ننتقل بعد هذه المقدمة إلى موضوعنا الرئيسي، وهو موقف ابن خلدون من الفلسفة، ثم تعقيبنا على هذا الموقف؛ يقول - في الفصل الذي عقده لذلك - ما مؤداه أن قوما من عقلاء النوع الإنساني قد زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، يدرك بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الإيمانية إنما يكون بالرجوع إلى النظر العقلي، وهؤلاء يسمون فلاسفة؛ وهؤلاء الفلاسفة قد وضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره عند التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق.
وخلاصة رأيهم أن العقل هو الفيصل في الأمور، وأن طريقة العقل هي أن ينتزع المعاني المجردة من الموجودات الحسية، فيجيء كل معنى مجرد صالحا لأن ينطبق على جميع مفردات النوع الواحد «كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع.» وتسمى هذه المعاني التي جردناها من المحسوسات بالمعقولات الأوائل؛ ثم تجرد من تلك المعاني الكلية معان أخرى أعم منها، ومن هذه المعاني الأخرى تجرد معان ثالثة، وهلم جرا، إلى أن ينتهي التجريد بنا إلى المعاني البسيطة الكلية، المنطبقة على جميع المعاني والمفردات الجزئية؛ ولا يكون منها تجريد إلى ما هو أبسط منها - إذ هي قمة التجريد والبساطة - وهذه المجردات كلها إذا ما تآلف بعضها مع بعض، كان الحاصل هو «العلوم» وهي تسمى بالمعقولات الثواني.
ويرى الفلاسفة أنه إذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة - أي في العلوم - نظرة تقوم على البرهان العقلي اليقيني، استطاع أن يتصور الوجود على حقيقته؛ ثم يزعم الفلاسفة - هكذا يقول ابن خلدون - أن سعادة الإنسان مرهونة بهذا الإدراك العقلي للموجودات كلها؛ وهو يستنكر هذه النتيجة التي يراها عجيبة، وهي أن يكون الإنسان قادرا - بحكم عقله وحده - أن يصل إلى التمييز الخلقي بين الفضيلة والرذيلة، حتى «ولو لم يرد شرع» يعينه على هذا التمييز. ولو صح هذا لاستغنينا بالعقل عن الشرع، وهو عنده محال.
هذا هو موجز رأي ابن خلدون فيما تؤديه الفلسفة وما تنتهي إليه. وأما أوجه البطلان في ذلك - كما يراها - فيمكن تلخيصها فيما يلي: (1)
إن اعتماد الفلسفة على العقل وحده فيه قصور عما وراء ذلك من «رتب خلق الله»؛ وفي اكتفاء الفلاسفة بالعقل شبه باكتفاء الطبيعيين بالأجسام المادية وحدها دون العقل والنقل معا؛ فهؤلاء يعتقدون أن ليس وراء المحسوسات شيء، وأولئك يعتقدون أن ليس وراء المعقولات شيء، فهما في قصور النظر صنوان.
وشرح ذلك أننا في المجال الفلسفي نفرق بين ثلاث سبل للمعرفة، هي: الحواس، والعقل، والحدس؛ فالمعرفة التي سبيلها الحواس هي تلك الانطباعات التي تنطبع بها العين والأذن وغيرهما من أعضاء الحس، وهي ما يسمونه بالملاحظة الخارجية، أو بالمشاهدة، التي هي ركن أساسي في منهج العلوم الطبيعية؛ وأما المعرفة التي سبيلها العقل، فهي تلك التي نستخلصها بالاستدلال؛ ولكن مم نستدل؟ إننا إما أن نستدل من المعلومات الأولية التي جاءتنا عن طريق الحواس، وذلك هو ما يحدث في مجال العلوم الطبيعية؛ أو أن نستدل من حقيقة كلية مفروضة ومأخوذة بادئ ذي بدء مأخذ التسليم، وذلك هو ما يحدث في مجال العلوم الرياضية، أو ما يجري مجراها من علوم أخرى تقوم على الاستنباط كالفقه مثلا؛ وأما المعرفة الحدسية فهي التي يحصلها الإنسان بالعيان المباشر للحقيقة المدركة، فلا هو إدراك بإحدى الحواس الظاهرة، ولا هو إدراك باستدلال عقلي يسير في خطوات ينتقل بها من المقدمات إلى النتائج، ولكنه إدراك يتم بالمواجهة المباشرة التي ينكشف بها الحجاب بين الذات المدركة والموضوع المدرك.
وهنالك طائفة من رجال الفكر من رأيها أنه محال على الحواس، وعلى العقل - إما متفرقين أو مجتمعين - أن يصلا إلى إدراك الحقيقة في جوهرها؛ لأن جوهر الحقيقة كيفي، ولا يدرك الإنسان الكيف إلا بوجدانه، وهو ما يسمونه اصطلاحا «بالحدس»؛ فلئن كانت الحواس والعقل معا يدركان من الأشياء ظواهرها، فالحدس وحده هو الذي يدرك الحقيقة من باطن.
وابن خلدون وهو من هذه الطائفة، وعلى أساس مذهبه في صدق المعرفة الحدسية وحدها في الموضوعات التي تجاوز الظاهر، تراه يفند الفلسفة، على اعتبار أن الفلسفة تقيم بناءها على العقل وأقيسته، مع أنها تتعرض لموضوعات لا تخضع لهذا الإدراك العقلي القياسي؛ وهو نفسه الرأي الذي نادى به وسبقه إليه الإمام الغزالي في تفنيده للفلسفة.
ولا يسعني في الحق إلا أن أعجب في هذا الصدد لقول القائل إن الفلسفة تبني بناءها على أساس الأقيسة العقلية، ولذلك فهي باطلة من حيث إنها تستخدم القياس العقلي فيما لا يصلح له؛ أقول إنه لا يسعني إلا أن أعجب لرأي كهذا، لأن القياس العقلي لا يتم أبدا إلا بافتراض قيام مقدمة أو مقدمات نقيس عليها لننتزع النتائج اللازمة عنها؛ فمن أين يأتي الفلاسفة بمقدماتهم التي يبنون عليها أقيستهم العقلية هذه؛ إنهم يأتون بها إما عن طريق الحدس لما يسمونه بالمبادئ الأولى - ذلك إن كانوا من زمرة الفلاسفة المثاليين - وإما عن طريق المعطيات الحسية إن كانوا من زمرة الفلاسفة التجريبيين، ومعنى ذلك أنه إذا اشترط مشترط أن يكون الحدس هو مصدر المعرفة الحق، فهو باشتراطه هذا لا يهدم الفلسفة، ولكنه يتحيز لفريق من الفلاسفة دون فريق.
نعم قد يكتفي الإنسان المدرك بوجدانه حقيقة ما . قد يكتفي بهذه الحقيقة التي أدركها، وقد يدمج ذاته فيها، وعندئذ يقال عنه إنه من جماعة المتصوفة؛ ولكنه أيضا قد لا يكتفي بذلك، بل يعود فيصب عليها عملية القياس المنطقي لينتزع منها ما يترتب عليها من نتائج، وعندئذ يقال عنه إنه فيلسوف، وفي ظني أنه لا يجوز لنا أن نرفض الأقيسة العقلية ونرميها بالبطلان، إلا إذا رفضنا معها المبدأ الأول الذي أدركناه بالحدس بادئ ذي بدء. (2)
अज्ञात पृष्ठ