحكومة على ترتيب وضعه السلطان سليم سيأتي ذكره. فأصابها في أثناء ذلك تعديل اقتضته طبيعة ذلك الحكم، بحيث يمكننا أن نقسم تلك المدة إلى أربعة أدوار على هذه الصورة:
عدد السنين.
الدور الأول:
من الفتح العثماني سنة 923ه إلى سلطنة أحمد بن محمد 1115ه، وكانت الكفة الراجحة فيه للباشوات الذين كانت ترسلهم الدولة العثمانية من الآستانة لحكومة مصر، ثم للجند وطول هذه المدة 192 سنة.
الدور الثاني:
من سلطنة أحمد بن محمد إلى سلطنة عبد الحميد الأول سنة 1177، وكانت الكفة الراجحة فيه للمماليك.
الدور الثالث:
وهو المدة التي استقل بها علي بك الكبير بحكومة مصر، حتى قتل وعادت مصر إلى كنف الدولة سنة 1187.
الدور الرابع:
من رجوع مصر إلى حوزة الدولة العثمانية إلى الحملة الفرنساوية سنة 1219.
فلنذكر تاريخ كل دور من هذه الأدوار فنبدأ بالتاريخ السياسي ونلحقه بفذلكة من تاريخ العلم والأدب. وخلاصة تراجم العلماء في كل دور، وما خلفوه من الآثار الأدبية فنقول:
الدور الأول من تاريخ مصر العثمانية
من سنة 923-1115ه أو 1517-1703م (1) سلطنة سليم الأول: من سنة 923-926ه أو 1517-1520م
أقام السلطان سليم بمصر بضعة أشهر، وهو ينظم أحوالها لكن همه كان منصرفا إلى حمل ما فيها من التحف إلى الآستانة.
ذكروا أنه أمر بفك الرخام الذي كان في القلعة والعواميد السماقية التي كانت في الديوان الكبير؛ لأنه أراد أن ينشئ مدرسة في الآستانة، مثل مدرسة الغوري.
قال ابن إياس «وصار يحيى بن فكار يركب ويأخذ معه جماعة من المرخمين فيهجمون على قاعات الناس، ويأخذون ما فيها من الرخام السماقي والزرزوري الملون، فأخربوا عدة قاعات من أوقاف المسلمين، وبيوت الأمراء. حتى القاعات التي في بولاق، وقاعات الشهابي أحمد ناظر الجيش ابن ناظر الخاص التي على بركة الرطلي وغير ذلك من قاعات المباشرين والتجار، وأبناء الناس والمدارس التي فيها الكتب النفيسة فنقلوها عندهم، ووضعوا أيديهم عليها.»
غير ما نهبوه من الأمراء وتحفهم. وبالجملة فقد خرج السلطان سليم من مصر في شعبان من تلك السنة، ومعه أحمال من التحف والهدايا، وقد نال أمرا لم يجسر عليه أحد قبله من السلاطين الأتراك ولا غيرهم؛ نعني نيل الخلافة الدينية، فضلا عن السلطة السياسية. (1-1) الخلافة والسلطة في الإسلام
لما كانت الخلافة أهم ما اكتسبه العثمانيون في مصر، رأينا أن نأتي على تاريخ هذا المنصب في التمدن الإسلامي، ونسبته إلى السلطة، يتبين للقارئ أن السلطان سليما أقدم على أمر لم يقدم عليه سواه من السلاطين فنقول: لا بد للناظر في أحكام التاريخ على العموم، وتاريخ الإسلام على الخصوص من أن يرى السلطة المطلقة لا تتأيد بمثل الدين، فإن الصبغة الدينية تحميها من طمع الطامعين بأن تجعل لملوكها مزية على سائر الناس.
وإذا أريد فصل الدين عن السياسة فلا بد من تقييد الحكومة بالشورى، وهي أفضل الحكومات وأطولها عمرا، وإلا فإنها تنحل سريعا. ويكفي لانحلالها أن يتولى شئونها ملك قليل التدبير ناقص الاختيار، فيغتصب ملكه بعض وزرائه أو قواده.
وإذا تدبرت تاريخ الدول الإسلامية، رأيت للسلطة الدينية تأثيرا كبيرا في طول بقائها واتساع نطاقها. اعتبر ذلك في الدول التي نشأت في أثناء التمدن الإسلامي من الفرس، والترك، والكرد، والشركس، كالبويهيين والسلاجقة والأيوبيين، وغيرهم من الدول الفخمة؛ فإن بين ملوكها جماعة من دهاة الرجال وقهارمة السياسة، ولم تطل أعمارها رغم استقوائها بالخلافة العباسية.
وانظر إلى الدول العربية التي جمعت بين الخلافة والسلطة كالعباسيين والفاطميين والأمويين في الأندلس مع ما طرأ عليها من أسباب السقوط، فقد صبرت وطال جهادها.
وإذا نظرت إلى الدول الأعجمية رأيت أطولها عمرا وأوسعها ملكا الدولة التي جمعت بين السلطتين، وهي الدولة العثمانية. وبنو أمية في الشام، لو لم يتخذوا لقب الخلافة ويقبضوا على أزمة الرئاسة الدينية ما استطاعوا إلى الحكم سبيلا، فإنهم إنما حكموا الناس وأيدوا سلطتهم بما في الخلافة من الصبغة الدينية، ووفقوا إلى أعوان علموا أن العامة لا تحكم بمثل الدين فجعلوا همهم تعظيم الخلافة حتى جعلوها فوق النبوة، وسموا الخليفة خليفة الله. وقالوا: «خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته.» والعلماء ينكرون ذلك، ولا يصدقونه. وأما العامة فكانوا يساقون به إلى الطاعة بالإرهاب رغم ما كان يعتور صحة خلافة بني أمية من شكوك.
فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس، وهم من عائلة النبي ومن أولى الناس بخلافته، كان المسلمون أطوع لهم مما لبني أمية، واعتقدوا أن خلافتهم تبقى أبد الدهر حتى يأتي السيد المسيح، وغرس في أذهان الناس بتوالي الأجيال أن الخليفة العباسي إذا قتل اختل نظام العالم واحتجبت الشمس وامتنع القطر وجف النبات.
وكان الخلفاء لا يأنفون من ذلك التفخيم مع تعقله وانتشار العلم في عصره. فقد ذكروا أنه كان يحتمل أن يمدح بما يمدح به الأنبياء ، ولا ينكر ذلك ولا يرده حتى قال فيه بعض الشعراء: «فكأنه بعد الرسول رسول»! فكيف يكون حال الخلفاء في عصر الانحطاط؛ إذ يقوم الوهم مقام الحقيقة، ويكثر المتزلفون والمتملقون، ويكتفي أولو الأمر بالكلام دون الأعمال وتمسك أهلها بالعرض، وتركوا الجوهر فلا غرو إذا سموا الخليفة في أيام المتوكل: ظل الله الممدود بينه وبين خلقه. أو قالوا قول ابن هانئ للمعز الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فلهذا السبب كان الأمراء الذين يستقلون عن الدولة العباسية بالإدارة والسياسة لضعف الخليفة عن حربهم، لا يستطيعون الاستقلال عنه بالدين؛ إذ لا يستغنون عن بيعته لتثبيت سلطانهم. فإذا أراد أحدهم الاستقلال بولاية أو فتح بلد أو إنشاء إمارة لنفسه، بعث إلى الخليفة في بغداد يبايعه، ويطلب منه أن يعطيه تقليدا أو عهدا بولاية ذلك البلد، أو أن يلقبه ويخلع عليه. وإذا أبى الخليفة أن يجيبه غضب، وعد ذلك تحقيرا له، وقد يجرد عليه الجند ليكرهه على تثبيته.
فالإمارات أو المماليك التي استقلت عن الدولة العباسية في فارس وخراسان وتركستان، وما بين النهرين والشام ومصر وبلاد المغرب وغيرها قبل قيام الدولة الفاطمية كانوا أصحابها يخطبون لخليفة بغداد ويبعثون إليه بمال معين في العام مع أنهم في أمن من سطوته، وإنما يريدون أن يرضى العامة عن سلطانهم.
وكذلك كان شأن الأجناد الأتراك وأمرائهم فقد كانوا مع استبدادهم بخلفاء بغداد قتلا وخلعا لا يجسرون على استبقاء منصب الخلافة خاليا يوما واحدا لاعتقادهم أنه بدون الخليفة لا تصطلح العامة، حتى الملوك أو السلاطين الذين تسلطنوا على بغداد وقبضوا على كل شيء فيها. وأصبح الخليفة آلة في أيديهم مثل آل بويه، وآل سلجوق، فقد كانوا يحاربون الخليفة ويجردون عليه الجيوش، حتى إذا ظفروا به، وغلبوه، بايعوه، وأكرموه ورفعوا مقامه وتبركوا به.
فعضد الدولة البويهي ملك بغداد واستبد بها وهو شيعي على غير مذهب الخليفة، وكان يغالي في التشييع ويعتقد أن العباسيين غصبوا الخلافة من مستحقيها، فلم يكن ثمة باعث ديني يدعوه إلى طاعة خليفة بغداد. ومع ذلك فإنه بايعه، وعظم شأنه، وأعاد من أمر الخلافة ما قد نسي، وأمر بعمارة دار الخلافة، والإكثار من الآلات، وعمارة ما يتعلق بالخليفة وبطانته، وأكرمه غاية الإكرام.
وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يعرفون حاجة الأمراء المسلمين إلى رضاهم. فإذا ساءهم أحد منهم، هددوه بالخروج من بغداد. فيضطر إلى استرضائهم؛ لأن خروجهم يغضب العامة، ويجرئهم على خلع الطاعة لتقديسهم شخص الخليفة وتنزيهه عن الخطأ.
ولذلك فلم يكن من سبيل إلى نزع سلطته أو الاعتراض عليها إلا من وجه ديني. فكان الذين يقومون على الخلفاء، يجعلون سلاحهم الدين، فيلبسون الصوف، ويدعون إلى المعروف أو يعلقون في أعناقهم المصاحف أو نحو ذلك مما يحرك عواطف العامة وإذا أراد أحد الخلفاء أن يصلح ما بينه وبين العامة أصلحه بالتقوى. فلما ضمن «الفضل بن سهل» الخلافة للمأمون أوصاه بإظهار الورع والدين ليستميل القواد.
ولما رأى «أبو مسلم الخراساني» أهل اليمن في مكة قال: «أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان، غزير الدمعة» يريد تحريك عواطفهم الدينية بالوعظ والبكاء. فلم يكن للمماليك الإسلامية بد من خليفة تبايعه ليثبت ملكها.
وقد يستاء بعض الأمراء المستقلين من خليفة بغداد فيكظم ولا يخلع بيعته، إلا إذا رأى خليفة آخر يبايعه. فلما قامت الدولة الفاطمية بالمغرب ومصر، خلعت كثير من البلاد بيعة خليفة بغداد، وبايعت للفاطميين في القاهرة. ولما تغلب صلاح الدين الأيوبي على مصر، وذهبت الدولة الفاطمية منها، فأول شيء فعله أنه خطب بجامع القاهرة للخليفة العباسي في بغداد. وطلب المنشور منه والخلع عليه.
وكانت الخلافة العباسية بغاية الانحطاط والضعف وهو في غنى عن بيعتها، ولكنه علم أنه إذا لم يبايع الخليفة فلا يرضى الناس.
وكذلك فعل السلاطين المماليك، الذين ملكوا مصر بعد الدولة الأيوبية، فإنهم بايعوا للعباسيين، وكانت الخلع تأتيهم من بغداد إلى القاهرة بتثبيت سلطتهم، فلما سطا التتر على بغداد وفتحوها سنة 656ه، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله، توقف شأن الخلافة، فاضطربت أحوال مصر، وبذل سلاطينها جهدهم في إيجاد خليفة يبايعونه ولو أعوز خليفة ولم يجدوه ربما اختلقوا واحدا ليحكموا العامة به، على أنهم ما زالوا يبحثون عن بقية الخلفاء العباسيين الذين كانوا في بغداد حتى ظفروا بالهاربين منهم فاستقدموهم إلى القاهرة، واحتفلوا بهم احتفالا عظيما، وفرضوا لهم الرواتب كما تقدم، وبالغوا في احترامهم وإكرامهم مع علمهم أن أولئك الخلفاء لا يغنون عنهم شيئا.
ولكنهم خافوا اختلال دولتهم بدونهم، وظل ملوك الهند وغيرهم من ملوك الإسلام بالأطراف البعيدة، يبايعون للخليفة العباسي في القاهرة، ويطلبون التقليد منه أو المنشور لإثبات سلطتهم على يد السلاطين المماليك، فما الذي بعث لأولئك الملوك على طلب التقليد من خليفة طريد شريد لا ينفع ولا يشفع لولا ما يتوقعونه من أثر ذلك في أذهان العامة؟
ولا ننكر أن بعضهم كان يطلب بيعة الخليفة تدينا ولكن الأكثرين كانوا يطلبونها لاستصلاح العامة بها. (1-2) الخلافة في غير قريش
مما يستحق النظر والاعتبار فيما نحن فيه، أن ملوك المسلمين غير العرب على اختلاف مواطنهم وأجناسهم ولغاتهم ودولهم من الفرس والأتراك والأكراد والبربر والشركس وغيرهم، مع ما بلغوا إليه من سعة الملك وعز السلطان ومع حاجاتهم إلى السيادة الدينية لتستقيم دولتهم، وتجتمع الرعية على طاعتهم، ولم يخطر لأحد منهم أن يطلب الخلافة لنفسه، قبل انتقال الإسلام إلى طوره الثاني بعد تضعضعه بفتوح المغول، ولا ادعاها أحد من العرب غير قريش، وأول سلطان غير عربي بويع بالخلافة، السلطان سليم الذي نحن في صدده ولا تزال الخلافة في دولته إلى الآن.
على أن الذين قويت شوكتهم في عهد ذلك التمدن من الأمراء المسلمين أو القواد غير العرب، كانوا إذا طمعوا بالسيادة الدينية أو الخلافة، انتحلوا لأنفسهم نسبا في قريش كما فعل «أبو مسلم الخراساني» لما رأى من نفسه القوة على إنشاء الدولة. وربما طمع بالخلافة، وانتحل لنفسه نسبا في بني العباس فقال إنه ابن سليط بن عبد الله بن عباس.
وأما الملوك أو السلاطين الأعاجم، فلما ضخمت دولتهم في أواخر العصر العباسي، ورأوا انحطاط الخلافة وتقهقرها تمنوا الاستغناء عنها، ولكنهم لم يروا سبيلا إلى ذلك، إلا أن يستبدلوها بخلافة أخرى. على أن بعضهم طمع بالنفوذ الديني عن طريق الانتساب إلى الخليفة بالمصاهرة.
وأول من فعل ذلك، عضد الدولة «بن بويه» المتوفى سنة 372ه، فإنه حمل الطائع بالله الخليفة العباسي في أيامه أن يتزوج بابنته، وغرضه من ذلك أن تلد له ابنته ولدا ذكرا فيجعله ولي عهده؛ فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب، ولم يوفق إلى مراده.
ولما أفضت السلطة إلى السلاجقة، تقدموا في هذا الطريق خطوة أخرى، فعمدوا إلى التقرب بالمصاهرة أيضا. ولكن على أن يتزوج السلطان «طغرلبك السلجوقي» ابنة الخليفة، وهو يومئذ القائم بأمر الله فخطبها إليه، ووسط قاضي الري في ذلك، فانزعج الخليفة لهذا الطلب أيما انزعاج؛ إذ لم يسبق أن يتزوج بنات الخلفاء إلا أكفاءهم بالنسب، وكانت يد السلطان قوية والخليفة لا شيء في يده، فأخذ الخليفة في استعطافه ليعفيه من الإجابة على طلبه، فأبى السلطان إلا أن يجاب.
وحدثت أمور يطول شرحها خيف منها على الدولة فاضطر الخليفة إلى القبول، فعقد له عليها سنة 454ه. وهذا ما لم يجر مثله قبله، لأن آل بويه لم يطمعوا بذلك ولا تجاسروا على طلبه مع مخالفتهم للخليفة في المذهب؛ إذ يكفي الخليفة تنازلا أن يتزوج بنات الملوك، لا أن يزوجهم بناته، ولم ينل هذا الشرف أحد قبل طغرلبك. ومع ذلك فإنه لما دخل إلى عروسه في السنة التالية، قبل الأرض بين يديها وهي جالسة على سرير ملبس بالذهب، فلم تكشف الخمار عن وجهها ولا قامت له وظل أياما يحضر على هذا الصورة وينصرف. على أنه لم يوفق لإتمام ما أراده لأنه توفي في تلك السنة.
أما المبايعة بالخلافة لغير العرب فلم تنلها دولة إسلامية قبل العثمانيين، وذلك أن الخليفة العباسي كان عند الفتح العثماني لمصر، الإمام محمد المتوكل على الله الثالث، وقد تقدم ذكره مرارا، وهو الخليفة الثامن عشر من الدولة العباسية بمصر، فلما تم فتح مصر للسلطان سليم، علم أن الأمر لا يستتب له، إلا إذا أضاف السلطة الدينية إلى السلطة الزمنية، فاغتنم فوزه وطلب إلى المتوكل على الله، أن يبايعه فبايعه بالخلافة الإسلامية وسلمه الآثار النبوية، وهي: العلم والسيف والبردة. وسلم إليه أيضا مفاتيح الحرمين، فصار خليفة وسلطانا، وتوارث ذلك السلاطين بعده، ولا يزالون على ذلك إلى الآن.
أما الخليفة العباسي، فإنه نقل إلى الآستانة وخصص له راتب لنفقاته. وقبل وفاة السلطان سليم عاد المتوكل إلى مصر وعاش فيها منفردا إلى أن توفاه الله سنة 945ه، وهو آخر الخلفاء العباسيين وفد دولتهم الدينية، نيفا وثمانية قرون. (1-3) نظام الحكومة المصرية في الدولة العثمانية
قد رأيت من إجراءات العثمانيين بمصر عند الفتح أنهم لم ينظروا إليها نظرهم إلى بلد سيقيمون فيه وإنما أرادوا إخضاعه وإذلاله واستغلاله. فلما رجع السلطان سليم إلى عاصمته القسطنطينية، فكر في أمر مصر فارتأى أن يضع لها نظاما يأمن معه تمردها عليه، لبعدها عن مركز الخلافة، وصعوبة المواصلات في ذلك العصر.
وكان قد ولى عليها واليا برتبة باشا يرجع إليه الحل والعقد وأول من نال هذا المنصب أمر أهله من كبار رجال قنسو الغوري اسمه خاير بك «أو خير بك» قد تقدم ذكره، وحارب معه في حلب ثم خانه وسلم البلد إلى العثمانيين. فلما فتح الله على هؤلاء مصر، ولاه السلطان سليم ولايتها، وسماه باشا.
على أنه تذكر أن هذا الرجل خان سلطانه من قبل فخاف أن يفعل ذلك معه، إذا بعد عنه ويستقل بمصر، فأعمل فكرته فيما يكفيه مئونة هذا الخطر، فاهتدى إلى طريقة تضمن له ذلك؛ وهي أن يجعل في مصر ثلاث إدارات أو قوات، كل منها تراقب أعمال الآخرين فلا يخشى اتحادها وتمردها.
فالقوة الأولى : «الباشا» وأهم واجباته إبلاغ الأوامر السلطانية لرجال الحكومة وللشعب، ومراقبة تنفيذها.
والقوة الثانية : «الواجاقات» فإنه أقام في القاهرة، وفي المراكز الرئيسية في القطر ستة آلاف فارس، وستة آلاف ماش بالبنادق، جعلها ستة وجاقات (فرق) تحت قيادة وأوامر خير الدين أحد قواد العثمانيين العظماء وأمره أن يقيم في القلعة ولا يخرج منها لأي سبب كان.
وواجبات هذه الوجاقات حفظ النظام في القطر المصري والدفاع عنه، وجباية الخراج، وقد رتبها على الوجه التالي: (1) «وجاق المتفرقة»: وهو مؤلف من نخبة الحرس السلطاني. (2) «وجاق الجاويشية»: وهو مؤلف في الأصل من صف ضابطان جيش السلطان سليم، فعهد إليهم جباية الخراج. (3) «وجاق الهجانة.» (4) «وجاق التفقجية»: وهم ناقلو البنادق. (5) «وجاق الإنكشارية»: وقد تقدم تاريخهم ووصفهم. (6) «وجاق العزب.»
وكان كل من هذه الوجاقات مؤلفا من أفراد يقال لهم وجاقلية واحدهم وجاقلي. على كل وجاق ضابط يلقب بلآي يصحبه الكخيا الضباط في سائر الوجاقات يتألف مجلس شورى الباشا فلا يقضي أمرا إلا بمصادقتهم.
أما هم فلهم أن يوقفوه عن الإجراء أو يستأنفوا إلى ديوان الآستانة عند الاقتضاء. ولهم أيضا أن يطلبوا عزله حالما يشتبهون بمقاصده.
أما القوة الثالثة : فهي الأمراء المماليك، وهم بقايا الدولتين السالفتين، والفائدة منهم حفظ الموازنة بين الباشا والوجاقات لأنهم في الأصل أعداء لكلا الفريقين. ومن غرضهم الانتصار للفريق الأضعف ليمنعوا القوي من الاستبداد.
وقد كان القطر المصري منقسما إلى 12 سنجقية (مديرية) يحكم كل منها حاكم يقال له: سنجق أو بك يعينه الديوان وهو مجلس شورى الباشا من أمراء المماليك.
فلا غرو أن تقاطع المصالح على هذه الصورة واختلاطها مع تعدد الآمرين، ما يقود إلى القلاقل والمتاعب. أما الدولة العثمانية فقد جبت راحة من هذا التعب لأنها كانت على ثقة من استبقاء الديار المصرية في حوزتها.
ولم تطل حياة السلطان «سليم» بعد فتح مصر، فتوفي سنة 926ه/1520م، وخلفه ابنه السلطان «سليمان القانوني» الشهير . (2) سلطنة «سليمان القانوني»
من سنة 926-972ه أو من 1520-1566م
لهذا السلطان شأن خاص دون سائر سلاطين آل عثمان؛ لأن المملكة العثمانية بلغت في أيامه أرقى ما وصلت إليه من النفوذ السياسي وسعة الفتح.
فقد فتح «بلغراد» و«رودس»، وحاصر «فيينا» حتى كاد يفتحها. وكانت له علاقات عظيمة مع ملك «فرنسا».
وفي أيامه، دخل العثمانيون «تبريز» غير مرة وقد طالت سلطة هذا السلطان أكثر من سائر السلاطين العثمانيين وبلغت الدولة العثمانية في أيامه أوج مجدها.
وقد عرف «بالقانوني» لأنه سن قانونا لا يزال أساسا للقوانين العثمانية إلى الآن. واهتم على الخصوص بشئون مصر. وكان أبوه قبيل وفاته قد رسم الخطة التي يجب أن تسير عليها مصر في حكومتها وإدارتها، ولكنه توفي قبل أن يبرزها إلى حيز الفعل. فلما توفي السلطان، جعل اهتمامه إتمام مشروع أبيه. (2-1) نظام الحكومة المصرية أيضا
وكان من رأي السلطان «سليم» أن ينشئ ديوانا تحت رئاسة الباشا؛ حفظا للموازنة. أما السلطان «سليمان» فأتم الموازنة بإنشاء ديوانين، عرفا ب «الديوان الكبير» و«الديوان الصغير» أو «الديوان» فقط. وأناط رئاستهما بالباشا وعليه أن يجلس عند انعقاد الجلسة وراء ستار المنبر، وعلى الكخيا، والدفتردار استئذانه قبل المفاوضة، ومتى أقر الديوان على أمر، أبلغاه ذلك القرار وليس في القلعة تحت ملاحظة الأغا الذي هو قومندانها، ويجدد تعيين الباشا كل سنة.
أما واجبات الديوان الكبير فهي المفاوضة والإقرار على ما يتعلق بالأشغال العمومية التي لا تتعلق إدارتها بالباب العالي نفسه.
أما أعضاء هذا الديوان، فهم أغوات الوجاقات الستة ودفترداريوها، وروزنامجيوها، ونواب من جميع فرق الجيوش، وأمير الحج، وقاضي وأعيان المشايخ، والأشراف، والمفتون الأربعة والأئمة الأربعة والعلماء.
أما المخاطبات التي ترد إلى هذا الديوان فتعنون باسم «الديوان الكبير»، لكنها تسلم إلى الباشا، وله وحده الحق أن يعقد جلساته، ولم تكن كثيرة.
أما جلسات الديوان الأصغر، فكانت تنعقد يوميا في قصره وأعضاء هذا الديوان هم: كخيا الباشا، ودفترداره وروزنامجيه، ونائب من كل الوجاقات والأغا وكبار ضباط وجاق المتفرقة.
ومن واجبات هذا الديوان، النظر في الحوادث اليومية ومن اختصاصاته البحث في الإدارات الثانوية.
وأنشأ السلطان «سليمان» فضلا عن الستة الواجاقات التي أنشأها أبوه، وجاقا سابعا دعاه وجاق الشراكسة وهم بقية جند المماليك، ومن هذه الوجاقات السبعة تتألف حكومة مصر وحاميتها.
أما نفقاتها، فمن مخصصات يتولى ضبطها وتفريقها «أفندي» من كل وجاق. وجعل لكل وجاق مجلسا مؤلفا من ضباط ذلك الوجاق، وبعض صف ضابطانه لمحاسبة الأفندي، والنظر في الدعاوى بخصوصية، وعرض الترقيات للباشا للمصادقة عليها ومقامهم في القاهرة، ولكل منهم لباس خاص برتبته وعليه علاماته، ومجموع عدد رجال الوجاقات معا عشرون ألفا وقد يزيد أو ينقص حسب الاقتضاء. وكان لوجاق الإنكشارية امتيازات على سائر الوجاقات، وقائده (الأغا) مفضل على سائر القواد وله نفوذ عليهم.
وجعل السلطان «سليمان» للبكوات المماليك الذين أقامهم السلطان «سليم» امتيازات خصوصية، وحقا بالارتقاء إلى رتبة الباشوية وأضاف إليهم 12 بيكا آخرين لمهمات فوق العادة. وهاك أسماء الموظفين الذين ينتخبون من البكوات، وهم: الكخيا أو نائب الباشا والقبابطين الثلاثة، وهم قومندانات ثغور السويس ودمياط، والإسكندرية، ويسمى واحدهم قبطان بك، ودفتردار، وأمير الحج، وأمير الخزانة، وحكمداريو أو مديريو المديريات الخمس الآتي ذكرها: جرجا، والبحيرة، والمنوفية، والغربية، والشرقية. ولم يكن لغير الكخيا والدفتردار، وأمير الحج، الحق في دخول الديوان، فالدفتردار كان عليه ضبط الحسابات، وحفظ الدفاتر والسجلات، ولا ينفذ إجراء ببيع عقار إلا بعد توقيعه عليه إشارة إلى تسجيله في دفاتره، وأمير الحج يحمل الهدايا والصدقات التي كان يرسلها السلطان سنويا إلى مكة أو المدينة، وعليه حماية قافلة الحج ذهابا وإيابا.
وأما أمير الخزانة، فيحمل القسم المختص بالقسطنطينية من حاصلات مصر برا وعليه حمايته. وينتخب من البكوات أيضا «شيخ البلد» وسنعود إليه ويكون له شأن عظيم.
وكانت لمديريات القليوبية، والمنصورة، والجيزة، والفيوم في عهده كشاف لا فرق بينهم وبين البكوات في النفوذ، ولا يعمل بإقرار أحدهم إلا بعد مصادقة الشوربجية وغيرهم من الوجاقيين الذين يتألف منهم ديوان خاص في كل مديرية. ثم إن تعيين كخيا الباشا وقباطين السويس ودمياط والإسكندرية متعلق رأسا بجلالة السلطان، فيرسلونهم من الآستانة ويستدعونهم إليها في آخر كل سنة.
أما البكوات الآخرون، فيعينهم الديوان، ويوليهم الباشا، ويثبتهم الباب العالي، ومراكزهم ثابتة إلا أن واجباتهم تتغير، إلا الدفتردار، وقد ينتخب البكوات من وجاق المتفرقة ومتى انتخبوا لا يعودون تابعين لذلك الوجاق.
وكان هم الباب العالي الانتباه إلى السويس ودمياط والإسكندرية على الخصوص، لأنها الأبواب التي يدخل منها إلى مصر، فكان يرسل حاميتها رأسا من الآستانة تحت قيادة القباطين، ويجددها كل سنة. وهؤلاء القباطين لم يكونوا يحسبون من جند مصر إلا باعتبار إقامتهم فيها وبما ينالونه من الإمدادات المالية لنفقاتهم.
أما ما خلا ذلك، فكانوا يحسبون أجانب في اعتبار الباشا وديوان مصر، ولم يكونوا تحت أوامر حكومة البلاد في شيء، فأوامرهم كانت ترد إليهم من ديوان الآستانة رأسا. (2-2) حاصلات البلاد
هذا من قبيل الإدارة، أما من قبيل حاصلات البلاد، فإن السلطان «سليمان» بما أنه المالك الحر لأرض مصر، فكانت له ملكا، وكان يفرقها إقطاعات على مزارعين كان يدعوهم الملتزمين، على أنه لم يكن يمنع إقطاعها أو يوقفه. فلم يكن بالحقيقة فرق بين هذه الإقطاعات والملك الحقيقي. والفلاحون الذين كانوا يحرثون الأرض كانوا يتمتعون بنصيبهم منها ويورثونها لأعقابهم، ولكنهم مجبورون على العمل فيها بدون حق التصرف بها، وعليهم خراج لا مناص من دفعه للملتزمين، ومتى توفي فلاح بلا وريث، تعطى أرضه للملتزم، وهو يتعهد بحراثتها من يشاء، وإذا مات الملتزم وليس له وريث تعود الأرض إلى السلطان، وكان على كل من الملتزمين والفلاحين خراج يدفعونه إما نقدا أو عينا، فإذا تأخر الملتزم، تؤخذ الأرض منه.
ونظرا لاتساع أرض مصر لم يمكن حصر أملاك كل من الملتزمين، فلم يكن ممكنا تعيين مقدار خراجها، فأرسل السلطان «سليمان» مساحين مسحوا الأرضين المصريين. فقسموا المديريات إلى أقسام دعوها بالقراريط ومسحوا كلا منها على حدة، وحددوه. (2-3) ولاة مصر في زمن السلطان «سليمان»
قلنا إن السلطان «سليم» ولى حكومة مصر «خير بك» الذي كان «الغوري» و«طومان باي» في تسليم حلب. فتوفي «خير بك» سنة 928ه، ودفن في جامعه المعروف باسمه في شارع «درب الوزير» وبعد وفاته، لهجت الألسنة بذمه لعظم استبداده.
وولى السلطان «سليمان» مكانه «مصطفى باشا» وبعد تسعة أشهر و25 يوما أبدل «بأحمد باشا» وكان عدوا للصدر الأعظم «إبراهيم باشا» فدس الصدر سنة 930ه إلى أمراء المماليك في القاهرة أن يقتلوه، فعلم بالدسيسة، فقبض على الكتب الواردة بذلك قبل أن تصل إلى أصحابها، ثم استدعاهم وأعلنهم أنها أوامر جلالة السلطان بقتلهم، ولم يطلعهم عليها، فأبوا الإذعان، إلا أن إباءهم لم يمنع قتلهم.
ولما تأكد «أحمد باشا» أنه صار في مأمن من المقاومين، صرح باستقلاله، وأمر أن يخطب له، وأن تضرب النقود باسمه، وهو أول من طمع باستقلال من ولاة مصر في عهد الدولة العثمانية، ولكنه بالغ بالعسف، فاختلس ممتلكات البعض وحبس البعض، فثارت الأفكار عليه حتى أصبحت حياته في خطر.
وبينما هو ذات يوم في الحمام، فاجأه أميران من أمرائه كان قد أمر بسجنهما وهم: «جهم الحمزاوي» و«محمد بك» فكسرا باب السجن وخرجا رافعين العلم الشاهاني، يستنصران الناس حتى أتيا الحمام، فعلم الباشا بذلك، ففر من السطح، والتجأ إلى أحد مشائخ عربان الشرقية واسمه «ابن بقر» فتعقبه أعداؤه حتى أدركوه وقطعوا رأسه على باب زويلة ثم نقل إلى الآستانة سنة 931ه.
فأرسل السلطان عوضا عنه «قاسم باشا». وفي نيته تقصير مدة هؤلاء الولاة لئلا يثور في خواطرهم حب الاستقلال. فبعد تسعة أشهر و14 يوما استبدله بإبراهيم باشا وكان نشيطا، محبا للإصلاح والنظام إلا أن قصر مدته لم تمكنه من إتمام ما كان شارعا فيه، فعزل وأقيم بدلا منه «سليمان باشا» سنة 933، وكان السلطان راضيا عن سميه هذا، فأبقاه في الولاية تسع سنوات و11 شهرا.
وفي سنة 941ه، استقدمه إلى الآستانة، ليسلمه قيادة حملة أعدها لمحاربة الفرس والهند. وقد أقام في أثناء حكمه بنايات كثيرة من جملتها جامع سارية في القلعة، وناب عنه في غيابه «خسرو باشا» نحو سنة وعشرة أشهر فعاد «سليمان باشا» إلى مصر، وبقي عليها بعد ذلك نحو سنة وخمسة أشهر.
وفي سنة 945ه، عهدت باشوية مصر إلى «داود باشا» فبقي عليها 11 سنة و8 أشهر. وكان رجلا مستقيما، كريم الخلق، محبا للعلماء، آخذا بناصرهم، كلفا بالمطالعة، وعلى نوع خاص مطالعة الكتب العربية، فجمع منها عددا وافرا واستنسخ كل ما ظفر به من الكتب غير المطبوعة، فجمع مكتبة جميلة جدا.
وكان الأهلون في مدة حكمه في بحبوحة السعادة والأمن، وتوفي في القاهرة سنة 956ه، فتولى مكانه «علي باشا» وهذا رمم وبنى عدة بنايات عمومية في «القاهرة» وفي «فوة» و«رشيد» واقتدى به غيره من بكوات «مصر»، فجعلوا يشيدون الجوامع، منها الجامع الذي ابتناه «عيسى بك» في «ديروط». وكان علي باشا محبوبا، مكرما عند المصريين بمنزلة الأب، لكنه على ذلك لم يحكم إلا أربع سنوات وستة أشهر.
ففي سنة 961ه، تولى باشوية «مصر» «محمد باشا» وكان الناس يبغضونه، فلم يحكم إلا ثلاث سنوات. ولما زاد التشكي منه، عزل واستقدم إلى الآستانة للمحاكمة فحكم عليه بالقتل سنة 963ه.
وبعد «محمد باشا» تولى «إسكندر باشا» فحكم ثلاث سنوات وثلاثة أشهر ونصف.
وفي سنة 968ه، تولى «علي باشا» الخادم، وبعد 17 شهرا خلفه «مصطفى باشا» (الثاني) في سنة 969ه.
ثم في سنة 971ه، تولى «علي باشا» الصوفي سنتين وثلاثة أشهر، وكان «علي الصوفي» قبلا حاكما في «بغداد»، مشهورا فيها باعوجاج الأحكام والخيانة.
فلما تولى «مصر»، كثرت فيها السرقات والتعديات، حتى غصت القاهرة باللصوص، واخترقت طائفة منهم المدينة حتى الجامع الأبيض. فاضطرت الحكومة أن تقيم سورا من قنطرة الحاجب إلى هذا الجامع منعا لمثل ذلك.
وفي شوال سنة 973ه، أبدل «علي باشا الصوفي» ب «محمود باشا»، وهو آخر من تولى مصر في أيام السلطان «سليمان» فجاء الآستانة بموكب عظيم، فأهدي إليه في أثناء مروره من الإسكندرية إلى القاهرة، هدايا عظيمة. فلما وصل القاهرة، لاقاه الأمير «محمد بن عمر» متولي الصعيد على قارب فيه جميع أنواع الهدايا وخمسون ألف دينار. فأخذ الباشا الهدايا منه بخنقه حال خروجه من مجلسه، وأمر أيضا بخنق القاضي «يوسف العبادي»؛ لأنه لم يأت لملاقاته، ولم يهده شيئا. واستمر على هذه المظالم حتى قتل معظم أعيان القاهرة، فكان لا يمر إلا ومعه الشوباصي «رئيس الجلادين» فإذا أمر بأحد، وأراد قتله، أشار بيده إلى الشوباصي، فيعمد حالا إلى ذلك التعس ويقتله بأسرع من لمح البصر.
وفي 3 رجب سنة 974ه، توفي الأمير «إبراهيم» الدفتردار. وكان أميرا للحج، فاستولى «محمود باشا» على ما ترك من المال، والمماليك، والجواري وحمله ذلك مئة ألف دينار ضمها إلى المال الذي يرسل إلى الآستانة سنويا، ويعين منها هدايا ثمينة للسلطان ووزرائه، استجلابا لخواطرهم. لكنه لم ينتفع من ذلك قبل أن قتل في يوم الأربعاء غاية جمادى الأولى سنة 975ه وهو مار في موكبه الاعتيادي بين البساتين، ولم تقف الحكومة على القاتل، فاتهمت اثنين من الفلاحين وقتلتهما ظلما لأنهما وجدا بقرب مكان القتل.
وكان السلطان «سليمان» قد توفي قبل ذلك بسنة (974) وسنه 74 سنة، ومدة حكمه 48 سنة فتولى بعده ابنه «سليم شاه» (الثاني). (3) سلطنة «سليم بن سليمان»
في سنة 974-982ه أو في 1566-1574م
هو «سليم الثاني» ولد سنة 930. فلما تولى الملك كان في السابعة والأربعين من عمره. وكانت أمه روسية (صقلبية). ولم يكن أهلا للاحتفاظ بما خلفه أبوه من الفتوح ولا القيام بما أسسه من المشاريع، ولكن وزيره «محمد باشا صقللي» كان حكيما، محنكا في السياسة والحرب، فمنع الدولة من الفشل - ذلك شأن الدولة الاستبدادية - إنما تقدم بشخص ملكها وتكون كما تكون، فإذا كان حازما، عاقلا سعدت وأفلحت، فإذا خلفه ملك ضعيف، ضعفت وتقهقرت.
وفي أيامه، عقد الصلح بين «الدولة العلية» و«النمسا» 17 فبراير سنة 1568م، ومن شروطه حفظ النمسا أملاكها في المجر، وأن تدفع جزية سنوية، وتعترف بتبعية «الفلاخ» و«البغدان»، و«ترانسلفانية» للدولة العثمانية.
وفي أيامه أيضا فتحت «قبرس»، وكانت تابعة «للبندقية»، ففتحها «بيالي باشا» سنة 1571م وجرت في أيامه واقعة ليبانت البحرية، غلب فيها العثمانيون، وكانت خسائرهم فاحشة.
أما من جهة مصر، فإن السلطان «سليما» المذكور حالما بلغه موت «محمود باشا» أمر بنقل «سنان باشا» من باشوية حلب إلى باشوية مصر، وبعد وصوله إليها بتسعة أشهر، أمره بالزحف على اليمن فبرح مصر في 4 شوال سنة 976ه ومعه «حمزة بك» و«ماماي بك» وغيرهما من أمراء مصر، واستخلف على مصر «إسكندر باشا الشركسي». ومكث «سنان باشا» في تلك الحملة سنتين و4 أشهر، فتح اليمن وعاد ظافرا إلى مصر، فرأى الأحوال هادئة، والنظام مستتبا بدراية «إسكندر باشا» المذكور؛ لأنه كان حكيما، محبا للرعية، فرفع الضرائب عن الفقراء والعاجزين، والقسم الأعظم من طلبة العلم. وكان شديد التعلق بالعلم وذويه.
فلما عاد «سنان باشا» إلى مصر (أول صفر سنة 979ه) عادت أحكامها إلى يده، فاهتم بتأييد النظام، حفظ رونق البلاد، فأعاد حفر ترعة الإسكندرية، ورمم وبنى فيها جامعا وشارعا وعدة حمامات، وبنى في «بولاق» «بمصر» شارعا ووكالات، وجامعا لا يزال معروفا باسمه، وما زال على مصر إلى ذي الحجة سنة 980ه، فخلفه «حسين باشا» وكان على جانب من اللطف والدعة وحب العلم والأدب، ولا يعاب إلا لكثرة حلمه، الأمر الذي أدى إلى تكاثر اللصوص في ولايته، ولم يحكم إلا سنة وتسعة أشهر.
وفي أيامه، توفي السلطان «سليم الثاني» في 28 شعبان سنة 982ه بعد أن حكم ثماني سنين وخمسة أشهر و19 يوما. (4) سلطنة «مراد بن سليم»
من سنة 982-1003ه أو من 1574-1594م
هو «مراد الثالث» ولد سنة 953ه. فلما تولى الملك لم يكن سنه يتجاوز الحادية والثلاثين من عمره. وكان عاقلا ورعا، وكانت الخمر قد شاع شربها في المملكة العثمانية، وأفرط الجنود فيها، وخصوصا الإنكشارية، فأمر بإبطال شربها، فثاروا وأجبروه أن يبيح لهم الشرب بما لا يسكرهم. وكان لهذا السلطان خمسة إخوة. فلما تولى الملك، أمر بقتلهم ليأمن منازعتهم إياه على الملك. (4-1) قتل الإخوة في الدولة العثمانية
وقتل الأخوة لهذا الغرض كان متبعا في الدولة العثمانية إلى ذلك الحين، وأول من فعل ذلك منهم رابع سلاطينهم «بايازيد بن السلطان مراد» (تولى الملك سنة 1319م) كان بكر إخوته وله أخ أصغر منه معروف بالشجاعة، والنجدة وعلو الهمة، فخاف منه على سلطته، فأجمع الأمراء على قتله، خوف الفتنة، وانقسام المملكة، ويقال إنهم فعلوا ذلك بفتوى شرعية أفتى بها علماء ذلك العهد بناء على الآية
والفتنة أشد من القتل . وأصبح قتل الإخوة قاعدة يرجع إليها العثمانيون عند الحاجة. فكان السلطان حالما تفضي إليه السلطنة بعد موت أبيه، يعمد إلى قتل إخوته ولو كان بعضهم رضيعا كما فعل السلطان «محمد الفاتح» وكان له أخ رضيع اسمه «أحمد» فلما مات أبوهما وأفضت السلطة إلى «محمد» فأول شيء باشره نقل جثة أبيه لتدفن في بورصة، ثم أمر بقتل أخيه.
ولما صارت السلطنة إلى السلطان «سليم الفاتح» عين ابنه «سليمان» حاكما على القسطنطينية، وحمل بجيوشه إلى آسيا لمحاربة إخوته، حتى يتفرغ لأعماله بعد قتلهم، ولا يبقى من ينازعه.
وكان من جملة أعماله في هذا السبيل، أنه عثر على خمسة من أولاد إخوته في بورصة، فأمر بقتلهم ثم طارد أخاه «كركود» حتى قتله كما تقدم . وكذلك فعل السلطان «مراد» بقتل خمسة إخوة حالما تولى الملك كما رأيت.
وأفظع من ذلك كله ما فعله السلطان «محمد الثالث» الآتي ذكره. فقد آلت السلطة إليه سنة 1595م وله تسعة عشر أخا غير الأخوات، فأمر بخنقهم قبل دفن أبيه، فخنقوهم ودفنوهم من تجاه جامع أيا صوفيا في الآستانة.
وكأن هذه المبالغة في الفتك أفضت إلى رد الفعل بإبطال هذه العادة الوحشية. فلما انتقلت السلطنة بعد «محمد» المذكور إلى ابنه «أحمد الأول» سنة 1603، ولم يكن سنه يتجاوز الرابعة عشرة، ولكنه كان عاقلا، وله أخ صغير اسمه «مصطفى» فلم يقتله، بل اكتفى بالحجر عليه في أثناء سلطنته، فأصبح السلاطين بعده يعولون في الاحتفاظ بسلامة سلطتهم على الحجر بدلا من القتل، والفضل في ذلك يرجع إلى السلطان «أحمد» المذكور.
وله بدعة أخرى أدخلها في توارث الملك، لم تكن من قبل، وذلك أوصى بالملك بعده لأخيه «مصطفى» المشار إليه بدلا من أن يوصي به لأحد أولاده، كما كان أسلافه يفعلون. فبعد أن كان الملك ينتقل إلى الأبناء بالتسلسل في الأعقاب، صار ينتقل إلى الإخوة أيضا، الأرشد فالأرشد، إلا ما قد يعترض ذلك من نفوذ الإنكشارية، أو دسائس الوزراء ، أو غير ذلك، فالعرش العثماني ما زال ميراثه محصورا في الأبناء من السلطان عثمان الأول إلى أحمد الأول، ثم صار ينتقل إلى الإخوة أيضا ولا يزال، فلنرجع إلى ترجمة السلطان «مراد».
وفي أيام السلطان «مراد» دخلت بولونيا في حماية الدولة العثمانية، وجرت حرب مع دولة الفرس، ودخل العثمانيون «تبريز»، وهي المرة الرابعة لدخولهم فيها.
وفي أيامه، توفي الصدر الأعظم «محمد باشا صقللي» وكان قد حافظ على سيادة الدولة، وتمكن بسياسته من إبرام الصلح مع دول أوربا، وإنشاء عمارة بحرية بعد واقعة ليبانت، فكوفئ على خدماته بالقتل، بسبب دسائس حاشية السلطان فكان موته ضربة على الدولة، وتكاثر تبديل الصدور بعده. (4-2) أحوال مصر في أيامه
أما مصر، فولي عليها بدلا من «حسين باشا» «مسيح باشا» وكان خزندارا عند السلطان «سليم الثاني»، فحكم في مصر خمس سنوات وخمسة أشهر ونصف، ووجه اهتمامه خصوصا إلى إبطال السرقات والتعديات، فكان يقبض على اللصوص ويقتلهم بدون شفقة حتى بلغ عدد من قتل من اللصوص عشرة آلاف، فارتاحت البلاد من شرورهم، ثم عكف على إصلاح شئون الرعية، وكان نزيها لا يقبل الرشوة ولا الهدية.
ومن آثاره مسجد عظيم في ضواحي القرافة لا يزال يعرف باسمه، وقد بناه على اسم الشيخ «نور الدين القرافي» وجعله له ولنسله ملكا حرا، وخصص دخلا معينا للنفقة عليه. وأمر «مسيح باشا» أن تستهل الأوامر والكتابات الرسمية والأحكام بهذه العبارة «الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا وآله وصحبه، إن المؤمنين إخوة، فاحفظوا السلام بين إخوتكم واتقوا الله.»
وفي سنة 988ه، ولي مصر «حسن باشا» الخادم خزندار السلطان «مراد الثالث» فلم يكن همه إلا جمع الأموال بأية وسيلة كانت، وإعادة ما كان حظره سابقه من الرشوة والهدايا. فبقي على ولاية مصر سنتين وعشرة أشهر. ولما عزل عنها سار من القاهرة خفية، وطلع من باب المقابر، لئلا ينتقم منه أهلها.
وفي سنة 991ه، خلفه «إبراهيم باشا» فأخذ يستطلع ويتحرى ما أتاه سابقه من الاختلاس، فجعل في جامع السلطان «فرج بن برقوق» موظفا خصوصيا لاستماع تشكيات المتظلمين على الوالي السابق من 10 رجب من تلك السنة إلى غاية رمضان. فاطلع على مظالم لا تحصى، من جملتها 1004 أردب قمح من الشون العمومية، باعها «حسن باشا» واستولى على قيمتها، فرفع إبراهيم باشا تقريرا مدققا بشأن ذلك إلى السلطان، فأمر بقتله شنقا.
ثم طاف «إبراهيم باشا» بنفسه يتفقد أحوال المديريات ويتحقق حالتها، وزار أيضا آبار «أمرود» في الصحراء.
وتولى مكانه «سنان باشا الثاني» وكان دفتردارا. وبعد ستة أشهر وعشرين يوما، برح مصر هاربا. وسبب ذلك أنه ساء التصرف، فاشتكاه الناس إلى الآستانة، فجاء «أويس باشا» إلى مصر ليتحرى لتلك التشكيات، فحالما علم «سنان» بمجيئه، فر هاربا.
فتولى «أويس» حكومة مصر سنة 994ه، وكان صارما في الأحكام، وكان في أول أمره قاضيا، ثم صار دفتردارا في الروملي، ثم نقل إلى باشوية مصر. وبقي عليها خمس سنوات وخمسة أشهر وعشرة أيام ، وأراد أن يدرب الجنود، فعصوه، وهجموا عليه في الديوان في 28 شوال سنة 997ه، ونهبوا بيته، وفي جملة ما نهبوا منه ساعة كبيرة، تعرف منها الأيام. ثم ذبحوا الأمير «عثمان» قائد وجاق الجاوشية، وأخربوا بيت قاضي العسكر، وقتلوا قاضيين من قضاة مصر، ثم عمدوا إلى الحوانيت، فنهبوها، كل ذلك والأمراء لا يستطيعون منعهم، والاضطراب يزداد، والثائرون يتمردون، وقد حاول الدفتردار إيقافهم عند حدهم، فذهب سعيه باطلا.
ثم ظن «أويس باشا» أنه إذا جاءهم بالحسنى ربما يلينون، فبعث إلى القضاة أن لا يخالفوا لهم أمرا، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وفجورا حتى قبضوا على أولاد الباشا رهن لما يريدون، فاضطر الباشا إلى الإذعان لما أرادوه وأعطاهم ما طلبوه، واستقال من تلك الولاية بعد أن مل من خيبة مساعيه الحميدة فيها.
فتولى مكانه «حافظ أحمد باشا» سنة 999ه وكان حاكما في قبرص، وعلى جانب عظيم من حب العلم وطالبيه، حاذقا، مدربا في أمور الأحكام. وكان رفيقا بالأهلين، ففرق الحسنات على الحجاج الفقراء، وبنى في بولاق وكالتين وعدة بيوت، وخصص ربع دخلها لعمل الخير. وبقي حاكما أربع سنوات. وفي سنة 1003، توفى السلطان «مراد». (5) سلطنة «محمد بن مراد»
من سنة 1003-1012ه أو من 1594-1602م
ولد هذا السلطان سنة 974ه، فتولى الملك وهو في الرابعة والأربعين من عمره. وكان له 19 أخا أمر بخنقهم كما تقدم. ومما يذكر له أن السلاطين تقدموه (مراد وسليم الثاني) كانوا قد تقاعدا عن قيادة الجند في ساحة الوغى، فرأى ذلك قد أضر بسطوة الدولة، فعاد هو إلى تولي تلك القيادة بنفسه، وكان لذلك تأثير كبير في سياسة الجنود وثباتهم، ففتح قلعة «أولو» الحصينة، وكان السلطان «سليمان» قد عجز عن فتحها. (5-1) أعماله في مصر
أما مصر، فولى عليها «قورط باشا» فلم يبق فيها إلا سنة وثمانية أيام، وكان الناس يحبونه للطفه ودعته وتنشيطه لطالبي الأدب، ومساعدته للفقراء ولكل من يلتجئ إليه.
وفي شوال سنة 1004ه، خلفه السيد «محمد باشا» وبقي على الحكومة سنتين، اتبع في أثنائهما خطة أسلافه في تنشيط العلم والأدب، فأعاد بناء الجامع الأزهر، وجعل فيه وظائف يومية من العدس المطبوخ، تفرق في الطلبة الفقراء، ورمم المشهد الحسيني، ومع كل ما كان يتوخاه في السعي في حفظ النظام مع الأهلين، لم يمكنه إنقاذهم من ثورة عسكرية، انتشبت في غرة رجب سنة 1006ه في سائر أنحاء القطر المصري.
ثم اجتمع العصاة في القاهرة، وكان السيد «محمد باشا» إذ ذاك في منزله في برية الجيزة، فعاد إلى القاهرة تحف به السناجق وزمرة من الخفراء، فلم يبال العصاة بذلك، بل أطلقوا عليه النار، ولم يتخلص من أيديهم إلا بعد شق الأنفس فسار إلى أحد منازله، فتبعوه وحاصروه هناك ليلا ونهارا، وألحوا عليه أن يسلمهم بعضا من ضباطه، وفي جملتهم «دالي محمد» أحد كبار الأمراء، والأمير الجلاد «الشوباصي» والأمير «خضر» كاشف المنصورة، فطلب إليهم أن يمهلوه ثلاثة أيام.
فلما جاء رسوله، قالوا له: «سيحكم الله بيننا وبين مولاك.» وتفرقوا في المدينة، فظفروا بقاضي العسكر «عبد الرءوف» فأجبروه على القيام بمطالبهم. أما الباشا فاغتنم اشتغالهم بذلك الشأن، وفر إلى منزله ودخل القلعة وأقفل أبوابها وراءه، والتجأ إلى «حسين باشا السكراني» قائد عموم الجيش و«بيري بك » أمير الحج، فحاولا تسكين الثورة، فذهب سعيهما عبثا، علما بأن العصاة قتلوا «محمد بك» و«الدالي محمد» وعلقوا رأسيهما على باب زويلة، ونهبوا بيتهما، وأثخنوا في الناس قتلا ونهبا.
وفي 17 ذي الحجة سنة 1006ه، أبدل السيد «محمد باشا» «بخضر باشا» فحكم ثلاث سنوات و12 يوما، وقد أغضب الأهلين منذ وصوله القاهرة؛ لأنه أمر بقطع الأعطيات والجرايات التي كانت توزع على العلماء والفقراء من الحنطة، ولم يقتصر على الإيقاع بهؤلاء الضعفاء، بل تجاوزهم إلى الضابطة فأحرمهم زادهم، فتجمهروا في 20 رمضان سنة 1009ه، وساروا إلى قاضي العسكر، ثم اتحدوا والقاضي في مقدمتهم، وتوجهوا إلى الديوان يريدون الانتقام، فقتلوا «كخيا باشا» وأمراء آخرين، فخاف الباشا فسلم لهم بما كانوا يطلبونه، وأعاد الأعطيات كما شاءوا وخمدت الثورة وعادت الحياة إلى مجاريها، إلا أن الباشا لم يلبث هنيهة حتى جاءه الأمر بالإقالة، فاستقال. وولي مكانه الوزير «علي باشا السلحدار» وكان محبا للحرب ولذلك كان يكرم الجند على الخصوص، ولكنه كان سفاكا للدماء، فتظلم الناس من قسوته، ولم يكن يخرج في موكبه إلى المدينة أو ضواحيها إلا ويميت على الأقل عشرة أشخاص تحت حوافر جواده، فكان الناس يرتعدون خوفا من ذكر اسمه. ورافق ذلك جوع عظيم، فكثرت الوفيات وعم الخراب، فازداد الرعب حتى أمر الباشا أن تدفن الموتى سرا.
أما هو، فترك القاهرة فرارا من تلك الغائلة واستخلف عليها «بيري بك». وبعد يسير توفي هذا فانتخب السناجق الأمير «عثمان بك» ليقوم مقامه، وبقي هذا حتى عين الباب العالي من يخلف «علي باشا» وكان ذلك التغيير بسبب وفاة السلطان «محمد الثالث» في 16 رجب سنة 1012ه. (6) سلطنة «أحمد بن محمد»
من سنة 1012-1026ه أو من 1603-1617م
ولد هذا السلطان في سنة 998ه، فتولى الملك وهو في الرابعة عشرة من عمره عندما نفي، وقد خالف من تقدمه من السلاطين بقتل إخوتهم كما تقدم.
وولى على مصر «إبراهيم باشا» فحكم فيها مدة قصيرة، انتهت بخطب جسيم؛ وذلك أنه منذ وصوله إليها، عزم على إبطال طلبات الجند. ولما أرادوا إنفاذ ما نواه، زادت الجنود تمردا.
وفي ربيع آخر سنة 1013ه، علموا أن الباشا خرج من القاهرة في زمرة من رجاله، وركب النيل إلى بولاق قاصدا شبرا قرب جسر أبي المنجا. فاجتمعوا في ضواحي القرافة، وتعاقدوا بالأيمان المغلظة على قتله.
وفي الصباح التالي، جاءوا وعسكروا في بولاق ينتظرون عوده، ثم قاموا من هناك يريدون مهاجمته في قلعة الدولاب. وكانوا قد علموا بالتجائه إليها، فلما علم هو ومن معه من السناجقة بقدوم تلك العصابة تشاوروا فيما بينهم. فنصح له السناجق أن يسافر بحرا قبل أن يصل إليه ضيم، فلم يصغ لهم وتشدد.
ثم جاءت الجنود الثائرة وأحاطوا بالقلعة وبعثوا من بينهم 15 رجلا ليأتوا برأس الباشا. فدخل هؤلاء القلعة والسيوف مشرعة في أيديهم حتى جاءوا مجلسه، فانتهرهم قائلا: «ماذا تريدون؟ ألم تستولوا على مرتباتكم والأنعام الذي يعطى اعتياديا عند تولية الحكام عليكم؟ فماذا تطلبون؟» فأجابوه: «لا نطلب شيئا إلا رأسك!» قالوا هذا وصفعه أحدهم على وجهه، وأدركه الباقون بالطعن مرارا. ثم عمد أحدهم إلى رأسه، فقطعه، فانتهرهم «محمد بن خسرو». ووبخهم على ما جاءوا به من القحة فلم يجيبوه إلا بما أجابوا ذاك، وأخذوا رأسي الاثنين، وعادوا بهما إلى رفاقهم حول القلعة. ثم حملوهما، وداروا بهما شوارع المدينة إلى أن علقوهما على باب زويلة (معرض الرءوس!) وكان قد تعود مثل هذا الأكاليل.
وفي ذلك اليوم، أقاموا عليهم «عثمان بك» فلم يقبل، فولوا قاضي العسكر «مصطفى أفندي» فلما علم ديوان الآستانة بقتل «إبراهيم باشا»، أرسل عوضا عنه الوزير «محمد باشا الكورجي» الملقب «بالخادم». وحال وصوله القلعة، وردت الأوامر الصارمة من الباب العالي إلى جميع السناجق أن يستطلعوا أصل الثورة وأسبابها، ويقبضوا على زعمائها، فاجتمع السناجق والقسم الأعظم من الجيش في قراميدان.
وكان الباشا في القلعة، فبعث يستقدم السناجق إليه، ليبلغهم هذه الأوامر رسميا، فرفضوا المثول بين يديه، فتوسط الأمراء، ووعدوا السناجق أنهم إذا سلموا القاتلين نجوا ونالوا العفو العام، فقبلوا وسلموا القاتلين إلى الباشا، فأمر بقطع أعناقهم بين يديه، وأطلق السناجق، فخاف الثائرون، وضعف عزمهم ، ولا سيما لما رأوا من «محمد باشا» التيقظ لحفظ النظام ومعاقبة المعتدين، وقد قتل منهم نحوا من مائتي رجل في مدة محكمه القصيرة التي لم تتجاوز سبعة أشهر وتسعة أيام.
فتولى بعده الوزير «حسن باشا» وهو أقل صرامة من سلفه، فكان يعامل الجند بالحسنى، وكان ابنه فيهم برتبة بكلربكي، وكانت الأحوال هادئة جدا في أثناء حكمه.
ثم تولى بعده الوزير «محمد باشا» في 7 صفر سنة 1016ه، وبقي على حكومة مصر أربع سنوات وأربعة أشهر و12 يوما. وكان حكيما حازما، أخذ منذ وصوله القاهرة في المحافظة على السلام، فنجى الأهلين مما كان يكدر راحتهم، فاكتسب ثقتهم ومحبتهم، إلا أنه لم ينج من الحساد وذوي الأغراض.
وفي أواخر شوال من السنة التالية، ثارت عليه الجيوش، واجتمعوا في برج السيد «أحمد البدوي» تحالفوا ألا يوافقوه على إلغاء الضرائب غير العادلة التي كانت مضروبة على القطر إلى ذلك العهد. ثم اختاروا من بينهم رئيسا ولوه عليهم سلطانا، وتقاسموا مصر إلى أقسام، تولى كل واحد منهم إثارة الشغب والنهب في قسم منها. فانتشرت تعدياتهم في جميع الدلتا. فلما علم «محمد باشا» بذلك جمع السناجق «الجاوشية المتفرقة»، وسار بهم تحت قيادته لردع العصاة في 9 ذي الحجة سنة 1017ه، وأخذ معه ستة مدافع، وانضم إليه كثير من مشائخ العرب. وفي الليلة التالية، عسكر الجميع في بركة الحج.
وفي الصباح، هاجموا العصاة في الخانقاه. فضيقوا عليهم بالنيران، فاضطر أولئك إلى التسليم، فأخذ الباشا عهودا، أولها أن يسلموا إليه سلطانهم وكبار رؤسائهم، ووعدهم بالتأمين على حياتهم، فقبلوا وسلموا الرؤساء وعددهم نحو 77، فأمر بقتلهم حالا. ثم جرد الباقين من سلاحهم، فتفرقوا، فتعقبهم رجال الباشا، وقتلوا من ظفروا به منهم.
فلما رأى قاضي العسكر «محمد أفندي» الملقب «ببختي زاده» ما كان يحصل من أمثال هذه المذابح يوميا، نصح للباشا أن ينفي كل من يقبض عليه منهم إلى اليمن، ففعل، وكانت النتيجة حسنة، وبطلت التعديات.
ولما ارتاح «محمد باشا» من تلك الثورات، أخذ في إصلاح الإدارة المالية، فتفحص بنفسه النفقات التي كانت تدفع من الخزينة، واقتصد منها كل ما لم يكن ضروريا. ثم نظر إلى الضرائب، فأبطل طريقة المماليك الشراكسة فيها، واتبع القوانين التي صدرت سنة 932ه في زمن السلطان «سليمان القانوني» ثم نظم المكوس وعدلها، ولم يكن يكلف نفسا إلا وسعها، فإذا رأى أرضا لا تقوى على القيام بما فرض عليها من المكوس، تنازل لها عنه وساعدها في إحياء مواتها.
ولما برح مصر، نال من المكافآت والإنعامات ما لم ينله أحد من أسلافه في مصر.
وتولى بعده «محمد باشا» الملقب «بالصوفي» وكان يحب العلماء ورجال الفضيلة. وكان ورعا، حليما، عفيفا، لم يقبل رشوة، ولم يأت ظلما، إلا أنه كان ملوما لزيادة ضعفه بما يتعلق بمحبوبه يوسف الذي كثيرا ما تعدى حده.
وفي سنة 1022ه، أرسل الصدر الأعظم عشرة آلاف جندي إلى اليمن، لإخماد ما كان ثائرا من الشغب هناك، وأرسلت الفرقة المذكورة عن طريق مصر ومعها أمر سام إلى الباشا بدفع النقود اللازمة لها، وتشييع الحملة إلى اليمن.
فلما وصلت الجيوش إلى مصر، وعلموا بما ورد من الأوامر بشأنهم، ادعوا أنهم جاءوا ليقيموا في مصر، ولم يذعنوا لأوامر الباشا بالسفر، فاتخذوا لهم منازل في مخازن باب النصر، وطردوا بعض أصحابها منها، فاجتهد الباشا أن يحملهم على التسليم بالأوامر الواردة إليه بشأنهم، فذهب سعيه باطلا. وأقاموا المتاريس في أبواب الحارة، وأقفلوا باب النصر، ونصبوا المدافع في برجيه. فاضطر الباشا إلى محاصرتهم بكل ما لديه من الوجاقات والمدافع. فتمكن الأمير «عابدين بك» من الدخول إلى حصنهم من باب في المدرسة المدعوة بالجنبلاطية، فخاف العصاة وسلموا، ففرق فيهم الباشا ثمانين كيسا وسافروا.
وبعد يسير أقيل «محمد باشا» الصوفي فاعتزل في قبة العدلية، ولم يبرحها إلا بعد أن علم بوصول خلفه «أحمد باشا» دفتردار مصر سابقا إلى الإسكندرية، ثم جاء القاهرة ودخلها بموكب حافل وبينما هو بموكبه في المدينة، رماه بعض الناس بحجر من سطح بعض البيوت، فكسر الهلال الذي كان فوق عمامته، ولم يؤذه، فأمسك الفاعل، فاعترف بذنبه، فقتل في ذلك المكان.
وفي محرم سنة 1025، ورد إلى الباشا المذكور أمر من الآستانة أن يرسل ألفا من جنود مصر لتنضم إلى الجيش العثماني الذاهب لمحاربة الفرس، فأرسلهم تحت قيادة «صالح بك» أمير الحج، فساروا على أتم نظام، ومروا بالمديريات، ولم يشعر الأهالي بمرورهم لما كان لهذا الباشا من النفوذ، وما أقامهم في مصر من النظام مع إعطائه الجيوش حقهم من المرتبات. ولم يكن يتيسر قبل ذلك مرور مائة رجل بمقاطعة واحدة، ما لم ينهبوها. فالتقت هذه الفرقة بالجيش العثماني في الخانقاه، وانضمت إليه، ولما ودع الباشا عساكره، فرق فيهم المال، وأصاب الواحد 20 دينارا على الأقل.
وكانت مدة حكم «أحمد باشا» سنتين وعشرة أشهر واثني عشر يوما، ولم يقتل في أثنائها أكثر من عشرة أشخاص ارتكبوا أمورا استوجبوا من أجلها القتل ولم يكن يحكم على أحد إلا بعد البحث الدقيق واستماع تقارير الدعوى من الطرفين. (7) سلطنة «مصطفى بن محمد»
من سنة 1026-1032ه أو من 1617-1623م
تولى هذا السلطان كرسي السلطنة وهو في الخامسة والعشرين من عمره، قضى معظمها في دار الحريم، ولم يمارس شيئا من أمور المملكة، فاستضعفه رجال الدولة، فتآمروا على خلعه، فخلعوه. وولوا مكانه «عثمان الثاني بن السلطان أحمد» ثم تغير الإنكشارية على السلطان، فخلعوا «عثمان» وأعادوا «مصطفى» وكان ذلك أول عهدهم في التولية والعزل، ثم صار ذلك عادة جروا عليها مع سائر السلاطين؛ إذ صار الأمر لهم في التولية والعزل.
أما مصر في أثناء ذلك. فاستبدل واليها «أحمد باشا» «بمصطفى لفغلي»، ولم يبق على مصر بعد خلع السلطان الذي ولاه إلا بضعة أشهر؛ لأنه سهل النفوذ لذويه في الأحكام فنشأت ثورة عسكرية في 7 شوال سنة 1027ه، فقتل الثائرون عددا كبيرا من الأمراء الأغوات وغيرهم من الكبراء، واضطر الباقون إلى الفرار، ولم يسكن الاضطراب إلا بعزل «مصطفى باشا» بأمر السلطان «عثمان».
فتولى مكانه الوزير «جعفر باشا» وهذا لم تطل حكومته أكثر من خمسة أشهر ونصف. وكان محبا للعلم والعلماء، يجمع إليه رجال الأدب، ويكرم مثواهم، ولم يهتم كل تلك المدة إلا بما فيه منفعة البلاد وراحة العباد.
وظهر في أيامه وباء انتشر في مصر، وفتك بأهلها فتكا، وأيضا من غاية ربيع الأول سنة 1208 إلى غاية جمادى الثانية من السنة المذكورة. وقد لوحظ أن معظم الذين ماتوا بهذا الوباء شبان بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين من أعمارهم، وبلغ عدد من توفي بسببه 365000 نفس.
وتولى بعد «جعفر باشا» «مصطفى باشا»، فقبض على «مصطفى بك» الملقب «بالبكلجي» زعيم الثورة التي نشأت في أيام «مصطفى باشا لفغلي» وحكم عليه بالإعدام. فسر الثاني بذلك لأن «مصطفى» المذكور كان أصل متاعبهم. على أن سرورهم لم يلبث أن ظهر حتى أبدل بالكدر؛ لأن «مصطفى باشا» حاكمهم الجديد، اضطهد تجارهم وضيق عليهم مسالك رزقهم، فرفعوا تظلماتهم إلى السلطان، فنظر في دعواهم، وأنصفهم، فعزل ذلك الباشا، وولى «حسين باشا». فبادر هذا إلى إبطال جميع الضرائب غير العادلة التي كان قد ضربها سلفه.
وفي أيامه، ارتفع النيل ارتفاعا فوق العادة فطاف على الأرض، وأغرقها حتى يئس الناس من البقاء لنهاية ذلك الطوفان، وأصابهم ضيق شديد أعقبه طاعون فتاك.
ثم عزل «حسين باشا» واستقدم إلى الآستانة، وقبل وصوله إليه خلع السلطان «عثمان الثاني» وأعيد «مصطفى الأول» سنة 1031، الذي كان قبله.
أما الباشا المعزول، فوصل إلى الآستانة في أسعد الأوقات له؛ لأن إعراض السلطان السابق عنه، كان داعيا لرغبة السلطان الجديد في تقريبه منه، فاتفقت الأحزاب هناك على توليته الصدارة العظمى.
وكان «عثمان الثاني» قبل وفاته، قد بعث إلى مصر «محمد باشا» بدلا من «حسين باشا»، لكنه لم يصل مصر إلا بعد أن أنبئ أهلها بما كان يأتيه في الروملي يوم كان واليا عليها، فنفروا منه وخافوا من تصرفه. ولحسن حظهم لم يبق بينهم إلا شهرين ونصف شهر.
فلما تولى «حسين باشا» الصدارة، عزله بأمر السلطان «مصطفى الأول» وولى «إبراهيم باشا» وبقي هذا على مصر سنة، وقد تمكن بحسن سياسته وتدبيره من اكتساب رضا الأهلين وثقتهم إلا أنه حصل في أيامه ضيق عيش، وغلت أسعار المأكولات جدا.
ولما عزل «إبراهيم باشا»، سار إلى الإسكندرية بحرا خلافا للعادة الجارية فيمن سبقوه على حكومة مصر، فإنهم كانوا إذا عزلوا من مناصبهم، سافروا برا.
وتولى مكانه «مصطفى باشا» واستلم زمام الأحكام من 22 رمضان سنة 1032ه، فأتاه كتبة الديوان يشتكون تصرف سلفه، وقالوا إنه مدين للخزينة بمبلغ وافر، فأرسل في أثره بعض الجاوشية. فالتقوا به، فهددهم بالقتل إذا لم يعودوا عنه، فخافوا وعادوا إلى القاهرة. فأرسل الأمير «صالح بك» فأدركه وقد نزل البحر في الإسكندرية، فأوعز إليه أن يقف، فأجاب أنه متوجه إلى الآستانة، فإذا كان عليه شيء يدفعه هناك إلى السلطان نفسه، قال ذلك ونشر الشراع، فمخرت السفينة به، فأطلقوا عليه من طابية منارة الإسكندرية بعض الطلقات المدفعية فلم يبال بها. (8) سلطنة «مراد بن أحمد»
من سنة 1032-1049ه أو من 1633-1640م
ولد هذا السلطان سنة 1018ه، فتولى الملك وعمره دون الحادية عشرة سنة، ولاه الإنكشارية ليكون طوع إرادتهم، فاستأثروا بالدولة وعاثوا فيها فسادا. فانتهز الشاه «عباس» ملك الفرس اختلال أحوالهم لتوسيع أملاكه، فتمكن من فتح بغداد، وازدادت الأحوال اضطرابا، وثار الإنكشارية حتى قتلوا الصدر الأعظم «حافظ باشا».
مضت عشر سنوات والدولة في تقهقر وضعف، حتى شب السلطان وقبض على مهام الحكومة، فحمل على بلاد فارس بنفسه على جيشه، واسترجع بغداد وفتح الديوان. وبلغه أن أخويه «بايزيد» و«سليمان» يدسان عليه، فأمر بقتلهما. ثم استرد الفرس أريوان.
أما مصر، فبعد تولية «مصطفى باشا» بثلاثة أشهر؛ أي من 15 ذي الحجة، ورد إلى القاهرة أمر بعزله، وتولية «علي باشا» مكانه. فاجتمعت الأجناد وساروا إلى القائمقام «عيسى بك» يطلبون الإعطاءات التي تفرق عند تولية كل وال جديد، فانتهرهم «عيسى بك» قائلا: «أفي كل ثلاثة أشهر تجددون هذا الطلبات؟» فأجابوه: «وما المانع؟ ألم يغير مولانا السلطان كل ثلاثة أشهر واليا علينا؟ ألا يضر ذلك بمصلحة البلاد؟ وإذا أراد أن يولي كل يوم واليا، فنحن أيضا كل يوم نطلب الإعطاءات التي لنا.» فحاول القائمقام إقناعهم، فلم ينجح ولم يزدهم ذلك إلا عنادا وتهديدا، وصرخوا جميعهم بصوت واحد: «نحن لا نرضى حاكما غير «مصطفى باشا»، ويرجع هذا إلى حيث أتى.» ثم قرءوا الفاتحة، وأقسموا أن يحافظوا على ما قالوه، وألا يحنث أحد منهم بذلك، وبناء عليه أعيد «مصطفى باشا» إلى منصبه.
فلما رأى الحزب العسكري معه، كتب إلى السلطان يطلب تثبيته، وأرفق الكتاب برسائل عديدة من علماء القاهرة ومشائخها وقضاتها، وجميعهم يطلبون تثبيته. ثم بلغهم وصول «علي باشا» إلى الإسكندرية فبعثوا إليه وفدا يبلغونه أن الجند والأهلين متفقين على رفضه، فجمع الوفد إليهم ودفع إليهم كتبا كلها مدح وإطناب للأمراء والجيوش، فعاد الوفد وقرأ تلك الكتب على الجند، فلم يكن جوابهم إلا إعادة الوفد ليعيدوا مطالبهم الأولى.
فلما رأى إصرارهم، استشاط غضبا، وأمر بالقبض على ذلك الوفد، وقيدوا إلى قلعة الإسكندرية مغلولين، وزجوا في سجنها، فتآمروا مع جند الإسكندرية وكانوا من حزبهم، فحلوا وثاقهم وهجموا جميعا على «علي باشا» وقوضوا خيمته وأجبروه على الخروج من الإسكندرية حالا، فأنزلوه في قارب مخصوص، وأخرجوه من الميناء. وكانت الريح ضده، فأعادته ثانية، فأطلق عليه الأمير «مصطفى» من قلعة المنارة عدة طلقات ثقبت سفينته ثقوبا لم تغرقها، لكنها أخرجتها من الميناء ولقب الأمير «مصطفى» من ذلك الحين «بالطبجي».
وفي يوم 20 ربيع آخر سنة 1033ه، جاء القاهرة كتاب يحمله الحمام الزاجل - وهو بريد تلك الأيام - فحواه قرب وصول مندوب عثماني ومعه الأوامر السلطانية.
وبعد أيام وصل ذلك المندوب ودخل القاهرة وجمع السناجق والأمراء وكبار الموظفين في الديوان، وألبس «مصطفى باشا» «الخلعة» المرسلة إليه من السلطان، ثم تلا عليهم الفرمان بتثبيته على مصر.
وفي السنة التالية، زاد النيل زيادة فوق العادة، فبلغ 24 ذراعا، فخاف الناس أن لا ينحسر الماء عن أراضيهم في زمن يمكنهم فيه زراعتها، ولكنه أخذ في الهبوط بسرعة، فانكشفت الأرض وزاد خصبها. (8-1) الوباء وبيرام باشا
ولم تكد مصر تنجو من الجوع حتى داهمهما ما هو أصعب مراسا منه؛ يعني الوباء، فإنه ظهر بها بأوائل ربيع أول سنة 1035ه، وأخذ ينتشر في جميع أنحائها بسرعة.
وفي شعبان من تلك السنة، أخذ بالتناقص ولم ينقص إلا في أوائل رمضان، قال بعضهم : إن الذين ماتوا بسبب هذا الوباء 300000 نفس، فتذرع الباشا بهذه الضربات لاختلاس أموال الناس، فجعل نفسه وريثا لكل من مات بالوباء من الأغنياء فاستولى على تركاتهم، فتظلم الورثاء إلى الآستانة. ولا يخفى أن الباشا لم يتول مصر إلا رغم إرادة الباب العالي، فاغتنم هذه الفرصة وعزله، وولى «بيرام باشا»، فجاء مصر وحاكم «مصطفى باشا» وحكم عليه بدفع الأموال التي اختلسها، فباع كل ماله من المتاع والمقتنيات، ودفع ما عليه.
ولما عاد إلى الآستانة (1037ه) حكم عليه بالإعدام. ولا يخفى أن محاولة الجيوش والأمراء عزل وتولية الباشوات، بمجرد إرادتهم؛ مخالف للنظام ومغاير لما وضعه السلطان «سليم الفاتح» لكل فئة من فئات مصر الحاكمة من الحدود. فكانت موافقة الباب العالي خرقا للحدود السابقة؛ وعليه فقد حصل بعض التعديل في القواعد الأساسية التي سنها السلطان «سليم» منذ قرن.
وكان «بيرام باشا» محبا للعلم والعلماء، لكنه كان أكثر حبا لجمع المال، وإقامة المشاريع المفيدة، وتنشيط التجارة على أنواعها، وأكثر من الضرائب حتى على الصابون، وكان حازما، لم يترك للجند فرصة للتمرد، فهدأت مصر في أيامه. (8-2) «محمد باشا» و«موسى باشا»
ثم استدعي «بيرام» إلى الآستانة، وعين وزيرا في ديوانها، وهذه هي المرة الثالثة لتعيينه في ذلك المنصب. فتولى بعده الوزير «محمد باشا»، فساس الأمور بحكمة ودراية، وكان محبا للعزلة، فلم يخرج بموكبه في أثناء حكمه التي هي نحو السنتين، إلا ست مرات.
واتصل به ما أصاب اليمن من الشغب الناتج عن سوء السياسة مع القبائل البدوية، فعرض على السلطان إخضاعها، وتعهد بإرسال فرقة من رجاله بقيادة «قنسو بك» أمير الحج لهذه الغاية. فأجابه السلطان إلى ما طلب، وولى «قنسو بك» على اليمن مع رتبة باشا وجعله بكلربكي (أمير الأمراء) على الجيش. فأنشأ «قنسو» جيشا من ثلاثين ألف مقاتل، وقبض مبلغا كبيرا ليدفع منه نفقات الحملة. وبعد أن قبضه، توقف عن السفر وترك جيشه بمصر يسلبون وينهبون ويقتلون الأهلين ويتعرضون للمسافرين.
ولحسن الحظ، كان بين تلك الجيوش ألف رجل من الروملي جاءوا للاشتراك في تلك الحملة تحت قيادة الأمير «جعفر أغا»، فأخمدوا تلك الثورة وألزموا «قنسو بك» أن يسير بهم إلى اليمن في محرم سنة 1039ه. فسار وحارب وفاز.
وبعد سبعة أشهر من سفر تلك الحملة (في 19 شعبان)، طاف على مكة سيل من الماء، أغرق القسم الأعظم من أراضيها حتى الكعبة، فهدم السلطان معظم بنائها، ولم يبق من جدرانها إلا الأيمن.
فاتصل ذلك بوالي مصر، فأوصله للسلطان «مراد الرابع»، فأنفذ السلطان إلى «محمد باشا» يعهد إليه ترميمها ففعل. فبلغت جميع النفقات نحو ستة ألف غرش (الغرش يومئذ يساوي أربعة فرنكات تقريبا).
وفي سنة 1040ه، كان ارتفاع النيل قليلا، فجاء شهر توت ولم يبلغ 16 ذراعا، ومع ذلك، فتح الخليج، وسيقت المياه قليلة إلى الأرضين، ولكن البلاد أمنت من الجوع بتدبير «محمد باشا».
وفي هذه السنة، استدعي «محمد باشا» إلى الآستانة، وقلده السلطان منصب الوزارة مكافأة لحسن سياسته ودرايته، وتولى مكانه في مصر «موسى باشا» وكان للأهلين في بادئ الرأي ثقة به، وكانوا يحبونه ويجلون قدره، فخرجوا لملاقاته في شبرا، لكنه لم يكد يمكن قدمه، حتى استسلم لهواه . فأخذ في الاختلاس والاستبداد بأنفس العباد، فأمر بقتل أكبر رجال مصر بغير وجه حق، وجعل يراقب سير أغنيائها ويترصد خطواتهم، لعله يجد سبيلا للاستيلاء على ثرواتهم.
وفي شعبان من تلك السنة، بعث السلطان يطلب إليه أن يعد حملة من جنده لمحاربة الفرس فجمعها تحت قيادة «قيطاس بك» وضرب على البلاد ضرائب فاحشة باسم إعانة حربية.
ولما وصلت تلك المبالغ إليه، زعم أن مصر لا يمكنها تجريد مثل هذه الحملة لأن ماليتها لا تسمح لها بدفع النفقات اللازمة. فنصح له «قيطاس» أن يتبع الاستقامة، وهي أفضل له، فذهبت أقواله عبثا. ثم أوجس «موسى باشا» خيفة من «قيطاس بك»؛ لأنه اطلع على فظائعه، فاستدعاه إلى القلعة في عيد الأضحى في 9 ذي الحجة، وأمر أربعين من رجاله أن يقتلوه، ففعلوا.
فلما رأى الأميران «كنعان بك» و«علي بك» ذلك دفع الخوف في قلبيهما، وأسرعا إلى الجيوش، فأعلماهم بما كان من أمر «قيطاس بك» مع «موسى باشا» فاجتمعت العساكر حالا في الرميلة.
وأما السناجق والأمراء والقضاة وكبار الموظفين، فاجتمعوا في جامع السلطان «حسن»، وتفاوضوا في الأمر، فأقروا على عزل «موسى باشا» وتولية من يقوم مقامه مؤقتا ريثما يأتي أمر الباب العالي بشأنه، فخلعوه وأقاموا «حسن بك» مكانه، فكتب «موسى باشا» إلى السلطان يعلمه بخبر تلك الثورة. وكان رؤساؤها قد رفعوا إلى ديوان الآستانة كتابين، الواحد بالتركية، وقع عليه السناجق والأغوان وكبار ضباط العسكرية والآخر بالعربية من القضاة والمشائخ يطلبون بصوت واحد خلع موسى باشا، فأجابهم السلطان إلى طلبهم، فولى عليهم خليل باشا. (8-3) «خليل باشا»
وفي ربيع أول سنة 1041ه، وصل «خليل باشا» إلى مصر، استلم أزمتها، وبلغه أن جماعة من اللصوص ثاروا تحت رئاسة أحد الشرفاء المدعو «نامي»، ونهبوا مكة، فجمع جند القاهرة وأرسلهم بقيادة الأمير «قاسم بك» لإخماد تلك الثورة فساروا وحاربوا اللصوص وقتلوا زعماءهم.
وفي صفر سنة 1042ه، عاد «قاسم بك» بجيشه إلى القاهرة ظافرا. وأقبلت غلة مصر تلك السنة، وزاد خصبها، وتضاعف ريعها، ونزلت أسعار الحنطة من ثمانية غروش للأردب إلى غرشين.
وفي سنة 1042ه استقال «خليل باشا» من ولاية مصر، فخرج منها، والناس يثنون عليه ثناء جميلا، لأنه كان عادلا، حليما. فلم يكن يصدر أحكامه إلا بعد التروي بما يقول الخصمان.
ومما يحكى عنه أنه جيء إليه يوما بثلاثة لصوص، قبض عليهم متلبسين بالجناية، فأمر أن يحاكموا، فقال أحد رجال الديوان: «إن هذه الحادثة لا تحتاج إلى محاكمة لثبوت الجناية، فيجب إصدار الحكم بالإعدام.» فلم يكن جواب الباشا إلا الأمر بهدم بيت ذلك الناصح، فاستغرب الرجل ذلك، وسأل عن السبب الموجب له، فأجابه الباشا قائلا: «كيف يحق لك الاعتراض علي إذا أمرت بهدم بيتك المبني من حطام الدنيا، ولا يحق لذلك الباني العظيم معارضتنا إذا هدمنا بنايته بغير وجه شرعي.» ثم أبطل الأمر بالهدم وأطلق اللصوص. قال «ابن أبي المسرور» راوي هذه الحكاية، إن اللصوص قلوا بعد تلك الحادثة احتراما للباشا.
وبعد استقالة «خليل باشا» من مصر، عين على الروملي، وتولى مصر الوزير «أحمد باشا» الملقب «بالكورجي» وكان قبلا أمير ياخور.
وفي صفر سنة 1043ه، وردت له الأوامر الشاهانية، أن يبعث ألفين من عساكر مصر إلى سوريا؛ مددا للحملة العثمانية على دروز لبنان مع خمسة آلاف قنطار من البقسماط وأربعة آلاف قنطار من البارود. ثم جاءت أوامر أخرى بطلب ألفي رجل آخرين وثلاثة آلاف قنطار من البارود لمحاربة الفرس. فرأى «أحمد باشا» أن مصر لا تقوم بهذه الطلبات، فاعتذر إلى السلطان، فبعث إليه 12 ألف قنطار من النحاس ليسكبها نقودا على أن يبعث عوضا عنها إلى الآستانة ثلاثمائة ألف زر محبوب. (8-4) أصل النقود في المصرية
للنقود في مصر تاريخ لا بأس من ذكره. كانت المعاملة بمصر عند الفتح الإسلامي بالدرهم، وهو وزن درهم من الفضة والدينار، وهو مثقال من الذهب. وكان الدينار يبدل بعشر دراهم.
تكاثرت الفضة فصار الدينار يساوي 12 درهما في أيام بني أمية و15 درهما من أوائل بني العباس. ثم زادت قيمته إلى 20 درهما أو 25 أو 30 باختلاف الأحوال.
فلما كانت الحروب الصليبية، واختلط الإفرنج بالمسلمين، دخل البلاد الإسلامية كثير من النقود الإفرنجية، وحدثت نقود ذهبية جديدة كالبندقي والمجر والبنتو وزر محبوب (وهو الدينار) والجنيه العثماني والإفرنجي والمصري وغيرها، وكلها من الذهب.
أما النقود الفضية، فأبدلت دراهمها بالأنصاف وهي البارات، وكانت المبيعات الصغرى تقدر بأنصاف والكبرى بالبندقي أو الزر محبوب أو غيرها من النقود الذهبية، وسنعود إلى وصف نقود مصر في آخر العصر العثماني. «فأحمد باشا» أخذ في سكب النحاس، وأعد لذلك عمالا ومعامل. ثم رأى بعد حين أن جميع هذه الإجراءات ذاهبة عبثا لأن الفعلة ملوا العمل، ومات أكثرهم من الحر والجهد، فجمع إليه ذوي شوراه من الأمراء والقضاة، واستشارهم. وكان من رأيه أن يدفع مطاليب السلطان من ماله الخاص، ثم يجعل النحاس سبائك صغيرة تباع في بلاد السودان بين تكردر وبلاد الزنج، فارتأى القضاة رأيا آخر، وهو أن يجبر الأهالي على استلام هذا النحاس ودفع المبالغ المطلوبة، وأن يفرق النحاس عليهم بمقادير متناسبة لما يدفعونه فوافق الجميع على ذلك وأخذوا في تنفيذه في 16 ذي الحجة سنة 1043، وتمموه في آخر شعبان من السنة التالية.
فكان ذلك ثقلا كبيرا على كاهل المصريين إذ لم ينج من هذه الضريبة غني ولا فقير، فقلت النقود، وغلت الحبوب وسائر المأكولات غلاء فاحشا، وزاد في الطنبور نغمة أن النيل في السنة التالية لم يكن وفاؤه حسنا، لكن الناس استنبتوا الأرض غلة متوسطة. (8-5) مظالم وتعديات
وبعد يسير دعي أحمد باشا إلى الآستانة فسار ولم يدفع الأموال التي جمعت لخزينته، فرفع المصريون شكواهم بشأن ذلك. فلما وصل الآستانة، حكم عليه بالإعدام. وتولى مكانه الوزير «حسين باشا»، فجاء مصر في عصابة من الدروز التقطهم من كل ناد، وكانوا من قاطعي السبل، فساموا المصريين أنواع العذاب نهبا وقتلا، فاضطربت الأحوال، وأقفلت الحوانيت، ووقفت حركة الأعمال، وهذا أصل استهجان المصريين لكلمة درزي على ما يظن.
وأبطل «حسين باشا» حقوق الوراثة، فإن مات أحد الناس، استولى هو على تركته، وأحرم منها ورثته الأيتام والأرامل أو الثكالى، وإذا أراد أحد الانتقام من عدو، يكفيه أن يشي به إلى «حسين باشا» بأنه غني أو ابن غني، فيزجه الباشا في السجن ولا يخرج منه إلا بالبذل الكثير. ولم يكن يمر يوم إلا ويطوف فيه «حسين باشا» المدينة في موكبه، ولا تغيب الشمس قبل أن يقتل رجلا أو رجلين أو أكثر.
وقد حسب عدد الذين ذهبوا فريسة عتو هذا الغاشم في مدة حكمه وهي سنة و11 شهرا، فبلغوا نحوا من ألف ومائتي نفس غير الذين كان يقتلهم بيده. وكان له هيبة في قلوب رجاله، فأراد يوما ألا يشركوه بالقتل والنهب، فحظر عليهم ذلك، فلم يعودوا يجسرون على المخالفة ولم يسمع بشيء من تعدياتهم من ذلك الحين.
ثم أقيل وخلفه الوزير «محمد باشا بن أحمد باشا» وابن ابنه السلطان «سليم الثاني».
وفي شوال من سنة 1047ه، وردت إليه الأوامر أن يرسل ألفا وخمسمائة مقاتل، نجدة للحملة العثمانية إلى بغداد. فأرسل تلك الفرقة بقيادة أمير الحج «قنسو بك» في محرم سنة 1048ه، فسارت ولم ترجع إلى مصر إلا بعد الاستيلاء على المدينة في صفر سنة 1049ه.
واتبع الباشا خطوات سلفه بالاختلاس والنهب، فجمع ثروة عظيمة من تركات الأمراء والعلماء، فقام عليه الورثة، وبعد الجهد، تمكنوا من تحصيل نصف الأموال. وازداد ظلما وعتوا، حتى منع الصدقات التي كانت تدفع للأرامل والأيتام، وأخذها لنفسه، فكثرت التظلمات وتعددت العائلات المعسرة.
وفي الخميس 16 شوال سنة 1049، توفي السلطان «مراد». (9) سلطنة إبراهيم بن أحمد
من سنة 1049-1058ه أو 1640-1648م
ولد السلطان «إبراهيم» سنة 1024، فلما تولى الملك كان في الخامسة والعشرين من عمره.
وفي أيامه، فتحت جزيرة كريد، وصارت تابعة للمملكة العثمانية. وفيها أيضا زاد تمرد الإنكشارية فمل من تمردهم وعزم على الفتك بهم في ليلة زفاف إحدى بناته على ابن الصدر الأعظم، فاطلعوا على الدسيسة، وأجبروا المفتي أن يفتي بخلعه، فخلعوه وولوا ابنه «محمد الرابع» وعمره سبع سنوات، فلم يرض جند السياه بذلك، فأرادوا إرجاع «إبراهيم» فخاف رؤساء العصابة الفشل، فقتلوا «إبراهيم» كما قتلوا «عثمان الثاني» قبله.
وكان المصريون لما علموا بانتقال السلطنة إلى «إبراهيم» المذكور، ظنوا ذلك التغيير يغير حالهم، وينجيهم مما هم فيه. وأول ما أجراه السلطان المذكور أنه استبدل «محمد باشا» وأحرمه من العطية التي تعطى لحاكم مصر عند استقالته. ولكنه أمر بعد ذلك بإبقائه، فعاد إلى أعماله، وازداد ظلما وصلفا، ففتك بالناس فتكا ذريعا.
ثم استبدل «محمد باشا» ب «مصطفى باشا» الملقب ب «البستانجي» وكان أبي النفس على نوع ما، إلا أن كاتبه «أحمد أفندي» كان عابثا غشوما. وكانت أزمة الأمور في يده، فاستبد بها، فكره المصريون الحياة من أجله.
واتفق في أيامه تقصير النيل، فازدادت الأثقال بغلاء الحبوب. ولم يكن الباشا يتعرض للأحكام مطلقا. فكثرت السرقات حتى لم ينج حي من أحياء القاهرة من النهب، واضطر الناس إلى مهاجرة بيوتهم.
وكان رئيس الضابطة إذا جيء إليه ببعض اللصوص، لا تغيب عليهم الشمس في السجن، ومثل ذلك كان يفعل الكشاف (حكام الأقاليم)، فتواترت التشكيات إلى الباشا، فاضطر إلى عزل رئيس الضابطة وتولية «كنعان بك» مكانه، فاهتم هذا بالقبض على اللصوص، فسجن عددا كبيرا منهم.
وفي شوال سنة 1051، ثارت الجهادية وتمرد الجاويشيون على رئيسهم الأمير «علي»؛ لأنه لا يفرق الأعطيات إلا على كتبته، فلم ير الباشا بدا من عزله وتولية «عابدين بك» في مكانه.
فلما رأى الجيش ما كان من فوز الفئة الثائرة ثاروا جميعا، وادعوا أن مخازن الحبوب فارغة، وطلبوا معاشاتهم المتأخرة منذ سنة، فعين «محمد أفندي» قاضي العسكر لتحري دعواهم، فتفقد مخازن الحبوب، فوجدها حقيقة فارغة، وعلم أن ما كان فيها باعه وأخفى ثمنه. فاضطر الباشا مراعاة لطلب الجمهور، أن يتخلى عن كاتبه مع شدة حبه له، فاستنجد الجاويشية، فأنجدوه وأعادوه إلى منصبه، فازداد تمردا، وبالغ في الانتقام. ثم استقال «مصطفى باشا» وتولى الوزير «مقصود باشا». وكان واليا على ديار بكر قديما.
فلما استلم مقاليد الأحكام بمصر، بحث عن تصرفات سلفه، فاطلع على أعماله، فقبض على كاتبه والكخيا، وجلدهما، وأجبرهما على إرجاع مائتي كيس من النقود إلى الخزينة.
أما «مصطفى باشا» فأرسل إلى الآستانة، وهناك أخذ منه مائتا كيس سلمت للخزينة الشاهانية وأصبح من صحبة الوزراء السبعة العظام. (9-1) الوباء
وفي أيام «مقصود باشا»، قاست مصر أمر العذاب من وباء وفد عليها. وكان أصعب مراسا من الوباء الذي وفد في أيام علي باشا وجعفر باشا لأنه كان عاما لم ينج من إصابته الشيوخ ولا الشبان، وقد أصاب من الشيوخ واحدا في الثمانية.
ظهر هذا الوباء أولا في بولاق أوائل شعبان سنة 1052ه، بعد شهرين ظهر في القاهرة، وما زال على معظمه من أول ذي القعدة من تلك السنة إلى غاية صفر سنة 1053، ثم أخذ بالتناقص شيئا فشيئا ولم ينقض حتى الشهر الثاني. ولم يكن يسمع إلا بالوفيات المتتابعة في كل ساعة. وكانت الجثث تنقل بالعشرات دفعة واحدة، فيمر في الشارع الواحد أحيانا ثلاثون أو أربعون جنازة.
وقد روى «ابن أبي السرور» - وهو من المعاصرين - أن جملة من صلي عليهم من المتوفين في الجوامع الخمسة الرئيسية في القاهرة في أثناء ثلاثة أشهر 2960، وصاروا في آخر الأمر يدفنون موتاهم بلا صلاة، وعدد هؤلاء لا يقل عن عدد الذين صلي عليهم.
أما خارج القاهرة، فلم يكن الوباء أقل فتكا، ويقال إن 330 قرية أصبحت خرابا لإصابة سكانها جميعا بذلك الداء. (9-2) «مقصود باشا»
فلما رأى «مقصود باشا» ما ألم بمصر من الدمار، سعى في إصلاح الأحوال جهده، فاستعمل الرفق وألغى الضرائب التي وضعها أسلافه بغير حق وجعل الوراثة إلى الأقربين الشرعيين، مع دفع شيء من التركات إلى الحكومة، وتحرى التعديات تحريا شديدا وشدد في القبض على اللصوص، فقبض على كثيرين منهم، فقتل بعضا، وسجن بعضا، وقاضى آخرين حسب ذنوبهم مع الغرامة، فاستكنث الناس وطابت قلوبهم.
وبينما كان هذا الباشا ساعيا فيما تقدم، ظهرت في الإسكندرية في 20 القعدة من تلك السنة ثورة كدرت الحالة. وذلك أن نحوا من ستمائة من المسيحيين كانوا تحت طائلة القصاص مغلولين في سجون الإسكندرية.
ففي اليوم المذكور فتحوا السجون، والمسلمون في الجوامع يصلون، وطفقوا ينهبون الحوانيت والمخازن والبيوت، ولم يبقوا ولم يذروا. ولما ملئوا جعبة مطامعهم، نزلوا إلى مركب كان بانتظارهم في البحر، فأقلعوا يطلبون الفرار.
ولم يكن ذلك كل ما هدد «مقصود باشا» وحال دون مشاريعه، بل هناك ما هو أدهى وأمر؛ وذلك أن جماعة السناجق تآمروا على عزله في الجمعة 12 رمضان سنة 1045 باجتماع عقدوه في بيت الأمير «رضوان بك» الملقب «بأبي الشوارب».
وسبب ذلك أن «مقصود باشا» كان قد طلب إليهم حينا بإيفاء رواتب الجيش عن شهر رمضان أن يدفعوا الثلث الأول من المال الذي يطلب من الخزينة من الإقطاعات العسكرية التي في أيديهم، فرفضوا بالإجماع وطلبوا عزل بعض الموظفين الذين يعدونهم من أنصار الباشا. فسلم الباشا لهم بما أرادوا، فلم يقتنعوا بذلك. فكتبوا إلى الآستانة يشكون من سوء تصرفه، ووافقهم كثيرون من الأعيان. فكتب إليه الباب العالي رأسا ما مفاده: «إن الحضرة السلطانية لم تعلم أسباب الثورة الجهادية التي انتشبت في «مصر» وتتعجب كيف أن الباشا لم يبلغ الباب العالي خبرها.»
فأجاب الباشا أنه لم يحصل لديه ما يدعى ثورة، وإنما هناك بعض الاختلافات التي يرجوا إصلاحها بالتي هي أحسن؛ ولذلك لم يكن ثمة حاجة إلى اطلاعها.
فطلب إليه الباب العالي أن يتحرى، ويعاقب المعتدين، ويصرف الأمر بما يتراءى له.
ومع ذلك اضطر إلى الإذعان، لكنه أراد الفتك بالأمير «علي بك» والأمير «ماماي بك» والدفتردار «شعبان بك» لعلمه أنهم زعماء تلك الثورة، فأعد لهم كمينا ليقتلوهم في الديوان. وعين لذلك الإثنين في 23 الحجة سنة 1054ه. لكن الدفتردار نزل إلى الديوان وحده في ذلك اليوم، فشاور الباشا عقله بين أن يفتك به وحده أو يخفي ما في ضميره ريثما يفتك بالثلاثة معا، فأقر أخيرا على إرجاء العمل إلى يوم آخر. (9-3) أيوب باشا وغيره
وفي اليوم التالي جاء الفرمان بعزله، وتولية الدفتردار «شعبان بك» قائمقاما يتعاطى الأحكام وقتيا، فشق ذلك على الباشا، لكنه أذعن وسلم مقاليد الأحكام «لشعبان بك»، فكتب السناجق إلى الباب العالي يطلعونه على حقيقة ما حصل في أيام الباشا السابق، ويطلبون إليه الإسراع في إرسال من يخلفه، فأنفذ إليهم «أيوب باشا». وكان قبلا من رجال القصر الشاهاني «المابين».
فلما عهدت إليه هذه الولاية تردد في قبولها لما رأى من الأخطار المحدقة بها، لكنه لم ير بدا من قبولها .
وكان رجلا حازما مستقيما، استعان برجاله على إدارة الأعمال، فلم تمض سنتان على حكمه حتى استتب النظام، وسادت الراحة. ثم استقال من ذلك المنصب بعد أن صار وزيرا. وعكف على العبادة واعتزل السياسة، وزهد الدراويش، فتنازل عن أملاكه في الآستانة للدائرة الخاصة الهمايونية وانفرد في أحد المعابد في الرومللي. تولى مكانه الوزير «محمد باشا حيدر» سنتين ونصف، ولم يكن يحسن الإدارة فارتبكت الأحوال.
وفي 10 رجب سنة 1057ه ثارت فرقة من الإنكشارية في مصر القديمة، فهددهم والي الشرطة فازدادوا تمردا، فساروا إلى الباشا، وطلبوا قتل ذلك الوالي (المحافظ) ولم يكن ذنبه إلا أنه قام بما عليه، فوافقهم الباشا على ما أرادوا.
أما الوالي فكان من وجاق الجاويشية، فلما علم هؤلاء بعزم الباشا، قاموا يشكون من سوء تصرفه بصوت واحد، فخاف أن تبلغ هذه التشكيات مسامع الباب العالي ، فتعود العاقبة وبالا عليه، فاجتمع «بقنسو بك» واستشاره بما يفعل. وكان هذا لا يشير إلا بما يعود عليه بالمنفعة الشخصية، فأشار على الباشا أن يرفع إلى الآستانة تقريرا سريا يشرح فيه ما حصل من القلاقل، وينسبها جميعها إلى الأميرين «رضوان بك» و«علي بك» وينسب إليهما أيضا اختلاس الخزينة المصرية، وأنهما سلباه منصب أمير الحج وحكومة «جرجا»؛ كل ذلك لكي يرجع «قنسو بك» و«ماماي بك» إلى منصبهما. (9-4) رضوان بك وعلي بك
فباشر الباشا كتابة ذلك التقرير، وطلب إلى بعض الأعيان أن يوقعوا عليه، فبلغ ذلك مسامع «رضوان بك»، فأسرع إلى كتابة تقرير مناقض لتقرير الباشا، وبعث به إلى الآستانة، فوصل قبل تقرير الباشا وفيه ما فيه من التشكيات ضد «قنسو بك» و«ماماي بك»، فورد الجواب من الآستانة مفوضا إلى «رضوان بك» و«علي بك» أمر النظر في تلك القضية.
وفي 21 جمادى الأولى سنة 1057ه، ورد الفرمان بذلك إلى الباشا. وفي 27 منه، استدعاهما الباشا إلى القلعة، فاستدعيا «قنسو بك» و«ماماي بك» وأمرا بقتلهما، وقتل أمراء آخرين كانوا على دعوتهما.
ولم تكد تتخلص «مصر» من دسائس هؤلاء حتى ظهرت دسائس «مصطفى كخيا» الملقب «بالششنير»، لأنه لم يسم سنجقا عوضا من «قنسو بك».
وفي 8 رمضان من تلك السنة، وردت الأوامر إلى «علي بك» أن يترك القاهرة ويتوجه حالا إلى حكومته في جرجا. وبعد ثلاثة أيام استدعى الباشا «رضوان بك» إلى وليمة في القلعة فخاف من دسيسته، فأبى الحضور، فغضب عليه الباشا وخلعه عن إمارة الحج، فخرج «رضوان بك» من القاهرة في 200 من رجاله، وفيهم عدة من الأمراء والكشاف، واتحد مع «علي بك». فبعث الباشا على أثرهما ألفين من جنوده، ونحو خمسمائة من الإنكشارية، فاجتمع الجند في «الرميلة» وأقروا على إغفال أوامر الباشا. ثم وردت الأوامر من الآستانة بتثبيت «رضوان بك» و«علي بك» في منصبيهما. فاضطر الباشا إلى استقدام الأميرين، فقدما إلى القاهرة في 19 رمضان بما لهما من الرواتب والحقوق، فسعى إلى مصلحتهما مع «مصطفى كخيا».
وفي 6 الحجة من تلك السنة، شاع في القاهرة أن الوزير «مصطفى باشا» سمي على «مصر» عوضا عن «محمد باشا حيدر». وفي 26 منه، وردت الأوامر قاضية بإعادة «محمد باشا» إلى منصبه. وفي تلك السنة، توفي السلطان إبراهيم. (10) سلطنة محمد بن إبراهيم
من سنة 1058-1099ه، ومن 1648-1687م
تولى هذا السلطان العرش العثماني وهو طفل، فوقعت الفوضى في المملكة العثمانية، وأصبحت الجنود لا ترحم كبيرا ولا صغيرا، وصارت الحالة إلى أتعس مما كانت عليه قبل «مراد الرابع» حتى تزعزعت أركان الدولة وطمعت الدول الأوربية فيها وتكاثرت الثورات الداخلية تارة من الإنكشارية، وآونة من السياه، وأخرى من الولاة أو الأهالي، ولكن الله قيض لها وزيرا عاقلا حكيما هو «محمد باشا كوبريلي» فتولى الصدارة سنة 1067، ففتك بالإنكشارية وأذلهم وأخضعهم، ولهذا الرجل أياد بيضاء على الدولة. فإنه حفظها من الانحلال في تلك الأزمة، وانتهت سلطنة هذا السلطان بالخلع.
أما في «مصر» لما تولى السلطان محمد المذكور، عزل «محمد باشا» واليها، وولى الوزير «أحمد باشا» فاستلم زمام الأحكام مدة سنتين كلهما اضطراب وقلاقل، وأول تلك القلاقل كانت سنة 1060 بسبب تقصير النيل، فإنه لم يرتفع تلك السنة أكثر من 16 ذراعا، فلم يرتو من أرض الصعيد إلا الثلث. أما الوجه البحري فلم يرتو منه شيء تقريبا، فغلت الأسعار حتى خيف المجاعة.
أما الباشا فلم يكن يهمه غير تكثير الضرائب مع أنه لم يكن يرسل منها إلى الآستانة إلا الثلثين. وكان لسوء نيته يرسل تلك المبالغ في عهده «رضوان بك» ليحمل الباب العالي على الشك بأمانته فيتغير خاطر السلطان عليه. وكان إتماما لمكيدته يكتب إلى الباب العالي على التتابع يشكو من تصرف «رضوان بك» ويطلب خلعه عن إمارة الحج، وتقليدها لعلي بك. وكان هذا على ما علمت من الصداقة مع «رضوان بك» لكنه لم يكن يعلم بدسائس الباشا.
أما الباشا فكان في نيته أن يوقع الضغائن بين الأميرين، فيحل عرى اتحادهما، لكنه لم يتم مقصده حتى أتى الأمر العالي بعزله يوم السبت 6 صفر سنة 1061ه و«رضوان بك» لم يرجع إلى القاهرة بعد. ولم تكن نتيجة مساعي «أحمد باشا» إلا زيادة تآلف قلبي ذينك الأميرين. وكان من كرم أخلاقهما أن كلا منهما كان يتنازل للآخر عن إمارة الحج فأعجبت هذه الأريحية المصريين، فأحبوهما وبالغوا في احترامهما حتى أقاموا لهما دعاء عموميا في «الرميلة»، والباشا إذ ذاك محبوس في القلعة ولم يفرج عنه حتى دفع للخزينة مبالغ وافرة.
فتولى مكانه الوزير «عبد الرحمن باشا» وما زال إلى أول شوال سنة 1062ه، وقد قاسى ما قاساه سلفه من السجن والإهانة لأنه سار على خطواته فاختار الباب العالي الوزير «محمد باشا» ليقوم مقامه في 5 شوال من تلك السنة، ولكنه لم يدخل القاهرة إلا في 8 محرم سنة 1063ه.
وما زالت الولاة تتوالى على «مصر» ولا شيء من أعمالهم وأحوالهم يستحق الذكر. وفي آخر الأمر تحول النفوذ من أيديهم إلى أيدي البكوات المماليك وهم يعدون مصر وطنهم، ويغارون عليها. أما الباشوات إذا أتوا «مصر» لا يكون ديدنهم إلا اكتساب الثروة بأية طريقة كانت لعلم كل منهم أنه لا يلبث أن يأتيه الأمر بالعزل، وقلما عزل أحدهم ولم يكن السجن مأواه. (11) سلطنة ثلاثة سلاطين «سليمان بن إبراهيم» و«أحمد بن إبراهيم» و«مصطفى بن محمد»
من سنة 1099-1115ه (ومن 1687-1703م)
توالى على العرش العثماني في ست عشرة سنة ثلاثة سلاطين، ويدل ذلك طبعا على ارتباك أحوال الدولة. فلما خلع السلطان «محمد الرابع» أودع السجن حتى مات سنة 1105ه، وبويع السلطان «سليمان الثاني». وبعد 3 سنوات توفي، فبويع السلطان «أحمد بن إبراهيم» وتوفي سنة 1106ه، فبويع السلطان «مصطفى الثاني بن محمد الرابع» وبعد تسع سنوات أقيل سنة 1115، وتوفي سنة 1119ه.
وتوالى على «مصر» في أثناء هذه المدة نحو عشرين واليا أغضيت عن ذكرهم، لعدم أهميتهم؛ ولأن النفوذ انتقل منهم إلى الأمراء المماليك، وصار هؤلاء أصحاب الحل والعقد، وبهذه السلطة ينقضي الدور الأول من سيادة الدولة العثمانية على مصر، ويبدأ الدور الثاني. (12) العلم والأدب ومشاهير العلماء والأدباء في مصر
الدور الأول من العصر العثماني من 923-1115ه
يجدر بنا بعد الإتيان على تاريخ مصر السياسي في الدول من سيادة الدولة العثمانية، أن نأتي بفذلكة عن حالة مصر العلمية والأدبية في ذلك الدور.
يعد هذا الدور في تاريخ آداب اللغة العربية من عصر الانحطاط أو التقهقر، لذهاب دولة العرب واستبداد سواهم في السيادة، وانغماس القوم في الجهل. ولولا القرآن لذهبت اللغة العربية برمتها.
وكانت الدول الإسلامية غير العربية قبل الدولة العثمانية كالبويهيين، والسلاجقة، والطولونيين، والأتابكة، والأيوبيين يجعلون اللغة العربية لغتهم الرسمية للمخاطبات والمكاتبات، فتبقى ببقاء السياسة. أما العثمانيون فأهملوا هذه اللغة، وجعلوا اللغة التركية لغتهم الرسمية.
وزد على ذلك ما رافق الفتح العثماني أو حواليه من الأسباب التي بعثت على تقهقر هذا القطر على الخصوص، وذلك أن أهل أوربا اكتشفوا في أثناء ذلك طرقا تجارية بحرية مثل رأس الرجاء الصالح وغيره أغنت التجار عن إرسال تجارتهم مع الشرق الأقصى ذهابا وإيابا عن طريق مصر وانصرفت همم العالم المتمدن في الجهة الأخرى إلى العالم الجديد وغيره بعد اكتشافها، والمصريون يومئذ لا يعلمون شيئا عن تلك الاكتشافات، فكان هذا كله باعثا على إهمال مصر وانحطاطها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ويتبع ذلك طبعا انحطاطها العلمي والأدبي.
وناهيك بفساد الأحكام، ومطامع الولاة وتسابقهم في ظلم الرعية، وسلب أموالهم؛ مما يشغل الإنسان بنفسه عن طلب العلم أو التبحر فيه.
وعليه فكان ينتظر أن تموت اللغة العربية، ونعني بموتها ضعف شأنها بالآداب والعلوم، وإنما استبقاها الإسلام لاضطرار أصحابه إلى تعلم هذه اللغة واختلاط الأمراء المماليك بالوطنيين وتعلم لسانهم.
وقد ساعد على إحياء آداب اللغة العربية في تلك الفترة المظلمة أن بعض ولاة ذلك الدور كان فيهم ميل العلم والعلماء. أشهرهم «إسكندر باشا الشركسي» - تولى مصر سنة 976ه - فقد تقدم أنه كان شديد الميل كثير التعلق بالعلم وذويه، و«حسين باشا» - تولاها سنة 980ه - وشيد «محمد باشا» - سنة 1004ه - فإنه كان ينشط العلم والأدب. وكذلك «محمد باشا الصوفي» وأهمهم وأقدمهم «داود باشا» - تولى مصر سنة 945، وما زال عليها أكثر من 11 سنة - وكان محبا للعلماء شديد الرغبة في المطالعة واقتناء الكتب، ينفق في سبيل استنساخها أو ابتياعها الأموال الطائلة، فجمع مكتبة نفيسة. ومنهم «جعفر باشا»، و«بيرام باشا» وقد ذكرناهم في أماكنهم في هذا الكتاب.
فبالنظر إلى ذلك، ظلت آداب اللغة العربية حية لكنها انحصرت بالأكثر في كتب الفقه، والدين، أو جمع الأدب والشعر. حتى أشعارهم أكثرها في مدح النبي وأكثر المؤلفات الفقهية شروح وحواش. وراج من ضروب الفقه على الخصوص الفقه الحنفي؛ لأنه مذهب الدولة العثمانية، والفقه الشافعي لأنه مذهب المصريين.
وكان الأزهر في تلك المدة مبعث نور العلم، والمدرسة العامة للعلم الإسلامي، وأكثر مشاهير العلماء كانوا من طلبته. وكان الطلاب يقصدونه من أقاصي العالم، وله فضل كبير في استيفاء أصول العلوم التي كانت رائجة في ذلك العصر، وأكثر نوابغ مصر في الدور الذي نحن في صدده من تلاميذه، وسنأتي بشذرات من تراجم مشاهير ذلك الدور، ونرتبهم حسب المواضيع مع مراعاة سني الوفاة - ما بين سنة 933 و1115ه - ولذلك كان بعض هؤلاء عاصر السلاطين المماليك، وإنما توفي في عهد الدولة العثمانية.
قبل التقدم إلى الكلام عن هؤلاء نذكر عالما هو إمام العلماء في القرن التاسع للهجرة، نعني «جلال الدين السيوطي»، توفي قبل الفتح العثماني باثنتي عشرة سنة 911ه. وكان علما كثير التأليف والتعليم، ألف في كل موضوع حتى زادت كتبه على بضع مئات، وتخرج عليه كثيرون ومنهم جماعة سيأتي ذكرهم في جملة نوابغ العصر العباسي الذي نحن فيه.
وبما أننا سنقتصر فيما يلي على الذين اشتهروا من المصريين دون سواهم فيشق علينا تحديد المراد بالمصري في هذا الباب؛ لأننا نعرف جماعة كبيرة ولدوا خارج مصر ثم جاءوها فتعلموا في أزهرها، وتوطنوها وألفوا الكتب فيها، فهؤلاء نعدهم من النابغين في مصر، ونذكر أخبارهم ونشير إلى أهم مؤلفاتهم، وهل طبعت؟ وأين يوجد الخطية منها؟ (12-1) الشعراء والأدباء (1) «عائشة الباعونية»: عاشت بمصر نحو سنة 929ه، لها أشعار في مدح النبي سمتها: «الفتح المبين في مدح الأمين». منها نسخ خطية في مكاتب برلين والمتحف البريطاني. (2) «قنسو بن صادق»: من تلامذة «جلال الدين السيوطي» المتقدم ذكره، نبغ في أواسط القرن العاشر، ومن مؤلفاته: «السحر الحلال من إبداع الجلال» في شكل المقامات، منه نسخة خطية المكتب الهندي بلندن.
وكتاب «مراتع الألباب في مرابع الآداب» شعر. منه نسخة في المتحف البريطاني. (3) «زين الدين الحميدي»: كان طبيبا بمصر، توفي سنة 1005ه، وله ديوان في مدح النبي سماه «الدر المنظم في مدح الحبيب الأعظم» طبع في بولاق سنة 1213. و«تمليح البديع لمديح الشفيع» منه نسخ خطية في مكاتب أوربا. ومنظومة في الجناس، منها نسخة في مكتبة برلين. (4) «عبد الباقي الإسحاقي المنوفي»: توفي سنة 1060ه في منوف، وله ديوان «سلاف الإنشاء في الشعر والإنشاء». منه نسخة خطية في مكتبة فيينا. (5) «يوسف عبد الجواد الشربيني»: عاش نحو 1098ه، له كتاب «هز القحوف» طبع بمصر والإسكندرية مرارا. (12-2) المؤرخون ونحوهم (1) «أبو البركات ابن إياس العامري الشركسي»: هو من تلامذة السيوطي، توفي سنة 930ه، من مؤلفاته: (أ)
كتاب «مرج الزهور في وقائع الدهور»، وهو تاريخ عام، منه نسخة خطية في فيينا وباريس وغوطا. (ب)
كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» وهو خاص بتاريخ مصر إلى سنة 928ه مرتب على الأيام والسنين نحو كتاب «الجبرتي»، وقد شهد فتح العثمانيين مصر بنفسه، ووصفه. طبع في القاهرة سنة 1301 وفي بولاق سنة 1311. (ج) «مشق الأزهار في عجائب الأقطار» وهو يتعلق بالنجوم. منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية وفي أكثر مكاتب أوربا . (د) «نزهة الأمم في العجائب والحكم» منه نسخة خطية في مكتبة آيا صوفيا بالآستانة. (2) «أبو العباس بن عبد السلام شهاب الدين المنوفي الشافعي»: توفي سنة 931، تعلم في القاهرة، وتولى القضاء في بلده «منوف» وله كتاب: «الفيض المديد في أخبار النيل السديد». منه نسخة خطية في مكتبة مرسيليا. وكتاب «البدر الطالع في الضوء اللامع»، منه نسخة في مكتبة ليدن. (3) «محمد بن علي الداودي»: من تلامذة «السيوطي»، توفي سنة 945، له كتاب «طبقات المفسرين» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. (4) «أحمد بن علي بن نور الدين المحلي» المعروف «بابن زنبل الرمال»: عاش نحو سنة 960ه، له كتاب «في تاريخ أخذ مصر من الشراكسة» أي فتح السلطان «سليم» مصر. منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وفي مكاتب فيينا وباريس وليدن ومنشن. وكتاب «تحفة الملوك والرغائب لما في البر والبحر من العجائب والغرائب» هو كتاب جغرافي منه نسخة خطية في مكتبة أكسفورد. وكتاب «المقالات في حل المشكلات». منه نسخة في المكتبة الخديوية، وكتاب «القانون في الدنيا» بالنجامة. (5) «بدر الدين المنهاجي»، خطيب مسجد السيدة نفيسة: توفي سنة 960ه، له كتاب «البدور السافرة في من ولي القاهرة»، وهي أرجوزة تشتمل على ولاة مصر من الفتح إلى سنة 956ه، منها نسخة خطية في مكتبة فيينا. وكتاب «النجوم الزاهرة» في ولاة القاهرة إلى سنة 961، منه نسخة في المكتبة الخديوية وأخرى في مكتبة برلين. (6) «عبد الواحد البرجمي»: توفي سنة 1017، له كتاب «الرياض الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة»، منه نسخة في مكتبة الجزائر. (7) «محمد بن عبد المعطي الإسحاقي المنوفي»: كتب نحو سنة 1032ه له: (أ)
كتاب «الروض الباسم في أخبار من مضى من العوالم» وهو مختصر تاريخ الإسلام من ظهوره إلى دولة الأمويين، فالعباسيين، فالفاطميين، فالأيوبيين، وتاريخ مصر إلى سنة 1032، منه نسخ خطية في مكاتب باريس والمتحف البريطاني، وأحسبه طبع. (ب)
كتاب «لطائف أخبار الأول في من تصرف بمصر من الدول» طبع بمصر مرارا. (8) «عبد الكريم أفندي بن سنان»: توفي سنة 1045، كان قاضيا في حلب وجاء مصر، له كتاب «تراجم كبار العلماء والوزراء»، منه نسخة خطية في مكتبة فيينا. (9) «سعد الدين الغمري»: كتب سنة 1050ه، له كتاب «ذخيرات الأعلام بتاريخ أمراء مصر في الإسلام»، منه نسخة خطية في برلين، وغوطا، وباريس. (10) «شمس الدين بن أبي السرور البكري الصديقي المصري»: توفي سنة 1060ه، له: (أ)
كتاب «التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية» منه نسخة خطية في فيينا وغيرها. (ب)
كتاب «الروضة الزهية في ولاة مصر القاهرة المعزية» من أقدم الزمان إلى سنة 1035ه، منها نسخ خطية في «غوطا» و «أكسفورد». (ج)
كتاب «الكواكب السائرة في أخبار مصر والقاهرة» إلى سنة 1053ه منه نسخ خطية في مكاتب منشن والمتحف البريطاني وباريس. (د)
كتاب «دور المعالي الغالية» منه نسخة خطية في مكتبة نور عثمانية بالآستانة. (11) «إبراهيم بن أبي بكر الصالحي العوفي»: توفي سنة 1071ه، له كتاب «تراجم الصواعق في واقعات السناجق» وهو تراجم سناجق مصر - أي أغواتها وأمرائها. ومنه نسخة خطية في مكاتب منشن وباريس. (12) «عبد القادر الفيومي العوفي الحنفي»: ولد في القاهرة، وتعلم فيها وفي حلب ودمشق والآستانة. ثم تعين قاضيا على القاهرة. ثم عاد إلى الآستانة وغيرها، وتوفي أخيرا في الآستانة سنة 1071. له كتاب «التذكرة» و«بلوغ الأرب» و«السئول للتشوق بذكر نسب الرسول»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية وغيرها، وله كتاب «نفائس اللؤلؤ والمرجان في إعراب محلات من سورة آل عمران». (12-3) اللغويون (1) «أبو بكر الشنواني»: تعلم في القاهرة، وتوفي في سنة 1019ه، وله كتاب «جلية أهل الكمال بأجوبة أسئلة الجلال» - يعني «جلال الدين السيوطي» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. (2) «شهاب الدين الخفاجي»: توفي سنة 1069ه، ولد في سرياقوس بضواحي القاهرة، وتعلم على عمه «الشنواني» - المتقدم ذكره - ثم جاء القاهرة ورحل إلى الآستانة وسلانيك، وعينه السلطان «مراد» قاضيا للعسكر في مصر فجاءها، ثم نقل منها إلى «دمشق» وحلب فالآستانة حتى توفي. وقد ترجم نفسه في ذيل كتابه «ريحانة الألباء» - الآتي ذكره.
وأما كتبه فمنها: (أ)
منظومات كثيرة متفرقة منها جانب في نسخة خطية بالمكتبة الخديوية. (ب)
كتاب «هدايا الزوايا فيما للرجال من البقايا» وهو تراجم العلماء من معاصريه وأساتذة أبيه في الشام والحجاز ومصر والمغرب وبلاد الروم، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، ومثلها في برلين وغوطا وفيينا وبطرسبورج والآستانة وغيرها. (ج)
كتاب «ريحانة الألباء ونزهة الحياة الدنيا» وهو من كتب الأدب جمع فيه أشعارا وأخبارا وانتقادات وملاحظات مفيدة وقد طبع بمصر مرارا. (د)
كتاب «طراز المجالس» في كتب الأدب، طبع بالقاهرة سنة 1284. (ه) «شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل»، طبع بمصر سنة 1282 وغيرها. (و)
شرح درة الغواص، منها نسخة في مكتبة أكسفورد. (ز)
شرح كتاب الشفاء فيها. (ح)
حاشية علي البيضاوي فيها أيضا. (12-4) المحدثون (1) «شمس الدين الدمشقي الفالحي»: توفي في البرقوقية بالقاهرة سنة 942ه، له: (أ)
كتاب «سبل الهدى والإرشاد في سيرة خير العباد» وتعرف «بالسيرة الشامية»، وهي مشهورة، ومنها نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وأحسبه طبع. (ب)
كتاب «الآيات العظيمة الباهرة في معراج سيد أهل الدنيا والآخرة» منه نسخة خطية في مكتبة ليدن. (ج) «عقود الجمان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية وفي فيينا وآيا صوفيا. (د)
كتاب «مطلع النور في فضل الطور وقمع المعتدي الكفور»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. (ه)
كتاب «الفضل المبين في الصبر عند فقد البنات والبنين» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. (2) «عبد الرءوف المناوي الشافعي»: توفي سنة 1031ه، ولد في القاهرة ونشأ في حجر والده، ودرس العلوم الإسلامية، خصوصا التصوف، والحديث، وأخذ طريقة الخلوتية وطرقا أخرى، وتولى التدريس في المدرسة الصالحية، وكثر حساده، والطاعنون عليه، واعتل وقاسى آلاما شديدة حتى مات. له مؤلفات كثيرة نذكر الباقي منها: (أ) «كنوز الحقيقة في حديث خير الخليقة» مرتب على الأبجدية وفيه نحو 10000 حديث. طبع في بولاق سنة 1286 وفي القاهرة 1305، وله مختصرات. (ب) «الجامع الأزهر من حديث النبي الأنور»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. (ج) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. (د) «النزهة الزاهية في أحكام المحاكم الشرعية»، منه نسخة في المكتبة الخديوية. (ه) «تيسير الوقوف على غوامض الحكام والوقوف»، منه نسخة في المكتبة الخديوية، وله غير ذلك كتب كثيرة لا محل لذكرها آثارها موجودة في المكتبة الخديوية. (3) «علي بن إبراهيم نور الدين الحلبي القاهري»: صاحب السيرة الحلبية. ولد في القاهرة وتوفي بالصالحية سنة 1044ه، أشهر مؤلفاته: (أ)
كتاب «إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون» المشهور بالسيرة الحلبية، وقد طبع في ثلاثة مجلدات ضخمة. (ب) «النصيحة العلوية في بيان حسن طريقة السادة الأحمدية» (أحمد البدوي)، منه نسخة خطية في مكتبة باريس. (ج) «عقد المرجان فيما يتعلق بالجان»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. (د) «عبد السلام اللقاني» المتوفى سنة 1078ه تثقف على أبيه وورثه في التدريس بالأزهر، ومن مؤلفاته «كتاب ترويح الفؤاد بمولد خير العباد»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية.
المحدثون كثيرون في هذا الدور، يضيق المقام عن ذكرهم فنتقدم إلى الفقهاء. (12-5) الفقهاء
الفقه الحنفي (1) «زين العابدين بن نجيم المصري»: المتوفى سنة 970ه، وله من المؤلفات: (أ)
كتاب الأشباه والنظائر، وهو موجود في كل المكاتب بأوربا وغيرها، وطبع في الهند سنة 1241. (ب)
الفتاوى الزينية في فقه الحنفية، منه نسخة في المكتبة الخديوية. (ج)
الفوائد الزينية في فقه الحنفية، منه نسخة في مكتبة آيا صوفيا. (د)
الخير الباقي في جواز الوضوء في الفساقي، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. وله كتب ورسائل أخرى في المكتبة الخديوية وسائر المكاتب. (2) «شهاب الدين التمرتاشي الغزي»: درس في غزة، ثم في القاهرة حتى توفي سنة 1004ه، وله: (أ) «تنوير الأبصار وجامع البحار» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وفي أكثر مكاتب أوربا والهند والآستانة. وله شروح عديدة لا محل لذكرها. (ب) «عمدة الحكام» منه نسخة في برلين. (ج) «الوافي في الأصول» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. (د) «تحفة الأقران» أرجوزة مشروحة، منها نسخة في المكتبة الخديوية. (ه) «عقد الجواهر النيرات في بيان خصائص الكرام العشرة الثقات» منه نسخة في المكتبة الخديوية. (و) «الفتاوى»، فيه أيضا. (3) «علي بن محمد بن علي بن غانم المقدسي الخزرجي نور الدين»: ولد في القاهرة سنة 920 وتوفي سنة 1004ه، وتولى التدريس في الأزهر، وله مؤلفات عديدة بقي منها خمسة أكثرها في الحديث؛ موجودة في المكتبة الخديوية خطية. (4) «أبو الإخلاص المصري الشرنبلالي»: من أكابر أساتذة الأزهر، توفي سنة 1069، وخلف مؤلفات كثيرة في الفقه الحنفي، بقي منها 16 مؤلف أكثرها خطي، ومنه أمثلة في المكتبة الخديوية يطول بنا تعدادها ووصفها، فإن ذلك من شأن تاريخ آداب اللغة العربية، وإنما أردنا هنا أن نأتي بأمثلة في حال العلم في العصر العثماني. (5) «عمر الدفري بن عمر الزهري الأزهري»: وهو أيضا من أساتيذ الأزهر، توفي سنة 1079ه وله بضع مؤلفات، منها نسخ خطية في المكتبة الخديوية وكلها في الفقه الحنفي. (6)
ومثله «إبراهيم بن سليمان الأزهري»: المتوفى سنة 1100ه، وغيره.
الفقه المالكي (1) «ابن جبريل المنوفي المصري الشاذلي»: توفي سنة 949ه، وله كتاب «المناسك» و«تحفة المصلحين» على مذهب الإمام مالك، وكلاهما في المكتبة الخديوية. (2) «بدر الدين القرافي المصري المالكي»: توفي سنة 1008، له رسائل في المذهب المالكي تزيد على ست، كلها موجودة في المكتبة الخديوية. (3) «أبو النور المالكي»: وهو أيضا من علماء المالكية الذين خلفوا آثارا، توفي سنة. (4) «برهان الدين اللقاني المالكي»: من أساتذة الأزهر، توفي سنة 1041ه، خلف مؤلفات عديدة بقي منها ستة: (أ)
جوهرة التوحيد، منها نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وفي أهم مكاتب أوربا، لها شروح عديدة بعضها مطبوع في القاهرة. (ب)
الفصول في الفقه. (ج)
نصيحة الأصول. (د)
مقدمة في العشق. (ه)
شرح الشمايل وكلها منها نسخ خطية في المكتبة الخديوية. (5) «نور الدين الأجهوري»: ولد في أجهور شمالي القاهرة سنة 967، وتوفي سنة 1066ه، وكان شيخ المالكية في الأزهر، وخلف عدة مؤلفات بقي منها إلى الآن خمسة عشر، أكثرها موجود في المكتبة الخديوية.
ومنهم أحمد الفيومي المتوفى سنة 1084، صاحب «حسن السكوك في معرفة آداب الملوك». و«عبد الباقي الزرقاني» المتوفى سنة 1099، صاحب شرح مختصر الخليل. وغيره. و«برهان الدين الشبراخيتي»، توفي سنة 1106ه، صاحب شرح المختصر و«شرح الأربعين»، وغيرهم.
الفقه الشافعي (1) «زين الدين أبو يحيى زكريا الأنصاري»: هو أشهر أئمة الشافعية في ذلك العصر. ولد في سفيكة شرقي القاهرة، وتعلم وتثقف حتى صار أستاذا في القاهرة. ثم صار كبير قضاة الشافعية. وتوفي سنة 926ه، وكان ثقة علامة، خلف مؤلفات يزيد عددها على 35 كتابا أكثرها لا يزال محفوظا خطيا في المكاتب الشهيرة في العالم المتمدن، وجانب كبير منها في المكتبة الخديوية ككتاب «اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم» وكتاب «المعضد لتخلص ما في المرشد في الوقف والابتداء»، و«فتح الرحمان بكشف ما يلبس القرآن» و«فتح الجليل ببيان خافي أنوار التنزيل للبيضاوي» و«منهاج الطلاب في الفقه»، وغيرها كثير، وهي فضلا عن وجودها في المكتبة الخديوية ، توجد أيضا في أهم مكاتب أوربا. (2) «شهاب الدين الرملي الأنصاري»: المتوفى سنة 957ه، وهو من أساتذة الأزهر، وله الفتاوى المعروفة باسمه، ومنها نسخة في المكتبة الخديوية وله غيرها. (3) «شمس الدين الشربيني القاهرة الخطيب»: المتوفى سنة 977ه، له شرح «منهاج الطالبين» منه نسخة في مكتبة برلين، و«السراج المنير في الإعانة على معرفة ربنا العليم الخبير». طبع في القاهرة سنة 1311 و«مناسك الحج» طبعت أيضا، وغيرها. (4) «عبد الله بن بهاء الدين الشنشوري»: من علماء الأزهر بالقاهرة، توفي سنة 999ه، له عدة مؤلفات منها: «المختصر في مصطلح أهل الأثر» له شروح، منها نسخ خطية في مكتبة برلين وغوطا وباريس. و«قرة العين» و«الفوائد الشنشورية» و«اللؤلؤة السنية» وكلها موجود في المكتبة الخديوية. (5)
ومنهم «عمر الفارسكوري» المتوفى سنة 1018ه، و«علي الشبرملي» المتوفى سنة 1087ه، و«عبد اللطيف البشبيشي» المتوفى سنة 1096ه، و«إبراهيم البرماوي» الأستاذ بالأزهر، توفي سنة 1106، وغيرهم ونجد من مؤلفاتهم أمثلة بالمكتبة الخديوية.
الفقه الحنبلي
وظهر من الفقهاء الحنابلة بمصر في ذلك العصر: «إبراهيم الزيني الحنبلي» المتوفى سنة
1 . وله كتاب: «روض المربى» في مناسك الحج - موجود في المكتبة الخديوية، واعتبر ذلك في سائر علوم القرآن. (12-6) التصوف
وناهيك بالتصوف، فقد نبغ فيه جماعة كبيرة بمصر، منهم: «علي الشوني» المتوفى سنة 944ه، و«أبو المكارم البكري الصديقي الأشعري» توفي سنة 952ه، وله بضعة وعشرون مؤلفا في التصوف، بعضها مطبوع والبعض الآخر موجود خطا في المكتبة الخديوية وغيرها.
وأشهر المتصوفة في ذلك العصر «أبو المواهب عبد الوهاب الشعراني الأنصاري»، عاش عيشة الصوفية وتوفي سنة 973ه، وله مؤلفات تعد بالعشرات منها: (1) «الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة»، وهي كالموسوعة في القرآن وعلومه، واللغة، والنحو، والمنطق، والتصوف، منها نسخة خطية في المكتبة الخديوية وفي مكاتب غوطا وبرلين. (2) «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر»، طبع في القاهرة مرارا. (3) «فرائد القلائد في علم العقائد» وغيره. (4)
أشهرها كتاب «لوامع الأنوار» المعروف بطبقات الشعراني، طبع مرارا، وغير هذه الكتب كثير لا محل لذكره.
ومنهم «كريم الدين الخلوتي » المتوفى سنة 986ه و«أحمد بن عثمان الشرنوبي» توفي سنة 994ه وأحمد بن محمد المتبولي المعيد في المدرسة المؤيدية بالقاهرة توفي سنة 1003ه. و«محمد الحجازي الجيزي» المتوفى سنة 1003. وقائد بن مبارك الإبياري سنة 1016، والبرلسي سنة 1097 وغيرهم. (12-7) سائر العلوم
فنرى مما تقدم أن أكثر اشتغال أهل ذلك العصر بالعلوم الدينية، من شرح أو تعليق، أو اختصار أو نحوها، على أنه نبغ فيهم غير واحد في العلوم الأخرى؛ فمن المنجمين: «بدر الدين مسبط المارديني» توفي سنة 924. وكان مؤقتا في الأزهر، وله عدة مؤلفات في التوقيت، منها نسخ خطية في المكتبة الخديوية. «وعبد القادر المنوفي» المتوفى سنة 980، كان مؤقتا في مدرسة الغورية.
و«مصطفى بن شمس الدين الشركسي الدمياطي الخلوتي» المتوفى سنة 1038.
و«عبد الله المقدسي الأزهري» سنة 1070ه و«رضوان أفندي الفلكي الرزاز» سكن بولاق وتوفي سنة 1122 وغيرهم.
ومن الأطباء في ذلك العصر «مدين بن عبد الرحمن القوسوني» توفي سنة 1044ه له كتاب «قاموس الأطباء» في المفردات، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية.
و«شهاب الدين القليوبي» توفي سنة 1069م، له كتاب «المصابيح السنية في طب البرية»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، و«تذكرة في الطب» فيها أيضا، وله كتب في مواضيع طبية وغيرها يزيد عددها على بضعة عشر مؤلفا. أكثرها موجود في المكتبة الخديوية خطا، وبعضها مطبوع، منها كتاب «نوادر القليوبي» طبع مرارا، وكذلك «تحفة الراغب» وغيره.
ومن العلماء الأعلام في كل فن وعلم «مرعي بن يوسف بن أبي بكر الكرمي زين الدين المقدسي» المعروف «بالشيخ مرعي». ولد في طول الكرم قرب نابلس، وتلقى العلم في القدس وفي القاهرة. استقر بالقاهرة أستاذا للفقه على مذهب الحنابلة في جامع «ابن طولون» حتى توفي سنة 1033ه. وله مؤلفات عديدة، بقي منها 21 كتابا بعضها طبع وانتشر، والبعض الآخر لا يزال خطا في المكاتب الشهيرة. فما طبع من كتبه كتاب «بديع الإنشاء والصفات في المكاتبات والمراسلات» طبع مرارا في الآستانة وبولاق والقاهرة. وما لم يطبع كتاب «قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن »، منه نسخ خطية في مكتبة برلين، وكتاب «الكلمات البينات» منه نسخة خطية بالمكتبة الخديوية، وغيرها كثير لا محل له.
تلك خلاصة تراجم العلماء والأدباء والشعراء وأمثلة من مؤلفاتهم في الدور الأول في العصر العثماني بمصر على قدر ما يسمح به المقام، فلنعد سياق التاريخ السياسي من الدور الثاني، فما بعده.
الدور الثاني من سيادة الدولة العثمانية على مصر
(من سنة 1115-1117ه ومن 1703-1763م) (1) انتقال النفوذ إلى المماليك
استغرق هذا الدور 62 سنة تولى في أثنائها على العرش العثماني أربعة سلاطين، ويمتاز عن الدور السابق أن النفوذ فيه تحول من الجند والباشا إلى البكوات المماليك، وقبل التقدم إلى ذكر أخبار هذا الدور نمهد الكلام في المماليك وسيادتهم.
قد علمت من النظام الذي وضعه السلطان سليم عند فتح مصر أنه جعل للأمراء الذين بقوا من دولة المماليك عميلا يكون وسيلة للموازنة بين سلطة الباشا وقوة الجند لأن أولئك الأمراء كانوا أعداء لكلا الفريقين. فجعلهم حكاما على الأقاليم، وهي 12 إقليما أو سنجقية (مديرية) يتولى كلا منها أمير من المماليك بلقب بك؛ ولذلك عرف الأمراء المماليك أيضا بالبكوات المصرلية. ومنهم أمير يتولى حكومة القاهرة كانوا يسمونه: «شيخ البلد». ومشيخة البلد منصب ضعيف في حد ذاته، لكن الأحوال جعلته أهم مناصب مصر. وكان الأمراء المماليك كعادتهم في أيام سلطنتهم يتوقون بالاستكثار من المماليك بالشراء. ومنهم تتألف الأحزاب وينسب الحزب صاحبه أو زعيمه، فيقولون مثلا: المماليك القاسمية نسبة إلى: «قاسم بك» والرضوانية إلى رضوان بك كما سترى.
وكانوا في أول سلطنة العثمانيين قد أدهشهم الفتح وقنعوا بالبقاء في مناصب الحكومة. وكانت الدولة العثمانية شديدة ولها هيبة.
فلما ذهبت هيبتها بتوالي الزمن - كما تقدم - اشتدت سواعدهم، وصاروا يحتقرون ولاتها، ولا سيما بعد أن وقع الخلاف بين الباشوات والجند وتداخلوا، وجعل النفوذ يتحول إليهم رويدا رويدا على مقتضى الأحوال حتى صار منصب شيخ البلد أهم المناصب وصاحبه أعظم الأمراء، وإليه يرجع الحل والعقد. فلنعد إلى سياق التاريخ. (2) سلطنة أحمد بن محمد
من سنة 1115-1143 أو من 1703-1730م
تولى السلطان أحمد المذكور وعمره بضع وثلاثون سنة، وكان حكيما، فأنعم على الإنكشارية بالأموال وفوض إليهم قتل المفتي «فيض الله أفندي»؛ لأنه قاومهم في أعمالهم. فلما استقر الأمر وثبت قدمه في الدولة، اقتص من الإنكشارية، فقتل منهم جمعا كبيرا وعزل رئيسهم - الأغا - وولى عليهم ابن أخته الداماد «حسن باشا». ولكن الدسائس غلبت على هذا التعيين فعزل وتولى غيره. وتكاثر عزل الصدور، وشغلت الدولة بداخليتها عن خارجيتها، ولم تنتبه لما كان يجريه «بطرس الأكبر» ملك الروس في بلاده ولا إلى سياسته في خارجها، وهي تقضي بإضعاف جيرانه حتى يبتلعهم. وكان قد أخذ بإخراج مشروعه إلى حيز العمل، فحارب شارل الثاني ملك أسوج وغلبه.
وأفضت الوزارة إلى «محمد باشا البلطجي» فمال إلى إشهار الحرب على الروس وقاد الجيوش بنفسه. وبعد وقائع عديدة حصر العثمانيون إمبراطور الروس وامرأته، ولو طال الحصار لغلبوا على أمرهم وسلموا، ولكن «كاثرينا» زوجة الإمبراطور «بطرس» استمالت «البلطجي» المذكور، وأغرته بالجواهر، فأعطته كل ما كان معها منها، فرفع الحصار واكتفى بمعاهدة لم تغن الدولة فتيلا.
وتوالى الصدور، وهم مختلفون ميلا إلى الحرب أو السلم فكانت حال الدولة تختلف لاختلاف ذلك مما ليس هو محل الكلام عليه.
وفي عهد هذا السلطان، دخلت الطباعة المملكة العثمانية، وتأسست دار الطباعة في الآستانة بفتوى من شيخ الإسلام تقضي ألا يطبع القرآن بحروف الطباعة؛ خوفا من وقوع التحريف فيه، وتولى على «مصر» سنة 1119 «حسن باشا» واليا. (2-1) قاسم بك وذو الفقار بك أو المماليك القاسمية والفقارية
أما مصر فصار النفوذ فيها إلى الأمراء المماليك - كما تقدم - وكانوا في أيام هذا السلطان حزبين كبيرين يعرفان بالمماليك «القاسمية» نسبة إلى «قاسم بك » و«الفقارية» إلى «ذي الفقار بك» وكان هذان الحزبان لا ينفكان عن المنافسة، يحاول كل منهما اكتساب النفوذ دون الآخر.
أما أصل هذين الحزبين ففيه أقوال، منها: أنهما ينسبان إلى أخوين هما: «قاسم بك» و«ذو الفقار بك» ولدي سودون أحد أمراء المماليك في عهد السلطان «سليم الفاتح» وأن السلطان سليم هو الذي نشطهما ونشط أحزابهما.
وقد ذكر «الجبرتي» لذلك قصة طويلة لا حاجة بنا إلى ذكرها.
وبعضهم يقول إن هذين الحزبين ينسبان إلى «قاسم عيواظ بك» الدفتردار و«ذي الفقار بك الكبير» سنة 1050ه. وكان «قاسم عيواظ» رئيس الطائفة القاسمية، وذو الفقار رئيس الفقارية. وكان لكل من هاتين الطائفتين مناقب خاصة بها. «الفقارية»: كانت توصف بالكثرة والسخاء و«القاسمية»: بالثروة والبخل.
وشارية «الفقارية»: علم أبيض مزاريقه رمانة.
والقاسمية: علم أحمر.
وكانت هاتان الفئتان قبل تولي «حسن باشا» المتقدم ذكره. في وفاق تام. فلما جاء خشي من اتحادهما فعمد إلى الدسائس، فألقى بينهما الشقاق فحصلت بين الطائفتين وقائع دامت ثمانين يوما، فكانوا يخرجون من القاهرة إلى مكان يعرف بقبة العزب يوميا، ويأخذون في الكفاح من شروق الشمس إلى غروبها ثم يعودون إلى القاهرة، فيقضون الليل بسلام في بيوتهم بين نسائهم وأولادهم ثم يعودون في الصباح إلى المحاربة. ومن الغريب أن هذه المحاربات لم تؤثر في الراحة العمومية مطلقا، فظلت الأشغال جارية في مجراها والحوانيت والمخازن تفتح وتقفل كالعادة. (2-2) مشيخة إسماعيل بك
وانتهت تلك الوقائع بوفاة «قاسم عيواظ بك» فأسف عليه الناس، وبكوه بكاءهم على حاكم عادل أو أب حنون بار. ولم يبق صديق ولا عدو إلا بكاه؛ لأنه كان فضلا عن حكمته وعدله ودعته شجاعا باسلا أبي النفس. فأقاموا ابنه «إسماعيل بك» مكانه «شيخ البلد».
وقد تقدم أن مشيخة البلد منصب كان يتولاه أحد البكوات المماليك، كما يتولون إدارة المديريات، ويقابل محافظ القاهرة اليوم.
ولم يكن المنصب نفسه مهما، لكن تراخي الباشوات واستفحال أمر المماليك جعل لهذا المنصب أهمية كبرى حتى أفضى بتوالي الأيام إلى صاحبه، وصار إليه الأمر والنهي - كما سترى.
ولما تولى السلطان «أحمد» كان على مشيخة البلد «قاسم عيواظ بك» - المتقدم ذكره - فلما مات، خلفه ابنه «إسماعيل» وصادق الباشا على ذلك لظنه أن إسماعيل لصغر سنه، يكون آلة في يده يديرها كيف شاء، فازداد كدر «ذي الفقار بك» واشتد حنقه؛ لأنه كان ينتظر أن يئول ذلك المنصب إليه.
وكان «إسماعيل» عاقلا حكيما كوالده، عارفا وجه الربح والحق، فسعى في الوفاق مع طائفة الفقارية، فاتحدت الطائفتان على الباشا. وكان إسماعيل من الجهة الأخرى يظهر الطاعة والرضوخ لأحكام الباشا لأنه رئيسه، لكنه لم ينفك ساعيا سرا في خلعه، فكتب عنه إلى الآستانة ففاز بعزله، فجاء غيره ثم أبدل بآخر فآخر و«إسماعيل بك» في منصبه يحبونه إلى ما يشبه العبادة.
ومما يحكى عنه أن أحد تجار القاهرة في أيامه واسمه: «عثمان» باع لأحد القبقجية (لقب الحرس السلطاني) ثلاثمائة قفة بن إلى أجل مسمى، وكتب عليه بذلك صكا. فقبل الاستحقاق جاء الآستانة إعلان بخيانة القبقجي والحكم عليه بالإعدام حالا، فجيء به إلى الباشا، فقتله، ووضع يده على تركته، وفيها البن كما هو، فعلم «عثمان» التاجر بذلك، فعرض لإسماعيل ما كان من أمر البن فأجبر الباشا أن يرجع البن لصاحبه قبل كل شيء، ففعل، فأصبح «عثمان» في حال من الامتنان لا يعرف كيف يبينها، فلاح له أن يهديه علبة مرصعة، وبضعة قناطير من السكر النقي، فرفض «إسماعيل بك» الهدية، وخاطب عثمان التاجر قائلا: «إذا كان المال الذي حصلت عليه بواسطتي حقا لك، فأكون قد فعلت الواجب علي، والله يكافئني، فإذا قبلت هديتك أظلم نفسي. أما إذا كان هذا المال ليس لك وإنما حصلت عليه بالخيانة فقبولي هديتك يعد مشاركة لك في الخيانة، لكنني مع ذلك أقبل السكر الذي حملته إلي على أن تقبض ثمنه من وكيلي لأنني سآمره أن يدفعه إليك.»
ويحكى عنه أيضا أنه كان يأدب في ليالي رمضان مأدبات يجتمع إليها العلماء والفقهاء ومشائخ والقراء القرآن، ولم يكن يؤذن لغير هؤلاء في الحضور فيها. فرأى ذات ليلة رجلا بين الحضور عليه ملامح الكآبة، فأوصى بعض الخدم متى انفض الاجتماع، أن يأتوا به إليه، ففعلوا. فلما حضر بين يديه، أعطاه مصحفا، وأمره أن يتلو عليه سورة. فتوقف الرجل وجلا، ثم ترامى على قدمي البيك متضرعا وقال: «يعش سيدي البك إني رجل نجار لا أعرف القراءة، وإنما أتيت إلى هذه المأدبة متنكرا بثوب الفقهاء لأملأ جوفي من الطعام، فإني في حالة من الفاقة شديدة.» فأنصفه. ولم يكتف بالإغضاء عن ذنبه لكنه جعله في عداد خدمته، وجعل لعائلته راتبا معينا وصار هذا النجار بعد ذلك من أصدق الخدمة وأكثرهم عزة وهمة.
وما زال «إسماعيل بك» شيخا للبلد 16 سنة، تقلب في أثنائها على «مصر» عدة باشوات كانوا اسما بلا مسمى.
وكان لحسن سياسته قد أوقف الفقاريين عن كل حركة لتظاهره أنه على وفاق معهم، فلم يترك لهم فرصة يتحدون بها عليه، على أنه ارتكب خطأ واحدا آل إلى قتله. وذلك أن أحد المماليك الفقارية واسمه «ذو الفقار» أيضا كان له عقار يقوم بنفقات عائلته، فاختلسه منه أحد المماليك القاسمية - من مماليك إسماعيل - فرفع «ذو الفقار» دعواه إلى شيخ البلد إسماعيل، فلم يصغ لطلبه فرفع دعواه إلى زعيم الفقارية، ويقال له «شركس بك». وكان خصما لإسماعيل بك بالفطرة، فسار إلى الباشا وخاطبه بشأن تصرف إسماعيل. وكان في قلب الباشا حزازات من الحسد عليه، فوافقه على الإيقاع به، ثم قال له:
ليس لك وسيلة أفضل من أن تبعث أحد مماليكك وتأمره بقتله وأنا أجعل له جميع ما يتركه من المال والنساء مكافأة لأتعابه.
فوافقه على رأيه، وعين لتلك الفعلة أول يوم يجتمع فيه الديوان. وأمر مملوكه «ذو الفقار» أن يستعد لإجرائها، فقبل اعتمادا على وعد الباشا. ففي اليوم المعين، جاء «ذو الفقار» إلى الديوان وفيه «إسماعيل بك» فتقدم إليه وقبل يده قائلا: أرجو أن تأمر بإرجاع عقاري إلي. فأجابه «إسماعيل بك» سننظر في طلبك هذا. فألح عليه، فانتهره، فاستل خنجرا ماضيا بقر به بطنه، فتدفقت أمعاؤه، ومات ساعته في وسط الديوان، فهجم رجال الباشا، وقتلوا كل من كان هناك من رجال إسماعيل، ولم ينج منهم إلا سريع العدو. هكذا كانت نهاية حكم إسماعيل بك سنة 1136ه فنقلت جثته إلى بيته، ثم دفنت بجانب جثة أبيه بجوار باب اللوق.
فتولى مشيخة البلد «شركس بك» واستولى «ذو الفقار» على جميع ممتلكات «إسماعيل بك» ونسائه حسب وعد الباشا فأصبح رجلا عظيما يشار إليه بالبنان، وفي حوزته مئات من المماليك، فخافه «شركس بك» وأخذ يسعى في إذاقته ما أذاقه لإسماعيل بك. فعلم «ذو الفقار» بتلك الدسائس، فجمع إليه رجاله، وفيهم عدة من رجال العثمانيين، وهجم على شركس بك، فجرت واقعة لم يستطع رجال شركس الثبات فيها أكثر من ربع ساعة فقتل معظمهم، وفر الباقون، وزعيمهم معهم يطلبون الصعيد وهو الملجأ الوحيد للبكوات المغضوب عليهم. (2-3) ذو الفقار بك
فتولى ذو الفقار مكانه مع لقب بك، بعد أن أقر الباشا على ذلك، وأصبح ذو الفقار عدوا لأترابه البكوات، وعلى الخصوص لأبي دفية، وسمي بذلك لأنه كان يتشح برداء كبير يقال له دفية، ثم أنبئ «ذو الفقار بك» أن أبا دفية ساع في إهلاكه، وحاول ذلك مرارا ولم ينجح.
أما «شركس بك» فجمع دعاته في الصعيد، وسار بهم نحو القاهرة، فأرسل «ذو الفقار بك» «عثمان كاشف» أحد كبار قواده في فرقة من المماليك لمحاربته، فتقهقر «شركس» ورجاله فرارا حتى لحق ببلاد البربر.
فسكر «ذو الفقار» من خمرة النصر، وأخذ في الانتقام من البكوات الذين في القاهرة، وقتل منهم من يظن فيه الانتماء إلى «شركس بك»، وهم كثيرون. فاتحد من بقي حيا مع رئيس الشرطة، والأغا رئيس الإنكشارية، وبعثوا إلى شركس بك بما كان من فعلة «ذي الفقار» وتعاهدوا جميعا على محاربته، وانضم إليهم «مصطفى القرد» وكان من أعداء ذي الفقار ومعه جماعة من الرجال الأشداء، فقدم «شركس بك» إلى القطر المصري، فعلم «ذو الفقار» بذلك، فجمع إليه العلماء والمشائخ، وشاورهم في الأمر، فأجمعوا على عدم مناسبة الهجوم في تلك الحال، إلا إذا تأكد الفوز، فلم يصغ لمشورتهم، فأرسل «عثمان بك» أحد قواته لمحاربة «شركس بك»، فحصل بينهما واقعة، قتل فيها «مصطفى القرد» وغرق «شركس بك» في النيل وهو يحاول الفرار.
فبعث «عثمان بك» برأسيهما إلى «ذي الفقار». أما هذا فلم يهنأ بذلك النصر لأنه قتل بعد قتل عدوه «شركس» بيومين، بمكيدة أعدها له البكوات في القاهرة وذلك أنهم ألبسوا واحدا منهم دفية، وجاءوا به إلى بين يدي «ذي الفقار» وقالوا له: «هذا أبو دفية قد جعله الله في أيدينا.» وكانوا قد جعلوا تحت دفيته عيارين ناريين، فلما وقف بين يديه، أطلقهما دفعة واحدة، فسقط «ذو الفقار» مضرجا بدمائه في وسط ديوانه سنة 1142ه، فعلم «عثمان بك» بما أصاب رئيسه، فهرع للأخذ بثأره، فدخل القاهرة، وجعل يفتك بمن يصادفه في طريقه، فخافه الجميع.
ثم إن «محمد بك» أحد البكوات الذين كان يترقبهم «عثمان بك» رأى منصب مشيخة البلد خاليا فطمع فيه، فعاهد صديقه «صالح كاشف» على أن يقتلوا من بقي من زملائه البكوات بمكيدة ينصبها لهم. فأدب «محمد بك» مأدبة فاخرة دعاهم إليها، فلبوا دعوته. ثم علموا بمكيدته فقاوموه مقاومة شديدة وتمكنوا من قتله. فيئس «صالح كاشف» من مرامه، ففر إلى القسطنطينية بعد أن شاهد رءوس البكوات ملقاة على الطريق أمام جامع الحسين.
ثم عقب هذه القلاقل ضربة أشد وطأة؛ نعني الوباء الذي أصاب مصر في تلك السنة، ويدعى طاعون الكي، فإنه انتشر في البلاد انتشارا سريعا، وفتك في العباد فتكا ذريعا ووافق كل هذه الضربات خلع السلطان أحمد الثالث في جمادى الأولى سنة 1143ه. (3) سلطنة محمود بن مصطفى
من سنة 1143-1168ه ومن 1730-1754م
هو محمود الأول، ولد سنة 1108ه، فكانت سنه لما تولى العرش العثماني 35 سنة، وكان النفوذ عند توليه لرئيس الإنكشارية حتى نقم عليه الإنكشارية أنفسهم، فقتلوه وعادت السكينة وأمن الناس.
وفي أيامه ظهر «نادر شاه» القائد الفارسي الملقب «بنابليون الشرق» لكثرة فتوحه. وكانت الدولة تحارب الفرس، وكادت تذهب فيها، فعاض «نادر شاه» ووقف في طريقها.
وجرت في أيام هذا السلطان حروب ومعاهدات مع دول أوربا. وقد توفي السلطان المذكور، وأسفه العثمانيون لأنه كان عادلا حليما فيه ميل إلى المساواة بين الرعايا.
وفي أيامه اتسع نطاق المملكة العثمانية بآسيا وأوربا وعقد معاهدة في بلغراد مع الروس محت العار السابق.
ومن آثاره أنه أسس أربع كتبخانات ألحقها بجوامع آيا صوفيا، ومحمد الفاتح، والوالدة وغلطه سراي.
وكان الباشوات الذين تولوا مصر في أيامه أكثر أهلية من سابقيهم، ولكن الأحكام كانت بالحقيقة قائمة بمشائخ البلد، ولهم الحل والعقد لا يستطيع الباشوات معارضتهم في شيء. (3-1) مشيخة عثمان بك
فبعد قتل ذي الفقار بك تولى مكانه عثمان بك، المتقدم ذكره. فرقى كثيرين من مماليكه إلى رتبة البكوية ليقوموا مقام الذين هلكوا بالحوادث الأخيرة.
وكان «عثمان بك» عادلا حازما، ولكنه كان صارما لا يراعي في تنفيذ العدل جانبا، فعلم أن أحد بكواته سعى في إقليمه ظلما فاستدعاه إليه، فتحقق ارتكابه، فقطع رأسه.
ويحكى عن «عثمان بك» حوادث كثيرة تشير إلى حزمه واستقامته، وقسطه، لا بأس من ذكر بعضها على سبيل المثال:
يحكى أن حمارا من حماري القاهرة أراد ترميم مذود حماره، وهو يفعل ذلك عثر في أحد جدران البيت على وعاء مملوء ذهب، ففرح جدا، وأخذ الوعاء وسلمه إلى امرأته، وأوصاها أن تكتم الأمر لئلا ينكشف للحكومة، فتأخذ المال منه لأن لها وحدها الحق بالاستيلاء على مخزونات الأرض. فطلبت المرأة من زوجها أن يبتاع لها حليا وثيابا فاخرة لتتمتع بتلك الهبة. فأبى زوجها إجابة طلبها لئلا يئول ذلك إلى كشف الحقيقة، فاغتاظت، وأسرعت لساعتها ووشت به إلى «عثمان بك» فاستدعى الحمار، وبعد أن سمع حقيقة الحال صرفه قائلا: «احفظ ما وهبك الله، وطلق امرأتك، وعش بسلام.»
ولما جاء الوباء إلى مصر، كان «عثمان بك» في أول حكمه، فلما رأى الجوع الذي عقب الوباء، فتح مخازنه وخزائنه، وفرق الأقوات والأموال في الناس. ومع ذلك لم يستطع النجاة من مكايد ذوي المطامع، وفي مقدمتهم «إبراهيم وإسماعيل رضوان» الأول كخيا الإنكشارية، والآخر كخيا العزب، وكان كلاهما من المماليك. الواحد من طائفة الكزدغلية، والآخر من طائفة الجلفية، وأصل الطائفة الأولى مملوك يقال له: «الكزدغلي» كان سروجيا، وأصل الطائفة الثانية «أحمد الجلفي» كان في أول أمره شيالا، وأغناه الله بطريقة في غاية الغرابة، لا بأس من ذكرها وهي:
جاء بعض المماليك إلى إحدى معاصر الزيت ليبتاع مئونة بيته من الزيت مدة السنة، وكان «أحمد الجلفي» في تلك المعصرة، فابتاع المملوك الزيت، واستأجر «أحمد» فحمله وسار معه حتى بلغ بيته، فأنزل الحمل ووقف ينتظر أجرته، فجاءه المملوك وطلب إليه أن يساعده في إخفاء مبلغ من النقود في أحد جدران البيت، وألح عليه أن يكتم الأمر سرا، وأعطاه بضعة دراهم مكافأة لذلك، فساعده، وأخذ الدراهم وسار في سبيله حامدا شاكرا. وبعد ثلاثين يوما اتفق له المرور بالقرب من ذلك البيت، فشاهد جماهير متجمعة، ثم علم أن ذلك المملوك توفي وقد تركته للمبيع، فتقدم أحمد وابتاع البيت الذي فيه المخبأة، وبعد انفضاض الجمع استخرج النقود، وسار بها إلى قريته «جلف» في الصعيد وامتلك ممتلكات كثيرة.
ثم اتسعت ثروته، وما زال حتى أصبح زعيما لعصابة كبيرة نسبت إليه.
وكان «إبراهيم وإسماعيل رضوان» في بادئ الرأي على تباين كلي بالأدبيات والماديات: كان إبراهيم في ضيق من المعاش مع إقدام وبسالة ومطامع كبيرة. وكان «إسماعيل» غنيا بليدا لا يهمه إلا التمتع باللذات والشهوات. فكان إبراهيم في احتياج إلى إسماعيل ولذلك كان يتقرب منه. ثم تزوج «إبراهيم» ابنة «محمد البارودي» أحد التجار الأغنياء، وأخذ معها مالا كثيرا، فتمكن بذلك من التقرب إلى بيت شيخ البلد، وإلقاء المفاسد فيه بواسطة بعض المماليك والأتراك وغيرهم من ذوي الرتب، كان يستعملهم آلة لتنفيذ مآربه.
ثم تأتى له الارتقاء إلى رتبة البكوية مع صديقه «إسماعيل رضوان» فصار اسمه «رضوان بك»، واتحد الاثنان على السراء والضراء، ووحدا ممتلكاتهما، واجتزآ بالسواء في محصولاتها. فأوجس «عثمان بك» خيفة من سرعة نمو ثروتهما، وملافاة لما كان يخشى حدوثه من طموح أنظارهما ضم إليه ثلاثة أحزاب: أحدها حزب «إبراهيم بك القطامش» وفيه ثلاثة بكوات، والثاني حزب «علي بك الدمياطي» وفيه بيكان والثالث حزب «علي كخيا الطويل»، وشاورهم في الأمر فأقروا على قتل «إبراهيم بك»، وكان إذ ذاك كخيا الإنكشارية، و«رضوان بك»، فوافقوه على ما أراد.
وكان وكيله أحمد السكري من مماليك «إبراهيم بك» فلم يمكنه كتمان ذلك عنه، فجاء إليه وأخبره بجميع ما كان من التواطؤ على قتله وقتل رفيقه، فسار الحال إلى «رضوان بك» وأخبره وتشاوروا بشأن ذلك، فقررا نصب أحبولة يقتلان بها «عثمان بك»، فبعث إليه رجالا يترصدونه في طريقه إلى القلعة فمر ووثبوا عليه، ففر بجواده حتى دخل القلعة، ولم يظفروا به، فلاقاه وكيله وقد أضمر له الشر فسأله عما ألم به، فأخبره بما كان، فكلمه بلسان الثعلب ناصحا له أن يبرح المدينة حالا؛ لأن الناس قد قاموا يطلبون قتله، وما زال حتى أقنعه ففر إلى «سوريا» وسار هو معه حتى إذا دنوا من غزة تنحى أحمد عن الطريق واختبأ في قرية يقال لها الأشرفية، بحجة استطلاع الأحوال لحماية «عثمان بك» فتربص هناك مدة ثم عاد إلى «القاهرة» بمن معه من المماليك، وسار إلى «إبراهيم بك» وأعلمه بما فعله، فكافأه على تلك الخيانة برتبة البكوية، وهم الأهلون ببيت عثمان فأحرقوه، واقتسموا تركته.
أما هو فوصل «سوريا» وحده، وسار منها إلى الآستانة، فولي بورصة ولبث فيها حتى توفاه الله. وجميع هذه الحوادث توالت على «مصر» في أثناء سنة 1156ه. (3-2) إبراهيم كخيا ورضوان بك
فلما خرج «عثمان بك» من «مصر» صفا الجو «لإبراهيم كخيا» و«رضوان بك». فعملا على إبادة الأحزاب التي تآمرت عليهما فأخذ «رضوان بك» على نفسه قتل «علي كخيا الطويل». فأمر أحد مماليكه أن يقتله بالرصاص في وليمة حافلة، فلبى المملوك الأمر، لكنه أخطأ الرمي. وعوضا من أن يصيب «عليا» أصاب مملوكه الذي كان بجانبه، فقبض عليه وقتل للحال.
أما «إبراهيم كخيا» فتكفل لإهلاك من بقي من الأحزاب، وكان على ولاية مصر إذ ذاك «كيور أحمد باشا» فطلب إليه إبراهيم أن يوافقه على إبادة البكوات، فوافقه. وربما فعل ذلك، خوفا منه أو لأنه يعود عليه بالنفع الشخصي، واستعانوا بالنقود، فبذلوها فسهلت مشروعهم حتى قتلوا «علي بك الدمياطي» بيد وكيله «سليمان» في وسط الديوان. وقد وعدهم هذا بتسليم رءوس البكوات الآخرين من أحزابه. فأمر «إبراهيم كخيا» و«رضوان بك» أن تقفل جميع منافذ القلعة على من فيها من البكوات المنوي قتلهم، وجعلا على بابي الإنكشارية والعزب جندا، وحافظ «سليمان» على وعده، فبوشرت المذبحة وأول من قتل فيها «خليل بك» من دعاة «الدمياطي » و«محمد بك» من دعاة «قطامش» وكثيرون غيرهم.
وحاول «علي بك» و«عمر بك البلاط» الفرار، فتبعهما الباشا بنفسه. ثم لاقاهما «إبراهيم» و«رضوان» وقتلاهما عند باب القلعة، ولم يدفن من القتلى إلا «محمد بك» و«خليل بك».
ولم يبق من مناظري «إبراهيم كخيا» و«رضوان بك» إلا «إبراهيم قطامش» و«علي كخيا الطويل» فالأول مات من الحزن بعد مدة قصيرة، والثاني هاجر من تلقاء نفسه تاركا الدار تنعي من بناها، فصفا الجو لإبراهيم كخيا، فتولى مشيخة البلد وسمى «رضوان بك» أميرا للحج ثم جعلا يتبادلان هذين كل سنة، وعاد كل منهما إلى ميله الطبيعي: «إبراهيم» إلى مطامعه، و«رضوان» إلى ملاهيه. فأخذ «إبراهيم كخيا» يفسد الأحكام، ويستخدمها لاسترجاع ما بذله للحصول عليها، فلم يغادر وسيلة إلا استخدمها في سبيل مطامعه من قتل وهتك.
فابتدأ بسليمان قاتل «علي بك الدمياطي»، فحجر عليه في القلعة، ولم يفرج عنه حتى استرجع منه ما كان أعطاه من النقود، ثم باغت من بقي من الأغنياء في القاهرة، ووضع يده على ممتلكاتهم بعد أن قتل بعضا منهم، وبقي البعض الآخر فاستولى في يوم واحد على أموال ثمانين بيتا من بيوت القاهرة، ووضع يده على محصولات البلاد والجمارك والقرى والمخازن حتى الحوانيت الصغيرة، فلم يبق ولم يذر.
وكان «كيور أحمد باشا» قد استدعي إلى الآستانة، وولي حكومة قبرص فأقيم مقامه باشا آخر سنة 1156ه فعامله «إبراهيم كخيا» بالاحتقار، فحقد عليه. ثم اتفق غياب «إبراهيم» في قافلة الحج إلى مكة، فاغتنم الباشا غيابه. وتواطأ مع «حسين بك الخشاب» على مكيدة يعدانها لإبراهيم. فاتفق على أن يقوم الخشاب بقتل «إبراهيم» ورفيقه «رضوان» وأن يكافئه الباشا على ذلك بمشيخة البلد .
فلما رجع «إبراهيم» سعى «الخشاب» في إنجاز وعده، ففاز بالقبض على الاثنين، فسجنهما في القلعة، فولاه الباشا مشيخة البلد، لكنه لم يهنأ بها لأن دعاة «إبراهيم كخيا» اتحدوا وهجموا على «حسين بك» والباشا، وأخرجوا المسجونين، ففر الخشاب إلى مصر العليا واختبأ من إبراهيم في بلاد النوبة. أما الباشا، فاستدعي إلى الآستانة وعاقبه السلطان عقابا انتهى بالموت. (3-3) نشأة علي بك الكبير
وكان في حوزة «إبراهيم كخيا» أكثر من ألفي مملوك، من جملتهم «علي» الذي سيلقب بعلي بك الكبير ويكون له شأن عظيم لهذا التاريخ، وسترى في سيرته أنه من أفراد الدهر حزما وبطشا وحكمة. وكان «علي» سلحدارا بين مماليك «إبراهيم كخيا» وكان إبراهيم يحبه كثيرا ويجل مواهبه حتى جعله ناقل سيفه. ومما زاده تعلقا به أنه اصطحبه إلى الحرمين في قافلة. وكان قد صار كاشفا فسار قائدا لتلك القافلة، فلاقاهم في الطريق عصابة من اللصوص، فدفعهم «علي» بقلب لا يهاب الموت، فلقبوه بالجني. ولما رجع «إبراهيم كخيا» إلى القاهرة عزم على مكافأة «علي» برتبة بك، لكن صغر سنه ودسيسة الخشاب حالا دون ذلك.
ثم عقب ذلك مشاغل أكثر أهمية زاد الأمر تأخيرا وذلك أنه جاء القاهرة خبر وصول باشا جديد إلى الإسكندرية بدلا من الباشا الذي أخرج منها، وكان من عادة رجال الحكومة في مصر إذا علموا بمجيء باشا جديد أن يبعثوا وفدا يلاقونه في الإسكندرية، وفيهم العيون والجواسيس فيحيطون به يستطلعون مقاصده ونواياه ويطلعون على ما في يده من الأوامر السلطانية، فإذا رأوا تلك الأوامر سليمة ومقاصده حسنة رحبوا به وفتحوا له الطريق حتى يصل بولاق، فيحتفل الأمراء بلقائه. أما إذا تبينوا من أحواله غير ذلك، وبلغوا الأمراء بالقاهرة فيجتمعون ويقرون إعلانه أن يقف حيث هو، ويكتبون إلى ديوان الآستانة بعدم موافقة ذلك الباشا الجديد، وأن بقاءه في مصر مخل بالنظام العمومي أو ربما حمل الرعية على الثورة. ثم يطلبون استبداله بآخر أكثر موافقة للبلاد منه.
فلما اتصل بهم خبر قدوم هذا الباشا واسمه «راغب محمد باشا» سار شيخ البلد بنفسه لاستقباله ومعه البكوات فخلع على كل واحد منهم خلعة كالمعتاد، ثم اجتمعوا جميعا بجلسة رسمية وأقسموا على الطاعة والإخلاص لأمير المؤمنين، وأحب الأمراء «راغب باشا» محبة عظيمة لأنه عرف كيف يعامل شيخ البلد، فأحبته الرعية ومالوا بكليتهم إليه فقضى بين ظهرانيهم سنتين كلهما سلام وطمأنينة حتى أجمع البكوات على استبقائه بينهم زمنا. وهم في ذلك، ورد إلى الباشا خط شريف أن يسعى جهده في قطع دابر البكوات، وفي جملتهم شيخ البلد ومن يلوذ به، فاستنتج الباشا من نص ذلك الخط أن ديوان الآستانة مشتبه بتصرفه في مصر وأنه وشي إلى جلالة السلطان بأن اتفاقه مع بكوات مصر ليس إلا لعزمه على استخدامه في مآربه بالاستقلال بحكومة مصر وإخراجها من طاعة الدولة العلية، فوقع في حيرة وتردد بين أن ينفذ الأوامر الشاهانية مع ما فيها من الخطر، أو أن يعصيها، أو يؤخرها، فيعرض حياته للخطر ويؤيد التشكيات التي تقدمت بحقه.
وبعد أن نظر في المسألة من سائر وجوهها، فضل الفتك بأصدقائه البكوات، فتواطأ مع عصابة من رجاله أنه متى اجتمع البكوات في مجلسه، فليكونوا على استعداد للهجوم عليهم معا عند أول إشارة.
ففعلوا ما أمرهم به، لكنهم لم يفوزوا كل الفوز لأن ثلاثة من البكوات تمكنوا من النجاة، وفي مقدمتهم شيخ البلد بعد أن جاهدوا الجهاد الحسن وأوسعوا الباشا تعنيفا على فعلته هذه التي لم يكونوا ينتظرونها من بعد ما أظهروه نحوه من اللطف والإخلاص. فبرأ ساحته باطلاعهم على الفرمان السري الوارد له بهذا الصدد. فكفوا عن الانتقام منه، لكنهم عزلوه. وكتبوا إلى الآستانة يطلبون بدله، وعينوا ثلاثة بكوات في مكان الثلاثة الذين قتلوا بتلك المكيدة.
واغتنم «إبراهيم كخيا» هذه الفرصة لترقية «علي» كاشفا فرقاه إلى رتبة بك، فشق ذلك على أحد البكوات المدعو «إبراهيم بك» شركسي المولد يعرف «بإبراهيم بك الشركسي» وكان من دعاة «إبراهيم كخيا» لكنه تظاهر عند ذلك بعداوته، ونمت بينهما الضغائن ولم تنته إلا بقتل «إبراهيم كخيا» بعد ذلك بخمس سنوات بيد «إبراهيم بك الشركسي» المذكور سنة 1168ه. وفي تلك السنة، توفي السلطان «محمود بن مصطفى». (4) سلطنة عثمان بن مصطفى
من سنة 1168-1171ه أو من 1754-1757م
هو عثمان الثالث، ولم يحكم إلا ثلاث سنوات لم يحدث في أثنائها ما يستحق الذكر في المملكة العثمانية حتى في مصر. فإن «إبراهيم الشركسي» شفى غليله بقتل «إبراهيم كخيا » لكنه لم يرو مطامعه؛ لأن مشيخة البلد انتقلت إلى «رضوان بك» صديق «إبراهيم كخيا».
ثم ظهر لرضوان منافس آخر من زعماء حزب إبراهيم يقال له «حسين بك» أصبح بعد قتل الكخيا أكبر رجال ذلك الحزب، فادعى لنفسه الأولوية بمشيخة البلد، فلم تقبل دعواه، فجمع إليه بعض دعاته المماليك، وصعد إلى قلعة القاهرة واستولى على بطارية من المدافع تشرف على بركة الفيل حيث يقيم «رضوان بك» فأطلق بعض القنابل على المنازل، فغرقت جدرانها، فتداعت أركانها و«رضوان بك» مشغول بحلاقة لحيته، فلما أحس بالأمر، طلب جواده، ولم يعل ظهره حتى أصيب برصاصة كسرت فخذه، وتمكن من الفرار ومعه بعض المماليك إلى قرية الشيخ «عثمان» وهناك توقف عن المسير لزيادة الألم، ومعه رئيس الضابطة، وكان مجروحا ثم توفي الاثنان ودفنا معا.
فسمي «حسين بك» من ذلك الحين «شيخ البلد» وأخذ يتقرب من أترابه البكوات وهم لا يزيدون منه إلا نفورا. ولم تمض بضعة أشهر من توليته، حتى كمنوا له في مكان مصاطب النشاب في السهل الواقع بين القاهرة وأرض «إبراهيم بك» وكان مشتغلا بعرض جنوده المماليك، فهموا به وذبحوه ثم قطعوه إربا إربا وصار يعرف من ذلك الحين بحسين بك المقتول. وتولى مكانه «خليل بك» واشتهر بحب القتل، وكان متظاهرا بالعداوة والحسد لعلي بك على الخصوص لاعتقاده أنه أشد أعدائه وطأة وأقواهم عزيمة. (5) سلطنة مصطفى بن محمد
من سنة 1171-1187ه أو من 1757-1774م
وهو «مصطفى الثالث» تولى الملك وسنه 32 سنة. وكان ميالا إلى الإصلاح، ووزر له «راغب باشا» وهو ذو حزم ونشاط وعمل، فأعانه فيما أراده من الإصلاحات وحفظ السلام طوال حياته. فلما توفي عادت «روسيا» إلى الحرب، وكانت «كاترينة» الثانية إمبراطورة الروس، قد تولت العرش الروسي بعد «بطرس». فعينت صديقها «ستسلاس يونياتسكي» ملكا على «بولونيا» وكان ذلك مخالفا للمعاهدة بين «روسيا» والدولة، وإنما عمدت «كاترينة» إلى خرق هذه المعاهدة عملا بوصية «بطرس الأكبر» وهي تقضي أن يبذل الروس جهدهم في إزالة الحواجز الثلاثة الحائلة بينهم وبين أوربا الغربية، وهي «أسوج» و «بولونيا»، و«الدولة العثمانية». وقد أزيل الحاجز الأول باستيلاء «الروس» على الولايات الأسوجية الفاصلة بينها وبين «ألمانيا»، وأزيل الثاني تقريبا بتعيين أحد أتباع الإمبراطورة على «بولونيا»، ولم يبق إلا إزالة الدولة العثمانية من «أوربا».
فنبهت الدولة لهذا الخطر، لكن بعد فوات الفرصة؛ إذ كان ينبغي لها أن تنجد شارل الثاني عشر على «الروس» ولكنها عمدت إلى استدراك ما فات، وفتحت حربا طال أمدها، وتعاظم لهيبها، وبذلت كل من الدولتين جهدها في التغلب، وأرسلت «روسيا» عمارتها إلى البحر الأبيض لمصادرة السفن العثمانية وضرب الثغور العثمانية فاغتنم «علي بك الكبير» تلك الفرصة، واستعان «بالروس» على استقلاله بمصر في الدولة العثمانية، كما سيجيء
وكان «علي بك» كثير الإخلاص «لإبراهيم كخيا» لا ينفك ساعيا في الانتقام له، ولكنه كان يرى السبيل الأقرب والأسهل لبلوغ مرامه، إنما هو القوة، فأخفى ما في ضميره ثماني سنوات، اشتغل في أثنائها بجمع القوة، فابتاع عددا وافرا من المماليك، ووطد علائقه مع البكوات الآخرين واكتسب ثقتهم بما كان يظهره من الغيرة عليهم والإخلاص لهم، وما كان يكرمهم به من الهدايا. وما زال يخطو خطوة بعد أخرى حتى اقترب من النقطة المطلوبة، فأوجس «خليل بك» خيفة منه، وجعل يتجسس حركاته بالأرصاد والعيون، ويعد المكائد في شوارع «القاهرة». ففي ذات يوم هجم عليه «حسين كشكش» بأمر «خليل بك» وبعد واقعة هائلة اضطر «علي بك» أن يفر إلى الصعيد في طائفة من أصدقائه البكوات، يستعد للانتقام مضاعفا.
فصرح «خليل بك» أن «علي بك» وأتباعه البكوات مجردون من رتبهم وحقوقهم، وولى مكانهم بكوات من ذويه، وقتل من ظفر به في القاهرة من أصدقاء «علي بك» أو المنتمين إليه. أما «علي بك» فالتقى في الصعيد بواحد من مماليك «مصطفى أنور » يدعى «صالح بك» كان منفيا هناك وفي قلبه من «خليل بك» حزازات فاتحد الاثنان ورجالهما وزحفا على «القاهرة» فخرج «خليل بك» و«حسين بك كشكش»، فدارت رحى الحرب، فكان الفوز «لعلي» ورفيقه، فطاردا «خليل بك» ورجاله حتى قطعوا مديرية «القليوبية» وأوصلوهم إلى المسجد الأخضر على ضفاف النيل، واشتد الكفاح هناك، فالتجأ «خليل بك» ورجاله إلى «طنطا»، فبعث «علي بك» كاشفه «محمد» الملقب «بأبي الذهب» ليهاجمهم، فهاجمهم، واستلم «طنطا» بعد أن قتل «حسين كشكش». أما «خليل بك» فاختبأ بالمسجد وبقي فيه، وقد غلبه الجوع، ثم قبض عليه، ونفي إلى «الإسكندرية» وخنق هناك، ونقلوا رءوس القتلى إلى القاهرة، وطافوا بها في أسواقها.
الدور الثالث لسيادة الدولة العثمانية على مصر أو علي بك الكبير
من سنة 1177-1185ه أو من سنة 1763-1772م
فتمكن «علي بك» بهذا الانتصار من استلام مشيخة البلد «في القاهرة» سنة 1177ه، وأول أمر باشره قتل «إبراهيم الشركسي» الذي قتل سيده، فثارت عليه أحزابه يطلبون الانتقام، وهم عديدون، فخاف علي بك على حياته ففر إلى «سوريا» والتجأ إلى متسلم (حاكم) بيت المقدس، وكانت بينهما صداقة قديمة إلا أن هذا الملجأ لم يحمه إلا شهرين؛ لأن أعداءه البكوات لما علموا بمقره شكوه للسلطان «مصطفى» وأخبروه بمقره. فأنفذ إلى متسلم القدس فرمانا يأمره به أن يرسل «علي بك» مخفورا إلى الباب العالي.
فعلم «علي بك» بذلك، ففر إلى «عكا»، وهناك اكتسب صداقة الشيخ «ضاهر العمر» أمير تلك المدينة الحصينة فأكرم وفادته وسعى في تبرئته أمام الباب العالي، وبمساعدة نصرائه من أصدقاء «إبراهيم كخيا» اكتسب له العفو من الحضرة السلطانية، فألغيت الأوامر بالقبض عليه، وأعيد إلى «القاهرة» بمنصبه الأول.
وفي سنة 1179ه - أي بعد ذلك بسنتين - هدد «علي بك» بالإقالة من ذلك المنصب؛ وذلك أن «محمد راغب باشا» الذي كان على مصر وعزل منها «علي ماهر بك» كان يتذكر كرم أخلاق «علي بك» منذ كان كاشفا، فبعد استقالته من مصر، ولي بر الأناطول، وبعد تسع سنوات صار صدرا أعظم، وما انفك متذكرا صداقة «علي بك» لا يفتر عن معاضدته، وتسهيل مطالبه سرا وجهرا.
ففي سنة 1179ه، توفي الوزير «محمد راغب باشا» المذكور، فأصبح «علي بك» في حاجة لمن يعضده، فاغتنم أعداؤه هذه الفرصة، ووشوا به إلى الآستانة، فاضطر أن يفر إلى اليمن. ولم تأت سنة 1180ه حتى عاد إلى القاهرة، واسترجع منصبه بمساعدة أحزابه وموت أربعة من دعاة «إبراهيم الشركسي». ثم تراءى له أن صديقه «صالح بك» تحدثه نفسه بخرج حرمة الصداقة، واتباع داعي المطامع الشخصية، فوكل أمر قتله إلى «إبراهيم كاشف» أحد أتباعه، فقتله طعنا. وسترى أن «إبراهيم» هذا سيرتقي حتى يتولى مشيخة البلد.
ورأى «علي بك» أن قبائل العربان في مصر السفلى قد شقت عصا الطاعة، فأنفذ إليها أحد مماليكه المدعو «أحمد» في فرقة من الرجال، فحارب أولئك العربان، وأمعن في قتلهم حتى لقبوه بالجزار، وهو الذي تولى «عكا» بعدئذ واشتهر «بأحمد باشا الجزار». أما من بقي من أعداء «علي بك» فخافوا ولزموا السكوت. وتحقق تخلصه من القلاقل والمفاسد والمقاومات، ورأى من باب الاحتياط والحرص أن يرقي ثمانية عشر مملوكا من أتباعه إلى رتبة البكوية لينصروه وقت الحاجة، وهي أسماؤهم: (1)
رضوان (ابن أخيه): من جورجيا. (2)
علي الطنطاوي: من جورجيا. (3)
إسماعيل: من جورجيا. (4)
خليل: من جورجيا. (5)
عبد الرحمن: من جورجيا. (6)
حسن: من جورجيا. (7)
يوسف: من جورجيا. (8)
ذو الفقار: من جورجيا. (9)
عجيب: من جورجيا. (10)
مصطفى: من جورجيا. (11)
أحمد الجزار: من أماسيا. (12)
سليم أغا: إنكشاري. (13)
سليمان كخيا: إنكشاري. (14)
لطيف الشركسي: شركسي. (15)
عثمان: شركسي. (16)
إبراهيم: شركسي. (17)
مراد: شركسي.
ولهذين الأخيرين شأن في هذين التاريخ لأنهما سيتنازعان السلطة بمصر. (18)
محمد.
وكان يعز محمدا أكثر من الجميع وستراه رجلا عقوقا منكرا للجميل. ولما تقلد البكوية لقب بأبي الذهب، فأحب أن يجعل هذا اللقب اسما على مسمى، فتظاهر بالكرم المفرط وبدلا من أن يفرق العطايا بالبارات، فرقها بالأرباع.
أما «علي بك» فكان ساهرا مصلحة البلاد سهرا تاما، وكان مخلصا في أعماله، فطهر البلاد من اللصوص، وسعى جهده في إصلاح شئونها، فساد الأمن فيها بعد أن كانت معرضا للقلاقل والمفاسد. ولم تقف مطامع «علي بك» عند هذا الحد، فإنه رأى من تحامل الواشين بينه وبين ديوان الآستانة، وإيقاع ذوي الأغراض به وبسلطته، ما حمله على السعي في الاستقلال بمصر، وتجريدها من رعاية الدولة العثمانية، لكنه كتم مقاصده، وجعل يسعى في تنفيذها تحت طي الخفاء . (1) مساعيه في سبيل الاستقلال
وأول خطوة خطاها نحو هذه الغاية، أنه انتحل أسبابا بنى عليها عزل مستخدمي الملكية والجهادية ورؤساء الوجاقات، واستبدلهم برجال على دعوته إلا وجاق الإنكشارية فإنه لم يمسه بعد أن تمكن من استبقائه تحت حمايته وسد جميع السبل التي يمكنه بها التطرق إلى مقاومته. وأخر دفع مرتبات الوجاقات الأخرى عمدا، وصار يدفع رواتبهم أقساطا عملة ورق بول كانت تخسر المائة منها تسعين، فكان يربح أرباحا عظيمة باسترجاع الورق بالأثمان البخسة، وصرفه ثانية بثمنه الأصلي. فلما رأت رجال الوجاقات أنهم لا يستولون من ماهياتهم إلا على العشر، كرهوا الاستخدام بالعسكرية، وجعلوا يستقيلون منها شيئا فشيئا ويتعاطون أشغالا أخرى أكثر فائدة لهم.
ثم سعى في تقليل العساكر العثمانية واستخدام المماليك من دعاته حتى صاروا نحو ستة آلاف. وحظر على سائر البكوات والكشاف الذين يخشى تغيرهم عليه أن يقتني أحدهم أكثر من مملوك أو مملوكين. وكان على ولاية مصر إذ ذاك «محمد باشا» فأزعجته إجراءات «علي بك» وخشي عاقبتها، فنصح له أن يقف عند حده، فلم يكترث بقوله، فأقر على مقاومته لأن هذه الإجراءات مضادة لمصلحة الباب العالي. ولكنه لم يكن يستطيع المجاهرة بمقاصده هذه، فأخذ يدسها سرا، واتحد مع من بقي من دعاة «إبراهيم الشركسي» وأجمعوا على الانتقام من «علي بك»، ثم جعلوا يسعون فسادا بين أحزابه واستجلبوا بعضا منهم إلى جانبهم بالمواعيد المبنية على الحسد والطمع. وفي جملة هؤلاء «محمد بك أبو الذهب» الذي طمره «علي بك» بفضله حتى أزوجه ابنته، وكان يناديه كما ينادي أولاده. ولم يكونوا يستطيعون تنفيذ مآربهم جهارا، فأغروا صهره «محمد بك» المذكور بالمال ووعده أنه إذا قتل «علي بك» يتولى المشيخة مكانه، فقبل.
لكنه علم بعدئذ أنه يقصر عن مناوأة «علي بك» واستعظم الجناية، فعدل عنها إلى جناية تقرب منها، وذلك أنه شكى إلى «علي بك» معاملة الباشا له، فأسرع إلى إنقاذه منه، وما انفك عن الباشا حتى أخرجه من مصر، فعاد إلى الآستانة، ولم يزدد «علي بك» إلا ثقة في «محمد بك أبو الذهب» وإخلاصه له، رغم ما كان ينقل إليه عنه من السعي ضده.
وفي سنة 1182ه، انتشبت الحرب بين روسيا والدولة العلية، فبعثت هذه إلى مصر أن تمده باثني عشر ألفا، فوصلت الأوامر لعلي بك بذلك ومشروعه لم ينضج بعد، فلم يسعه إلا مباشرة ما أمر به لما ابتدأ بجمع الجنود، أما أعداؤه فاغتنموا تلك الفرصة للوشاية، فضموا إليهم الباشا الجديد الذي كان قد أرسل إلى القسطنطينية بدلا من الباشا الذي أخرجه «علي بك». واتفقوا جميعا على كتابة تقرير أمضاه الباشا وسائر البكوات أعداء «علي» يشون به إلى الديوان الشاهاني بدعوى أنه إنما أراد بما يجمعه من الجيوش معاضدة روسيا للاستقلال بمصر، فأنفذ الديوان الشاهاني إلى الباشا أمرا مشددا أن يقتل «علي بك» ويرسل رأسه إلى الآستانة.
فاتصل ذلك لعلي بواسطة أصدقائه بالآستانة فبعث «علي بك طنطاوي» أحد دعاته في عشرة من أتباعه المماليك، متنكرين بلباس البدو ويكمنون على مسافة قصيرة من القاهرة حيث لا بد للقابجي باشي حامل ذلك الفرمان من المرور به، فمكثوا هناك ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع بان لهم القابجي ومعه أربعة رجال، فوثبوا بهم وقتلوهم وطمروهم بالرمل، وأخذوا ملابسهم والفرمان وصاروا إلى «علي» فقرأه.
ثم جمع إليه ديوان البكوات العمومي وأطلعهم عليه وأقنعهم أن ذلك ليس لقتله وحده بل لقتلهم جميعا. ثم خاطبهم قائلا:
دافعوا إذن عن حياتهم وحقوقهم واعلموا أن مصر ما برحت منذ القدم يحكمها دول من المماليك كانوا سلاطين أشداء تفاخر بهم الأرض السماء فأعيدوها إليهم وهذه فرصة لا يضيعوها. فإنهم لن تعثروا عمركم على فرصة مثلها. هلم إذن نسعى في الاستقلال، فإن فيه حياتنا وحريتنا. (2) استقلال علي بك بمصر
فتأثر البكوات من فصاحة «علي» وبلاغته، وكانوا ثمانية عشر، قد أجمعوا على دعوته، فعاهدوه على الدفاع عنه ما استطاعوا إلى الدفاع سبيلا. أما سائر الأمراء المماليك من أعدائه فخافوا العاقبة، ولزموا السكوت، فكتب ديوان «علي بك» أمرا إلى الباشا أن يبرح الديار المصرية في 48 ساعة، وإذا لم يفعل؛ يقتل وأن مصر قد أصبحت مستقلة. وبعث علي إلى الشيخ «ضاهر العمر» أمير عكا يعلمه رسميا باستقلال مصر، ويدعوه للمساعدة في ذلك. فأجابه الشيخ ضاهر مسرورا، وجمع إليه رجاله ورجال بنيه السبعة وصهره. وانضم الجميع إلى جنود «علي» وكان قد أضاف إلى الستة الآلاف التي عنده من المماليك الاثني عشر ألفا التي جمعت مددا للعثمانيين، وأضاف إلى هذه أيضا رجال أصدقائه البكوات حتى رجال أعدائه لأنهم لم يعد يسعهم إلا طاعته.
فاتصل ذلك بالآستانة، فأرسل الباب العالي أمرا إلى والي دمشق أن يسير في 25 ألفا لمنع جنود عكا من معاضدة «علي» فسار الوالي في ذلك العدد من الرجال، فلاقاه الشيخ «ضاهر» في 6 آلاف بين لبنان وبحيرة طبرية، ورده على أعقابه سنة 1183ه. وكانت هذه الواقعة آخر الوقائع لأن الباب العالي أمسك بعدها عن إرسال الجند كأنه نسي علاقته مع «سوريا» و«مصر» بالكلية.
أما «علي» فاغتنم اشتغال الدولة العلية بالمحاربة مع روسيا وصرف عنايته في تنظيم مملكته الجديدة، وإصلاح داخليتها من الخلل. فخفض الضرائب وجعل على المالية مدير الكمرك القديم المعلم «ميخائيل فرحات القبطي» بدلا من يوسف بن لاوي الإسرائيلي، وكان قد قتل جزاء خيانته. ونظم التجارة الخارجية والمواصلات، وأبعد العربان إلى الصحراء، فاستولى الأمن وانتشر الإصلاح في القطر، فزادوا على ألقاب «علي» لقب بلوط قبان - مبيد اللصوص. (3) قبيلة الهوارة
وكان في جملة القبائل الثائرة على «مصر» قبيلة «الهوارة» وهي أشدهن بأسا وأطول باعا، جاءت في الأصل من ضواحي تونس الغرب، واستقرت بين «جرجا»، «فرشوط» في بقعة من الأرض لم تكن تصلح للزراعة. فاعتنوا فيها حتى أنشئوا عدة قرى. وما زالوا ينشرون سطوتهم حتى احتلوا البقاع بين هوارة وكفر الشيخ سليم.
ثم اغتنم الشيخ «هامان» - شيخ الهوارة - اشتغال مصر بما تقدم، ووضع يده على البلاد من «أسيوط» إلى «أصوان» وجمع إليه محصولاتها، وكان قد حارب هذه القبيلة كثيرون ممن تولوا مصر قبل «علي» وفرضوا عليها ضريبة مقدارها 250 ألف أردب من الحنطة توردها سنويا إلى مصر.
ففي سنة 1183ه، أرسل «علي بك» صديقه «محمد بك أبا الذهب» لمحاربة الشيخ «هامان» وقبيلته فحاربهم وتغلب عليهم في أواخر تلك السنة. فاضطر أبناء الشيخ أن يبتاعوا حياتهم بما لديهم من ثروة أبيهم، فربح «أبو الذهب» من ذلك مالا كثيرا ثم أسرع إلى «القاهرة» لما علمه من الدسائس التي كان ساعيا بها رفيقه «أحمد بك الجزار» على «علي بك» وكأنه لم يكن يريد أن يشاركه أحد بالدسائس على سيده.
وكان «أحمد الجزار» ينظر إلى أبي الذهب نظره إلى عدو يناظره في ارتكاب الدنايا، فسعى في قتله، فلم ينجح. وكان لأحمد الجزار سيف مشهور بطيب فولاذه، وإتقان صنعه، فاتفق يوما أنه اجتمع «بمحمد أبي الذهب». فقال له «محمد»: «أرني حسامك لأجربن فرنده»، فأجابه أحمد: «لا يستل حسامي حتى يستباح قتيل»، ثم نهض للحال، وغادر القاهرة قاصدا «القسطنطينية» فوصلها. ثم عهدت إليه ولاية «عكا» بعد ذلك، وما زال بها حتى توفاه الله. (4) فتوح علي بك ومعاهداته
أما «علي بك» فبعد أن تغلب على الصعيد، ثار في خاطره حب الافتتاح، فجرد على «اليمن» جيشا تحت قيادة «محمد أبي الذهب» فسار في عشرين ألفا، فقطع برزخ السويس، ومضيق العقبة، ولم يبق على أحد من القبائل التي حاولت الوقوف في طريقه، وما زال حتى أتى اليمن وافتتحها.
وأمر «علي» فسار «إسماعيل بك» في ثمانية آلاف لافتتاح السواحل الشرقية للبحر الأحمر و«حسن بك» لافتتاح «جدة»، ولقب الجداوي إشارة إلى انتصاره على تلك المدينة، وما زال يعرف بهذا اللقب من ذلك الحين. ولم تمض ستة أشهر حتى افتتحت جزيرة العرب، وفي جملتها «مكة المشرفة» ولحق بها نهب شديد وأنزل شريفها، وأقيم مقامه ابن عمه الأمير «عبد الله» فوافق عليا على سلطته وسماه «سلطان مصر وخاقان البحرين»، فعل ذلك بصفته الدينية تملقا لعلي.
فلما حصل «علي بك» على ذلك من شريف مكة، أخذ يتمتع بحقوق السلطنة، فأمر أن يخطب باسمه في الصلوات العمومية أيام الجمعة، وضربت النقود باسمه سنة 1185 في القاهرة - كما سنرى.
وسعى «علي بك» في هذه السنة في أمر سيق به إلى حتفه؛ وذلك أنه عهد إلى «محمد أبي الذهب» أن يسير في ثلاثين ألفا لإخضاع بلاد الشام لأنه كان يعتبر هذه الولاية بعد خروجه من طاعة الدولة العلية عدوا قريبا يخشى منه على نفسه وعلى صديقه ومحالفه الشيخ «ضاهر» وكان ينظر إلى «سوريا» كأنها جزء طبيعي من مملكة مصر. وكانت في الواقع قسما منها في سائر أزمنة التاريخ التي كانت فيها مصر مستقلة، في الدولة الطولونية والفاطمية والأيوبية والمماليك وغيرها.
وسعى «علي بك» في التحالف مع الدول التي بينها وبين الآستانة عداوة، فاستخدم تاجرا إيطاليا اسمه «روستي» عقد له معاهدة سلمية مع البندقيين على أن يكونوا حلفاءه، ثم عهد إلى رجل أرمني اسمه «يعقوب» أن يستطلع من الكونت «ألكسيس أورلوف» قومندان القوات الروسية في البحرين (المتوسط والأسود) عن عقد معاهدة دفاعية هجومية مع قيصرة الروس «كاثرينا الثانية». فأجاب الكونت بالإيجاب وفتحت المخابرات بشأن ذلك، وطال أمرها كثيرا لبعد المسافة بين الطرفين.
أما جنود «علي بك» في سوريا، فصاحبها الظفر واتحدت بجنود الشيخ «ضاهر» فاستولوا على «غزة» و«الرملة» و«نابلس» و«القدس» و«يافا» و«صيدا»، وأخيرا حاصروا «دمشق» ولم تلبث يسيرا حتى سلمت. (5) خيانة أبي الذهب
فلما رأى «محمد أبو الذهب» تمام هذه الفتوح العظيمة على يده، حدثته نفسه أن يجعلها لنفسه، ثم قادته مطامعه إلى محاربة علي، واستخراج مصر من يده، ويظن أنه لم يقدم على ذلك من تلقاء نفسه، وإنما حمل عليه بأوامر جاءته من الآستانة لأن المخابرات السرية كانت متواصلة بينه وبينها بواسطة الباشا الذي أخرجه علي من مصر، فأمسك «محمد» عن المسير في البلاد العثمانية، وحول شكيمة مقاصده نحو الديار المصرية، فجمع ما كان لديه من الجيوش، وضم إليها الحاميات التي كان قد أقامها في المدن المفتتحة، وسار قاصدا مصر، لكنه لم يجسر على المسير إلى القاهرة رأسا خوفا من الإنكشارية والوجاقات الأخرى لعلمه بما في قلوبهم من الضغينة عليه. فعرج نحو الصحراء حتى أتى الصعيد، فحط رجاله هناك، واستولى على أسيوط في آخر يوم من سنة 1185ه . ثم استقدم قبائل العربان وطلب محالفتهم ومحالفة بكوات الصعيد، وجاهر بعزمه على خلع «علي بك». وسار قاصدا القاهرة، فوصلها في أوائل سنة 1186ه، فنزل بجيشه تجاه البساتين فوق مصر القديمة.
فلما علم «علي بك» ندم على ما وضعه من الثقة في رجل كان له أن يعتبر من سيرته الماضية أنه على غير الإخلاص والاستقامة، فجند 3 آلاف رجل بقيادة «إسماعيل بك» وأمرهم أن يمنعوا محمدا من عبور النيل، فسار إسماعيل، لكنه خاف سطوة عدوه، وورد عليه كتب مفعمة بالمواعيد يمازجها بعض التهديد فأخذ جانبه، وضم جيشه إلى جيشه فقطع «محمد بك» النيل، فاستقبله رجال إسماعيل بالترحاب، فاتصل ذلك بعلي فيئس من الفوز، فانقطع إلى القلعة بأهله وأصدقائه ورجال دعوته، وقد عزم على المدافعة إلى آخر نسمة من حياته. (6) علي بك في عكا
وبعد ثلاثة أيام، ورد إليه كتاب من الشيخ «أحمد» أحد أبناء صديقه الشيخ «ضاهر» أن يبرح القاهرة حالا ويأتي إلى أبيه في «عكا»، فخرج علي من القلعة بمن معه وسار من جهة الجبل الأحمر طالبا سوريا عن طريق الصحراء. وكان خروجه قبل دخول «محمد بك» القاهرة بيوم واحد؛ أي مساء 9 محرم سنة 1186ه - وهذه هي المرة الثالثة لخروجه منها إلى «سوريا» وفي معيته عدد يسير من الجند لا يبلغ ستة آلاف معظمهم من الخدمة الذين لا يستطيعون الدفاع، ولم يحمل معه من المال إلا ثمانمائة ألف زر محبوب يحملها 25 جملا، ونقل معه المصوغات والحلي ما يساوي أضعاف ذلك.
وما زالوا في المسير ليلا ونهارا حتى وصلوا إلى خان يونس في حدود سوريا بعد ثلاثة أيام. فرأوا أن خمسة من الجمال الحاملة النقود قد ذهبت فريسة بيد القبائل البدوية، وأن عددا من رجاله فروا، ومعهم «يوسف الخزندار». وفي اليوم التالي دخل «علي بك» غزة، ثم واصل السير حتى أتى «عكا» بعد ثمانية أيام، فرحب به أميرها وكانت بينهما مودة شديدة، فاطمأن «علي بك» هناك. غير أن ما تكبده من المشاق في الأسفار مع ما أثر في نفسه من الغيظ الشديد غير صحته، فلم يصل «عكا» إلا وهو في حالة الخطر من شدة المرض.
وفي أثناء ذلك وصل ميناء عكا أسطول روسي، فلما علمت حاميته بما حل «بعلي بك» عقدوا معه معاهدة ثانية وقدموا له كل ما يحتاج إليه من المؤن والذخائر. وكان في خدمة ذلك الأسطول فرقة من الألبانيين مؤلفة من ثلاثة آلاف رجل، فأمدوه بهم. فلما رأى «علي بك» ما كان من نجدة الروسيين مع ما يمكنه الحصول عليه من جنود الشيخ «ضاهر» عزم على مناوأة «أبي الذهب» لكنه لم يكن يستطيع مباشرة ذلك بنفسه لانحراف صحته، فعهد إلى «علي بك الطنطاوي» بعد ثلاثة أشهر أن يسيروا أولا لاسترجاع المدن السورية التي دخلت في حوزة «محمد أبي الذهب» فسار واستولى على «صور» و«صيدا» وقرى أخرى من سواحل سوريا كانت قد احتلتها جنود عثمانية بعد انسحاب جنود «أبي الذهب».
ثم سار «علي» بنفسه مع من بقي من الجند إلى «يافا» وافتتحها بعد محاصرة خمسة أشهر استولى في أثنائها على «غزة» عنوة وعلى «الرملة» و«اللد» تسليما. فأعاد «يافا» إلى حكومة الشيخ «ضاهر» وجعل على «اللد» «حسن بك» الجداوي، وعلى الرملة «سليم بك». (7) محمد بك أبو الذهب
وفي 9 القعدة سنة 1186ه، كان «علي بك» في «يافا» فجاءته رسل من القاهرة بمهمة سرية من وجاق الإنكشارية والوجاقات الأخرى، وسائر أعيان القاهرة: أن «محمد أبا الذهب» دخل القاهرة حالما خرج هو منها، وسمى نفسه شيخ البلد، وجعل يعيث في البلاد عيثا لم يسبقه إلى مثله أحد ممن تولى مصر قبله، فجعل الضرائب ضعفين، وبعضها ثلاثة أضعاف، ثم اختلق قانونا غريبا دعاه: قانون رفع المظالم، والمقصود منه بحسب الظاهر إنقاذ ملتزمي الأموال الأميرية من الإجراءات الاستبدادية التي كان يسومهم إياها الكشاف إلى ذلك العهد واستبدالها بما يعود بالمنفعة. والحقيقة أن الضرائب ما انفكت أشد وطأة من ذي قبل، والإجراءات لم تزد إلا استبدادا فضلا عما رافق ذلك من الفتك بالعباد قتلا ونهبا.
ثم قالوا إن مصر بجملتها لما رأت ما وصلت إليه من الانحطاط، وما لحق بأهلها من المظالم التي ما أنزل الله بها من سلطان قد أنابتهم أن يبلغوا «علي بك» أنها بصوت واحد تلتمس رجوعه ليحكم فيها لأنه هو منقذها الوحيد، وأن مدينة القاهرة مستعدة أن تفتح أبوابها لاستقبال أميرها القديم وأن تدافع عنه الدفاع الممكن إذا حاول «محمد بك أبو الذهب» ما يخالف الصوت العمومي. (8) خروج علي بك لمحاربة أبي الذهب
فلما علم «علي بك» بكل ذلك، شعر أن آماله عادت إليه وبرح «يافا» للحال قاصدا القاهرة، وما يكن معه من الجنود إلا ألفان وخمسمائة، فاستنجد حاميات «اللد» و«الرملة» وانضم إليهم جنود الشيخ «ضاهر» وجنود ابنه الشيخ «شبلي» وصهره الشيخ «كريم»، و«حسن» شيخ صور. وكان قد استأجر ثلاثة آلاف وخمسمائة من المغاربة، فكان عدد جنوده جملة ثمانية آلاف محارب.
ففي 11 محرم سنة 1187ه، وصل «علي بك» إلى خان يونس، وفي 16 منه اقترب من «الصالحية»، وفي 18 منه التقى بمقدمة جيوش «محمد أبي الذهب» وعدتهم اثنا عشر ألف مقاتل. وبعد محاربة بضع ساعات ظهر «علي بك» عليهم وقتل عددا غفيرا من رجالهم. فانفتحت له أبواب «الصالحية» فدخلها وقد أصيب بجروح بليغة.
ثم علم أن اعتماده على أحزابه في القاهرة لا يورثه إلا الخيبة؛ لأن أبا الذهب كان قد جمع إليه كبراء البلاد ورجال حكومتها لما علم بمظاهرتهم «لعلي» وأقنعهم أن «علي بك» قد غدر الأمة وخان الوطن وأباح دماء المسلمين بمعاهداته مع الروسيين وغيرهم من الأمم النصرانية، واستخدم «أبو الذهب» في سبيل إقناعهم الدرهم الوضاح، فانحازت إليه القوات العسكرية إلا وجاق الإنكشارية، فإنه ظل على ولاء «علي بك».
فلما تحقق «أبو الذهب» اجتماع الأحزاب على دعوته أمن الاضطراب الداخلي فسار بنفسه لمحاربة علي.
أما «علي» فانزعج لتلك الأحوال انزعاجا كثيرا فضلا عما كابده من المشاق في السفر، وقطع الصحراء، وزد على ذلك الجروح التي أصابته في واقعة «الصالحية»؛ فأصيب بحمى شديدة عجز معها عن ركوب جواده وقيادة جنوده. وفي 20 محرم سنة 1187ه، علم بمجيء «أبي الذهب» وهو على ما تقدم من المرض فلم يتردد في وجوب الدفاع. فأمر قواده، فانتظمت رجاله على قلتها وتهيأت للدفاع. وكان على أحد جناحي الجيش «علي بك الطنطاوي» ومن معه من البكوات، وعلى الجناح الآخر ابن الشيخ ضاهر وصهره، فاستظهرت جنود علي بادئ الرأي حتى قاربت الفوز التام.
ثم أرسل «أبو الذهب» بعض جواسيسه إلى المغاربة في جيش علي يغريهم على خيانة رئيسهم، فوافقوه، ووافقه غيرهم كثيرون من بكوات علي، وفي جملتهم «إبراهيم بك» و«مراد بك» وهذا الأخير اشترط أن يأخذ مقابلا لخيانته هذه ما يخلفه «علي» من المتاع والنساء، وخصوصا امرأته «نفيسة»، وكان «علي» يحبها ويحترمها لما كانت عليه من الفطنة والجمال. فلما انتشبت الحرب في الصباح التالي، انحاز جميع المغاربة والبكوات الذين خانوا، إلى عسكر «أبي الذهب» وكانت جنود «علي بك» قريبة من الفوز. فلما رأت تلك الخيانة تضعضعت، وفر الجند يطلبون النجاة بأنفسهم بعد أن قتل «علي بك الطنطاوي» و«الشيخ شبلي» ونجا «الشيخ كريم» والشيخ «حسن» و«رضوان بك» من المعركة وساروا إلى فسطاط «علي بك» وأعلموه بما حصل، وطلبوا إليه أن يمتطي فرسه، ويسير برفقتهم إلى غزة، حيث يلاقيهم الشيخ «ضاهر» بمن معه من الجند. (9) مقتل علي بك
أما «علي بك»، فأبت نفسه الإصغاء لما أرادوا، فجلس بباب خيمته وقال لهم: «إني ملازم هذا الموضع لا أبرحه حتى تبرحني نفسي؛ لأن الموت هنا أفضل عندي من الفرار، أما أنتم إذا شئتم النجاة بأنفسكم، فبادروا إلى الفرار قبل أن يغشاكم ما ربما لا تقوون على دفعه.»
فاضطر ابن أخيه ورجاله الباقون أن يذعنوا لما أمر، فودعوه، وحولوا الأعنة في طريق خان يونس، قاصدين «غزة» فلقوا الشيخ «ضاهرا» هناك، فأعلموه بما كان، وبوفاة ابنه فأسف كثيرا.
ومكث «علي بك» بعد ذهاب أصدقائه بضع ساعات ينتظر منيته، وبجانبه عشرة من مماليكه وإذا بخمسين رجلا تحت قيادة الكخيا؛ نائب «محمد أبي الذهب»، قد وصلوا الخيمة ودخلوها وقتلوا من كان فيها من المماليك. ثم وثبوا على «علي»، وكان المرض مشتدا عليه وفيه جروح، لكنه نهض بسيفه فقتل أول قادم عليه، وجرح اثنين آخرين فخاف الباقون الاقتراب منه، فأطلقوا عليه البنادق فجرحوه جروحا بليغة في زراعه اليمنى وفخذه، فجعل يدافع بيسراه دفاعا شديدا إلى أن وثب عليه الكخيا بنفسه، فدافعه «علي» حتى أصيب بذراعه اليسرى، وفي أماكن أخرى، فسقط على الأرض وهو لا ينفك عن الدفاع، فتكاثرت عليه الرجال حتى أمسكوه حيا، وساروا به إلى «محمد أبي الذهب» وطرحوه عند قدميه فأمر بحمله إلى القاهرة، فحملوه إليها، وأنزلوه في داره بدرب عبد الحق في شارع البكري - وراء صندوق الدين - فلبث فيها سبعة أيام ثم توفاه الله. وقد قال بعضهم إن «أبا الذهب» أدخل السم في جراحه فقتله - والله أعلم - ودفنوه بتربة أستاذه «إبراهيم كخيا» بجوار الإمام الشافعي. وكان لموت هذا الرجل تأثير عظيم في قلب كل من عرفه حتى إن أبا الذهب نفسه لم يسعه إلا الندم في سره، لما فرط منه، وما أتاه من نكران الجميل وارتكاب مثل هذه الخيانة. (10) مناقبه
ومن مناقب «علي بك» أنه كان عظيم الهيبة حتى اتفق لأناس أنهم ماتوا خوفا من هيبته، وكانت تأخذ الرعدة بعضهم بمجرد المثول بين يديه، فيأخذ هو بتلطيف رعبه فيقول: «هون عليك!» وكان صحيح الفراسة، شديد الحذق، يفهم ملخص الدعوى الطويلة بين المتخاصمين، ولا يحتاج في التفهيم إلى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق، بل يقرؤها هو بنفسه، ولا يختم ورقة حتى يقرأها ويفهم فحواها. (10-1) مآثره
البناية العظيمة «بطنطا»، وهي المسجد والجامع والقبة على مقام السيد البدوي، والمكاتب والميضاة الكبيرة، والحنفيات، والمنارتان العظيمتان، والسبيل المواجه للقبة، والقيسارية العظيمة. وجدد أيضا قبة الإمام الشافعي، وبنايات ووكالات في بولاق مصر، ولا يزال هذا الرجل مميزا عن المؤرخين بلقب الكبير، فيدعونه: «علي بك الكبير».
وقد ضرب نقودا باسمه بمصر، وقد أضاف اسمه إلى اسم السلطان أحمد خان على الطغراء اسم السلطان المذكور، واسم «علي» على الجانب الآخر.
وبموت «علي بك» انتهى الدور الثالث من سلطة العثمانيين على مصر.
الدور الرابع من سلطنة العثمانيين على مصر
من سنة 1187-1213ه ومن 1774-1798م
لم يتوال على العرش العثماني في أثناء هذا الدور إلا سلطانان، مدة حكمهما جميعا 25 سنة، والحال متضعضعة كما سترى. (1) سلطنة عبد الحميد الأول
من سنة 1187-1203ه ومن 1774-1789م
هو ابن السلطان أحمد، تولى العرش العثماني وسنه خمسون سنة، وكان قد قضى مدة حكم أخيه مصطفى محجورا عليه في قصره - كما جرت العادة - ولم يستطع توزيع المال على الجند حسب العادة، لنضوب الخزينة في الحروب الماضية وكانت قد عادت ظافرة منها، فأخذت روسيا تستعد لاسترجاع ما فقدته من الشهرة.
ففي تلك السنة، زحفت جنودها على نهر الطونة واجتازته، فاعترضهم العثمانيون وهزموهم، وعادوا فتناوشوا وتحاربوا، وانتهت الحرب بمعاهدة في يوليو سنة 1774 كانت روسيا فيها الرابحة، لكن العثمانيين تفرغوا لإصلاح داخليتهم والتأهب للمستقبل، فرمموا الأسطول، واشتغلوا بالإصلاح، وتعدت روسيا على القرم وضمتها إلى أملاكها، ولم يحرك العثمانيون ساكنا.
أما حال مصر، فبعد وفاة «علي بك» عاد وادي النيل إلى ما كان عليه قبله تابعا لأملاك الدولة العلية، وعادت أحكامه إلى مشايخ البلد والكشاف الذين جعلوا تلك المناصب وسيلة لاختلاس أموال الناس، وحقوق الدولة. وكان «علي بك» قد جعل لهذه المظالم حدا، وأصلح الشئون حتى علقت الآمال باعتزاز مصر ورفع شأنها، فلم تبق المنية عليه.
نعم إن مصر بعد وفاته عادت إلى كنف الدولة العثمانية لكنها بالحقيقة لم تفدها شيئا؛ لأنها كانت في الحالة الأولى طعمة لرجل محب للإصلاح، مخلص بمقاصده، وإن كانت بمعزل عن سيادة الدولة فأصبحت في الثانية طعمة لثلاثين رجلا كل منهم يسعى في ابتلاعها، لا يتفقون إلا على كره الدولة التي هم تحت حمايتها.
أما السلطان عبد الحميد، فلم يكن يرسل إليها من الولاة إلا من كان اسما بلا مسمى، كما كان شأنهم قبل ظهور «علي» فكان الباشا من هؤلاء آلة يديرها البكوات كيف شاءوا، ولم يكن لديه من الأعمال إلا مخابرة القسطنطينية سرا بما كان يقع بين هؤلاء البكوات من الخلاف، وما كانوا يتداعون إليه من الخصام، وواجباته المهمة أن يستلم الجزية من الحكومة المصرية ، ويرسلها إلى الآستانة إذا تمكن من قبضها. (1-1) أبو طبق وعزل الباشوات
فكانت ولاية مصر منصبا يستحي العقلاء من قبوله لأنهم كانوا يعتبرونها منفى استحقه الباشا أو الوزير الذي يرسل إليها. وكان يعلم قبل خروجه من الآستانة أنه إذا لم يكن راضيا بما يرضاه شيخ البلد لا يلبث أن يصله منه رسالة ينقلها ناقل يقال لها: الأوطة باشي، وفيها الأمر بعزله أمر لا مرد له ولا مجال للمدافعة بعده. وكيفية ذلك أن شيخ البلد ورجاله إذا رأوا في تصرف الباشا ما يوجب الشك اجتمعوا اجتماعا عموميا في الديوان وقرروا عزله، وكتبوا بذلك أمرا يسلمونه إلى الأوطي باشي ليوصله إلى الباشا، فيحمله ويسير على حمار - لأن القانون لا يسمح له بركوب الخيل أو البغال - وبين يديه فرمان العزل. فإذا مر بالأسواق على هذه الصورة، علم الناس أنه ساع في أمر هام فيه عزل فيهرولون وراءه، ولا يزال سائرا في عرض الطريق قائدا لتلك الجماهير نحو القلعة، ومن واجبات أي جندي لقيه في تلك الحال أن يرافقه اتقاء ما يخشى حدوثه عند وصوله القلعة.
فإذا وصل القلعة يدخل على الباشا، ثم يجثو أمامه باحترام ووقار، وعندما ينهض يطوي السجادة التي كان جاثيا عليها وينادي بأعلى صوته: «انزل يا باشا» وعند طي السجادة، والتلفظ بهذه العبارة تسقط كل حقوق الباشا، ولا يبقى له أقل سلطة على الجنود التي كانت قبل بضع دقائق تحت أمره، وتصير تحت أمر الأوطة باشي. وكانوا يسمونه «أبو طبق»؛ لأنه كان يلبس على رأسه قبعة مثل الطبق، والباشا يقف ممتثلا يسمع تلاوة الفرمان سواء كان منطوقه بعزله أو بقتله، فلا يسعه إلا الطاعة التامة، على مثل ذلك كانت معاملة باشوات مصر.
لما مات «علي بك»، اختلف أعداؤه في القاهرة على الاجتزاء من انتصاراتهم، فكان كل منهم يظن لنفسه الحق بالتمتع بأثمار انتصاره كغيره أو أكثر ، فاختلفت الأحزاب من بينهم. أما من بقي من رجال «علي بك» فلم يجدوا مكانا فيه راحة لهم، وكانوا في «عكا» عند الشيخ ضاهر - على ما تقدم - فتقهقر «أبو الذهب» لأنه كان يحب الانتقام حبا يفوق التصديق، وقد آلى على نفسه ألا يبقي على أحد من رجال «علي».
أما الشيخ ضاهر - أمير عكا - فلم يعد يطيب له السكون بعد أن خسر ابنه في سبيل نصرة «علي بك» فثارت في خاطره بواعث الانتقام، ولكن «أبا الذهب» لم يعد يستطع صبرا على ذلك. فاسترحم من الباب العالي أن يسمح له بالمسير لإخضاع «سوريا» ولا سيما «عكا»، واتهم أميرها ضاهرا بالعصيان، وأنه ساع ضد الدولة، فأجابه الباب العالي بفرمان يثبته في مشيخة البلد مع لقب باشا ورتبة والي القاهرة، مكافأة لما أتاه من كسر شوكة «علي» وأحزابه، وأذن له أن يتتبع ذلك الشيخ العاصي.
فلما وصل الفرمان إلى «أبي الذهب» كاد يطير من شدة الفرح وأعد جيشا تحت قيادته واستخلف في مصر إسماعيل بك، وعهد حكومة مدينة القاهرة إلى «إبراهيم بك»، وسار في جيشه إلى «سوريا» ولم تنته سنة 1189 حتى دخل فلسطين، وكان لشدة عجبه بما أوتيه من الألقاب والرتب وما وعده به الباب العالي من المساعدات لا يزيد إلا كبرا حتى جعل خيمته التي يستريح فيها من أثمن ما يكون، وزينها أبدع زينة، فمر «بخان يونس»، «فالرملة»، ولم يلاق مقاومة، أما «يافا» فكان عليها شيخ «كريم» صهر الشيخ «ضاهر» فدافعت قليلا ثم فتحت عنوة، فدخلها رجال أبي الذهب، وقتلوا القسم الأعظم من سكانها رجالا ونساء، وشيوخا وأطفالا.
فبلغت تلك الفواحش مسامع الشيخ «ضاهر» وهو في عكا، فخاف أن يصيبه ما أصابها، ففر بعائلته وبمن هاجر إليه من المصريين، ولم يترك في المدينة إلا ابنه «عليا».
ولما علم باقتراب جيوش أبي الذهب، أخلى القلعة وانسحب منها لاعتقاده أنه إذا حاول الدفاع إنما يحاول عبثا، فوصلها «أبو الذهب» وأبوابها مفتوحة، فدخلها ولم يبق عليها. ففي هذه المدينة انتهت فظائع هذا الرجل؛ لأنه بينما كان عازما على العود إلى مصر، أصبح القوم فوجدوه ميتا في خيمته، ولم يعرفوا القاتل رغم ما اتخذوه من الاحتياطات وما كان لديهم من القرائن الكثيرة، فقال بعضهم إنه أصيب بنقطة - وهي داء السكتة - وقال آخرون إنه مات مقتولا بيد عدو فاتك - والله أعلم.
وبعد موت أبي الذهب، عادت الجيوش المصرية تحت قيادة «مراد بك» إلى مصر ومعهم جثة رئيسهم، فدفنوها بالقرب من مدفن «علي بك»، ومات أبو الذهب بعد موت علي بك بسنتين ولقب بالخائن. (1-2) مشيخة إسماعيل بك
وتولى مشيخة البلد بعده «إسماعيل بك» ولم يبق غيره من رجال «إبراهيم كخيا»، وهو من الذين نالوا البكوية بواسطة علي بك، وكان لا يزال على دعوته، وإنما انضم إلى «أبي الذهب» خوفا، وقلبه لم يفتر لاهجا بالمدافعة عن رئيسه، لأنه لم يأت نحوه إلا ما يستدعي نصرته فضلا عن أنهما من طائفة واحدة.
فلما استلم زمام الأحكام نسج على منوال «علي بك» فبعث إلى رجال حزبه الذين كانوا لا يزالون في سوريا فاستقدمهم إليه، وأقرهم في أماكنهم، وطيب خاطرهم استعدادا لمقاومة «مراد بك» و«إبراهيم بك» مناظريه على مشيخة البلد.
وكانا قد اتحدا على خلع «إسماعيل بك» فطلبا أولا طرد «حسن بك الجداوي» صديق «إسماعيل بك» فلم يفوزا، لكنهما تمكنا من احتلال القلعة، فاتحد «إسماعيل بك» و «حسن بك» وأخرجاهما منها، ففرا إلى الصعيد، ثم جمعا حزبا كبيرا، واستعدا لقتال إسماعيل، فبعث جيوشا لتخمد أنفاسهما، فعادت على أعقابها وفاز الأميران فاضطر «إسماعيل بك» إلى مغادرة القطر المصري فيمم الآستانة.
أما «حسن بك» فقبض عليه ونفي إلى جدة بحرا، فاحتال في أثناء الطريق فأرضى رئيس المركب الذي نقله، فأنزله في القصير على سواحل القلزم، ومن هناك قطع الصحراء غربا حتى أتى الصعيد فاستكن فيه. (1-3) مراد بك وإبراهيم بك
فلما خلا الجو «لمراد بك» و«إبراهيم بك» اقتسما الأحكام فتعين الأول أميرا للحج، والثاني شيخا للبلد ورقيا كثيرون من مماليكهما إلى رتبة البكوية، وقلداهم مصالح البلاد.
وكانت الأحكام في عهدهما كما كانت في أيام أسلافهما من الظلم والاستبداد. وبلغهما بعد مدة أن «إسماعيل بك» عاد من «الآستانة» وجاء «حلوان»، فبعثا فرقة من المماليك فتكت بكل من كان معه من أهله ورجاله. أما هو فتمكن من النجاة باختبائه في بعض الكهوف ثلاثة أيام. ثم خرج طالبا الشلال، اجتمع هناك بصديقه «حسن بك الجداوي» وسارا معا وأويا إلى الجنادل في السودان.
فاختلف «مراد بك» و«إبراهيم بك» على إرسال حملة للقبض على الهاربين. فارتأى أحدهما وجوب التجنيد، وخالفه الآخر حتى آل الأمر إلى الخصام، وخروج «إبراهيم بك» مغتاظا من القاهرة إلى المنيا في الصعيد، فأرسل إليه «مراد بك» بعض الاختيارية يسكنون من غضبه، فأرضوه وأعادوه إلى مركزه في القاهرة، إلا أن العلاقات الودية ظلت متكدرة بين الاثنين. ولم تمض مدة حتى خرج «مراد بك» إلى المنيا غيظا من زميله؛ لأنه اتحد مع خمسة من بيت عدوهما القديم وهم البكوات: «عثمان الشرقاوي» و«أيوب الصغير» و«سليمان» و«إبراهيم الصغير» و«مصطفى الصغير».
ولبث «مراد بك» بعيدا عن القاهرة خمسة أشهر وإبراهيم يظن أنه لا يلبث أن يسكن غضبه ويعود إليه. فلما استبطأه، أرسل إليه الاختيارية كما فعل ذاك معه، فأبى «مراد بك» ورد الاختيارية خائبين، ثم جند جندا من أتباعه المماليك وسار على الضفة الغربية للنيل حتى أتى «الجيزة» - مقابل مصر القديمة - وعسكر هناك وهم بقطع النيل، فعلم «إبراهيم بك» بذلك، فجند في الجهة المقابلة على البر الشرقي ليمنعه من المرور ولبث الجانبان على تلك الحال ثمانية عشر يوما لا يتحاربان إلا على سبيل المناوشة بإطلاق مدفع أو مدفعين ولم يقتل إلا رجل أو فرس. فمل «مراد بك» من تلك الحال، فعاد إلى المنيا.
أما «إبراهيم بك» فكان كثير الرغبة في مصالحة زميله، فأنفذ إليه بعد خمسة أشهر من خروجه وفدا ثانيا من كبار البلاد ومشائخها يطلبون إليه الرجوع إلى القاهرة، فوافقهم لكن اشترط عليهم أن يسلموه الخمسة البكوات المتقدم ذكرهم حال وصوله إلى القاهرة، فقبلوا بذلك الشرط، فنزل معهم. فعلم أولئك البكوات سرا من «إبراهيم بك » بما اشترطه «مراد بك» فخرجوا من «القاهرة» نحو القليوبية على نية الشخوص إلى الصعيد عن طريق الأهرام فاتصل ذلك «مراد بك»، فجعل عند الجسر الأسود قرب الأهرام عصابة من العربان تترصد مرورهم، ولم يستطيع صبرا على ذلك، فقطع النيل ببعض رجاله، فالتقى بالمنهزمين عند رأس الخليج، فتلاحموا، فجرح «مراد بك»، ونجا أولئك فلاقاهم العربان عند الجسر، فأسروهم، وجاءوا بهم إلى «مراد بك» فنفاهم إلى المنصورة و«فرسكور» و«دمياط» تفريقا لكلمتهم. وبعد مدة يسيرة عادوا واجتمعوا في آخر سنة 1197 واتفقوا أن يفروا إلى الصعيد، ويجمعوا إليهم عصابة يقاومون بها عدوهم. ولم يباشروا ذلك حتى توسط شيخ الجامع الأزهر في أمرهم وحصل العفو لهم من «مراد بك» فصفح عنهم وأعادهم إلى القاهرة بكل إكرام وأعاد إليهم رتبهم وامتيازاتهم. (1-4) حملة عثمانية لحرب المماليك
مضى بعد ذلك ثلاث سنوات على «إبراهيم بك» و«مراد بك» وهما على وفاق وسكينة يقتسمان إيراد البلاد بينهما بالسواء، لا يقدمون عنه حسابا، أو إذا قدموه كان حبرا على ورق، فوشى بهما «محمد باشا» والي مصر إذ ذاك إلى السلطان وبما كان فيه من الاستئثار بمالية البلاد. فأمر السلطان «عبد الحميد» - الأول - سنة 1199ه أن يرسل إلى مصر جيشا لإيقافهما عند حدهما فسار الجيش في عمارة بقيادة «حسن باشا قبطان»، فوصلت الإسكندرية في 25 شعبان سنة 1200، فخاف البكوات خوفا شديدا واجتمعوا اجتماعا عاما في الديوان، وتباحثوا فيما يجب إجراؤه، فكثر اللغط، واختلفت المقاصد والآراء، فلم يقروا على شيء وأخيرا ارتأوا طلب توسط «محمد باشا». ولما عرضوا عليه رأيهم رفض.
فطلبوا من الشيخ «أحمد العروسي» شيخ الجامع الأزهر، والشيخ «محمد المهدي» الذي بقي في زمن الفرنساوية كاتم سر الديوان - وغيرهما - أن يسيروا إلى «رشيد» ويستعطفوا القبطان باشا.
فركبوا من «بولاق» في زورق فاخر، وما زالوا حتى بلغوا رشيدا، فلاقاهم القبطان باشا بما يليق من الاحترام أما هم فلعلمهم أن الأميرين «إبراهيم ومراد» لا يثبتان على رأي خافوا إذا طلبوا العفو، وحصلوا عليه أن ينكثا ذلك فتكون الملامة عليهم، فقال الشيخ العروسي : «يا مولانا إن رعية مصر ضعفاء، وبيوت الأمراء مختلطة ببيوت الناس!» فقال الباشا: «لا تخشوا بأسا، فإن أول ما أوصاني به مولانا السلطان هو قوله: «إن الرعية وديعة الله عندي وأنا أستودعك ما أودعنيه الله تعالى».» فدعوا له بطول العمر ثم قال لهم: «كيف ترضون أن يملككم مملوكان كافران يسومانكم سوء العذاب؟ لماذا لا تخرجونهما من دياركم؟» فأجابه أحدهم بقوله: «يا سلطانم هؤلاء عصبة شديدو البأس لا نقوى على دفعهم!»
فطيب خاطرهم ووعدهم بالحماية. وبالحقيقة أن هذا الوفد تصرف بالحكمة لأنهم لم يكادوا يخرجون من حضرة القبطان حتى سمعوا بقدوم «مراد بك» ومعه عشرة من البكوات وبعض الكشاف والمماليك. ثم شاع أنهم نزلوا في الرحمانية عند منشأ الترعة المحمودية الإسكندرانية؛ وسبب ذلك أن «مراد بك» بعدما أرسل الوفد خطر الدفاع بالسيف، فجمع إليه ذوي شوراه، وفاوضهم، فأقروا على الدفاع وأن يسير «مراد» لذلك ويبقى إبراهيم للمحافظة على القاهرة.
فسار «مراد بك» بمن معه، ونزلوا الرحمانية - كما قدمنا - فلاقتهم الجنود العثمانية، وجرت بينهما واقعة لم تطل إلا يسيرا. فانذعرت جنود المماليك من قنابل العثمانيين التي كانت تتدافع بين حوافر الخيل فتشتت شملهم وفاز العثمانيون. ففر مراد بك ومن معه حتى أتوا القاهرة، فاجتمعوا «بإبراهيم بك» وخرجوا جميعا إلى الصعيد، ومكثوا ينتظرون هجمات العثمانيين.
فلما رأى «محمد باشا» الوالي خلو القاهرة من المماليك جمع إليه الوجاقات ونزل بهم من القلعة لاستقبال الجنود العثمانية.
وفي شوال سنة 1200، دخل «حسن باشا» القاهرة بعد أن أخربت جيوشه ما مروا به من المدن والقرى ونهبوها ولولاه لم يبقوا على شيء أصلا. لكنه كان يمنعهم من ذلك بالقوة، وقتل كثيرين منهم عبرة للباقين، فكفت الأيدي فسكنت الناس. فلما دخل القاهرة، نزل في بيت «إبراهيم بك» عند قصر العيني على النيل، ثم عرض أمتعة البكوات المنهزمين للمزاد العمومي، ومن جملتها حريمهم وأولادهم ومماليكهم، فاسترحم المشائخ أن يخرج الأولاد والنساء الحوامل من معرض البيع لأن ذلك فضلا عن مخالفته للعواطف الإنسانية فهو مغضب لله.
فانتهرهم القبطان باشا قائلا: «سأكتب إلى الآستانة بأنكم تعارضون في بيع أمتعة أعداء جلالة السلطان!» فأجابه الشيخ السادات قائلا: «قد أرسلت إلينا لمعاقبة شخصين وليس لهتك شرائعنا والطعن في عاداتنا فاكتب إلى الآستانة ما شئت!»
فعند ذلك أمر الباشا باستثناء المحظيات الحوامل من البيع، وبعد أن بيعت سائر الأمتعة عكف «حسن باشا» في إصلاح الإدارة، فأصلحها على ما يوافق الإرادة الشاهانية.
وكان قد استقدم «إسماعيل بك» و«حسن بك الجداوي» من الصعيد، فأرسلهما في جيش بقيادة «عابدين باشا» و«درويش باشا» قائدي الحملة العثمانية التي جاءت إلى مصر عن طريق البر - فضلا عن العمارة المتقدم ذكرها - وسار في تلك الحملة أيضا نحو ألف مقاتل من رجال الشام تحت قيادة أمير كبير من أمراء شيخي أوغلي، فاجتمعت هذه الحملة، وسارت نحو الصعيد لمحاربة مراد بك ورجاله، فحصلت هناك واقعة عظيمة شفت عن عدة قتلى من الجانبين، وانهزم «مراد بك» ورجاله إلى الشلالات، ورجعت الجنود العثمانية ظافرة إلى القاهرة. ثم جاءت الأوامر الشاهانية بعزل «محمد باشا» وتولية «عابدين باشا».
وهنا تنتهي مهمة «حسن قبطان باشا» فاستدعي إلى الآستانة بسبب الحرب مع روسيا. ولكن مصر لم تنج من البكوات. وكانوا لا يزالون في مصر العليا كما رأيت، والمسيحيون يشكون من معاملة «حسن باشا» بأنه أخذ متاعهم وباعه على مشهد من الناس فضلا عن الإهانة التي سامهم إياها، وعلى الخصوص المعلم «إبراهيم الجوهري» أمير احتساب مصر؛ فإنهم قبضوا على امرأته وأجبروها أن تخبرهم بمخابئ زوجها من النقود، فأخبرتهم، فاستخرجوها، وأخذوها.
ولما برح «حسن باشا» القاهرة، أقام عليها «إسماعيل بك» شيخ البلد، فعهد هذا إلى صديقه «حسن بك الجداوي» إمارة الحج واتفقا معا على اقتسام الإيراد.
في سنة 1203ه توفي السلطان «عبد الحميد الأول». (2) سلطنة سليم الثالث
من سنة 1203-1213ه أو من 1789-1798م
هو ابن السلطان مصطفى الثالث، تولى السلطنة وسنه 28 سنة، ووجه السياسة بظلم والدولة متضعضعة، فبذل جهده في الإصلاح، ولكن اليأس كان قد استولى على الجنود وضعف عزائمهم.
وفي سنة 1205، طرأ على القاهرة وسائر القطر المصري وباء الوطأة لم تقاس قبله مثله، حتى بلغ عدد الموتى نحو الألف في اليوم بالقاهرة وحدها. وتقلب على حكومتهم في يوم واحد ثلاثة حكام، وسبب ذلك أن «إسماعيل بك» أصيب بالوباء، فأقيم آخر مكانه، فآخر حتى فني كل من كان من بيت «إسماعيل بك» إلا واحدا يدعى «عثمان بك الطبل». ولا يزال هذا الوباء مشهورا بفتكه، المعروف بطاعون إسماعيل، فتولى «عثمان بك الطبل» المذكور مشيخة البلد، ولم يكن قادرا على إدارة الأعمال التي عهدت إليه فاستدعى «إبراهيم بك» و«مراد بك» فدخلا القاهرة في 21 القعدة من تلك السنة، ففر «حسن الجداوي» إلى مصر العليا قانطا.
فاستلم «إبراهيم» و«مراد» أزمة الأحكام، وجعلا يعيثان فيها وكانا يتناوبان مشيخة البلد وإمارة الحج سنويا بعد أن أفنيا كل من كان على غير دعوتهما. فصفا الجو لهما.
أما قلباهما فكانا لا يخلوان من الضغائن المتبادلة لما طبع عليه كل منهما من الحب الذاتي، وقد اختلفا في الطباع والمناقب: كان «مراد بك» شديد البطش مقداما لا يهاب الموت.
وكان «إبراهيم بك» أكبر سنا، وأكثر اختبارا، ربعا ضخم القامة، حسن الطلعة، حاد البصر، وكان يتربص لمراد محاذرا بطشه لئلا يطلبه للنزال، ولولا ذلك لم يرض معه بالاجتزاء من الدخل على السواء. وكان لا يعارضه فيما يأتيه من الاستبداد، ووضع الضرائب، وسلب أموال الناس؛ لأنه شريكه في الأرباح الناتجة عن ذلك. وكان في إبراهيم رياء يظهر غير ما يضمر إذا استصرخ وعد مع العزم على الإخلاف. وكان جبانا، فإذا أراد أمرا لا يتظاهر به، وإنما يسعى إليه بالدسائس والمكايد.
أما «مراد بك» فلم يكن يعرف المكر وإنما كان يسعى في أغراضه بالقوة والحزم، وكان طويل القامة، عضلي البنية، شديد البأس، يقطع عنق الثور بضربة من سيفه وعلى وجهه ملامح الأسود، فإذا غضب يهابه ويخاف منه كل من يراه، حتى أحب أصدقائه، وكان كريم النفس، لا يبيت على غيظ، حر الضمير لا ينكر الحق، ولو كان عليه، مخلصا لأصحابه، مقيما على قوله، وكان طمعه بمقدار سخائه وحبه لذاته بمقدار حرية مبادئه وصراحته، وكان سريع الغضب لا يراعي في حال غضبه أمرا من الأمور وربما فتك بمصلحة نفسه.
وألم بالبلاد بعد عود هذين الأميرين إلى «مصر» جوع هائل، ويقال إنه جعل من كثرة ما ضبطاه من الحبوب في مصر العليا طمعا بالكسب، ثم ألقيا النظامات التي وضعها «حسن باشا قبطان» وأبدلاها بما يوافق مطامعهما الشخصية. فكثرت تعديات مماليكهما، وعلى الخصوص تعديات «أحمد محمد الألفى»، فثار الأهلون ثورة عامة لم يسعهما معها إلا توقيف تلك الإجراءات وقتيا، فخمدت الثورة، فعادا إلى ما كانا عليه فعاد الناس إلى الاضطراب. وكسدت سوق التجار لقلة الأمنية، وضربا على التجار الأجانب في الإسكندرية ضرائب فاحشة، فرفعوا شكواهم إلى قناصلهم، فلم تكن النتيجة إلا زيادة الاضطهاد.
كل ذلك كان يجري والسلطان «سليم الثالث» يعلم بذلك وهو من أرغب السلاطين بالإصلاح، ولكنه غلب على أمره. وفي أيامه وهذه حالة مصر، حمل عليها بونابرت سنة 1213ه أو 1798م، واحتلها، وهو آخر المراد بسطه من تاريخ العثمانيين بمصر في هذا الكتاب. (3) العلم والأدب ومشاهير العلماء والأدباء بمصر: في الأدوار الثاني والثالث والرابع من العصر العثماني
من سنة 1115-1213ه
إن الاضطرابات السياسية، واختلال الداخلية في الأدوار الثلاثة الأخيرة، وقفت من سيل القرائح، وشغلت الناس عن العلم والأدب، ومع ذلك فقد ظهر في هذه الفترة جماعة من الشعراء والأدباء والفقهاء ونحوهم. هاك أشهرهم: (3-1) الشعراء (1) «الحسن البدري الحجازي الأزهري»: توفي سنة 1131ه، وكان شاعرا عاما تعلم في الأزهر، ومال إلى الانزواء للمطالعة والنظم، وله فيه طريقة حسنة، وقد نظم أرجوزة في التصوف نحو ألف وخمسمائة بيت على طريقة الصارح والباغم، ضمنهما أمثالا وحكايات ونكات، وله ديوان على حروف المعجم سماه: «تنبيه الأفكار للنافع والضار»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية وفي شعره صبغة عامية وسهولة يرضاها العامة، وفيها نصائح لهم ولسائر الناس، ومن أمثلة ذلك قصيدة بائية قال فيها:
أخي فطنا كن، واحذر الناس جملة
ولا تك مغرور الظنون الكواذب
فكم من فتى يرضيك ظاهر أمره
وفي باطن يرتاغ روغ الثعالب
إذا بك يلقى ظافرا كان كافرا
يذيقك نكر النكر من كل جانب
ولا سيما نوع الأقارب إنهم
عقابك في الدنيا وعقر العقارب
إذا كنت في خير تمنوا لك الردى
لإرثك ميتا أو لنهبة ناهب
وإن كنت ذا فقر فأنت لديهم
أخس خسيس من أخس الأكالب
فلا تك للطلاب للإرث تاركا
طلابا سوى خيبات طلبة طالب
ونحو ذلك ما تلقى معاينة للجمهور. (2) «عبد الله بن محمد بن عامر بن شرف الدين الشبراوي الأزهري»: أحد أساتذة الأزهر، توفي سنة 1132ه، له: (أ) «ديوان منائح الألطاف في مدائح الأشراف»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وفي مكاتب برلين وغوطا وباريس وقد طبع في بولاق ومصر مرارا. (ب)
وكتاب الاستفهامة الشبراوية، منها نسخة في المكتبة الخديوية. (ج)
عروس الآداب وفرجة الباب، منه نسخة في مكتبة ليدن. (د) «عنوان البيان وبستان الأذهان» طبع في القاهرة مرارا. (ه) «نزهة الأبصار في رقائق الأشعار» في مكتبة باريس. (و) «حمل زجل» طبع في القاهرة. (ز) «أسنى المطالب لدراية الطالب»، في مكتبة برلين. (ح) «نظم أسماء بحور الشعر» في المكتبة الخديوية. (ط) «الالتحاف بحب الأشراف» في مكتبة باريس. (ي) «شرح الصدر بغرة البدر»، في المكتبة الخديوية، وطبع في القاهرة سنة 1203ه. (3) «عبد الله الإدكاوي المصري»: نسبة ت إلى إدكو قرب رشيد وقد اشتهر «بالمؤذن»، توفي سنة 1184ه، تقرب من نقيب الأشراف في عصره، فأكرمه وأدناه، ولما مات النقيبزوج وتغيرت حاله، فلازم الشيخ الشبراوي، ومدحه، وكان يحترمه ومن مؤلفاته: (أ) «بضاعة الأريب في شعر الغريب»، وهو مجموعة من شعره ذيلها بذيل سمكي وسيمة القصر، منها نسخة خطية في مكتبة باريس. (ب) «الدر المنتظم في الشعر الملتزم». (ج) «الفوائح الجنائية في المدائح الرضوانية». (د) «الدر الثمين في محاسن التضمين» في المكتبة الخديوية. (ه) «هداية المتوهمين في كذب المنجمين» طعن فيه على أهل النجامة، ومنه نسخة خطية في مكتبة غوطا. (و) «المقامة القزية في المجون». وكان حسن الخط، نسخ عدة كتب وله مفارقات لطيفة مع شعراء العصر الواردين على مصر. ومن مليح شعره قوله يدعو إلى نبذ التقيد بالقديم:
كن للمعاصر خير ناصر
كم للأوائل من مفاخر
لا تحقرن جديدهم
كم في جديدهم جواهر
ودع التعصب للأوا
ئل يا فتى أو للأواخر
من كان منهم مبدعا
فاعقد عليه من الخناجر (3-2) علماء الفقه
واشتهر من علماء الفقه في هذا العصر: (1) «إبراهيم بن مصطفى الحلبي المدارسي»: توفي سنة 1190م، وقد تعلم في مصر ودمشق وأخذ التصوف عن «عبد الغني النابلسي» الشهير، ثم عاد إلى القاهرة، وتعين معيدا لعلي الضرير، وسافر إلى «الآستانة» وتعرف هناك إلى «محمد باشا» الوزير المعروف «بالراغب» فتعرف به وقرأ عليه. واجتمع بشيخ الإسلام هناك «عبد الله» الشهير «بالإيراني» وكان إذ ذاك قاضي العسكر، فصار عنده مفتشا ومميزا، وقرأ عليه علماء الروم، وما زال يرتقي حتى توفي هناك، وأكثر علماء الأزهر في زمانه من تلامذته، ومن آثاره الباقية كتاب «الحلة الضافية في علمي العروض والقافية» منها نسخة في المكتبة الخديوية. و«تحفة الأخبار على الدر المختار» فيها. (2) «السيد محمد تقي الحسيني الزبيدي»: الفقيه اللغوي النحوي الأصولي الناظم الناثر صاحب «تاج العروس في شرح القاموس»، توفي سنة 1205، ولد في زبيد، ونشأ هناك، ثم رحل في طلب العلم وجاء مصر سنة 1167، وحضر دروس أشياخ زمانه، وما لبث أن ظهر فضله عند الخاص والعام وارتقت حاله، فلبس الملابس الفاخرة، وركب الخيول المسومة، واشتغل بعلوم أهملها أسلافه كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث، وألف من ذلك كتبا ومنظومات، وكان مظهره مخالفا في زيه وحاله لعلماء عصره، ويعرف اللغة التركية والفارسية وبعض لغة الكرج، وكان الوجهاء يتسابقون إلى دعوته والإيلام له وإلى مجالسته ومحادثته. وزادت منزلته على الخصوص لما فرغ من كتابه «تاج العروس» وهو أشهر مؤلفاته. وفي شهرته ما يغني عن وصفه، فإنه يدخل في عشرة مجلدات، طبع في «القاهرة» سنة 1306. وفي صدره مقدمة نفيسة في اللغة ومراتب اللغويين، وأول من ألف في اللغة وترجمة الفيروز آبادي وغير ذلك، وله كتاب «نشوة الارتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح» منه نسخة خطية في «برلين» وله كتب أخرى. (3) «موسى بن أحمد البيلي العدوي المالكي»: كان شيخ رواق الصعايدة بالأزهر، توفي سنة 1218. وله من المؤلفات المنح المتكفلة بحل ألفاظ القصيدة العربية الموسومة بمورد الظمآن في صناعات البيان وهي مشروحة ومنها نسخة خطية في مكتبة «برلين» وكتاب «فائدة الورد في الكلام على أما بعد» منه نسخة في المكتبة الخديوية، وفيها أيضا له «البشارة لقارئ الفاتحة» ومنظومة في الصرف. (3-3) المؤرخون (1) «إبراهيم بن أحمد أفندي الخطاط شاهزاده»: كتب نحو سنة 1133، له كتاب «مبدأ العجائب بما جاء في مصر من المصائب» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. (2) «الأمير كتخده الدمرداش عزبان»: توفي سنة 1169 وله كتاب «الدرة المصانة في أخبار الكنانة» مكتوبة بلغة العامة ومنه نسخة خطية في مكتبة غوطا ومنشن والمتحف البريطاني. (3) «عبد الرحمن بن الحسن بن عمر أبي اللطائف الأصهوري المالكي المغربي «سبط القطب الحديدي»»: تعلم في «القاهرة» وتعين أستاذا في الأزهر وفي السنانية ببولاق، وتوفي سنة 1198، وله كتاب «مشارق الأنوار في أهل البيت الأخيار» منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية. (3-4) الفقهاء ونحوهم
الفقه المالكي (1) «ناصر الدين النشرتي المالكي»: من أساتذة الأزهر، توفي سنة 1120ه، له كتاب «الأنوار الواضحة في السلام والمصافحة» في المكتبة الخديوية. (2) «شمس الدين الزرقاني المالكي»: توفي سنة 1122ه، وله كتاب «وصول الأماني بأصول التهاني»، منها نسخة خطية في المكتبة الخديوية، وله شرح الموطأ، وشرح المواهب اللدونية للقسطلاني. (3) «أبو الحسن الصاعدي العدوي المالكي»: من أساتذة الفقه المالكي، توفي سنة 1189ه، له رسالة فيما تفعله فرقة «المطاوعة من المتصوفة» من البدع في المكتبة الخديوية، وله عدة حواشي على كتب فقهية.
الفقه الشافعي (1) «شمس الدين البديري الدمياطي»: درس في دمياط وفي الأزهر ومكة، وتوفي سنة 1140 وله «إرشاد العمال» إلى ما ينبغي في يوم عاشوراء وغيره من الأعمال، منه نسخة في المكتبة الخديوية. وكذلك كتاب «بلغة المراد في التحذير من الافتتان بالأموال والأولاد»، وله كتاب «تحرير الأفهام في كيفية توريث ذوي الأرحام» منه نسخة في مكتبة بطرسبورج. (2) «أحمد بن عمر الديربي الشافعي الأزهري»: توفي سنة 1151ه. له كتاب «غاية المقصود عن قيود العقود» منه نسخة في المكتبة الخديوية، وفي مكتبة برلين، وطبع في بولاق سنة 1297. وكتاب «غاية المرام فيما يتعلق بانكماش الأنام»، في المكتبة الخديوية، وكذلك كتاب «فتح الملك الجواد لتسهيل قسمة التركات على بعض العباد»، وكتاب «المجرات» طبع في القاهرة. (3) «الحسين بن أحمد المحلي»: توفي سنة 1170، له «كشف اللثام عن أسئلة الأنام» منه نسخة في المكتبة الخديوية. (4) «نجم الدين محمد بن سليم الشافعي المصري الحنفي الحسيني»: في حفنه قرب بلبيس درس في القاهرة، ودخل طريقة الخلوتية الرائجة في تلك الأيام وتوفي سنة 1181ه، وله: «الثمرة البهية في أسماء الصحابة البدرية» وذكر أسماء أهل بدر. وعدة رسائل في أمثال ذلك، منه نسخة في المكتبة الخديوية.
وهناك طائفة كبيرة من الفقهاء الشافعية نبغوا في ذلك العصر بمصر منهم: «عيسى بن أحمد الدرادي»، توفي سنة 1182.
و«أحمد الشجاعي» سنة 1190، وله مؤلفات كثيرة أكثرها موجودة في المكتبة الخديوية.
و«حسن الكفراوي» من أساتذة الأزهر، توفي سنة 1202. فضلا عن فقهاء الحنابلة والشيعة ومن هؤلاء. «أبو السعود أحمد بن عمر بن السقاطي»، توفي سنة 1159ه في القاهرة، وله كتب في القراءات، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية.
و«الحسن بن علي الأزهري المنطاوي المدابغي»، من أساتذة الأزهر، توفي سنة 1170. وله كتاب «إتحاف فضلاء الأمة المحمدية ببيان جمع القراءات السبع من طريق التيسير» في المكتبة الخديوية. وكتاب في مولد النبي، فيها أيضا. (3-5) المتصوفة
وهناك طائفة من المتصوفة نبغت في مصر بذلك العصر منهم:
علي بن محمد المصري:
المتوفى سنة 1127ه، وله تعاليق وشروح.
وعلي بن حجازي البيومي الدمرداشي:
توفي سنة 1183ه بالقاهرة، وله كتاب في الطريقة الدمرداشية منها نسخة في برلين وكتاب «الأسرار الخفية» منه نسخة في المكتبة الخديوية. ورسائل عديدة، بعضها موجود في المكتبة المذكورة.
ومن مشاهير الصوفية وكبارهم:
الشيخ عبد الرحمن العيدروسي : أصله من بلاد اليمن، ولد في ثريم، وتنقل في بلاد اليمن وغيرها في تاريخ طويل حتى استقر له المقام في القاهرة، واشتهر فيها، وقصده الطلاب حتى توفي سنة 1192ه، وهو من أساتذة الشيخ «عبد الرحمن الجبرتي» صاحب التاريخ المشهور، وقد ترجمه مطولا، وله مؤلفات تزيد على بضعة عشر منها: (1) «النفحة العيدروسية في الطريقة النقشبندية» منها نسخة في برلين. (2) «النفحة المدنية في الأذكار القلبية والروحية والسرية»، منها نسخة في المكتبة الخديوية. (3) «لطائف الجود في مسألة وحدة الوجود»، منها نسخة في برلين. (4) «العرف الوردي في دلائل المهدي» فيها. (5) «إتحاف الخليل بالمشرب الجليل الجميل»، في المكتبة الخديوية، وله عدة رسائل وقصائد، منها في هذه المكتبة وغيرها.
ومحمد بن حسن بن محمد السمنودي الأزهري جمال الدين : تثقف في الأزهر، ودخل الطريقة الخلوتية. ثم تولى قراءة القرآن بالقاهرة، وتوفي سنة 1199ه. وله «تحفة السالكين ودلالات السائرين منهج المرقبين»، طبعت بمصر سنة 1287ه.
وأبو البركات أحمد بن محمد الدردير المالكي العدوي الأزهري الخلوتي : تعلم في الأزهر، ثم صار ناظر وقف الصعايدة وشيخ الرواق وتوفي سنة 1201، وله عدة كتب منها: «الخريدة البهية في القصائد التوحيدية»، طبع في الإسكندرية سنة 1181، و«تحفة الإخوان في بيان تاريخ أهل العرفان»، طبع بالقاهرة سنة 1281، وكتب أخرى موجودة خطا في المكتبة الخديوية وغيرها.
ومنهم «سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري الجمال» : المتوفى سنة 1202ه.
ونبغ غير واحد في علم النجوم أو النجامة منهم:
حسن بن إبراهيم الزيلعي الجبرتي : من أسرة الجبرتي المؤرخ، كان أستاذا في القاهرة، توفي سنة 1188، وله عدة مؤلفات ورسائل في هذه الفنون يمكن الاطلاع عليها من المكتبة الخديوية.
ونبغ من الأطباء المؤلفين: «أحمد بن عبد المؤمن الدمنهوري» المتوفى سنة 1192، كان أستاذا في الأزهر. وله مؤلفات عديدة في أكثر الفنون تجد أكثرها في المكتبة الخديوية.
ولو أردنا تعداد المشاهير في ذلك العصر لضاق المقام وإنما أردنا إيراد الأمثلة لحالة تلك الأيام الأدبية والعلمية وقد رأيت أنها في حالة الانحطاط، لأن ما تقدم ذكره من المؤلفات العديدة قل فيه المستنبط أو الوافي، ولعل هذا العصر أحط عصور التمدن الإسلامي.
ويلاحظ في لغة ذلك العصر؛ أن الإنشاء انحط إلى أقصى درجاته حتى صار أقرب إلى لغة العامة وانحطاط اللغة تابع لانحطاط نفوس أهلها، ومن أشهر أمثلة إنشاء ذلك العصر تاريخ «الجبرتي» وتاريخ «ابن إياس».
أما كتب الفقه، فيرجع إجماليها إلى المصطلحات الفقهية وهي قلما تتغير مع الوقت. وأكثر ما كتب في تلك الفترة إنما هو من قبيل التقليد أو التلخيص أو الشرح أو التعليق.
وقد رأيت أن أكثر المؤلفات في علوم الدين الإسلامي، لأن العلم انحصر يومئذ في الأزهر تقريبا، فإن أكثر طلابه من الفقهاء، إلا من كان فيه ميل خصوصي لعلوم أخرى، مع أن أوربا كانت قد أفاقت من غفلتها وأخذت في تأسيس العلوم الحديثة، ولم يبلغ خبر ذلك إلى مصر إلا على يد الحملة الفرنساوية سنة 1798، فإنها أتت معها بحملة علمية، فضلا عن الحملة العسكرية، فبهر العقلاء من أحوالهم وإن لم يأخذوا عنهم شيئا. وإنما ترى ذلك الفضل للأسرة المحمدية العلوية وأول من أخذ من هذه النهضة «محمد علي باشا» مؤسس هذه الأسرة العلية. (4) الحالة الاجتماعية والاقتصادية
أما الهيئة الاجتماعية في ذلك العصر، فإنها تختلف عما نحن فيه الآن اختلافا كبيرا، فإنهم لم يكونوا يدركون ما ندركه نحن من لفظ الوطن والاستقلال والدستور والحرية الشخصية، وحقوق الفرد، وحقوق الجماعة، وإنما كانت الأمة مؤلفة من الحكام أصحاب الأمر والنهي والسطوة والنفوذ، والشعب وما عليه إلا الطاعة وتحمل المصائب بالصبر. فإن أحدهم كان إذا نهض من فراشه خرج من بيته وهو لا يدري ما يلقاه من أنواع المظالم أو ضروب الإهانة إذا كان في يده مال لا يأمن من أن يبقى ذلك المال له إلى المساء، وإذا كان له فرس أو بغل أو دابة كانت عرضة للسخرة بأمر الحاكم أو بعض رجاله.
وناهيك بالضرائب المتوالية التي لا يسأل ضاربها ولا ينجو أحد من دفعها مرة أو غير راضيا أو غاضبا، حتى نساؤهم وأولادهم إنهم لم يكونوا آمنين عليهم من السطو والنهب.
بالأمة التي هذا حالها من الضنك والذل والظلم لا غرو إذا ظلمت فيها المرأة وصارت كالأمة لأن ظلمها تابع لظلم الحكام؛ فإن الرجل يقضي نهاره مظلوما لا يستطيع ردا، ولا دفاعا أو انتقاما، فإذا أتى بيته تشبه بحكامه لأنه في عائلته كالأمير في بلده، يأمر وينهى فيعامل أهله كما عومل. وبذلك كانت المرأة تظلم وتنحط في عهد الحكومة الاستبدادية الظالمة . ولا غرو إذا انصرف أولئك المظلمون من الرجال إلى تسلية أنفسهم، وتصريف تغيظهم بالمشروبات الروحية أو تدخينها المخدرات كالحشيش ونحوه؛ ولذلك كثر تناول هذا العقار في تلك الأثناء يخدر الناس أعصابهم وينسوا حالهم (4-1) الزراعة
وطبيعي أن يرافق ذلك الانحطاط السياسي والعلمي انحطاط اجتماعي واقتصادي، فتناقص عدد السكان في أواخر ذلك العصر حتى أصبح أقل من 2000000 نفس في القطر المصري أعلاه وأسفله، وتناقصت البقاع المزروعة في وادي النيل حتى نقصت عن مليون فدان وبعض المليون، والأرض يومئذ ملك الحكومة وليس للناس إلا أن يتمتعوا بريعها وللحكومة حصة من ذلك الريع في مقابل حمايتها أو إصلاح شئونها وهو الخراج. على أن فساد الأحكام في عهد المماليك شغل الناس عن الزراعة فقلت الجباية فتعسر حلها، والحكام في ذلك العهد إنما يلتمسون السلطة طمعا بالمال، فعمدوا إلى طريقة «الالتزام» وهو تضمين الخراج لأناس يتولون جمعه عن الحكومة، ويشاركونها في نفوذها، فلا يزيدون الأهالي إلا ضغطا وعسفا.
وذلك أن الحكومة كانت تعرض خراج البلاد بالمزايدة لمن يضمنه من أهل النفوذ، فيضمن أحدهم بلدا أو بضعة بلاد فإذا وقع عليه المزاد أعطاه كبير المماليك «شيخ البلد» عهدا بذلك يسمونه تقسيط ويصحبونه بأمر يسمونه «فايك» وهو عبارة عن خطاب من الحكومة إلى أهالي البلد الواقع فيها التزام ذلك الملتزم، توصيهم فيه أن يطيعوا الملتزم ويؤدوا له الخراج، والملتزم يدفع للخزينة في مقابل ذلك مال سنة معجلا، ويقوم مقام الحكومة في السيادة والإمارة في البلاد الداخلية في التزامه، وله عدا ذلك بقعة من الأرض يستغلها بنفسه، لا يدفع عنها شيئا وتسمى «أوسية» «جمعها أواسي» وعلى الأهالي أن يحرثوها له ويزرعوها ويحملوا إليه غلاتها بلا أجرة فضلا عن منافع أخرى.
وكان الالتزام في بادئ الرأي لمدة محدودة، ثم جعلوه لمدى العمر فلا ترجع الأرض للحكومة إلا بعد وفاة الملتزم. فكان الانتفاع بغلة الأرض مقسوما بين الحكومة والملتزمين، والفلاح عبد رق يعمل بقوته ويشقى بعمله. فهل يلام إذا قعد به القنوط من العمل أو حمله الخوف على الفرار؟ (4-2) التجارة
أما التجارة فكانت في زمن المماليك ضعيفة جدا، لأنها لا تنمو إلا في ظل الأمن والعدل. فكانت قاصرة على بعض ما يحمل من محصولات هذه البلاد إلى «أوربا» وأهمها الحبوب والسكر والرز، وما يمر بها من واردات السودان كالصمغ والعاج والريش ونحو ذلك، وبعض ما يحمل إليها من المصنوعات الإفرنجية من «إيطاليا» و«فرنسا» و«ألمانيا» وغيرها.
ذكر «فولتي» الرحالة الفرنساوي في رحلته إلى «مصر» أواخر القرن الثامن عشر أن تجارة «مصر» كان معظمها في أيدي السوريين المسيحيين ثم أهل البندقية والإنكليز والفرنساويين وكانت الجمارك يومئذ «بالإسكندرية» و«رشيد» و«دمياط» و«السويس» و«القصير» وفي «بولاق» و«مصر القديمة». وكانت الحكومة تضمن دخل هذه الجمارك كما كانت تضمن خراج الأرض. والغالب أن يضمنها بعض اليهود. فلما أفضت «مصر» إلى «علي بك الكبير» المتقدم ذكره تحولت ضمانة الجمارك إلى أيدي السوريين، ولم يكن منهم يومئذ في مصر إلا عائلات قليلة من أهل دمشق وكانوا يتعاطون التجارة فيها.
على أن الجمارك كثيرا ما كان يتولى شئونها أمراء المماليك أنفسهم وخصوصا في أواخر القرن الثامن عشر. إن «إبراهيم بك» و«مراد بك» اقتسما الانتفاع بها، فاختص «إبراهيم» بجمرك السويس وعهد به إلى عمال يديرونه بالنيابة عنه، واستولى «مراد» على سائر الجمارك فضمنها بعض أهل الوجاهة. وكانت إيرادات الجمارك نحو مليون ريال أبو طاقية أو نحو 120000 جنيه أكثر تجمع من جمرك السويس. (4-3) النقود المصرية
وقد تقدم الكلام عن حل النقود المصرية أواسط العصر العثماني وهي الأنصاف والبندقي والزر محبوب. في آخر القرن الثاني عشر للهجرة كان الدينار يساوي 110 أنصاف، والبندقي 225 نصفا، والبنتو 400 نصف. فكانت الأنصاف تقل قيمتها بتوالي الأعوام مع بقاء قيمة الذهب على حالها تقريبا، فالدينار كان يساوي سنة 193ه 11 أنصافا مثلا، فصار يبدل بعد عشر سنين بنحو 150 نصفا، وهكذا، وكانت أسعار الأشياء التي تفد بالأنصاف ترتفع كل سنة عما قبلها ارتفاعا تدريجيا. ولم يكن ارتفاعها من توفر الثروة كما حدث لهذا العهد، وإنما كان سببه تلاعب رجال الحكومة بالنقود الفضية وغشها، فإذا رخصت قلت النقود وظهرت المبيعات غالية، وهاك على ذلك بأثمان أهم المأكولات في أول القرن الثالث عشر للهجرة إلى سنة 1219 باعتبار الأنصاف من كل رطل:
سنة
اللبن
الضأن
الصابون
المسلى
القمح بالأردب
1204
36
7,5
12
18
200
1209
38
8
18
20
400
1216
50
8,5
18
25
800
1219
70
00
24
36
1600
فيتبادر إلى الذهن لأول وهلة أن الغلاء سائر على سنة طبيعية بالتدريج. والواقع أن الأشياء لم ترتفع أسعارها إلا بالنظر إلى الفضة، أما بالنظر إلى الذهب فظلت باقية على حالها تقريبا، وكثيرا ما كان أولو الأمر والأغنياء يرجون الأموال الكثيرة في تبديل النقود.
فلما استتب الأمر ل «محمد علي» شاع استعمال القرش وهو ألماني الأصل، وكان سنة 1230ه يساوي 40 نصفا ثم أصاب القروش بتوالي الأعوام ما أصاب الأنصاف على الكيفية المبينة في الجدول الآتي. وهي أسعار النقود الذهبية المعروفة يومئذ بالقروش المصرية من سنة 1250 إلى 1286.
سنة
الجنيه الإفرنجي
الجنيه المصري
البينو
المجر
الجنيه المجري
البندقي
1250
53
00
00
44
00
45
1256
100
103
00
47
00
49
1261
103
105
77
47
00
50
1270
114
117
90
54
105
56
1277
147
150
116
76
131
72
1285
192
197
152
91
172
00
1286
199
203
158
95
179
00
فنرى في ذلك أن القرش نزل سعره إلى النصف. وباعتبار الجنيه الإفرنجي إلى الربع في 35 سنة. وكانت الحكومة المصرية قد أخذت في تنظيم شئونها التجارية على عهد «إسماعيل باشا» الخديوي غير أن اختلاف أسعار النقود على هذه الصورة لا يرجى منه نجاح، فأصدرت سنة 1286ه تعريفة للنقود جعلت المعاملة فيها على المناصفة فالجنيه الإفرنجي كانت قيمته 199 قرشا فجعلتها 99,5 والمصري 202 قرش جعلت قيمته 101,5 قرش، وقس على ذلك. ثم تنوعت الأسعار قليلا حتى وقفت على قيمتها المشهورة الآن. وهذا هو أصل المعاملة التعريفة والصاغ في مصر. (4-4) التعليم بمصر في ذلك العصر
ونختم الكلام بفذلكة في حال التعليم في ذلك العصر، فإنه كان يختلف عن تعليم هذه الأيام، ومعلوم أن التعليم في إبان التمدن الإسلامي كان محصورا بالمساجد كما كانت مدارس النصارى محصورة في الأديرة والكنائس، وكان المسلمون يسمون التلامذة المجتمعين حول أستاذ يتلقون منه العلم «حلقة» وتفرعت العلوم بتوالي العلوم، واتسعت دوائرها حتى أصبح العلم الواحد عدة حلقات والغالب أن تنسب الحلقة إلى أستاذها، فيقولون مثلا حلقة «أبي إسحاق الشيرازي» في جامع «المنصور» أو نحو ذلك. وكانوا يجعلون في كل جامع خزانة كتب للمطالعة والاستنساخ .
على أن التعليم لم يكن خاصا بالمساجد، فكثيرا ما كانوا ينشئون حلقات التدريس في المارستانات أو الربط أو المنازل أو غيرها، وكان الأغنياء إذا أرادوا تعليم أولادهم أحضروا المعلمين إلى منازلهم.
وكانت مصر في القرن الأول للهجرة ولاية من ولايات المملكة الإسلامية تابعة للمدينة أو دمشق أو بغداد، فكان التعليم فيها ثانويا، ودخل القرن الرابع للهجرة وليس في عاصمتها إلا جامعان، جامع «عمرو» وجامع «ابن طولون» تلقى فيها العلوم الإسلامية على مذهب أهل السنة لأنها كانت تابعة للدولة العباسية. فلما تغلب الفاطميون على مصر في أواسط القرن الرابع، وانتقلوا إليها وبنوا مدينة القاهرة، وأنشئوا فيها مسجدا يعلمون فيه مذهبهم «الشيعة» وظل الأزهر مدرسة شيعية طوال خلافة الفاطميين نحو 200 سنة حتى غلبهم «صلاح الدين الأيوبي» سنة 567ه، وكان سني المذهب، وليس له بد من متابعة خليفة يثبته في منصبه فبايع الخليفة العباسي في بغداد، وخطب له في الأزهر. وكان «صلاح الدين» على مذهب الإمام الشافعي فلم يضطر لتبديل كثير في طرق التعليم، وقبل الناس سلطته على أهون سبيل ولكنه لم ير مندوحة عن مراعاة مذهب الخلفاء العباسيين وهو مذهب «أبي حنيفة»، ورأى بحكمته وسداد رأيه أن يكتسب ولاء سائر المسلمين، فأجاز التعليم فيه على المذاهب الأربعة، وكل مذهب يحضره أهله فآل ذلك إلى اتساع شهرة هذه المدرسة، وتقاطر إليها الطلاب من أربعة أقطار المسكونة، ولم يبق التعليم قاصرا فيها على الفقه وعلوم الدين واللغة، ولكنه تناول شيئا من الرياضيات والنجوم وبعض علوم الطبيعة.
وما زال ذلك شأنها في أيام الأيوبيين ومماليكهم حتى جاء السلطان «سليم العثماني»، وفتح مصر، ثم استبد الأمراء المماليك بالحكومة، فاشتغل الناس عن العلم، وكان العنصر العربي قد ضعف شأنه في سائر المملكة الإسلامية إلا في مصر، لأن مدرسة الأزهر فيها، وكانت أكبر وسيلة لاستبقاء اللغة العربية حية بتعليم العلوم الدينية واللسانية لكنها اقتصرت يومئذ على هذه العلوم، وأهملت سواها من الطبيعيات والرياضيات.
وما زال الأزهر أهم مصادر التعليم في القطر المصري إلى النهضة الحديثة بعد إنشاء المدارس على النسق الجديد في أيام «محمد علي» لتعليم العلوم الحديثة، كالطبيعيات والطب والهندسة وغيرها. أما قبل هذه النهضة، فكانت هذه العلوم ولا سيما الطب يدرس في المارستانات أهمها في دولة الأمراء المماليك «المارستان المنصوري» في شارع النحاسين، ولا تزال آثاره باقية هناك إلى الآن.
अज्ञात पृष्ठ