الفكر الفلسفي في مصر المعاصرة1
من معاركنا الفلسفية
نحن وقضايا الفكر في عصرنا
الإنسان والرمز
هذه الكلمات وسحرها
قيمة القيم
الأمانة التي حملها الإنسان
تشابه الناس آفة عصرنا
موقف ابن خلدون من الفلسفة1
فلاسفة معاصرون
مقومات الشخصية الإفريقية الآسيوية1
الفكر الفلسفي في مصر المعاصرة1
من معاركنا الفلسفية
نحن وقضايا الفكر في عصرنا
الإنسان والرمز
هذه الكلمات وسحرها
قيمة القيم
الأمانة التي حملها الإنسان
تشابه الناس آفة عصرنا
موقف ابن خلدون من الفلسفة1
فلاسفة معاصرون
مقومات الشخصية الإفريقية الآسيوية1
من زاوية فلسفية
من زاوية فلسفية
تأليف
زكي نجيب محمود
الفكر الفلسفي في مصر المعاصرة1
1
كان «تهافت الفلاسفة» الذي ألفه الإمام الغزالي في ختام القرن الحادي عشر الميلادي، بمثابة الرتاج الذي أغلق باب الفكر الفلسفي في بلادنا، فظل مغلقا ما يزيد على سبعة قرون، ولم ينفتح إلا في منتصف القرن الماضي، نتيجة لحركة شاملة استهدفت نهوض الحياة الفكرية العربية من كل أرجائها، فنشأ علم، ونشأ فن، وتجدد أدب وتجددت فلسفة.
وكان قوام الفكر الفلسفي - في هذه الحركة الشاملة - هو الدعوة إلى الحرية وإلى التعقيل؛ أما الحرية فلا تكون إلا من قيد، والقيد الذي كان قائما عندئذ، بل القيد الذي أخذ يزداد صلابة على مر القرون التي سادها الحكم التركي بصفة خاصة، هو قيد الجهل والخرافة في فهم الناس للظواهر والأحداث، وهو أيضا قيد النص المنقول، الذي يفرض نفسه على الدارسين فرضا، بحيث لا يكون أمام هؤلاء الدارسين من منافذ التفكير المستقل، إلا أن يعلقوا على النص بشروح، ثم على الشروح بشروح، وهلم جرا. وهي نفسها الحالة التي جاءت النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر لتجدها جاثمة على عقول الدارسين فكان التخلص منها والخروج عليها، هو نفسه معنى النهضة في لبها وصميمها.
وأما «التعقيل» فهو أن نجعل احتكامنا إلى العقل دون النزوة والهوى. وإذا قلنا «العقل» فقد قلنا أحد أمرين، أو الأمرين معا، فإما أن يستند الإنسان في أحكامه إلى شواهد الحس والتجربة - وذلك إذا كان موضوع البحث ظاهرة خارجية من ظواهر الطبيعة أو المجتمع - أو أن يستند الإنسان في أحكامه إلى سلامة الاستدلال في استخراج تلك الأحكام من مقدماتها - وذلك حين يكون موضوع البحث فكرة نظرية - وقد يجتمع الطريقان معا في بحث واحد بعينه، فنجمع شواهدنا من تجاربنا أولا، ثم نكون فكرة نظرية نستدل منها ما يسعنا استدلاله من نتائج؛ ذلك هو سبيل العقل. وإذن فليس من العقل أن نستند في أحكامنا إلى ما هو شائع بين الناس بحكم التقليد الموروث، لا سيما إذا كان هؤلاء الناس قد صادفتهم من تطورات التاريخ أطوار أغلقت دونهم مسالك النظر.
على أن الفكرتين - فكرة الحرية وفكرة التعقيل - مكملتان إحداهما للأخرى؛ لأنك إذا تحررت من قيود الجهل والوهم والخرافة، كنت بمثابة من قطع من الطريق نصفه السلبي، وبقي عليه أن يقطع النصف الآخر بعمل إيجابي يؤديه، كالسجين تخرجه من محبسه، فلا يكون هذا وحده كافيا لرسم الطريق الذي يسلكه بعد ذلك، وكذلك المتحرر من خرافة قد يقع في خرافة أخرى. ولهذا كان لا بد لتكملة الطريق على الوجه الصحيح، أن تكون أمام المتحرر بعد تحرره خطة مرسومة يهتدي بها، وما تلك الخطة الهادية إلا خطة «العقل» في طريقة سيره. فإذا قلنا: إن الفكر الفلسفي الحديث عندنا جاء متميزا بالدعوة إلى الحرية وإلى التعقيل، فقد قلنا بذلك إنه كفل أمامنا سواء السبيل بنصفيها: السلبي والإيجابي معا.
ولئن كانت العلوم المختلفة من طبيعة وكيمياء وطب وهندسة وغيرها، من شأنها كذلك أن تكفل التحرر من الخرافة كما تكفل «تعقيل» السير إلى هدف، وكانت تلك العلوم قد بدأت تفعل فعلها في حياتنا الفكرية منذ القرن الماضي أيضا؛ إلا أن الفلسفة أفعل إيقاظا للعقل، لسبب بسيط واضح، وهو أن العلوم تقرر ما قد ثبتت عند العلماء صحته، فلا يكون أمام الدارس إلا أن «يتعلم»، وأما الفلسفة فتضع دارسها دائما بإزاء المسائل التي تثيرها موضع من يسأل قائلا: هل هذا صحيح؟ وفي سؤال كهذا بداية التفكير النقدي الحر. ولا بأس في أن يتعارض مفكران، ما دام كل منهما يحاول إقناع زميله بطريقة الحجة العقلية بأحد معنييها السابقين أو بهما معا: بالشواهد الحسية، أو بالاستنباط السليم، أو بكليهما جميعا. فلا أحسبني مخطئا إذا زعمت أن قيام الفكر الفلسفي على صورته الصحيحة التي تثير عند الدارس قوة التفكير النقدي الحر المعقول (الحر من قيود الآراء المسبقة، والمعقول في خطة سيره نحو الهدف المقصود)، هو من أوضح العلامات التي تشير إلى قيام نهضة فكرية، حتى لأوشك أن أقول في هذا الصدد: دلني على نوع الفلسفة القائمة في بلد أو في عصر، أقل لك أي بلد هو وأي عصر. وإنه ليبدو لي في وضوح أن الفكر الفلسفي عندنا قد استقام على عوده منذ أواخر القرن الماضي، على أيدي «هواة» يتناولون الأمور تناولا فلسفيا دون أن يتخذوا من الفلسفة ذاتها موضوع دراسة متخصصة، ثم أخذ يزداد نماء، فيزداد جنوحا نحو الدراسة المتخصصة، في الجامعات، بل وفي بعض صفوف المدارس الثانوية. وإن نظرة تحليلية إلى ما نشرته وما تنشره المطابع من مؤلفات فلسفية وإلى سعة انتشار تلك المؤلفات بالنسبة إلى سواها، لتدل دلالة قاطعة على مدى الفكر الفلسفي عندنا طولا وعرضا وعمقا؛ فهو فكر قد شمل الماضي بنشر تراثه، والحاضر بعرض مذاهبه، والمستقبل بالتخطيط له، وهو فكر قد ترجم وألف في كل ميدان من ميادين البحث الفلسفي، فصدرت كتب ونشرت فصول يتعذر حصرها، تناولت الفلسفة الشرقية القديمة، والإسلامية، والغربية من يونانية ووسيطة وحديثة ومعاصرة؛ تناولتها من حيث تواريخها وشخصياتها ومشكلاتها ومذاهبها.
ولم نكن في هذه الحركة الفلسفية الشاملة إلا مقتفين خطى أسلافنا ومنتهجين نهجهم في فتح الأبواب والنوافذ جميعا ليجيء الهواء من شرق أو من غرب، من قديم أو جديد، من مؤمن أو من متشكك، حتى التقت وجهات النظر المختلفة، وانصهرت وكان منها ما جاز لنا أن نسميه بمذهبنا الفلسفي الخاص. لكن إذا كان هذا المذهب الفلسفي الخاص عند المسلمين الأقدمين تلخصه عبارة واحدة هي «التوفيق بين النقل والعقل» فأحسب أن المذهب الفلسفي الخاص عندنا اليوم تلخصه عبارة واحدة كذلك هي: «الجمع بين الحرية والعقل».
2
ولقد حمل هذه الرسالة الفكرية في تاريخنا الحديث رجال من طرازين: هواة ومحترفون. على أن «الهواة» كانوا أسبق من «المحترفين» ظهورا في الترتيب الزمني، حتى ليجوز لنا القول بأنهم هم الذين مهدوا الطريق أمام محترفي الفلسفة ووجهوا انتباههم وأثاروا اهتمامهم. ومع ذلك فالفريقان يختلفان جوهرا، اختلافا هو نفسه الاختلاف القائم بين معنيين تفهم بهما الفلسفة، ساد أولهما في «حكمة» الشرق، وساد ثانيهما في «تحليلات» الغرب. فالفلسفة بالمعنى الأول هي «فلسفة حياة»، والفلسفة بالمعنى الثاني هي «فلسفة تجريد نظري». وبالمعنى الأول تكون الفلسفة في صياغتها أقرب إلى الصياغة الأدبية، وبالمعنى الثاني تكون الفلسفة أقرب في أسلوبها إلى الصياغة العلمية.
ومن هؤلاء «الهواة» الذين مهدوا الطريق قبل ظهور الدراسة الفلسفية المتخصصة: جمال الدين الأفغاني في رده على الدهريين، ومحمد عبده في شرحه لمفاهيم العقيدة الإسلامية على أساس المنطق العقلي، وأحمد لطفي السيد في قيادته لحركة التنوير،
2
وطه حسين في إدخاله للمنهج العقلي في الدراسات الأدبية، وعباس محمود العقاد في دعوته إلى مسئولية الفرد أمام عقله في فكره وعقيدته. على أن هؤلاء «الهواة» أنفسهم ينقسمون فيما بينهم نوعين: أحدهما يجعل الدفاع عن الإسلام محور تفكيره، والآخر يجعل هدفه الرئيسي الدعوة إلى قيم ثقافية جديدة.
كانت نظرية النشوء والارتقاء من أهم ما أنتجه العلم الأوروبي في القرن التاسع عشر. وهي نظرية لا تصادف قبولا - للوهلة الأولى - عند من تغلب عليهم الثقافة الدينية،
3
فطفق هؤلاء يتساءلون: أين يكون الإسلام من هذه الدعوة؟ وكان أن أرسل كاتب من فارس خطابا إلى جمال الدين الأفغاني (1838-1898م) يطلب منه أن يوضح له هذا المذهب «الطبيعي» الذي أخذ يتردد صداه بين رجال العلم والفكر، فأجابه الأفغاني بأن ألف رسالته في «الرد على الدهريين»، (والدهريون هم الماديون) لأن الأفغاني قد رأى في هذا المذهب خطرا على العقيدة الدينية، وعلى الحضارة الإنسانية، مما يوجب على المفكر المسلم أن يتصدى له.
ألف الأفغاني هذه الرسالة باللغة الفارسية، ونقلها إلى العربية الشيخ محمد عبده مستعينا بأديب أفغاني (هو عارف أبو تراب)، وهي تنقسم قسمين: اختص أولهما ببيان حقيقة المذهب الطبيعي ونشأته التاريخية، واختص ثانيهما ببيان أن الإسلام هو أفضل الأديان. وليس يهمنا الآن مضمون الرسالة بقدر ما يهمنا منهاجها؛ وذلك لأننا وإن كنا نراه قد عالج مسألة علمية - هي نظرية التطور - بغير العلم، إلا أنه كان يحتكم في كل خطوة إلى ما ظن أنه حجة عقلية. مثال ذلك أن يحاول البرهنة على أن نظرية التطور تقيم بناءها على أساس الصدفة، على حين أن نظام الكون نظام مدبر، ولا يجوز عند العقل أن تلد المصادفات العمياء مثل هذا النظام المحكم. ومثال ذلك أيضا أن يحاول البرهنة على أن نظرية التطور حين تجعل في النبات أو الحيوان جرثومة يكمن فيها نبات أو حيوان كامل التركيب وهذا بدوره يحتوي جرثومة وهلم جرا إلى ما لا نهاية له، فهي بذلك تجعل اللامتناهي ينتج عن المتناهي، وهو ما لا يجوز عند العقل. ومثال ذلك أيضا قوله: «إذا سئل داروين عن الأشجار القائمة في غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحددها التاريخ إلا ظنا، وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كل منها عن الآخر في بنيته وشكله وأوراقه وأصوله وقصره وضخامته ورقته وزهره وثمره وطعمه ورائحته وعمره، فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟ أظن ألا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه.»
على هذا النحو «العقلي» كان الأفغاني يعالج الأمور التي يراها مؤدية إلى تقوية الإيمان الديني والقومي عند المسلمين، وإلى درء الخطر كلما رأي خطرا يتهدد ذلك الإيمان. على أن الأفغاني كان أقوى تأثيرا بشخصيته ودروسه وأحاديثه منه بكتابته، فكان في تاريخنا الفكري الحديث أشبه بسقراط في تاريخ الفكر الفلسفي عند اليونان، كما كان تلميذه الشيخ محمد عبده أشبه بأفلاطون وقد استقر في «أكاديميته» ليدون ما أحدثه أستاذه في العقول من أثر، فانظر - مثلا - إلى الإمام في مقالاته التي يثبت فيها دورسا سمعها من الأفغاني، فيستهل إحداها (وهي عن فلسفة التربية) بقوله: في ليلة الأحد الماضي (يشير إلى أول يونيو سنة 1879م) انعقد درس جمال الدين الأفغاني، وانتظم في سلكه جمع غفير من نبهاء طلبة العلم وفضلائهم، ثم أخذ يبسط مضمون ما قاله الأستاذ. وفي مقالة أخرى (عن فلسفة الصناعة) يبدأ الإمام بقوله: قد عاد حضرة الأستاذ الفاضل، والفيلسوف الكامل، السيد جمال الدين الأفغاني إلى التدريس بعد فترة تزيد مدتها عن سنة فابتدأ حفظه الله يقرأ شرح إشارات الرئيس ابن سينا في الحكمة العقلية وهو كتاب جليل يحتوي من هذا العلم أصولا جليلة، غرست أصولها في بلاد المشرق من مدة تقرب من ألف سنة، إلا أنها تنبت فروعها في المغرب، واجتنيت ثمارها لغير غارسيها. إلا أن هذا السيد الفاضل قد جمع في تدريسه بين تدقيق الشرقيين وبسط الغربيين، يجمع إلى الأصول فروعها، وإلى المقدمات نتائجها، وإلى المجملات تفاصيلها، بانيا جميع أقواله على البراهين الثابتة والحجج القديمة. وحسبنا من كل أقوال الأفغاني قوله بأن الدين الإسلامي يطالب المؤمنين به بأن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم، وكلما خاطب خاطب العقل، وكلما حاكم حاكم إلى العقل. تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة، وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة. •••
وكان هذا نفسه هو الأساس الذي أقام عليه الإمام محمد عبده (1849-1905م) فكره الفلسفي، إذ كان أهم ما اهتم به هو أن يوضح العقائد الأساسية في الإسلام توضيحا يبين استنادها إلى منطق العقل، فتراه في كتابه «الإسلام والنصرانية» يفصل القول في الأصول التي يقوم عليها الإسلام، يجعل الأصل الأول لهذا الدين هو «النظر العقلي». والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح «فقد أقامك منه على سبيل الحجة، وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟» (ط6، ص58)، ثم يجعل الأصل الثاني للإسلام «تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض» وفي شرح ذلك يقول: «... إنه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان : طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في عمله، والطريق الثانية تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل» (المصدر المذكور، ص59). وعلى هذا النحو راح الإمام يعدد بقية أصول الإسلام، لينتصر دائما لحكم العقل كلما أشكل الأمر، مما يجعله هو ومدرسته الفلسفية امتدادا صريحا للمعتزلة. ولم يقتصر الأمر عنده على ذكر مبادئ عامة، بل أخذ في مقالاته يطبق تلك المبادئ على موضوعات خاصة، كالقضاء والقدر، وتعدد الزوجات، وإصلاح التعليم، والتمدن ... إلخ الخ. ونكتفي هنا بمثل واحد لطريقته في التفكير على هذا المنهج، فنذكر مقاله عن «القضاء والقدر» - وهو جانب من العقيدة الإسلامية كثيرا ما اتخذ حجة على تأخر المسلمين، كما أنه كثيرا ما كان مقيدا لمن أساء فهمه من المسلمين - فيبين محمد عبده كيف أن هذا الاعتقاد هو نفسه الاعتقاد في الرابطة السببية بين الحادثات، على أن الإنسان قد يستطيع أن يرى من الأسباب ما هو حاضر لديه، لكن قد يمتنع عليه إدراك بقية التسلسل السببي في تتابع الحوادث. وسواء أدركه أو لم يدركه، فليس في القول بقيام الرابطة السببية ما يجوز أن يكون موضع اتهام، فقوام العلم نفسه هو هذه الرابطة في وقوع الحوادث. ولا ضير علينا في أن نتصور الإرادة الإنسانية نفسها حلقة من حلقات السلسلة السببية؛ إذ الإرادة متوقفة على إدراكنا لما يقع مما يؤثر في حواسنا؛ أي أنها تنبني على علم بما هو حادث. وما هو حادث مرتب مدبر.
إننا إذا ما خلصنا الاعتقاد بالقضاء والقدر من شناعة الجبر، وجدناه اعتقادا يحفز الإنسان على الجرأة والإقدام، ويخلق فيه الشجاعة والبسالة؛ إذ هو اعتقاد يطبع الأنفس على الثبات، واحتمال المكاره ويدعوها إلى الجود والسخاء، بل يحملها على بذل الأرواح في سبيل الحق، فانظر إلى هذا الاعتقاد الواحد لو أقمناه على منطق العقل، كيف يؤدي بنا إلى حرية في مجال العمل، على حين أنه إذا أسيء فهمه أدى إلى التواكل والخنوع.
هكذا تناول الإمام طائفة من المفاهيم الدينية بالتوضيح الذي يجعلها حوافز للنشاط والعمل. فمن قبيل ذلك أيضا فكرة التعارض الظاهري بين إرادة الله الكاملة وعلمه الكامل من جهة، وإرادة الإنسان من جهة أخرى؛ إذ يتساءل المتسائلون في هذا الصدد: أتجوز للإنسان حرية يفعل بها ما يريد، حين يكون الله قد علم علما سابقا بكل ما سيقع على طول الزمان؟ ويتصدى الإمام لهذا السؤال في كتابه «رسالة التوحيد» ليزيل عن موضوعه ما يكتنفه من غموض، حتى لا يكون سببا في تعطيل قدرات القادرين على العمل المنتج، فيقول في فصل عنوانه «أفعال العباد»: إن الله هو الذي قدر أن يجيء الإنسان مفكرا مختارا في عمله على مقتضى فكره، وكون علم الله محيطا بما يقع من الإنسان بإرادته لا ينفي أن يكون الإنسان حرا فيما يعمل وما يدع؛ لأن العلم السابق بما سيقع هو كعلم صاحب القضاء في الدولة أن العمل الفلاني إذا وقع حلت بفاعله العقوبة الفلانية، وإن ذلك ليكون معلوما عند فرد من الناس، ومع ذلك تراه يقدم على عمله، فانكشاف الواقع للعالم لا يصح - في نظر العقل - ملزما ولا مانعا. •••
ومثل هذا الموقف الذي وقفه الإمام محمد عبده تجاه المفاهيم الدينية من حيث تحليلها وتوضيحها لتظهر مسايرتها لأحكام العقل، ولتصبح عوامل على حرية الإنسان لا قيودا تكبله، وقفه كذلك الأستاذ عباس محمود العقاد تجاه طائفة كبيرة من المفاهيم الأدبية والسياسية والاجتماعية، فضلا عن تناوله لأصول العقيدة الإسلامية تناولا يسير به في نفس الطريق التي سلكها من قبله محمد عبده؛ وأعني إقامة الحجة المنطقية على ما بين تلك العقيدة وحرية الإنسان وكرامته من توافق تام. وإنه لمما يميز العقاد في جدله قدرته على دقة التحليل وتبيين الفوارق اللطيفة بين الأفكار المتقاربة، واستخلاص النتائج من مقدماتها.
ولقد حاول في مؤلفات كثيرة أن يبين كيف أن الإسلام يشجع بصفة خاصة، بل يفرض على الناس فرضا، أن يحتكموا إلى العقل في أمورهم، وأن يكون الإنسان حرا مختارا في حياته، مسئولا عن حريته تلك وعن اختياره أمام نفسه وأمام ربه. ففي كتابه «التفكير فريضة إسلامية» يقول: إن للقرآن مزية واضحة هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف، ولئن كانت كلمة «العقل» مختلفة المعاني، فقد ألم القرآن، بهذه المعاني كلها، حتى تكون الدعوة إلى العقل شاملة له بكل معانيه، فهو يشيد بالعقل حين يكون معناه الوازع الأخلاقي الذي يمنع عن المحظور والمنكر، ويشيد به حين يكون المقصود به بعض العمليات الإدراكية كعملية إنشاء التصورات الكلية وعملية ربط هذه التصورات الكلية في أحكام، وعملية استدلال النتائج من تلك الأحكام، وكذلك يشيد القرآن بالعقل حين يكون معناه حكمة الحكيم ورشد الرشيد. وإذ يحض القرآن على العقل بمعانيه تلك جميعا: العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، تراه «لا يذكر العقل عرضا مقتضبا، بل يذكره مقصودا مفصلا على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان».
وأما الدعوة إلى الحرية، فلم يترك العقاد بابا من أبواب الحياة والفكر إلا دافع عن وجوب الحرية فيه. ويكفينا في هذا العرض السريع أن نذكر له رأيا تميز به، وهو الرأي الذي جعل به الجمال والحرية شيئا واحدا، فالشيء جميل بمقدار ما هو حر طليق من القيود التي تعوق حركة الحياة، فالماء الجاري أجمل من الماء الآسن، والوردة التي تجري فيها الحياة أجمل من شبيهتها المصنوعة من ورق، والصوت الجميل هو الصوت «السالك» والعضو الجميل هو الذي يجيء بالمقدار الذي يمكنه من أداء وظيفته الحيوية، وهلم جرا. والأمة التي تعشق الجمال في الطبيعة وفي الفن لا بد محققة لنفسها الحرية السياسية؛ لأن الجمال والحرية وجهان لحقيقة واحدة. ففي مقال للعقاد عن «الحرية والفنون الجميلة» (نشر سنة 1923م) يقول إن حب الأمم للحرية يقاس بحبها للفنون الجميلة ولا يقاس بما ينشأ بين ظهرانيها من صناعات وعلوم نفعية تخدم مطالب العيش؛ ذلك لأن مطالب العيش محتومة على الإنسان لا قبل له بردها، وأما حين يكون الإنسان غير مدفوع بقوانين الطبيعة حين يختار ما يختاره أو يدع ما يدعه، فتلك هي الحرية بمعناها الصحيح ، وهي حالة تتحقق حين يتعلق الإنسان بالفن الجميل.
وفي مقال له آخر عنوانه: «في معرض الصور» (نشر سنة 1924م) يبين العقاد الصلة الضرورية بين الحرية وبين القيود التي لا بد من قيامها ليتغلب عليها الإنسان الحر، وإلا فبغير قيد فلا حرية، فانظر إلى بيت الشعر وتصرف الشاعر فيه: إنه مثل حق لما ينبغي أن تكون عليه الحياة بين قوانين الضرورة وحرية الجمال، فهو قيود شتى من وزن وقافية واطراد وانسجام، غير أن الشاعر يعرب عن طلاقة نفس لا حد لها، حين يخطر بين كل هذه السدود خطرة اللعب، ويطفر من فوقها طفرة النشاط، ويطير بالخيال في عالم لا قائمة فيه للعقبات والعراقيل. وأهم مؤلفات العقاد التي يشيع فيها فكره الفلسفي: «الله» و«مطالعات في الكتب والحياة» و«الفلسفة القرآنية» و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» و«ابن رشد» و«ابن سينا». •••
كذلك كان الدكتور طه حسين فيما كتب وما بحث، داعيا إلى الحرية الفكرية وإلى التزام المنهج العقلي الصرف؛ حتى في البحوث التي قد تبدو غير خاضعة لذلك المنهج، فها هو ذا يقول في كتابه «في الأدب الجاهلي» (ص67): أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما، والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثرا، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا، وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم، والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث. فكان الدكتور طه حسين بهذا الذي صدر به بحثه في الأدب الجاهلي، كأنما يضع منهاجا لحياتنا الجامعية كلها، مؤداه أن يكون الباحث موضوعي النظر، مستقلا حرا غير مقيد بالآراء السابقة التي قيلت في موضوع بحثه، لا يميل مع الهوى، ملقيا بزمام بحثه إلى المنهج العلمي وحده، ولتكن النتائج بعد ذلك ما تكون، فما كان اختلاف الرأي في العلم سببا من أسباب البغض، إنما الأهواء والعواطف هي التي تنتهي بالناس إلى ما يفسد عليهم الحياة من البغض والعداء (ص69).
ولكي يؤيد الدكتور طه حسين دعوته إلى التعقيل، أخذ في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» يبين كيف كانت مصر طوال تاريخها ذات مزاج عقلي خالص، بدليل تأثيرها وتأثرها باليونان الذين هم رمز للفكر المنطقي الهادئ. وحسبنا في ذلك أن نعلم أن الإسكندرية كانت ذات يوم هي المقر الرئيسي للثقافة اليونانية بكل ما فيها من فلسفة وعلم، يقول: «فمن المحقق أن الثقافة اليونانية - على اختلاف فروعها وألوانها - قد لجأت إلى مصر فوجدت فيها ملجأ أمينا وحصنا حصينا، وظفرت فيها من النمو والانتشار بما لم تظفر بمثله، حين كانت مستقرة في أثينا أو في غيرها من المدن اليونانية الأوروبية أو الآسيوية» (19).
ولئن كانت مصر عقلية الطابع قبل الإسلام، فهي كذلك عقلية الطابع بعد الإسلام؛ لأن الإسلام يساير العقل ولا يضاده، وإلا فكيف يكون قوام الحياة العقلية في أوروبا هو اتصالها بالشرق الإسلامي، بحيث ينشأ في أوروبا عقل علمي خلق أوروبا الحديثة، ثم نتصور مع ذلك أن الأصل الذي أمد أوروبا بثقافتها العقلية محروم من ذلك الطابع العقلي نفسه. فهل يعقل أن تنشأ ثقافة في شرقي البحر الأبيض المتوسط «فلا تؤثر في عقول أصحابها شيئا، فإذا أرسلوها إلى غرب هذا البحر خلقت أهل هذا الغرب خلقا جديدا؟» (ص25). ومن المؤلفات الفلسفية للدكتور طه حسين «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» و«قادة الفكر».
3
نشأت الجامعات فنشأت بأقسام الفلسفة فيها دراسات من نوع آخر غير ما قد عرضناه عند متفلسفة المفكرين، فلم يعد الأمر هنا مقصورا على أن يصطبغ الفكر بصبغة فلسفية، بل جاوز ذلك إلى البحوث الأكاديمية التي تناولت نشر التراث الفلسفي نشرا محققا، كما تناولت نقل المذاهب الفلسفية الغربية قديمها وحديثها، نقلا اكتفى بالترجمة حينا وأضاف إلى الترجمة تعليقا ونقدا حينا آخر. وأخيرا تناول التأليف في شتى الموضوعات الفلسفية، تأليفا قد يقتصر على مجرد عرض الفكرة عرضا علميا، وقد يزيد على ذلك بأن يجيء معبرا عن مذهب خاص يذهب إليه المؤلف.
ونبدأ بنشر التراث الفلسفي، لأنه بمثابة وضع الأساس الذي سيقوم عليه البناء الجديد؛ فما من نهضة ثقافية إلا واقترنت بإحياء التراث القديم، كأنما يريد الأبناء أن يستوثقوا من استقامة طريقهم؛ إذ هم سائرون على سبيل موصولة من أسباب الحضارة، يسلم فيها الآباء ذخيرتهم إلى أبنائهم. وإن هذه العودة إلى الماضي لهي دائما دعوة إلى الحرية الفكرية غير مباشرة، حتى ليصفوها في الحركات الأدبية «بالرومانسية»؛ لأنها في صميمها خروج على مقتضيات اللحظة الراهنة والضرورة القائمة، ابتغاء الوصول إلى ما هو أبقى على الزمن، وذلك فضلا عن أنه لا مندوحة لباحث عن مطالعة ما قد تركه السابقون في موضوع بحثه. ونذكر فيما يلي طائفة من أهم ما نشر من التراث الفلسفي الإسلامي.
فمن «الكندي» نشر الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة «رسائل الكندي الفلسفية» في جزأين، (1950-1953م) وقد صدرهما ببحث مستفيض عن حياة الكندي وفلسفته، ثم قدم لكل رسالة بمقدمة تحليلية لما تحتوي عليه الرسالة من مادة فلسفية، ونشر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (1948م) «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله». كما نشر «رسالة العقل» (1950م)
ومن «الفارابي» نشر الدكتور عثمان أمين «إحصاء العلوم» (ط2، 1949م) وقدم له بمقدمة عن حياة الفارابي وفلسفته، وعلق عليه بهوامش كثيرة. ومن «ابن سينا» ما تزال تنشر أجزاء من كتاب «الشفاء»، تنشرها لجنة بإشراف الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، وقد نشر منه حتى الآن «المدخل» (1952م) و«المقولات» (1958م) وقام بالتحقيق في كليهما الأب قنواتي، والدكتور الأهواني، والمرحوم الأستاذ محمود الخضيري، و«البرهان» وقد حققه وقدم له الدكتور أبو العلا عفيفي (1956م)، وكذلك نشره الدكتور عبد الرحمن بدوي (1954م). وحقق الدكتور الأهواني كتاب «السفسطة» (1958م)، وحقق الدكتور محمد سليم كتاب «الخطابة» (1954م) وحقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «فن الشعر» (1953م)، ونشر جزءان من «الإلهيات» (1960م) حقق أولهما الأب قنواتي والأستاذ سعيد زايد، وحقق ثانيهما الأساتذة محمد يوسف موسى، وسليمان دنيا، وسعيد زايد.
ونشر للدكتور محمد ثابت الفندي من مؤلفات ابن سينا رسالة في «معرفة النفس الناطقة وأحوالها» (1934م). وحقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «عيون الحكمة» (1954م). ونشر الأستاذ عبد السلام هارون «الرسالة النيروزية» (1954م).
ومن الإمام «الغزالي» نشر الدكتور عبد الحليم محمود «المنقذ من الضلال» (1955م) وقدم له، وحقق الأستاذ سليمان دنيا «تهافت الفلاسفة» (ط2، 1955م).
ومن «ابن رشد» نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي «تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر» و«تلخيص الخطابة» (1960م)، ونشر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني «تلخيص كتب النفس» (1950م)، وحقق الدكتور عثمان أمين «تلخيص ما بعد الطبيعة» (1947م)، ونشر الدكتور محمود قاسم «مناهج الأدلة في عقائد الملة».
ومن «ابن عربي» حقق الدكتور أبو العلا عفيفي «فصوص الحكم» (1946م).
ومن «أبي حيان التوحيدي» حقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «الإشارات الإلهية» (1950م).
ومن «الكرماني» نشر الدكتور محمد مصطفى حلمي والدكتور (المرحوم) محمد كامل حسين «راحة العقل» (1948م).
وكذلك قام الدكتور محمد مصطفى حلمي (1954م) بالتحقيق والتعليق والتقديم لكتاب «توفيق التطبيق في إثبات أن الشيخ الرئيس من الإمامية الاثنا عشرية» تأليف علي بن فضل الله الجيلاني.
ومن «مسكويه» حقق الدكتور عبد الرحمن بدوي «الحكمة الخالدة» (1952م) وللمبشر بن فاتك نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي «مختار الحكم ومحاسن الكلم» وقدم له بمقدمة طويلة (وقد نال هذا الكتاب جائزة الدولة التشجيعية لسنة 1962م).
وحقق الدكتور علي عبد الواحد وافي «المقدمة» لابن خلدون.
وبالإضافة إلى النصوص السالف ذكرها، نشرت مترجمات قديمة؛ من ذلك «منطق أرسطو» وقد نشره الدكتور عبد الرحمن بدوي كما نشر «فن الشعر» و«في النفس» لأرسطوطاليس و«كتاب النبات» المنسوب إلى أرسطوطاليس. ونشر الدكتور أبو العلا عفيفي «مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة» لأرسطو. وأعاد نشرها الدكتور عبد الرحمن بدوي. وللدكتور بدوي أيضا مجموعات نشرها تحت عنوان «أفلوطين عن العرب»، و«أرسطو عند العرب»، كما نشر «معاذلة النفس» لهرمس، و«الآراء الطبيعية» المنسوب إلى فلوطرخس، و «الخير المحض» لأبرقلس، و«مسائل في الأشياء الطبيعية» لأبرقلس، و«حجج في قدم العالم» لأبرقلس، وكتاب «الروابيع» لأفلاطون. ونشر الدكتور أحمد فؤاد الأهواني «إيساغوجي» لفرفوريوس.
وما تزال حركة نشر التراث الفلسفي قائمة، حتى ليرجى ألا يمضي وقت طويل قبل أن نكون قد أخرجنا إلى النور كنوز الأسلاف. وعندئذ فقط يمكن للدراسة العلمية أن تقوم على أساس صحيح.
4
وإلى جانب إحياء تراثنا القديم، قامت حركة قوية في ميدان الترجمة، فنقل إلى اللغة العربية من المؤلفات الفلسفية الغربية والشرقية ما يكاد يشمل جوانب الفلسفة جميعا. ونقول «يكاد» لأن هنالك ما يزال جوانب وأعلام لم تمسها حركة الترجمة بعد، أو مستها مسا خفيفا، على أهمية تلك الجوانب وهؤلاء الأعلام. وحسبنا في هذا الصدد أن نقول إن «كانت» و«سبينوزا» و«ليبنتز» و«هيجل» لم يترجم منهم شيء، وإن «أفلاطون» لم يترجم منه إلا قدر ضئيل.
وكان في طليعة المترجمين الأستاذ (المرحوم) أحمد لطفي السيد؛ فقد ترجم من أرسطو «علم الأخلاق إلى نيقوماخوس» (1924م) و«الكون والفساد» (1932م) و«علم الطبيعة» (1935م) و«السياسة» (1947م).
وترجم كاتب هذا المقال محاورات الدفاع وأوطيفرون، وأقريطون، وفيدون، من محاورات أفلاطون، وترجمت «المأدبة» مرتين، إحداهما للأستاذ محمد لطفي جمعة، والأخرى للأستاذ وليم الميري (1954م).
وفي الفلسفة الإسلامية ترجم الدكتور أبو ريدة عن دي بور «تاريخ الفلسفة في الإسلام».
وفي الفلسفة الحديثة ترجم الدكتور أبو العلا عفيفي عن وولف «فلسفة المحدثين والمعاصرين» (1936م)، وعن كولبه «المدخل في الفلسفة» (1942م)، وترجم الدكتور عثمان أمين عن ديكارت «التأملات في الفلسفة الأولى» (1959م)، وترجم الأستاذ محمود الخضيري «مقال في المنهج» لديكارت، وترجم الدكتور الأهواني «البحث عن اليقين» لجون ديوي (1960م)، كما ترجم كاتب هذا المقال كتاب «المنطق، نظرية البحث» لجون ديوي (1960م)، وترجم له أيضا الأستاذ أمين مرسي قنديل «تجديد في الفلسفة» (1958م) ولوليم جيمس ترجم الدكتور محمود حب الله «إرادة الاعتقاد» (1946م) والدكتور محمد فهمي الشنيطي «بعض مشكلات فلسفية» (1962م).
ولبرتراند رسل ترجمت كتب كثيرة من أهمها «تمهيد للفلسفة الرياضية» ترجمة الدكتور محمد مرسي أحمد (1963م) و«تاريخ الفلسفة الغربية» (1954م) ترجمة كاتب هذا المقال و«مشاكل الفلسفة» ترجمة الدكتورين عطية هنا وعماد إسماعيل (1947م) و«فلسفتي كيف تطورت» ترجمة الأستاذ عبد الرشيد الصادق (1959). ولخص كاتب هذا المقال كتاب رسل (موجز الفلسفة) وجعل عنوانه «الفلسفة بنظرة علمية».
وترجم الدكتور عبد الحميد صبرة «نظرية القياس الأرسطية» تأليف أوكاشيفتش، والدكتور مصطفى بدوي «الإحساس بالجمال» تأليف سانتياتا (1959م).
ومن أعمال المستشرقين ترجم الدكتور أبو العلا عفيفي «دراسات في التصوف الإسلامي» تأليف نكلسون، والدكتور عبد الرحمن بدوي «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية» وهو دراسات لطائفة من المستشرقين.
الحق أن الحصر أو ما يشبه الحصر متعذر علينا في ميدان الترجمة الفلسفية وحسبنا هذه النماذج القليلة لتدل على سعة الحركة وشمولها، وإن كنا ما نزال نتوقع لها أن تمتد لتشمل ما لم تشمله بعد من أمهات النصوص.
5
على أنه إذا كانت حركتا نشر التراث والترجمة تدلان على أن الفكر الفلسفي عندنا يريد أن يقيم بناءه على أسس علمية سليمة، فإن حركة التأليف الفلسفي تضيف إلى ذلك دلالة جديدة، لأنها تكشف عن مذاهب الدارسين واتجاهاتهم، كشفا صريحا أحيانا، أو متضمنا في طريقة الاختيار والعرض أحيانا أخرى. ولسنا نخطئ إذا زعمنا أنه ما من مذهب رئيسي من المذاهب المعاصرة، أو من المذاهب التقليدية إلا وقد وجد له من بين فلاسفتنا نصيرا؛ مما يدل أوضح الدلالة على أننا نتميز بما تميز به الفلاسفة المسلمون قديما، من الاستماع إلى جملة الأفكار ليتخذ كل ما يتشيع له بعد أن يصوغه صياغة يعبر بها عن فكره المستقل. لكننا على اختلافنا في وجهة النظر نلتقي جميعا عند الطابع العام، وهو - كما أسلفنا - الجمع بين الدعوة إلى الحرية والاحتكام إلى العقل. وسترى من بيننا من يبرز فكرة المذهب العقلي أكثر مما يبرز فكرة الحرية الإنسانية، ومن يبرز فكرة الحرية الإنسانية أكثر مما يبرز فكرة المذهب العقلي. سترى منا من يناصر المثالية ومن يناصر التجريبية، لكننا جميعا نعبر عن جوانب مختلفة من موقف واحد، ومع ذلك فلا بد من الاعتراف هنا بأن هذه العناصر الكثيرة ما زالت تحتاج إلى مزيد من صهر حتى تكون أفصح تعبيرا عن وجهة نظر عربية خالصة.
ولعل يوسف كرم (1886-1959م) أن يكون في مقدمة أنصار المذهب العقلي من زمرة المحترفين، وقد بسط وجهة نظره الفلسفية في كتابين هما «العقل والوجود» و«الطبيعة وما بعد الطبيعة» (1959م). غير أنه لم يكن متطرفا في الأخذ بهذا المذهب، ولقد وصف هو نفسه مذهبه الفلسفي بأنه عقلي معتدل؛ وذلك لأنه لم يرد من العقل سوى أن يكون أداة صالحة للوصول إلى النتائج الصحيحة التي لا تتعارض مع مبادئ المنطق السليم، والتي تؤدي في الوقت نفسه إلى الإيمان؛ لأن الإنسان - في رأيه - حيوان عاقل متدين، فلا هو بالكائن الذي يتميز بالعقل وحده دون الإيمان، ولا بالإيمان وحده دون العقل، ولا تصلح حياته إلا إذا اجتمع عنده يقين العقل من جهة وطمأنينة القلب من جهة أخرى.
لقد أخطأ المذهب التجريبي - في رأي يوسف كرم - حين جعل الحواس مصدرا وحيدا للمعرفة، وذلك لأن «للإنسان قوة داركة متمايزة من الحواس، تدعى العقل، شأنها أن تدرك معاني المحسوسات مجردة عن مادتها، ومعاني أخر مجردة بذاتها، وأن تؤلف هذه المعاني في قضايا وأقيسة واستقراءات، فتنفذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، محاولة استكناه ماهيته، وتعيين علاقاته مع سائر الموجودات. ولما كانت موضوعات العقل مجردة، كانت أفعاله التي ذكرناها مجردة كذلك، وبذلك يبطل المذهب الحسي الذي يقصر المعرفة الإنسانية على الحواس، ويرمي إلى أن يرد إليها ويفسر بها سائر المدركات» (من تصدير كتاب «الطبيعة وما بعد الطبيعة»).
وقد أخذ فيلسوفنا على نفسه خلال كتابه «العقل والوجود» أن يتقصى أنواع المدركات التي كان يستحيل على الإنسان تحصيلها إذا هو اعتمد على تحصيل الحواس وحدها، فلئن كان في مقدور الحواس أن تلم بظواهر الأشياء، فالعقل وحده هو المدرك لماهياتها، وإدراك الماهية إنما يكون بتجريد المعاني عن مادتها، وذلك فضلا عن المجردات الأخرى التي يدركها العقل عن غير طريق المادة، كأفكارنا عن الوجود والجوهر والعرض، والعلية، والخير والشر، والحق والباطل، كما يدرك العقل أيضا نسبا وعلاقات كثيرة، كالعلاقة الكائنة بين أجزاء الشيء الواحد، والعلاقات الكائنة بين الأشياء بعضها مع بعض، وكالعدد والترتيب، فإدراك علاقات كهذه لا يكون بالحواس، لأن الحواس تدرك الأطراف المتعلقة بتلك العلاقات نفسها، أضف إلى ذلك كله إدراك العقل - دون الحواس - للمبادئ العامة التي تنبني عليها العلوم، وإدراكه للموجودات غير المادية كالنفس والله.
هذه كلها ضروب من الإدراك العقلي، تثبت وجود العقل متميزا من الحواس وإدراكاتها، لكن إثبات وجوده لا يكفي وحده دليلا على قيمة ما يدركه، وإذن فلا بد للفيلسوف من خطوة أخرى يدحض بها مذهب الشك الذي يتشكك في صدق المدركات العقلية، حتى إذا ما فرغ من إثبات الصدق لتلك المدركات، خطا خطوة أخرى ليثبت بها أن ذلك الصدق ليس تصوريا بحتا، كما يقول أنصار المذهب التصوري الذين إن آمنوا بوجود العقل وبمدركاته العقلية، فهم يقصرون ذلك الوجود وتلك المدركات على داخل العقل، وبذلك ينكرون على الإنسان حق الخروج من عالم التصورات الداخلية إلى الوجود الخارجي.
هكذا عارض يوسف كرم المذهب التجريبي الذي يحصر نفسه في الإدراكات الحسية وحدها، كما عارض المذهب التصوري الذي يحصر نفسه في الإدراكات العقلية دون حق الخروج منها إلى ما يقابلها من موجودات خارجية، ومن ثم فهو «عقلي» يثبت وجود العقل ووجود مدركاته وصدق أحكامه، وهو أيضا «واقعي» يثبت وجود العالم الخارجي؛ ولذلك جاز له في كتابه «الطبيعة وما بعد الطبيعة» أن يبحث في كائنات الطبيعة من جماد وحيوان وإنسان، حتى إذا ما فرغ من ذلك انتقل إلى ما بعد الطبيعة ليقول إن العلم به يشتمل على ثلاثة موضوعات كبرى؛ أولها: مبادئ المعرفة، وثانيها: المبادئ العامة للوجود، وثالثها: موضوع الألوهية. ثم يفصل القول في هذه الموضوعات تفصيلا يعرض فيه لما قيل عند غيره من أقدمين ومحدثين، وما يحب هو أن يطرحه من رأي جديد.
4 •••
كان يوسف كرم قد اعتزم إصدار مؤلف في «الأخلاق» يكمل به معالم مذهبه «العقلي المعتدل» الذي يجمع بين المثالية والواقعية ، بل يقال إنه كان قد فرغ من كتابة فصول من ذلك المؤلف، لكن المنية عاجلته دون إتمام ما قد بدأ فيه، وكأنما أراد الله لحركة التفكير الفلسفي في بلادنا أن تكتمل بناء، بحيث يكمل واحد منا واحدا، فأخرج لنا الدكتور توفيق الطويل كتابا في «الفلسفة الخلقية: نشأتها وتطورها» (1960م) استعرض فيه مذاهب الأخلاق على اختلافها منذ اليونان الأقدمين إلى يومنا الراهن، لينتهي من هذا كله إلى اتجاه يختاره لنفسه، هو أقرب ما يكون إلى الاتجاه «العقلي المعتدل» الذي اتجه إليه يوسف كرم في الجوانب الفلسفية الأخرى. ويطلق الدكتور الطويل على اتجاهه هذا في الأخلاق اسم «المثالية المعدلة»، وفي تحديد مراده منها يقول (ص355 وما بعدها): «يشارك الإنسان النبات في النمو والحيوان في الحس وينفرد دون جميع الكائنات بالعقل، ومن أجل هذا كانت مزاولة التأمل العقلي أكمل حالات الوجود الإنساني فيما قال أرسطو قديما ... والإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يقنع بالواقع، ويتطلع إلى ما ينبغي أن يكون، يضيق بالسلوك الذي تسوق إليه الشهوات والعواطف، ويكبر السلوك الذي يجري بمقتضى الواجب؛ فإننا لا نقول للحجر الهابط بفعل الجاذبية إلى أسفل: ينبغي أن تتدحرج صاعدا إلى أعلى، ولا للوحش الذي يمزق فريسته: ينبغي أن ترأف بها وترحم ضعفها، من أجل هذا كان صعودنا سلم الإنسانية، أو هبوطنا مدارج الحيوانية، إنما يكون بمقدار حظنا من المثالية التي تعبر عندنا عما ينبغي أن نكونه.» «وتقوم المثالية المعدلة في تحقيق الذات بكل قواها الحيوانية، وهذا التحقيق يتطلب الإلمام بحقيقة الطبيعة البشرية ومعرفة إمكانياتها، ووضع مثل إنساني رفيع يكفل وحدتها ويضمن تكاملها، وفي ظله يشبع الإنسان قواه جميعها؛ الحسي منها والروحي، بهداية العقل وإرشاده، وتتآخى الأنانية والغيرية، فيزول العداء التقليدي بين توكيد الذات ونكرانها ...»
من هذا نرى كيف وقف الدكتور الطويل موقفا يجمع فيه بين طرفين لم يكونا ليتلاقيا لولا قدرته على التوفيق بين الضدين؛ فقد كان المتطرفون من الحسيين - من جهة - ينشدون أسس الأخلاق فيما يحقق للإنسان سعادته، وكان المتطرفون من العقليين - من جهة أخرى - يلتمسون أداء الواجب الذي يأمرنا منطق العقل أو يأمرنا صوت الضمير بفعله، سواء حقق هذا الأداء للواجب سعادة للفرد القائم به، أم لم يحقق، لكن لماذا لا يكون أداء الواجب محققا للسعادة في آن معا؟ لماذا نفترض أن تحقيق القيم الروحية العليا يتعارض مع الرغبات البدنية؟ ألا إن هذا الفصل بين ما هو روح وما هو بدن لمن شأنه أن يفكك الطبيعة البشرية التي هي روح وبدن ، وأن يحدث من الأمراض النفسية ما هو معروف، ومن ثم وقف باحثنا موقفه الوسط في الأخلاق، والتمس السعادة في الفضيلة والمتعة في الواجب، فكان للحواس عنده دورها وللعقل دوره، فتلك تشتهي وهذا ينظم لها طريقة الإشباع، بحيث لا تطغى سعادة الفرد على سعادة المجموع.
5 •••
لكن هذا الموقف «المعتدل» الذي لا يريد أن يمضي مع الحسيين إلى آخر شوطهم ولا مع العقليين إلى آخر شوطهم، لا يقنع من كان مزاجه البت الحاسم في الأمور، فلئن كانت الرءوس - كما قال وليم جيمس - صنفين: رءوس لينة ورءوس يابسة، الأولى تلاين وتداور وتأخذ الأمور على هوادة وفي شيء من الاستسلام للعاطفة القلبية، على حين أن الثانية تتصلب عند الحقائق، ولا يهمها إلا أن يرضى العقل بمثل الرضا الذي يرضاه وهو يتناول مسائله العلمية المعملية، أقول: لئن كانت الرءوس تنقسم هذين القسمين، كان الآخذون بالمذهب العقلي المعتدل هم من الصنف الأول، وكان إلى جانبهم في حياتنا الفكرية نفر من الصنف الثاني، وبين من يمثلونه في تاريخنا الفلسفي المعاصر كاتب هذا المقال. فهو في كتابه «نحو فلسفة علمية» (وقد ظفر بجائزة الدولة التشجيعية لسنة 1960م) وفي كتاب له آخر «خرافة الميتافيزيقا» (1953م)
6
يدعو دعوة صريحة إلى أن تتشبه الفلسفة بالعلم، لا بالمعنى الذي يجعل الفلاسفة يشاركون العلماء في موضوعاتهم، فيبحثون في الفلك مع علماء الفلك، وفي الطبيعة مع علماء الطبيعة، وفي تطور الأحياء مع علماء البيولوجيا وهكذا، بل إنه - على نقيض ذلك - يحرم على الفيلسوف - من حيث هو فيلسوف - أن يتصدى للحديث عن العالم حديثا إخباريا بأي وجه من الوجوه لأنه لا يملك أدوات البحث التي تمكنه من ذلك، فليس هو منوطا بالملاحظة وإجراء التجارب حتى ينتهي بها إلى أحكام إخبارية عن العالم. ولقد كان من مزالق فلاسفة التأمل أن ورطوا أنفسهم فيما ليس من شأنهم، إذ كانوا يظنون أن الفكر الخالص وحده في وسعه أن يصف الوجود الخارجي، مع أن ذلك محال.
ففيم - إذن - يريد صاحب هذه الدعوة أن تتشبه الفلسفة بالعلم؟ إنه يريد لها ذلك بعدة معان أخر، أولها التزام الدقة البالغة في استخدام الألفاظ والعبارات، فإذا كان العالم يحدد على وجه الدقة مصطلحاته العلمية، حين يتحدث عن «الجاذبية» و«الضوء» و«الصوت» إلخ فكذلك ينبغي للفيلسوف أن يكون بهذه الدقة نفسها حين يتحدث - مثلا - عن «النفس» و«العقل» و«الخير» ... إلخ. نعم إن الفلاسفة الذين يستخدمون ألفاظا كهذه، يحددونها بتعريفات يشترطونها لها، لتفهم على ضوئها، ثم يستنبطون من تلك التعريفات ما يجوز لهم بحكم مبادئ الاستنباط أن يستنبطوه، ولا غبار على ذلك، لو كانوا على وعي كامل بأن نتائجهم التي ينتهون إليها مستندة في صدقها إلى التعريفات التي اشترطوها بادئ ذي بدء؛ أي أن النسق الفلسفي عندئذ إن كان صادقا، فصدقه رياضي بحت، معناه أن أوله متسق مع آخره، وأنه لا تناقض بين أجزائه، لكن ليس من حقنا أن نخرج من حدود هذا النسق لنقول إنه يصور العالم الخارجي كما يقول أصحاب الفلسفة التأملية عن بناءاتهم الميتافيزيقية، فإما أن يجعل الباحث خطوته الأولى محققة على الواقع، وعندئذ يكون من حقه أن يزعم لأي نتيجة تلزم عن تلك الخطوة الأولى بأنها مطابقة لما هو واقع، وإما أن تكون تلك الخطوة الأولى تعريفا من عند المفكر لمفهومات يريد استخدامها، أو أن يكون مسلمات أخرى يضعها المفكر بادئ ذي بدء، فلا يصبح من حقه بعد ذلك أن يزعم لأي نتيجة تلزم عن تلك الخطوة الأولى بأنها تحمل عن العالم خبرا أو أنها تصوره بأي وجه من وجوه التصوير.
ولكن ماذا يكون موضوع البحث الفلسفي الذي يراد للفيلسوف أن يتناوله بهذه الدقة العلمية؟
إنه - كما أسفلنا - لا يكون موضوعا مما تبحث فيه العلوم، بل يكون هو التشكيلات الرمزية - من عبارات لغوية ورموز رياضية وغيرها - التي يستخدمها العلماء في صياغة علومهم، فيحللوها تحليلا يخرج مضمراتها من الكمون إلى العلن الصريح، وهاهنا يظهر في وضوح إن كانت منطوية على تناقض أو على عناصر من شأنها أن تجعل العبارة بغير معنى علمي، أم كانت سليمة البنية المنطقية فيكون العلم كله سائرا على هدى. وبهذا تصبح الفلسفة هي التحليل المنطقي، بدل أن يكون التحليل المنطقي جزءا من الفلسفة.
وإذن فهذه «التجريبية العلمية» إنما هي دعوة إلى الأخذ بأحكام العقل الصارم في فهم العبارات التي يجريها الكاتبون على أقلامهم، حتى يأخذهم سحر الألفاظ فيستعملوها لأسباب أخرى غير قوتها الدلالية. على أن اللفظة في هذه الدعوة الجديدة لا تكون لها قوة دلالية إلا إذا أشارت في نهاية التحليل إلى معطيات حسية أعطتها إيانا كائنات فعلية في العالم الخارجي، اللهم إلا أن تكون اللفظة مستخدمة بتعريف اشتراطي يعفيها من الوظيفة الإشارية، لكن التفكير عندئذ يكون مفهوما على أنه منحصر في نسقه الداخلي ولا شأن له بدنيا الواقع. •••
وإلى جانب هذه الدعوة إلى تحكيم العقل وحده - دون العاطفة - فيما يكون له صلة بالوقائع الخارجية، وصلة بالتقريرات الموضوعية العلمية التي تقال عن تلك الوقائع، تقوم في مجالنا الفلسفي دعوة إلى حرية الفرد، يقيمها صاحبها وهو الدكتور عبد الرحمن بدوي على أساس من الفلسفة الوجودية. فلئن كانت التجريبية العلمية دعوة إلى «الفهم» العقلي الواضح، فإن دعوة الدكتور بدوي هي إلى الإرادة الحرة التي لا تكتفي بمجرد الفهم العقلي، بل تضيف إليه الفاعلية المنتجة النشيطة.
ففي كتابه «الزمان الوجودي»
7
يقسم الوجود نوعين: فزيائي وذاتي، الثاني وجود الذات المفردة، والأول كل ما عدا الذات، سواء أكان ذاتا واعية أم كان أشياء. أما الوجود الذاتي فوجود مستقل بنفسه في عزلة تامة من حيث الطبيعة عن كل وجود للغير ولا سبيل إلى التفاهم الحق بين ذات وذات، إذ كل منهما عالم قائم وحده، وأما وجود الغير فلا نسبة له إلى الذات إلا من حيث الفعل، والفعل ضرورة للذات؛ لأن الفعل تحقيق لإمكانياتها، فلكي تحقق نفسها لا بد لها إذن أن تفعل، والفعل لا بد أن يتم في وجود الغير وبواسطته؛ ولذا كان عليها أن تتصل بهذا الوجود المغاير.
يقول المؤلف (ص136-137): «إن الشعور بالوجود لا يكون قويا عن طريق الفكر المجرد؛ لأن الفكر المجرد انتزاع للنفس من تيار الوجود الحي، وانعزال في مملكة أخرى تذهب منها الحياة المتوترة الحادة، ولا يسودها فعل وحركة ...» والمؤلف حريص قبل كل شيء على أن ينعم الإنسان الفرد بوجوده الحي الفعال. وما دام هذا الوجود متعلقا بالحالة الوجدانية أكثر من تعلقه بالحالة العقلية، فإنه لا يتردد في إيثار الأولى على الثانية. نعم إن لكل حالة عاطفية مقابلا فكريا، هو إدراكنا لهذه الحالة، لكن ما أبعد الفرق بين هذا وتلك. ما أبعد الفرق بين التألم من حيث هو عاطفة وبينه من حيث هو موضوع للمعرفة.
على أنه إن كانت الذات تحقق وجودها في العاطفة أكثر مما تحققه في المعرفة، فإنها أكثر تحقيقا لوجودها في الإرادة منها في العاطفة، «إذ الإرادة قوة للوجود الذاتي، وهذه القوة مصدرها الحرية التي للذات في أن تعين نفسها بتحقيق إمكانياتها، فتختار من بين الممكن أحد أوجهه وتتعلق به ثم تحققه بواسطة القدرة.» (ص159). لكن أي الممكنات تختار الذات المريدة لتحوله إلى فعل؟ إن الممكن لا نهاية له، وقد يبدو بعض الممكنات مساويا لبعضها الآخر، ولو وقفت الذات حيرى بين المتساويات لما همت بفعل؛ ولذا يتحتم عليها أن «تخاطر» باختيار ما تنفذه، فبالمخاطرة وحدها تحقق الذات وجودها «أما الوقوف أمام التساوي والتذبذب بين حالي التقابل الذي يتصف به كل وجود، فلن ينتهي بها إلا إلى عدم الفعل، وبالتالي عدم تحقق إمكانيات وجودها. وهذه الحال الأخيرة نشاهدها عند أصحاب المعرفة الذين يختلط عليهم حال الوجود المشكل، فإما أن يقول بالسوية وعدم الاكتراث، وإما أن يتذبذب ويتمرد، وفي هذا وذاك لا ينتهي إلى تحقيق شيء. أما المخاطر، الذي يتعلق من أوجه الممكن تعلقا يصدر في الغالب عن فعل لا معقول، فهو وحده الذي يستطيع أن يحقق إمكانيات وجوده قدر المستطاع، ولا عليه بعد إن أخطأ ولم يصب نتيجة مرجوة، فالمهم أنه حيي الوجود على الأقل في هذه التجربة، بدلا من التوقف العاجز الذي لا يحيا فيه المرء غير عجزه وفراغ إرادته، بل وسلب حريته.» (ص160).
ولا شك أن الإنسان إذ يخاطر حرا باختيار ما يختاره من فعل، فإنما يتصدى لمسئولية تتناسب مع قدر الخطر وجسامة الفعل الذي أقدم عليه. ولما كان الشعور بالمسئولية مشروطا بحرية الاختيار، فإن الشعور بالحرية لا يتوافر في شيء قدر ما يتوافر في المخاطرة. هكذا جاءت فلسفة الدكتور بدوي حافزا لنا على العمل الجريء، لنكون أحرارا بقدر ما يكون في أعمالنا من جرأة. •••
ولقد كانت حياتنا الفلسفية لينقصها شيء كثير لو لم يقم فينا من يوجه دعوته إلى الاهتمام بالروح إلى جانب تلك الدعوات التي أصرت على تحكيم العقل بالمعنى المعروف لهذه الكلمة في دنيا العلم والمنطق. ولقد حمل هذه الأمانة الدكتور عثمان أمين، وأطلق على مذهبه اسم «الجوانية».
8
إشارة منه إلى التفرقة بين ما هو ظاهر وما هو باطن، فعنده أن الظاهر عرض والباطن جوهر، أو هي تفرقة «بين الكمي والكيفي، بين الآتي والأبدي، بين المادي والروحي. وبعبارة أخرى هي التفرقة بين موقف الإنسان حين ينظر إلى الناس والموضوعات بعيون الجسم، فيشاهدها من الخارج، وكأنه «يتفرج عليها» وبين موقفه حين ينظر إليها بعيون الروح فيشارك فيها ويعانيها من الداخل» (من مقالته عن «الجوانية الأخلاقية عند الغزالي»).
ويقابل صاحب مذهب الجوانية بين ما هو «جواني» وما هو «براني». والأول طريق الإدراك فيه هو الحدس، والثاني طريق الإدراك فيه هو الحواس، فيقول موجها الحديث إلى من يقفون عند الظواهر «البرانية» ولا يعمقون في بواطن نفوسهم: يستطيع «الوضعيون» أن يتشككوا في يقين الحدس كما يشاءون، ويستطيع «الواقعيون» أن ينكروا حقيقة الغيب جازمين قاطعين، ولكنا نقول لهم ما قاله من قبلنا أفلاطون والفارابي والغزالي وابن عربي وديكارت وكانط وهيجل ومحمد إقبال وياسبرز، وهو أننا لا نريد منكم إلا أن تتدبروا الأمر بأيسر قدر من الجهد: انظروا إلى أنفسكم حين تطلقون على الأشخاص والأفعال حكما أخلاقيا أو حكما تقويميا على العموم، ما بالكم تصفون الفعل بصفات تختلف باختلاف فاعليه، مع أن الفعل في الظاهر واحد؟ ولماذا يكون مسعى زيد إخلاصا رفيعا، ومسعى عمرو رياء وضيعا؟ أليس مرجع الأمر في الحكم على الفعل بالحسن أو القبح إلى النية والباعث والقصد؟ أو ليست كل هذه أمورا مطوية غير مرئية؟ ولكن أمام النظرة البرانية، أعني النظرة الواقفة عند ظواهر الأمور، والتي تقيس الأشياء بمقاييس الكم والحاضر والمباشر، الكل أمامها واحد بلا تفريق، ما دامت حركات الجوارح واحدة، وما دامت ألفاظ اللغة أو نغمات الصوت واحدة، وما دامت الظروف الخارجية المصاحبة لتحقيق الفعل واحدة كذلك. أفليس الفرق بين الأفعال كله في الداخل؟ وأليس الداخل كله غيبيا غير مرئي؟ (من المقالة المذكورة).
ويأخذ صاحب هذا المذهب الروحي على المسرفين في الإعجاب بالعلم الحديث أنهم قد نسوا أن المعارف العلمية لا تكفي للحياة الإنسانية الصحيحة، وفاتهم أن تنمية القوى الروحية في الفرد أهم من تنمية قواه الذهنية؛ إذ بغير الأولى لا يصل الإنسان إلى النضج بمعناه الصحيح؟ فما نضج الإنسان إلا ذلك التطور الروحي الذي تمارسه النفوس الصافية في حياتها، فتشعر حينئذ بأنها متآزرة، لا مع أهل الوطن الواحد فحسب، بل مع جميع أفراد الإنسانية بصرف النطر عن اختلافهم في اللغات والأديان والأجناس والأوطان (مقدمة كتابه «محاولات فلسفية» 1952م). •••
على أن الاتجاه الروحي يظهر أقوى ما يظهر في «التصوف» حين لا يقتصر أصحابه على اتخاذه موضوعا للدراسة فحسب، بل يصبح عندهم وجهة نظر ينظرون منها إلى الحياة الفكرية كلها. ومن هؤلاء الدكتور محمد مصطفى حلمي فهو يقول في كتابه «ابن الفارض والحب الإلهي» (1945م) (ص66 إلى 68): «إن الصوفية بأذواقهم الروحية وأحوالهم النفسية، ربما كانوا أقدر من العلماء والفلاسفة على إدراك الحقيقة الخفية ومعرفة الذات العلية، لا سيما أن العلماء يصطنعون منهجا تجريبيا قوامه المشاهدة الحسية والتجربة الخارجية، والذات الإلهية ليست من المادة في شيء ولا سبيل إلى إخضاعها لهذا المنهج التجريبي، وليس أدل على ذلك مما نلمسه في المذاهب المادية من عجز وقصور عن الوصول من أمر الحقيقة الإلهية إلى حل يلائم طبيعتها ويبين خصائصها في غير ما تشبيه، فنيوتن يفسر عالم المادة ودارون يفسر عالم الحياة، ولكن تفسيرهما من شأنه أن يجعل هذا العالم أو ذاك خلوا من كل روحانية ...» ويمضي المؤلف في القول بأن منهج العلوم القائم على المشاهدات الحسية والتجارب، إن صلح لدراسة الجانب المادي، فهو لا يصلح للبحث فيما يجاوز مظاهر الكون، أي أنه لا يصلح للبحث في الذات الإلهية، فإذا أريد البحث في هذه الذات الإلهية، كانت وسيلتنا هي الذوق الروحي، وهاهنا يكون الفرق بين كل من العلم والفلسفة من جهة والتصوف من جهة أخرى «فالعلم يؤسس القوانين المستندة إلى المشاهدة الخارجية والتجربة الحسية، والتي يفسر بها أحداث الكون وظواهره دون أن يتجاوز هذه الأحداث والظواهر إلى ما وراءها، والفلسفة تحاول أن تتعرف حقائق الوجود وحقيقة مبدعه ومفيضه عن طريق النظر العقلي ... أما التصوف فإن له غاية أسمى من غاية العلم والفلسفة. إذ هو يرمي إلى الاتصال المباشر بحقيقة الحقائق ويرمي إلى شيء آخر أبعد من هذا الاتصال، وهو الشعور بالاتحاد مع هذه الحقيقة العليا.»
وعلى هذا الأساس فإنه يتعين على الصوفي - وكأنما يعنى المؤلف نفسه - «أن يكون أسمى ما يكون عن عالم «المحسوس بما فيه من أحداث متغيرة، وظواهر متبدلة، وأعراض زائلة وأن يترفع بقلبه وذوقه عن النظر إلى الأشياء بعين الكثرة التي لا يعرف الماديون عينا غيرها يبصرون بها، وأن يتخذ سبيله إلى كشف الحقيقة من الإشراق الذي ينبثق من أعماق الروح وقد صفت وتحررت من سجنها المادي.» وهكذا بلغ المؤلف في كتابه عن «ابن الفارض» غاية المدى في امتزاج الكاتب بموضوعه في ميدان التأليف الفلسفي. وإن هذه الحساسية نفسها بين الكاتب وموضوعه لتبدو في كتابه «الحياة الروحية في الإسلام» (1945م). •••
كان البحث في الفلسفة الإسلامية من أهم ما قام به رجال الفلسفة عندنا، ففي هذا الباب أصدر الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885-1947م) كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة «الإسلامية»
9 (1944م) الذي وقف فيه وقفة العالم المحايد، فهو يختفي وراء نصوصه اختفاء من لا يريد أن يكون له ميل مرجح سوى ما توجبه النصوص، فالكتاب يشتمل على بيان لمنازع الغربيين والإسلاميين ومناهجهم في دراسة الفلسفة، فالباحثون الغربيون في طريقة عرضهم للموضوع تراهم وكأنما يقصدون إلى القول بأن في الفلسفة الإسلامية عناصر أجنبية، ثم يأخذون في رد تلك العناصر إلى مصادرها غير العربية وغير الإسلامية، موضحين أثرها الذي يرونه فعالا في توجيه الفكر الإسلامي. وأما الباحثون الإسلاميون فيغلب عليهم أن يزنوا الفلسفة بميزان الدين، لكن مؤلف «التمهيد» يتخذ لنفسه منهجا آخر في درسه لتاريخ الفلسفة الإسلامية، إذ «هو يتوخى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى وتتبع مدارجه في ثنايا العصور وأسرار تطوره.» (من المقدمة) لأنه يري «أن البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يكون أدنى إلى المسلك الطبيعي، وأهدى إلى الغاية حين نبدأ باستكشاف الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي في سلامتها وخلوصها، ثم نساير خطاها في أدوارها المختلفة من قبل أن تدخل في نطاق البحث العلمي، ومن بعد أن صارت تفكيرا فلسفيا.» (ص101)؛ والنتيجة العامة التي يستخلصها القارئ من هذا الكتاب هي أن للمسلمين فلسفة خاصة بهم، مطبوعة بطابعهم، لها بداياتها البسيطة وأدوار نموها وازدهارها. •••
ونتيجة كهذه أيضا هي التي انتهي إليها الدكتور إبراهيم بيومي مدكور في كتابه «في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه»، فهو منذ مقدمة الكتاب يعيب على الباحثين في الفلسفة الإسلامية أنهم يبدءون بفروض سابقة عن العقلية السامية مثلا، أو عن العرب بصفة خاصة وطريقة تفكيرهم، وبذلك ينتهون إلى نتائج قد تكون صادقة بالنسبة إلى تلك الفروض، لكنها هي وفروضها معا ربما كانت بعيدة عن الحق والواقع؛ ذلك لأن تلك الفروض في الغالب «لم توضع بعد موضع دراسة كاملة، ولم تستمد من التفكير الإسلامي نفسه في أصوله ومصادره، وإنما أملتها صورة مشوهة لما كان متداولا من المخطوطات اللاتينية.» (ص4)، ويقرر الدكتور مدكور في توكيد صريح بأن «هناك فلسفة إسلامية امتازت بموضوعاتها وبحوثها، بمسائلها ومعضلاتها، وبما قدمت لهذه وتلك من حلول، فهي تعنى بمشكلة الواحد والمتعدد، وتعالج الصلة بين الله ومخلوقاته ... وتحاول أن توفق بين الوحي والعقل، بين العقيدة والحكمة، بين الدين والفلسفة، وأن تبين للناس أن الوحي لا يناقض العقل، وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفس وثبتت أمام الخصوم، وأن الدين إذا تآخى مع الفلسفة أصبح فلسفيا كما تصبح الفلسفة دينية، فالفلسفة الإسلامية وليدة البيئة التي نشأت فيها والظروف التي أحاطت بها، وهي كما يبدو فلسفة دينية روحية» (ص15). ويخصص المؤلف كتابه لبحث طائفة من النظريات الفلسفية التي يظنها إسلامية خالصة، كنظرية السعادة والاتصال، ونظرية النبوة. •••
وللدكتور أحمد فؤاد الأهواني دراسات إسلامية منوعة، تجدها مفرقة في كتبه، ففي كتابه «في عالم الفلسفة»
10 (1948م) فصل عنوانه «أمواج الفكر الإسلامي» يوضح فيه أولا كيف اندست عناصر الثقافات «الفارسية والوثنية والمسيحية واليهودية إلى الفكر الإسلامي واندمجت به، وتكون مع الزمن لون أو ألوان من الثقافة الإسلامية، هي مزيج من هذا الفكر الأجنبي والآراء الإسلامية، وقد نجد لونا من الثقافة إسلاميا بحتا، وقد نجد لونا آخر تغلب عليه النزعة اليونانية، وقد نجد لونا ثالثا يظهر فيه الطابع الفارسي وهكذا» (ص54).
على أن الجديد في تناول الدكتور الأهواني لموضوع الفلسفة الإسلامية في هذا البحث، هو تصوره لتاريخ تلك الفلسفة على أنه فكرات رئيسية تعاقبت واحدة في إثر واحدة، جيلا بعد جيل، فقد تشغل الأذهان اليوم فكرة يدور حولها البحث والجدل، ثم يجيء الغد بفكرة أخرى يدور حولها البحث والجدل، وهلم جرا. وهكذا جاء الفكر الفلسفي الإسلامي موجات متلاحقة، على رأس كل موجة فكرة أساسية، أي أن الفلسفة الإسلامية - على هذا التصور - لم تتناول موضوعات بعينها منذ بداية نشاطها إلى فتور ذلك النشاط، مع اختلاف على مر الزمن في درجة النمو والنضج، ويجمل بنا أن نذكر أن المؤلف حريص على أن يكون موضوع بحثه هو «الفكر الإسلامي» لا «الفلسفة الإسلامية» لأن «تفكير المسلمين انصب على المسائل الفلسفية كما انصرف إلى المسائل العلمية.» ورءوس الأفكار التي شغلت الأذهان على التتابع، والتي منها تكونت «أمواج الفكر الإسلامي» هي: الكفر والإيمان، التشبيه والتجسيم، التشيع، القدرية، الإرجاء.
ومن الدراسات ذات الشأن في ميدان الفلسفة الإسلامية مؤلفات الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة عن «الكندي وفلسفته» (1950م)، «إبراهيم ابن سيار النظام» (1947م) وكتابان للدكتور علي سامي النشار، هما «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» و«مناهج البحث عند مفكري الإسلام» وقد حاول فيهما موفقا أن يبين أصالة المسلمين في التفكير منهجا وموضوعا ومن الدراسات المقارنة التي تستهدف الهدف نفسه كتاب الدكتور محمود قاسم «في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام وصلتها بالفلسفة اليونانية» وكتاب الدكتور محمد البهي «الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي».
على أن المشتغلين بالدراسات الإسلامية قد انصرفوا بكثير من جهدهم إلى التصوف الإسلامي بصفة خاصة، يدرسونه دراسة علمية، وينشرون نصوصه محققة ومشروحة. وإننا لنزداد تقديرا لجهود الباحثين في هذا المجال، إذا علمنا أن العمل في هذا الميدان - كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي في مقدمة كتابه «في التصوف الإسلامي» - «لا يزال في أول شوط من أشواطه، بالرغم من الجهود العظيمة القيمة التي بذلتها طائفة من فضلاء العلماء الغربيين منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى اليوم.» وللدكتور أبو العلا دراسات كثيرة في التصوف، لكن محيي الدين بن عربي كان أهم موضوع عني ببحثه ونشره وشرحه، حتى لقد أصبح فيه حجة بين المشتغلين بالتصوف في الغرب والشرق على السواء.
وكذلك كان من الدارسين الذين خدموا التصوف الإسلامي بمؤلفاتهم ونشراتهم الأستاذ سليمان دنيا وبخاصة عن الإمام الغزالي، وكذلك قل عن المرحوم الدكتور زكي مبارك، والدكتور أبو الوفا التفتازاني عن ابن عطاء الله وابن سبعين.
ولو جاز لنا أن نلخص النتائج التي وصل إليها الباحثون في ميدان الفلسفة الإسلامية بكل فروعها، في عبارة موجزة، لقلنا إنهم جميعا ينتهون إلى أن الفلسفة الإسلامية متميزة بطابع مستقل، وليست هي مجرد أصداء شارحة لفلسفة اليونان أو غيرها.
6
على أننا لم نذكر فيما ذكرناه من نشرات للتراث، ومن ترجمة للفلسفة الغربية، ومن تأليف مذهبي وغير مذهبي، لم نذكر في كل ذلك جهودا ضخمة قام بها رجال الفلسفة في مصر الحديثة، بما نشروه من مؤلفات وفصول أكاديمية في موضوعات اختصاصهم، فللدكتور عبد الحميد صبرة جهوده في فلسفة العلوم، وللدكتور زكريا إبراهيم سلسلة مؤلفات، كل منها يختص «مشكلة» بالبحث، كمشكلة الحرية، ومشكلة الفن، ومشكلة الإنسان، ومشكلة الفلسفة نفسها. وهو في تأليفه ينزع منزع الفلسفة الوجودية بصفة عامة. وللدكتور يحيى هريدي مؤلفاته في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وهو يحاول أن يخرج مما يكتب بوجهة نظر خاصة يريد لها أن تكون مصطبغة بصبغة «عربية» متميزة. وللدكتور فؤاد زكريا بحوثه عن نيتشه وسبينوزا وعن المعرفة والوجود. وكذلك يكتب الدكتور محمد فتحي الشنيطي عن مختلف الاتجاهات الحديثة والمعاصرة من هيوم ووليم جيمس إلى كارل يسبرز.
وإن القصة لتطول بنا لو أردنا إحصاء كاملا أو شبه كامل. وإنني لعلى يقين من أنني قد سهوت عن ذكر مؤلفات لها أعظم الأهمية في محيطنا الفلسفي، وعن ذكر مؤلفين لا يقلون قدرا عمن ذكرناهم، لكنه فصل موجز نكتبه عن نشاطنا الفلسفي الحديث، الذي إن اختلفت فيه الاتجاهات والمذاهب، فهو منصرف كله إلى تحقيق هدف واحد، وهو أن يضمن للإنسان حريته، وأن يجعل منطق العقل مدار أحكامه.
من معاركنا الفلسفية
1
أم المشكلات في حياتنا الفكرية هي محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر، فمن الماضي تتكون الشخصية الفريدة التي تتميز بها أمة من أمة، ومن الحاضر تستمد عناصر البقاء والدوام في معترك الحياة؛ فالأمة العربية عربية بما قد ورثته عن الأسلاف من عوامل، أهمها اللغة العقيدة ومواضعات العرف، وكذلك نقول إن الأمة العربية قد استطاعت الصمود في دوامات هذا العصر الجارفة العنيفة، بمقدار ما استطاعت أن تساير حضارة العصر في وسائله وتصوراته، وإنها لتقع بين ماضيها وحاضرها في مأزق حرج، فإذا هي اقتصرت - من جهة - على فكر الماضي وطريق عيشه ووجهة نظره، جرفها الحاضر في تياره، لأن له من الوسائل المادية ما لا قبل لها بدفعه، وإذا هي اقتصرت - من جهة أخرى - على الحاضر وعلمه وفنه وسائر معالمه، ضاعت ملامح شخصيتها، وانطمست فرديتها، ولم يعد لها وجود إلا كما يكون لقطرة الماء في البحر المتجانس وجود متميز خاص. فهل من سبيل إلى التقاء الطرفين في مركب واحد، يزيل ما بينهما من تباين وتضاد، ويؤلف بينهما في نسيج ثقافي متسق منسجم، يكون هو ما نطلق عليه اسم الثقافة العربية المعاصرة؟ ذلك هو السؤال الذي ألقي في حياتنا الفكرية منذ قرن أو يزيد، والذي كانت محاولة الإجابة عنه، إجابة مقنعة، هي ميدان الصراع بين المفكرين بعامة، ورجال الفلسفة من هؤلاء المفكرين بخاصة.
إن محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر (أو ثقافة الغرب حاضرها وماضيها على السواء) مشكلة بالنسبة إلى كل مجتمع متطور، فقد شهدناها عند العرب الأقدمين في محاولتهم التوفيق بين العقل والنقل - بين فلسفة اليونان وأحكام الشرع. وشهدناها عند مفكري الغرب إبان القرون الوسطى في قيامهم بالمحاولة نفسها التي حاولها فلاسفة المسلمين. وشهدناها في النهضة الأوروبية حين حاول أعلامها الجمع بين النهضة العلمية في عصرهم وبين التراث الكلاسيكي الذي ابتعثوه عن أسلافهم الرومان واليونان، كما شهدناها في روسيا القرن التاسع عشر بين الثقافة السلافية وثقافة غربي أوروبا؛ لكن محاولة التوفيق هذه أشد إشكالا وتعقيدا بالنسبة إلى الشعوب الآسيوية والإفريقية - بما في ذلك الأمة العربية - التي ظفرت بحريتها حديثا من براثن المستعمرين، وذلك لأن المشكلة قد أضيف إليها من العناصر ما زادها عسرا، فمن هذه العناصر المضافة أن ثقافة العصر التي يراد التوفيق بينها وبين تراث الماضي، هي نفسها ثقافة المستعمر، وإنه لعسير على النفس أن تقبل على ثقافة ارتبطت عندها بمن استغلها واستذلها، واستهان بثقافتها وعقائدها. فإذا كان المستعمر كريها ممقوتا، فكذلك كانت - عند معظم الناس - ثقافته المرتبطة به؛ إذ ليس من اليسير على الكثرة الغالبة من الناس أن تقوم بعملية التجريد العقلية التي تفصل بين المستعمر وثقافته، بحيث ترفض الأول وتقبل الثاني؛ ولهذا سرعان ما ارتبطت النزعة القومية من جانبها السياسي الذي حاول الفكاك من قيود المستعمر ليظفر بالحرية والاستقلال، سرعان ما ارتبط هذا الجانب السياسي من الحركة القومية، بالجانب الثقافي الذي حاول تثبيت الجذور المحلية في تربة الأرض، لتعود إلى الأمة شخصيتها التي أوشكت على الضياع، فرأينا حركة إحياء شامل لما كان قد اندثر - أو أوشك - من مقومات الحياة الماضية إبان قوتها، وفي مقدمة هذه المقومات العقيدة الدينية، لا لأن هذه العقيدة هي في حقيقتها من أهم أركان البناء الثقافي - إن لم تكن أهمها جميعا - فحسب، بل لأنه قد تصادف أن عقيدة المستعمر في معظم البلاد الآسيوية والإفريقية مخالفة لعقيدة الشعب في هذه الأمة أو تلك، كالإسلام في الشرق العربي، وكالهندوكية أو البوذية في الهند وبلاد الشرق الأقصى، فكان من الطبيعي - إذن - أن تقترن الحركات الوطنية بالدعوة إلى إحياء العقيدة الدينية وتنقيتها مما قد علق بها من أوشاب الخرافة في فترات الضعف السياسي والتدهور الفكري.
إن الروح السائدة في البلاد المتحررة حديثا من قبضة المستعمر، يمكن تلخيصها في هذا السؤال: كيف نرد لأنفسنا كرامتها، بإحياء ثقافتنا التقليدية والرفع من شأنها، مع إقامة البرهان العملي - في الوقت نفسه - على كفاءتنا في ميدان التنافس مع من كانت لهم السيادة علينا ظلما وعدوانا؟ فهذه السيادة المعتدية الظالمة كانت ترتكز أولا وقبل كل شيء على ركيزة العلم والصناعة، وإذن لا بد لنا من هذه الركيزة بكل ملحقاتها، لنستطيع الصمود في ميدان التنافس. وها هنا يعود سؤالنا الأول من جديد: هل في ثقافتنا التقليدية التي نريد إحياءها وتقويتها ما يتعارض مع هذه الركيزة التي نحن في أشد الحاجة إليها - ركيزة العلم والصناعة؟
هنا كثر بيننا الخلاف وتشعب الرأي - فكان منا فريق يعلي من شأن الطابع القومي الأصيل، على حساب الجوانب الأخرى جميعا إذا اقتضى الأمر ذلك؛ أي إنه يلوذ بالثقافة الموروثة ليضمن لنفسه مقومات الشخصية المميزة الفريدة التي هي في ظنه درع واقية من المعتدين. وفريق آخر كان همه الأول هو أن نلحق بركب الحضارة العصرية، لأنه لو كان المستعمر قد وجد فينا ثغرة ينفذ منها، فتلك الثغرة هي ما أعوزنا من العلم والصناعة، ولم نكن لنفلح في صده - بغير هذين العاملين - حتى وإن تجمعت لدينا كل ثقافات الغابرين. لكن أيكون الصواب إما مع أنصار التراث وحدهم، وإما مع أنصار الثقافة العصرية وحدهم؟ ألا يجوز أن يكون بين الطرفين وسط يجمعهما في تركيبة جديدة؟ تلك وقفات ثلاث؛ طرفان ووسط بينهما، وهي الوقفات التي على أساسها تفرق رجال الفكر الفلسفي عندنا منذ منتصف القرن الماضي، وإلى يومنا هذا، حتى لنوشك أن نتعقب سير الحركة الفكرية خلال هذه الفترة في مراحل ثلاثية الجوانب؛ فمن طرف إلى نقيضه إلى وسط يؤلف بينهما، على أن النقيض والوسط كانا دائما يتخذان موقف المدافع عن الدين مما يظن أنه خطر عليه، سواء كان هذا الخطر حقيقيا أو موهوما، وسواء كان آتيا من مفكر غربي يتحدث عن الإسلام مباشرة، أو من فكر غربي عام يوصف بالمادية فيخشى خطره على العقيدة، أو حتى من مفكر عربي ينهج نهج الغربيين في تفكيره، فينظر إليه بعين الريبة والحذر.
فأولى المعارك الفكرية معركة كان أحد طرفيها أنصار نظرية التطور والمذهب المادي في القرن التاسع عشر، والطرف النقيض هو الرد على هؤلاء تفنيدا لدعواهم، ويتوسط بين الطرفين وسط يحاول أن يبين ألا خوف على عقائدنا الموروثة من الفكر الجديد الوافد.
وكانت المعركة الثانية أجلى وأوضح، لأن أحد طرفيها هجوم صريح على الإسلام من مفكر غربي، وطرفها الثاني دفاع صريح، لكنه دفاع من يبدأ بالتسليم بصحة عقيدته، فيقع إقناعه على المؤمن بها قبل المنكر لها. وأما الوسط فهو دفاع صريح كذلك عن الإسلام، ولكنه هذه المرة دفاع الفيلسوف الذي يوجه إقناعه نحو المنكرين قبل أن يوجهه نحو المؤمنين، لأنه اختار نقطة ابتداء محايدة، ثم أخرج منها النتائج.
وكانت المعركة الثالثة أوغل في الفلسفة بمعناها الاحترافي؛ لأنها معركة حول وسيلة المعرفة ماذا تكون؟ أتكون هي الحواس والتجربة بحيث نغفل في ميدان العلم ما لم ندركه عن طريق المشاهدة الحسية والتجارب المعملية، أم تكون وسيلة المعرفة هي الحدس، أي العيان الوجداني المباشر ؟ وإنا لنلاحظ أن الفريق الأول يصب اهتمامه على العلم، وأن الفريق الثاني يصب اهتمامه على الدين. الفريق الأول يوجه بصره نحو ثقافة العصر، والفريق الثاني يوجه انتباهه نحو صيانة التراث. فهل يمكن أن نوفق إلى موقف وسط يعطينا علم الغرب دون أن يكون ذلك على حساب العقيدة الموروثة؟
وكانت المعركة الرابعة بين فريقين: أولهما يجعل للوجود الفردي في المكان والزمان الأصالة والأولوية، وثانيهما يجعل الأصالة والأولوية للفكرة التي تسبق خلق الأفراد. وتلك هي نفسها المعركة بين أنصار الفكر الحديث الذي يصاحب التفكير العلمي المعاصر وأنصار الفكر الموروث. ومرة أخرى كذلك ينشأ السؤال: أليس هناك موقف وسط يصون فردية الأفراد لكنه كذلك لا يضحي بالفكرة المطلقة السابقة على هؤلاء الأفراد؟
ذلك موجز وسبيلنا إلى تفصيله.
2
إن حديثنا عن الصراع الفكري بين رجال الفلسفة في الأمة العربية إبان المرحلة الأخيرة من تاريخها الحديث لتتعذر فيه الدقة لاختلافنا ابتداء على ماذا تكون الفلسفة ومن هم رجالها؟ فلقد جرى العرف بيننا أن نسلك في جماعة المشتغلين بالفلسفة رجالا من طرازين يختلفان جوهرا «اختلافا هو نفسه الاختلاف القائم بين معنيين تفهم بهما الفلسفة، ساد أولهما في «حكمة» الشرق، وساد ثانيهما في «تحليلات» الغرب، فالفلسفة بالمعني الأول هي «فلسفة حياة»، والفلسفة بالمعني الثاني هي «فلسفة تجريد نظري»، وبالمعني الأول تكون الفلسفة في صياغتها أقرب إلى الصياغة الأدبية، وبالمعني الثاني تكون الفلسفة أقرب في أسلوبها إلى الصياغة العلمية» (راجع للكاتب «فلسفة وفن» ص6). ومن ثم فقد يصطرع رجلان على فكرة بعينها، ولكن من زاويتين مختلفتين، إذ قد يكون أحدهما منصرفا إلى مجرد تحليل الفكرة وردها إلى عناصرها الأولية، على حين يكون الثاني منصرفا إلى وزن هذه الفكرة واتساقها مع بقية الأفكار السائدة في المجتمع، فيراها من هذه الناحية ضارة أو نافعة. وفي مثل هذه الحالة لا يكون في الموقف صراع حقيقي بين الرجلين، بل ربما كان ما بينهما أقرب إلى التعاون على أن يكمل أحدهما عمل الآخر، فالأول يلقي الأضواء على معنى الفكرة ومحتواها، والثاني يصدر الحكم على صلاحيتها أو فسادها بالنسبة إلى حياتنا العملية وإلى سائر معتقداتنا.
لقد كتب أستاذ جليل - هو في مقدمة المشتغلين بالفلسفة عندنا - كتابا بالغ الأهمية في هذا الميدان، ذهب فيه إلى أن «الفقه» هو «فلسفة» إسلامية أصيلة، وقرأ الكتاب كاتب هذه السطور حين صدوره منذ عشرين عاما، فأذهلته الفجوة العميقة بينه وبين المؤلف في تصورهما للفلسفة ماذا تكون وكيف تكون، لكنه لم يجرؤ على المعارضة العلنية لمكانة المؤلف في النفوس، فلجأ إلى مقال رمزي، لا أظن قارئا واحدا قد التفت إلى مرماه، ولكن الكاتب في مقاله الرمزي ذاك - وكان عنوانه «نملتان في الفلفل» (منشور في كتاب «شروق من الغرب») - قد عبر عن فكرته واستراح، إذ أخذ يقص قصة نملتين تعلمتا القراءة، لتهتديا «بالعلم» إلى ما ليست تهدي إليه الغريزة، وكان أن قرأتا على علبة بطاقة تقول إنه «سكر»، (كما قرأ صاحبنا على غلاف الكتاب عنوانا يقول إنه «فلسفة») فدخلتا على هذا الزعم، وإذا بهما تعانيان مما وجدتاه، أما إحداهما فقد وثقت ثقة - لا يأتيها الشك - فيما كتبه البقال على جدار العلبة، وأما الأخرى فقد شكت على أساس ما رأته بعينيها وما طعمته بلسانها، ودار بينهما حوار، لو زال عنه الرمز، لكان هو نفسه الحوار الذي يدور بين أي رجلين من رجال الفلسفة عندنا عما يكتبان. أيكون فلسفة أم لا يكون؟
لكننا في تعقب مواضع الصراع بين رجال الفلسفة في تاريخنا الحديث، سنجري مع العرف المألوف، فنعد شبلي مشيل فيلسوفا، مع أنه هو نفسه - فيما أظن - يأبى على نفسه أن يوصف بهذه الصفة، لأنه مؤمن بالعلم وحده، وأما الفلسفة «فإن كان لها بعض معنى اليوم» - كما قال - «فإنها ستصبح مبتذلة في مستقبل الأيام، فالمستقبل اليوم للعلم، وللعلم العملي وحده.» وسنعد الأفغاني فيلسوفا، كما نعد محمد عبده، وعباس محمود العقاد، برغم اعتقادنا بأنه توسع في المعنى شديد، ذلك الذي يجيز أن نسلك هؤلاء جميعا في زمرة «الفلاسفة» بالمعنى الذي تكتب به مؤلفات المؤرخين للفلسفة كما تدرس في أقسامها بالجامعات.
نقول بعد هذا التمهيد ، إن المعركة الفلسفية الأولى قد دارت رحاها حول نظرية التطور والمذهب المادي في الفلسفة (وقد لا يلزم أن تكون بينهما صلة ضرورية؛ إذ قد تأخذ بنظرية التطور في الأحياء دون أن تلتزم المذهب المادي الذي يرد كل شيء إلى مادة، والعكس صحيح أيضا، فقد تذهب إلى أن الكون كله مادة، دون أن تأخذ بنظرية التطور). أقول إن المعركة الأولى قد دارت رحاها بين نظرية التطور والمذهب المادي في الفلسفة من ناحية، وبين المناصرين للعقيدة الدينية من ناحية أخرى، على اعتبار من هؤلاء أن ثمة تناقضا بين هذه العقيدة وبين ما جاءت به نظرية التطور وما جاء به المذهب المادي.
وكان الدكتور شلبي شميل، بكتابه «فلسفة النشوء والارتقاء» هو أول ناقل إلى اللغة العربية للمذهب المادي على صورته التي سادت ألمانيا في القرن التاسع عشر، على يدي «بختر»، كما نقل كذلك نظرية دارون في التطور. ولعله لم يفطن إلى الفرق بين أن تناصر النظرية الداروينية من جهة، وأن تنكر كل ما عدا المادة من جهة أخرى.
وليس يهمنا أن نورد تفصيلات هذا المذهب المادي، أو تلك النظرية الداروينية في التطور - فهما مما يمكن الرجوع إليه في مصادره - لكن الذي يهمنا هو كيف قوبلت هذه الأفكار الغربية الحديثة عند مفكرينا لنرى مواضع الصدام بين ثقافة العصر من جهة، وثقافة التراث من جهة أخرى. وإن الموقف بطرفيه ليتمثل في كتاب «الرد على الدهريين» لجمال الدين الأفغاني.
والدهريون الذين يرد عليهم الأفغاني، برسالته هذه هم أصحاب الفلسفة المادية التي أخذت تتناثر أنباؤها، وقد كتب الأفغاني رده باللغة الفارسية، ثم نقلها إلى العربية الإمام محمد عبده، مستعينا في ذلك بأديب أفغاني. وإنما كتبها ليجيب بها عن سؤال جاءه من رجل فارسي يستفسره حقيقة المذهب المادي الذي أخذ يشيع في الناس «يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت «نيشر - نيشر» (= طبيعة) ... ولا تخلو بلدة من جماعة يلقبون بلقب «نيشري» ... ولقد سألت أكثر من لاقيت من هذه الطائفة ما حقيقة النيشرية؟ وفي أي وقت كان ظهور النيشريين وهل طريقهم تنافي الدين المطلق؟ ... ولكن لم يفدني أحد منهم عما سألت بجواب شاف كاف، ولهذا ألتمس من جنابكم العالي أن تشرحوا حقيقة النيشرية والنيشريين بتفصيل ينقع الغلة ويشفي العلة والسلام.»
ذلك هو موجز الخطاب الذي ورد إلى الأفغاني، فكانت رسالته «الرد على الدهريين» هي الجواب، وقد قسمها قسمين. أولهما «في حقيقة مذهب النيشرية والنيشريين وبيان حالهم»، والثاني في أن الدين الإسلامي أعظم الأديان، وهذا التقسيم كاف وحده للدلالة على أن الخطر المخوف من ثقافة الغرب الوافدة، هو ما عساها أن تؤثر به في ديانة المسلمين، لأن الحرص على نقاء هذه الديانة هو - فوق كونه من واجبات المؤمنين - ضروري لتثبيت أركان القومية السياسية التي كان الأفغاني من طلائع دعاتها، وإلا لما اقتضاه الرد على مذهب فلسفي معين، أو الرد على نظرية بيولوجية بعينها، دفاعا عن الإسلام وبرهانا على عظمته بالنسبة إلى سائر الأديان.
نعم، إنه ليس من الإنصاف في شيء أن ننقد رسالة الأفغاني بنظرة الدارس العالم، سواء كان ذلك في جانبها الذي يمس العلوم الصرف، أو كان في جانبها الذي يمس مذاهب الفلسفة الأوروبية؛ لأننا لا نظن أن الأفغاني كان مزودا بعلم العلماء ولا بفلسفة الفلاسفة في دقائقها وتفصيلاتها، إنما أخذ الموضوع أخذ «المثقف» العام، لا أخذ الدارس المتخصص. وحسبنا في هذا أن نقرأ له ختام خطابه الذي أرسله ردا على خطاب السائل الفارسي، إذ يقول: «... أرجو أن تكون (أي رسالة الرد على الدهريين) مقبولة عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل، وأن تنال من ذوي العقول الصافية نظرة الاعتبار.» فمن هذه العبارة يتبين أن الأفغاني قد وجه الحديث في رسالته إلى فئتين من الناس، إحداهما أصحاب «العقل الغريزي» - ومنهم صاحب الخطاب - والأخرى أصحاب «العقول الصافية» ونحن وإن كنا لا ندري على وجه الدقة ماذا يراد «بالعقل الغريزي» عند الأفغاني (لأن لغة العلم الحديث تجعل العقل والغريزة ضدين، فالعقل منطق مكتسب والغريزة فطرة موروثة) إلا أننا نأخذ العبارة على أنها تعني ما نسميه اليوم «بالإدراك المشترك» الذي لا يحتاج صاحبه إلى تعلم متخصص، بل يكفيه أن يشارك الناس في جوهم الثقافي العام. وكذلك لا ندري على وجه الدقة مراده «بالعقول الصافية» سوى أن نرجح أنه يعنى بها عقولا صفت من «الغريزة» لتصبح «منطقا» صرفا. لكن العقول المنطقية الخالصة في حد ذاتها لا تكفي للدلالة على نوع الموضوع الذي تخصصت في دراسته، ولهذا لم يكن بين من خاطبهم الأفغاني برسالته أحد هو بالضرورة ممن أجادوا دراسة الفلسفة المادية ولا دراسة النظرية الداروينية اللتين تعرض للرد عليهما، والظاهر أنه قد اكتفى في ذلك كله بما عنده هو من «إدراك مشترك عام» وبما عند قارئيه - على تفاوت درجاتهم - من ذلك الإدراك المشترك نفسه.
وأعود فأقول إنه ليس من الإنصاف أن نجد الأفغاني يتناول موضوعه تناول «الأديب» لا تناول «العالم». نصر مع ذلك على نقده بنظرة العلماء المتخصصين، ولو فعلنا ذلك لما ثبتت رسالة الرد على الدهريين لحظة واحدة أمام النقد، حتى وإن قصرنا أنفسنا على علوم عصره، ودع عنك أن نضيف إليها ما قد وصل إليه العلم بعد ذلك، وإلا فماذا يقول الأفغاني وهو يأخذ على أصحاب الفلسفة المادية اعتمادهم على «أحكام الصدفة» إذا قلنا له إن «أحكام الصدفة» هذه - وهي نفسها قوانين الاحتمال - قد أصبحت الآن قاعدة أساسية تنبني عليها العلوم الطبيعية، فضلا عن العلوم الإنسانية جميعا، وشرح ذلك يطول؛ وماذا يقول الأفغاني الذي أخذ على أصحاب المذهب المادي بأن مذهبهم يؤدي إلى تسلسل الأطوار إلى غير ابتداء وهو تسلسل غير متناه، «وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزم من وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه، وهو من المحالات الأولية.» هكذا يقول الأفغاني، فماذا لو أنبأناه بحقيقة يأخذ بها الرياضيون اليوم، وهي إمكان «وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه»، ومثال ذلك أن أي خط مستقيم محدد بطرفين معلومين متناهيين يمكن أن يتألف من أجزاء، كل جزء منها فيه مقدار لا متناه من النقط، وبذلك يشتمل طول الخط المتناهي على مقادير غير متناهية، وشرح ذلك أيضا يطول؛ وهل ترى رجلا أبعد عن دراسة النظرية الداروينية من الأفغاني حين يقول: «وعلى زعم داروين يمكن أن يصير البرغوث فيلا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك.» أو حين يزعم أن داروين قد حكى عن جماعة أنهم «كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونا صارت الكلاب تولد بلا أذناب. كأنه يقول حيث لم تعد للذنب حاجة كفت الطبيعة عن هبته.»
لا، لا ينبغي - بل لا يجوز أن يؤخذ رد الأفغاني كما تؤخذ ردود العلماء بعضهم على بعض، لأنه رد خطابي صادر عن موقف وجداني رافض، ليخاطب به جمهورا هو بدوره يقف موقفا وجدانيا رافضا بالنسبة إلى الثقافة الوافدة من الغرب الحديث، فلو نظرنا إلى الموقف كله على أنه موقف وطني قومي ينشد التمييز من الغرب الهاجم بعلمه وبقوته، فقد كسب الأفغاني ما أراد، لكننا لو نظرنا إليه على أنه رد علمي على نظرية علمية، لما ترددنا في القول بأنه قد خسر المعركة، وترك النصر لخصومه.
لكن لماذا نقف في حيرة أمام هذين الطرفين، وهنالك مخرج ممكن يكسبنا مضمون الثقافة الغربية في هذا المجال، ويبقي لنا ما نحن حريصون على الإبقاء عليه من تراثنا؟ وذلك الموقف الوسط هو ما حاوله إسماعيل مظهر في كتابه «ملقى السبيل» إذ أوضح بقدر مستطاعه شيئين: أولهما أن ليس ثمة علاقة ضرورية بين المذهب المادي من جهة ونظرية التطور البيولوجي من جهة أخرى، والآخر هو أن قبول النظرية التطورية عند دارون لا يتنافى مع عقيدتنا في وجود الله وقدرته على الخلق، لأن سلسلة التطور إنما تبدأ من الخلية الحية، وإذن فما تزال ثغرة الانتقال قائمة بين المادة الموات وظواهر الحياة.
يقول مظهر: «إن نظرة واحدة في المذهب (الدارويني) كافية لأن تبعد عن العقول ما علق بها من أثر القول بدهرية الذين يعتنقون مذهب النشوء، ... فالمذهب بعيد عن البحث في أصل الحياة، ولا شأن له بالبحث في التولد الذاتي، ولا في القول بأن الحياة قوة مادية أو غير مادية ... ذلك لأن المذهب مقصور على البحث في نشوء بعض العضويات من بعض، بعيد عن البحث في الأصل الذي تستمد منه حياتها. من هنا تزاح أكبر عقبة تقف في سبيل القول بأن المذهب بعيد عن مخاصمة الشرائع المنزلة، كذلك لا يمكن لمنصف أن يحمل مذهب داروين في النشوء، تبعة ما سبق إليه بعض الباحثين فيه، وتوسعهم في مدلولاته إلى حد القول بالمادية وإنكار الألوهية» (ص54).
وبهذه الوجهة من النظر، التي تجعل خلق الحياة - أصلا - أمرا خارجا عن نطاق النظرية الداروينية التي تقتصر على تطور الأحياء بعد أن كانت ثمة حياة، تسقط دواعي الاعتراك بين «الدهريين» من جهة وبين أصحاب «الرد على الدهريين» من جهة أخرى، لأنه إذا كان الأولون قد خلطوا مسألة الألوهية بنظرية التطور فقد أخطأوا، وإذا كان الآخرون كذلك قد ظنوا أن لنظرية التطور مساسا بمسألة الألوهية فقد أخطأوا، إذ يمكن الجمع بين الطرفين دون أن يكون قبولنا لأحدهما مستتبعا بالضرورة رفضنا للآخر.
3
كانت المعركة الأولى بين ثقافة غربية حديثة وفدت إلينا على أقلام عربية آمنت بها، قوامها الرئيسي جانب من علوم البيولوجيا - وأعني نظرية التطور - وجانب من الفكر الفلسفي الذي ساد - مع غيره من مذاهب الفلسفة - أوروبا القرن التاسع عشر، وكان الجانب المنقول هو المذهب المادي الذي شاع هناك نتيجة لانتصارات العلم في الحياة النظرية والعملية على السواء، وقد كان يجوز أن ينقل عن أوروبا عندئذ فلسفات هيجلية مثالية لم تكن أقل شيوعا من المذهب المادي، بل ربما كانت أوسع وأشمل. أقول إن المعركة الأولى كانت بين ذلك الجانب من الثقافة الغربية الوافدة وبين قادة الفكر الإسلامي عندنا، واتخذ الدفاع لنفسه وجهتين: إحداهما أن يبرهن بما يشبه الحجة العلمية على أن النظرية البيولوجية المنقولة لم تكن على صواب، والأخرى تبين قوة العقيدة الإسلامية بالقياس إلى غيرها من العقائد، فجاءت الوجهة الأولى من وجهتي الدفاع ضعيفة لعدم إلمام المدافعين بالعلم الذي تصدوا لتفنيده. ثم جاءت الوجهة الثانية من وجهتي الدفاع - على قوتها الذاتية - غير ذات نسب بموضوع النقاش؛ ولذلك كانت لغة الهجوم الثقافي أرجح من كفة الدفاع. وأما المعركة الثانية فقد انقلب بها الوضع، لأن ميدانها كان دينيا على الأغلب، إذ أخذ المهاجم يوازن بين الديانتين المسيحية والإسلامية، فاضطر المدافع أن يرد على الموازنة بموازنة مثلها، فكانت الحجة قوية في جانب الدفاع، وقد تبلور الهجوم في هذه المعركة فيما كتبه هانوتو في فرنسا من جهة، وما كتبه فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة في مصر من جهة أخرى، وكان أقوى من تولى الرد على الرجلين هو الإمام محمد عبده، الذي أدار دفاعه على البيان بأن ما اتهم به «الإسلام» باطل من وجهين: الأول أن شواهد التاريخ لا تؤيده؛ والثاني أنه كلما صحت التهمة كانت واقعة على «المسلمين» بما أحاط بهم من ظروف أفقدتهم لب عقيدتهم، لا على «الإسلام» من حيث هو عقيدة استطاع المؤمنون بها أن يعلوا إلى ذروة العلم والعمل معا، هذا فضلا عن أن ما اتهم به المسلمون، يمكن مشاهدته في المسيحيين كذلك، مما يدل على أن المسألة لا تتعلق بالعقيدة الدينية، إنما هي نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية.
كان هانوتو في مقاله (نشر في جريدة «الجرنال» الفرنسية، وترجمه محمد مسعود إلى العربية في جريدة المؤيد) قد أدخل في موازنته بين الديانتين موازنة أخرى ظنها وثيقة الصلة بالموضوع، وهي الموازنة بين «الآريين» و«الساميين» ليخرج من المفاضلة بتفضيل الأولين على الآخرين، فيتناول الأستاذ الإمام هذه النقطة بقوله إن الهند هي منشأ الجنس الآري، وفيها ما فيها من التمايز الطبقي الذي يصم بالنجاسة فريقا كبيرا من البشر، فهل جاءت هذه الخصلة إليهم من حضارة الساميين؟ ثم من أين وصلت المدنية إلى أوروبا؟ أمن الشرق الآري أم من الأمم السامية؟ لقد حمل الإسلام إلى أوروبا بما استفاد من صنائع الفرس، وسكان آسيا من الآريين، زحف عليهم بعلوم أهل فارس والمصريين والرومانيين واليونانيين، نظف جميع ذلك ونقاه من الأدران والأوساخ التي تراكمت عليه بأيدي الرؤساء في الأمم الغربية لذلك التاريخ، وذهب به أبلج ناصعا «إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوءها في بلاد الأندلس على ما جاورها. إنه لو صح الحكم على الأديان بما يشاهد في أحوال أهلها وقت الحكم، لجاز لنا أن نحكم بأن لا علاقة بين الدين المسيحي والمدنية الحاضرة، إذ يأمر الإنجيل أهله بالانسلاخ عن الدنيا والزهد فيها، وليس ذلك هو الأساس الذي أقيمت عليه مدنية الغربيين، كلا. إن النظرة المنصفة لتدرك على الفور أن الحضارة الإنسانية قد أخذ آريها من ساميها وساميها من آريها ولا فرق بين هؤلاء وأولئك «فلا زالت الأمم يأخذ بعضها عن بعض في المدنية، لا فرق عندهم بين آري وسامي متى مست الحاجة إلى تناول عمل، أو مادة، أو ضرب من ضروب العرفان. وقد أخذ الغرب الآري عن الشرق السامي أكثر مما يأخذ الآن الشرق المضمحل، عن الغرب المستقل».»
وينتقل الأستاذ الإمام من نقطة الآرية والسامية إلى لب المشكلة عنده، وهو الدين، فقد زعم هانوتو أن ديانة التشبيه والتجسيم أفضل من ديانة التوحيد والتنزيه قائلا إن الأولى ترفع الإنسان إلى منزلة الآلهة بينما تهبط الثانية بالإنسان إلى حضيض الضعف والحيوانية، ثم أقحم مسألة القدر في هذه القسمة فجعل أتباع الديانة الأولى يؤمنون بالإرادة الإنسانية الحرة، على حين أن أتباع الديانة الثانية يؤمنون بسلطان القدر عليهم، فيرد الأستاذ الإمام على هذا الزعم بأنه لا دخل لنوع العقيدة - مشبهة كانت أو منزهة - بالكلام في القدر، بل إن الأمر في هذا ليتفرع عن الاعتقاد بإحاطة الله بكل شيء وشمول قدرته لكل ممكن، سواء كان صاحب هذا الاعتقاد من أصحاب التشبيه أو من أصحاب التنزيه، «ولقد عظم الخلاف في المسألة بين المسيحيين أنفسهم، وهم مشبهة في رأي مسيو هانوتو، وبدأ النزاع بينهم قبل الإسلام، واستمر إلى هذه الأيام.»
ومع ذلك فليست جبرية القدر من الإسلام في شيء، إذ «جاء القرآن الشريف - وهو الكتاب المنزل بالإسلام - يعيب على أهل الجبر رأيهم وينكر عليهم قولهم ... وأثبت الكسب والاختيار في نحو أربع وستين آية، وما جاء به مما يتوهم الناظر فيه ما يخالف ذلك، فإنما جاء في تقرير السنن الإلهية العامة، المعروفة بنواميس الكون.» نعم، لقد «وجد بين المسلمين طائفة تعرف بالجبرية، ولكنها كانت ضعيفة ضئيلة يقذفها الحق، ويطردها العقل، وينبذها الدين ... وغلب على المسلمين مذهب التوسط بين الجبر والاختيار، وهو مذهب الجد والعمل.» إن هانوتو قد بنى حكمه على المسلمين في أخذهم بالقدر، على ظنه أن الإسلام جاء ليقطع الصلة بين العبد وربه، «ولكنه وهم في ذلك، فإن الإسلام أفضى بالعبد إلى ربه وجعل له الحق أن يقوم بين يديه وحده بلا واسطة تبيعه رضاءه.»
أما الاتهام الذي وجهه صاحب مجلة الجامعة فيتلخص في قوله إن المسيحية كانت أكثر تسامحا مع العلم من الإسلام، وإن الإسلام أكثر اضطهادا للعلم والفلسفة من النصرانية، فأجاب الأستاذ الإمام عن ذلك بما نشر في كتيب صغير عنوانه «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية»، وأخذ يستعرض التاريخ كله، بل ويستشهد بالعصر الحاضر نفسه، ليبين في جلاء أن الاتهام باطل من أساسه؛ أفلا يكفي أن الكاتب نفسه قد استطاع أن ينشر في الإسلام ما نشره في مجلته، في بلد مسلم دون أن يتعرض له واحد بأذى؟
ثم يأخذ الأستاذ الإمام في القول المفصل، المؤيد بالشواهد، فلم يشهد الإسلام قتالا نشب بين أصحاب المذاهب المختلفة لاختلافهم في الاعتقاد، فلم يقع قتال بين السلفيين والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة، والمعتزلة - مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيين وأشاعرة - وكذلك لم يقع قتال بين الفلاسفة الإسلاميين لاختلافهم في الرأي. وإن تاريخ المسلمين لمليء بالشواهد التي تدل على أنهم في مجال العلم لم يميزوا بين دين ودين، واستفادوا من أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود وغيرهم.
على أن مذهب الأستاذ الإمام في مقارنة الأديان بعضها ببعض هو أن يؤخذ كل دين «ممحصا مما عرض عليه من بعض عادات أهله أو محدثاتهم التي ربما تكون جاءتهم من دين آخر.» وعلى هذا المذهب طفق باحثا عن أصول الديانتين اللتين أجرى هانوتو المقارنة بينهما - النصرانية والإسلام - فوجد أن الأصول التي تنبني عليها النصرانية هي، أولا: اعتمادها على الخوارق في إقناع الأتباع بصحة الاعتقاد «ولا يخفى أن خارق العادة هو الأمر الذي يصدر مخالفا لشرائع الكون ونواميسه.» ولما كانت العلوم قائمة كلها على أساس التسليم باطراد العلية في ظواهر الكون، كانت العقيدة الآخذة بانتفاء هذا الاطراد مضادة للأساس العلمي، ثانيا: أعطت النصرانية سلطة دينية للرؤساء على المرءوسين في عقائدهم، مما ينفي أن يكون الفرد صادرا في عقيدته عن ضميره «وهذا الأصل إن نازع فيه بعض النصارى اليوم فقد جرت عليه النصرانية خمسة عشر قرنا طوالا .» وثالثا: تدعو النصرانية إلى التجرد من الدنيا والانقطاع إلى الآخرة «فماذا يكون حظ صاحب الاعتقاد بهذا الأصل من النظر في أي علم والعلم لا دخل له في شئون الآخرة والدنيا قد حرمت عليه؟» ورابعا: الإيمان بغير المعقول، «وهو عند عامة المسيحيين أصل الأصول ... وهو أن الإيمان منحة لا دخل للعقل فيها، وأن من الدين ما هو فوق العقل، بمعنى ما يناقض أحكام العقل، وهو مع ذلك مما يجب الإيمان به.» وهناك أصل خامس يقصر نظر النصراني على ما ورد في الإنجيل مهما يكن الموضوع الذي يبحث فيه، زعما منهم بأن الإنجيل حاو على كل معرفة يحتاج إليها البشر، حتى لقد «قال بعض فضلائهم إنه يمكن أن يؤخذ فن المعادن بأكمله من الكتاب المقدس.» وأصل سادس يحمل صاحب العقيدة على التفرقة بين المسيحي وغيره.
ويستطرد الأستاذ الإمام في تعقب آثار هذه الأصول في موقف المسيحيين من العلم كما شهد التاريخ نفسه فلم يجد «في التاريخ ذكرا للعلم والفلسفة بعد ظهور المسيحية في مظهر القوة لعهد قسطنطين وما بعده إلا في أثناء المنازعات الدينية، التي كان يفصل فيها تارة بسلطان الملوك وأخرى بجمع المجامع، وثالثة بسفك الدماء، فتخمد شعلة العلم وينتصر الدين المحض.»
ولكي تتم المقابلة ذكر الإمام أصول الإسلام وبخاصة ما له علاقة منها بالحث على العلم - وهو موضوع النقاش - فالأصل الأول هو النظر العقلي لتحصيل الإيمان، وقد «بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبا غير واقف عند الظن فهو ناج. فهل يكون ركون إلى العقل أوسع من ذلك وأقوى؟ والأصل الثاني للإسلام هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، فإذا تعارض العقل والنقل أخذنا بما دل عليه العقل. وأما موقفنا إزاء المنقول فأحد اثنين: إما أن نسلم بصحته تسليما نعترف فيه بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله، وإما أن نحاول تأويله تأويلا يجعل معناه متفقا مع ما أثبته العقل؛ وإن هذين الأصلين من أصول الإسلام ليكفيان وحدهما للدلالة على موقفه من العلم، الذي هو أظهر ما تظهر فيه الحجة العقلية.» (ويذكر الإمام من أصول الإسلام ثمانية، ويتعقب آثارها بشيء من التفصيل من حيث مناصرة البحث العلمي والنظر العقلي).
4
لم تكن الدعوى ونقيضها في هذه المعركة على المستوى الفلسفي بالمعنى الخاص لكلمة «فلسفة» بل كانت على هذا المستوي بالمعنى العام للفلسفة، وهو المعنى الذي يتسع ليدخل في رحابه الجدل الديني على نحو ما كان شائعا عند فرق المتكلمين. وعلى أي حال فالذي يهمنا من الأمر هو ما حدث من صدام بين فكر وافد وتراث أصيل؛ كيف كان وإلى أية نتيجة أدى.
إن لقاء التعارض بين هانوتو - وغيره - من جهة، والشيخ محمد عبده من جهة أخرى لم يقتصر على فعل ورده بحيث ينتهي الأمر إلى صفر كأن لم يحدث تعارض ولا لقاء، بل كان من أثره أن تنبهت أذهاننا - ابتداء من الشيخ نفسه - إلى وجوب أن نعيد النظر إلى تراثنا الفكري وإلى السائد بيننا من عرف وتقليد، لنسلط عليه أشعة من تفكير العصر الحديث - وهو في صميمه تفكير علمي - لنرى على أي وجه نوائم بين أنفسنا وبين روح العصر بحيث يتكون من هذه المواءمة شخصية جديدة لا تفرط في ملامحها الأصيلة ولا تغمض العين على ضرورات العصر الراهن.
وفي سبيل بناء هذه الشخصية العربية الجديدة نشبت صراعات فرعية بين رجال الفكر عندنا، فمنها صراع هو استمرار لما قام به الشيخ محمد عبده من دحض لمفتريات خصوم الإسلام، دفعا لكل شبهة عن صلاحية أصولنا الثقافية للبقاء، حتى وإن اقتضى أمر بقائه ملاءمة تجذ الفروع وتبقي على الجذور. وكان عباس محمود العقاد هو فارس هذه الجولة، يمتطي الجواد نفسه الذي امتطاه من قبله الشيخ محمد عبده، مع زيادة في محصول الثقافة الغربية الجديدة وزيادة في التقريب بين الضدين ليلتئما في كيان عضوي واحد، على أن الإضافة الحقيقية التي أضافها العقاد إلى الإمام محمد عبده والتي جعلته بمثابة «التأليف» الذي يؤلف بين الدعوى ونقيضها في نتاج يحافظ عليهما معا ويعلو درجة، هي أنه لم يسلك مسلك الأستاذ الإمام في اصطناعه لمنهج هو أقرب إلى منهج المتكلمين الذين يولدون عن الأصول الدينية نتائجها دون أن يعرضوا لهذه الأصول نفسها، وبذلك يقنعون بكلامهم من يتفق معهم على الإيمان بتلك الأصول. وأما المنكر لتلك الأصول فيوشك ألا يكون الحديث موجها إليه؛ وأما منهج العقاد فهو منهج الفلاسفة الذين لا يبدءون بفروض مسلم بصحتها، ليكون الحديث موجها إلى المؤمن والمنكر على حد سواء.
يقول العقاد في فاتحة كتابه «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» إنه «لا محل للكلام على فضل دين من الأديان ما لم يكن أمر الدين كله حقيقة مقررة أو ضرورة واضحة، ولا معنى كذلك لأن نقصر الخطاب على المؤمنين المصدقين ولا نشمل به المتشككين والمترددين بل المنكرين والمعطلين؛ لأن المتشكك والمعطل أولى بتوجيه هذا الخطاب من المؤمن المصدق.»
ويبدأ العقاد بتحليل فكرة «الدين» نفسها - بغض النظر عن هذا الدين أهو هذا الدين أم ذاك - ليرد عنها ما قد تفهم به من دواعي التشكك أو الرفض، حتى إذا ما انتهى إلى نتيجة ترضي أصحاب الأديان جميعا وهي أن الدين ضرورة إنسانية، يعود فيتناول أوجه المفاضلة بين الإسلام وغيره من الديانات ليجد في الإسلام كل ما يطلب من عقيدة دينية، لكنه في هذا الكتاب وفي غيره (مثل كتابه «الفلسفة القرآنية» وكتابه «التفكير فريضة إسلامية») يلح إلحاحا شديدا على وجوب احتكام الإنسان إلى عقله الحر ، وفي هذا الاحتكام تكمن نقطة الالتقاء بين تراثنا من جهة وقبولنا لحضارة العلم الحديث من جهة أخرى.
لكن الذي يلفت النظر في هذا الصدد هو أن العقاد الذي ألح هذا الإلحاح كله على الجانب العقلي في تفهم العقيدة والدفاع عنها، وفي وجوب اضطلاع الفرد بالتفكير العقلي لأنه فريضة إسلامية، قد دخل في معركة جانبية مع الزهاوي في أهمية العقل بالنسبة إلى أهمية الخيال والعاطفة، وذلك أن الزهاوي ذو فلسفة مادية علمية يؤمن بالعقل وقدرته دون سائر القوى الإنسانية، فتصدى له العقاد مقيما له الحجة على أن الخيال والعاطفة لازمان للإنسان لزوم العقل أو هما ألزم، فيقول مشيرا إلى الزهاوي «يريد أن يعيش أبدا في دنيا تضيئها الشمس لا تغشيها سحب النهار ولا تنطبق فيها الأجفان ولا تناجى فيها الأحلام. وليست دنيا الحقيقة كلها نهارا وشمسا ولكنها كذلك ليل وغياهب لا تجدي فيها الكهرباء ... وقد خلق الخيال والبداهة للإنسان قبل أن يخلق العقل ثم جاء العقل ليتممها ويأخذ منهما لا ليلغيهما ويصم دونهما أذنيه.» لقد ظن الزهاوي - هكذا قال عنه العقاد في هجمته الناقدة - أن الإنسان لا يتصل بالكون إلا عن طريق عقله، مع أن العقل وحده لا يكفي، فانظر إلى الزهاوي نفسه وهو يعرض إحدى نظرياته الفلسفية التي أسماها بنظرية الدور، تر أن دفعة الحياة قد حركته إلى الكلام قبل أن يستطيع إخضاع هذا الكلام لقواعد المنطق العقلي «علي أنه بعد منطق لم يمتزج بالحياة في الصميم، لأنه يتعزى بالعلم، والحياة لا يعزيها أن تعلم بأنها خالدة إنما يعزيها أن تشعر بالخلود.»
5
وننتقل إلى معركة ثالثة هي في صميمها معركة حول وسيلة المعرفة ماذا تكون؟ فمن المعلوم أن في الفلسفة طريقين للنظر إلى هذا الموضوع، أحدهما يجعل طريق المعرفة بادئا من داخل الإنسان متجها إلى خارجه، والآخر يجعله بادئا من خارج الإنسان متجها إلى داخله. والمثاليون والعقليون هم من أنصار الطريق الأول، والتجريبيون والعلميون هم من أنصار الطريق الثاني؛ الأولون يرون أنه لا بد من أصول ومقولات مجبولة في فطرة العقل على أساسها، يمكن استنباط دقائق المعرفة كما تستنبط الرياضة من مسلماتها دون حاجة منا إلى اللجوء إلى مشاهدات خارجية؛ والآخرون يرون أنه لا معرفة ما لم نبدأ بتحصيل معطيات حسية تجيئنا عن طريق الحواس مرئيات ومسموعات وملموسات إلى آخر ما قد تخصصت حواسنا في نقله إلينا عن العالم الخارجي، عالم الأشياء، على أن من الفلاسفة من يحاول الجمع بين الطريقين في عملية المعرفة ليقول إنه لا بد من مقولات العقل ومبادئه إلى جانب معطيات الحواس لكي يتم تحصيل المعرفة، لكن المعول في تقسيم المذاهب الفلسفية في موضوع المعرفة ووسيلتها هو: لأي جانب من الجانبين تكون الأولوية المنطقية؟ فمن جعل من الفلاسفة الأولوية للعقل، كان من المثاليين أو العقلانيين، ومن جعل الأولوية للحواس، كان من التجريبيين.
وفي هذا اختلفنا اختلافا يمكن النظر إليه النظرة الجدلية التي تقسمه إلى دعوى ونقيضها ثم تأليف بينهما أو محاولة ذلك لولا أن الترتيب الزمني لهذه الأضلاع الثلاثة لم يأت على هذا التتابع، بل جاءت مرحلة التأليف في ترتيب الظهور أسبق من المرحلتين الأخريين.
أما ما سأجعله بمثابة الدعوى في هذه المعركة فهو المذهب التجريبي العلمي (الوضعية المنطقية) التي ذهب إليها كاتب هذه السطور، ونشرها ودعمها بكل وسائل النشر والتدعيم. فماذا يقول هذا المذهب - أو بتعبير أدق - هذا المنهج لأنه ليس مذهبا ذا فلسفة إيجابية بقدر ما هو طريقة للنظر بالنسبة إلى كل ما تستخدم فيه اللغة والرموز الأخرى، من مذاهب الفلسفة ونظريات العلم وغير هذه وتلك من ضروب القول والكتابة.
يقوم هذا المنهج التجريبي على أساس تحليله للغة؛ كيف نشأت وعلى أي صورة تجري في الاستعمال اليومي وفي الاستعمال العلمي وفي غير هذين من مجالات الخلق الأدبي. وينتهي به التحليل إلى أن للغة ميدانين كبيرين تستعمل فيهما بطريقتين مختلفتين، إحداهما هي حين تستخدم اللغة «لتشير» برموزها إلى أشياء العالم الخارجي، والأخرى هي حين تستخدم في غير هذه العملية الإشارية كأن يراد بها إثارة عواطف السامع أو إقامة بناء ذهني صرف تتسق أجزاؤه من داخل ، ولكنه لا يعنى شيئا في خارج، فإذا رأيت علم الضوء - مثلا - يقدم لي قولا في مسار الضوء؛ ما سرعته، وكيف ينعكس أو ينكسر أو غير ذلك، كان مدار قوله هذا هو التطبيق الخارجي ولذلك يتحتم أن يكون قابلا لهذا التطبيق الذي على أساسه نحكم بقبوله أو برفضه. وكذلك قل في شئون الحياة اليومية، فإذا زعمت لك أن القطار السريع من القاهرة إلى الإسكندرية يغادر القاهرة في تمام الساعة السابعة صباحا ليصل إلى محطة الإسكندرية بعد ساعتين وربع ساعة، كان قبولك لزعمي هذا مرهونا بقياسه على الواقع الفعلي ، وعندئذ فقط يتبين لك مدى ما فيه من صدق على ذلك الواقع، وبمقدار ما يكون في الصياغة اللفظية من رسم لطريق التطبيق الفعلي يكون لها «معنى». على أن ما له «معنى» قد يصيب وقد يخطئ فيكفي للعبارة أن تبين كيف يكون طريق تطبيقها على الواقع - سواء وجدناها تنطبق أو وجدناها لا تنطبق - لنقول إنها ذات معنى. فمن حيث «المعنى» لا فرق بين أن أقول إن الشمس تدور حول الأرض في أربع وعشرين ساعة، وأن أقول إنها تفعل ذلك في مائتين وأربعين ساعة؛ لكل من هاتين العبارتين صورة معينة تهدينا إلى طريقة المطابقة بينها وبين الواقع، لكن إحداهما سيتبين صدقها عند المطابقة كما سيتبين كذب الأخرى.
وأما الميدان الثاني في استعمال اللغة فهو حيث لا يقصد بها الإشارة إلى العالم الخارجي، بل يراد بها أثرها الوجداني أو يراد بها إقامة بناءات ذهنية تقتصر على مجرد التصور ولا نزعم لها أنها تسمى جانبا أو آخر من جوانب العالم، فالشاعر الذي يروي عن الليل أنه كموج البحر، لا يلفت نظرك إلى شيء في محيطك الخارجي، تنظر إليه لتطابق بينه وبين ما زعمه لك، بل يلفت نظرك إلى خبرة داخلية تحسها في شعورك. وكذلك الرياضي حين يبني نسقا رياضيا - كما فعل إقليدس - لا يدعي أن نسقه هذا يشير بالضرورة إلى كائنات خارجية، إذ قد يخلو العالم الخارجي من المثلثات أو من المربعات، ومع ذلك يظل نسقه الرياضي صحيحا؛ لأن صحته قائمة على طريقة تكوينه لا على إشارته إلى مسميات في دنيا الأشياء. وقل هذا نفسه بالنسبة إلى فريق من الفلاسفة يلجأ أفراده إلى ما يفعله الرياضي من حيث طريقة البناء، وهو أن يبدءوا بحقائق معينة لا يدعون أنها مكسوبة بالمشاهدة الحسية، بل يقولون إنها من إدراك الحدس، ثم يستنبطون من ذلك الإدراك الحدسي ما يمكن استنباطه من نتائج. ومن مجموع هذه النتائج مرتبة «منسقة» يتكون البناء الفلسفي المعين، فافرض أنك وقفت عند مرحلة بذاتها من هذا البناء تسأل كيف أستيقن من صوابها؟ فعندئذ يحيلونك على المقدمات التي استنبطت منها لترى أن استدلالها كان استدلالا صحيحا، وهكذا دواليك تحال في كل مرحلة إلى سابقتها، حتى تصل إلى نقطة الابتداء الأولى، فتسأل الرياضي أو الفيلسوف الاستنباطي من أين جاءت؟ فيكون الجواب: هي مسلمة الصدق لأنها مفروضة (بلغة الرياضيين) أو لأنها مدركة بحدس البصيرة (بلغة الفلاسفة).
هذان هما الميدانان الرئيسيان للغة، وعليك حين تستخدم اللغة أن تكون على بينة في أي ميدان من ميدانيها تستخدمها. أتشير بها إلى كائنات خارجية وعندئذ يتحتم عليك الركون إلى تجربة الحواس، أم تقصر نفسك على البناءات الذهنية التصورية، وعندئذ لا تطالب بالرجوع إلى تجربة الحواس وتكون ملزما بمراعاة مقاييس أخرى ملائمة لنوع البناء التصوري الذي تقيم أركانه في ذهنك.
هذا هو ما يقوله المنهج الوضعي المنطقي أو التجريبي العلمي، وإنما سمي «وضعيا منطقيا» لأنه أولا: يشترط لكل عبارة تدعي الإشارة إلى دنيا الأشياء أن يقوم صوابها على تصويرها لتجربة الحواس، وهذا هو الجانب الوضعي من الموقف. ولأنه، ثانيا: يكتفي بتحليل لغة العبارة نفسها، وهذا التحليل وحده كفيل بإرشادنا إن كانت العبارة مقبولة من ناحيتها المنطقية أو غير مقبولة، وهذا هو الجانب المنطقي من الموقف، فافرض مثلا، أنني زعمت لك عن «الروح» أنها «مادية» في جوهرها، فليس بك حاجة إلى البحث عن روح تتناولها لترى إن كانت مادية أو لم تكنز. وحسبك في رفضك لهذا القول أن تحلل هاتين الكلمتين، فإذا انتهى بك التحليل إلى أن كلمة «الروح» تطلق على كائنات غير مادية، علمت على الفور أنه من التناقض - إذن - أن توصف بأنها مادية؛ لأنني أكون عندئذ كمن يقول «اللامادي مادي» فرفضنا لهذه العبارة قائم على «المنطق» وحده؛ منطق اللغة ومنطق الفكر.
تلك هي الدعوى، فكيف جاء نقيضها - أو نقائضها إذا جاز أن يكون للفكرة الواحدة أكثر من نقيض واحد؟ جاءت تلك النقائض على مستويات مختلفة باختلاف أشخاصها في جدية المأخذ وعمق التفكير، فمنها ما عارض به العقاد على أساس جدلي فيه متانة الحجة، لكنها حجة مردود عليها، فمن أقوى ما اعترض به - وهو اعتراض شائع بين أعداء الوضعية المنطقية - أنه إذا كان هذا المنهج يرفض في باب العلم كل ما عدا نوعين فقط من القول، أحدهما قول تجريبي قياسه الواقع المحسوس والثاني قول فيه تحصيل حاصل (كالمعادلات الرياضية) باعتبار أن ما عدا هذين النوعين من الكلام هو أقوال فارغة من المعنى، إذن فالعبارة نفسها التي سيق بها هذا المذهب هي من قبيل الأقوال الفارغة؛ لأنها لا هي من قوانين العلم الطبيعي (النوع الأول) ولا هي من قبيل العلم الرياضي (النوع الثاني). لكن هذه الحجة مردود عليها بما يسمى «نظرية الأنماط المنطقية» التي مؤداها أن العبارات اللغوية ليست من مستوى واحد، ومقياس الصدق في أحد هذه المستويات ليس هو مقياسه في المستوى الآخر. مثال ذلك: افرض أنني حللت الجمل اللغوية التي وردت في هذه الصفحة فوجدتها جميعا قد كتبت باللغة العربية، فسجلت هذه الحقيقة عندي بعبارة إنجليزية أقول بها ما معناه «إن جميع العبارات على هذه الصفحة عبارات عربية» أفيجوز أن يعترضني معترض بقوله: لكن حكمك هذا لو صح لوجب أن يكون هو كذلك عبارة عربية؟ كلا؛ لأن حكمي هذا من «نمط» منطقي أعلى، يحكم على ما دونه، ولا يخضع هو نفسه لحكم نفسه، وأمثال ذلك في الحياة كثيرة كثرة لا يجوز معها أن يقع ناقد في مثل هذا الخطأ المنطقي، ومع ذلك فالذي وقع فيه كثيرون؛ فقد أكتب بطاقة على صندوق كل ما فيه برتقال، لتدل البطاقة على محتوى الصندوق، دون أن يطوف ببال ناقد أن يقول «لكن لو كان الوصف الموجود على البطاقة لما بداخل الصندوق وصفا صحيحا لوجب أن يكون هو نفسه برتقالة من البرتقال.» نعم إن هذا هو الموقف نفسه حين نحلل العبارات العلمية لنقول عنها آخر الأمر: العبارات العلمية كلها إما عبارات وصفية تشير إلى الواقع المحسوس وإما عبارات تحليلية تنطوي على تحصيل حاصل كمعادلات الرياضة، فلا يكون هذا الحكم العام نفسه خاضعا لقاعدة نفسه، بحيث أقول عنه إن هذا الحكم لا هو من قوانين العلوم الطبيعية ولا هو من تحصيلات الحاصل إذن فهو خلو من المعنى.
ويزيد العقاد على هذا الاعتراض اعتراضا آخر فيقول: «إن الإنسان يستطيع أن يجزم بحقيقة لا صورة لها في الخارج على الإطلاق؛ لأنه يستطيع أن يقول: «إن العدم مستحيل.» ولا يمنعه من تقرير ذلك أن المحسوسات خلت من شيء يسمى العدم أو شيء يسمى المستحيل.» وردا على ذلك نقول إن مثل هذه الجملة هي - كمعادلات الرياضة - تحصيل حاصل، وليست مما يصف الواقع، وصدقها كامن في أنها تكرر معنى واحدا مرتين؛ وذلك لأنك لو سألت: ماذا تعني بكلمة «العدم»؟ لأجبت نفسك بأنه هو «ما لا يكون» وإذا عدت فسألت وماذا تعني كلمة «المستحيل»؟ لأجبت نفسك هنا أيضا بقولك إنه هو «ما لا يكون»، وإذن فترجمة الجملة بعبارة أخرى تصبح «ما لا يكون لا يكون» وهو قول صحيح، لأنه تحليلي تكراري وشبيه بقولك 2 = 2 أو بقولك 1 + 3 = 4، وليس في هذا ما ينفي ما ذهبت إليه الوضعية المنطقية في تحليلاتها لتقبل ما تقبله وترفض ما ترفضه. وهكذا يمضي العقاد (راجع كتابه «بين الكتب والناس») في معارضات جدلية، تدل على أخذه للقضية أخذا جادا لكنها لا تدل بالضرورة على أنه قد أصاب. •••
ومن النقائض كذلك فصل خصصه الدكتور محمد البهي في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» - لا أقول «للرد» على الوضعية المنطقية؛ لأن الرد يتطلب درجة من دقة التحليل لا أظنه قد درب على مثلها، بل أقول إنه خصص فصلا ألقي فيه ما هو أقرب إلى الخطبة الحماسية التي أراد بها، وسأفرض فيه النية الحسنة لأنه ليس ثمة ما يدعوه إلى غير ذلك، أراد بها أن يثير نفوس قرائه - لا أقول عقولهم، لأن العقول تحتاج إلى منطق صرف، والخطب الحماسية لا تلتزم مثل هذا المنطق - نعم، أراد بها أن يثير نفوس قرائه على طائفة من مواطنيهم. كان كاتب هذه السطور أحدهم بسبب كتاب أخرجه وجعل عنوانه «خرافة الميتافيزيقا» ليقول به إنه إذا أراد المتكلم أن يتصدى لقول علمي يتصل بالعالم الخارجي فليكن سنده تجربة الحواس ، لأن ما هو مجاوز لمجال الإدراك الحسي سبيله آخر، وطريقة تصديقه طريقة أخرى، فإذا جاء فيلسوف ميتافيزيقي يزعم لنا أن للبرتقالة «جوهرا» وراء لونها وشكلها وطعمها، كان من حقنا أن نسأله أن يقيم لنا البرهان على أساس من تجاربنا نحن ما دمنا نحن الذين نستمع إليه.
ويبدأ الدكتور محمد البهي حملة إثارة النفوس منذ عنوان كتابه، إذ يجعل جزءا من هذا العنوان عبارة تقول إن هؤلاء المواطنين الذين هاجمهم في دعاواهم الفكرية ذوو صلة بالاستعمار الغربي. ولست أظن أن مما يشرفه ولا مما يشرف قراءه أن يجعل رجالا من أمثال طه حسين وعلي عبد الرازق (وهما أيضا ممن خصص لاتهامهم فصولا من كتابه) أعوانا للمستعمر على تحقيق أغراضه، ثم يتابع حملة الإثارة الانفعالية بالنسبة إلى كاتب هذه السطور بأن يجعل عنوان الفصل الذي خصصه لمهاجمته «الدين خرافة» وكأنه يستنتج من عنده أن الخائن الوطني الذي عاون الاستعمار بكتابه قد خرج كذلك على دينه. ألم يقل إن الميتافيزيقا خرافة؟ إذن يكون الدين خرافة. وحتى إذا سلمنا معه أن هذه نتيجة تلزم عن العنوان الأصلي للكتاب الذي يهاجمه، فلماذا لم يذكر هذا العنوان مكان بديله الذي اختاره له؟ ألأن كلمة «ميتافيزيقا» لا تثير النفوس بمثل ما تثيرها كلمة «الدين»؟
وإن هذه البداية لتكفي لصدنا عن مناقشته فيما أورده من حديث؛ لأنها بداية من لا يعتزم الدخول في جدال فلسفي نزيه. ومع ذلك فماذا قال؟ أخذ ينثر الأسماء الإفرنجية يمينا ويسارا بالأحرف العربية تارة وبالأحرف الإفرنجية تارة أخرى، وهي أسماء لفلاسفة ومذاهب، لا لأنها تصلح أن تكون ردا لما أراد أن يرد عليه، بل لأنها تتعاون مع ما أثبته على غلاف الكتاب من أنه دكتور من جامعتي برلين وهامبورج بألمانيا، دكتور من هناك في «الفلسفة وعلم النفس والدراسات الإسلامية» - كما أثبت على غلاف كتابه - ولست أدري في الحق كيف اجتمعت هذه الفروع كلها في رسالة للدكتوراه، ولم يكن ذلك ليكون من شأني لولا أنه يدلني على أنه لم يخصص نفسه للدراسة الفلسفية التي تعينه على تتبع تحليلات الفلاسفة حين تجاوز هذه التحليلات حدود المفاهيم الخطابية التي تستخدم في إثارة النفوس، ولا يهمها أن تتجه بالمنطق البارد نحو العقول. وحسبنا من ضعف إلمامه بالحركات الفكرية في ميدان الفلسفة أن يخلط بين «الوضعية المنطقية» وبين «المذهب الوضعي» الذي يقول به أوجست كونت، حتى لقد طفق يشرح للناس هذا المذهب ويكيل له الضربات وهو يظن أنه يهاجم ما ندعو إليه.
إن في هذا الخلط وحده لفصل الخطاب، لكننا على سبيل التفكه نذكر أن صاحب هذا الخلط الفكري بين وضعية كونت ووضعية شليك، وفتجنشتين، وكارناب، ونيورات، الذين لم يخطر بباله أن يقرأ سطرا واحدا لواحد منهم، أقول إن صاحب هذا الخلط الفكري العجيب هو الذي يأخذ على مؤلف «خرافة الميتافيزيقا» أنه يردد فكر الغربيين باسم التجديد وأنه يردده «مشوها أو محرفا»، ثم انظر إلى طريقة مؤلف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» في استدلال النتائج من المقدمات؛ فقد ذكر عبارة وردت في «خرافة الميتافيزيقا» تقول: «نشأت الميتافيزيقا من غلطة أساسية ... وهي الظن بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة فلا بد أن يكون لها مدلول ومعنى، وكثرة تداول اللغة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانا بأنها يستحيل أن تكون مجرد ترقيم أو مجرد صوت بغير دلالة، لكن التحليل يبين لك أن «مئات من الألفاظ المتداولة» والمسجلة في القواميس هي ألفاظ زائفة. وما أشبه الأمر هنا بظرف يتداوله الناس في الأسواق مدة طويلة على أنه يحتوي على ورقة من ذوات الجنيه حتى يكتسب الظرف قيمة الجنيه في المعاملات وبعدئذ يجيء متشكك ويفض الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه وإذا هو فارغ، وكان ينبغي أن يبطل البيع به والشراء لو تنبه الناس إلى زيفه من أول الأمر.» يذكر المؤلف هذا النص من كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ليستدل منه - واعجباه - أن الكلمة [وهل كل حديثنا عن كلمة واحدة معينة يا دكتور بهي؟ أم هكذا أردت لها أنت لتستدل من ذلك ما يتفق مع هواك لا مع النص؟] أن الكلمة التي يتداولها الناس في كثرة لا بد أن تكون اسم الجلالة «الله» وإن لم يصرح مؤلف خرافة الميتافيزيقا بذلك، ولنضرب عرض الحائط بعبارة «مئات من الألفاظ المتداولة» التي وردت في النص - هكذا يقول لسان الحال عند الدكتور البهي - لأننا نحن - أولاد البلد - يفهم بعضنا بعضا، ونفهمها من وراء السطور - وهي طائرة - ومحال أن يضحك على ذقوننا كاتب مادي لعين كمؤلف «خرافة الميتافيزيقا» ... إنه يقول شيئا لكننا نفهمه على وجه آخر لأننا لسنا من الغفلة بحيث يفوتنا ما يعنيه وإن لم يصرح به. وأستحلفك بالله - أيها القارئ - لا تضحك إذا ما أنبأتك بأن مؤلف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث الذي يستنتج من نص كهذا نتيجة كهذه، هو نفسه الذي يقول عن صاحب «خرافة الميتافيزيقا» إن كلامه هذا «لا يدل فحسب على قلة إدراك اللغة العلمية بل يدل أيضا على أن «البتر» في النقل عن الغير يكاد يكون صفة من صفات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث عند هؤلاء المرددين.» (والمقصود بالمرددين عنده هم الدكتور طه حسين والأستاذ علي عبد الرازق وكاتب هذه السطور الذي هو مؤلف «خرافة الميتافيزيقا»). ورحمكم الله يا أصحاب العقول السليمة، فقد تولى الحديث عنكم الدكتور محمد البهي وهو أستاذ أجاد «اللغة العلمية» إجادة تامة، وتنزه عن «البتر» الذي يقترفه «المرددون» لما ليس يفقهون. •••
ونترك هذه الوقفة الانفعالية التي لم يحسن صاحبها فهم ما يتصدى لنقده وبالتالي لم يحسن النقد العلمي النزيه، واكتفى بإلقاء خطبة وجدانية يلهج فيها بخوفه على الإسلام من طائفة مفكرة أسلمت كما أسلم ثم استخدمت واجبها الإسلامي في التفكير، وأحبت وطنها كما أحب، ثم رأت أن ترتفع بمداركها العقلية إلى منزلة أراد المستعمرون احتكارها لأنفسهم. نترك هذه الوقفة الانفعالية - إذن - لننتقل إلى فيلسوف عربي دحض المذهب التجريبي الحسي كما يدحض الفلاسفة بعضهم بعضا؛ بالحجة المنطقية الرصينة، لكن دحضه للمذهب التجريبي الحسي لم يجعله يتطرف إلى نقيضه، وأعني المذهب المثالي الذي يحول الدنيا بأسرها إلى أفكار مجردة في عقل مدركيها، وإنما هو يختار موقفا أشبه بموقف وسط بين الطرفين وهو أن يكون العقل أداة الإدراك، لكن معقولاته لا تقتصر على نفسه بل إن وجودها في الذهن ليدل على وجود الموجودات الخارجية. وذلك الفيلسوف العربي هو يوسف كرم، في كتابيه «العقل والوجود» و«الطبيعة وما بعد الطبيعة». لقد أرسل يوسف كرم خطابا قصيرا إلى كاتب هذه السطور بتاريخ 6 مايو (أيار) 1959م؛ أي قبيل وفاته بأيام (مات فجر الخميس 28 مايو 1959م)، يقول فيه: «تحية واحتراما وإعجابا بكثرة تآليفكم، وإن كان ما قرأته لكم يحفر بيننا هوة سحيقة؛ فإن أول ما يقتضى من رجل العلم خلوص النية والجد في البحث وهما متوافران، لكن وأنا مواصل قراءة «نحو فلسفة علمية» ومكرر الوعد بالكتابة عنه، وأستطيع أن أقول - منذ الآن - إن الفلسفة التي تفرضونها هي الفلسفة المادية، وإننا لن نتفق في الرأي، وسيبدو لكم هذا الاختلاف حين تطالعون كتابا لي توشك دار المعارف أن تصدره واسمه «الطبيعة وما بعد الطبيعة»، وسيادتكم تثقون طبعا أني كتبته بإخلاص.»
وصدر الكتاب بعد وفاته، وهذا هو نص التصدير الذي صدره به، لأنه يوجز القول فيما جاء فيه وفي الكتاب الذي سبقه وهو «العقل والوجود» يقول التصدير:
أثبتنا في كتاب «العقل والوجود» أن للإنسان قوة داركة متمايزة من الحواس، تدعى بالعقل، شأنها أن تدرك معاني المحسوسات مجردة عن مادتها، ومعاني أخرى مجردة بذاتها، وأن تؤلف هذه المعاني في قضايا وأقيسة واستقراءات فتنفذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، محاولة استكناه ماهيته وتعيين علاقاته مع سائر الموجودات. ولما كانت موضوعات العقل مجردة كانت أفعاله التي ذكرناها مجردة كذلك، فأبطلنا المذهب الحسي الذي يقصر المعرفة الإنسانية على الحواس ويرمي إلى أن يرد إليها ويفسر بها سائر الكائنات.
وبعد إثبات وجود العقل بوجود موضوعاته وأفعاله، عرضنا لقيمة الإدراك العقلي، فأدحضنا مذهب الشك المنكر لجميع الحقائق حتى الحسية منها والهادم للعلم من أساسه، وأدحضنا المذهب التصوري الذي، وإن آمن أصحابه بوجود العقل وبمدركات عقلية فهم يقصرون هذا الوجود على داخل العقل، ويعتبرون هذه المدركات تصورات وحسب، فينكرون على الإنسان حق الخروج من التصور إلى الوجود . وبعد إثبات بطلان تلك الدعاوي بينا تهافت المذاهب الميتافيزيقية المبنية عليها ...
والآن نقصد إلى النظر في طبائع هذه الموضوعات وأن نبدي الرأي فيها ... آملين ... أن نقدم صورة سليمة للطبيعة بقوانينها وبموجوداتها، من جماد ونبات وحيوان وإنسان، على هذا الترتيب التصاعدي الظاهر لأول وهلة.
ونقصد أخيرا إلى إتمام البحث الشامل، واستيفاء اليقين الكلي، بالصعود إلى العلة الأولى للطبيعة أي لخالقها ومشرع قوانينها، المفارق لها، العالي على موجوداتها ...
على أن الناقدين الناقضين للتجريبية العلمية التي اضطلع بعرضها والدفاع عنها كاتب هذه السطور، لم يقتصروا على الأستاذ العقاد والدكتور البهي والأستاذ يوسف كرم (في توسطه بين طرفي التجريبية والمثالية)، بل كان من بينهم كذلك الدكتور عثمان أمين في كتابه «الجوانية»، ولكنني لا أنوي التعرض لما يقدمه في هذا الكتاب، لأنني غير مؤهل لذلك؛ إذ يقول في التقديم «منذ البداية أرى لزاما أن أنبه إلى أن هذا الكتاب الصغير لم يكتب إلا للقراء الجوانيين حقا، ومعنى هذا أن القارئ الذي يقف عند حرفية الألفاظ وظاهر العبارات دون أن يحاول أن ينفذ إلى فهم «ما بين السطور» لن يستطيع أن يصحبني في هذه الرحلة الفلسفية الطويلة؛ لأن اللغة المقروءة أو المسموعة ليس في طاقتها أن تنقل كل ما يعتلج في نفس الكاتب أو المتكلم، ما لم يصحبها من جهة القارئ أو السامع ضرب من «التهيؤ النفسي» أو التأهب الوجداني ...»
ولما كنت - لحسن الحظ أو لسوئه - ممن يلزمون الكاتب بحرفية ألفاظه - وإلا كان عابثا حين استخدمها - وكذلك لما كنت - لحسن الحظ أو لسوئه - ممن لا يجدون «بين السطور» إلا بياضا لا يعني شيئا، ولما كنت أومن - لحسن الحظ أو لسوئه - أن ما لا يستطيع الكاتب أن يجريه في «لغة مقروءة أو مسموعة» فليصمت عنه، لأنه لا جدوى عندئذ من شغل أعين القراء أو آذان المستمعين برموز عاجزة عن نقل ما أراد الكاتب أو المتكلم أن ينقله. أقول إني لما كنت هذا وهذا وذاك، فسآخذ بنصح مؤلف «الجوانية» بألا أتبعه في رحلته الفلسفية الطويلة.
6
ودارت المعركة الرابعة حول موضوع لا تبلى جدته ولا يذهب عنه خطره، لأنه وثيق الصلة بقضية فكرية هي من أهم ما يشغل الإنسان في حياته من قضايا، ألا وهي قضية الحرية الإنسانية؛ ما مداها؟ أنجعل الفرد الإنساني كيانا مستقلا بذاته عن سائر الذوات وسائر الأشياء، حتى لنجعل من كل فرد عالما قائما بذاته، فنضمن له أوسع ما يمكن ضمانه من حرية، أم نجعله تجسيدا لحقيقة نوعية تشمله وتشمل سواه من أفراد نوعه، وبذلك لا يجاوز أن يكون ممثلا لطبيعة معينة مفروضة عليه لا يملك الفكاك من حدودها وقيودها؟
وقد أخذت الفلسفة الوجودية الحديثة - على اختلاف صورها - بفردية الوجود الإنساني، لتجيء ردا على طغيان الجماعة على الفرد وتحكمها في ضميره، وهو طغيان كثرت أشكاله في عصرنا الحديث بما ظهر فيه من ضروب «الشمولية» التي تلغي وجود الأفراد بالقياس إلى وجود «الكل» كما هي الحال في الأنظمة الشيوعية والفاشية والنازية.
وكان في مقدمة من اضطلع بالدفاع عن الوجود الفردي الحر الفعال، الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «الزمان الوجودي»؛ فالوجود عنده نوعان «فزيائي وذاتي» الثاني وجود الذات المفردة، والأول كل ما عدا الذات، سواء أكان ذاتا واعية أم كان أشياء، وليس ثمة فارق ضخم بين وجود الغير كذوات واعية أو كأشياء جمادية، فكلاهما بالنسبة إلى الذات المفردة من ناحية المعنى سيان، فالوجود الذاتي وجود مستقل بنفسه في عزلة تامة من حيث الطبيعة عن كل وجود للغير ، ولا سبيل إلى التفاهم الحق بين ذات وذات، إذ كل منهما عالم قائم وحده. أما وجود الغير فلا نسبة له إلى الذات إلا من حيث الفعل، ولذا لا تنظر إليه الذات إلا من هذه الناحية وتبعا لها يتحدد موقفها بإزائه» (ص135).
إن الذات الإنسانية المفردة الفريدة التي لا تنظر إلى سائر الذوات الأخرى وسائر الأشياء إلا من حيث هي وسائل تحقق لها إرادة الفعل، أقول إن هذه الذات الإنسانية كائنة حتما في زمان متعين الحدود له أول وله آخر وله امتداد محدود بهذين الطرفين، وهي خلال هذه الفترة الزمانية المحدودة لا تنفك محققة بأفعالها ما هو في وسعها تحقيقه من إمكانات، لكن الإمكانات لا تحدها حدود، وأما الفعل المتحقق فمحدود، ومن ثم كان سعادة الذات وشقاؤها؛ سعادتها بما تحققه، وشقاؤها بما لم تحققه. إن مجرد قولنا إن الإنسان حر يتضمن بالضرورة أنه يختار من بين الممكنات اللامتناهية أفعالا محدودة العدد؛ أي أن حرية الإنسان قاضية حتما على الإنسان الحر بقصور في سعادته، لأن السعادة لا تتم إلا بالتحقق الكامل لكل الإمكانات. وإذن «فالوجود شقي بطبعه، وسيظل شقيا؛ لأن الإمكانيات لا متناهية واللامتناهي لا يمكن اجتيازه، فإذا كانت السعادة الكلية لن تتحقق إلا بإحراز الكل، وإحراز الكل معناه اجتياز اللامتناهي، واجتياز اللامتناهي مستحيل، فالسعادة الكلية - إذن - مستحيلة» (ص222).
ولا يزول عن الإنسان شقاؤه إلا بأحد طريقين. فإما أن يجتاز اللامتناهي وهذا مستحيل عليه، وإما أن يبعد الإمكانات وهذا معناه إبعاد الفعل، وفي هذا محو لطبيعته الأصيلة التي هي فعل قبل أن تكون أي شيء آخر. لقد حاول فلاسفة أن يحققوا للإنسان سعادة كاملة فوضعوه في سرمدية لا تحدها حدود الزمان، لكنهم بهذا إنما يضعونه في حياة خاوية لا معنى لها «وقد آن للإنسان أن يتخلص من كل هذه الأوهام التي تقرر وجودا غير الوجود المتزامن بالزمان، فهذا واجب لا بد من أدائه إذا كان لنا أن نعيد للإنسان معناه وقيمته؛ ولهذا فإننا نقرر هنا في صراحة تامة، وبلا أدنى مواربة، أن كل وجود غير الوجود المتزامن بالزمان وجود باطل كل البطلان، وأن السرمدية المضادة للزمانية وهم من أشنع الأوهام» (ص223). •••
وهذه النتيجة الأخيرة هي التي تقتضي أن يرد عليها بما يخفف من حدتها تخفيفا يلائم بينها وبين جونا الفكري العام، ولست أعرف من تصدى للرد الجاد من مفكرينا سوى العقاد، لأنه، بعد أن حمد للوجودية تقريرها لحرية الضمير عند الفرد الإنساني، أخذ عليها خلطها بين وجود الفرد والوجود كله، وظنها أنه لا مكان لحرية الفرد إلا إذا ألغينا حقيقة النوع، على حين أن «وجود النوع الإنساني وجود حقيقي صادق في الحس كصدق وجود الفرد أو أصدق. ووجود النوع الإنساني حقيقة بيولوجية من حقائق اللحم والدم، وليس كما يقولون فرضا من فروض التصور في الأذهان، ولا يتم كيان الفرد نفسه إلا إذا نضجت فيه الوظائف النوعية التي يتحقق بها وجود النوع ...
واختلاف الأفراد في ملامح الشخصية لا ينفي التشابه بينهم في الخصائص النوعية ولا يجعل كلا منهم عالما مستقلا بأخلاقه وآدابه ومواطن اختياره واضطراره» (بين الكتب والناس، ص15-16).
وليس فيما كتبه العقاد رد مباشر على الدكتور بدوي، فضلا عن أنه لا يقع منه موقع النقيض بل هو أقرب إلى من أراد أن يؤلف بين النقيضين لو كان هناك قول ينقض ما ذهب إليه الدكتور بدوي في مذهبه الوجودي، أضف إلى ذلك كله أن العقاد يكتب عن الوجودية على إطلاقها، وللدكتور بدوي وجوديته المتميزة من سواها.
لم تكن هذه المعارك الأربع هي كل ما شهده الميدان الفلسفي عندنا من معارك لكني أراها أحق بالإثبات من سواها.
نحن وقضايا الفكر في عصرنا
1
إنني لأقول قولا مكرورا معادا، إذا أخذت أتتبع الملامح الرئيسية التي تجعل من هذا العصر عصرا فكريا متميزا من سواه، فمن ذا يريدني لأنبئه أن من ملامح عصرنا، هذه القوة النووية الجبارة، التي فكت من عقالها، ولا يعلم إلا الله، والعلماء، أين عساها أن تتجه بنا في طريق سيرها؟ ومن ذا يريدني لأنبئه أن قد كتبت السيادة في عصرنا للعلم، وما يتفرع عن العلم من آلات وتقنيات؟ أو لأنبئه بأن التفجر السكاني الرهيب قد أصبح علامة مميزة، ففي الوقت الذي تهددنا فيه القوة الذرية بأن تمحو البشر محوا، يجيء هذا التفجر البشري ليكون لها أبلغ جواب؛ أو من ذا يريدني لأنبئه عما يميز عصرنا من ثورات تلاحقت فأيقظت قارتين جبارتين: آسيا وأفريقيا؟ لقد أوشكت الثورات في يومنا أن تحل محل الحروب بالأمس، وبين البديلين فارق فسيح؛ فالثورات تنهض بها شعوب، وأما الحروب فيغلب أن يشنها ساسة وحكام؛ الثورات لا تكون إلا من أجل حرية، أو مزيد منها، وأما الحروب فما أكثر ما نشبت لتطمس حرية أو لتحد منها. فلئن كان عصرنا هذا ما ينفك جاهدا في مقاومة الحروب، فهو كذلك عصر لا يدخر وسعا في إثارة الشعوب المظلومة على ظالميها؛ إنه عصر ثورات؛ نعم، لقد سبقتها في التاريخ ثورات مشهودة، كالثورة الأمريكية والثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، لكن الثورة إذا قيست بعدد من يتأثرون بها، وبعمق ذلك الأثر ومداه، فإن ثورات الأمس لا تقاس بثورات اليوم عمقا واتساعا.
2
لكنني لا أتحدث هذا الحديث، لأتقصى به ملامح العصر وسماته، فليس ذلك موضوعنا؛ إذ السؤال هو عن الفكر وقضاياه، التي قد تكون تلك الملامح والسمات مصدرها. وإنه ليجمل بنا أن نحاول عرض هذه القضايا الفكرية، كما نعيشها نحن ونحياها، لا كما نقرؤها في الكتب نقلا عن سوانا، وإن يكن بيننا وبين سوانا - ونحن أبناء عصر واحد - من وشائج الصلة، ما يوحدنا جميعا في مشكلات بعينها، تتفق مع سحنتها، ثم تختلف في لون بشرتها من إقليم لإقليم.
وما قضايا الفكر هذه، إلا أسئلة ملقاة علينا، تتطلب منا جوابا، ولم نستقر لها بعد على جواب؛ أما ما قد استقر عليه الجواب فليس هو بالقضية المثارة، فمثلا، قد استقر الجواب على أن حقيقة الإنسان، وحقيقة العالم كله، تطورية لا سكونية، فهي في صيرورة دائمة، فلم يعد أحد يسأل، بل لم يعد يجوز لأحد أن يسأل إذا كان التطور حقيقة قائمة أو لم يكن، إنما الأسئلة المشروعة في هذا المجال، هي أسئلة عن صورة ذلك التطور وخصائصه ماذا عساها أن تكون؟ أهي تسلسل في منطق الفكر كما يقول هيجل؟ أم هي تسلسل في الطبيعة كما يقول ماركس؟ ... أهي حركة تشمل العالم والإنسان كما يقول هيجل وماركس معا؟ أم هي حركة مقصورة على الإنسان وحده كما يقول سارت؟
تلك وأشباهها هي الأسئلة المشروعة في هذا المجال، لا التطور من حيث هو كذلك.
فما أهم القضايا التي تثار اليوم، وما تزال تنتظر منا الجواب؟ أولها - فيما أرى - وأهمها وأعمها، قضية تسأل عن أيهما تكون له الأولوية في اعتبارنا: العلم أم الحياة ؟ العقل أم الوجدان والحدس؟ الحقائق العامة المجردة أم الخبرة الخاصة المباشرة؟ لقد انقسم الفكر - في عصرنا - حيال ذلك قسمين: أحدهما استقبل العلوم الطبيعية، وما انتهت إليه من تطوير للحياة، تطويرا جعل للآلة وللتقنيات مكانة الصدارة. أقول إن أحدهما قد استقبل هذه العلوم ومقتضياتها بالقبول والرضا، وكرس جهوده لخدمتها ولدفعها إلى الأمام ما استطاع إلى هذا الدفع من سبيل، وأما الآخر فقد ازور عنها وأشاح بوجهه رافضا، خوفا على ذات نفسه من الضياع. وإن العالم لتقسمه هاتان النزعتان، اللتان هما في الحقيقة وليدتا أم واحدة، لكنهما - كقابيل وهابيل - اختلفا هدفا ومسلكا. وفي وسعنا أن نقول - على وجه الإجمال - إن أمريكا والشمال الغربي من أوروبا وكذلك شرقيها قد انصرفت إلى النزعة العلمية عن طواعية، على حين اتخذت فرنسا وجاراتها موقف الاحتجاج والرفض، وأما نحن فقد تجاورت عندنا النزعتان، تتنازعان حينا، وتتكاملان حينا آخر.
إن قصة النزاع بين العقل وغير العقل من جوانب الإنسان، قديمة قدم التاريخ، فآنا هو نزاع بين العقل التقاليد، كما حدث لسقراط وآنا آخر هو نزاع بين العقل والتصوف، كما حدث في احتجاج الغزالي على الفلاسفة، وآنا ثالثا هو نزاع بين العقل والوجدان، كما حدث بين فولتير وروسو، وآنا رابعا هو نزاع بين العقل والدين، كما حدث في النصف الثاني من القرن الماضي بصفة خاصة. ولم تكن هذه هي كل ألوان الصراع بين العقل وغيره من جوانب الإنسان، وكأنما هذا العقل عدو للفطرة البشرية، وليس جزءا منها، كأنه مفستو فوليس أقحم نفسه في حياة فاوست ليضلها ويفسدها. ومهما يكن من أمر، فقد ظهر في أيامنا صراع جديد، هو بين العقل وخبرة الإنسان الباطنية المباشرة، أو قل - إن شئت - بين العقل والحياة، بين العام والخاص، بين الكل والجزء، بين الجماعة والفرد.
لقد شهد العالم - وما يزال يشهد - سيطرة للعلم تزداد قبضتها على الخناق، وإذا قلنا العلم، فقد قلنا العقل، مما أخذ يغرينا أن نسلم الزمام للبحوث العلمية وما تنتهي إليه من نتائج. مهما يكن أمر تلك النتائج؛ فالكلمة لأنابيب المعامل وقوائم الإحصاء، وعلينا أن نسمع ونطيع، فكان من الطبيعي أن تنشأ فلسفة لتواجه هذا الوثن الجديد، لتصيح في وجهه قائلة: لا، إنه إذا كان العقل أداة صالحة للتحليل والتعليل، فما يزال الإنسان أغزر من أن تحيط أحكام العقل وتحليلاته بكل ما في أعماقه وأغواره، إن قصارى العقل أن يقيس نتيجة إلى مقدمات، بحيث يتنبأ بأن كذا سيحدث إذا توافر كيت، لكنه عاجز عن رؤية اللحظة الراهنة في تيار الوعي، مع أن هذا التيار الباطني هو نفسه الحياة في سيالها الدافق، وكانت الوجودية هي هذه الفلسفة التي جاءت لتعلن هذا التمرد الرافض.
على أن الوثن المعبود لم يتخذ في عالم الفلسفة صورة واحدة، بل ظهر بادئ الأمر على الصورة الهيجلية، التي جعلت من العقل كائنا مطلقا لا تحده حدود، يسع في جوفه كل شيء، فما الفرد الواحد فيه، إلا لحظة عابرة من لحظاته، كأنما هذا الفرد حرف في قصيدة كبرى، لا يعنى شيئا إذا انعزل وحده، وكل معناه منحصر في موضعه من سياق القصيدة، إنه ليس كيونس ابتلعه الحوت في جوفه، لأن يونس مآله الخروج من المحنة إلى حيث ينفرد بشخصه من جديد، بل هو أقرب إلى الخلية الواحدة في الكيان العضوي الكبير.
ثم اتخذ هذا الوثن المعبود لنفسه صورة أخرى، قلبت سالفتها رأسا على عقبين، فقد كان الصنم في الحالة الأولى مستندا على رأسه، والقدمان إلى أعلي - والرأس هنا رمز للفكر، والقدمان رمز للأرض وما تضطرب به من أوجه النشاط في ميادين الزراعة والصناعة - أقول إن الصورة الجديدة جاءت لتقيم الوثن معتدلا على قدميه، والرأس إلى أعلى، لتجعل أرض الواقع - هذه المرة - هي منبت الفكر، وتلك هي الماركسية التي قرأت حقيقة الوجود بلمسات الأصابع كالمكفوف يقرأ بطريقة بريل، بعد أن كان يقرؤها هيجل على لوح داخل رأسه، والعين مغمضة والأذن صماء، فمن ذا يلوم المتمرد؟ والمتمرد هنا هو المفكر الوجودي، إذا ثار على الوثن، سواء على رأسه وقف، أم وقف على قدميه؟ وإني لأقول ذلك راجيا أن أكون منزها عن الهوى، لأنني في عالم الفلسفة لا إلى أولئك أنتمي ولا إلى هؤلاء.
ونحن، ما شأننا بهذا كله؟ لقد ألقت هذه المشكلة بظلالها فوق أرضنا، فانقسمنا بدورنا إزاءها شعبا، لكن هذه المشكلة في موطنها الأصلي مرتبطة هناك بظروفها التي ولدتها، وأما عندنا فالصلة مبتورة - أو هي كالمبتورة - بينها وبين تيار الواقع الحي. فإذا كانوا هناك قد ضاقوا بالعلم وتقنياته، فتمردوا على العقل، ولاذوا بالوعي الداخلي واستبطانه، فلأنهم شبعوا علما وصناعة، حتى أخذهم الحنين إلى حياة الانطواء المتأمل. أما نحن - فعلى عكس ذلك تماما - طال بنا أمد الانطواء والتأمل، حتى أصابنا منهما الدوار، وتخلفنا في العلم وفي الصناعة، تخلفا لم يكن يبرره ماضينا العلمي المجيد، فلست في الحق أغفر لأي صوت منا يرتفع ليقول مع المتمردين في الغرب: حسبكم علما وكفاكم عقلا؛ إذ نحن - بالنسبة إلى تاريخنا الحديث - ما نزال على عتبة العلم والعقل نحبو. وإنني لعلى يقين - أو ما يقرب من اليقين - أن يوما سيأتي، حين تتلاقى على أيدينا هذه الفلسفات المتضاربة، فكما عرف أسلافنا الأولون كيف يوفقون بين العقل والإيمان، بين الرأس والقلب، سنعرف نحن كيف نوفق بين العلم الحديث من جهة وخصوصية الحياة في الأفراد من جهة أخرى، ففيم اختيارنا إما هذا أو ذاك، ونحن في أمس الحاجة إلى هذا وذاك معا؟
ولنعبر بأنظارنا مسرعين على حياتنا الفكرية خلال خمسين عاما، فماذا نرى؟ نرى في أول الطريق أجنبيا يستعمر أرضنا، وحاكما داخليا دخيلا يستبد بنا، نرى الفواصل حادة بين أفراد الناس وطبقاتهم: بين الشعب والحكومة، بين الفقر والغنى، بين الريف والمدينة، كما نرى الهوة سحيقة بين ثقافتين تتقسمان المجتمع، فقسم يعيش مع القديم ولا جديد، وقسم يعيش مع الجديد ولا قديم، قسم يحيا حياة تسودها القيم العربية الإسلامية الخالصة حتى لكأن الغرب لم يدق أبوابنا بحضارته، وقسم آخر يحيا حياة أوروبية خالصة حتى لكأنه مقيم على أرض غير الأرض العربية، وكأنه لم يرث تراثا ثقافيا ضخما كان ينبغي أن يميزه بطابع خاص.
ذلك ما كان في أول الطريق، فلم تكد الحرب العالمية الأولى تبلغ ختامها، حتى انطلقت جهودنا الفكرية في كل ميدان، تريد شيئين في آن معا: تريد التحرر من القيود أولا، ثم إقامة بناء جديد على دعامتين: ثقافة عربية أصيلة تبتعث، وثقافة حديثة تستعار، بحيث يتلاقى العنصران في وحدة عضوية واحدة؛ وبعبارة أخرى. أردنا أن نضفر خيطين في نسيج حياتنا: حرية وعلما. ولقد ركز بعضنا جهوده في الحرية ينشدها في ميادين السياسة والأدب والحياة الاجتماعية، وركز بعضنا الآخر جهوده في إثراء الحياة العلمية العقلية؛ لكن الطرفين قد التقيا في قلة من القادة، أخذت تزداد وتتسع، حتى لنراها اليوم وقد كادت تصبح روحا سائدة، فلا نطلب مزيدا من الحرية إلا مصحوبا بمزيد من علم وصناعة، ولا نزيد من العلم والصناعة إلا وفي أذهاننا أن ذلك هو طريقنا إلى الحرية الصحيحة.
فلئن كان الموقف الفكري في أوربا وأمريكا يبرر أن يستقل فريق بفلسفة للعلم، وأن يستقل فريق آخر بفلسفة للحياة الحرة، فموقفنا نحن يقتضي أن تندمج الشعبتان في تيار واحد، وبذلك ينمحي الازدواج من حياتنا، فالفرد تجاه المجتمع، يصبح فردا في المجتمع؛ والمحكوم تجاه الحاكم، يصبح محكوما هو نفسه الحاكم؛ والعامل تجاه صاحب المال، يصبح عاملا هو نفسه صاحب المال؛ والريف تجاه المدينة يصبح ريفا فيه وسائل المدينة، والقديم تجاه الجديد، يصبح جديدا قائما على أساس القديم.
3
ومن القضايا الفكرية التي تتصل بما كنا نتحدث فيه، هذه القضية ذات الأثر البعيد في مجال الأدب والفن، وهي: أنطوي الطبيعة في الإنسان، لنجعلها جزءا من إدراكه، أم نسلك الإنسان في الطبيعة لنجعله ظاهرة من ظواهرها؟ إننا نعيش في عصر يسوده العلم، ما في ذلك أدنى ريب، ولا تقوم للعلم قائمة ما لم يصغ الإنسان لما تقوله الطبيعة، والأخيرة في العلم، إنما هي للوقائع الصلبة العنيدة، التي تقع في مجال البحث، ولا قيام لنظرية مهما ارتفع قدرها إذا ظهرت واقعة واحدة تفندها، فلسنا نحن الذين نضع للضوء والصوت والكهرباء قوانينها، بل لسنا نحن الذين نضع للإنسان قوانين إدراكه وشعوره وسلوكه؛ ومعنى ذلك أنه كلما نما العلم ودقت تقنياته، صغر الإنسان وتضاءل دوره، برغم أنه هو مشيد العلم وصانع التقنيات، ولست أدري إلى أي حد أصاب من قال إن إله القدماء قد نزل عن مكانه لإنسان العصر الحديث، فلم يلبث إنسان العصر الحديث أن نزل عن مكانه للآلة، تمسك بزمامه وتسيره.
لكن الذات الإنسانية المتذوقة الحساسة، قد هالها ما صنعه العقل حين صنع العلم والآلة، فأرادت أن تعوض فقدها بكسب تحرزه في ميدان الفن والأدب؛ فلئن كانت الطبيعة الخارجية قد فرضت نفسها علينا في مجال العلم، فلم يبق إلا أن نفرض أنفسنا عليها في مجال الفن والأدب، بمعنى أن ينتج الفنان فنا لا يحاكي به الطبيعة في شيء، فنا يسقط فيه ذاته على موضوعه إسقاطا كاملا، فنا يخلقه من عنده خلقا، حتى لينظر إليه الناظر فلا يجد بينه وبين الطبيعة الخارجية شبها، بل يجيء إضافة جديدة تضاف إلى كائنات الطبيعة، وليس هو بالتكرار لها في أية صورة من الصور، وبذلك استطاع الإنسان أن يقول لنفسه، وللدنيا الطاغية من حوله: ها أنا ذا، لم يستطع أن يمحوه من الوجود الذاتي الفردي علم ولا آلة، كلا ولم تغرقه موجة من موجات الشمول الذي أراده هيجل في عالم الفكر، أو الذي أراده ماركس في عالم المادة.
لم يكن في هذه الحركة، التي أراد بها الفن أن يستقل بذاته عن الطبيعة الخارجية، جديد بالنسبة إلى الموسيقى، فالموسيقى بحكم طبيعتها لا تلتزم أن تجيء تشكيلاتها الصوتية محاكية لأي بناء صوتي في الطبيعة، وإنما كان الجديد في هذه الحركة متصلا بفن التصوير وفن النحت وفن الشعر، فقد ألف الناس أن تكون اللوحة الفنية صورة لشيء ما، وأن يكون التمثال المنحوت ممثلا كذلك لكائن من الكائنات، يغلب أن يكون كائنا حيا، وأما فن الشعر فقد أصابته ذبذبة في تاريخه، إذ جعله النقاد آنا تابعا لفن التصوير، وآنا آخر تابعا لفن الموسيقى، ففي الحالة الأولى، كانوا يطالبون الشاعر بأن يجيء شعره «تصويرا»، وفي الحالة الثانية، كانوا يطالبونه بأن يجيء شعره «نغما»، أو هم كانوا يطالبونه - إذا أرادوا الحيطة - بأن يجيء شعره تصويرا منغما في آن معا. كأنما الشعر مقسوم له أن يكون أي شيء إلا أن يكون شعرا.
فلما جاء عصرنا هذا الذي نحياه، بكل ما شاع فيه من الضغوط على فردية الفرد، ولاذ الفرد عندئذ بجبل الفن يعصمه من ذاك الضياع. استقل المصور بتكويناته اللونية عن موضوعات الطبيعة، ووضع على لوحته ما يحقق ذاته هو، لا ما يخضع به لأي شيء خارجي يفرض عليه، وكذلك فعل النحات في تماثيله، إذ جعل همه أن يصوغ مادته على أي نحو شاء، مما يراه متناسبا مع طبيعة تلك المادة، ولا أحسب أن المصور أو النحات قد ضل بذلك جادة السبيل، إذ ليس في اللون نفسه - الذي هو وسيط فن التصوير - ما يفرض علينا استخداما بعينه، كلا، ولا في قطعة البرونز أو الرخام، ما يحتم علينا أن تصاغ على وجه دون وجه آخر، وإلى هنا والأمر مقبول، لكن الشاعر أراد أن يلحق بزميليه المصور والنحات، بأن يرص اللفظ على أي نحو شاء، وها هنا - فيما أرى - شيء من ضلال، لأن مادة الشعر - على خلاف مادة التصوير ومادة النحت - فيها ما يحتم أن يرتبط اللفظ بمدلوله، لأن كل لفظة هي بمثابة تعاقد اجتماعي بين الناس على طريقة استخدامها، أو لم يكن يكفي الشاعر ليضمن لنفسه حريته واستقلاله عن ضواغط الدنيا المحيطة به، أن يبني لنفسه ما شاء من قصور مسحورة يعيش فيها، ونعيش فيها معه، شريطة أن يحافظ لألفاظه على قوة التوصيل، حتى نستطيع أن نتابعه وهما بوهم، وخيالا بخيال؟ انظر إلى فن العمارة كيف جدد نفسه ليلائم عصره، فبنى العمائر والمطارات والفنادق وغيرها؛ بناها متأثرا بالعلم الجديد، وبالحياة الجديدة، لكن الفنان لم ينس قط أن العمارة تبنى لتسكن، وأن المطار يبنى ليصلح للطائرات، وهكذا ينبغي للشعر أن يجدد نفسه كيف شاء على ألا ينسى أن مادته من لفظ، وأن اللفظ صنعه الناس ولم يصنعه الشاعر، أو قل صنعه الشاعر فاستخدمه الناس فالتزم به الشاعر والناس جميعا، وقد صنع اللفظ ليرمز أو يشير، لا ليكون صوتا بلا دلالة، فإلى هنا والشاعر مقيد ملتزم، وبعد ذلك هو حر طليق.
ويجرنا هذا إلى قضية الالتزام في الأدب والفن، وهي قضية يثار حولها الجدل، وتكثر فيها التحليلات والشروح، على أن أبسط صورة لها هي هذا السؤال: هل يكتب الأديب لنفسه ما يشبع هواه؟ أو هو يكتب ليتناول موضوعا مما يهم الناس في مشكلات حياتهم؟ وإنه ليجدر بنا في هذا الموضع من الحديث، أن نذكر بأن سارتر - وهو من أهم من يرجع إليهم في موضوع الالتزام هذا - يخرج الشعر من دائرة الالتزام التي يريدها للنثر وحده؛ ذلك أن اللغة لا تؤدي في الشعر الدور نفسه الذي تؤديه في النثر، ففي الشعر تكون اللغة مقصودة لذاتها، لا لما تدل عليه خارج حدودها؛ وأما في النثر فاللغة أداة بأدق معاني كلمة «أداة»، هي أداة تؤدي لسواها، وليست هي بمقصودة لذاتها، ولذلك وجب أن يكون للنثر موضوع خارجي. فماذا يكون الموضوع الذي يتناوله الكاتب إن لم يكن ماسا بحياة الناس ومشكلاتهم؟
هذه خلاصة ما يقوله سارتر في كتابه «ما الأدب؟» لكن هنالك من يريد أن يوسع من التزام الأديب ليشمل الشعر أيضا، بحيث لا ينظم شاعر ولا يكتب ناثر، إلا إذا أدار نظمه أو نثره حول مشكلة مأخوذة من حياة المجتمع، كما أن هناك من يضيق مجال الالتزام، بحيث يلغيه بالنسبة إلى النثر وإلى الشعر معا ...
هذا هو الوضع من الناحية النظرية، وأما من الناحية العملية، فإني أعتقد أن الأديب غير الملتزم لم تشهده الدنيا لا في قديمها ولا حديثها؛ إذ أقل ما يقال في هذا الصدد، أن الأديب الحق ملتزم بالصدق، سواء كان ذلك الصدق متصلا بموضوع خارجي يتناوله الأديب، أو متصلا بحالة شعورية داخلية. وحسبه بالتزام الصدق التزاما، لأنه حمل ثقيل، لا يقوى على الاضطلاع به إلا الصفوة الممتازة.
وحركة الفن الحديث مرتبطة بقضية أخرى من قضايا العصر، وأعني بها حركة اللامعقول في الفن والأدب، بل إن عصرنا كله، بجميع اتجاهاته ونزعاته ليوسم باللامعقولية هذه، تمييزا له من أعصر سلفت، كان العقل رائدها. لكن ماذا نعني بالعقل، حين نصف به عصرا ولا نصف به عصرا آخر؟ الحق أن تعريف الأشياء والأفكار هو من أشد الأمور عسرا، حتى حين تكون مألوفة متداولة، فما بالك إذا أريد لنا أن نعرف مفهوما هو في ذاته متشعب الحنايا كمفهوم «العقل»، فما أيسر أن تسوق هذه الكلمة في الحديث، حتى إذا ما وقفت عندها تطلب لها تحديدا، ألفيتها زائغة رواغة لا تكاد تمسك من خيوطها خيطا بين أصابعك، حتى يفلت منك ويختفي. والأمر في هذا شبيه بموقفك من المدينة التي تسكنها، تستطيع في يسر يسير أن تجوب خلال شوارعها ودروبها، فإذا قيل لك ارسم لها خريطة تعذر عليك الأمر، ففي مفهوم العقل: ذكاء، ومعرفة، وإرادة، ونوازع، ومشاعر، وإدراك بالحواس واستنباطات رياضية، وخيال، وتذكر، وعشرات الجوانب الأخرى، مما يكون موضوعا علميا بأسره، هو علم النفس، فضلا عن الفلسفات التي عنيت بتحديده وتحليله عن طريق الاستبطان والحدس والتأمل. ترى ماذا يراد من هذه العناصر الكثيرة، حين يقال إن العصر الفلاني - كالقرن الثامن عشر في أوروبا مثلا - كان يسوده العقل، وإن العصر الفلاني الآخر - كالقرن العشرين - عصر يسوده اللاعقل؟
أظن أن أقرب شيء إلى الصواب، هو أن نجعل تحديد الهدف وطريقة الوصول إليه، علامة تميز العقل من اللاعقل، فإذا رأيت رجلين في الطريق، أحدهما يعرف وجهته ويعرف الطريق إليها ويسير وفق معرفته هذه، والآخر يخبط خبط عشواء - كما نقول - فلا هو يعرف لنفسه هدفا، ولا هو بالتالي قد حدد لنفسه طريقا يسير فيه، أقول إننا إذا وجدنا مثل هذين الرجلين، وصفنا أولهما بالعقل، ووصفنا الآخر باللاعقل، على أن طريق السير العاقل، شرطه دائما أن تجيء الخطوات فيه مرتبة على نحو يجعل السابقة فيه مرتبطة باللاحقة، كي ينتهي السير إلى الهدف المقصود.
ونعود إلى عصرنا هذا، فنراه عصرا قد شهد حربين عظميين، ونرجو ألا يشهد ثالثة، برغم أنه يرهف لها السلاح؛ هي حروب استخدم فيها الإنسان كل ما قد بلغه من علم وتقنية ومهارة، لغير ما هدف. إنه عاقل حين أنشأ العلم، لكنه مجنون حين استخدمه.
ونراه عصرا يذهب فيه المحللون للنفس الإنسانية إلى أنها مسيرة بغرائزها، على اختلافهم بعد ذلك في ماذا تكون الغريزة المسيطرة. ومعنى ذلك أن الإنسان إذ يتصرف في مواقف حياته، وإذ يعامل الناس بالحب أو بالكراهية، فهو لا يتصرف على هدى خطة مرسومة لتحقيق هدف معلوم، بل يتصرف للتخفيف عن نفس مكروبة بما احتبس فيها من رغبة وشهوة.
ونراه عصرا قد سدت فيه وسائل التوصيل بين ذات وذات، حتى ليظن أن كل فرد يعيش في نفسه ولنفسه، كأنما أفراد الإنسان جزر معزول بعضها عن بعض بخلجان من الماء مستعصية على العبور، أو كأنما هم ذرات روحية كالتي قال عنها ليبنتز، كل ذرة منها عالم قائم بذاته لا يفتح نوافذه على ما عداه؟ وإذن فلا تفاهم بين إنسان وإنسان؟ أو فلنوسع من مجال القول بعض الشيء، فنقول إنه لم يعد التفاهم ميسورا بين أمة وأمة، فكان ذلك من أعجب مفارقات هذا العصر، لأن وسائل الاتصال المادية من إذاعة مسموعة ومرئية قد اشتد ربطها لأجزاء الأرض، فاشتد تباعد العقول والنفوس، بدل أن يشتد قربها.
تجمعت هذه العوامل كلها، فلما جاء العلم وتطبيقاته، كاد يغرق الفرد في لجة لا يملك فيها لنفسه أن يختار طريقه في دنيا العمل، ولا أن يختار سبيله في أوقات الفراغ ، ففر إلى عالم اللامعقول، ينشئ فيه أدبا لا تسلسل فيه بين علة ومعلول، بل لا ارتباط فيه بين لفظ ومعنى، وينشئ فنا لا يعني شيئا خارج حدود ذاته، فعليك أن تنظر إلى اللوحة لا تجاوزها إلى مدلول يشار إليه خارجها. وما بالك بعصر يقبل أن يدار على المسرح حوار لا محاورة فيه، لأن العلاقة منبتة بين السائل والمسئول.
لكن ذلك هو عصرنا، الذي قبل أن تجتمع فيه جمعية للأمم، يخطب فيها الأعضاء بما يعبر عن رغبات شعوبهم، دون أن يكون الهدف تخاطبا أو تفاهما، وذلك هو عصرنا الذي يئس من عالم الصحو فلجأ إلى عالم الأحلام.
4
إن هذا الموقف الذي تكثر فيه المقابلة بين الذات، والموضوع، بين الإنسان والعالم، لم يعرف له - فيما أظن - مثيل في تاريخ الفكر كله، فلو اقتصر الأمر على تحليل يبين علاقة الطرفين أحدهما بالآخر في تحصيل الإنسان لمعرفته بالعالم الذي حوله، لقلنا إنها قضية قديمة، لكن الأمر يجاوز ذلك إلى حالة من الصراع والشعور بالقلق والغربة، كأنما الإنسان قد أحس بأن هذا العالم ليس هو مسكنه ومأواه، بل هو العدو المتربص، فأصبحت مهمته أن ينظر في طريقة الوقاية والدفاع.
إنني لا أعرف بين عصور التاريخ عصرا شعر فيه الإنسان بذاته بمثل ما شعر في عصرنا، ولا استبد به القلق فيه، كما استبد به في عصرنا، وحسبك أن ترى كم ألف مقالة وكتاب أخرجتها المطابع بكل لغة من لغات الأرض، يحلل فيها الإنسان نفسه. ما الذي يجري بين جوانحها ويصطرع، كأنما الجراح قد حمل بين أصابعه مبضعه، وتلفت فلم يجد أولى به من ذات نفسه.
لقد شهد تاريخ الفكر عصورا غنية بفكرها، شهدها في أثينا والإسكندرية ودمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة، وشهدها في النهضة الأوروبية وفي العصر الحديث منذ تلك النهضة. وما أظننا واجدين في أي من تلك العصور، انشغالا من الإنسان بتحليل نفسه، كالذي نجده منه اليوم، حتى لقد أصبحت مصطلحات التحليل النفسي بضاعة يتبادلها سواد الناس في أحاديثهم الجارية، وحتى لقد وضعت طبيعة الإنسان نفسها موضع التشكك والتساؤل: أهي عقل أم لا عقل؟ أهي وعي أم لا وعي؟ أهي الفكر المنطقي أم العقد المكبوتة والشهوات الحبيسة؟ وإن مؤرخي الفكر المعاصر لا يذكرون أربعة أعلام صنعوا هذا الفكر كله، إلا ويذكرون فرويد رسول اللاوعي، مع دارون في التطور، وماركس في الاشتراكية، وأينشتين في النسبية.
وقد أوشك أن يخلو الميدان للنظرية الفرويدية في طبيعة الإنسان، لولا أن أخذت فلسفات جديدة قوية تظهر، مؤكدة حقيقة الإنسان الواعية من جديد؛ فلم يكن الإنسان يعرف لنفسه - قبل فرويد - تعريفا أرجح صوابا من التعريف الأرسطي بأنه الحيوان الناطق، أي أنه - بين سائر الكائنات - هو الكائن المفكر العاقل الواعي؛ وحتى حين اشتد الشعور الديني في عصر الإيمان - العصر الوسيط - جعل الفلاسفة همهم لا أن يتنكروا للعقل المنطقي، بل أن يلتمسوا وسيلة للتوفيق بينه وبين العقيدة. وجاء العصر الحديث ليستهله ديكارت بقولته المشهورة: أنا أفكر فأنا موجود، أي أن الوعي أو الشعور أو الفكر أو العقل، هو شرط وجوده، فلو كان لا واعيا لما كان موجودا من حيث هو إنسان، ثم توالى الفلاسفة من ديكارتيين في القارة الأوروبية أو تجريبيين في إنجلترا وأمريكا، على هذا المنوال نفسه، وأيدهم في اتجاههم علم النفس التجريبي منذ ظهوره، فالوعي - أو الشعور - هو الأساس عند وليم جيمس كما كان هو الأساس عند فنت. ولم ينحرف بنا عن الطريق إلا فرويد وتابعوه، لكن الوقت لم يطل بنا مع انحرافه هذا، حتى ظهرت - كما قلنا - فلسفات تعدل الميزان، أخص بالذكر منها فلسفة الظواهر عند هوسرل، التي أرادت أن تبعد عن الرؤية كل ما هو طاف في مجرى الوعي من موضوعات وحالات، لترى ماذا تجد وراء ذلك، فوجدت وعيا خالصا، وليس وراء الوعي إلا وعي، وتلك هي حقيقة الإنسان وجوهره. وقد جاءت فلسفة سارتر لتنهل بدورها من هذا المعين، فلم يجد سارتر في الإنسان - بعد كل تحليلاته في أغوار النفس - إلا حالات من الوعي.
ولا أدع فرصة هذا الحديث عن الوعي، دون أن أشير إلى نقطة فرعية لها أكبر الخطر في الفكر المعاصر، ألا وهي فكرة «الآخر»؛ فقد كان الفلاسفة من قبل على ظن بأن الإنسان يمكنه الوعي بنفسه، مفردا، دون حاجة منه إلى شخص آخر، لا بل ربما دون حاجة منه كذلك إلى الكون بأسره، قال سقراط للإنسان: «اعرف نفسك بنفسك»، كأنما ذلك في مستطاعه، وكأنما اقتصار الإنسان على نفسه هو وحده كاف لمعرفته لتلك النفس. وكذلك قال ديكارت: «أنا أفكر فأنا موجود.» كأنما وجوده متوقف على كونه، هو في حد ذاته، مفكرا، دون أن نسأل: «مفكر في ماذا؟» ولكن معاصرينا جميعا، ممن تناولوا الوعي الإنساني بالتحليل والدراسة، وجدوا أن الوعي لا يكون إلا وعيا بشيء، فمجرد اعترافنا بقيام الوعي أو الفكر، يصبح في الوقت نفسه اعترافا بوجود ما نعيه أو ما نفكر فيه، أي أنه يصبح اعترافا بعالم الأشياء والأشخاص. ومن هنا بات واضحا أن كلمة «أنا» التي جعلها ديكارت محوره، لا يتم معناها إلا «بالآخر»، كما أصبحت معرفة الإنسان لنفسه، التي أوصى بها سقراط مستحيلة إلا إذا أخذنا «الآخر» في اعتبارنا؛ لأن وجود الآخر شرط جوهري لمعرفتي لذاتي.
وإني لأنظر إلى هذه الفكرة الغنية الخصبة، فكرة أن الذات المتفردة بخصائصها الفريدة المميزة، تتضمن بالضرورة وجود الآخرين، ثم أنظر إلى تيار الفكر العربي الراهن، فلا أجد فكرة واحدة تمثله بأجلي مما تمثله هذه الفكرة، فلو سئلت: ما قضية القضايا في الفكر العربي المعاصر؟ لأجبت في غير تردد، إنها هي التماس الأساس النظري الذي يضم الفرد المتميز إلى تضامن الجماعة، دون أن ينمو أحدهما على حساب الآخر، فأولا - على المستوى الثقافي العام - مشكلتنا الفكرية الأولى، هي أن نحافظ على كياننا الثقافي الخاص دون أن ننحصر فيه، بل نمد من أطرافه حتى يشمل أركان الثقافة العصرية كذلك، بعبارة أخرى: مشكلتنا هي أن نخلق مركبا ثقافيا يتيح لنا أن نقول: ها نحن، بكل خصائصنا ومميزاتنا، شريطة أن تتضمن الإشارة إلى أنفسنا، إشارة إلى كل مقومات الحضارة العلمية الجديدة.
وانظر إلى قادة الفكر وأعلام الأدب في تاريخنا العربي القريب، تجدهم - في الكثرة الغالبة - يحاولون هذه المحاولة: محمد عبده يعرض مبادئ الدين الإسلامي على نحو يبين ألا تعارض بينه وبين العلم، لطفي السيد يبسط المبادئ السياسية بسطا يقربنا من مناخ عصرنا، العقاد يشيع من مبادئ النقد الأدبي ما ينقلنا إلى تصور جديد يتفق مع قيم العالم من حولنا، طه حسين يدرس الأدب على ضوء المناهج العلمية، وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة يشكلان بأدبهما الإنسان العربي الجديد، وغير هؤلاء وأولئك كثيرون. ثم ها هم أولاء كتاب المسرحية والقصة جميعا، يدخلون على الأدب العربي فنونا لم يألفها من قبل، فيستعيرون من الغرب القوالب الفنية ليملئوها بمضمونات عربية محلية، وانطلق الباحثون في مجال الدراسة الفلسفية، يعيدون كتابة الفلسفة الإسلامية ليبرزوا جوانب الأصالة فيها، ويسايروا مع ذلك تيارات الفلسفة كلها السائدة في عصرنا، والمعبرة عن روح ذلك العصر.
جهود فكرية متلاحقة، منذ أول هذا القرن؛ وإلى يوم الناس هذا، تدور كلها حول إيجاد الصيغة التي تحمل طابعنا العربي المميز، مقرونا بملامح العصر.
ذلك في المجال الثقافي بصفة عامة، فإذا انتقلنا إلى المجالات النوعية في حياتنا الفكرية، ألفينا هذه الجهود نفسها تبذل، نحو أن نجمع بين «أنا» و«الآخر» في وحدة واحدة، فثورتنا الاشتراكية تعبير قوي صادق عن هذا المبدأ، إذ المحور فيها هو هذا الدمج بين الخاص والعام، دمجا تظل تشعر فيه ال «أنا» بنفسها لكنها كذلك تشعر أن ليس لها كيان كامل إلا بأن يضم إليها «الآخر» وتضم إليه؛ نعم إن أنظمة كثيرة قائمة في بلاد أخرى، قد غلبت طرفا على طرف، ولم نستطع إقامة الميزان معتدل الكفتين، لكننا في محاولة دائبة نحو تحقيق هذا المثل الأعلى، وقد كان لا بد لنا من المحاولة، لأن التبعة الفردية أمام الضمير وأمام الله جزء من تراثنا الروحي، وينبغي أن تظل جزءا من طابعنا الشخصي المميز، كما ينبغي في الوقت نفسه أن تمتد هذه التبعية حتى تشمل الأمة العربية، بل الأمة الإنسانية إذا استطعنا إلى ذلك سبيلا، وبذلك يتسع نطاق «الأنا» إلى «نحن» التي تشمل الآخرين مع ذواتنا.
ولعل هذه الرابطة الوثيقة العميقة، بين «أنا» و«الآخر» - وهي رابطة تكمن في جذور الثقافة المعاصرة كلها - أقول لعلها لا تتبدى في قضية من قضايانا الفكرية، تبديها في قضية الوحدة العربية، فما تلك الوحدة في صميمها إلا توسعة من معنى «الأنا» بالإضافة «الآخر» إليها، على أن هذا الآخر بدوره - ومن زاويته - هو «أنا» تتسع هي الأخرى على الصورة نفسها. إن هذا الترابط بين الوحدات في كل واحد يحتويها ويضيف إليها عمقا وأبعادا جديدة، أمر مألوف في الكائنات العضوية كلها، ومن بينها آيات الفن على اختلافها. فالخلية الواحدة في جسمها العضوي، والبيت الواحد في القصيدة والخط الواحد أو اللون في اللوحة الفنية، كل هذه وحدات تضاف إلى أخواتها فتغزر وجودا، وتعمق كيانا، وتزداد خصوبة وغنى، دون أن تنقص في سبيل هذه الزيادة شيئا.
وإن هذا ليصدق أيضا على مشكلة القومية والعالمية، التي يكثر عنها الحديث، حتى ليقال أحيانا إن العصر عصر قوميات، فهاهنا قد يقال: وفيم تقسيم الإنسانية إلى أقوام يتعصب كل منها لوجوده الخاص؟ وجوابنا عن ذلك هو نفس الجواب: إنني إذا ضمنت أن تصان فرديتي، ثم تجيء الإضافة إضافة جديدة، تزيد من وجودي ولا تنقصه، فلن أتردد عندئذ، في أن أفهم إنيتي على الوجه الذي يتسع للآخر، لكن ذلك يستلزم أن يقف مني هذا الآخر كما أقف منه، لا أن يظهر التآخي ويضمر السيادة والسيطرة، فتضيع مني حتى الأنا المعزولة في فقرها وضمورها.
ها نحن أولاء قد بسطنا طائفة من قضايا الفكر المعاصر، وأوضحنا موقفنا - نحن العرب - منها: عرضنا قضية الصراع بين سيطرة العلم والصناعة والتقنيات وبين حريات الأفراد وما تتعرض له من الضياع؛ وعرضنا قضية الموضوع الطبيعي وطغيانه وكيف لاذت النفس الإنسانية بدنيا الفنون تحتمي بها، واقتضى ذلك أن نعرض لقضية الالتزام في الفن والأدب، ولقضية المعقول واللامعقول، ثم جرنا هذا الحديث عن عودة الوعي إلى الظهور على مسرح الفلسفة بعد أن انفرد به اللاوعي حينا. وبينا أن الوعي في تصورنا الحديث يقتضي بالضرورة وجود الآخرين مع الأنا الواعية، وطبقنا هذه الفكرة الأساسية على ثلاث من أهم قضايانا العربية: الأولى هي احتفاظنا بشخصيتنا الثقافية مع ضم الثقافة الحديثة الواحدة إليها، والثانية هي جمعنا بين حرية الفرد الواحد مع ضرورة أن يأخذ سائر المواطنين في اعتباره، والثالثة هي قضية الوحدة العربية، التي تصون لكل قطر مميزاته، ثم تضع الكل في كيان واحد.
ألا أن الإنسان ليحيا، بقدر ما يشارك العصر في فكره، رافضا هنا، معدلا هنا، وراضيا هناك. وإنا لنحمد الله أن نرى الأمة العربية قد استيقظت لعصرها، ترفض منه، وتعدل فيه لترضى آخر الأمر بما تصنعه لنفسها بنفسها.
الإنسان والرمز
لست أعرف حقيقة فلسفية انتقلت من ميدان الفلسفة المحترفة إلى سواد الناس وعامتهم، بمثل هذا الانتشار الواسع الذي انتقلت به الحقيقة القائلة عن الإنسان إنه كائن متميز بالعقل دون سائر الكائنات الحية.
غير أن الفلاسفة إذ يميزون الإنسان بهذه الصفة فإنما هم - في أغلب الحالات - يقصدون بكلمة «العقل» تفصيلات خاصة يحددون بها مفهوم الكلمة في استعمالهم. ولعل من أشهر العبارات التي قالها فيلسوف ليصف الإنسان من هذه الناحية، عبارة أرسطو: «الإنسان حيوان ناطق» وهو يريد «بالنطق» هنا ذلك الجانب من الإنسان الذي يسمى «عقلا»، وهذا الجانب عنده يتمثل في عمليات رئيسية ثلاث:
الأولى:
هي أن يستخلص الإنسان من خبراته الحسية الجزئية تصورات يكون كل تصور منها دالا على نوع بأسره من أنواع الأشياء، ولهذا يطلق على هذه التصورات اسم «المعاني الكلية».
والثانية:
هي ربط هذه التصورات الذهنية في قضايا تدخلها بعضها في بعض، أو تفصلها بعضها عن بعض.
والثالثة:
هي استدلال قضايا جديدة من قضايا معلومة.
وقد كان محالا على هذه العمليات الثلاث، أن تتم بغير مبادئ وقوانين يجري العقل على سننها، فهنالك ما يسمى عند أرسطو بقوانين الفكر الثلاثة؛ وهي:
قانون الذاتية (أو الهوية) الذي أعرف بمقتضاه أن الشيء المعين يظل محتفظا بذاتيته وإن تعددت السياقات التي يرد فيها.
وقانون عدم التناقض الذي أعرف بمقتضاه؛ أن النقيضين لا يجتمعان في شيء واحد في لحظة واحدة.
وقانون الثالث المرفوع الذي أعرف بمقتضاه أن الشيء إما أن يتصف بصفة أو بنقيضها، ولا ثالث لهذين الفرضين.
وهنالك إلى جانب هذه القوانين الثلاثة ما يسمى بالمقولات، وهي الصنوف الأولية التي لا تخرج عنها جميع الأحكام العقلية التي يصدرها الإنسان على أنواع الأشياء حين ينسب بعضها إلى بعض.
مجموع هذه العمليات والقوانين والمقولات، هي التي يتميز بها الإنسان حين يقول عنه أرسطو عبارته المشهورة، وهي أن «الإنسان حيوان ناطق» أي أنه كائن حي يتميز عن بقية الكائنات الحية بعقله.
ولقد يخيل إلينا أن تمييز الإنسان بالعقل أمر هو من البداهة بمكان، لكن أقل ما يقال في هذا الصدد، هو أن كلمة «عقل» في ذاتها لا تهم، إنما المهم هو تحليلها، فماذا تعني؟ هاهنا تجد مواضع الاختلاف بين الفلاسفة قد ظهرت؛ فها هو ذا هيوم الفيلسوف الإنجليزي في القرن الثامن عشر - جريا على سنة الفكر الإنجليزي في نزعته الحسية التجريبية - يحلل العقل تحليلا آخر إذ يستل منه كيانه الذاتي، ويجعله حصيلة انطباعات حسية تجيء متفرقة فرادي، ثم ترتبط عندنا بالقوانين نفسها التي تتكون منها العادات البدنية؛ فليس هنالك فرق جوهري بين أن أكون فكرة العدالة - مثلا - وأن أكون عادة السباحة، فكلتا الحالتين ربط بين مقومات بسيطة حتى يتكون منها بناء مركب، وإن تكن الحالة الأولى ربطا بين انطباعات حسية، والثانية ربطا بين حركات سلوكية، ولو كان الأمر كذلك لاستحال علينا أن نصف أية فكرة كائنة ما كانت بأنها ضرورة عقلية محتومة؛ إذ لا ضرورة هناك، ما دام الأمر كله يرتد إلى بسائط تجتمع معا وكان يمكن لها ألا تجتمع.
وهنا نهض عمانوئيل كانت - عملاق الفلسفة الحديثة، كما كان أرسطو عملاق الفلسفة القديمة - نهض ليرد إلى العقل كيانه ووجوده من جديد على صورة تشبه ما كان عليه أمره عند أرسطو، وهو أن يجعل قوامه مبادئ أولية ومقولات فطرية. فإذا قلنا عن الإنسان إنه كائن ذو عقل، أردنا بذلك أن إدراكه للعالم من حوله لا يقتصر على مجرد انطباع حواسه بألوان وأصوات وما إليها، بل هو إدراك لا بد له من شيء آخر وراء هذه المحسوسات لينظمها ويرتبها ويصل بينها بحيث تصبح معرفة علمية معقولة. •••
هكذا كان المسرح الفلسفي موزعا طوال العصور بين مدرستين أساسيتين اختلفتا في تشخيص الطابع الذي يميز الإنسان؛ فمدرسة تقول: إن ذلك الطابع هو العقل بمعنى المبادئ والمقولات الفطرية الأولية، وأخرى تقول إنه هو العقل على شرط أن تفهم الكلمة بمعنى التجربة الحسية.
وكانت المدرسة الأولى على وجه الإجمال تسمى بالمدرسة المثالية، وتسمى الثانية على وجه الإجمال كذلك بالمدرسة التجريبية، حتى جاء إرنست كاسيرر (1874-1945م) وغيره من فلاسفة هذا العصر القائم، فلفتوا الأمر لفتة جديدة لسنا ندري إلى أي مدى تمتد وتنتهي؛ وذلك حين جعلوا مميز الإنسان لا يقتصر على العقل وحده مهما تعددت وظائفه المنطقية وتنوعت، بل إن العقل النظري المنطقي نفسه إن هو إلا فرع واحد من فروع كثيرة تندرج كلها تحت طابع آخر هو عند أصحابنا هؤلاء ما يميز الإنسان، ألا وهو القدرة على الرمز، أي أن يجعل من شيء رمزا دالا على شيء آخر.
فما من نشاط إنساني ذي بال إلا والرمزية لبه وصميمه، كما سنفصل القول فيما بعد؛ فالنشاط العلمي يرتد آخر الأمر إلى رموز، والفن والأدب قائمان على الرمز، وكذلك الدين والأخلاق، وكذلك الحياة الاجتماعية في ترابط أفرادها، بل كذلك الفرد الواحد في صحوه وفي نعاسه على السواء.
وإذا كانت هذه العملية الرمزية بهذا الخطر الخطير في حياة الإنسان، فهي جديرة بأن يتناولها المفكرون بالبحث والتأمل والتحليل.
وسواء كانت الرموز في مجال الفن والدين، أو كانت في مجال العلم، فهي على كلتا الحالتين ضرورة لا بد منها للتفاهم بين أفراد المجتمع الواحد؛ ولولا هذا التفاهم، أي لولا توصيل الأفراد بعضهم لبعض ما يدور في أنفسهم من أفكار ومشاعر لما كان هنالك مجتمع بأي معنى من معانيه، وهذا التوصيل محال بغير رموز متفق على مدلالوتها؛ ولئن كانت اللغة بطبيعة الحال هي أهم هذه الوسائل الرمزية على الإطلاق، حتى لقد اتخذت طابعا مميزا للإنسان، إلا أنها ليست هي الرموز الوحيدة المستخدمة في عملية التفاهم، فهناك إلى جانبها رسوم وصور وإشارات وتماثيل واحتفالات ذات مراسم معينة، وشعائر وما إلى هذه الأمور الرمزية كلها.
أقول: إنه بغير العملية الرمزية يصبح الاجتماع والاتصال بشتى أشكاله ضربا من المحال، وذلك لأن الحالات الإدراكية والوجدانية التي تطرأ على الفرد الذي يريد أن يعبر عنها للآخرين، هي على كل حال حالات تكمن في كيانه الداخلي، هي حالات كائنة خلف جداره الخارجي الظاهر، إذا صح هذا التعبير، هي صور ذهنية أو نبضات قلبية، ويريد صاحبها أن يخرجها في صورة مرئية أو مسموعة لتعرض أمام الآخرين، فكيف يكون ذلك بغير اختيار رمز، كائنا ما كان؛ ليدل على ما قد كمن في الداخل من حالات؟ •••
وهاهنا يفرقون بين ما يسمونه «علامات» وما يسمونه رموزا، ولا يزال الأساس الذي عليه تتم التفرقة بين العلامات والرموز مختلفا عليه. وأبسط أساس للتفرقة بينهما هو أن نقول إن «العلامة» هي الشيء الذي نتخذه مشيرا يدل على وجود شيء سواه، إما لأن الشيئين قد وجدناهما دائما مرتبطين، كالدخان الذي يكون علامة على وجود النار، والبرق الذي هو علامة على أن صوت الرعد وشيك الوصول، وانطباع قدم آدمية على الرمل ودلالته على أن إنسانا قد وطئ المكان وهكذا، وإما لأن الناس قد اتفقوا اتفاقا على أن يكون أحد الشيئين دالا على الآخر، كالنور الأحمر ودلالته في حركة المرور، وكثير جدا من كلمات اللغة علامات متفق على مدلولاتها. وكذلك رموز الرياضة وبعض الإشارات البدنية ندل بها على القبول أو الرفض وغير ذلك.
وأما الرموز بالمعنى الدقيق فهي تلك التي لا يكتفي فيها على مجرد الدلالة، بحيث يكون هنالك الطرفان فقط: طرف العلامة الدالة من جهة، وطرف الشيء المدلول عليه من جهة أخرى، بل يضاف إلى مجرد الدلالة شحنة عاطفية من نوع معين مقصود يراد لها أن تنزوي في نفس الرائي أو السامع كلما وقع على رمز معين، فعلم الجمهورية العربية المتحدة - مثلا - له ما لهذا الاسم من دلالة على البلد المراد الدلالة عليه، لكنه يضيف إلى مجرد دلالة الاسم على مسماه ضربا من الشعور يراد له أن ينشأ في النفوس كلما وقعت العين على ذلك العلم، وهذا يصدق على كثير جدا من تقاليد المجتمع وأوضاعه وشعائره التي يراد بها أن تؤدي وظيفة رمزية، أعني أن تثير في أعضاء المجتمع ضربا معينا من المشاعر، مقصود به صيانة المجتمع وتماسكه، كمشاعر التوقير أو القداسة أو الرهبة أو الخوف أو المرح وغيرها؛ فالهلال رمز للإسلام والصليب رمز للمسيحية، فكأنهما كلمتان، لكنهما يزيدان على كونهما مجرد كلمتين لكل منهما مدلولها المعين، إذ هما تضيفان إلى عملية الدلالة موقفا شعوريا خاصا؛ والسواد والبياض في الحزن والفرح وكذلك البكاء والضحك، وإن يكن الأولان رمزين اتفاقيين، والآخران رمزين طبيعيين، إلا أنها كلها رموز لها دلالة العلامات الدالة أولا، ثم لها فوق ذلك بطانة من شعور ووجدان، الأصل فيها أن تربط الأفراد في مجتمع متماسك بتنظيم السلوك تنظيما يزيل منه التضارب والتنافر؛ وإلا فلماذا اصطلح منذ أقدم العصور أن يكون للقبيلة رمز خاص، كالطوطم والعلم. ولماذا اصطلح على أن يكون للحاكم مظاهر خاصة، وأن يكون للقاضي رداؤه الخاص، وللخطيب منبره وسيفه، ولرجال الدين شاراتهم ومسوحهم، وهكذا مما يعد بالألوف؟ إنها كلها رموز مقصود بها أن تثير في الناس مشاعر ملائمة للمواقف المختلفة مما عساه أن ينتهي آخر الأمر إلى مجتمع متحد متسق متفاهم. •••
وننتقل الآن من إجمال إلى تفصيل، لنرى كيف أن مناشط الإنسان على تنوعها واختلافها كلها رمزية الطابع، وسوف أستخدم فيما يلي كلمة «رمز» وحدها لتدل على «الرمز» و«العلامة» معا، وذلك لسهولة استعمالها؛ سأبين كيف أن الرمز هو صلب الحياة الاجتماعية، ثم هو صميم العلم والفن والأدب والدين والأخلاق.
أما أنه صلب الحياة الاجتماعية، فأمر بديهي واضح، إذ يكفي أن نذكر أن هذه الحياة الاجتماعية مستحيلة بغير لغة، واللغة علامات ورموز.
إن اللغة وهي منطوقة مجموعة من أصوات، وكذلك وهي مكتوبة مجموعة من ترقيمات على الورق وغيره، وفرق بعيد بعد ما بين السماء والأرض بين الكلمة أو العبارة من حيث طبيعتها وهي أصوات منطوقة أو ترقيمات مكتوبة، وبين الحالات التي جاءت تلك الكلمة أو العبارة لترمز إليها؛ وأين موجة «صوتية» أنطق بها، أو قطرة من مداد أخطها على الورق، أين هذه من نشوة يحس بها صاحبها، أو حزن أو شبع أو جوع أو رضى أو سخط؛ بل أين الموجة الصوتية المنطوقة أو الكلمة المكتوبة بقطرة من مداد، أين هذه من الشيء المادي الحقيقي المسمى بها؟ فما أبعد الفرق بين النار الفعلية في العالم الخارجي وبين كلمة «نار» وبين الجنيه الحقيقي الفعلي الذي أشتري به ثيابا وطعاما، وبين كلمة «جنيه» وهكذا وهكذا؟
الحق أننا قد ألفنا استخدام اللغة إلفا شديدا حتى لنظن أن الكلمة هي نفسها الشيء الذي جاءت الكلمة لتدل عليه، فنظن أن كلمة «كتاب» أو كلمة «منضدة» هي نفسها الكتاب أو المنضدة؛ ومن نتائج هذا الإلف الشديد، أن نشأ خطأ كبير في فهم اللغة، وذلك عندما ترد كلمات بغير مدلولات حقيقية فيتعذر جدا على معظم الناس أن يتصوروا كيف يمكن أن تكون هنالك كلمات بغير مدلولات، ومن ثم يفرضون لها المدلولات فرضا حتى لو لم تصادفهم في خبرتهم بالواقع.
اللغة - إذن - بكل ما لها من أهمية وخطر في الحياة الاجتماعية وبنائها، هي مجموعة من علامات ورموز تختلف باختلاف الأمم، فلكل أمة مجموعتها الرمزية، وبغيرها يستحيل التفاهم؛ وتستحيل الصلة بين الأفراد. والأمر سهل عندما نستخدم الكلمات للدلالة على الأشياء الخارجية، لأن الكلمة والشيء كليهما يكونان من قبيل الكائنات المادية، وغاية ما في الأمر ترانا نرمز بكائن مادي إلى كائن مادي آخر، لكن الأمر لا يكون بهذه السهولة كلها عندما نستخدم الكلمات للدلالة على الحالات الشعورية الداخلية؛ فعندئذ تكون العملية الرمزية عبارة عن تحويل ما ليس بمادة في طبيعته إلى ما هو مادي بطبيعته؛ إذ تحول حالات الفرح والحزن والارتياح والغضب والحب والكراهية - وهي حالات نفسية - إلى كلمات تنطق أو تكتب، والنطق هواء والكتابة مداد، والهواء والمداد كلاهما مادي، لكنك تضطر إلى ذلك اضطرارا؛ إذ لا وسيلة لاطلاع سواك على حالاتك الداخلية إلا إذا عرضتها أمام عينيه أو على مسمع من أذنيه، وهذا هو نفسه ما جعل أصحاب الوجدان العميق، كالمتصوفة مثلا، يتشككون في قيمة ما يقال وما يكتب، إذ المهم في الحالة الوجدانية أن تمارس وتعاني لكي تدرك، لكن ما حيلة الإنسان ولا وسيلة أمامه - إذا أراد توصيل حالته إلى سواه - إلا أن يلجأ إلى الرمز؟
وكثيرا ما يلجأ الإنسان إلى الرمز بغير كلمات اللغة، فيستخدم الألوان لتدل على ما يريد الدلالة عليه. فاللون الأبيض - مثلا - قد يرمز به إلى النقاء والصفاء والطهر؛ لا بل دقق النظر هنا في كلمة النقاء، أو كلمة الصفاء ، تجدها هي نفسها استخداما رمزيا جاء ليدل على حالة عقلية أو نفسية معينة، وإلا فكيف تكون الحالة الداخلية منقاة؟ مصفاة؟ هكذا نري أنه إذا كان المرموز إليه حالة باطنية، كان لا بد من تحويلها إلى صورة مادية بينها وبينها شبه بوجه من الوجوه، فحالة الطهر - مثلا - شبيهة بالماء المصفى أو بالغلال التي نقيت من الشوائب، وهذه وهذه شبيهتان باللون الأبيض الخالي من البقع الملونة بألوان أخرى، تشبيه في تشبيه، أو قل: إنه رمز في رمز ولا مناص من ذلك. •••
إن تعبير الإنسان عن حياته الخلقية والفنية، كان يصبح ضربا من المحال بغير عملية الرمز؛ وحسبك أن تذكر ما شئت من صفات خلقية أو صفات جمالية، لتعلم أنها في حقيقتها رموز إلى الحقائق، وليست هي الحقائق نفسها.
إننا نصف الفعل المعين أو الشخص الفاعل بأنه رفيع أو شريف أو سام، والارتفاع والشرف والسمو كلها كلمات تصف حالات معينة من الأرض أو السماء. وكذلك قل في أضداد هذه الصفات، كالدنيء والسافل والوطيء ... إلخ. فلماذا يكون الجبل أفضل من الوادي حتى نتخذ من علو الأول، ومن انخفاض الثاني مثل هذه الدلالات الخلقية؟ إن الواقع في ذاته لا يبرر ذلك، لكنها ضرورة الرمز؛ ففي أنفسنا مشاعر إزاء قيم معينة، ونريد إخراجها في صورة مرئية أو مسموعة، مع أنها هي نفسها لا هي من المرئي ولا من المسموع، فلا حيلة أمامنا إلا أن نرمز معتمدين في ذلك إلى شبه قريب أو بعيد بين المرموز به والمرموز إليه.
وحسبك أن تنظر في كلمة رمزية واحدة، هي كلمة «الضوء» لترى كم استخدمها الإنسان، وبأي الصور استخدمها، ليرمز بها إلى حالات داخلية أراد أن يعبر عنها؛ فالضوء في ذاته ظاهرة طبيعية، كالهواء والماء والصخر والمطر والصوت والكهرباء، لكن الإنسان قد استخدمه ليدل به على القداسة وعلى الفضيلة وعلى الذكاء وعلى الجمال؛ كما استخدم ضده الظلام ليدل به على مهاوي الرذيلة وعلى الغباء وعلى القبح بشتى صنوفه وضروبه. يجوز أن يكون الأساس في هذا الرمز هو القيمة البيولوجية للضوء ، فبغيره لا تكون حياة، ثم انتقل حب الإنسان للحياة إلى حبه لعامل بقائها وهو الضوء، لكن مهما يكن الأساس، فالمهم عندنا الآن هو عملية الرمز، حين لم يجد الإنسان وسيلة يعبر بها عن حالة شعورية إزاء مواقف معينة سوى أن يتخير ظاهرة طبيعية ليرمز بها إلى الحالة الداخلية، أملا منه في أن يكون هنالك شبه بين الخارج والداخل.
وإن مثل هذا الانتقال من مجال إلى مجال لشائع في كلامنا شيوعا شديدا، فمن تمتعنا بدفء النار في الشتاء ننقل الأمر إلى علاقتنا بالأصدقاء حين تمتعنا متعة شبيهة بها، فنقول عن العاطفة عندئذ إنها دفيئة؛ ومن تمتعنا بحلاوة الأشياء الحلوة على مذاق اللسان، ننقل الأمر إلى غير هذا المجال، فنقول عن شخص إنه حلو الطباع، وهكذا.
واستمع إلى نقدة الفنون، كيف يصفون الآثار الفنية التي يتناولونها بالعرض والتقديم؛ يقولون عن القصيدة أو عن الصورة: إنها رشيقة مثلا، أو إنها صارخة أو هادئة، وبالطبع لا ينبعث من ألوان الصورة صراخ، كما أن كلمات القصيدة ليست فتاة تسير بخطى خفيفة فتوصف بالرشاقة ... لكنه الرمز أمر محتوم على الإنسان ليعبر عن نفسه كائنة ما كانت حالته النفسية التي يريد إبرازها إلى الخارج لتكون على مرأى من الناس ومسمع. •••
وننتقل من مجال اللغة وغيرها من الرموز التي نرمز بها إلى أشياء الواقع وإلى القيم التي نقوم بها هذه الأشياء، فقد رأينا أن التفاهم في هذا المجال كله لا يكون بغير علامات ورموز، ننتقل من هذا المجال إلى مجال طويل عريض واسع عميق، هو مجال الأحلام وما يشبه الأحلام من أساطير وغيرها.
فلا أحسبنا نعدو الصواب إذا قلنا إن الإنسان يحيا بصحوه كما يحيا بنومه، وكذلك لا نعدو الصواب إذا قلنا أيضا إنه يحيا بعقله الواعي، كما يحيا بعقله الحالم، لا بل إن بعض علماء النفس ليربطون حقيقة الإنسان بأحلامه أكثر مما يربطونها بحياته الواعية.
فكيف نحلم وبأي شيء يكون الحلم؟
أظنه لا داعي إلى إفاضة القول في هذا، فقد أصبحت نظرية الأحلام شائعة في شتى المستويات الثقافية، كل يأخذ منها بحظه من الدقة والتفصيل، لكن ما ينبغي ذكره في سياق حديثنا هذا هو الدور الذي يقوم به الرمز في أحلامنا. فالأشياء والأفعال التي نراها في الحلم، هي بمثابة الكلمات نستخدم كل شيء منها، أو فعل لنرمز إلى ما نريد أن نرمز إليه، فليس الحلم كالمقالة أو كالفصل من فصول الكتاب: قوامه كلمات وعبارات يتبع بعضها بعضا على صورة يمسك فيها بعضها برقاب بعض إمساك النتيجة التي تتبع مقدماتها، فذلك هو أسلوب الحياة الصاحية الواعية، وأما الحلم فتتابع من رموز أخرى غير رموز اللغة المألوفة، فالبحر تراه في الحلم بمثابة كلمة أو جملة، وكذلك العصا، وكذلك الصعود أو الهبوط ... عالم كله رموز. ولئن دخل التكلف والتصنع في حياة الإنسان الواعية، فحياة الأحلام هي الإنسان على حقيقته وعلى طبيعته العارية التي لا تعرف نفاقا ولا رياء، فإن كان الرمز هو لب الأحلام وصميمها، كان الرمز بالتالي هو لب الإنسان وصميمه.
وماذا تكون الأساطير التي لم يخل منها شعب من الشعوب إن لم تكن هي أحلام تلك الشعوب، بل ماذا يكون الأدب في صميمه إلا أن يكون متنفسا كالأحلام سواء بسواء، يعيش فيه الإنسان وفق طبيعته الذاتية؟ وأعتقد أن هذا هو المقصود حين يقال - كما قال كيتس - إن الجمال حق، فالفن الجميل - كالشعر مثلا - مهما امتلأ بالصور الغريبة فهو حق؛ لأنه كالحلم في إبراز حقيقة الإنسان، ولك بعد ذلك أن تنظر إلى الدور الذي قامت به وتقوم به الأساطير. الأدب كله بصفة عامة، لتعلم كم يرتكز الإنسان على الرمز في حياته اللصيقة بلباب نفسه. •••
ونختم القول بكلمة عن العلم الصرف الذي قد يظن إنه أبعد ما يكون عن عالم الرمز، وإذا هو لا شيء إلا رموز في رموز؛ فهذه هي الرياضة: حقيقتها أنها بناء من رموز لا أكثر ولا أقل؛ فيبدأ العالم الرياضي - إقليدس في الهندسة مثلا - يبدأ بطائفة من رموز هي الكلمات التي يؤلف منها تعريفاته ومسلماته، ثم يمضى بعد ذلك في استدلال مجموعات رمزية من مجموعات رمزية أخرى؛ والحساب والجبر أمعن في عملية الرمز لأنهما يستغنيان عن الكلمات بطائفة من علامات وأحرف، يظل العالم الرياضي يبني منها معادلاته ليستدل من المعادلات معادلات وهلم جرا. ومعلوم أن البناء الرياضي كائنا ما كان، وهو نظام متسق من رموز، يراعى فيه سلامة استدلال صيغة رمزية من صيغة رمزية، بغض النظر عن مطابقة هذه الصيغ للواقع الخارجي أو عدم مطابقتها له.
فهذه المطابقة مع العالم الخارجي متروكة للعلوم الطبيعية التي هي في كثير من أجزائها عبارة عن رياضة تطبيقية. وحتى هذه العلوم الطبيعية ترتد في النهاية إلى أرقام تقرأ على مراقم ومقاييس، وإلى رسوم بيانية ولوحات فوتوغرافية وهلم جرا.
خذ أي قانون طبيعي شئت، خذ قانون الجاذبية - مثلا - تجده صياغة من رموز؛ نعم إننا نستغل هذه الرموز في فهم الطبيعة وتسييرها، لكن هذا لا يجعلها شيئا آخر غير صياغة رمزية.
وبهذه المناسبة أذكر عبارة قرأتها هي غاية في قوة التصوير لتطور التفكير الإنساني على مر العصور؛ إذ قال صاحب العبارة: إن الأمر كله انتقال من طريقة في الرمز إلى طريقة أخرى في الرمز أيضا؛ فقد كان البدائي يستخدم السحر والدعاء وما إليهما ليحقق الظاهرة الطبيعية التي يريد تحقيقها، كإنزال المطر مثلا، وأما الإنسان المعاصر فيستخدم صيغا رياضية للغاية نفسها. ونقصد بالصيغ الرياضية قوانين العلوم؛ فكلا الرجلين أداته الرمز في تحقيق الهدف، وكلا الرجلين يتمسك بطريقته الرمزية لما دلته خبرته على نجاحها، وكلا الرجلين يحاول الملاءمة بين نفسه وبين الطبيعة من حوله. فالبدائي يرشو الطبيعة بالدعاء والثناء، ويمالئها بالتعزيم والسحر، والمعاصر العلمي لا يرشو ولا يمالئ بل هو يمسك بمفتاحها لتنفتح له عن أسرارها، كلما أدار لها المفتاح بإرادته. فكلا الرجلين يستعمل للطبيعة رموزا لكن الفرق هو أن البدائي يتصور أن لرموزه سلطانا مباشرا على الطبيعة؛ وأما المعاصر العلمي فينظر إلى رموزه على أنها وصف للطبيعة وليست هي بذات السلطان والإرغام.
فالإنسان رامز في شتى عصوره وفي مختلف نواحي نشاطه الفكري؛ وقد ازدادت هذه الحقيقة وضوحا في عصرنا الحاضر، فاهتمت الفلسفة المعاصرة بالرمز ودلالته، وبخاصة الرمز اللغوي في العلوم وغيرها، فهذا المبحث هو محور الاتجاه الفلسفي المعاصر الذي يطلق عليه اسم الوضعية المنطقية، أو التجريبية العلمية؛ وما أكثر الكتب والأبحاث الفلسفية التي تنشر الآن ولا شاغل لها إلا تحليل الرمز ومعناه، حتى لقد أصبح يقال - وبحق - إن الفلسفة هي علم المعنى.
الرياضة رموز، وعلم الطبيعة رموز، والفلسفة تحليل للرموز، والتفاهم في الحياة اليومية الجارية قائم على الرمز، وتقاليد المجتمع وعقائده إشارات رمزية، والأساطير رموز والتعبير عن القيم الأخلاقية والجمالية لا يكون إلا بالرمز، والأدب قوامه الرمز بالتشبيه والتصوير، والفن كله رموز؛ رموز صوتية في الموسيقى، ورموز لونية في التصوير، وأحلام الإنسان رموز.
أفيكون عجيبا بعد هذا كله، أن نصف الإنسان بأنه الحيوان الرامز؟
هذه الكلمات وسحرها
1
أي شيء أدنى إلى الصواب من قولنا بأن شهادة الميلاد لا تكون إلا لمولود جديد، وأنه إذا وجدت شهادة ميلاد بغير مولود فهي زائفة مزورة؟ وأي شيء أدنى إلى الصواب من القول بأن الرمز لا يتم معناه إلا بوجود المرموز إليه، وأنه إذا وجد رمز بغير مرموز إليه فهو إذن وسيلة خداع وتضليل؟ وأي شيء أدنى إلى الصواب من تقريرنا أن الاسم لا يكون اسما إلا إذا وجد المسمى؟ وإذا كان ذلك كله صوابا فمن الصواب كذلك أن كل كلمة في اللغة لا تسمى شيئا ولا تشير إلى شيء، هي كلمة زائفة مهما طال بين الناس دورانها؛ فالفرق بين اللفظة التي ترمز إلى مسمى واللفظة التي لا ترمز هو الفرق بين اللفظة التي «تعني» شيئا واللفظة التي «لا تعني»، وهو فرق شديد الشبه بما يفرق ورقة النقد التي تستند إلى رصيد فتكون ورقة ذات قيمة حقيقية من ورقة النقد التي لا تستند إلى مثل ذلك الرصيد فتكون ورقة باطلة.
إني لأقول مثل هذا الكلام الجلي الواضح، أقوله وأكتب فيه وأحاضر، ولا أخلو عندئذ من خجل؛ إذ أراني أقول البدائه؛ لكن ما أشد عجبي أن ينهض كاتب فيقول لقرائه: احذروا مثل هذا الكلام لأنه مود بما لنا من معان جليلة سامية بذلت الإنسانية في بنائها جهدا جهيدا! وأن يتصدى كاتب آخر للمعارضة قائلا: إن مثل هذه الدعوة تثير الريبة في صاحبها، وتدعو «إلى أكثر من علامة استفهام!» وأن يحاضر أستاذ جليل في قاعة عامة لم يحسن اختيار زائريها فيقول، لمن لا تعنيهم الفلسفة في كثير أو قليل: إن مثل كلامي هذا يصلح للغرب ولا يصلح للشرق! كأنما أراد بذلك أن يعفي أهل الشرق من قيود العقل فيما ينطقون به وما يكتبون!
ولذلك فإني أطلب مغفرة القارئ إذا عدت إلى البدائه الواضحة أقولها وأكررها؛ فمن ذلك أن الشيء لا بد أن يوجد أولا؛ حتى يجوز لنا بعدئذ أن نطلق عليه اسما يسميه ويميزه مما عداه، وهذا هو بعينه الأساس الذي نقيم عليه تعليمنا اللغة لأطفالنا؛ فأشير إلى شيء قائم على مرأى من الطفل قائلا له: «شجرة»، ولولا أن هناك الشجرة التي أشير إليها لذهبت لفظتي عند الطفل عبثا؛ إنه في سذاجته وبفطرته ينظر إلى طرفين: المسمى المشار إليه في طرف، والصوت الذي أنطق به في طرف آخر؛ وعندئذ يقرن الشيء المرئي بالصوت الذي يسمعه، أو يقرن المسمى باسمه، أو يقرن المرموز إليه بالرمز الذي يشير إليه، أقول: إنه يقرن هذا الطرف بذلك، ثم يربط بينهما، حتى إذا ما نطق بالصوت وحده بعد ذلك كان كافيا لاستثارة الصورة التي كان هذا الصوت قد ارتبط بها ؛ وبهذا وحده يجوز لنا أن نقول: إن كلمة «شجرة» لها عند الطفل معنى.
ويكبر الطفل، وتنمو حصيلته من الألفاظ، لكل لفظة منها شيء يقابلها في عالم الأشياء، حتى إذا ما سمع بعد ذلك لفظة لم يكن قد سمعها من قبل سأل: ما معناها؟ وهنا لا يكون أمام مرشده إلا أحد طريقين: فإما أن يشير له إلى الشيء الذي يسميه هذا اللفظ الجديد، وإما أن يذكر له مرادفا من الألفاظ المعلومة له؛ ليتمم لنفسه الدورة، بأن يستعيد صورة الشيء الذي عرف فيما مضى أن ذلك اللفظ المرادف يعنيه.
فماذا لو صادف الناشئ كلمة لا يعرفها ، وسألنا: ما معناها؟ فلم نجد شيئا نشير له إليه ليكون هو معنى هذه الكلمة المجهولة، ثم لجأنا إلى لفظ آخر يساويه، فسألنا الناشئ من جديد: وما معنى هذا اللفظ؟ فنظل نبحث له عن ألفاظ مساوية، ويظل يسأل: ما معناها؟ أفلا يجدر بنا عندئذ أن نتنبه إلى أن مثل هذه اللفظة التي لا تنتهي بشرحها وتفسيرها إلى مسمى مشار إليه في عالم الأشياء هي لفظة بغير سند، وأنها إذن زائفة لا تسمى شيئا؟
وأمثال هذا اللفظ الزائف كثير، نديره بيننا في الحديث والكتابة، ونظن أننا قد أفهمنا وفهمنا؛ حتى يعن لنا أن نقف منه موقف المدقق، فيتبين ساعتئذ أننا في الحقيقة إزاء لفظ لا يعنى شيئا كنا أدرناه فيما بيننا على ثقة منا بعضنا ببعض، وعلى عقيدة منا بأن الكلمة ما دامت مما يكتبه الناس ومما ينطقون به، فيستحيل أن تكون قد خلقت عبثا، ولا بد أن يكون لها معنى! وشبيه بهذا أن يتداول جماعة منا ورقة نقد زائفة أمدا من الزمان قد يطول، على عقيدة منهم بصدق قيمتها؛ حتى تنتهي إلى من ينظر إليها نظرة الفاحص، فإذا هي مزورة؛ وقد تهتم الجماعة لهذا اهتماما يحفزها إلى تعقب المجرم الأول الذي أنزل في السوق هذا الزيف، ولو كشفوا عنه لسجنوه، فيا ليت نصيب مزور الألفاظ كان كهذا النصيب؛ ليستريح الناس من مضلل وضلال!
2
إنني إذا قلت هذا صاحوا: «مادي لعين، يريد أن يقبل الكلمة إذا دلت، وأن ينبذ الكلمة إذا لم تدل!» نعم؛ إنه لا يعجبهم أن نشترط للاسم أن يكون له مسمى خوفا على آلاف الكلمات التي يتداولها الناس دون أن يكون لها مسميات تقابلها في عالم الأشياء. فتراهم يسألونك مستنكرين: ماذا نحن صانعون بالكلمات التي تمس مشاعرنا وإن لم يكن لها مدلولات محسوسة؟ ماذا نحن صانعون بالحب والكراهية والغضب والحرية والمجد؟ أنقول ألفاظا كهذه أم نمحوها ما دامت مدلولاتها ليست شجرا من الشجر ولا حجرا من الحجر؟ أين نذهب بآمالنا وآلامنا وحالاتنا النفسية كلها؟ هل نعبر عنها أو نكم عنها الأفواه؟
وهاهنا نفرق للقارئ تفرقة واضحة بين نوعين من الكلام حتى لا يختلط عليه الأمر: فكلام يراد به وصف عالم الأشياء وما يتعاوره من أحداث، وآخر ينصرف به قائله إلى داخل نفسه لا إلى خارجها. فإذا نطقت بعبارة من النوع الأول وقعت عليك تبعة الإثبات، وأما إذا نطقت بعبارة من النوع الآخر فلا إثبات هناك ولا نفي. والعبارات العلمية هي من النوع الأول، وأما العبارات الفنية فمن النوع الآخر.
هبني وقفت مع زميلي إلى جوار شجرة، فقلت عنها: إنها من أشجار التوت وعمرها ستون عاما؛ وقال عنها زميلي: إن لونها يبعث البهجة في نفسه كلما رآها؛ فماذا يكون الفرق بين عبارتي وعبارته؟ الفرق هو أنني أتصدى لوصف الواقع الخارجي الذي لا دخل لمشاعري فيه؛ فلست أنا الذي جعلتها تثمر توتا، ولا أنا الذي ألزمتها أن تكون بهذه الحداثة أو هذا القدم؛ إنني أصف بعبارتي وقائع ليست جزءا من نفسي؛ ولذلك فأنا بمثابة من يدعي أمرا ينسبه للشجرة، والبينة على من يدعي، فلو طالبني زميلي - ومن حقه أن يطالبني إذا أراد - بإثبات ما أقوله وجب أن تكون لدي الوسائل التي يستطيع هو أن يشاركني فيها، والتي تثبت أنني قلت الحق عن الشجرة التي وصفتها بما وصفت؛ وأما عبارة زميلي التي قال بها: إن الشجرة تبعث البهجة في نفسه كلما رآها، فمن نوع آخر، هي عبارة لا صواب فيها ولا باطل، ولا إثبات ولا نفي؛ إنه «يعبر» عن ذات نفسه ولا «يقرر» أمرا عن الشيء الخارجي؛ وإذن فليس من حقي أن أطالبه ببرهان؛ وكيف يكون البرهان والأمر خاص به؟ إنه إذا كانت الشجرة نفسها تبعث الكآبة في نفسي والبهجة في نفسه فلا تناقض هناك؛ لي عندئذ شعوري، وله شعوره، لكن ما هكذا الأمر لو قلت عن الشجرة: إنها تثمر توتا، وقال هو: بل إنها تثمر الجميز، أو قلت: إن عمرها ستون عاما، وقال هو: بل مائة؛ فها هنا يكون بين قولينا تناقض، وعلى أحدنا أن يثبت للآخر صدق دعواه.
وأعود فأقول : إن «العلم» كله هو مما يقام على صدقه البرهان، وأما في «الفن» فلا برهان على ما يقوله الفنان. ونحن إذ نقول عن قطعة فنية إنها «صادقة» فإنما نعني «بالصدق» شيئا غير الذي نعنيه حين نقول عن نظرية في العلم إنها «صادقة»؛ فصدق النظرية العلمية مداره الخارج، وصدق القطعة الفنية مداره الباطن. صدق النظرية العلمية علاقة بينها وبين أحداث العالم الخارجي، وصدق القطعة الفنية علاقة بينها وبين أصداء العالم الداخلي. صدق النظرية العلمية لا يحتمل إثبات نقيضها؛ فلو قال عالم: إن الضوء يسير بسرعة كذا، وجب ألا يقول مرة أخرى: إنه يسير بسرعة أخرى في الظروف نفسها؛ وأما صدق القطعة الفنية فيحتمل التناقض، بل ليس هو مما يخضع لمبدأ التناقض أو عدمه؛ فلا حرج على الأديب - مثلا - أن يبتهج لشجرة التوت يوما، وأن يكتئب لها يوما. وقد يكون صادقا في كلتا الحالتين؛ لكن الحرج كل الحرج على العالم أن يقول عن الشجرة: إنها تثمر التوت؛ ثم يصبح ليقول عنها هي نفسها: إنها تثمر الجميز!
وماذا أريد بهذا؟ أريد أن أقول: إنك إذا أردت أن تسلك سبيل الفن فيما تقول - فقل ما شئت ما دمت تنصت إلى خطوات نفسك، أي أن الدنيا الخارجية لا تلزمك شيئا، ولا تنهاك عن شيء. قف أمام الشجرة وقل - إن شئت - إنني أرى سحابة خضراء سابحة في فضاء لا نهائي، وأنا من تلك السحابة قطرة راقصة؛ ولن يعترضك معترض بأن الذي أمامك شجرة لا سحابة، وأنها مثبتة في الأرض بجذورها، وليست هي بسابحة في الفضاء، وأنك قائم على قدميك فوق اليابس، ولست بقطرة ماء راقصة. لن يعترضك معترض بهذا لأنك لم تزعم لأحد أنك تصف ما تري كما يصفه العالم إذا وصف. وأما إن زعمت أنك إنما تصف ذلك العالم كما هو واقع فها هنا أنت مقيد بأشياء ذلك العالم وحوادثه، ولا يجوز لك أن تقول عنه إلا ما تستطيع الإشارة إليه لمن يريد منك أن تشير.
ونعود إلى هؤلاء الذين يسألوننا مستنكرين: إذا كنت تريد للفظ أن يشير إلى مسمى محسوس، فماذا نحن صانعون بمشاعرنا والتعبير عنها؟ نعود إلى هؤلاء لنجيبهم قائلين: إن الأمر مرهون بالدعوى التي يدعيها المتكلم: فهل يدعي أنه يصور الخارج أو أنه ينفعل بما يدور في نفسه؟ إن كانت الأولى فلا مندوحة له عن جعل ألفاظه رموزا تشير إلى وقائع محسوسة، وإن كانت الأخرى فهو حر من هذا القيد.
3
فالأمر إذن أمر رموز لغوية ومدلولاتها، فهذه الرموز إما أن نستخدمها أداة لتصوير ما هو كائن في عالم الأشياء، (وهذه لغة العلوم وما يجري مجراها)، وإما أن نستخدمها أداة للتعبير عما تختلج به نفس الإنسان من داخل، (وهذه لغة الفنون وما يجري مجراها) ولا ثالث لهذين الفرضين.
فإلى أي ناحية يتجه الفيلسوف الميتافيزيقي بعباراته؟ هل يريد أن يصف بها ما هو خارج نفسه أو يريد أن يعبر بها عما يدور داخل نفسه من مشاعر؟ لا يمكن أن تكون الأولى لأنه يتحدث عن أشياء ليست هي بين ما يقع على حواسنا من أشياء. يحدثنا - مثلا - عن «العدم» وكل ما في الدنيا «موجودات» ليس فيها «عدم»، ويحدثنا عن «المطلق» من قيود الزمان وقيود المكان، وكل ما في الدنيا «مقيدات» بحدود المكان والزمان، ويحدثنا عن «الخير» وعن «الجمال»، وكل ما في الدنيا كائنات ليس بين عناصرها الكيمياوية أو الفيزيقية عنصر يسمى «خيرا» أو «جمالا». هكذا يحدثنا الفيلسوف الميتافيزيقي عما ليس في الطبيعة ، مع أن كل ما في الطبيعة طبيعة؛ وإذن فهو - بمقتضى عباراته نفسها وموضوعاته التي يختارها لحديثه - لا يحدثنا عما هو خارج نفسه.
إذن فهل يحدثنا عما يدور داخل نفسه من مشاعر وأحاسيس؟ لو قال ذلك لقلنا: لك ما تشتهي من ذلك؛ فقل ما شئت، واستخدم ما أردت من ألفاظ وعبارات ما دامت غايتك هي أن «تعبر» عن شعور ذاتي خاص، لكنك إذ تفعل ذلك لا يجوز لك أن تصف أقوالك بالصواب؛ لأنه لا صواب في التعبير الذاتي؛ إنما يكون الصواب صفة تصف الكلام حين يصور شيئا خارجيا. ويكون معناه عندئذ أن الصورة الكلامية تطابق الأصل الخارجي.
لكن الفيلسوف الميتافيزيقي لا يقنع بأن يكون كلامه تعبيرا عما تجيش به نفسه هو، بل يدعي أنه صورة وصفية للعالم الواقع خارج نفسه؛ مع أنه يعترف لك في الوقت نفسه أنه لا يسوق الكلام معتمدا على خبراته الحسية؛ وتسأله: أنى لك - إذن - هذه المعرفة عن كائنات ليست مما تقع انطباعاتها على حواسك؟ فيجيب بأنه يركن في ذلك إلى عيانه العقلي. وهكذا يتذبذب فيلسوف ما وراء الطبيعة بين الخارج والداخل!
أما نحن أصحاب المذهب التجريبي في الفلسفة فموقفنا صريح؛ يقول القائل عبارته فنسأله: هل هي منصرفة إلى شيء خارجي؟ فإن أجاب بالإيجاب سألناه من فورنا: أين الخبرة الحسية التي تؤيد ذلك؟ فإذا عجز عن أن يشير لنا إلى كائنات حسية هي التي تنصرف إليها عبارته التي نطق بها حكمنا على عبارته هذه لا بالبطلان فحسب، بل بخلوها من المعنى؛ إذ «المعنى» هو هو بعينه الخبرات الحسية التي يرمز إليها الكلام الذي نزعم له ذلك المعنى.
يقول أفلاطون - مثلا - إن هنالك عالما عقليا غير هذا العالم المحسوس، وإن الأفكار المجردة تقوم في ذلك العالم العقلي، كما تقوم الجزئيات المحسوسة في هذا العالم الذي نعيش فيه بأجسادنا. أو يقول هيجل - مثلا آخر - إن المطلق يعبر عن نفسه في هذا العالم المحسوس وإنه كلما زاد عن نفسه تعبيرا ازداد هذا العالم المحسوس، تقدما في طريق التطور. هذان مثلان مما يقول الفلاسفة الميتافيزيقيون؛ فهل يراد بنا أن نقبل هذا الكلام رغم أنوفنا، أو لنا الحق أن نسأل أولا: ما «معاني» هذه الألفاظ التي يستخدمونها؟ و«المعاني» لا تكون إلا خبرات حسية ما دام الكلام منصرفا إلى العالم الخارجي، فأين هي الخبرات الحسية التي يقدمها أفلاطون أو هيجل أو أضرابهما توضيحا لما يقولون؟ إذا لم يكن هناك شيء منها فالكلام إذن فارغ لا يؤدي إلى شيء.
إنني لست أقل حرصا على مشاعر الإنسان وآماله ومثله العليا من هؤلاء الذين يصيحون في وجهي دفاعا عنها، لكنني أفرق بين لغة العقل ولغة الشعور وهم لا يفرقون . إن من يتحدث عما لا يقع في حسه (رؤية أو سمعا أو لمسا ... إلخ) لا يتحدث بلغة العقل. وليس في ذلك رفع ولا خفض للغة المشاعر، بل الأمر أمر تفرقة بين نوعين مختلفين من الكلام. والذي نريده وندعو إليه بكل قوة يستطيعها اللسان والقلم هو أنه إذا كان المجال مجال علم فلا يجوز للشعور أن يتسلل إلى سياق الحديث بألفاظه، أما إذا كان المجال مجال أدب وفن فاختر ما تشاء من لفظ ما دام يثير في سامعك المشاعر التي تريد أن تثيرها فيه. لو كنت تتحدث عن السماء بلغة الفلكي فلا تتحدث عن سمو وعظمة ومجد، ولو كنت تتحدث عن الزهرة بلغة النباتي فلا شأن لك بالروعة والجمال، ولو كنت تتحدث عن القرية بلغة الإحصائي أو الاقتصادي فلا تقل عنها: إنها ريف جميل هادئ؛ أعط ما للعقل للعقل وما للشعور للشعور.
على أن «الرياضة» كثيرا ما تساق في هذا الصدد للدلالة على أن العلوم قد تتحدث بما ليس يقع على الحواس من كائنات؛ فيقولون لك: أين النقطة الهندسية التي ليس لها أبعاد؟ وأين الخط المستقيم الذي ليس له عرض؟ وأين الأعداد السالبة وكل ما في الطبيعة موجود بالإيجاب؛ وهكذا وهكذا ...
لكنه اعتراض مردود عليه؛ ويكفي أن نتبين في وضوح حقيقة الموقف في العلم الرياضي ليزول الاعتراض؛ فالعالم الرياضي لا يدعي أنه يقول عن العالم الخارجي شيئا ؛ إنما هو يفترض الفروض أولا (وقد تكون الفروض من محض خياله)، ثم يستدل منها ما يترتب عليها من نتائج، فتكون هذه النتائج هي النظريات الرياضية؛ صدقها مرهون بالفروض التي هي منتزعة منها؛ وإذن فالصدق في النظرية الرياضية صدق اشتقاق لا صدق تطابق بين القول وبين الدنيا الخارجية؛ فسواء لدى الرياضي أن يكون في العالم مثلثات أو لا يكون؛ لأن ذلك لا يؤثر في موقفه إزاء المثلث حين يستدل نظرياته عن المثلث من الفروض الأولية التي فرضها، وسلم بصدقها جدلا.
فلو قدمت إلي نظرية هندسية وسألتني: هل هي نظرية صادقة؟ راجعت طريقة استدلالها من مقدماتها ، ولا شأن لي بالعالم الطبيعي؛ أما إذا قدمت لي نظرية في علم الطبيعة عن الضوء مثلا أو عن الصوت، وسألتني: هل هي نظرية صادقة؟ فإني أراجعها على الطبيعة نفسها، على الضوء أو على الصوت، لأرى: هل هي مطابقة لما يقع في الخارج أو غير مطابقة؟
وخلاصة دعوانا هي هذه: لو أردت لعبارتك التي تنطق بها أن تحدثنا عن شيء في عالم الطبيعة فلا مندوحة لك عن الاعتماد على خبراتنا الحسية، أما إن ضربت بالخبرة الحسية عرض الحائط وجعلت مع ذلك تتحدث عن العالم وحقائقه، فقد جاء حديثك بغير معنى.
4
ونعود إلى ما بدأنا به: خلقت ألفاظ اللغة لتشير إلى مسميات؛ فما ليس يشير منها إلى شيء فإنه يكون لفظا بغير معنى. هذه حقيقة ناصعة الوضوح، لكن قوما من المشتغلين بالفلسفة أو من هم في حكمهم لا يعجبهم منا أن نقول كلاما كهذا؛ إنهم يريدون أن يخبوا خبا في ألفاظ لو طالبتهم أن يشيروا لك إلى مسمياتها في دنيا الأشياء، استنكروا منك هذا الطلب المادي الخسيس؛ إنهم في رأي أنفسهم يسبحون في عالم علوي، ولا يجوز لك أن تنزلهم على الأرض الصلبة التي يدوسها الناس بأقدامهم؛ فإذا كان الناس مثلا يتحدثون عن «الشجرة» أرادوا هم أن يطيروا إلى «فكرة الشجرة»، وإذا تحدث الناس عن «النهر كما يبدو من ظواهره» بحثوا عن «حقيقة النهر الكامنة وراء الظواهر»، وإذا فكر الناس في الأشياء فرادى كما هي في عالم الواقع المحسوس أصروا هم أن يكون حديثهم عن الكون في مجمله بغض النظر عن تفصيلاته؛ لذلك تراهم إذا ما حدثتهم عن محمد وزينب من أفراد الناس، نفروا من مثل هذا الحديث؛ لأن ما يهمهم هو «الإنسان بصفة عامة»؛ وعبثا تسترعي أنظارهم إلى أن «الإنسان بصفة عامة» لا يجوع ولا يمرض؛ بل أنت إذا ما هممت باسترعاء أنظارهم إلى مثل هذا التفكير الجزئي العملي المفيد صرخوا في وجهك سخطا على هذه المادية الدنيئة التي تحارب أحلام الإنسان وأمانيه، وراحوا يكتبون عنك في المجلات والصحف، ويذكرونك في المحاضرات العامة بأنك إنسان نشاز في نغمة سائدة فيها غموض حلو مستساغ!
ما الذي يغري هؤلاء الأفاضل بالتشبث بكلمات لا يعرفون لها معاني ولا مدلولات؟ يغريهم بذلك أن هذه الكلمات لها في آذانهم سحر عجيب؛ إنه لا ضرورة عندهم أن تشير الكلمة من هذه الكلمات إلى مسمى معلوم، بل يكفيهم أن يكون لها في المسامع هذا الرنين اللذيذ الممتع ... وسحر الكلمات أمر قديم قدم الإنسان نفسه: فتاريخ الكهنوت حافل بالكلمات التي تشفي العلل، وتفتك بالعدو، وتنزل المطر إذا يبست السماء!
إنه كسب كبير للفكر العلمي الدقيق أن نضع نصب أعيننا مبادئ هي غاية في «البساطة» واليسر والوضوح؛ أولها أننا نحن الذين خلقنا هذه الرموز خلقا؛ وإنما خلقناها أسماء تطلق على مسميات، ولم نخلقها لنلهو بها ونعبث؛ فلا قداسة للفظة اصطنعناها رمزا إلا بمقدار ما يكون للضوء الأحمر في حركة المرور من قداسة، أو بمقدار ما يكون لعمود الخشب نقيمه في الطريق ليدل على اتجاه السير من قداسة. لا قداسة لرموز خلقناها نحن خلقا لتقوم عندنا مقام مسمياتها، والرمز الذي لا يؤدي هذه المهمة رمز زائف ينبغي أن نمحوه لئلا يختلط علينا الأمر بين الحق والباطل.
ألفاظ اللغة - على اختلاف صورها وأوضاعها - قطع من مادة ولا روحانية في الأمر؛ فاللفظة المكتوبة قطرة من مداد جفت على الورق، لا فرق بينها وهي مسكوبة على الورق كلمة وبينها وهي في الزجاجة قطرة إلا الاتفاق الذي تواضعنا عليه بأن تكون صورتها على الورق رمزا لا يقصد لذاته، بل يراد به مسماه الذي يتحتم أن يكون شيئا مما عسانا أن نلاقيه في دنيانا وفي خبراتنا. وقد تتواضع الجماعات المختلفة على أن تسكب المداد في صور مختلفة: يسكبه فريق من اليمين إلى اليسار على صورة، ويسكبه فريق آخر من اليسار إلى اليمين على صورة أخرى، ولا فرق بين الصورتين؛ لأن كلا منهما موضع اتفاق عند الجماعة التي اصطلحت عليها.
واللفظة المنطوقة كذلك قطعة من مادة هي هزة في الهواء؛ فقد يهتز الهواء بأوراق الشجر ويحدث حفيفا ، وقد يهتز بماء الجدول فيحدث خريرا، وكذلك قد يهتز لاهتزاز اللسان عند حركة الزفير فيحدث صوتا نختاره ونتفق على أن يكون هذا الصوت رمزا نكتفي به حين نريد أن نتحدث عن مسماه؛ لكن هذا المسمى يتحتم أن يكون مما قد وقع في دنيا السامع وفي خبراته، وإلا ذهب الصوت اللفظي عبثا.
اللفظة من ألفاظ اللغة حدث من أحداث الطبيعة؛ هي لمعة من الضوء أو نبرة من الصوت يحلو لنا أن نتفق عليها وقد نغير ما اتفقنا عليه غدا أو بعد غد؛ هي حدث من أحداث الطبيعة، ومسماها حدث آخر من أحداث الطبيعة، وكل ما في الأمر هو أنني أخذت جزءا من مادة الطبيعة لينوب عن جزء آخر: فكلمة «شجرة» هذي التي تراها أمامك ترقيما أسود، هي نفسها واقعة من وقائع العالم المحسوس، شأنها شأن الشجرة العينية في ذلك، وقد اخترت واقعة لترمز إلى أخرى، لأنها أيسر استعمالا في عملية التفاهم؛ الكلمة «صورة» ومسماها «مصور» فهل يجوز في دنيا التصوير أن تدعي أن أمامك صورة لشيء معين، ثم تقول: إن ذلك الشيء لا وجود له؟ ماذا صورت إذن؟
كسب كبير للفكر العلمي الدقيق أن يحاسب العالم نفسه هذا الحساب كلما استخدم رمزا من رموز اللغة: إلام يشير هذا اللفظ؟ فإذا لم يجد بين الأشياء شيئا يشار إليه به حذف اللفظ في غير وجل ولا خوف ولا حسرة . ولكني أقول هذا - كاتبا ومحاضرا - فينهض الناقدون ليردوا هذه العادية عن الفلسفة في عصرها الذهبي حين كانت ترسل الكلمات إرسالا بغير حساب؛ أو ليردوا هذه العادية عن مثل الإنسانية العليا؛ كأنما الإنسانية - عندهم - لا تضع أمامها من المثل العليا إلا صورا لا تفهم، ولا يكون إلى تحقيقها العملي من سبيل!
قيمة القيم
شبه السفينة، نراها ماخرة عباب الماء عن قصد مرسوم وإلى هدف معلوم، يلطمها الموج وتلطمه، يفور البحر من حولها أو يسكن، وتعصف بها الريح، أو تهدأ، لكنها في مجراها ومرساها ماخرة عباب الماء عن قصد مرسوم وإلى هدف معلوم؛ وذلك بفضل ربانها الذي يلوذ بمقصورته، قد لا تراه الأبصار الشاخصة، لكن السفينة تحس بزمامها في قبضته، يجريها هنا ويرسيها هناك كيفما شاء ودبر. شبه هذه السفينة وربانها يكون الإنسان بما يغمر رأسه من قيم، هي قيم يدركها بالفطرة حينا، وحينا آخر تبث في نفسه بثا، فإنك لترى هذا الإنسان في صخب الحياة صاعدا هابطا ساخطا راضيا مستسلما أو ثائرا، فتدري آنا وآنا لا تدري فيم سخطه ورضاه؛ لأن الشواهد المنظورة قد لا تكفيك للفهم والتعليل، وذلك لأنها هي المعاني في رأسه التي تسيره، وإن شئت فقل إنها مجموعة القيم التي تمسك بزمامه وتوجهه، ففهمه على حقيقته هو فهمها.
وإنهم ليقسمون هذه القيم ثلاثة أقسام كبرى تنضوي تحتها شتى المعاني التي تضبط مسالك الإنسان في خضم حياته، وهي الحق، والخير، والجمال، في مقابل ثلاثة الأوجه التي يحللون بها حياة الإنسان الواعية، وهي الإدراك، والسلوك، والوجدان.
ففي حياتك الواعية تدرك ما حولك بالسمع والبصر وغيرها من الحواس، فيحدث فيك هذا الذي أدركته حالة شعورية تضعف أو تشتد وفق خطورة الموقف الذي يحيط بك، وبهذا الإدراك الذي صحبه الشعور الذي يلائمه، تتصرف على النحو الذي يحقق لك ما تبتغي. أما الإدراك فالفرض فيه أن يكون إدراكا صحيحا لا مضللا ولا مغلوطا حتى يجيء السلوك آخر الأمر على أساس سليم. ومن هنا كانت قيمة «الحق» حياة الإنسان، إنه يريد أن يعلم ما هنا لك على وجه الدقة واليقين. حتى لو وسوس له شيطانه بعد ذلك أن يكتم الحق في نفسه ليخفيه عن الناس، أو أن يخدع الناس بالقول الباطل. أقول إنه حتى لو وسوس الشيطان للإنسان بالكذب، فالكاذب نفسه يريد أن يكون هو على علم بالحق، لكننا إذا ما غضضنا الأنظار عن أصحاب التضليل والكذب جاز لنا أن نعمم فنقول إن الإنسان بفطرته ينشد «الحق»، وعلى الحق يبني علومه، وعلى علومه يبني حياته المادية كلها.
ذلك هو جانب الإدراك وما يلحقه من قيمة الحق، وأما جانب السلوك الذي ينتهي به المطاف، فالغرض فيه أن يجيء سلوكا محققا لأهدافه؛ أي أن يجيء سلوكا سليما ملتزما سواء السبيل. والمجنون وحده هو الذي يقصد إلى هدف ثم يتعمد أن يسلك السلوك الذي لا يحققه. وإذا قلنا «سلوك صحيح» فقد قلنا «فضيلة»؛ فما الفضيلة إلا السلوك الذي دلت خبرة الإنسان في تاريخه الطويل - لا الإنسان الواحد المفرد في حياته القصيرة - على أنه خير ما يحقق الأهداف. وإذن فالإنسان بفطرته يقيس صواب السلوك بمقياس «الخير» الذي يترتب على فعله. «فالخير» عند الإنسان قيمة ليس له عنها غناء حتى وهو يقترف الإثم ويفعل الشر، لأنه حالة اقترافه الإثم يتمنى من صميم نفسه ألا يفعل سواه ما هو فاعل، وإلا لضاعت عليه فوائد إثمه. وهل يريد سارق المال - مثلا - أن يتعرض له سارق آخر فيسلبه ما قد سرق؟ هل يريد القاتل أن يقابله قاتل آخر فيقتله كما قد قتل؟
هاتان - إذن - قيمتان تمليهما على الإنسان فطرته: قيمة «الحق» فيما يعلمه ويدركه، وقيمة «الخير» فيما ينشط في سبيله، وبقيت قيمة ثالثة تقع وسطا بين الطرفين هي ما يطلقونه عليه اصطلاحا بالنشوة الجمالية. فلئن كان بين الإدراك من ناحية والسلوك من ناحية أخرى حلقة وسطى هي الحالة الوجدانية، فبغية الإنسان لنفسه أن تجيء هذه الحالة الوجدانية مما يشيع فيه الطمأنينة والرضى، فتراه على هذا الأساس يختار ثيابه ومسكنه وأثاث مسكنه، ويفتن الفنون صوتا ولونا ونحتا وعمارة.
هي قيم ثلاث تدور عليها حياة الإنسان دوران الرحى حول قطبها، وعنها تتفرع معان يضحي الإنسان بنفسه ولا يضحي بها. وحتى إن رأيته يظهر ما ينقضها، وجدته في حقيقة أمره يبطن غير ما يظهر، ومن هذه المعاني: العدل والسلام والحرية.
في قصة دون كيشوت المعروفة، كان هذا الفارس يسير ومعه تابعه «سانكو بانزا» في طريقهما إلى برشلونة، فمرا بعصابة من اللصوص على رأسها كبيرهم «روك جوينار» فوجداه يقسم الغنائم بين أفراد عصابته، فأوقفهم صفا وأمرهم أن يقدموا كل مسروقاتهم من ثياب وجواهر نفيسة ومال، منذ أن اجتمعوا معا لتقسيم الغنائم في المرة السابقة. فلما صدعوا بأمره وقدموا ما عندهم ، راح يقسمه بينهم قسمة عادلة، وما لم يقبل الانقسام من المسروقات، قومه بالمال لتسهل عملية التوزيع العادل، غير متحيف هنا ولا مجحف هناك. ثم التفت إلى دون كيشوت وقال: إنني إذا لم ألتزم القسطاس بين رجالي، تعذرت علي الحياة معهم، وهنا دخل في مجرى الحديث «سانكو» المازح الساخر، فقال: «إنني إذا حكمت بما قد شهدت الآن، لقلت إن العدالة شيء جميل ينبغي التمسك به حتى بين اللصوص.» وعندئذ أوشك اللصوص أن يفتكوا بصاحبنا «سانكو»، لا لأنه أثنى على العدل، بل لأنه اجترأ فأسمى اللصوص لصوصا.
هذه لمحة نافذة بارعة من «سيرفانتيز» فكأنما أراد أن يقول ما نحن الآن قائلوه، وهو أن كيان الإنسان يهتز من أساسه إذا ما عرف أنه قد افتأت على قيمة عليا من القيم التي لا حياة للإنسان بغيرها، فاللصوص - حتى في حالة كونهم لصوصا يقتسمون سرقاتهم علنا - يؤذيهم أن يعلموا بأنهم لصوص!
وها هنا نضع أصابعنا على عجيبة من عجائب البشر، فبينما ترى كل جماعة من الناس على إدراك تام ووعي كامل بأنه لا حياة لها إلا إذا روعيت العدالة بين أفرادها - كما قال رئيس العصابة - تراها في الوقت نفسه تأبى أن تقوم هذه العدالة نفسها بينها وبين غيرها من الجماعات! وإن الأمر في هذا لدرجات متفاوتة؛ ذلك أن الإنسان الفرد لا ينتمي إلى جماعة واحدة، بل ينتمي إلى جماعات كثيرة تظل دائرتها تتسع وتتسع حتى تشمل الجماعة الإنسانية كلها. وكلما ازدادت ثقافة هذا الإنسان الفرد واتسعت مداركه وانداح أفقه، ازدادت بالتالي واتسعت دائرة الجماعة التي يريد أن تقوم العدالة فيها بينه وبين سائر أفرادها.
وأضيق الدوائر الجماعية هي الأسرة، تتلوها مجموعة الزملاء في العمل، فأبناء المدينة الواحدة، فأبناء الإقليم، فأبناء الأمة، فأبناء مجموعة الأمم التي ترتبط معا في تحالف، فأبناء المجتمع البشري كله. وأضيق الناس نظرا هو الذي يريد للعدل أن يقوم ميزانه بين أفراد أسرته، وأما ما بين أسرته وما عداها من صوالح متشابكة، فليختل ميزان العدل ما دام خلله لكسبه وخسارة الآخرين. وأوسع الناس أفقا هو من لا يستقر له جنب على فراش حتى يرى العدالة قد أخذت مجراها بين أفراد البشر أجمعين على حد سواء. وبين أضيقهم نظرا وأوسعهم أفقا يقع الناس درجات. على أن النقطة الهامة فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه، هي أنه إذا اختلف الناس في الدرجة وحدها، فهم جميعا على اتفاق بأنه لا حياة بغير عدل يوازن بين صوالح الأفراد. وموضع الاختلاف هو: ما حدود هؤلاء الأفراد الذين لا تكون لهم حياة بغير عدل؟
إن قصة طريفة لتروى عن طفل اصطحبه أبوه في روما أيام المسيحية الأولى حين كان الشهداء الأولون، من رواد الدين الجديد، يلقى بهم في حلبة السباع على مشهد من الجموع الوثنية، إذ رأي الطفل في الحلبة سباعا وجد كل منها مسيحيا ينهشه ليأكل، إلا سبعا واحدا لبث ضائعا بغير فريسة. فقال الطفل لأبيه: مسكين هذا السبع الذي لا يجد مسيحيا يأكله كزملائه السباع. ولم يكن الطفل على ضلال في عطفه على السبع المسكين، ما دامت نظرته محصورة في نطاق الحلبة التي أمامه، فها هي ذي مجموعة من آحاد الحيوان اجتمعت على غرض مشترك، والإدراك الفطري السليم يقضي بأن يسود بينها قسطاس. ولا يتجلى موضع الخطأ إلا إذا وسعنا الدائرة إلى حلبة السباع داخل نطاق أوسع، فعندئذ نرى أن ما قد عددناه عدلا داخل الحلبة، هو ظلم بالقياس إلى ما هو خارجها. فهو ظلم بالنسبة إلى جماعة الشهداء من أبناء الديانة الجديدة. وأعود فأبرز النقطة التي تعنينا هنا بصفة خاصة، وهي أن اختلاف النظر ليس قائما على قيمة العدل في ذاتها، بل على اتساع دائرة التطبيق أو ضيقها.
أفتحسب أن قصة الطفل التي رويناها لك هي مزاح أو أقرب إلى المزاح؟ ما ظنك - إذن - لو نظرت فوجدت شطرا كبيرا من السياسة الدولية قائما على الأساس نفسه؟ خذ مثلا واحدا: الفرنسيون والجزائر.
1
فها هنا حلبة فيها سباع وشهداء، والمتفرجون هم الساسة من بلاد أخرى، فكأنما هؤلاء يتفرجون على المجزرة، فلا يقول القائل منهم: مساكين هؤلاء الشهداء الذين يفترسون افتراسا بغير عدل، بل يقول: مساكين هؤلاء السباع الذين لا يخلى بينهم وبين الفرائس لينعموا في طمأنينة ودعة كما ينعم سباع آخرون. إنه لا خلاف هنا على ضرورة العدل في حياة الناس، ولكن الخلاف قائم حول نقطة أخرى، هي: من تكون الجماعة التي يراعى العدل بين أفرادها؟
وننتقل من قيمة العدل إلى قيمة أخرى هي قيمة السلام والأمن وطمأنينة النفس، لأن القيمتين مرتبطتان بأوثق رباط، حتى لتستطيع أن تعدهما وجهين لشيء واحد.
إن حياة السلم خير من حياة الحرب، لا ينازع في ذلك إنسان واحد، وحتى لو وجدت إنسانا يقول لك عن الحرب إنها ضرورة لا مندوحة عنها، فهو لا يريد بهذا أن يجعل الحرب أولى من السلام، بل إنه ليعلم أن السلام أولى، ولكنه بعيد المنال. بل إن رغبة الإنسان في حياة مطمئنة لتسبق - منطقيا - رغبته في إقامة العدل؛ لأن الأولى أصل والثانية فرع، فما أقامت الجماعة ميزان العدل بين أفرادها إلا لأنها تريد لهم أن يعيشوا في دعة وبال مستريح. لقد كان زعيم اللصوص الذي ذكرنا لك قصته، على حق حين قال إنه لا حياة له بين أفراد عصابته بغير عدل يقيمه بينهم. فالتعاون السلمي بين أفراد العصبة من جهة، وبينهم وبينه من جهة أخرى هو الهدف. وأحسب أن تومس هوبز
Thomas Hobbes - الفيلسوف الإنجليزي في القرن السابع عشر - قد أصاب جانبا من الحق ، حين قال: إن الأصل في قيام مجتمع وعليه سلطان يحكمه، هو أن الأفراد في حالتهم الهمجية لم ينعموا بحياة مطمئنة، إذ كانوا في حرب دائمة يفتك فيها بعضهم ببعض وينهب فيها بعضهم بعضا، ثم أرادوا السلام فتهادنوا على مجتمع يقيم بينهم ميزان العدل.
لا، إنه لا خلاف على ضرورة السلام، لكن الخلاف كل الخلاف هو أين تقع حدوده، فالأمة الواحدة تقنع بالسلام داخل حدودها، وصاحب النظرة الواسعة لا يطمئن له بال إلا إذا شمل السلام حياة البشر أجمعين، وفي كلتا الحالين لا غناء لنا عن هذه الواحدة من القيم الإنسانية، ضاق مجال تطبيقها أم اتسع.
وأخيرا نختم القول بحديث قصير عن قيمة ثالثة لعلها أعز القيم الإنسانية كلها، وأعني بها «الحرية»، فلا أحسب أن الدنيا بأسرها، وفي شتى عصور تاريخها، قد شهدت إنسانا واحدا يخالفك في ضرورة هذه القيمة لحياة الإنسان. ومرة أخرى نقول إنه إذا كان ثمة من خلاف، فهو خلاف على مدى اتساع نطاق التطبيق أو ضيقه، لا على ضرورة الحرية نفسها لحياتنا، سواء ظفر بها فرد واحد أو ظفر بها الملايين؛ ذلك أنك قد تجد جماعات تقصر الحرية على فئة قليلة منها، بل ربما قصرتها على فرد واحد، لكن هذا الفرد أو تلك الفئة عندئذ يكونون على اعتقاد بأن ذلك أدعى إلى صيانة الضعيف من سطوة القوي، وهذه في ذاتها قيمة إنسانية تستحق الصيانة والرعاية، فالحرية قبل أن تكون لفظا يقال بالألسنة والشفاه، هي تهيئة الظروف المواتية لكل فرد أن يعبر عن طبيعته وعن كيانه وعن وجوده في نوع العمل الذي يؤديه، وهو لا يكون في هذا بمأمن إلا إذا كفلته رعاية قوية.
وهكذا تقلب البصر في مسرح الحياة الإنسانية، فتراها مرتكزة آخر أمرها على مجموعة من القيم أو المعاني، لا تكون أبدا موضع اختلاف للرأي من حيث الأساس، وإن اختلف الرأي عليها في الشرح والتطبيق. ولو نفذت ببصرك إلى أعماق النفوس، لألفيتها على عقيدة راسخة بأنه لا بقاء بغير مجموعة القيم التي أدركتها بالفطرة السليمة حينا ، أو بثت فيها بالتربية القويمة حينا آخر. فإن اعوج السلوك الظاهر عن إملاء تلك المعاني الشريفة، لم يحتج الأمر إلى تغيير في فطرة الإنسان، بل احتاج إلى تربية جديدة تنسق بين الظاهر والباطن، فيسلك الإنسان عندئذ سلوكا سويا، يجمع الإنسانية كلها بمثل ما يجمع اليوم أفراد الأسرة الواحدة.
الأمانة التي حملها الإنسان
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا .
ماذا تكون «الأمانة» التي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان؟ لا بد أن تكون شيئا مما يميز الإنسان من سائر أجزاء الكون في أرض أو سماء. وأول ما يرد إلى الخاطر من هذه المميزات التي يجوز أن يقال عنها: إنها أمانة وكلت إلى الإنسان فحملها، الإرادة الحرة التي إن يكن صاحبها معرضا للخطأ فيما يختار وما يدع، فهو كذلك قادر على اختيار الصواب، بل هو قادر على أن يبتدع هذا الصواب ابتداعا، وعليه تقع التبعة في حالة الخطأ، وإليه يتجه الثواب في حالة الصواب. •••
فظواهر الطبيعة تحدث في اطراد، هو القانون الذي إذا ما استخلصه الإنسان الباحث بما يشاهده منها وما يجريه من تجارب عليها، كان في مستطاعه أن يتنبأ على وجه الدقة ماذا عساه أن يحدث في المكان الفلاني وفي اللحظة الفلانية لو أن كذا وكذا من الظروف قد وقع؟
فمثلا أين يقع هذا الحجر الملقى بقوة مقدارها كذا؟ ومتى يسقط المطر، ما دمنا قد علمنا اتجاه الريح ومقدار الضغط وهكذا؟ ومتى تنكسف الشمس أو ينخسف القمر؟ فليس لهذه الظواهر كلها مناص من الحدوث في مستقبلها على نحو ما قد حدثت في ماضيها، لا أنها «تريد» شيئا وقد أرغمت على سواه، بل لأن «طبيعتها» هي أن تقع على نحو ما قد شاهدناه منها، ولن يتاح لها أن تقف من نفسها موقف الناقد الذي قد يعدل من مجرى حياته المقبلة على ضوء ما قد مر منها في تاريخه السالف.
نعم إن الطبيعة لا تخطئ لأن طريقها قد رسم لها رسما لا انحراف فيه ولا شذوذ هناك، لكنها كذلك لا فضل لها في صوابها، فلقد أعفيت من حمل الأمانة؛ أمانة الاختيار الحر الذي يتعرض للخطأ في محاولة فعل الصواب، فأراحت نفسها، وضمنت سداد خطاها، ودقة سيرها، لكن فضل ذلك كله لسواها. وأما الإنسان، فهو وحده دون سائر الكائنات جميعا، قد كتب له - أو كتب عليه - أن توضع الأمانة الكبرى بين يديه - أمانة الحرية - وعليه تقع التبعة بعد ذلك. ولو سلب واحد من الناس هذه الأمانة التي وكلت إلى نوعه، لارتد من فوره «شيئا» من الأشياء بعد أن كان إنسانا ، وذلك هو بعينه الفرق بين الحر والعبد، فالعبد المملوك لسواه لا يملك تصريف أموره بنفسه، ولذلك فلا تبعة عليه إذا أخطأ ولا فضل له إذا أصاب، إنما التبعة والفضل لسيده الذي يملكه ويحركه كما يملك ويحرك سائر أدواته الأخرى.
وظواهر الطبيعة في الأرض أو في السماء، تتبع دائما أيسر الطرق وأسهلها وأخلاها من الحوائل والعقبات؛ لأن الأهداف ليست أهدافها، فانظر إلى مجرى الماء كيف ينحدر في طريقه، حتى إذا ما صادفه في الطريق حائل، دار حوله لينصرف إلى حال سبيله بغير عناء، وهو لا يتصدى لهذا الحائل بالمقاومة إلا إذا لم يكن أمامه سبيل آخر، فمحال عليه أن يختار المقاومة إذا كان له منها مناص، وما هكذا الإنسان، لأنه مؤتمن على الوديعة النفيسة - وديعة الحرية - فله - إذا شاء - أن يختار طريق الصعاب حتى إن يسرت أمامه سبل أخرى.
وكثيرا ما يكون في اختياره للمشقة دون الحياة الهينة اللينة سر كفاحه وسر عظمته معا، فالإنسان وحده هو من في قدرته الطموح؛ لأنه وحده المستطيع أن يقول «لا»، وأما سائر أجزاء الطبيعة فلا جواب لديها إلا «نعم». للإنسان أن يهبط من قمة الجبل إلى أسفل الوادي، أو أن يصعد من أسفل الوادي إلى قمة الجبل، لأنه يستطيع - إذا ناداه قانون الجاذبية - أن يمتنع عن تلبية النداء، وأما الحجر فذو طريق واحد مخطط مرسوم.
الإنسان وحده هو المغامر المخاطر ، وأما الطبيعة فلا مغامرة فيها ولا مخاطرة ولولا مغامرة الإنسان في عالم المجهول لما كان له الذي كان من ثقافة وحضارة. ولا تكون المغامرة مغامرة إلا إذا تضمنت إمكان الخطأ وترجيح الصواب. فالرحالة الذي يخاطر في محيط مجهول لم يسبقه إلى عبوره سواه، مغامر؛ لأنه وإن يكن يتوقع لنفسه التوفيق، فهو أيضا يحتمل الهلاك. وهكذا قل في كل محاولات الإنسان توسعة آفاق علمه، بما في ذلك الكشوف العلمية؛ لأن كل كشف علمي هو في الحقيقة مغامرة صغيرة أو كبيرة انتهت بصاحبها إلى نتيجة موفقة، وكان يمكن أن يضل طريقه فيها فيخسر الوقت والجهد والمال بغير جزاء، فلئن أملت على الإنسان طبيعته أو طبيعة العالم من حوله أن يسلك على صورة معينة، فله أن يقول: وماذا لو سلكت على صورة أخرى؟ فلأفعل لأرى نتائج فعلتي. ولكن، هل تقول كواكب السماء في أفلاكها: ماذا لو انحرفت بطريقي هنا أو هناك؟ هل يقول مثل ذلك، النهر الدافق أو السحابة المزجاة أو الريح العاصفة؟ إن هذه كلها قد أبت حمل الأمانة فاستراحت لكنها في الوقت نفسه لا تملك لنفسها زماما.
ولا تحسبن الناس في حمل هذه الأمانة سواء، بل إن منهم من يكاد يقف منها موقف الطبيعة، فيأبى حملها ويشفق على نفسه منها، لكن منهم أيضا أولئك الذين يحملونها على عواتقهم حمل الأبطال، فلا يفرطون في حريتهم مثقال ذرة، ولهم بعدئذ الثمرات وعليهم الأخطاء. وكما يتفاوت الأفراد في مدى استعدادهم لحمل الأمانة، فكذلك تتفاوت الأمم، ثم تتفاوت العصور، فمن الأمم من يغلب بين أفرادها إيثار السلامة والعافية على ركوب المخاطر، وكذلك من عصور التاريخ ما سادته روح الاستسلام ومنها ما غلبت عليه المغامرة في شتى ضروبها وصورها. وإذا قلنا ركوب المخاطر والمغامرة فقد قلنا التصدي لحمل أمانة الحرية التي عرضت على أشياء الطبيعة وظواهرها - كما عرضت على جماعات الناس الذين أرادوا لأنفسهم أن يكونوا أقرب إلى تلك الأشياء والظواهر - فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.
كان الإنسان في عصوره القديمة والوسطى قد اصطنع لنفسه منهجا فكريا - هو الذي صاغه أرسطو في منطقه - راعي فيه أن يضمن عدم الوقوع في الخطأ تحت أي ظرف وبأية حال، فهو لا يتصدى للأخذ بنتيجة ما إلا إذا كانت هنالك المقدمات قد سبقتها لتسوغ قبولها، وكانت النتيجة المعينة لا تقبل إلا إذا انتزعت من جوف تلك المقدمات. وهكذا كان التفكير إبان العصور كلها. حقائق تؤخذ مأخذ التسليم، ثم تستخرج منها نتائج، فتكون هذه النتائج بدورها جديرة بالتسليم أيضا؛ لأنها هي هي نفسها تلك المقدمات وضعت في صورة أخرى. لكن مثل هذا المنهج، إذا كان هو وحده وسيلتنا إلى العلم، فمؤداه أن الإنسان قد استغنى به عن «الأمانة» التي كان قد تصدى لحملها، فلا علم في هذه الحالة إلا في الظاهر وحده، وأما حقيقة الأمر فتكرار للمقدمة في النتيجة تكرارا يدور به صاحبه في دائرة مغلقة لا تنتهي به إلى شيء جديد.
فمن مقتضيات «الأمانة» التي شرف الإنسان بحملها - بعد أن أشفقت منها السموات والأرض والجبال - أن ننهج في العلم نفسه طريق المغامرة والمخاطرة في المجهول، محتملين وقوعا في خطأ، مرجحين وصولا إلى الحق، وذلك هو طريق العلم التجريبي الذي لا يرضى الدوران في جدل، إن يكن مضمون الصواب في استدلال نتائجه من مقدماتها، إلا أنه عقيم لا يلد الجديد، فلقد كانت الوثبة فسيحة في التطور العلمي حينما ألقى الإنسان وراء ظهره - وكان ذلك في القرن السادس عشر - فكرة كانت قد عفى عليها الزمان، ألا وهي أن يسير الباحث العلمي في بحثه بالخطوات المؤدية إلى اليقين الذي لا يدنو منه شك ولا يأتيه باطل، وذلك لأنه لو أراد الإنسان في المجال العلمي يقينا كهذا لما تحرك من مكانه، إذ لا فرق بين هذه الحالة وبين إنسان يريد في حياته العملية ألا يتعرض لخطر كائنا ما كان، فيتحتم عليه عندئذ ألا يبارح داره ليظل من الأخطار بمأمن أمين، كلا، إنه ليكفي الإنسان في حالتيه العلمية والعملية على السواء أن يرجح الصواب ليأخذ في خوض الغمار.
الإنسان - على خلاف الطبيعة في ذلك - هو الذي ينسج نسيج حياته بإرادته، وتلك هي الأمانة التي عرضت عليه فحملها مسئولا، فلو تشابهت الظروف كلها أمام شخصين لجاز لأحدهما - رغم ذلك - أن يختار من تلك الظروف ما ليس يختاره زميله، وبذلك يجيء أحدهما مختلف التكوين والمزاج عن زميله، وكل منهما راع بني يديه رعية يرعاها على أي نحو شاء، وهو المسئول أمام ضميره وأمام ربه وأمام الناس عما يفعل. أما ظواهر الطبيعة فلم تحمل تبعة كهذه التبعة، ولذلك فلو تشابهت الظروف أمام ظاهرتين منها تشابها تاما، لما وسع الظاهرتين إلا أن تجيئا على صورة واحدة.
قد يقال في هذا الصدد: لكن الله تعالى قد رسم للإنسان شرائع السلوك كما رسم لظواهر الطبيعة طرائق السير، وعلى الجانبين أن يطيعا ما قد رسم لهما على حد سواء. لكنه لو كان الأمر كذلك لما كانت هناك «أمانة» يحملها الإنسان وحده دون غيره من الكائنات، وإنما الطاعة الواجبة نوعان: فطاعة عمياء - كما يقولون - وطاعة مبصرة، وصاحب الطاعة العمياء يسير سيرته ولا يتاح له أن يسأل: من أين وإلى أين ولماذا؟ كلا وليس في وسعه العصيان متحملا نتائج عصيانه. •••
وأما صاحب الطاعة المبصرة العاقلة فيعلم لماذا هو فاعل ما يفعله، وفي مستطاعه أن ينحرف لو أراد، وعليه تقع تبعة انحرافه ذلك.
إننا كثيرا ما نقرأ لكتاب يعيرون الإنسان بمملكة النمل أو النحل، قائلين إن دقة النظام وحسن التعاون، والتضحية وغير ذلك من حسنات الحياة الاجتماعية قد ظهرت في جماعات النمل والنحل ظهورا يصح أن يكون نموذجا للإنسان يحتذيه، ولكن فات هؤلاء أن الفرق بين جماعة الإنسان وجماعة النحل أو النمل هو نفسه الفرق بين من حمل الأمانة ومن لم يحملها؛ فالنحلة تسعى كما تسعى السحابة مدفوعة بقوة الريح، لا تدري من غاية سعيها شيئا، ولا تستطيع أن تقول «لا» إذا أرادت العصيان، ومن ثم فلا فردية تميز نحلة من نحلة. وكان من نتائج هذا كله ألا تطور في جماعة النحل، فخلية اليوم هي نفسها خلية النحل منذ ألف ألف عام، وكيف يكون تطور والطريق مرسوم منذ الأزل ليظل كما هو إلى الأبد، لأنه قد رسم منذ اللحظة الأولى كاملا في مواءمته لظروفه، لكن ما هكذا الإنسان الذي ما ينفك يتطور في علومه وفنونه وطرائق عيشه، وذلك كله بفضل أناس وقفوا إزاء النظام الذي وجدوه سائدا حولهم، ليقولوا «لا» وكان في وسعهم ذلك؛ لأنهم أصحاب إرادة بناءة، هي التي ميزتهم منذ عرضت عليهم «الأمانة» فحملوها.
والإرادة البناءة هي الخلق والإبداع، ومن ثم كان الإنسان أقرب الكائنات إلى الله. فلئن كان حقا أن كل ما في الكون من الكائنات هو آيات من صنع الله الخالق، إلا أنه تعالى قد أودع من سره في الإنسان ما لم يودعه في غيره، فكأنما عرض - سبحانه وتعالى - أمانته هذه على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يكن هن المجسدات بأجرامهن لتلك الحقيقة الإلهية العظيمة، برغم عظم أجرامها، وذلك لأنهن غير مؤهلات بحكم طبائعهن لمثل تلك الرسالة، وأما الإنسان ففيه من استعداد الطبع ما يؤهله للتعبير عن حقيقة الله تعالى، فهو صاحب علم وصاحب فن ينشئهما بعقله وقلبه وروحه، ولا غرابة بعد ذلك أن يكون هو الكائن الوحيد الذي يعرف معنى القيم الثلاث: الحق والخير والجمال؛ فهو إذ ينشئ «العلم» ليصوغ به قوانين الطبيعة، يعرف أن علمه هذا هو «الحق» وإلا لما استطاع أن يستخدمه، وهو إذ يبدع آياته الفنية من شعر وموسيقى وتصوير ونحت وعمارة وزخرف، يرى في إبداعه ذاك «جمالا» يخلعه عليه من ذات نفسه التي أعدت على نحو يحس الجمال ويخلقه، وكذلك يميز الإنسان في أنواع السلوك بين ما هو خير وما هو شر. ولو كانت حياته ذات طريق واحد مرسوم لما ميز، بل لما كان معنى لخير وشر.
ألا إنها لأمانة كبرى حملناها بين جنوبنا وحقت علينا رعايتها: أمانة الحرية البصيرة البناءة التي تفعل مختارة، وتحمل تبعة فعلها، والتي تنشئ صروح العلم والفن بما فيهما من حق وجمال، لتحيا في تلك الصروح حياة خلقية تسعى إلى الخير.
تشابه الناس آفة عصرنا
لهم الله أولئكم الأقدمون الذين طاروا على جناح الخيال بأساطيرهم، فإذا هم يشرفون من عل على حقائق الحياة الخالدة، ثم يصورون تلك الحقائق في أساطيرهم تصويرا لا تبلى له - مع مر الأيام - جدة، ولا تذهب عنه نضارة. فكلما تغير وجه الدهر - عصرا بعد عصر، وحضارة في إثر حضارة - التمس الكاتبون في أساطير الأقدمين تأويلا جديدا، يجعلها وكأنما خلقت خلقا لتصوير هذا الوجه الجديد، فانظر كم تأويلا ظفرت به أسطورة «أوديب» من أدباء عصرنا، وكم ظفرت به أسطورة «بجماليون». وها أنا ذا أوجز للقارئ أسطورة قديمة تصور لي وله آفة من آفات عصرنا، هي إصرار حضارة العصر على أن يتشابه الناس . ذلك أنهم زعموا عن رجل يدعى «بروقرسطس» أنه كان صاحب فندق في طريق المسافرين، فكان كلما نزل بنزله النازلون، أصر على أن يقد قاماتهم على قد أسرته، فإن كان النازل أطول من سريره جذ ساقيه جذا حتى يتعادل الطولان، وإن كان أقصر مطه مطا حتى تطول قامته ما طال السرير، فكان بهذا العناء من قبله، وبتلك الآلام يعانيها زبائنه، يحقق مثله الأعلى، وهو أن يخرج الناس من عنده ذوي قامات متساوية؛ إذ لم يطق أن يرى بينهم التفاوت الذي يطاول به بعضهم بعضا!
وحضارة عصرنا هي «بروقرسطس» ينشر من جديد، ليجذ الطوال ويمط القصار، حتى تتعادل الرءوس، وكأنما صبت الأجسام في قالب واحد! ولقد ينعت عصرنا بنعوت كثيرة، فهو آنا عصر الذرة، وآنا عصر الفضاء، لكنه كذلك ينعت بعصر الإنسان الوسط. ولا عجب فهو عصر العلم التطبيقي بغير شك، فربما شهد العالم إبان تاريخه الطويل علما كثيرا، لكنه لم يشهد تطبيقا لهذا العلم يتسلل به إلى كل ركن من كل بيت في المدائن والقرى، كالتطبيق الذي يشهده عصرنا هذا. ومع تطبيق العلم يجيء الإنتاج الكبير، ومع الإنتاج الكبير يجيء تشابه الناس في طرائق العيش تشابها أوشكنا به على يوم ينصهر فيه العالم كله ثم ينسبك على صورة واحدة. وما ظنك بعالم يسافر فيه الناس بسرعة الصوت ويتفاهمون فيه بسرعة الضوء؟
كانت الشعوب إلى ما قبل عصر التطبيق العلمي الحديث، إذا تشابهت في علومها، فهي تتباين بفنونها، فللهند عمارة وللصين عمارة أخرى، ولأوروبا عمارة ثالثة، ولأمريكا عمارة رابعة، وهلم جرا، حتى لتتوقع إذا ما سافرت هنا أو هناك أن يصادفك طراز معماري يميز المكان مما عداه، وربما كان هذا التباين راجعا إلى ظروف التربة أو المناخ أو طبائع الناس أو ما لست أدري. أما اليوم، فطراز للناطحات يسري، ولعله يعم بعد حين، أفتستطيع اليوم إذا ما وقع منك البصر على صورة بناء من ذوات الطوابق التي تعد بالعشرات، ومن اللواتي بنيت على طراز الخطوط المستقيمة التي لا تنعرج هنا في شرفة ولا تنثني هناك بزخرف، بل يقمن مكعبات هندسية ثقبت ثقوبا منظومة في صفوف، هي النوافذ، كأنها أبراج الحمام، أفتستطيع إذا ما وقع منك البصر على صورة بناء كهذا أن تقول في أي بلد هو؟ إنه قد يكون في القاهرة أو روما أو نيودلهي، لأنه بناء وليد التطبيق العلمي وليس وليد الفن، والناس يختلفون فنا ويتشابهون علما.
لكنك ربما أمعنت النظر في الصورة لعلك واجد فيها ما يميز بلدها، من أزياء الناس إذا كانت بها صور الناس، فهنا أيضا كان الناس يتباينون، فلمحة واحدة إلى إنسان واحد وماذا يرتدي، تكفيك أن تقول عنه من أين جاء، وإلى أي شعب ينتمي، فقد كانت أذواق الناس تتبدى في أزيائهم، ولكن بأي سرعة تتجاوب الدنيا اليوم ليعلم قاصيها من دانيها في لحظة سريعة ماذا يكون بدع العام الجديد؟ إننا لنلاحظ في المحافل الدولية التي كثيرا ما تنعقد هذه الأيام، نلاحظ زعماء الدول الناشئة مستمسكين بأزيائهم الوطنية، فنلمح من هذا على الفور دعوة سياسية لأقوامهم أكثر مما نلاحظ رغبة حقيقية في تلك الأزياء؛ لأن الزي القومي في عصرنا - عصر التشابه- يلفت الأنظار كما تلفتها لافتات الإعلان.
واهبط في رحلتك ما شئت من مدينة في الشرق أو في الغرب، تجد فنادق على طراز واحد، تقدم طعاما من طراز واحد، وشرابا واحدا هنا وهناك، فقد ذهب زمان كانت فيه لكل بلد مميزاته من منزل ومن طعام ومن شراب، وحسبك أن تجد إعلان الكوكاكولا ولفائف التبغ يسد عليك الطريق أينما وليت وجهك في السفر، ووسائل النقل في بلد هي وسائله في بلد آخر، فها هنا وها هنا سيارات خاصة وسيارات عامة، وها هنا وها هنا دور للسينما تعرض الأفلام نفسها في وقت واحد، ودور لسهرات اللهو تتبادل فرق الرقص والغناء، حتى لتأخذك الحيرة إذا ما كثر بك الانتقال: أين يا ترى رأيت هذه الراقصة وأين سمعت هذا المغني؟ فهل رأيت ما رأيت وسمعت ما سمعت في سان فرانسيسكو أو في طوكيو؟
على أن هذا التشابه كله ليس هو الذي أردت الحديث فيه؛ لأنه في الحق لا يعنيني إلا قليلا، وإنما الذي يعنيني هو هذه الموجة الجارفة التي تريد بنا تشابها في الثقافة، لا فرق فينا بين صفوة وسواد، وهي موجة جاءت هي الأخرى نتيجة مباشرة للتطبيقات العلمية التي وجدت سبيلها إلى خيام الصحراء وأكواخ الريف، كما وجدتها - على حد سواء - إلى دور المدن وقصورها، إذا كانت قد بقيت فيها قصور. ففيما مضى كانت الصفوة تخاطب الصفوة، وكأنما لم يكن للجماهير وجود، فالفنان الكبير ينتج فنه ليسمع الحكم من الناقد الكبير، تماما كما ينتج العالم نظرية علمية فلا يهمه سوى أن يجد القبول عند زميله العالم، وبالطبع ما زالت هذه هي حال العلم؛ لأنها يستحيل ألا تكون كذلك. وأما في ميدان الفن والأدب فالأمر قد تبدل حالا بعد حال.
فالفن - أساسا - قد نشأ في وقت الفراغ، ليلهو به المستمتع في وقت فراغه أيضا، فما كان للإنسان أن يفتن إلا بعد أن يسد حاجاته الرئيسية. وللفن بعد ذلك ما يفيض من طاقة النشاط، فترقص الساقان بعد أن تستنفد الحاجة إلى السير، وينظم الكلام شعرا بعد أن يفرغ الشاعر من قضاء أعماله في سوق البيع والشراء نثرا، وهكذا. ولئن كان نتاج الفن وليد الفراغ فاستهلاكه هو وليد الفراغ كذلك، لكن أجهزة الفراغ قد باتت متشابهة في كل أرض وسماء: الإذاعة الصوتية والإذاعة المصورة والسينما والصحف والطبعات الرخيصة من الكتب. وليست العبرة كل العبرة بالجهاز نفسه وتشابهه هنا وهناك، ولكن العبرة كلها هي في المادة التي ينقلها الجهاز لكي تجد القبول عند من يقتنيه، وها هنا بيت القصيد ومربط الفرس.
تحولت الثقافة المنقولة على هذه الأجهزة سلعة تباع وتشترى كأي سلعة أخرى، فالإدارة المشرفة على كل جهاز منها تريد لنفسها الكسب ولا تريد الخسارة، وتريد أن تجد القبول والرضى ولا تريد أن تقابل بالرفض والنفور. إذن فلا مناص من أن تكون السلعة المعروضة مما يرضي زبائنها، وإن هذا الرضى لتظهر آثاره فور تسلم البضاعة المرسلة. لا، لم يعد صاحب الفن أو صاحب النغم أو صاحب الكلمة الأدبية مضطرا إلى انتظار الأجيال القادمة لتحكم على عمله، وكم من فنان وأديب قد طوى الأجل قبل أن يسمع القول الفصل في فنه وأدبه، بل إنه في عصرنا لينتج اليوم ليحكم عليه «الجمهور» غدا، فإما موت له أو حياة، فيا ليت شعري هل كان تولستوي يتوقع لنظريته في النقد الأدبي والفني أن يتسع مجالها إلى هذا المدى، عندما قال إن «الجمهور» وحده هو الناقد الحق، فما يقبله من الأدب أو الفن هو وحده الأدب والفن؟ إن منتج الأدب والفن في عصرنا إذ يطلب إليه أن يقدم طعاما لهذه الأجهزة فإنما يكون مفهوما أن يجيء إنتاجه مما يرضى عنه جمهور السامعين أو المشاهدين، والجمهور واحد، وإذن فالإنتاج متشابه مهما تعدد منتجوه.
وإنه لمما يلفت النظر أن القوامين على هذه الأجهزة قد وجدوا أن هنالك قسطا مشتركا بين أذواق الشعوب المختلفة جميعا، فلم يترددوا في مخاطبة هذا القسط المشترك، لتتسع معهم سوق البيع، فهم ما ينفكون يغربلون ويغربلون، ليبعدوا في كل غربلة ما ليس يجد الاستجابة عند أكبر عدد ممكن من المستهلكين. وحاصل هذا كله هو أن يتحدد القسط المشترك تحديدا واضحا، فتعد له المادة الصالحة مقدما، كما تعد الثياب الجاهزة للابسيها.
وقد حدث تغيران كبيران في عصرنا، التقيا معا في تعميق هذا الاتجاه العام نحو توحيد الصورة الثقافية وتثبيتها على «الأوساط»، أما أحدهما فهو زيادة عدد المتعلمين زيادة سريعة، وأما الآخر فهو أن ظفر بالحرية عدد كبير من شعوب كانت سليبة الحرية زمنا طويلا، فكان لهؤلاء وأولئك أثر ملحوظ في أن يكون لهم نصيب من الاستهلاك الثقافي؛ فكان بالتالي محتوما على أصحاب المعايير أن يراعوا ذلك كله عند تشكيلهم للإنتاج الثقافي، بل إن مراعاة هذه الأذواق الجديدة التي دخلت في الميدان، لتحدث أثرها بغير توجيه مدبر، وانظر إلى مدارس الفن الحديث كلها ومدى تأثرها بالفن الإفريقي والفن الآسيوي - في الموسيقى، وفي الرقص، وفي التصوير - كأنما استجاب الفن من تلقاء نفسه إلى الموقف الجديد، فمال نحو فن تزول فيه الميزات الخاصة، وتعم فيه القواعد الأساسية بغض النظر عن اختلاف الأقطار وتفاوت المستويات الثقافية.
وإن هذا الاتجاه نحو التوحيد الثقافي ليعد فرعا بين فروع أخرى لاتجاهات نحو التوحيد أيضا في ميادين أخرى، ففي الميدان الاقتصادي اتجاه قوي نحو تقريب المسافة بين الدخول الدنيا والدخول القصوى، حتى في البلاد الرأسمالية نفسها؛ ولم يعد أحد من ساسة العالم أجمعين يغمض عينيه عن الفارق بين المحظوظ والمحروم، ليأخذ كل من طيبات الحياة بنصيب. وفي الميدان السياسي اتجاه قوي نحو توحيد المصالح، فمن أجل هذا التوحيد نشأت جمعية الأمم المتحدة، وانعقدت مئات المؤتمرات الدولية في كل شأن من شئون الحياة، لتقريب وجهات النظر تقريبا ينتهي إلى اتفاق أو ما يشبه الاتفاق في مسائل التعليم والصحة والعمل وغيرها. وفي الميدان الاجتماعي اتجاه قوي نحو إيجاد التوازن بين الهيئات الداخلة في مجتمع واحد، فنقابات المهن والحرف تسعى للتوفيق بين المصالح، ومسافة الخلف تضيق بين الرجل والمرأة، وبين المدن والريف، وبين العامل بيده والعامل برأسه، والمثل الأعلى عند هؤلاء وأولئك جميعا هو أن تقرب المعايير كلها من نقطة الوسط التي يلتقي عندها بنو الإنسان.
ويستحيل على كاتب أن يستعرض هذه الاتجاهات كلها نحو توحيد المصالح في نقطة الوسط من مصالح الناس، إلا ويأخذه العجب من أن يساير هذه الاتجاهات نفسها صراع عنيف بين المعسكرات السياسية قد يكون من أعنف ما شهد العالم من ضروب الصراع. نعم، إن مسرح التاريخ لم يخل أبدا من شقاق يشق الناس شطرين كبيرين: اليونان والفرس، روما وقرطاجنة، المسيحية والإسلام، الشرق والغرب، إلى آخر هذه الحركات الكبرى التي امتلأت بأخبارها صحائف التاريخ. فإذا شهدنا اليوم صراعا بين الرأسمالية والشيوعية فلا يكون موضع العجب أن يصطرع الناس على مذهب، وقد اصطرعوا على طول الزمن، إنما الذي نعجب له أن يظل هذا التمزق قائما في مجال المذاهب السياسية في زمن أخذ فيه كل شيء آخر ينحو نحو اتفاق وجهات النظر. وإنا لنستوحي التاريخ فيما عسى أن يتمخض عنه هذا الصراع المذهبي فلا يوحي برأي ؛ لأن التاريخ قد شهد الرأيين معا: فإما أن ينتهي الصراع بخضوع أحد الطرفين للآخر كما حدث في الصراع بين روما وقرطاجنة، أو أن ينتهي بتجمد الطرفين معا لانتقال الانتباه إلى بؤرة أخرى، كما حدث في الخلافات العنيفة التي نشبت بين العقائد.
وأعود إلى الموضوع الرئيسي الذي من أجله كتب هذا المقال، فأقول إن تيار التوحيد جارف، يزيل الحواجز بين الأفراد وبين الطبقات وبين الأمم، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. وكل هذا خير إلا إذا أطاح بالرءوس العالية في ميدان الثقافة، فعندئذ هو في رأينا آفة تصيب عصرنا والعصور التالية؛ لأن كل هذه الاتجاهات العصرية هي نفسها من إنتاج صفوة فكرية ممتازة، فإذا محونا الصفوة فمن ذا يشق الطريق وينير السراج؟ إذا قضينا على برومثيوس فمن ذا يهبط من السماء وفي يده قبس البرق ليهتدي على ضوئه الناس؟ لقد ألف الناس أن يستمدوا الهداية من أعلى: من السماء ومن الشوامخ. وإنا لنلحظ اليوم تحولا هو الذي نشفق من نتائجه، وذلك أن القدر قد أخذ يعلو من أسفل ولا يهبط من أعلى، فقد أوشك الناس أن يستغنوا عن توجيه الدعاء إلى السماء بالعناية بالذرات والغدد والناسلات. أوشك الناس أن يستغنوا عمن يوجههم إلى ما يكونهم وقد يكون كل ذلك خيرا إلا في ميدان العلم والفن، فهو ميدان إذا سويت أرضه ليتساوى السهل والجبل، ويستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، لم يعد بين الناس مهتد وهاد، وضل السائرون سواء السبيل.
ونعود إلى «بروقرسطس» صاحب الأسرة ذات الطول المفروض، فنقول إنه لا عيب في أن يجذ القصار ويمط الطوال ليتساوى الناس في شئون معاشهم، لكن العيب هو أن يمتد الجذ والمط إلى عالم الفكر، فيوضع إطار لأصحاب الفكر ويقال لهم: في هذا الإطار فكروا. بل ينبغي أن يترك هؤلاء فيتمددوا على الأسرة ما شاءت لهم أطوالهم، فهنا يجيء الرجل أولا وسريره ثانيا، وبهذا تتفاوت الأطوال حتى يبلغ بعضها مسالك النجم في أطباق السماء، وإن بقيت الكثرة فوق الأرض زاحفة على بطونها ابتغاء طعام وشراب .
موقف ابن خلدون من الفلسفة1
في الفصل الرابع والعشرين من «المقدمة»، وعنوانه: «في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها» يشرح ابن خلدون رأيه في الفلسفة، فيبدأ بعرض طبيعتها، ثم يعقب على ذلك ببيان أوجه بطلانها؛ وأود - بهذه الكلمة الموجزة - أن أبين أن الطريقة التي دحض بها الفلسفة من شأنها كذلك أن تدحض العلم الطبيعي. ولما كان ابن خلدون حريصا على المنهج العلمي، فهو - إذن - ينقض نفسه بنفسه؛ ولكي يحقق غاية ثانوية بالنسبة إليه - ألا وهي تفنيد الفلسفة - قد فوت على نفسه غاية أساسية له، وهي تأسيس المنهج القائم على الاستدلال العقلي من مشاهدات صحيحة.
الفكرة الأساسية عند ابن خلدون - فيما نحن بصدد الحديث عنه الآن - هي أن ثمة طائفتين من العلوم، لكل طائفة منها أداة صالحة لتحصيلها، هما العلوم العقلية والعلوم النقلية. أما الأولى فأداة تحصيلها هي الحواس والعقل، وأما الثانية فسبيلها إلينا هو الوحي. ويقع الخلط إذا نحن حاولنا أن نستخدم الأداة الأولى في المجال الثاني؛ يقول: «اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلا وتعليما هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان، يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه. والأول هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها، وأنحاء براهينها، ووجوه تعليمها، حتى يقفه نظره (أي يطلعه) ويحثه على الصواب من الخطأ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل، إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، بوجه قياسي، إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل. وهو نقلي، فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه.»
2
إلى هنا لا اعتراض لأحد على تحديد المجال المخصص للعقل بالعلوم الطبيعية أولا، ثم باستنباط النتائج التي تلزم عن المسلمات الموحى بها والمنقولة عن السلف في العلوم الشرعية ثانيا؛ «وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه - كما يقول ابن خلدون عند حديثه عن علم الكلام
3 - «بل العقل ميزان» صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد، والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره؛ فإن ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأي الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال». وهذا قول حق وجميل من ابن خلدون، وإن كنت أراه غير موفق في التشبيه بميزان الذهب الذي يراد له أن يزن الجبال، لأن وزن الذهب ووزن الجبال هما حقيقتان من صنف واحد، وليس بينهما من الفرق في النوع ما بين المعرفة التي يحصلها العقل بوسائله.
لكن ابن خلدون قد تصور - في موضع آخر من «المقدمة»، وذلك عند حديثه في علم الإلهيات، الفصل الحادي والعشرون
4 - أن العقل وإن يكن معزولا عن الشرع - على حد تعبيره - إلا أنهما قد يتنافسان في مجال واحد، وعندئذ ينبغي - في رأيه - أن نقدم حكم الشرع على حكم العقل، وأن «لا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه.»
ننتقل بعد هذه المقدمة إلى موضوعنا الرئيسي، وهو موقف ابن خلدون من الفلسفة، ثم تعقيبنا على هذا الموقف؛ يقول - في الفصل الذي عقده لذلك - ما مؤداه أن قوما من عقلاء النوع الإنساني قد زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، يدرك بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الإيمانية إنما يكون بالرجوع إلى النظر العقلي، وهؤلاء يسمون فلاسفة؛ وهؤلاء الفلاسفة قد وضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره عند التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق.
وخلاصة رأيهم أن العقل هو الفيصل في الأمور، وأن طريقة العقل هي أن ينتزع المعاني المجردة من الموجودات الحسية، فيجيء كل معنى مجرد صالحا لأن ينطبق على جميع مفردات النوع الواحد «كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع.» وتسمى هذه المعاني التي جردناها من المحسوسات بالمعقولات الأوائل؛ ثم تجرد من تلك المعاني الكلية معان أخرى أعم منها، ومن هذه المعاني الأخرى تجرد معان ثالثة، وهلم جرا، إلى أن ينتهي التجريد بنا إلى المعاني البسيطة الكلية، المنطبقة على جميع المعاني والمفردات الجزئية؛ ولا يكون منها تجريد إلى ما هو أبسط منها - إذ هي قمة التجريد والبساطة - وهذه المجردات كلها إذا ما تآلف بعضها مع بعض، كان الحاصل هو «العلوم» وهي تسمى بالمعقولات الثواني.
ويرى الفلاسفة أنه إذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة - أي في العلوم - نظرة تقوم على البرهان العقلي اليقيني، استطاع أن يتصور الوجود على حقيقته؛ ثم يزعم الفلاسفة - هكذا يقول ابن خلدون - أن سعادة الإنسان مرهونة بهذا الإدراك العقلي للموجودات كلها؛ وهو يستنكر هذه النتيجة التي يراها عجيبة، وهي أن يكون الإنسان قادرا - بحكم عقله وحده - أن يصل إلى التمييز الخلقي بين الفضيلة والرذيلة، حتى «ولو لم يرد شرع» يعينه على هذا التمييز. ولو صح هذا لاستغنينا بالعقل عن الشرع، وهو عنده محال.
هذا هو موجز رأي ابن خلدون فيما تؤديه الفلسفة وما تنتهي إليه. وأما أوجه البطلان في ذلك - كما يراها - فيمكن تلخيصها فيما يلي: (1)
إن اعتماد الفلسفة على العقل وحده فيه قصور عما وراء ذلك من «رتب خلق الله»؛ وفي اكتفاء الفلاسفة بالعقل شبه باكتفاء الطبيعيين بالأجسام المادية وحدها دون العقل والنقل معا؛ فهؤلاء يعتقدون أن ليس وراء المحسوسات شيء، وأولئك يعتقدون أن ليس وراء المعقولات شيء، فهما في قصور النظر صنوان.
وشرح ذلك أننا في المجال الفلسفي نفرق بين ثلاث سبل للمعرفة، هي: الحواس، والعقل، والحدس؛ فالمعرفة التي سبيلها الحواس هي تلك الانطباعات التي تنطبع بها العين والأذن وغيرهما من أعضاء الحس، وهي ما يسمونه بالملاحظة الخارجية، أو بالمشاهدة، التي هي ركن أساسي في منهج العلوم الطبيعية؛ وأما المعرفة التي سبيلها العقل، فهي تلك التي نستخلصها بالاستدلال؛ ولكن مم نستدل؟ إننا إما أن نستدل من المعلومات الأولية التي جاءتنا عن طريق الحواس، وذلك هو ما يحدث في مجال العلوم الطبيعية؛ أو أن نستدل من حقيقة كلية مفروضة ومأخوذة بادئ ذي بدء مأخذ التسليم، وذلك هو ما يحدث في مجال العلوم الرياضية، أو ما يجري مجراها من علوم أخرى تقوم على الاستنباط كالفقه مثلا؛ وأما المعرفة الحدسية فهي التي يحصلها الإنسان بالعيان المباشر للحقيقة المدركة، فلا هو إدراك بإحدى الحواس الظاهرة، ولا هو إدراك باستدلال عقلي يسير في خطوات ينتقل بها من المقدمات إلى النتائج، ولكنه إدراك يتم بالمواجهة المباشرة التي ينكشف بها الحجاب بين الذات المدركة والموضوع المدرك.
وهنالك طائفة من رجال الفكر من رأيها أنه محال على الحواس، وعلى العقل - إما متفرقين أو مجتمعين - أن يصلا إلى إدراك الحقيقة في جوهرها؛ لأن جوهر الحقيقة كيفي، ولا يدرك الإنسان الكيف إلا بوجدانه، وهو ما يسمونه اصطلاحا «بالحدس»؛ فلئن كانت الحواس والعقل معا يدركان من الأشياء ظواهرها، فالحدس وحده هو الذي يدرك الحقيقة من باطن.
وابن خلدون وهو من هذه الطائفة، وعلى أساس مذهبه في صدق المعرفة الحدسية وحدها في الموضوعات التي تجاوز الظاهر، تراه يفند الفلسفة، على اعتبار أن الفلسفة تقيم بناءها على العقل وأقيسته، مع أنها تتعرض لموضوعات لا تخضع لهذا الإدراك العقلي القياسي؛ وهو نفسه الرأي الذي نادى به وسبقه إليه الإمام الغزالي في تفنيده للفلسفة.
ولا يسعني في الحق إلا أن أعجب في هذا الصدد لقول القائل إن الفلسفة تبني بناءها على أساس الأقيسة العقلية، ولذلك فهي باطلة من حيث إنها تستخدم القياس العقلي فيما لا يصلح له؛ أقول إنه لا يسعني إلا أن أعجب لرأي كهذا، لأن القياس العقلي لا يتم أبدا إلا بافتراض قيام مقدمة أو مقدمات نقيس عليها لننتزع النتائج اللازمة عنها؛ فمن أين يأتي الفلاسفة بمقدماتهم التي يبنون عليها أقيستهم العقلية هذه؛ إنهم يأتون بها إما عن طريق الحدس لما يسمونه بالمبادئ الأولى - ذلك إن كانوا من زمرة الفلاسفة المثاليين - وإما عن طريق المعطيات الحسية إن كانوا من زمرة الفلاسفة التجريبيين، ومعنى ذلك أنه إذا اشترط مشترط أن يكون الحدس هو مصدر المعرفة الحق، فهو باشتراطه هذا لا يهدم الفلسفة، ولكنه يتحيز لفريق من الفلاسفة دون فريق.
نعم قد يكتفي الإنسان المدرك بوجدانه حقيقة ما . قد يكتفي بهذه الحقيقة التي أدركها، وقد يدمج ذاته فيها، وعندئذ يقال عنه إنه من جماعة المتصوفة؛ ولكنه أيضا قد لا يكتفي بذلك، بل يعود فيصب عليها عملية القياس المنطقي لينتزع منها ما يترتب عليها من نتائج، وعندئذ يقال عنه إنه فيلسوف، وفي ظني أنه لا يجوز لنا أن نرفض الأقيسة العقلية ونرميها بالبطلان، إلا إذا رفضنا معها المبدأ الأول الذي أدركناه بالحدس بادئ ذي بدء. (2)
إن في تجريدنا للمعاني الكلية من الموجودات الحسية، ثم في زعمنا بعد ذلك أن الأولى مطابقة للثانية - وهو «ما يسمونه بالعلم الطبيعي» - لقصورا؛ إذ «إن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة - كما في زعمهم - وبين ما في الخارج، غير يقيني؛ لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها. ولعل في المواد ما يمنع مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي.» ويمضي ابن خلدون في اعتراضه هذا حتى ينتهي إلى القول بأنه حتى لو سلم بانطباق المعاني المجردة على الطبيعة الخارجية «إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها، إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه (أي ترك المسلم ما يعنيه إلى ما لا يعنيه) فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا، فوجب علينا تركها.»
وهذه هي أهم نقطة أردت إبرازها؛ لأننا لو أبطلنا الفلسفة على أساس أنها تجرد من المحسوسات معقولات، ثم تزعم أن هذه المعقولات مطابقة للمحسوسات، مع ما بين الجانبين من فارق كبير؛ أقول إننا لو أبطلنا الفلسفة على هذا الأساس، فقد أبطلنا بالتالي العلوم الطبيعية كلها، بما فيها علم الاجتماع الذي أراد ابن خلدون أن يقيم بناءه.
نعم إن مشكلة العلاقة بين الصورة الذهنية من جهة ومادة الأشياء العينية من جهة أخرى، هي مما قد اختلفت فيه مذاهب الفلسفة، اختلافا شطرهم فريقين أساسيين: ففريق يرى أن المطابقة بين الصور الذهنية والأشياء الخارجية أمر محال، لهذا الاختلاف بين الجانبين، الذي ذكر ابن خلدون شيئا منه؛ وفريق آخر يذهب إلى أن الصور الذهنية إن هي إلا صور لمادة، فلو لم تكن مادة لما كانت صور.
وقد كان من حق ابن خلدون أن يختار لنفسه تأييد الفريق الأول، دون الفريق الثاني؛ لكنه لو فعل ذلك، لكان: أولا: آخذا بأحد الاتجاهات الفلسفية، لا مبطلا للفلسفة على إطلاقها. وثانيا: لو فعل ذلك لقطع على نفسه الطريق الذي يحقق له غايته الرئيسية، وهي أن يكون معدودا من علماء الاجتماع؛ لأن العلم - كائنا ما كان موضوعه - يفرض - أساسا - أن قوانينه العامة صالحة للتطبيق على الواقع، أي أن الصور العقلية مطابقة بوجه من الوجوه لمادة العالم الخارجي. (3)
والوجه الثالث من أوجه بطلان الفلسفة عند ابن خلدون، هو أنها تبحث أيضا - إلى جانب بحثها في الموجودات الحسية - «في الموجودات التي وراء الحس، وهي الروحانيات، ويسمونه العلم الإلهي، وعلم ما بعد الطبيعة.» مع أن هذه الموجودات مجهولة في ذواتها «ولا يمكن التوصل إليها، ولا البرهان عليها، لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية، إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى، فلا يتأتى لنا برهان عليها إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها.»
ومرة أخرى نقول إن ابن خلدون من حقه أن يقول هذا كله بالنسبة إلى الموجودات الروحانية، لكنه إذ يقول ذلك عنها، فهو يسلك نفسه بين فريق من الفلاسفة دون فريق، ولا يكون مبطلا للفلسفة على إطلاقها؛ وذلك لأن الفلسفة قد سارت في أحد طريقين رئيسيين بالنسبة إلى هذا الموضوع: فطريق منهما يؤدي بأصحابه إلى أن في مستطاع الإنسان إدراك هذه الحقائق التي هي وراء الطبيعة، إدراكا يجعلون الحدس أداته، وهؤلاء هم الفلاسفة المثاليون والفلاسفة العقليون جميعا؛ وطريق آخر يؤدي بأصحابه إلى استحالة أن يدرك الإنسان إلا ما قد تنطبع به حواسهم من الموجودات الخارجية، وأولئك هم الفلاسفة التجريبيون؛ وأكرر القول بأن ابن خلدون من حقه أن يكون من هذا الفريق الثاني الذي ينكر قيام علم ما بعد الطبيعة، دون أن يتنكر بهذا للفلسفة من حيث هي كذلك. ولئن كان من رأي ابن خلدون أن إثبات الموجودات الروحانية لا يتعدى ما نراه كائنا في نفوسنا نحن، فمن التجريبيين من يقول هذا بعينه، وكل ما في الأمر هو أننا لا يجوز أن نجاوز مجال الإدراك الذاتي، لنزعم أن ما ندركه في ذواتنا إنما يدل على ما هو موجود في الخارج حقا.
وليطمئن ابن خلدون؛ فقوله النافذ بأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية لا يكون ممكنا إلا فيما هو مدرك لنا، ولما كنا لا ندرك الذوات الروحانية، فليس في وسعنا أن نجرد منها ماهيات أخرى. أقول إن قوله النافذ هذا هو قطب الرحى من فلسفة «كانت»، وهو أساس الفلسفة الوضعية كلها. ونريد بهذا أن نؤكد أن وجهة النظر التي أخذ بها ابن خلدون في هذا الموضع، هي «فلسفة» وليست هي مما يبطل الفلسفة ويعلن فسادها.
غير أن وجه التناقض عند ابن خلدون، أنه لم يثبت على موقف واحد إزاء تلك الكائنات الغيبية المجهولة لنا بحكم كونها غيبية؛ فلو أنه قال لا حيلة لنا إزاءها إلا ما يقال لنا عنها بطريق الوحي الذي يوحى به للأنبياء، لما كان في ذلك من بأس، لأنه عندئذ كان سيحيلها إلى منطقة الإيمان وبذلك ينتهي أمرها؛ لكنه عز عليه ألا يجعل للإنسان قدرة على إدراكها بأداة إدراكية خاصة بها، فيقول عن إدراك الفطرة (في المقدمة السادسة) إن «للنفس استعدادا للانسلاخ من البشرية إلى الملاكية، لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات في لمحة من اللمحات، فللنفس في الاتصال جهتا العلو والسفل، وهي متصلة بالبدن - من أسفل منها - وتكتسب به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل. ومتصلة - من جهة الأعلى منها - بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية.»
5 (4)
والوجه الرابع من أوجه بطلان الفلسفة عند ابن خلدون ما تذهب إليه من أن السعادة مرهونة بالعلم علما عقليا بحقيقة الوجود؛ ومن رأيه أنها متوقفة على «امتثال الإنسان ما أمر به من الأعمال والأخلاق» وإلا لما كان للشرع مسوغ؛ ولابن خلدون في تحليل مصدر السعادة شرح طويل، لكن الذي يلفت النظر فيه هو محاولته البرهنة على أنها لا تنبني على الإدراك العقلي، إذ الإدراك العقلي معتمد أساسا على الإدراكات الحسية، وهذه بدورها نتيجة لحياة البدن، فكيف تكون السعادة صادرة عن نشاط جسمي، مع أن شرطها هو مقاومة الجسم ونشاطه؟ وهذا كلام لا يتسق مع عالم يجعل منهجه المشاهدة مصدرا وتطبيقا.
على أن للفلسفة - في رأيه - بعد هذا كله ثمرة مفيدة، وتلك أنها تشحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجج، لتحصيل ملكة البرهنة السديدة؛ «لأن نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان» - على حد تعبيره - هو شرط عملية التفلسف بكل ما فيها من علوم طبيعية ورياضية؛ فلا بأس في دراسة الفلسفة على شرط التحرز من مزالقها «وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقل أن يسلم لذلك من معاطيها.»
6
هكذا يختم ابن خلدون حديثه في الفلسفة، ولو صحت هذه النظرية لذهبت الفلسفة وذهب معها العلم الذي كان ابن خلدون من أساطينه.
فلاسفة معاصرون
كان الناشئ الإسباني الصغير قد تأثر بأبيه في إسبانيا أعمق الأثر قبل أن يعبر المحيط مع أمه إلى أمريكا؛ ذلك أن الوالد كان يصطحب ابنه الصغير في تنزهاته، ويحاول أن يبذر فيه بذور الأفكار الرئيسية التي كان يعتقد في صوابها، فبذر فيه كراهية للتفكير التأملي الشاطح، وحبا للتفكير القائم على الوقائع المباشرة، كما بث فيه - في نفس الوقت - حبا للشعر وتشككا في العقائد التي يولدها الخوف من المجهول ثم تنزل من عقول الجاهلين كأنها الحق اليقين.
فما أن ذهب ناشئنا إلى أمريكا وبدأ حياته الدراسية، حتى بدت منه بوادر النبوغ وأمارات التفرد بخصائص تميزه من بقية الزملاء، فهو - على خلاف هؤلاء الزملاء - يحب الدراسة الجادة في العزلة الهادئة، ولا يطمئن نفسا إذا ما وجد نفسه في حشد من الناس، حتى تعرض بسبب هذا الشذوذ لسخرية الزملاء الذين لا يرضيهم إلا أن يكون الكل سواء. لكن كان لفيلسوفنا الناشئ من حدة اللسان وغضبة الثائر ما كفل له الوقاية من لذعات الساخرين.
فلما فرغ سانتيانا من دراسته الثانوية ودخل الجامعة - جامعة هارفارد - وجد الفرصة سانحة لإشباع رغبتيه معا: رغبته في الدراسة الجادة، ورغبته في العزلة. وكان حتى ذلك الحين يعاني صراعا في نفسه عن الموقف الذي يقفه إزاء الإيمان بالدين: أيتنكر له ويتشكك فيه كما أوصاه أبواه؟ أم يفيء إلى ظله الوارف المريح؟ ولبث كذلك حتى فرغ من الدراسة الجامعية، وعندئذ حدد لنفسه موقفا صريحا، ولم يعد - كما كان من قبل على حد تعبيره هو - «واقفا من الكنيسة عند بابها.» لا يدخلها ولا يغادرها، إنه الآن فقط استقر قراره: نعم إن الإيمان الديني - كما قال له أبواه - من وهم الخيال، ولكنه خالف أبويه حين قال لنفسه: وماذا يعيب وهم الخيال؟ إن خلق الخيال البديع أمر لا مندوحة لنا عنه، ما دمنا لا نخلطه بأمور الواقع فنظنه منها. لا بل إن أمنيته أصبحت واضحة المعالم أمام عينيه، وهي أن يكف عن الشطح فيما هو فوق الطبيعة، وأن يكف عن الغوص في جلبة الحياة الواقعة، ليلوذ بعزلة يستطيع فيها أن يبدع بخياله صورا يعيش معها وفيها. وفي تلك الصور التي خلقها وأبدعها جوانب فلسفته وأركانها.
لم يكد سانتيانا يظفر بالدكتوراه في الفلسفة من جامعة هارفارد - وكان من بين أساتذته هناك وليم جيمس وجوزيا رويس - حتى عين بالجامعة نفسها محاضرا لمدة تسع سنوات، فأستاذا مساعدا لمدة تسع سنوات أخر، فأستاذا لكرسي الفلسفة بالجامعة بعد موت أستاذه جوزيا رويس. ولبث يشغل منصب الأستاذية حتى غادر هارفارد سنة 1912م، وكان عندئذ قد أوشك على الخمسين.
لم يكن فيلسوفنا سعيدا إبان مقامه بهارفارد؛ فلئن أحب الدراسة لذاتها، فقد كره التدريس، فتراه في القصة الوحيدة التي كتبها يقول عن بطلها إنه اضطر إلى مهنة التدريس لأنه لم يجد صنعة أخرى يشتغل بها. ويقول أحد أشخاص القصة: «إنه ينبغي للناس إما أن يتولوا تعليم أنفسهم بأنفسهم، أو أن يظلوا جاهلين، والكثرة الغالبة منهم تفضل البديل الثاني.» وهكذا نظر سانتيانا إلى تدريسه بالجامعة نظرته إلى الواجب الكريه الذي لم يكن له منه بد ليعيش أولا، وليدخر ما يعينه فيما بعد على حياة العزلة. وفي ذلك يقول: «الحق أني كنت دائما على غير طبيعتي في التدريس وفي المجتمع، ففي كليهما كنت أفتعل ما أقول افتعالا.» ولما كان فيلسوفنا وحيدا لم يتزوج قط، وعاش حياة زهد لا ترف فيها ولا إسراف، فقد استطاع أن يدخر ما يمكنه من الفرار من مهنته وهو لم يزل في سن صغيرة نسبيا، ذلك فضلا عما أخذ يأتيه من أرباح من كتبه المنشورة.
ويروي أنه ذات يوم، بينما كان في غرفة المحاضرة يلقي درسه على طلابه، حانت منه التفاتة خلال النافذة إلى الخارج، فنظر إلى طلابه وقال: «إنني على موعد مع الربيع.» وخرج من قاعة الدرس بخطوات سريعة ولم يعد بعدها أبدا. سافر إلى أوروبا حيث أقام حينا في أكسفورد (وكان ذلك إبان الحرب العالمية الأولى) وحينا آخر وأخيرا في روما، وبين الحينين أخذ يتنقل هنا وهناك في ربوع أوروبا، وخلال فترات عزلته الطويلة أخرج مؤلفاته الفلسفية الهامة التي منها يتكون مذهبه. فقبل مغادرته لأمريكا كان قد أصدر كتاب «الإحساس بالجمال
The Sense of Beauty » عام 1896م (وهو مترجم إلى العربية) وكتاب حياة العقل
The Life of Reason
في خمسة أجزاء عام 1905م، وبعد مغادرته لأمريكا أصدر مؤلفه العظيم «عوالم الوجود
Realms of Being ». ومات جورج سانتيانا في سبتمبر عام 1952م، وكان عندئذ قد بلغ من العمر تسعة وثمانين عاما.
فلسفة سانتيانا فلسفة طبيعية تفسر الطبيعة بنفسها؛ فهو يذهب - كما يذهب الفلاسفة الواقعيون - إلى أن وعي الإنسان بشيء ما من أشياء العالم الواقع دليل على وجود ذلك الشيء كما هو في ذاته خارج الذات الواعية له، فمعرفة الإنسان للشيء الذي يدركه هي صورة تمثل ذلك الشيء تمثيلا صحيحا، على أن الإنسان إذ يتصل بالأشياء ليدركها، فإنما يتصل بها اتصالا مباشرا لا تكون فيه حلقة وسطى بين الذات العارفة والشيء المعروف، فإذا كنت - مثلا - أدرك هذا القلم في يدي وهذه الورقة أمامي، فلا بد أن يكون القلم والورقة موجودين وجودا حقيقيا لا يجوز الشك فيه.
فإذا سأل سائل - كما يسأل الفلاسفة: ومن ذا أدراك حين تعي مجموعة من الصفات مجتمعة، كلون القلم وشكله وصلابته بين أصابعك، أن هذه الصفات إنما اجتمعت في شيء خارجي له وجود مفارق لوجود أفكارك الكائنة في ذهنك أنت؟ أليس كل ما تعرفه معرفة مباشرة هو خبرتك أنت التي هي في دخيلة نفسك؟ فما الذي يسوغ لك أن تجاوز هذه الخبرة الداخلية المباشرة لتزعم أن شيئا خارجيا يقابلها؟ أقول إنه إذا سأل سائل سؤالا كهذا، أجاب سانتيانا بما أسماها «الإيمان الحيواني» أو إن شئت فقل: «الإيمان الفطري»؛ ففي كيان الإنسان الفطري مثل هذا الإيمان الذي يؤمن به أن معرفته الداخلية صورة من عالم خارجي موجود وجودا حقيقيا، على اختلاف ما بين الجانبين: فالجانب الداخلي وعي وعقل والجانب الخارجي مادة.
وقد يعود السائل المعترض فيسأل: هل كل ما في الذهن من أفكار يقابله وجود حقيقي في العالم الخارجي؟ ألا يكون في رأس الإنسان أحيانا أفكار ذهنية صرف، لا يقابلها في الخارج أشياء؟ وهنا يجيب سانتيانا: نعم إن أمثال هذه الحالات التي تكون فيها الأفكار بغير مقابل خارجي لا شك في قيامها، ولكن ليس فينا من لا يفرق بين هاتين الحالتين: حالة الفكرة التي يقابلها في الخارج شيء عيني، وحالة الفكرة التي لا يقابلها شيء، ولولا الإيمان الفطري الذي ذكرناه، لما استطاع الإنسان أن يفرق بين هاتين الحالتين عندما تكون الفكرتان داخل الرأس على حد سواء.
أما بفضل هذا الإيمان الفطري فترانا نفرق بين وجودين: وجود عيني يقابل الأفكار ذوات المسميات الخارجية، ووجود ذهني لمدلولات الأفكار الأخرى التي نعرف أن ليس لها مسميات خارجية.
والفرق الجوهري بين الوجودين: الفكري من جهة والفعلي من جهة أخرى، هو نفسه الفرق بين ما كان أرسطو قد أسماه بالوجود بالقوة والوجود بالفعل؛ فالأول وجود بالإمكان فقط، مستعد لأن يخرج إلى الفعل إذا ما توافرت الظروف المواتية، والثاني وجود متعين متجسد في أشياء واقعة. وواضح أن الموجودات الممكنة أكثر عددا من الموجودات الفعلية، لأن تصور العقل للممكنات لا نهاية له ولا حدود، وأما الموجودات الفعلية فمقيدة بالواقع الكائن المتحقق، فكل موجود فعلى كان من قبل موجودا ممكنا، ثم تحقق، ولكن ما كل موجود ممكن سيلتمس سبيله إلى التحقق الفعلي، ومعنى ذلك أن العالم في صورته الواقعة ليس هو العالم الوحيد الذي كان يمكن أن يكون، بل هناك عوالم أخرى لا نهاية لعددها، يمكن أن نتصور قيامها، وما العالم الفعلي إلا واحد من تلك الممكنات، امتاز من دونها بكونه قد خرج من الإمكان إلى الواقع المتحقق.
هناك إذن عالمان: عالم الممكنات وعالم الأشياء المتحققة، وهذا العالم الثاني مسبوق دائما بالعالم الأول؛ إذ محال على شيء أن يتحقق وجوده في العالم المادي إلا إذا كان قبل ذلك فكرة في عالم ما هو ممكن، حتى إذا برزت إلى الوجود الفعلي حفنة من بحر الممكنات الزاخر، كان لنا بذلك ما نسميه «بالحق»، فما «الحق» إلا الممكن الذي تحقق ظهوره بالفعل، ولكننا قلنا إنه كان يمكن لغيره من الممكنات أن يظهر بدل هذا الذي ظهر فعلا وأصبح «حقا». وإذن «فالحق» أمر عرضي لا تحتمه الضرورة العقلية المنطقية، وأعني بذلك أنه لم يكن هناك ما يحتم أن يظهر هذا الذي ظهر دون سواه، أي أن ما نصفه بأنه «الحق» كان يجوز ألا يحدث حدوثا فعليا، وعندئذ كان غيره هو الذي سيوصف بأنه «الحق».
ونترك طائفة الممكنات التي تحققت في وجود فعلي لنسأل: وماذا عن بقية الممكنات التي لم تتحقق؟ إنها هي التي يطلق عليها سانتيانا اسم «عالم الروح»، لأنه هو العالم الذي يلوذ به الإنسان إذا لم يعجبه العالم المتحقق الواقع، فقد يضيق الإنسان صدرا بهذا الذي حوله من أشياء ونظم، فأين يكون مأواه إلا أن يلوذ بعالم يصوره بخياله ليعيش فيه؟ لكن من أين له العناصر التي ينشئ بها عالمه الخيالي هذا، إذا لم تكن لديه ذخيرة الممكنات التي لم تتحقق في هذا الواقع الكريه إلى نفسه؟ إن الإنسان ليبني لنفسه من هذه العناصر مثله الأعلى الذي - في رأيه - لو تحقق لكان أجمل وأفضل من هذا العالم الفعلي الذي نعيش فيه، وما ذلك المثل الأعلى المتخيل إلا «عالم الروح».
وواضح أن قيمة هذا العالم الأمثل - الذي يصوره الخيال - هي في مجرد تخيله، لا في تطبيقه على الواقع، ولو طبق ونفذ لانقلب «حقا» واقعا، ولم يعد «مثلا أعلى»، ولأصبح نثرا بعد أن كان شعرا. وما ذاك العالم المثالي المتخيل إلا العالم الذي يلوذ به الإنسان من وطأة الواقع، وقوامه ما يرسمه الإنسان لنفسه من شعر ودين، فماذا يصنع الشاعر سوى أن يصور لنفسه جمالا أصفى وأنقى من أي جمال تصادفه عيناه على هذه الأرض؟ ولذلك تراه يضفي على الأشياء أثوابا من عنده لتبدو على غير ما هي عليه في حقيقتها الواقعة، فالشفق رقائق من ذهب، وجدول الماء فضة مذابة، والأرض المزروعة بساط من سندس. ثم ماذا يصنع الدين سوى أن يصور عالما خيرا فيه من الخير ما هو أعظم وأسمى من كل خير في هذه الدنيا الواقعة، فبالشعر يلوذ الإنسان بجمال يخلقه خلقا ليعوض له نقص الواقع، وبالدين يلوذ الإنسان بخير يتمناه ليغنيه عن شر الواقع المشهود، لكن لا ينبغي لهذا الإنسان الشاعر المتدين أن ينسى أن شعره ودينه هما من عالم الممكنات لا من عالم الواقع، هما من المثل العليا المنشودة لا من دنيا الحقيقة القائمة، هما من «عالم الروح» لا من «عالم الحق»؛ ولذلك فستظل هذه المثل العليا من جمال ومن خير رموزا نهتدي بهديها، لا أشياء نداولها ونعالجها في حياتنا اليومية. نعم إن في هذه المثل العليا غذاء لنفوسنا، وخصبا لحياتنا، لكننا إذا زعمنا أنها «حقائق»، واقعة فعندئذ نحط من شأنها، وننزل بها من عالم المثل الأعلى إلى عالم الواقع الأرضي، وعندئذ أيضا يصبح أمرها خرافة وتخريفا بعد أن كان هدى ونورا.
الجمال والخير قيمتان منتزعتان من «عالم الروح» - عالم الممكنات. وأما الحق فقيمة ثالثة تتعلق بما هو موجود وجودا حقيقيا، فلماذا نتطلب من الخير والجمال أن يغيرا من طبيعتيهما ليصبحا من أموار الواقع؟ كأنما يراد أن ينقلبا «حقا» بعد أن كانا «خيرا» و«جمالا»! على أن الخير والجمال إن تشابها في أن كليهما من عالم الممكنات لا من عالم الواقع، فإنهما يعودان فيختلفان فيما بينهما اختلافا بعيدا، فمدار الحكم الخلقي هو ما ينجم عن الفضيلة من نتائج مرغوب فيها، على حين أن الحكم الجمالي لا يستهدف غاية سوى النشوة المباشرة.
ولهذا الاختلاف بين الخير والجمال، كان من غير الجائز أن نخلط بينهما خلطا يجعلنا نتطلب من الجميل أن يكون كذلك خيرا، أو من الخير أن يكون كذلك جميلا. وما أكثر ما نرى الفنان - وهو الذي يصور الجمال - على خلاف مع الأخلاقي، فترى هذا ينقد ذاك قائلا إن فنه لا يؤدي إلى الفضيلة، فيرد الفنان بحق قائلا إن فنه لا شأن له بمعايير الأخلاق، فللجمال قيمة وللخير قيمة، والقيمتان مختلفتان فيما بينهما، كما أنهما في جانب معا يختلفان عن قيمة الحق في جانب آخر. وكذلك قل في الخلاف الذي ينشأ من الخلط بين قيمتي الحق والخير، فإدراك الحق هو من شأن العلم والعلماء؛ لأنهم يصورون الواقع كما يقع، لكن ما أكثر ما نسمع الأخلاقيين ينقدون العلماء، قائلين إن علمهم مناف للفضيلة أحيانا، وذلك حين يرون نتائج العلم مؤدية إلى دمار، وهنا يجيب العالم - بحق - قائلا إن علمه لا شأن له بالفضيلة. وهكذا ترى كيف ينبغي لنا أن نفرق تفرقة واضحة بين القيم الثلاث، ولعل هذه التفرقة أن تكون من أهم مهام الفيلسوف. (2) ألفرد نورث وايتهد
1
كتب ألفرد نورث وايتهد يصف نشأته فقال ما فحواه:
ولدت في الخامس عشر من فبراير سنة 1861م في رامزجيت من مقاطعة كنت بإنجلترا، من أسرة يشتغل معظم أفرادها بشئون التعليم والدين؛ وتلقيت تعليمي في مراحله الأولى على النمط المألوف عندئذ. فاللاتينية تبدأ دراستها من سن العاشرة، واليونانية من سن الثانية عشرة؛ ولو استثنيت أيام العطلة، لقلت إنني لبثت حتى انتصف من عمري عامه العشرون لا أفوت يوما واحدا دون أن أقرأ بضع صفحات من التراث اللاتيني واليوناني، فأستوعبها مضمونا ونحوا. وقد شملت دراستي لذلك التراث - بالطبع - أعلام المؤرخين القدامى؛ وكانت دراستي للرياضة تتخلل الدراسة الكلاسيكية هنا وهناك.
فلما أوشكت أن أكمل من العمر عشرين عاما، بدأت حياتي الجامعية كيمبردج، ولبثت مقيما بها ثلاثين عاما. ومهما بلغت من القول فلن أسرف فيما أنا مدين به لهذه الجامعة في الناحيتين الاجتماعية والعقلية على السواء.
كانت الدراسة في كيمبردج تقوم على أساس التخصص الضيق، فتخصصت في الرياضة بجانبيها: الرياضة البحتة والرياضة التطبيقية؛ لكن قاعات الدرس لم تكن إلا جانبا واحدا من تربيتنا الجامعية، فكانت جوانب النقص الناشئة عن ضيق التخصص، تسد بأحاديث السمر التي لم تكن تنقطع بين الأصدقاء من الطلاب والأساتذة.
ولم يكن الرباط الذي يجمع الأصدقاء في تلك الأحاديث هو تشابه الدراسة بينهم؛ إذ كانت الجماعة الواحدة تضم أفرادا من كافة الدراسات، وكان حديثها يتشقق ويتفرع ويتسع مداه، فيشمل السياسة والدين والفلسفة والأدب، مما حفزنا على تنوع القراءة. وحسبي في ذلك أن أقول: إنني وأنا المتخصص في الرياضة، أوشكت أن أحفظ عن ظهر قلب أجزاء كاملة من كتاب كانط «نقد العقل الخالص»، ولقد نسيت اليوم ما كنت قد حفظته، لأن سحر كانط قد زال عني وشيكا؛ وأما هيجل فلم أستطع قط في حياتي أن أمضي في قراءته، وأذكر أني قد بدأته بدراسة ملاحظاته التي أبداها عن الرياضة، فأدهشني أن أجدها هراء في هراء، كان ذلك حمقا مني بغير شك، لكنني لا أكتب هذا الذي أكتبه الآن لأبرهن على رجاحة عقلي.
وظفرت بالزمالة في كيمبردج سنة 1885م، ثم ازداد الحظ إقبالا، فعينت محاضرا، ولبثت في التدريس بتلك الجامعة خمسة عشر عاما، وتركتها سنة 1910م لأشغل منصب التدريس في جامعة لندن، حيث لبثت أربعة عشر عاما، منها عشرة أعوام - من 1914م إلى 1924م - كنت خلالها أستاذا في الكلية الإمبراطورية للعلوم والتكنولوجيا.
كان أول كتاب أخرجته هو: «رسالة في الجبر» الذي صدر سنة 1898م، فأدى صدوره إلى انتخابي عضوا في الجمعية الملكية سنة 1903م، ثم جاء انتخابي زميلا في الأكاديمية البريطانية بعد ذلك بنحو ثلاثين عاما (1931م) نتيجة لما كنت قد أنتجته في ميدان الفلسفة.
ذلك أن برتراند رسل كان قد أخرج في عام 1903م الجزء الأول من كتابه «أصول الرياضة» فرأي كلانا أن ما كنت أزمع أن يكون مادة الجزء الثاني من كتابي «رسالة في الجبر» وما كان هو يزمع أن يكون مادة الجزء الثاني من كتابه «أصول الرياضة» يلتقيان في موضوعات بعينها، فاتفقنا أن نشترك في إخراج مؤلف واحد، وظننا أن سنة واحدة تكفينا لإنجاز العمل، لكن أخذ الأفق يتسع أمام أبصارنا حتى لقد لبثنا ثماني سنوات أو تسعا قبل أن نخرج معا كتابنا «برنكبيا ماثماتكا»، (ولنطلق عليه «أسس الرياضة» تمييزا له من أصول الرياضة الذي أخرجه رسل وحده). وكان رسل قد التحق بكيمبردج طالبا في أوائل العشرة الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقد استمتعت - كما استمتع العالم كله - بألمعيته، تلميذا لي بادئ الأمر، فزميلا وصديقا. وكان عاملا قويا في مجرى حياتنا إبان مقامنا في كيمبردج، لكننا اختلفنا بعدئذ في وجهة النظر - الفلسفية والاجتماعية معا - فأدى اختلافنا ذاك إلى امتناع التعاون في عمل مشترك.
وفي سنة 1924م - وكنت قد بلغت الثالثة بعد الستين - شرفت بدعوة جاءتني من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، أن أكون أستاذا بقسم الفلسفة فيها.
وظل وايتهد مقيما بالولايات المتحدة منذ ذلك الحين حتى وافته منيته سنة 1947م، وكان قد بلغ من عمره السابعة بعد الثمانين؛ فكانت تلك الفترة - ومداها ربع قرن - هي فترة الإنتاج الفلسفي الناضج؛ لأنه وإن يكن قد أخرج وهو في أرض الوطن مؤلفات هامة في التحليلات الرياضية المنطقية، إلا أن مذهبه الفلسفي لم يكتمل بناؤه إلا وهو في أمريكا إبان المرحلة الأخيرة من حياته، فهناك أخرج كتابه الذي عرض فيه لباب فلسفته، وهو: «التطور وعالم الواقع» (1929م) ومن مؤلفاته الأخرى «العلم والعالم الحديث» (1926م) ومغامرات أفكار» (1933م).
ولو شئنا أن نصف مهمة الفلسفة من وجهة نظره، لما وجدنا عبارة أفضل من عبارته التي يقول فيها: «الفلسفة هي محاولة التعبير عن الكون اللامتناهي بأداة اللغة رغم قصورها.»
2
لم تكن فلسفة وايتهد تلقى من اهتمام الباحثين إلا قليلا، وذلك يرجع أولا إلى الموجة المعاصرة في الفلسفة ، أعني تلك الموجة التي تمقت الميتافيزيقا مقتا يجعلها لا تصبر على فيلسوف مثل وايتهد، إلا يكن شبيها بالفلاسفة الميتافيزيقيين القدامى في مضمون بناءاتهم الفلسفية، فهو على كل حال ينزع منزعهم في طريقة التناول، ويرجع ثانيا إلى العسر الشديد الذي يصادفه القارئ في فهم فلسفته، وهو عسر مرده إلى مصطلحاته الجديدة التي أراد أن يسوق بها فكره حتى لا يختلط معناه بمعاني الألفاظ الدارجة في الحياة اليومية؛ فنفر الناس من دراسته بادئ ذي بدء نفورا أنساهم أنه هو شريك برتراند رسل في تأليف «أسس الرياضة»، كما أنساهم أن كتاباته الميتافيزيقية الأخيرة إن هي إلا امتدادات وتطبيقات للمنطق الرياضي الذي اشتغل به في الشطر الأول من حياته الفكرية، لكن الأعوام الأخيرة قد شهدت تغيرا في موقف الدارسين إزاء وايتهد، فرأينا المؤلفين والمعلقين يتجهون إلى ما كانوا قد أهملوه؛ وذلك لأنهم وجدوا في كتاباته مناقشة دقيقة عميقة لكثير من المشكلات التي يهتم بها فلاسفة العلم في يومنا الراهن، فلعله أن يكون من طليعة الفلاسفة الذين استخدموا المنطق الرمزي في معالجتهم للمشكلات المجسدة التي تصادفنا في مجرى الخبرة.
لقد كان الظن بادئ ذي بدء أن وايتهد بدأ حياته الفكرية رياضيا؛ علمي التفكير، لكنه انتهى آخر الأمر إلى شطحات ميتافيزيقية لا تمت بسبب إلى حياته العلمية الأولى. لكن الأبحاث التي أخذت هذه الأعوام الأخيرة تترى عن فلسفته، توضح كيف يتسق إنتاجه أولا مع آخر، فلا فرق بين علميته الأولى وميتافيزيقيته الأخيرة في المبدأ والأساس، بل هما تعبيران عن فكر واحد متسق مع نفسه.
والحق أن فيلسوفنا قد اجتاز مراحل ثلاثا يمكن تمييزها في مؤلفاته.
فمرحلة أولى اهتم فيها بالرياضة والمنطق الرياضي. ومرحلة ثانية نظر خلالها في الفلسفة الطبيعية لينتهي إلى نتيجة عامة، وهي أن المفاهيم الرياضية والفيزيائية جميعا يمكن تعقبها إلى جذورها الأولى في الأحداث التي تقع لنا في خبراتنا.
ومرحلة ثالثة وأخيرة، هي المرحلة الميتافيزيقية التي بدأت بانتقاله من لندن إلى جامعة هارفارد بالولايات المتحدة. وهذه المرحلة الأخيرة هي التي أثارت عليه النقد وجلبت إليه إهمال الفلاسفة أول الأمر، لا سيما أولئك الذين ينزعون بفلسفتهم نزعة علمية صارمة.
وسبيلنا الآن أن نعرض أهم أركان المذهب الفلسفي الذي جاء به وايتهد.
3
ونبدأ العرض بشرح فكرته عن المهمة الحقيقية التي يؤديها التفكير الفلسفي؛ ورأيه في ذلك - كما شرحه في مقدمة كتابه «التطور وعالم الواقع» - هو أننا بالتفكير الفلسفي نركب إطارا فكريا يصلح أن نفسر به كل ما عساه أن يقع لنا في مجال الخبرة. فإن كان هذا هكذا، فلا فرق في المنهج بين الفلسفة والعلم؛ أليس المنهج العلمي يقتضينا أن نبدأ بمعطيات المشاهدة، ثم نصوغ لها أفضل نظرية ممكنة لتفسيرها، ثم نعود بهذه النظرية المفترضة إلى عالم الواقع لنلتمس لها التطبيق على وقائع جديدة؟ فهكذا أيضا منهج التفكير الفلسفي عند وايتهد: حصيلة من معلومات أولية، نغترفها من الخبرة المباشرة، نستوحيها في إقامة خير إطار فكري ممكن، يفسر لنا ما قد عرفناه من ظواهر الوجود، ثم عودة بهذا الإطار الفكري إلى حقائق أخرى في العالم نلتمس لها تفسيرا في حدود ذلك الإطار لعلنا نفلح. وكل الفرق بين النظرية في العلم والإطار الفكري في الفلسفة، هو في درجة التعميم والتجريد، فإطار الفلسفة أعم وأكثر تجريدا؛ إذ يراد أن يطبق على رقعة أوسع من الرقعة التي يراد للنظرية العلمية أن تنطبق عليها. أما وجه الشبه بينهما فهو - كما قلنا - ذلك المنهج عند كليهما؛ المنهج الذي يفرض الفرض، ثم يستنبط منه نتائجه التي يتوقع لها أن تصدق على مشكلات الواقع الفعلي.
ولو تأملت هذا المنهج المقترح للتفكير الفلسفي، لنهض أمامك سؤال يريد الجواب:
إذا كان الإطار النظري الذي نقيمه في رءوسنا لينطبق آخر الأمر على عالم الواقع، مصوغا - كما يريد له وايتهد - في دقة الرياضة وثباتها وضرورتها، أفيكون معنى ذلك أن العالم الخارجي التجريبي لا بد له أن يسكن على حالة واحدة، فلا سير ولا تطور ولا إبداع، لكي يلتئم مع القالب الرياضي الذي تفرضه عليه فرضا؟
الحق أن وايتهد يجعلها صريحة، بأن إطار المنطق الخالص ينزل على الكون كأنه قالب من حديد يحصر مجرى العالم بين جوانبه؛ وأن شبكة العلاقات الرياضية الخالصة تفرض نفسها فرضا لا فكاك منه على عالم الأشياء؛ وهو يعد أسبقية العلاقات المنطقية الرياضية على عالم الحوادث بمثابة المبدأ الأول في بنائه الميتافيزيقي.
ومعنى ذلك أن الطبيعة مشيدة على نسق متصل الأطراف كهذه النسقات التي نراها في الرياضة، أي أن الحادثات العابرات إنما يتصل بعضها ببعض على نحو يربطها ويضمها في وحدة منطقية كالتي توحد بين أجزاء العلم الرياضي. ولكن لا سبيل إلى إنكار ما يشع في العالم الطبيعي من جديد يخلق بعد أن لم يكن. ولولا هذا الجديد لوقف العالم حيث هو إلى أبد الآبدين؛ لكنه يتقدم ويتطور بفضل هذا الجديد الذي ما ينفك ينشأ ويظهر، فكيف إذن نوفق بين إطار منطقي رياضي أزلي أبدي ثابت من جهة، وطبيعة متغيرة متطورة من جهة أخرى؟
وإن وايتهد لعلى وعي كامل بما يبدو كأنه مفارقة، فيقول صراحة: إن للطبيعة جانبين يبدوان وكأنما هما النقيضان المتعاندان، ومع ذلك فكل منهما جوهري لا غنى عنه؛ أما الجانب الأول فهو التطور والتقدم الخلاق، الذي هو جانب الصيرورة في الطبيعة، وأما الثاني فهو دوام الأشياء على صورها التي نعرفها بها؛ فلا سبيل إلى فهمنا للطبيعة إلا بهذين معا : صيرورة الأشياء من جهة، والثبات المنطقي لها من جهة أخرى؛ وإننا لنخطئ إذا نحن فصلناهما بحيث ننظر إلى كل منهما على حدة، كأنما نقول إن الحق أحد أمرين فإما صيرورة وإما ثبات.
نعم إنه لا سبيل إلى تفسير الطبيعة وأحداثها إلا بهذين المبدأين معا، فلا تفسير - عند وايتهد - إلا إذا استطعت أن تضع الحادثة المراد تفسيرها في نسق واحد يجمعها مع غيرها، لترى أين تقع تلك الحادثة بالنسبة إلى ما عداها؛ وإذن فقيام الإطار النسقي النظري أمر لا مندوحة عنه، لنضع فيه كل حادثة ترد في مجرى الخبرة ويراد فهمها؛ وإلا فكيف يكون فهم لحادثة منتزعة من محيطها؟ وإذا قلنا إنه محال على كيان طبيعي أن يبتر عن كل ما عداه، فقد قلنا إنه لا بد لنا من إطار فكري عام نضع فيه الأحداث المتناثرة فتفهم، وهذا الإطار الفكري العام هو من شأن الفلسفة أن تبنيه.
لكن حذار أن نظن، كما ظن الفلاسفة السابقون، أن مثل هذا الإطار الفكري، الذي تقيمه الفلسفة لتفهم به العالم، هو شيء مطلق أزلي أبدي لا يتغير ولا يتبدل؛ كلا، فلا أمل لفيلسوف أن يبلغ هذا المدى؛ وأنى له أن يبلغه وهو مقيد بقيدين: مقيد باللغة التي يصور بها إطاره الفكري، واللغة أبعد ما تكون عن المطلق اللامحدود، ومقيد بخياله البشري المحدود؛ إذن فلنقنع بمبادئ تكون - على أحسن الفروض - تقريبات ندنو بها من المثل الأعلى، ونظل ندنو بها مهتدين بضوء خبراتنا بالعالم وما يجري فيه، فكلما اقتضت تلك الخبرة أن نغير من إطارنا الفكري غيرناه.
ذلك أن البناء الميتافيزيقي الذي نقيمه لنفهم به الطبيعة، لا بد له أن يفسر كل حقائق الخبرة الواقعة، فإن تعذر عليه ذلك، بدلناه بما هو أصلح منه، تماما كما نفعل في مجال العلم: نفرض النظرية لنفسر بها الظواهر، فإما فسرتها وإما عدلناها بما هو أصلح منها للتفسير؛ فهاهنا نلمس الفرق واضحا بين وايتهد وبين أسلافه من الفلاسفة العقليين الذين يشبهونه في تطبيق الرياضة - أو المنطق - على الطبيعة، أعني في تطبيق نسق من علاقات نظرية نقيمه بادئ ذي بدء لنفهم به العالم. أقول إننا نلمس هاهنا الفرق واضحا بين وايتهد وأسلافه العقليين، مثل ديكارت وإسبينوزا، فبينما هؤلاء يجعلون مبادئهم الأولى حقائق واضحة بذاتها لا سبيل إلى الشك فيها أو إلى تعديلها، نرى وايتهد ينظر إلى مبادئه الأولى وكأنما هي شيء سيق على سبيل الاختيار، فإما صلحت فأبقيناها، وإلا بحثنا عن بديل لها أصلح منها.
4
الفكرة السائدة عن فلسفة وايتهد عند معظم شارحيه، هي أنه قد مال آخر الأمر نحو الفلسفة الأفلاطونية؛ فلئن كانت نظرية المثل هي الركيزة الأساسية في فلسفة أفلاطون، وهي نظرية تفصل بين عالمين: عالم النماذج الصورية التي هي أقرب إلى الصيغ الرياضية في ناحية، وعالم الطبيعة المجسدة التي تحاول أن تقترب من تلك النماذج في ناحية أخرى، فكذلك فعل وايتهد حين تصور إطارا رياضيا من علاقات منطقية يفرض نفسه على أحداث الطبيعة؛ وإن الشبه بين الفيلسوفين ليشتد عندما يحدثنا وايتهد عما يسميه «عالم الكائنات الأزلية» فها هنا لا تكاد العين عند النظرة الأولى تفرق بين تلك الكائنات الأزلية عند وايتهد وبين المثل عند أفلاطون؛ ففي كلتا الحالتين نتصور عالما كاملا كمالا رياضيا ومنطقيا، نتصوره قائما منذ الأزل، ليجيء هذا العالم المادي المحسوس فيحاول بصيرورته وتغيره وتطوره وتقدمه أن يدنو من ذلك المثل الأعلى الكامل ما استطاع إلى الدنو من سبيل؛ أو إن شئت فقل إننا في كلتا الحالين نفرض وجود عالمين: عالم الممكنات من ناحية، وعالم الموجودات الفعلية من ناحية أخرى؛ ففي العالم الأول صور لما يمكن للأشياء أن تكون عليه لو بلغت حد كمالها، وفي العالم الثاني موجودات فعلية بما فيها من نقص يبعدها عن الصورة المثلى.
لكننا لو نظرنا إلى فلسفة وايتهد هذه النظرة الأفلاطونية لسلبناه أخص الخصائص التي تميز فلسفته بحيث تجعلها إحدى الفلسفات التجريبية التي تفسر الطبيعة بالطبيعة ولا تلجأ إلى أي شيء خارج الطبيعة أو وراءها أو فوقها؛ فالأمر على حقيقته هو أن وايتهد حين تحدث عن عالم لكائنات أزلية، فإنما أراد به بنية من المنطق المجرد، اشتقها الفيلسوف من الحوادث الفعلية كما تقع في الوجود الخارجي الفعلي، وما بين تلك الحوادث من علاقات. ألسنا نعيش في عالم من أحداث متشابكة في مجرى متصل مكاني زماني؟ جرد من هذا العالم صورة العلاقات التي تتشابك بها أحداثه، يكن لك الهيكل الصوري المجرد الذي يمثل بنية العالم، والذي بوساطته يمكن فهم العالم وتفسيره.
فليست الكائنات الأزلية التي يحدثنا عنها وايتهد بالكائنات ذوات الخصائص الكيفية، كفكرة الصلابة - مثلا - أو فكرة البياض وما إلى ذلك؛ بل هي كائنات غير مخصصة بخصائص، لكنها ترتبط في بناء ذي علاقات معلومة، كما هي الحال - مثلا - حين تبني نسقا رياضيا من رموز ليست بذات مدلول، ومع ذلك فارتباطها مع غيرها في نسق علاقي واحد يجعل لها نمطا معينا. وهكذا وايتهد ينظر إلى الخبرات البشرية، لا من أجل خصائصها الكيفية، بل ليستخلص منها تركيبها الرياضي وبنيتها المنطقية، وهذه هي التي يطلق عليها اسم الكائنات الأزلية؛ فهيكل العلاقات المجردة لا يتضمن ماهيات الأشياء المرتبطة بتلك العلاقات؛ فلك أن تتصور ما شئت من أشياء ما دامت ترتبط بتلك العلاقات الصورية؛ أي أنك لست ملزما بتحديد صفات معينة تميز بها ما نسميه بالكائنات الأزلية، والشيء الوحيد الذي أنت ملزم به هو شبكة العلاقات الرياضية المنطقية التي تصل تلك الأطراف بعضها ببعض، كائنة ما كانت طبيعة تلك الأطراف؛ فالأمر هنا شبيه بالدالة الرياضية ذات الرموز المجهولة الدلالة، مثل س، ص؛ فيجوز لك أن تضع مكان الرموز أي حقيقة شئت ما دامت تتسق مع العلاقات التي تكون بنية الدالة؛ وفي اللحظة التي تضع مكان الأطراف المجهولة حقائق معينة، تتحول تلك البنية الممكنة إلى كائن فعلي مكاني زماني محدد المعالم معلوم الصفات.
وكما أن وايتهد - بكائناته الأزلية - لا يشبه أفلاطون بمثله، فهو كذلك لا يشبه أرسطو بتصنيفه للأجناس والأنواع؛ لأن أرسطو أيضا يقسم ويصنف على أساس الخصائص الكيفية للأشياء، وفي رأي وايتهد أن هذا فيه تفتيت للكون إلى كيفيات مفككة معزول بعضها عن بعض، على حين أن جوهر العالم هو في العلاقات الرابطة، لا في الكيفيات المربوطة؛ فأنت تفهم العالم، لا بأن تعرف أنه مشتمل على ألوان وأصوات ... إلخ، مصنفة أنواعا وأجناسا، بل تفهمه بأن تعرف هيكل العلاقات التي تربط متغيرات في بنية منطقية؛ فعندئذ تصبح الكائنات العلاقية الصورية دالة على ما يمكن أن يكون في أية لحظة زمنية، لا على ما هو موجود بالفعل في إحدى لحظات الزمان.
5
قلنا إن وايتهد يبحث في خبرته عن عناصر يستعين بها على إقامة بناء ميتافيزيقي يشمل الكون كله، فما يصدق على الخبرة المباشرة، يصدق أيضا على الطبيعة بكامل ما فيها من أحداث، وذلك هو ما انتهى به إلى نظرية من أهم جوانب فلسفته، أطلق عليها كلمة من كلماته الاصطلاحية الكثيرة، التي تغمض المعنى على من لا يفهمها، وهي كلمة
ومعناها على الدقة هو انتقال الخصائص من حادثة ماضية إلى حادثة حاضرة، ثم توريث هذه الخصائص نفسها إلى حادثة مستقبلة، وبهذا يتكون الرباط الذي يصل حوادث الماضي والحاضر والمستقبل في خط واحد يظل ينمو ويزداد خصوبة على مر الزمن، لأن خصائص الماضي تظل تتراكم بالانتقال والتوريث من حادثة إلى حادثة. ولست أدري بماذا أسمي هذا كله في كلمة عربية واحدة تقابل الكلمة الإنجليزية، وأقترح مؤقتا كلمة «التشرب» فالحاضر يتشرب الماضي ثم يسقيه للمستقبل فيشربه وهلم جرا؛ لهذا ترى الخط السببي ممتدا متصلا في كل كائن، فهذه الشجرة وهذا النهر وأنا وأنت امتداد من حوادث ماضيها يسبب حاضرها، وحاضرها يرسم طريق السير لمستقبلها.
انظر إلى نفسك من داخل، لتنقل ما تراه في خبرتك إلى الطبيعة بأسرها؛ أفلا ترى نفسك نابضة بالشعور نبضا يصل أمسك بيومك، ثم يمد يومك إلى غدك؟ إن من مثل هذه الصلة تكونت فرديتك الواحدة رغم كثرة مقوماتها، وهكذا قل فيما يسميه وايتهد «بنبضات الطبيعة» - وهو اصطلاح آخر عنده - نبضات الطبيعة التي يراها متمثلة في سير الحوادث سيرا يكون مفردات الكائنات من جهة، ثم تجاوبها بعضها مع بعض من جهة أخرى، فنرى الكائن العضوي يستجيب لبيئته كما نراه حساسا يتلقى مؤثرات بيئته، وهي عمليات تدق فتصبح عند الإنسان إدراكا حسيا وإدراكا عقليا، والأساس واحد في الجميع.
وفي الطبيعة ما يملي مثل هذا الرأي؛ «فنبض الطبيعة» باد في انتقال الطاقة من حادثة إلى حادثة، فترى الإلكترون من كل ذرة يشع سيالا يؤثر به على ما جاوره، كما هو باد في انتقال الأثر الحسي على أطراف أعصابنا، خلال الخيوط العصبية، ثم يدور دورته منتقلا من جزء إلى الجزء الذي يجاوزه حتى ينتهي إلى فعل يؤديه الإنسان، ففاعلية الطاقة الطبيعة هي نفسها الانفعال الحي الذي يمارسه الإنسان في خبرة حياته، وفي هذا الانتقال - انتقال الأثر من ذرة إلى ذرة ومن حادثة إلى حادثة - مفتاح نظريته في أن كل شيء كائن عضوي، والطبيعة كلها كائن عضوي ، لا بالمعني البيولوجي لهذه الكلمة، لأن وايتهد لا يبني فلسفته الطبيعية على أساس البيولوجيا، بل إن علم الطبيعة وعلم البيولوجيا معا يتساويان في أنهما يعالجان أشياء لكل شيء منها تاريخ، أعني أن لكل شيء امتدادا في الزمن، تتسلل فيه الحوادث ماضية وحاضرة ومستقبلة، ناقلة خصائصها على الوجه الذي أسلفناه؛ ففي العالم الطبيعي - كما هي الحال في خبرة الإنسان مع نفسه - ترى الموقف الحاضر حصيلة تاريخ ماض وموجها لتاريخ مقبل. وهذا المذهب العضوي عند وايتهد بهذا المعنى الخاص، هو الذي يصبغ فلسفته بلون هيجلي، وهو كذلك الذي يصل فلسفته بمذهب الجشتالت في علم النفس، الذي يجعل الوحدة الإدراكية موقفا بأسره تتفاعل فيه عناصره على نحو ما يحدث فيما يسمى بالمجال في علم الفيزياء. •••
ونختم هذا العرض الموجز لفلسفة وايتهد بركن آخر من أركان فلسفته، هو الذي يطلق عليه كلمة اصطلاحية أخرى من مصطلحاته الكثيرة، ألا وهي كلمة «مجتمع»، ومعناها الخاص عند وايتهد هو أن الحادثات لا تظل مفككة فرادى، بل تتجمع معا في كائنات، كالشجرة أو النهر أو الجبل أو الفرد من أفراد الإنسان والحيوان؛ تتجمع مجموعة الحوادث في تاريخ واحد وفي خط سببي واحد، فيتكون منها كائن واحد؛ فكل شيء في الطبيعة يحتفظ بذاتيته على امتداد فترة من الزمن قصيرة أو طويلة، هو «مجتمع» باصطلاح وايتهد. فهذه المنضدة «مجتمع» أحداث، وكذلك هذا المقعد وهذا القلم وذلك الطائر، كل من هذه الأشياء «مجتمع» لأنه خط تاريخي واحد من أحداث تتوارث الخصائص المعينة حاضرا عن ماض، ومستقبلا عن حاضر، أو قل إن كل شيء منها خيط يحدث بين أجزائه المتتابعة انتقال يسوده احتفاظ النمط كله بذاتية واحدة تميزه؛ وهذا «النظام الاجتماعي» بين حوادث الشيء الواحد - وهنا أيضا استعمل مصطلحا لوايتهد - أي هذا النظام الذي يجعل صلة من نوع معين بين هذه الحادثة وتلك الحادثة من مجموعة الحوادث في الشيء الواحد، هو الذي يخلع على الشيء واحديته ودوام ذاتيته، مما يجيز لنا أن ننظر إلى هذه المنضدة - مثلا - فنقول إنها هي المنضدة نفسها التي رأيناها هنا بالأمس.
يقول وايتهد إن مثل هذا «النظام الاجتماعي» بين أحداث الشيء الواحد، إنما يتحقق إذا تحقق لخط الحوادث هذه الشروط: فأولا: أن تكون البنية الصورية أو الهيكل العلاقي (أو الفورم) الذي نبني عليه حلقة من حلقات السلسلة التاريخية للشيء المعين، هو نفسه «الفورم» الذي تبنى عليه سائر الحلقات، أو بعبارة أخرى أن تدوم للشيء بنية صورية واحدة. ثانيا: أن تكون هذه البنية الصورية المتشابهة في الحلقات كافة مستمدة في كل حالة من الخصائص التي تستمدها من سائر أعضاء الخيط التاريخي بوساطة عملية التشرب التي أسلفنا ذكرها. وثالثا: أن تؤدي الخصائص المنقولة من حلقة إلى حلقة إلى ثبات واتصال في ذاتية الشيء.
فما الذي يجعلك تنظر إلى نهر النيل - مثلا - في أية لحظة من الزمن فتقول: هذا هو نهر النيل، مع أنه سيال دافق من حوادث، وما ينفك يتغير ويتبدل بين الغيض والفيض.
الذي يتيح لك ذلك هو أن تيار الحوادث الذي منه يتألف تاريخ هذا الكائن، فيه تشابه في البنية الصورية عند كل حلقة من حلقات ذلك التاريخ، بحيث تستطيع أن تقتطف أية حلقة منها في لحظة معينة فتقول عنها: إنها نهر النيل؛ وإذن فالعلاقة وثيقة في التشابه الصوري، وفي التفاعل السببي بين الحلقات المتتابعات، مما يجيز لنا أن نقول عنها: إنها كأعضاء المجتمع الواحد، وإن بينها نظاما اجتماعيا شديد الشبه بالنظام الذي يجعل من شتيت الأفراد مجتمعا واحدا ذا طابع مميز؛ وإن هذا القول ليصدق على كل شيء؛ يصدق على الذرة الواحدة صدقه على الفرد من الناس، كل منهما مؤلف من أحداث تجتمع معا على ترتيب خاص وفي بنية صورية معينة. •••
من كل هذا الذي أسلفناه عن فلسفة وايتهد يتبين أنها تقوم على ركيزتين أساسيتين، أخذت إحداهما من المنطق والرياضة الحديثين، وأخذت الأخرى من علم الفيزياء الحديث. فمن المنطق والرياضة الحديثين أخذت طريقة البناء الاستنباطي القائم على مسلمات مفروضة، يمكن أن تتبدل بغيرها لو أردنا نتائج مختلفة؛ فذلك جانب واضح في فلسفة وايتهد حين يجعل مهمة التفكير الفلسفي أن يضع إطارا فكريا ذا علاقات رياضية منطقية، ليفسر به حقائق الكون؛ فإذا وجدنا لكل حقائق الخبرة مواضعها من ذلك الإطار النسقي، قلنا عندئذ إن تفسيرنا للكون قائم على أساس صحيح، وإلا بدلنا بالإطار الفكري المفروض إطارا آخر أصلح منه للتفسير؛ وهذان الشقان: الإطار الرياضي الثابت من جهة، وتيارات الحوادث الدافقة في الطبيعة من جهة أخرى، هو الذي يفسر اجتماع الخاصيتين معا في كل شيء: خاصية الثبات على ذاتية واحدة، ثم خاصية التغير اللحظي في مجرى الحوادث. ومن علم الفيزياء الحديث أخذت فلسفة وايتهد مبدأ التغير في الذرة، الذي تصبح معه كل ذرة خيطا من أحداث متتابعة، فكأنما حقيقتها هي تاريخها، وليست هي بالحقيقة ذات السكون والدوام؛ فأوحت هذه الفيزياء الذرية بالفلسفة التي تحل كل شيء إلى سلاسل من حوادث، ولا ذاتية للشيء الواحد إلا ما يكون بين هذه الحوادث من بنية صورية وعلاقات سببية. هي التي تجعل من أي كائن كائنا عضويا. (3) جورج مور
1
ولد جورج مور سنة 1873م في إحدى ضواحي لندن، لأب طبيب عني أكبر عناية بتربية أولاده، حتى لقد تولي بنفسه تعليمهم في المرحلة الأولى، فإذا ما أتم الولد من أبنائه هذه المرحلة الأولية على يديه، أرسله إلى مدرسة عرفت بمستواها التربوي الرفيع؛ وفي هذه المدرسة لبث جورج مور أعواما عشرة، من سن الثامنة إلى الثامنة عشرة، ظهر فيها استعداده للدراسة الكلاسيكية من يونانية ولاتينية، حتى لقد أوشك أن ينصرف إلى دراستها دون غيرها من مواد إلا قليلا من فرنسية وألمانية ورياضية، وقد فرغ من دراسته الثانوية وهو لا يعرف كثيرا ولا قليلا عن العلوم الطبيعية؛ مما جعله فيما بعد يتمنى لو لم يكن قد أنفق كل الوقت الذي أنفقه في ترجمة مختارات من النثر الإنجليزي إلى اليونانية واللاتينية، ومختارات من هاتين إلى اللغة الإنجليزية، ليجد فراغا من وقته يملؤه بشيء من العلوم الطبيعية التي أغلقت من دونه.
وأيا ما كانت دراسته في المرحلة الثانوية، فقد دخل كيمبردج، وأنفق عاميه الأولين في دراسة كلاسيكية كاد لا يجد فيها جديدا يضاف إلى ما كان قد تعلمه في مدرسته الثانوية، لكن الجديد حقا خلال ذينك العامين، هو تلك المجموعة الفذة من شباب الجامعة الذين رآهم يلتقون معا للمناقشة والحديث، فدأب على الاتصال بهم والاستماع إليهم، مأخوذا مشدوها لذلك المستوى الرفيع الذي كانوا يرتفعون إليه في أحاديثهم ومناقشاتهم، مما لم يكن لصاحبنا به عهد من قبل، فهو يسمعهم يتحدثون في السياسة والأدب، والفلسفة وغيرها في براعة وفي عمق وكذلك في جد لم يكن يتصور أن يكون في مناقشات شباب لم يزل في عهد الطلب، فامتلأ فتانا نشوة وإعجابا. ولم يكن له إزاء ذلك إلا أن ينصت لهؤلاء الزملاء في صمت، وأحس في دخيلة نفسه كأنما هو الريفي الساذج جيء به بغتة إلى حيث الحضارة والثقافة، ولم يجد عنده ما يضيفه مما يقبل المقارنة بما يقوله هؤلاء الزملاء، لا بل إنه قد أحس بالزهو أن قبلته تلك الجماعة واحدا منهم، فكانت هذه أول مرة في حياته - كما يقول هو - يجد فيها نفسه على علاقة وثيقة حميمة مع أفراد ذوي كفاية عقلية ممتازة، فكان لذلك ما كان في تحريك نفسه وتنشيط عقله.
كان برتراند رسل أحد هؤلاء الطلاب، كان يكبر مور بعامين عمرا ودراسة، وله يرجع الفضل في أن دخل مور ميدان الفلسفة؛ ذلك أنه حين سمعه يتحدث إليه ويناقشه، قال إن له استعدادا فلسفيا يلفت النظر، وحثه على أن يكمل العامين الباقيين له في الدراسة الجامعية، في طلب الفلسفة. وهنا يقول مور إنه لم يكن قد سمع قبل ذلك أن الفلسفة مادة تدرس في الجامعات، إنه حين ذهب إلى كمبردج لم يتوقع إلا أن يواصل دراسته الكلاسيكية، ليصبح بعد تخرجه مدرسا لها في المدارس الثانوية. نعم إنه إبان مرحلته الثانوية كان قد درس محاورة بروتاجوراس لأفلاطون، لكنه لم ينفعل قط لنوع المسائل الفلسفية التي تثار في تلك المحاورة، وغير هذه المحاورة لم يكن جورج مور قد قرأ شيئا قط من الفلسفة.
2
أما وقد ذكرنا أول لقاء بينه وبين برتراند رسل إذ هما طالبان في كيمبردج، فيجمل أن نقف هاهنا وقفة قصيرة لنقص عن علاقة بين هذين الفيلسوفين اللذين لا يكاد يذكر اسم أحدهما حتى يثب إلى الذهن اسم زميله، لأنهما معا يعدان زعيمي مدرسة فلسفية معاصرة، هي مدرسة التحليل، حتى ليطلق أحيانا على هذه المدرسة اسم مدرسة كيمبردج، لوجود هذين الصديقين في كيمبردج.
ترك برتراند رسل الجامعة سنة 1894م، وكان مور لم يزل في منتصف شوطه الجامعي، لكن العلاقة كانت قد توثقت بينهما، فلبث مور مدى ستة أعوام بعد ذلك دائم الاتصال بصديقه، يناقشان معا ما يعرض لهما من المسائل الفلسفية، إما في كيمبردج عندما كان رسل يعاودها بالزيارة حينا بعد حين، وإما في منزل رسل الريفي حين كان مور يعاوده بالزيارة حينا بعد حين. وكان الصديقان بطبيعة الحال يؤثر أحدهما في الآخر بأفكاره ولفتاته، مما حدا برسل أن يعترف في مقدمة كتابه «أصول الرياضة» بما هو مدين به لمور. ولعل هذا الاعتراف من رسل هو الذي أوحى إلى كثيرين بالظن بأن مور كان أستاذا لرسل، وأنه أكبر منه سنا وأسبق منه في الدراسة. وها هنا يحاول مور في تاريخ حياته الموجز الذي كتبه عن نفسه، يحاول أن يؤكد أن الأفكار التي قصد إليها رسل عندما اعترف بفضل مور عليه، قد تبين لهما معا - فيما بعد - أنها أفكار خاطئة، أي أن رسل لم يأخذ عن مور - فيما يقول مور نفسه - إلا أخطاء على حين أن مؤلفات رسل قد كانت من أهم ما أثار التفكير عند مور. فلئن كان رسل قد أثر تأثيرا بالغا في صديقه بالاتصال الشخصي المباشر، إلا أن أثره فيه كان أبلغ وأعمق بكتبه التي أنفق مور في دراستها وتحليلها وقتا أطول بكثير جدا - حسب اعترافه هو نفسه - مما أنفقه في دراسة مؤلفات أي فيلسوف آخر على الإطلاق.
هذا ما يقوله فيلسوفنا مور عن تأثره برسل، فاسمع ما يقوله رسل عن تأثره بمور. يقول ما معناه إنه بعد أن كان معجبا بكانت وهيجل وبرادلي في أول دراسته الجامعية ، عاد فانفض عنهم جميعا لما تبين له أنهم على ضلال، «ولولا تأثير جورج مور في تشكيل وجهة نظري، لجاء تحولي عن هؤلاء بخطوات أبطأ، فقد اجتاز جورج مور في حياته الفلسفية المرحلة الهيجلية نفسها التي اجتزتها، لكنها كانت عنده أقصر أمدا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة على الفلسفة المثالية، وتبعته في ثورته، وفي نفسي شعور بالتحرر؛ فبعد أن كان برادلي يقول عن كل الإدراكات الفطرية إنها ظواهر وليست من الحق في شيء، جئنا نحن لنقول إن كل ما يقول الإدراك الفطري إنه حق فهو حق، ما دام هذا الإدراك الفطري غير متأثر بفلسفة أو لاهوت.»
قلنا إن الصديقين لبثا على صلة دائمة ست سنوات بعد أن تخرج رسل من الجامعة، لكن تلتها عشرة أعوام (1901-1911م) لم يلتقيا خلالها إلا نادرا، ثم تلاقيا بعد ذلك في كيمبردج زميلين في التدريس.
3
قضى جورج مور ثمانية وعشرين عاما يدرس الفلسفة في كيمبردج (1911-1939م) وكان من أهم الأحداث التي حدثت خلالها - فيما يروي مور في قصة حياته - لقاؤه بفتجنشتين، الذي كان له فيما بعد أبلغ الأثر في توجيه مدرسة فلسفية معاصرة نشأت في فينا، وهي ما أطلق عليها اسم «الوضعية المنطقية». كان فتجنشتين يستمع لمحاضرات مور ، فلمح الأستاذ في تلميذه نبوغا حمله على أن يقول: «سرعان ما شعرت إزاءه أنه أبرع مني في الفلسفة بدرجة كبيرة، بل شعرت أنه كذلك أعمق بكثير، وأنفذ مني بصيرة فيما ينبغي أن يكون عليه البحث والسير فيه.» ويمضي مور في رواية قصته مع فتجنشتين فيقول: إنني لم أعد أراه في كيمبردج بعد سنة 1914م، حتى عاد إليها سنة 1929م، لكنني لما نشرت رسالته في فلسفة المنطق، قرأتها، مرة بعد مرة محاولا أن أتعلم منها؛ فهي رسالة أعجبت وما أزال أعجب بها إعجابا شديدا؛ نعم لقد وجدت فيها كثيرا مما لم أستطع فهمه، لكنني كذلك - فيما أظن - قد فهمت منها أشياء كثيرة أراها تنير أمامنا الطريق بضوء ساطع. ولما عاد فتجنشتين إلى كيمبردج سنة 1929م حضرت له محاضراته عدة أعوام متلاحقة ، لم أزدد به خلالها إلا إعجابا فوق إعجاب؛ وأحسبه بغير شك قد جعلني بتأثيره أتشكك في أشياء كثيرة كنت - لولاه - لأثبتها مطمئنا لها. ولقد حملني على الاعتقاد بأن حل المسائل الفلسفية التي كانت تحيرني، إنما هو مرهون باصطناع منهج أجاد هو استخدامه إجادة رائعة، وإنه ليسرني أنه هو الذي قد خلفني في أستاذية الفلسفة بكيمبردج.
ولقاء آخر بشخص آخر يستحق الذكر، هو لقاء فيلسوفنا بأحد طلابه وهو رامزي
F. P. Ramsey
الذي أبدى من المقدرة والذكاء ما استوقف نظر الأستاذ، معترفا كذلك في صراحة أن التلميذ هنا أيضا قد تفوق على أستاذه تفوقا جعل مور على شيء من القلق دائما أثناء المحاضرة التي يكون رامزي أحد مستمعيها، خشية أن يزل في الخطأ أمام ذلك الذهن النافذ المتوقد. ولقد كان يحلو للأستاذ أن يجتمع بالتلميذ على مناقشات لمسائل فلسفية، حتى لقد تواعدا أن يتعاونا على عمل مشترك، لكن الموت عاجل ذلك الشاب النابه قبل أن يبلغ الثلاثين.
ولا نختم الحديث عن حياة جورج مور قبل أن نذكر عنه جانبا هاما في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث، وهو توليه رئاسة تحرير مجلة «عقل» التي تعد من غير شك في طليعة الطليعة من المجلات الفلسفية في العالم كله؛ وظل رئيسا لتحريرها منذ عام 1920 حتى ثقل عليه المرض الذي انتهي بموته (1959م).
4
لقد وردت عبارة في السيرة الذاتية التي كتبها مور عن حياته، تصلح - في رأيي- أن تكون مفتاحا لموقفه الفلسفي كله، وهي العبارة التي يقول فيها: «إنني لا أظن أن العالم أو العلوم كانت لتوحي إلي أية مشكلات فلسفية؛ أما ما قد أوحى إلي بالمشكلات الفلسفية فهو أشياء قالها فلاسفة آخرون عن العالم وعن العلوم؛ ففي كثير من المسائل التي أوحي إلي بها عن هذا الطريق، وجدت نفسي - وما أزال أجد نفسي - مشغوفا بالبحث شغفا شديدا. وكانت هذه المسائل من نوعين رئيسيين: النوع الأول منها مشكلات «تدور حول ما يكون الفيلسوف المعين قد قصد إليه بشيء قاله، فماذا عساه يعنى - على وجه الدقة - بهذه العبارة أو بتلك مما ورد في فلسفته؟ والنوع الثاني مشكلات تدور حول هذا السؤال: ماذا يسوغ لهذا الفيلسوف أو ذاك أن يصف هذه العبارة أو تلك من أقواله بأنها حق؟ أحسبني قد بذلت حياتي كلها محاولا حل مشكلات من هذين النوعين المذكورين».»
أعتقد أن هذه العبارة الهامة التي قالها مور ليصف بها عمله الفلسفي تكفيني - وتكفي كل كاتب يتصدى لوضع مور موضعه الصحيح من مجال النشاط الفلسفي - مئونة البحث الطويل؛ فهو لم يبحث في العالم ولا في أي جزء منه بحثا مباشرا. إنه لم يتورط في حكم يطلقه من عنده على الطبيعة أو ما وراء الطبيعة، أو على الإنسان فردا أو مجتمعا مع غيره، إنه لم يتورط في رأي خاص يدلي به في شئون السياسة أو الفن أو التاريخ مما ألفنا أن يتحدث فيه الفلاسفة الآخرون، كلا بل إنه لم يتورط في تحليل القضايا العلمية تحليلا مباشرا، بحيث يتناول ما يقوله العلماء - علماء الرياضة وعلماء الفيزياء بصفة خاصة - ليصب تحليله على ما هو وارد في أقوالهم من مفاهيم وأحكام، أعنى أنه لا هو قد واجه العالم الخارجي بظواهره مواجهة مباشرة وأدلي فيه برأي، ولا هو تراجع خطوة فوقف وراء العالم الذي يتصدى للعالم وظواهره بالبحث المباشر، بحيث جعل أقوال هذا العالم موضوعا لبحثه، بل إنه ترك مثل هذا التحليل - تحليل أقوال رجال العلم - لغيره من الفلاسفة، أما هو فقد وقف وراء هؤلاء الفلاسفة لينظر في معاني أقوالهم عن العلوم وعن العالم. فلو كان العالم هو الذي يصف العالم بقوانينه وصفا مباشرا، ثم لو كان فيلسوف العلم هو الذي يحلل ما يقوله العالم، فجورج مور هو فيلسوف الفلاسفة - كما يقال عنه أحيانا - لأنه يصب تحليلاته، لا على العالم وظواهره ولا على العلماء وقضاياهم ومفاهيمهم، بل يصبها على أقوال الفلاسفة باحثا عن معانيها التي قصد إليها أصحابها، حتى إذا ما اطمأن إلى أنه قد فهم المقصود راح يسأل إن كان عند الفيلسوف ما يبرر له الاعتقاد في صواب ما يقوله.
يتبين من هذا في جلاء أن كل ما يعمله «مور» هو «التحليل»، وليس هو أن يضيف حكما جديدا عن جانب من جوانب العالم، أو عن قضية من قضايا العلم. عمله هو التحليل من أجل فهم المعنى المقصود مما قد ورد على ألسنة الفلاسفة من قبله وفي عصره. فتراه يقرأ كتابا من الكتب الفلسفية القديمة أو المعاصرة ليقف عند فقرة أو عبارة أو كلمة، فيسأل عن معناها الذي يظنه المؤلف أمرا مفهوما مسلما به، فإذا هو أمام تعقيد وغموض يقتضيانه أن يمضي في عملية التحليل، حتى يزول التعقيد وينجلي الغموض، أو يصرح آخر الأمر أنه إزاء شيء غير مفهوم. وما أكثر ما يقول الفلاسفة أشياء يظنونها واضحة وما هي بواضحة حتى تحل وتشرح، ثم ما أكثر ما ينتهي التحليل والشرح إلى أن هؤلاء الفلاسفة إنما قالوا - في حقيقة الأمر - شيئا بغير معنى.
والأداة التحليلية التي يستخدمها مور هي محاولته دائما أن يجد بدل العبارة التي يتصدى لتحليلها عبارة أخرى تساويها معنى لكنها تكون أوضح منها؛ وذلك لأن العبارة الثانية من شأنها أن تبسط ما كان قد تركز في العبارة الأولى، ولهذا وجب أن تكون كلمات العبارة الثانية أكثر عددا من كلمات العبارة الأولى، رغم تساويهما في المعنى. وأبسط مثل نسوقه لذلك هو أن نحلل العبارة القائلة: «الحسن أخو الحسين» بقولنا: «إن الحسن والحسين اسمان أطلقا على ذكرين اشتركا في الوالدين اللذين أنسلاهما، فوالد أحدهما هو والد الآخر، ووالدة أحدهما هي والدة الآخر.»
5
ليست المشكلة عند مور هي ماذا نعرف؟ بل المشكلة هي: ماذا نعني بهذا الذي نقول إننا نعرفه؟ ذلك لأنه يركن في تحصيل المعرفة إلى الذوق الفطري - وهذه هي إحدى خصائصه المميزة - فالذوق الفطري، أو الإدراك الفطري، صادق فيما يهدينا إليه من صنوف المعرفة. ولو جاءك إدراكك الفطري بمعرفة، كأن تعرف مثلا أنك موجود وأنك ذو بدن وأنك تنتقل من مكان إلى مكان وهكذا، أقول إنه لو جاءك إدراكك الفطري بمعرفة كهذه ثم سألت: أهي معرفة صادقة؟ كنت في رأي مور تسأل سؤالا غير مشروع. ومع ذلك فما أكثر ما يسأل الفلاسفة أسئلة كهذه! أهذه المنضدة التي أمامي وهذه الورقة وهذا القلم في يدي موجودة حقا؟ هل أنا اليوم هو نفس الشخص الذي كنته بالأمس؟ هل أنا حر الإرادة في تحريك يدي حين أحركها بكتابة هذه الأسطر الآن؟ وإذا كنت موقنا بوجودي، فهل أوقن كذلك بوجود الأشخاص الآخرين، وبأن لهم مشاعر كمشاعري وخواطر كخواطري، وهكذا وهكذا. نعم ما أكثر ما سأل الفلاسفة أسئلة كهذه يريدون أن يستوثقوا بها إن كان إدراكهم الفطري قد صدقهم النبأ حين أنبأهم بهذه الأمور كلها. أما «مور» فموقفه آخر، وهو أن السؤال لا يكون عن صدق ما يجيء به الإدراك الفطري؛ لأن هذا الصدق لا ينبغي أن يكون موضع تساؤل، وإنما يكون السؤال عن تحليل المعرفة التي يجيء بها الإدراك الفطري لنلم بعناصرها فنفهم مقوماتها ومدلولها فهما صحيحا.
ويشرح مور وجهة نظره هذه في بحث عنوانه «دفاع عن الذوق الفطري» يقول فيه إنه بالإدراك الفطري موقن بأن ثمة الآن جسدا بشريا - هو جسده - وأن هذا الجسد قد ولد في لحظة معينة من الزمن الماضي، وأنه لم يزل منذ تلك اللحظة موجودا وجودا متصلا، رغم تعرضه للتغير، فمثلا كان لحظة ولادته أصغر جدا مما هو الآن؛ ولقد ظل هذا الجسد منذ ولادته حتى الآن إما لصيقا بالأرض أو مفارقا لها على مسافة ليست بعيدة عنها؛ ولقد كانت هنالك منذ ولد هذا الجسد، أشياء أخرى كثيرة، ذوات شكل وحجم في أبعاد ثلاثة، وأن هذا الجسد قد كان على مسافات متفاوتة من هذه الأشياء، فبعضها أقرب إليه من بعض. ومن بين الأشياء التي كانت تحيط به منذ ولادته فتكون بيئته، عدد كبير من الكائنات البشرية، كل منها شبيه به في أنه (أ) قد ولد في لحظة معينة من الزمن الماضي، (ب) وأنه قد لبث موجودا فترة ما بعد ولادته، وأنه (ج) كان في لحظة زمنية منذ ولادته إما لصيقا بالأرض أو مفارقا لها مسافة ليست بعيدة عنها، وأعلم كذلك بإدراكي الفطري أن كثيرين من هؤلاء الناس قد ماتوا واختفوا من الوجود، كما أعلم أن الأرض التي نعيش عليها كانت موجودة قبل ولادتي بزمن طويل؛ وأنها شهدت ناسا غيري ولدوا وماتوا قبل أن يولد جسدي، وأخيرا فإني أعلم أنني كائن بشري أخذت تمر به الخبرات منذ ولادته، فيدرك بحواسه أشياء وما بينها من علاقات.
هذه كلها أشياء عرفناها بالإدراك الفطري، معرفة لا يجوز أن تكون موضع تساؤل، وإنما الذي يجوز - بل يجب - إزاءها، هو أن نوضح بالتحليل ما هو متضمن فيها، ابتغاء الفهم الكامل لمدلولاتها. إن عبارة مثل قولنا: «لقد كانت الأرض موجودة لعدة أعوام مضت.» حقيقة يشهد الذوق الفطري بصدقها، وليس وراء شهادته شهادة، لكننا لو سألنا فلاسفة كثيرين: هل صحيح أن الأرض كانت موجودة لعدة أعوام مضت؛ لما عدوه سؤالا بسيطا يجاب عليه بنعم أو بلا، أو يجاب عليه بقولنا إننا لا نعرف الجواب الصحيح، بل تراهم يقولون: إن الإجابة تتوقف على معنى الكلمات التي وردت فيه، مثل كلمة «الأرض» وكلمة «موجودة» وكلمة «سنين» فإذا كانت معاني هذه الكلمات هي كذا وكذا فالجواب هو كذا، وأما إذا كانت معانيها هي كيت وكيت فالجواب هو كيت. لكن مور - على خلاف أمثال فلاسفة كهؤلاء - يؤكد أن عبارة كهذه هي نموذج الوضوح، لأنها مفهومة عند الإدراك الفطري، وهذا وحده فيه ما يكفي؛ وكل من ساورته النفس بأن يتشكك في فهمه لعبارة كهذه، هو في الحقيقة شخص يخلط بين مسألتين مختلفتين؛ الأولى هي: هل نفهم العبارة؟ والثانية هي هل نعرف تحليل هذا الذي فهمناه؟ أي أنه هو الفرق بين إدراك المعني من جهة وإدراك عناصره التي ينحل إليها من جهة أخرى، وهي تفرقة بالغة الأهمية؛ لأنه بينما يجعل فلاسفة كثيرون الأمر الأول موضوع اهتمامهم، ترى مور ينقل مركز الاهتمام إلى الأمر الثاني؛ فهو - مثلا - لا يسأل كما سأل ديكارت: هل حقا أنا موجود؟ بل هو يسأل بدل ذلك: ما تحليل العبارة التي أقول بها إنني موجود؟
والفرق - كما ترى - بعيد بين الوقفتين، فالذي يتشكك فيه الفلاسفة الآخرون يجعله مور موضع تصديق لا شك فيه، والذي يؤمن بصدقه الفلاسفة الآخرون هو الذي يجعله مور موضع شك وحافزا على البحث؛ فقد يتشكك الآخرون في صدق عبارة كهذه: «قد ظلت هذه الأرض موجودة لأعوام كثيرة مضت.» ويتساءلون ما برهاننا على صوابها؟ وهم في الوقت نفسه يطمئنون إلى الطريقة التي يحللون بها معناها كأنما هم على فهم دقيق لعناصرها. أما مور فيعكس الوضع: فهو لا يشك في صدق العبارة لكنه في الوقت نفسه لا يطمئن أبدا إلى تحليلها الصحيح كيف يكون وماذا عساه أن يكون.
6
ويطبق مور مبدأه في قبول الإدراك الفطري على فكرة الخير فلا يتردد في قبولها إذ يكفي أن الإنسان بإدراكه الفطري يعلم أن الخير موجود.
فإذا سألت عن «الخير» ما تعريفه، فستنتهي إلى أنه شيء بغير تعريف، لأنك لكي تعرف الشيء، فلا بد لك من تحليله إلى عناصره البسيطة، أما إذا كان بسيطا بطبيعته لا ينحل إلى ما هو أبسط، تعذر التعريف؛ فالبسيط يدرك بذاته إدراكا مباشرا ولا يحتاج إلى سواه ليعين على توضيح معناه؛ لهذا يقول مور: إنني إذا سئلت «ما هو الخير؟» لأجبت بقولي: «الخير هو الخير.»
وفي هذا ختام السؤال وختام الإشكال، أو إذا سئلت «كيف تعرف الخير؟ لأجبت بقولي: «إن الخير لا تعريف له؛ لأنه فكرة بسيطة شأنها في ذلك تماما شأن اللون الأصفر، فكيف تعرف اللون الأصفر لمن لم يره؟ إن ذلك محال، لأن اللون الأصفر بسيط غير مركب، ويدرك مباشرة أو لا يدرك على الإطلاق؛ فكذلك الخير؛ فالتعريف محال إلا على الأشياء المركبة، وأما الأشياء البسيطة فواضحة بذاتها وليست بحاجة إلى تعريف».»
إنك تستطيع أن تعرف الحصان، لأن الحصان مؤلف من خصائص مختلفة كثيرة، وتعريفه هو عبارة عن عد هذه الخصائص، أما إذا وصلت إلى الخصائص البسيطة وأردت تعريف إحداها، فلن تجد ذلك مستطاعا، لأنها هي نهاية طريق التحليل والتعريف، فهي أشياء تنظر إليها وتدركها، لا أكثر ولا أقل - وعند مور أن «الخير» هو من قبيل تلك الأفكار البسيطة التي تدرك مباشرة وتدرك بذاتها، وليس وراءها ما هو أبسط منها تنحل إليه وتعرف به؛ وهنا ينبهنا مور إلى غلطة وقع فيها الفلاسفة الأخلاقيون، وهي أنهم إذا رأوا هذه الحقيقة البسيطة مقترنة دائما بصفة أخرى ظنوا أن هذه الصفة الأخرى هي تعريف الخير، مثال ذلك أن يروا الخير مصحوبا دائما بنشوة النفس أو سعادتها، فيقولون إن الخير هو السعادة، على حين أن اقتران الشيئين لا يجعلهما شيئا واحدا.
7
هكذا كان مور نصيرا للذوق الفطري، أو الإدراك الفطري، في قبوله لما يراه الإدراك الفطري حقا ورفضه لما يراه الإدراك الفطري باطلا. فإن قال الإدراك الفطري إن في يدي قلما، كان هنالك يد وقلم على الرغم من كل ما يقوله الميتافزيقيون عن صدق أو عدم صدق هذا القول؛ وكما أسلفنا، ليست الفلسفة عند مور هي أن تسأل إن كان هنالك حقا يد وقلم أو لم يكن، بل مهمتها هي - بعد قبولها لصدق ما يقرره الإدراك الفطري - مهمتها أن تبحث عما عسى أن يعنيه ذلك بالتفصيل. فإن كانت المعطيات الحسية هي التي دلتنا على وجود القلم بين أصابع اليد، سألنا ما طبيعة المعطيات الحسية، وما طبيعة الإدراك الحسي وهكذا.
كذلك إن قرر لنا الإدراك الفطري أن في العالم خيرا، كان وجود الخير أمرا لا ينازع فيه، وتصبح مهمة الفلسفة تحليل العبارة التي تقول «هذا خير» لا أن تتشكك في صوابها.
وكان من أهم ما كتبه مور فصل بعنوان «دحض المثالية» يحلل فيه موقف الفلاسفة المثاليين تحليلا يظهر بطلان مذهبهم؛ فهذا المذهب محوره الرئيسي هو المبدأ القائل بأن وجود الشيء هو وقوعه في خبرة ذات ما. ولما كانت خبرة الذات روحانية في طبيعتها وليست مادية، كان الوجود كله روحانيا في طبيعته فيتناول مور مبدأهم هذا بالتحليل ليبين أنه ينطوي على تناقض؛ لأنه إذا كان هذا المبدأ صادقا كما يزعم له أصحابه، فلا يخرج صدقه هذا عن أن يكون إما صدقا تحليليا أو صدقا تركيبيا، (والصدق التحليلي هو الذي يقام عليه البرهان بقانون عدم التناقض وحده؛ فيكفي أن يكون الشطر الثاني من الجملة متضمنا في الشطر الأول منها، وألا يكون بين الشطرين تناقض، لنقول عن الجملة إنها صادقة صدقا تحليليا. وأما الصدق التركيبي فهو ما لا يكتفى في البرهان عليه بقانون عدم التناقض وحده، بل لا بد كذلك من صدق الجملة على الواقع).
نقول إن صدق هذا المبدأ إما تحليلي أو تركيبي بالمعني الذي حددناه الآن لهاتين الكلمتين؛ فإن كان تحليليا، كانت كلمة «خبرة» وكلمة «وجود» مترادفتين ولم يكن المبدأ دالا على شيء سواء أكان صادقا أم كاذبا، فذلك شبيه بأن تكرر كلمة «الورقة» مثلا مرتين: فتقول الورقة الورقة، فلا يكون ذلك دليلا على وجود ورقة أو عدم وجودها. وأما إن كان صدق مبدئهم تركيبيا، احتاج الأمر إلى واقع موجود خارج الذات نفسها لنراجع المبدأ عليه فنعرف إن كان صادقا حقا أو غير صادق، وما دام هنالك واقع خارج الذات، بطل أن يكون الوجود منحصرا في الذات وحدها.
على أن هذه اللمحات القصيرة التي قلتها عن بعض الجوانب التي تناولها مور بتحليلاته، ليست بذات نفع كبير؛ لأن أهم ما في فيلسوفنا هو طريقته في التحليل، وليس هو هذه النتيجة المعينة أو تلك في الميتافيزيقا أو في الأخلاق أو في غيرهما من موضوعات البحث الفلسفي.
1
ولد برتراند رسل سنة 1872م. وقد جاء في الترجمة الذاتية الموجزة التي كتبها عن نفسه ما معناه:
ماتت أمي وأنا في الثانية من عمري، وكنت في الثالثة حين مات أبي، فنشأت في دار جدي لورد جون رسل، ثم مات جدي، فتولتني بالتعليم جدتي، فكانت أقوى أثرا في توجيهي من أي شخص آخر، وقد أرادت جدتي هذه لأولادها ولأحفادها أن يحيوا حياة نافعة فاضلة، ولم يكن بها ميل أن ينصرف أولئك الأولاد والأحفاد في حياتهم إلى ما قد تواضع سائر الناس على تسميته بالنجاح. وكانت بحكم عقيدتها البروتستانتية تؤمن بضرورة أن يكون للأفراد أنفسهم حق الحكم على الأشياء، بحيث يكون لضمير الفرد سلطة عليا. وكانت مكتبة جدي هي غرفة دراستي وموجهة حياتي، فكان فيها من كتب التاريخ ما أثار اهتمامي:
وحدث حادث عظيم في حياتي عندما كنت في عامي الحادي عشر، وهو أني بدأت دراستي لإقليدس، الذي لم يزل عندئذ هو المتن المعترف به في دراسة الهندسة، وأحسست بشيء من خيبة الرجاء، حين وجدته يبدأ هندسته ببديهيات لا بد من التسليم بها بغير برهان؛ فلما تناسيت هذا الشعور، وجدت في دراسته نشوة كبرى، حتى لقد ظلت الرياضة بقية أعوام الصبا تستوعب شطرا كبيرا جدا من اهتمامي.
وذهبت إلى كيمبردج في سن الثامنة عشرة، وكنت قد عشت حياة معتزلة إلى حد بعيد؛ ذلك أني نشأت في داري على أيدي مربيات ألمانيات، ثم انتهى أمري بعد ذلك إلى مربين من الإنجليز، فلم أخالط الأطفال إلا قليلا، وحتى إن خالطتهم وجدتهم لا يثيرون من نفسي اهتماما بأمرهم. ولما كنت في عامي الرابع عشر أو الخامس عشر، اهتممت بالدين اهتماما شديدا، وجعلت أقرأ مفكرا في البراهين التي تقام على حرية إرادة الإنسان وعلى خلوده وعلى وجود الله. وقد كان يشرف على تربيتي لبضعة أشهر أستاذ متشكك، فكنت أجد الفرصة سانحة لمناقشته في أمثال هذه المسائل، لكنه طرد من عمله، ولعلهم طردوه لظنهم أنه يهدم لي أساس إيماني ، فإذا استثنيت هذه الأشهر التي قضيتها مع هذا الأستاذ وجدتني قد احتفظت بفكري لنفسي، أدونه في يوميات بأحرف يونانية حتى لا يقرأها سواي؛ لهذا كنت أشقى شقاء من الطبيعي أن يعانيه مراهق معتزل عن الناس، وعزوت شقائي عندئذ إلى فقداني للإيمان الديني.
فلما ذهبت إلى كيمبردج انفتح أمامي عالم جديد من نشوة ليس لها حدود، إذ وجدت للمرة الأولى أنني إذا ما صرحت بما يدور في خلدي من أفكار، صادف عند السامعين قبولا، أو كان عندهم - على الأقل - جديرا بالنظر؛ وكان وايتهد هو الذي اختبرني في امتحان الدخول، وقد ذكرني لكثيرين، فلم يمض أسبوع واحد حتى التقيت بمن أصبحوا بعد ذلك أصدقاء العمر كله، وهم نفر يتميزون بقدرتهم العقلية وتحمسهم وأخذهم الأمور مأخذ الجد، وكانوا يتناولون باهتمامهم أمورا كثيرة خارج نطاق عملهم الجامعي، فيولعون بالشعر والفلسفة، ويناقشون السياسة والأخلاق وشتى نواحي العالم الفكري، فكنا نجتمع أماسي أيام السبت لندخل في مناقشات تطول حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم نلتقي على إفطار متأخر صباح الأحد، ثم نخرج معا للمشي بقية اليوم.
كان ماكتاجارت بين أصدقائي في كيمبردج وهو الفيلسوف الهيجلي الذي حملنا بفطنته على دراسة الفلسفة الهيجلية، وقد علمني كيف أنظر إلى الفلسفة التجريبية الإنجليزية نظرة ترى فيها فجاجة وسذاجة. وكنت أميل إلى الاعتقاد بأن هيجل - وكذلك كانت بدرجة أقل - يتصف بعمق هيهات أن تجد له مثيلا في لوك وباركلي وهيوم، بل هيهات أن تجد له مثيلا عند الرجل الذي كنت قد اتخذته لنفسي قبل ذلك إماما روحيا، وأعني به جون ستيوارت مل. كنت في الثلاثة الأعوام الأولى من حياتي في كيمبردج أكثر شغلا بالرياضة من أن أجد فراغا أقرأ فيه كانت أو هيجل، أما في السنة الرابعة فقد انصرفت إلى الفلسفة باهتمامي.
وقد حدثت لي خلال عام 1898م أحداث جعلتني أنفض عن كانت وعن هيجل في آن معا. من ذلك أني قرأت كتاب هيجل «المنطق الكبير» فكان رأيي فيه عندئذ - ولا يزال هو رأيي إلى اليوم - أن كل ما قاله هيجل عن الرياضة كلام فارغ خرج من رأس مهوش. كذلك حدث في ذلك العام ما جعلني أرفض براهين برادلي التي أراد بها أن ينفي التكثر في الأشياء، لنفيه وجود ما بينها من علاقات، كما رفضت كذلك الأسس المنطقية للمذهب الواحدي، وكرهت النظرة الذاتية التي تنطوي عليها فلسفة كانت، ولولا جورج مور في تشكيل وجهة نظري لفعلت هذه العوامل فعلها بخطوات أبطأ؛ فقد اجتاز مور في حياته الفلسفية المرحلة الهيجلية التي اجتزتها، لكنها كانت عنده أقصر أمدا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة، وتبعته في ثورته وفي نفسي شعور بالتحرر. لقد قال برادلي عن كل شيء يؤمن به الذوق الفطري عند الناس إنه ليس سوى ظواهر، فجئنا نحن وعكسنا الوضع من طرف إلى طرف؛ إذ قلنا: إن كل ما يقول عنه ذوقنا الفطري إنه حق فهو حق، ما دام ذلك الذوق الفطري في إدراكه للشيء لم يتأثر بفلسفة أو لاهوت. وهكذا طفقنا - وفي أنفسنا شعور الهارب من السجن - نؤمن بصدق الذوق الفطري فيما يدركه، فاستبحنا لأنفسنا أن نصف العشب بأنه أخضر، وأن نقول عن الشمس وعن النجوم إنها موجودة حتى لو لم يكن هناك العقل الذي يعي وجودها في خبرته، ولكن ذلك لم يمنعنا عندئذ من الاعتراف أيضا بوجود عالم من المثل الأفلاطونية، فيه كثرة وليس يحده زمن، وهكذا تغير العالم أمام أعيننا.
جاء عام 1900م فكان أهم عام في حياتي الفكرية، وأهم ما حدث لي فيه زيارتي للمؤتمر الدولي للفلسفة في باريس، فقد كانت تقلقني الأسس التي تقوم عليها الرياضة منذ اليوم الذي بدأت فيه دراسة إقليدس وعمري لم يزد على أحد عشر عاما. ولما أخذت بعد ذلك في قراءة الفلسفة، لم أجد ما يرضيني عند (كانت) أو عند التجريبيين، فلم أطمئن لقول «كانت» عن القضية الرياضية، إنها قبلية تركيبية معا (أي أنها من عند العقل ومنطبقة على الواقع الخارجي في آن واحد) ولا رضيت بما قاله التجريبيون من أن علم الحساب مؤلف من تعميمات جاءتنا بها التجربة . وذهبت إلى ذلك المؤتمر في باريس، فتأثرت بما لمسته خلال المناقشات من دقة عند «بيانو» وتلاميذه، وهي دقة لم أجدها في سواهم، فطلبت منه أن يطلعني على مؤلفاته فاستجاب. ولم أكد أدرس فكرته دراسة شاملة حتى رأيتها توسع نطاق الدقة التي ألفناها في علوم الرياضة، بحيث تشمل موضوعات أخرى لبثت حتى ذلك الحين نهبا للغموض الفلسفي، وأضفت من عندي فكرة «العلاقات» ولحسن حظي وجدت وايتهد راضيا عن منهج البحث الجديد مدركا لأهميته، فلم نلبث طويلا حتى بدأنا نتعاون معا على تحليل موضوعات معينة كتعريف التسلسل والأعداد ورد الحساب إلى أصول في المنطق. نعم كان «فريجه» قد أدى بالفعل كثيرا مما علمناه، ولكننا في البداية لم يكن لنا بذلك علم ... وقد كانت ثمرة هذا التعاون بين رسل ووايتهد كتابهما المشترك «أسس الرياضة» الذي يعد بحق فاتحة عهد جديد في التحليلات المنطقية. وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إنه فاتحة عهد جديد في تاريخ الفلسفة الحديثة على الإطلاق.
2
فمن أهم النتائج التي وفق إليها برتراند رسل، تحليله للرياضة تحليلا يكشف العلاقة بينها وبين المنطق، كشفا يزيل الغموض والألغاز اللذين كانا طوال العصور الماضية يحيطان بطبيعة العلوم الرياضية، فمن أين يجيء لها اليقين؟ لقد كان الفلاسفة العقليون والمثاليون فيما مضى يرون في يقين الرياضة أقوى سند يستندون إليه في دعواهم بأن العقل وحده - دون الحواس - هو مصدر المعرفة الصحيحة، وأن العلوم الطبيعية إذا شاءت لنفسها نتائج يقينية كنتائج الرياضة، فعليها أن تتبع المنهج نفسه الذي تتبعه الرياضة، ألا وهو المنهج الاستنباطي الذي يستولد من الحقائق العقلية نتائجها، ولا يلجأ إلى مشاهدة الحواس.
كان ذلك هو الموقف إزاء الرياضة ويقينها، حتى جاءت التحليلات الرياضية المنطقية الحديثة - وفي طليعة أعلامها رسل- فأظهرت أن الرياضة لا تمت إلى العلوم الطبيعية بشبه حتى تجوز المقارنة بينهما، إنما هي امتداد للمنطق الصوري، فكلاهما بناء واحد يقوم على قاعدة واحدة، وهذا البناء صوري في طبيعته، أي أنه يصدق لما بين أجزائه من اتساق وعدم تناقض، لا لما بينه وبين الخارج من تطابق؛ فقد تبني - إذا شئت وإذا أسعفتك المقدرة الرياضية - عشرين بناء رياضيا كل منها مستقل عن الآخر، وكلها صادق على حد سواء، لأن كلا منها يخلو في داخله من التناقض مع أنه محال أن ينطبق من هذه البناءات العشرين على الواقع الخارجي إلا بناء واحد على الأكثر.
وطريق السير عند أصحاب هذه التحليلات الرياضية المنطقية الحديثة، هو أولا: أن يردوا فروع الرياضة كلها إلى حساب، ثم يردوا الحساب إلى العدد، ثم يحللوا العدد إلى أصوله وجذوره، فإذا هذه الأصول والجذور ضاربة في أرض المنطق، فما هو العدد عند برتراند رسل ومن ذهب مذهبه مثل «فريجه»؟ العدد تحليله هو أنه فئة من فئات، فالعدد ثلاثة - مثلا - هو رمز نشير به إلى مجموعة كبيرة نتصورها وهي تضم المجموعات الصغيرة التي قوام كل منها ثلاثة أعضاء ، أعني أنك لو تصورت كل ما في العالم من ثالوثات، ثم حزمت هذه الثالوثات كلها في حزم واحدة، كان لك بذلك فئة كبيرة تضم فئات صغيرة متشابهة في أن لكل منها ثلاثة أعضاء؛ وإذا كان هذا هو تحليل العدد، إذن فالجذور الأولية التي يتألف منها هي فكرة «الفئات» والفئات - وهي ما كانت تسمى في المنطق الأرسطي بالأنواع - هي من مدركات المنطق الخالص، وهكذا نكون قد أزلنا الحاجز الذي يفصل المنطق عن الرياضة، وجعلناهما امتدادا لشيء واحد؛ حتى ليصبح من الأمور الجزاف أن تختار موضعا معينا ترسم عنده خطا وتقول: إن ما قبل الخط منطق وما بعده رياضة، لأنه يجوز لك أن تضع الخط في أي موضع شئت من هذا الطريق الواحد الممتد من نقطة الابتداء في المنطق إلى نقطة الانتهاء في الرياضة.
وما مؤدى هذا الاتصال بين المنطق والرياضة؟ مؤداه أن الرياضة تصبح كالمنطق تحصيلات حاصل، ومن ثم فهي لا تتعرض للخطأ، لأن تحصيل الحاصل هو تكرار شيء واحد مرتين، وليس فيه تورط بنبأ ينبئ به عن العالم الخارجي حتى يجوز لهذا النبأ أن يصيب أو أن يخطئ؛ فأنت في المنطق إذ تقول: إن الدنيا غدا ، إما أن تمطر أو لا تمطر، فإنما تقول بذلك كل الاحتمالات الممكنة، بحيث يستحيل الخطأ بعد ذلك، والخطأ مستحيل لأنك لا تورط نفسك في حكم معين كأن تقول مثلا: إن الدنيا ستمطر غدا، فإذا جاء الغد ولم تمطر كنت مخطئا. وكذلك حين تقول: إنه إذا كانت س مشمولة في ص، وص مشمولة في م، إذن تكون س مشمولة في م، كان قولك هذا صادقا صدقا مطلقا؛ لأنك لم تفعل به سوى أن عينت معنى الاشتمال، ولم تزعم زعما بعينه عن حقائق الوجود الخارجي، ولا كذلك الأمر إذا ورطت نفسك في حكم معين على شيء بذاته من أشياء العالم، كأن تقول مثلا إن النوع الإنساني مشمول في مجموعة الحيوان، فها هنا قد تجد من يؤيد ومن يفند؛ وهكذا الحال في كل معادلة رياضية. فقولنا 2 + 2 = 4 لا يثبت شيئا ولا ينفي شيئا في العالم الخارجي، بل إن هذا العالم الخارجي قد لا يكون مشتملا على أربعة أشياء كائنة ما كانت، ومع ذلك يكون من حقك أن تقول هذه المعادلة لأنها لا تفعل سوى أن تبين معاني الرموز المستخدمة فيها.
وإذا كان هذا هكذا فلم يعد يجوز للفلاسفة العقليين أن يحتجوا على الفلاسفة التجريبيين بيقين الرياضة؛ لأن الفرق واسع بين طبيعة الرياضة من جهة وطبيعة العلوم التجريبية من جهة أخرى، فبينما الأولى تحصيلات حاصل لا تقيد نفسها بحكم معين عن العالم، تتصدى الثانية لأحكام محددة تطلقها على العالم، وهي بعد ذلك إما أن تخطئ أو تصيب.
3
ولفيلسوفنا رسل نظرية في المعرفة يبني عليها كثيرا من أركان فلسفته؛ فالمعرفة عنده نوعان: نوع يسميه المعرفة بالاتصال المباشر، ونوع آخر يسميه المعرفة بالوصف. وأما الأولى فهي تلك المعرفة التي نحصلها بلمسنا للأشياء لمسا مباشرا؛ فبياض الورقة التي أمامي الآن يأتيني بالرؤية المباشرة، وصلابة القلم في يدي تأتيني باللمسة المباشرة، وطعم الحلوى في فمي يأتيني بالذوق المباشر، وصوت العربات في الطريق الآن يطرق سمعي بطريق مباشر وهكذا. هذه كلها شذرات من معرفة مباشرة، أو معرفة بالاتصال المباشر بيني وبين الأشياء التي أحسها بحواسي، فإذا تناولت هذه المعطيات الحسية وركبت منها أشياء في ذهني. كان هذا التركيب الناشئ معرفة بالوصف، فأنا أقول «ورقة» لكنني في الحقيقة لا أرى ورقا ولا ألمس ورقا، إنما أرى لمعة بيضاء، وألمس ملمسا لينا، فإذا أضفت هذه اللمعة الضوئية المعينة إلى هذا الملمس اللين إلى غير ذلك من سائر المعطيات الحسية التي تأتيني من مصدر خارجي معين، ثم أطلقت على التركيبة التي ركبتها اسم «ورقة»، كان هذا الاسم في الحقيقة إنما يسمى تصورا أنا الذي أنشأته لنفسي من المادة الخامة التي جاءتني متناثرة في معطيات حسية مباشرة، وإذن فهي معرفة يدخلها استدلال، وليست هي بالمعرفة المباشرة، فكل معرفة مباشرة هي من قبيل المعرفة الجزئية، لأن حواسنا - بالبداهة - لا تمس إلا موجودا مفردا فريدا ماثلا أمام الحواس؛ وأما المعرفة الكلية بشتى درجاتها فمعرفة من الضرب الثاني، وهي المعرفة بالوصف، فليس في وسعك أن تكون كلمة كلية مثل «ورقة» أو «شجرة» إلا إذا كان لديك قبل ذلك حصيلة من معرفة جزئية حسية مباشرة، ثم بنيت منها تركيبات في ذهنك، أسميت تركيبة منها «ورقة» وتركيبة أخرى «شجرة» وهلم جرا.
ويؤدي هذا التحليل بنا إلى نتيجة خطيرة، وهي أن الكلمة الكلية ليست في الحقيقة اسما واحدا يطلق على شيء بعينه كما قد يتبادر إلى الذهن، بل هي رمز تكون في الداخل ولا يقابله شيء قط في الخارج؛ فليس في الخارج شيء معين قائم في نقطة مكانية معينة وفي لحظة زمانية معينة، اسمه «شجرة» على سبيل الإطلاق والتعميم، بل الذي في الخارج هو هذه الشجرة المفردة المعينة وتلك الشجرة المفردة المعينة، وأما الكليات والتعميمات فمقامهما في الذهن ولا وجود لها في الخارج؛ ومعنى ذلك أن كل كلمة كلية تظل تركيبة صورية معلقة بغير مدلول حتى نعثر لها على الفرد الجزئي الذي ندركه بالحس المباشر، فيحول الوجود الذهني الصوري إلى وجود فعلي واقعي.
الكلمة الكلية ليست اسما واحدا يطلق على شيء بعينه، بل هي عبارة وصفية بأكملها ضغطت في كلمة واحدة، فقولك «إنسان» مساو لقولك: «كائن ما يتصف بكذا وكذا من الصفات.» وهذه العبارة الوصفية قد تجد الفرد الذي يتمثلها ويجسدها، فتتحول من مجرد ثوب خال بغير لابس إلى أمر واقع ملموس، أو إلى فرد معين يلبس ذلك الثوب ويجسده. وهكذا يصبح المدار في مدلول الكلمات ومعنى العبارات كلها هو عالم الحس وما فيه من أشياء ومن أفراد، فإن وجدت هذه؛ كان للكلمات والعبارات مدلول ومعنى، وإلا فهي تظل صورة خالية معلقة، وهذا هو معنى قول رسل: إن الكلمات الكلية رموز ناقصة؛ لأنها في ذاتها لا ترمز إلى شيء، ولا بد لها أن تكمل بفرد نصادفه في عالم الأفراد المحسوسة ليكمل معنى الرمز الناقص.
4
قلنا إنك إذا ما ركنت إلى حواسك في إدراك العالم من حولك، ألفيتك - في حقيقة الأمر - لا تدرك «أشياء» مجسدة بل تدرك أحداثا متلازمة أو متتابعة؛ فأنت لا تدرك «منضدة» و«مقعدا» و«ورقة» و«قلما» بل تدرك لمعات من الضوء ونبرات من الصوت ولمسات من الصلابة أو الليونة وهكذا. أما المنضدة بكتلتها وجسمها، والمقعد بكتلته وجسمه وهكذا، فكما أسلفنا، تركيبات ذهنية نركبها في الداخل من تلك المعطيات الحسية الآتية من الخارج، فما لمعات الضوء ونبرات الصوت ولمسات الصلابة «بأشياء» بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، بل هي أحداث، ومن هذه الأحداث يتكون العالم كما نعرفه.
وحلل المادة مهتديا بالفيزياء الذرية الحديثة، تجدها قد فقدت ما كان يعزى إليها من تماسك وصلابة، لأنها قد ارتدت إلى ذرات، لا بالمعنى القديم الذي كان يجعل الذرة أشبه بكرة صغيرة متصلبة مكتنزة اللحم والعظم، بل بالمعنى الجديد الذي يجعل الذرة كهارب موجبة وكهارب سالبة، أو قل إنه يجعلها إشعاعا ضوئيا يمتد على فترة من الزمن، فكأنما الذرة الواحدة قوامها سلسلة أحداث يتلو بعضها بعضا، فهي بمثابة تاريخ متصل الحلقات متتابع الحوادث، وليست هي بالشيء الذي يوجد كله دفعة واحدة في لحظة واحدة.
وهكذا الأمر في كل شيء: كل شيء هو خط من حوادث، أو هو سيرة وصيرورة، والذي يجعله شيئا واحدا هو ما بين أجزائه المتتابعة من علاقات تتشابك على نحو فريد، فأنت وأنا ونهر النيل والشمس والقمر، كل كائن من هذه الكائنات لا يوجد كله دفعة واحدة؛ فالواحد منا هو سيرته وتاريخ حياته. إنه لم يكن كله قائما ساعة الولادة، ولا هو كله قائم الآن، بل إنه نمو متصل وتطور مستمر، هو تغير دائب هو تيار دافق من حالات وحوادث: هذه الدقات التي يدقها قلبه، وهذه الأنفاس التي تتنفسها رئتاه، هذا الوقوف والجلوس والمشي والجري والكتابة والقراءة، هذا الحزن والفرح والخوف والغضب والحب والكراهية، هذه الصحة وهذا المرض، هذه الألوف من الحالات والحادثات هي أنت وهي أنا، وقل شيئا شبيها بهذا في تاريخ النهر وتاريخ الشمس وتاريخ القمر. الشيء هو الأحداث التي تكون تاريخه، ولهذا التاريخ مبدأ ومنتهى، وبينهما امتداد زمني يقصر أو يطول ، كاللحن الموسيقي نصفه بالواحدية مع أنه لا يكتمل كله دفعة واحدة في لحظة واحدة، بل هو نغمات تتعاقب على فترة من زمن، وأما الذي يجعله لحنا واحدا رغم كثرة حوادثه وطول امتداده، فهو العلاقات المتميزة الفريدة التي تصل تلك الأحداث من أولها إلى آخرها. وكذلك المسرحية تشتمل على ألوف الأحداث، وتمتد في الزمن بضع ساعات ومع ذلك تكون مسرحية واحدة لما بين أجزائها من علاقات توحدها في إدراكنا.
لقد أخطأت الفلسفة التقليدية حين توهمت في الأشياء دواما عنصريا، فظنت أن الكائن هو هو دائما، وله جوهر ثابت، والذي أوهمها هذا الوهم أننا نطلق على الشيء اسما واحدا، فانتقلت واحدية الاسم في تصورهم إلى واحدية المسمى، لكن المسمى - كما رأينا - مهما يكن، ليكن ذرة صغيرة أو ليكن الأرض بأسرها، إن هو إلا مجموعة حوادث، إن كانت لها ذاتية خاصة فبفضل العلاقات الرابطة لهذه الحوادث، لا بفضل جوهر غيبي يكمن داخل الشيء ويكسبه ذاتيته المفروضة.
5
وكون الأشياء مؤلفة من حوادث، فلا عناصر دائمة ولا ذوات ثابتة، قد أدى بفيلسوفنا رسل إلى نظرية ميتافيزيقية فريدة في نوعها؛ فقد كان الفلاسفة فيما مضى لا يعرفون إلا جوهرين، يردون الكون إليهما معا أو إلى واحد منهما، وهما الروح والمادة، أما المثاليون فيعترفون بالروح دون المادة، ويفسرون كل الظواهر المادية على أساس روحاني، إذ يجعلونها حالات من خبرة عقلية لذات عاقلة، أو يجعلونها كيانات مجردة مفارقة لعالم الحس، وأما التجريبيون فيعترفون بالمادة دون الروح، ويترجمون كل الحالات العقلية إلى معطيات حسية، ومعطيات الحس طبعا شيء يتعلق بالجسد وحواسه. وهنالك إلى جانب أولئك وهؤلاء فلاسفة يجمعون بين الجوهر، فيقولون إن الكون روح ومادة معا، كما أن الإنسان عقل وجسم معا.
لكن رسل قد ذهب في ذلك مذهبا جديدا، أقامه على أساس تحليله للأشياء إلى حوادث؛ وهو مذهب كان قد سبقه إليه وليم جيمس، ومؤداه أن قوام الكون هيولى محايدة، فلا هي عقل فقط ولا هي مادة فقط، ولا هي عقل ومادة معا، بل هي مصدر محايد سابق على العقل والمادة. وإنما تكون الحالة المعينة عقلية أو مادية بحسب الطريقة التي ترتب بها الحوادث، فإذا رتبت على نحو ما، كانت مادة، وإذا رتبت على نحو آخر، كانت عقلا. والأمر هنا شبيه بأن تكون لديك عشر خرزات مثلا، ترصها على نحو، فتكون مربعا وترصها على نحو آخر، فتكون دائرة، لكن الخرزات نفسها محايدة بالنسبة للتربيع والتدوير، والأمر أمر ترتيب وتنظيم. فافرض مثلا أنك تتلقى شعاعا ضوئيا آتيا إليك من بقعة ملونة أمامك، فما الذي يحدث؟ يحدث خط من حوادث يبدأ من مصدر الضوء ويسير في الطبيعة الخارجية حتى يصل إلى سطح العين، ثم يستمر خط الحوادث عن طريق الأعصاب إلى المخ فتتم الرؤية. فإذا كنا قد اصطلحنا على أن نسمي الشوط الذي تقطعه الحوادث خارج العين مادة، وأن نسمي شوط الحوادث داخل الجسم الحي عقلا، فليس الاختلاف في الكيان الأصلي الذي هو حوادث في كلتا الحالتين، لكن الاختلاف في سياق الحوادث وترتيبها، ولو انتزعت حادثة واحدة على حدة ونظرت إليها مفصولة عن كل ما عداها، لما عرفت أعقل هي أم مادة، تماما كما تنظر إلى اسم واحد مثل إسماعيل، فلا تدري أهو موضوع في موضعه على أساس الترتيب الأبجدي أم على أساس الرتبة؛ لأنك لكي تحكم عليه بهذا أو بذاك، لا بد لك أن ترى الاسم في قائمة مع أسماء غيره، لتحكم عليه في سياقه؛ وهكذا الحكم على الحوادث في نسبتها إلى المادة أو إلى العقل، يحتاج إلى سياق وترتيب يقررانه.
فهنالك وسيلتان لتصنيف الحوادث الجزئية، إحداهما أن تضم مجموعة الظاهرات التي تعد أجزاء من تاريخ شيء معين، كالشمس مثلا، فتكون منها ما تسميه بالشيء المادي؛ والأخرى أن تضم ظواهر الأشياء المختلفة عند التقائها في بؤرة واحدة كالجهاز العصبي لفرد من الناس، فتكون منها ما تسميه بالحياة العقلية لهذا الفرد؛ والظاهرات هي الظاهرات في كلتا الحالتين، ففي الحالة الأولى تفرقت حوادث المصدر الواحد في عدة نقط مكانية، كالشمس تراها في كل نقطة مكانية بينها وبين الشمس خط لا يحوله حائل، بدليل أنك إذا وضعت مرآة في أية نقطة تواجه الشمس، التقطت صورتها، مما يدل على أنها كانت موجودة في الموضع الذي وضعت فيه المرآة، فإذا أنت جمعت هذه الظاهرات الشمسية المتفرقة في مصدر واحد كان لك بذلك الشيء المادي الذي تسميه شمسا. وأما في الحالة الثانية فتتجمع في نقطة واحدة ظاهرات كثيرة جاءت من مصادر مختلفة، كأن تتجمع - مثلا - الأشعة الآتية من الشمس الأشعة الآتية من نجوم أخرى، تتجمع هذه وتلك في بؤرة واحدة تتقاطع عندها خيوط الأحداث المتعددة المصدر، فإذا تصادف أن كانت تلك النقطة الواحدة التي يحدث التقاطع عندها مخا بشريا، كان لنا ما نسميه عقلا.
6
ولبرتراند رسل - غير جوانب فلسفته في التحليلات المنطقية الرياضية، وفي نظرية المعرفة وتحليل العقل والمادة - جهود معروفة في التربية والأخلاق والسياسة، لا بل إن جمهرة القراء لا تعرف من رسل إلا ما كتبه في هذه الموضوعات، مع أنها لم تشغله بصفة جادة إلا سنوات قلائل بعد الحرب العالمية الأولى، أملا منه في إصلاح الإنسانية إصلاحا تتغلب به على الحروب القادمة، أما قبل ذلك وأما بعد ذلك فهو فيلسوف بإنتاجه الفلسفي بمعني هذه الكلمة عند المحترفين. ومهما يكن من أمر، فلو جاز لنا أن نلخص كتبه التي كتبها في التربية والأخلاق والسياسة في كلمة، لقلنا إنها كتب تدعو إلى الحرية بأوسع معانيها وأعمقها.
إلا إنه لمن أشق الأمور وأعسرها أن نوجز القول هذا الإيجاز الشديد في فيلسوف وكاتب لبث يخرج مؤلفاته متتابعة تتابعا سريعا أكثر من ستين عاما، تطور خلالها فكره الفلسفي في كثير من المسائل، وكان آخر كتاب أخرجه هو كتاب يشرح فيه تطور فلسفته. وقد كان لصاحب هذا المقال بعض الجهد في نقل فلسفة برتراند رسل إلى العربية ترجمة وتأليفا، فألف عنه كتابا يوجز القول في مذهبه الفلسفي، وترجم له تاريخ الفلسفة الغربية، وكتابا آخر أسماه رسل بالموجز في الفلسفة، وأطلق عليه صاحب الترجمة العربية عنوانا آخر ليدل على حقيقة مضمونه وهو «الفلسفة بنظرة علمية». هذا عدا فصول مطولة خصصها في كتبه الأخرى لشرح هذه الناحية أو تلك من نواحي هذا الفيلسوف الخصب. والحق أنه ما كان لأمة ناهضة أن تغفل عن فيلسوف يملأ الدنيا بصوته ويشغل الأذهان بفكره. (5) تشارلس بيرس
من الفلاسفة من تقرأ لهم فتراك تنساب على بسيط هين لا تعترضه حزون، فيشوقك السير، ولكنك إذا ما أكملت الشوط وجدت جعبتك تكاد تخلو من الجديد الذي يهزك هزا. ومنهم من تقرأ لهم فتحس كأنما أنت تصعد الجبل الصعب، أمامك في كل خطوة عقبة لا بد من محاولة اجتيازها قبل أن تمضي في الصعود، لكنك إذا ما بلغت نهاية الطريق، ألفيت نفسك على قمة نقية الهواء، لا يشوب سماءها هذا الغبار الذي يكتنف حياة الناس فوق الأرض.
ومن هذا القبيل الثاني من الفلاسفة «تشارلز ساندرز بيرس»
Charles Sanders peirce (1839-1914م) الذي كان بمثابة أول فيلسوف أمريكي يخرج على العالم بفكر جديد يبلور فيه الحياة العقلية كما تمثلت في القارة الجديدة، فهو الذي خلق الفلسفة البرجماتية خلقا، ثم هو الذي بلغ بها غاية كمالها، فإذا ما جاء بعده التابعان الكبيران اللذان سارا على نهجه - وأعني بهما وليم جيمس
Wiliam James
وجون ديوي
John Dewey - لم يسعهما إلا أن يتحركا في الإطار نفسه، برغم ما جاءا به من تعديل وتحويل.
يقول الفيلسوف في مقال كتبه عن نفسه:
إنه منذ اللحظة الأولى التي استطعت فيها أن أفكر، وإلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور - ولي من العمر ما يقرب من أربعين عاما - قد انصرفت إلى التفكير في مناهج البحث التي يصطنعها الباحثون فعلا، والتي يمكنهم أن يصطنعوها لو أرادوا لأنفسهم الكمال. أقول إنني قد انصرفت إلى التفكير في مناهج البحث انصرافا لم يفتر لحظة واحدة. وقبل أن آخذ نفسي بهذه الدراسة، كنت قد أنفقت عشر سنوات تحت التدريب في معمل كيماوي، فكنت على إلمام تام بكل ما كان معروفا عندئذ في الفيزياء والكيمياء، بل كنت كذلك على إلمام تام بالطريقة التي كان ينتجها أولئك العلماء الذين تقدمت المعرفة العلمية على أيديهم، فحصرت انتباهي حصرا شديدا في المناهج التي تسير عليها أضبط العلوم، واتصلت أوثق اتصال بطائفة من جبابرة العقول في عصرنا بالنسبة إلى علم الفيزياء، بل إني قد أضفت إلى العلم إضافات جديدة - وإن كنت لا أظنها ذات خطر كبير - في الرياضة وفي نظرية الجاذبية وعلم البصريات والكيمياء والفلك وغيرها؛ ولذا فإنني مشبع من قمة الرأس إلى أخمص القدم بروح العلوم الفيزيائية، وذلك فضلا عن الدراسة الواسعة التي تناولت بها المنطق، فقرأت كل ما قد كتب في موضوعه مما يعد ذا أهمية في هذا المجال ... وانتهيت إلى إقامة مذاهب منطقية في منهج الاستنباط وفي منهج الاستقراء على السواء.
ويمضي بيرس في الرواية عن نفسه فيقول إنه عندما كان يدرس المدارس الفلسفية كلها، ويتتبع طرائق الفكر عند أصحابها، كان إنما ينظر إليها من وجهة نظر الباحث العلمي في معمله، يبحث عن الجديد الذي لم يعرف بعد، لا من وجهة نظر الفيلسوف اللاهوتي الذي يتناول مادته وكأنما هي معصومة من الخطأ. ويروي لنا بيرس في هذا الصدد أنه أمضى ساعتين من كل يوم خلال ما يزيد على ثلاثة أعوام، في دراسة كتاب «كانت» (نقل العقل الخالص)، حتى لقد حفظ محتواه عن ظهر قلب. إلى هذا الحد البعيد قد ذهب بيرس في دراسته للفلسفة الألمانية على وجه الخصوص، لينتهي إلى نتيجة، وهي أن معظم هذه الفلسفة ليس بذي قيمة تذكر من حيث المنهج الذي يؤدي إلى فكر جديد. نعم إنها فلسفة غنية بإيحاءاتها، حتى لتظهر الفلسفة الإنجليزية ذات الطابع التجريبي إلى جانبها فقيرة ساذجة، إلا أن هذه الأخيرة مع ذلك أرسخ من زميلتها منهجا، إذا ما نظرنا إلى المنهج على أنه الوسيلة المؤدية إلى جديد. ولأضرب لذلك مثلا فأقول إن من بين النتائج التي كانت الفلسفة الإنجليزية قد وصلت إليها بمنهجها نظرية «ترابط الأفكار» التي يعدها بيرس أهم نتيجة وصلت إليها الفلسفة في عصر ما قبل العلم.
واختصارا فإن بيرس يوجز موقفه الفلسفي فيقول: إن فلسفتي يمكن وصفها بأنها محاولة فيزيائي أن يصور بنية الكون تصويرا لا يتعدى ما تسمح به مناهج البحث العلمي، مستعينا في ذلك بكل ما قد سبقني إليه الفلاسفة السالفون. لكنني لن أصطنع في هذا طرائق الميتافيزيقيين في الاستنباط الذي يقيمونه على فروض من عندهم، ويصلون به إلى براهين يصفونها بالصواب القطعي الذي لا يتعرض للتعديل على ضوء ما قد تكشف عنه البحوث العلمية فيما بعد. كلا، بل طريقتي هي طريقة العلم نفسها، وهي أن أقدم صورة للكون على سبيل الافتراض الذي ينتظر الإثبات على أساس ما قد يتكشف لنا من حقائق، ولذلك فهو يتميز أول ما يتميز بقابليته للصواب وللخطأ وفق ما تقدمه المشاهدة لنا بعدئذ من شواهد.
أحسب أن أهم ما نميز به فلسفة بيرس هو أن نصفها بأنها فلسفة علمية، لكن هذه الصفة بدورها تحتاج إلى تحديد، فما هي الخصائص التي اجتمعت في تلك الفلسفة لتجعلها «علمية»، إلا أن صاحبها هو نفسه عالم في الفيزياء والكيمياء؟ أهي فلسفة تقدم لنا النظريات والقوانين عن هذه الظاهرة من ظواهر الطبيعة أو تلك؟ كلا، فهي ما زالت كأية فلسفة أخرى تحاول أن تجاوز حدود الظواهر الجزئية إلى حيث بناء الكون كله مأخوذا جملة واحدة، لكن الذي يجعلها «علمية» لا «تأملية» هو أنها إذا ما نسبت إلى الكون حقيقة ما، اعتمدت في ذلك على تأييد الوقائع التجريبية. وقد لا يجيء هذا التأييد التجريبي على يدي الفيلسوف نفسه، بل قد يجيء به باحثون من بعده؛ ولذلك كان الطابع العلمي يحتم أن تكون الفلسفة عملا مشتركا يتعاون على أدائه أكثر من شخص واحد. وليست هي بالإنتاج العقلي الذي ينجزه من أوله إلى آخره شخص واحد بمفرده. وها هنا تضع إصبعك على فارق من أهم الفوارق التي تميز بين الفلسفة العلمية المعاصرة كلها - وما بيرس إلا واحد من أركانها - وبين الفلسفة التأملية كما قد عرفناها على أيدي الفلاسفة الأعلام، من أمثال أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانت وغيرهم. فقد كان كل من هؤلاء يبني نسقه الفلسفي من الأساس إلى القمة، كأنما هو عمل فردي فني لا يجوز فيه أن يشارك فيه أحد أحدا، فإذا جاء أرسطو - مثلا - ولم يعجبه البناء الذي أقامه أفلاطون، أقام هو بدوره بناء آخر من الأساس إلى القمة كذلك، وهكذا دواليك. فالفلاسفة هنا كالأهرامات المستقل أحدها عن الآخر، وليسوا هم كالطوابق في البناء الواحد يكمل أحدها الآخر.
وإنه ليترتب على هذه التفرقة مميز هام مما يميز الفلسفة العلمية التي كان بيرس من أعلامها، وهو ألا تجيء الفلسفة على نسق مختوم مقفل لا يقبل الزيادة ولا التعديل، بل تكون كالعلم في كونها سيرا متصلا جديده بقديمه، بحيث لا يكون هناك أمر يقال عنه إنه هو الكلمة الأخيرة؛ إذ إن البحث الجديد في المستقبل من شأنه دائما احتمال أن يعدل من النتائج السابقة، وإذن فالحقيقة «المطلقة» مثل أعلى ننشده ونقترب منه شيئا فشيئا، ولكنه ليس بالشيء الذي يتحقق في الواقع المشهود.
كان الفيلسوف الميتافيزيقي التأملي يبدأ بحقيقة يصفها باليقين الذي لا يحتمل الشك، ثم يستنبط منها كل ما يستطيع استنباطه من النتائج، حتى إذا ما اكتملت حلقات الاستنباط كلها، كان له بذلك «نسقه الفلسفي» الذي يفسر به الكون جميعا، فإذا سألناه: ومن أين جاءتك هذه الحقيقة الأولية الأولى التي بنيت عليها كل هذه النتائج؟ أجاب بأنها جاءتها عن طريق «الحدس» أعني عن طريق العيان العقلي المباشر، أو إن شئت فقل جاءته عن طريق اللقانة أو البصيرة، أما أصحاب الفلسفة العلمية - وفي طليعتهم فيلسوفنا بيرس - فلا يضمنون لك أي يقين فيما يزعمون، إنهم يعلمون - كما علمهم العلم الطبيعي في المعامل - أن كل حقيقة مرهونة بالتجارب التي تؤديها، أما أن يكون للعقل الصرف لقانة تقذف بالحقائق من لدنها، فإذا هي اليقين الذي يسلم به وتبنى عليه الأحكام، فذلك ما يرفضه الفلاسفة العلميون رفضا حاسما.
على أن الفلسفة العلمية المعاصرة ألوان وشكول، وأحد ألوانها هو الفلسفة «البرجماتية»
التي أنشأها بيرس ثم جاء من بعده من جاء من أبطالها، وهي فلسفة تصور العصر العلمي الذي نعيش فيه اليوم بصفة عامة، وتصور الحياة العملية التي يعيشها الأمريكيون في مدينتهم الصناعية الحديثة بصفة خاصة، وكلمة «برجماتية» مصطلح أوجده بيرس نحتا جديدا من أصل إغريقي، ليدل بجدة اللفظ على جدة المذهب، وإلا فقد كان في وسعه أن يختار كلمة أخرى من اللغة المستعملة ليشير بها إلى الجانب «العملي» «التطبيقي» الذي أراده. (برجماتوس
باليونانية معناها الفعل أو العمل).
ولعل السؤال الرئيسي عند بيرس - وعند فلاسفة غيره كثيرين - هو هذا: ما هي «الفكرة»؟ إنه ما أسهل على الناس أن يقولوا إن لديهم «أفكارا» عن كذا وكيت، أفكارا سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها؛ فمتى تكون «الفكرة» جديرة بهذا الاسم؟ ما طبيعتها؟
هنا ستجد الفلاسفة أحزابا؛ ففلاسفة «مثاليون» يقولون إن «الفكرة» هي تصور عقلي يشترط أن يكون متسقا مع بقية التصورات العقلية ولا شيء غير ذاك. أي إنه لا يطلب من «الفكرة» في هذه الحالة أن تكون مقابلة لشيء في الطبيعة الخارجية، وعندئذ تكون مجموعة الأفكار كالبناء الرياضي، البحت، يقام في العقل خاليا من التناقض الداخلي بين أجزائه، لكنه لا يتوقف على كونه مطابقا لعالم خارجي.
وفلاسفة «واقعيون» لا يرضون بهذا التفسير، ويقولون إن «الفكرة» - مهما تكن - لا بد أن تكون مطابقة لشيء ما موجود في عالم الطبيعة الخارجية، سواء كانت تلك المطابقة تامة كصورة الشيء على صفحة المرآة ، أو كانت مطابقة يدخل فيها شيء من التباين بين الطرفين، كأن نقول - مثلا - إن ذوبان الثلج مطابق لحرارة موجودة خارج قطعة الثلج المذابة.
وأما «البرجماتيون» فيلفتون الأنظار إلى هذا الأمر لفتة جديدة؛ إذ يقولون إن الذي يحدد حقيقة «الفكرة» ليس هو «مقوماتها»، بل يحددها ما تستطيع أن «تفعله» في دنيا الأشياء. فالفكرة أداة تطلب لما تؤديه، وليست هي كالصورة الفنية ننظر إليها في ذاتها. الفكرة كمفتاح الباب، مثلا، ليس المهم فيه أن يكون مصنوعا من حديد أو خشب، بل المهم فيه هو أنه يفتح الباب المغلق، فإذا لم ينفتح به باب لم يكن مفتاحا مهما اتخذ لنفسه من صور المفاتيح.
عند البرجماتية، الذين هم على مذهب بيرس، أن الفكرة خطة العمل، وقيمتها في نجاح تلك الخطة. هي كالخريطة التي قيمتها كلها مرهونة، لا بجمال ألوانها وحسن شكلها وإحكام رسمها، بل بكونها أداة صالحة في يد المسافر يعرف بها أين النهر وأين الجبل. ألا ما أكثر الناس الذين يحسبون أن في رءوسهم «أفكارا»، حتى إذا ما سألتهم: وماذا تستطيع تلك الأفكار أن تؤديه في دنيا العمل؟ لم يحيروا جوابا؛ لأنها ليست في الحقيقة أفكارا بالمعنى الذي يحدده البرجماتيون. بل ما أكثر الفلاسفة الذين يتحدثون عما يسمونه «أفكارا» وهي في الحقيقة لغو لا ينفع ولا يشفع. وإذن فمقياسنا هو: ماذا عساي أن «أصنع» بهذه الفكرة أو بتلك، وبهذا الذي أستطيع أن أصنعه يتحدد «معنى» الفكرة.
فمذهب بيرس البرجماتي هو «قاعدة منطقية» لتحديد المعنى. وجدير بنا في هذا الموضوع أن نفرق بين شيئين لأهمية هذه التفرقة في فهم الفلسفة المعاصرة، بل في فهم الفرق بين برجماتية بيرس، وبرجماتية وليم جيمس، برغم كونهما من مدرسة فلسفية واحدة. والشيئان اللذان أحب أن أفرق لك بينهما هما: «المعنى» من جهة، و«الصدق» من جهة أخرى، فإذا كنت بإزاء جملة قالها قائل، مثل قوله «على سطح القمر جبال ووديان.» فهناك أمران متميزان: أولهما أن يكون لهذا الكلام «معنى» مفهوم، وثانيهما أن يكون هذا المعنى «صادقا» على الواقع . وبالطبع لا يتحقق «الصدق» على الواقع ما لم يكن للكلام معنى. ولكن قد يكون للكلام معنى مفهوم دون أن يكون صادقا على الواقع.
وبعد هذه التفرقة الهامة نقول إن برجماتية بيرس هي نظرية في «المعنى» ولا شأن لها بعد ذلك أصدق الكلام أم لم يصدق على الواقع.
فمتى يكون للعبارة «معنى» عند بيرس؟
تكون العبارة عنده ذات معنى إذا ما كانت ألفاظها دالة على خبرة حسية يمكن اللجوء إليها في عالم التجربة، وليس لأية لفظة من معنى سوى مجموعة تلك الخبرات الحسية المتوقع حدوثها. فمثلا إذا قلت عن شيء إنه «صلب»، فما معنى الصلابة؟ معناها خبرات نخبرها حين نستخدم ذلك الشيء في حياتنا العملية، فنراه يخدش غيره ولا ينخدش بغيره، ونراه يكسر غيره ولا ينكسر بغيره وهلم جرا. اجمع هذه «الأفعال» الممكنة كلها في قائمة ، يكن لك معنى كلمة «صلب» التي نصف بها الشيء الذي وصفناه بها. وأما إذا لم يكن لكلمة ما مثل هذه الإجراءات العملية التي تحدد معناها، فهي عندئذ بغير معنى مهما أكثر الناس من استعمالها في أحاديثهم.
وسأترك الأمر للقارئ، ليفكر لنفسه كم تتغير حياته الثقافية إذا هو حاسب نفسه بهذا المعيار في «المعنى»، فكلما نطق بكلمة أو عبارة، سأل: ما هو «العمل» الذي ينبني على مثل هذا القول - فعلا أو إمكانا - وإذا لم يجد لكلامه خطة منطوية على عمل، فليوقن مع بيرس - ومعي - أنه كلام بغير معنى. (6) وليم جيمس
ولد وليم جيمس
William James
في يناير من عام 1842م بمدينة نيويورك، وكان أكبر إخوة خمسة من بينهم الأديب القصصي المشهور هنري جيمس. ولد لأسرة مؤمنة بدينها مستمتعة بثرائها، لكنها كانت متعة الأسرة المثقفة المهذبة، فراح أفرادها يطوفون بمراكز الحضارة في أوروبا، يحصلون الخبرة الواسعة والعلم الغزير، وكان من نتيجة هذه الحياة المتنقلة أن تعلم وليم جيمس إبان مرحلته المدرسية الأولى في عدد من المدارس المختلفة موقعا وطابعا، فدخل مدارس نيويورك ولندن وباريس وجنيف. وأقل ما يقال عن هذا الترحل، من مدرسة هنا تتكلم الإنجليزية، إلى مدرسة هناك تتكلم الفرنسية أو الألمانية، أنه ما بلغ سن شبابه إلا وقد ألم بتلك اللغات جميعا إلمام الخبير بسرها، حتى إذا ما حان وقت الالتحاق بالجامعة، كانت الأسرة قد عادت من ترحالها الطويل إلى أرض وطنها، فدخل صاحبنا جامعة هارفارد
Harvard
بادئا بقسم الكيمياء، ثم منتقلا منه إلى قسم التشريح ووظائف الأعضاء، مستقرا آخر الأمر على دراسة الطب.
تخرج وليم جيمس من الجامعة طبيبا، وعين بأحد المستشفيات حينا، لكنه لم يلبث أن شد رحاله مرة أخرى إلى أوروبا حيث أكمل دراسته العليا في الطب، فلما أن عاد إلى هارفارد كانت قد خلت بالجامعة وظيفة مدرس لعلم وظائف الأعضاء فعين بها، وهاهنا أخذ يلقي سيلا من محاضرات عن صلة ذلك العلم بعلم النفس. وهكذا لبث خمسة أعوام خلص منها إلى تأسيسه لأول معمل لعلم النفس التجريبي في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت أولى ثمرات هذه الدراسة الطويلة كتابه العظيم «أصول علم النفس» الذي يقع في جزأين. وبعدئذ رقي أستاذا مساعدا للفسيولوجيا، فأستاذا مساعدا للفلسفة، فأستاذا للفلسفة عام 1885م، وكان عمره عندئذ ثلاثة وأربعين عاما.
كان طبيعيا أن يتجه وليم جيمس منذ ذلك الحين نحو التفكير الفلسفي الصرف - أعني أنه لم يعد يصرف كل عنايته إلى علم النفس - فأخرج كتابه «إرادة الاعتقاد» (وهو مترجم إلى العربية). وفي عام 1901م دعي إلى أدنبرة ليلقي سلسلة محاضرات في الدين والفلسفة، فكانت مجموعة المحاضرات التي ألقاها هي ما أصدره بعد ذلك كتابا بعنوان «صنوف من التجربة الدينية». وفي عام 1906م ألقى ثماني محاضرات في مدينة بوسطن، ثم أعادها بعد عام في جامعة كولمبيا، وهي التي تؤلف كتابه «البرجماتية». ولم يلبث بعد ذلك أن ألقى سلسلة أخرى من محاضرات جمعها في كتابه «الكون المتعدد» وسلسلة أخرى جمعها في «معنى الصدق» وأخرى في «التجريبية المتطرفة». وكان آخر كتاب له هو «بعض مشاكل فلسفية» (مترجم إلى العربية)، مات ولم يكمله، فنشر ما كتب منه بعد موته. وكان موته سنة 1910م عن تسعة وستين عاما.
لقد جاء كتاب «أصول علم النفس» نقطة تحول في تاريخ هذا العلم؛ ذلك أن علم النفس قبله كان محوره تفتيت عملية الإحساس إلى سلسلة من انطباعات تنطبع بها الحواس، ثم تترابط داخل الإنسان ترابطا قيل إن له قوانينه التي تحكمه، فالأفكار يشد بعضها بعضا في الذهن كما يشد الحجر حجرا بقانون الجاذبية. وكان مذهب الترابط بين الأفكار هذا أساسا هاما قامت عليه الفلسفة الإنجليزية التجريبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، على أيدي «لوك» و«هيوم». فكأنما العقل بغير فاعلية خلاقة، وكأنما هو «لوحة بيضاء» - كما قال «لوك» - ترتسم عليه الانطباعات الحسية وتتجاذب، ولا حيلة له فيما يتلقاه إلا أن يسجله على صفحته تلك. أما العقل عند وليم جيمس فمختلف عن هذه الآلية الصماء، إذ هو عنده أداة فعالة نشيطة، مهمته أن يوائم بين الكائن وبيئته مواءمة تعين صاحبه على البقاء؛ فهو أداة بيولوجية - كسائر أعضاء الكائن الحي - لا تنفك تواجه المواقف الجديدة الطارئة فترد عليها بما عساه أن يكتب النجاة والبقاء القوي لصاحب تلك الأداة.
لكن هذا الوصف للعقل إنما ينطوي على نتائج خطيرة، لأن كلمة «العقل» بهذا تصبح اسما لا على كائن روحاني قائم بذاته - بل على نمط معين من السلوك، وما الذي يؤدي السلوك؟ هو الكيان العضوي نفسه، هو الجسد الحي. وإذن فقد زال الحاجز التقليدي بين العقل والجسم؛ لأنه إذا كان العقل مجموعة سلوكية يرد بها الكائن الحي على بيئته، فهذا السلوك هو نفسه الجسم السالك، وليس هناك جانبان: أحدهما غيبي يصدر الأوامر، والآخر ظاهري مادي يصدع بما يؤمر به. كلا، بل هنالك كائن عضوي واحد لا يتجزأ، هو الذي يسلك في بيئته على نحو معين. وهكذا تحطمت الثنائية التي شطرت الإنسان - بل شطرت الكون كله - نصفين: فعقل في جانب وجسم في جانب آخر.
بل إن هذا القضاء على الثنائية سرعان ما انتهى به إلى رأي فلسفي ابتكره ابتكارا ليجيء نتيجة متفقة مع تلك الوجهة من النظر، فأخذه عنه برتراند رسل
Bertrand Russell
وطوره ونماه، وأعني به فكرة «الواحدية المحايدة» ويقصد بها أن العقل والجسم كليهما من عنصر مشترك، والذي يجعل العقل عقلا والجسم جسما ليس هو اختلافهما في العنصر، فذلك روحاني وهذا مادي كما كان يقال، بل الذي يجعلهما كذلك هو طريقة ترتيب العنصر الواحد، فإذا رتب على صورة كان عقلا وإذا رتب على صورة أخرى كان جسما، كما يكون لديك حبات من الحصى ترصها على نحو فإذا هي دائرة، وترصها على نحو آخر فإذا هي مربع، والحصى في كلتا الحالين لم يتغير.
على أن الفكرة الرئيسية في فلسفة وليم جيمس، هي نفسها الفكرة الرئيسية عند أنصار الفلسفة البرجماتية
، ألا وهي الفكرة الخاصة بتحديد مفهوم «المعنى». فماذا الذي يجعل للعبارة «معنى» على الإطلاق؟ جواب البرجماتيين جميعا هو أن ما يجعل للعبارة «معنى» كونها ذات نتائج عملية تترتب على تنفيذها، أما إذا كانت أمامك عبارة لا تدري كيف تحولها إلى تجربة عملية تحسها بحواسك، كانت تلك العبارة بغير معنى، ومن زعم أنه يفهم لها معنى كان مهوشا مخدوعا. وإنه لمن حسن الحظ أن الناس في حياتهم العملية وفي حياتهم العلمية على السواء إنما يجرون في التفاهم على هذا الأساس نفسه، فإذا قلت لي مثلا: «في هذا الطبق شواء.» فهمت لقولك معنى لأنني أعلم بخبرتي الحسية السابقة طبيعة الإحساسات التي تتأثر بها أعضاء الحس من شم وطعم، بل من بصر ولمس، عندما يكون الشيء لحما مشويا. وكذلك في الحياة العلمية حينما يقول عالم لزميله العالم: «إن في هذه الأنبوبة غازا قابلا للاشتعال.» فيفهم الزميل كلام زميله؛ لأن وراء كل كلمة من هذه الكلمات رصيدا من خبرة حسية سابقة، على ضوئها يفهم المراد.
لكن الإشكال يبدأ حين ندخل ميدانا ثالثا، لا هو حديث الحياة الجارية كل يوم ولا هو حديث العلماء في معاملهم، بل هو ميدان عجيب يقال له «الفلسفة» أو ما يجري مجراها من كلام يحدثك بكلمات لا تستند إلى رصيد من خبرة حسية سابقة، ومع ذلك يطلب منك أن تقول إنك تفهم له «معنى»، كأن يقال لك مثلا إن لكل شيء «جوهرا» خافيا عن الحواس كلها، هو الذي يكسب الشيء هويته. وهم بطبيعة الحال لا يريدون بهذا «الجوهر» لونا ولا صوتا ولا طعما ولا رائحة ولا غير ذلك مما تدركه الحواس من بصر وسمع وغيرها. فلو أردت إزاء هذا القول أن تكون برجماتيا، وجب أن تسأل الزاعمين: ما هي النتائج العملية التي تقع في خبرة الإنسان بسبب كون الشيء ذا «جوهر» والتي ما كانت لتقع لو لم يكن له ذلك «الجوهر»؟ كيف تتغير هذه «البرتقالة» مثلا بين حالة أن يكون لها جوهر وحالة ألا يكون؟ فإذا قيل لك إن ليس ثمة من فرق ظاهر في النتائج العملية التجريبية، فاعلم أن كلامهم إذن كان بغير «معنى» على مذهب البرجماتيين.
إن هذه النظرية في «المعنى» من شأنها أن تحسم كثيرا جدا من أوجه الخلاف التي تنشب بين الناس، فما أكثر ما يختلف اثنان على شيء، فيكون لكل منهما قول فيه يختلف عن قول زميله، حتى إذا ما احتكما إلى التطبيق العملي ألفيا القولين ينطبقان على صورة واحدة - وإذن فقد كانا قولين مترادفين رغم اختلاف اللفظ - أو ألفيا القولين معا لا ينطبقان في التجربة العملية - وإذن فكلاهما باطل - أو ألفيا أحد القولين دون الآخر ممكن التطبيق العملي، وإذن فهو وحده القول الصائب، فافرض مثلا أن شخصين اختلفا فقال أحدهما إن العالم قوامه مادة لا روح، وقال الآخر بل قوامه روح لا مادة، ثم أرادا أن يحتكما إلى النتائج العملية التجريبية الحسية ليريا أيهما الصواب، فماذا يجدان؟ ماذا يتوقعان للعين أن ترى وللأذن أن تسمع وللأصابع أن تلمس، ليكون القول صائبا أو خاطئا؟ إنه لا نتائج عملية، فكل من الشخصين يأكل كما يأكل زميله ويشرب كما يشرب زميله، ويمشي ويقرأ ويصح ويمرض. وإذا كان ذلك كذلك فقد كانت الموازنة بين المادة والروح بغير «معنى».
إلى هنا يتفق البراجماتيون جميعا - ومنهم جيمس - في نظرية «المعنى»، لكن جيمس يتفرد وحده من دونهم جميعا بنظرية أخرى يضيفها عن «الحق» أو «الصدق»؛ ذلك أن العبارة ذات «المعنى» لا يتحتم أن تكون صادقة بل حسبها لتكون ذات «معنى» أن تكون مفهومة على أساس ما عساه أن يصادف الحواس من خبرات لو كانت صادقة. ومن البرجماتيين - مثل بيرس - من يكتفي بنظرية «المعنى» وحدها، ولا شأن له بأن تصدق العبارة ذات المعنى بعد ذلك أو لا تصدق. أما وليم جيمس فيهتم أيضا «بصدق» الكلام متى يكون وكيف يكون، فيقول إن العبارة تكون «صادقة» (لا مجرد كونها ذات معنى مفهوم) إذا تصرفت على أساسها فلم تجد ما يعترض طريقك الذي يوصلك إلى غايتك. والأمر في ذلك شأنه شأن الفروض العلمية ذاتها، فكيف يقرر العالم أن فرضه الذي يفرضه ليفسر به ظاهرة معينة هو فرض صحيح؟ إنه يقرر ذلك على أساس أنه لا يجد ما يعترض سبيله في تطبيقه وفي التصرف على أساسه، أما إذا وجد من الوقائع ما يند عن ذلك، عرف أن فرضه باطل. فهكذا الحال في كل جملة تقولها عن أي شيء في حياتك اليومية، فقولك - مثلا - عن منزل صديقك إنه يقع عند ملتقى شارع كذا بشارع كيت، هو تماما كقول العالم إن بئرا للبترول تقع عند ملتقى ذلك الجبل بشاطئ البحر. كلا القولين يكون صادقا لو تصرفنا على أساسه فنتجت لنا النتائج المرتقبة.
فليس «الحق» كيانا مجردا قائما بذاته كذلك «الحق» الذي ظل يبحث عنه الفلاسفة والمتصوفة قرونا. بل ليس «الحق» صفة تصف الجملة الصحيحة في ذاتها، حتى ولو لم يكن لها انطباق على واقع، بل «الحق» هو طريقة عمل، هو طريقة أداء من شأنها أن تنجز أمرا وأن تحقق هدفا. والجملة التي لا يمكن جعلها سلاحا في يدك تشق به هذا الطريق أو ذاك، هي جملة باطلة (هذا على فرض أنها جملة ذات معنى مفهوم). وهكذا تصبح كلمة «الحق» وكلمة «النفع» مترادفتين، فنقول عن فكرة إنها نافعة لأنها حق، أو إنها حق لأنها نافعة. والقولان في «المعنى» سواء، لأنهما في طريقة التنفيذ التجريبي سواء. وفي هذا الصدد يقول جيمس تشبيهه المشهور وهو أن الجملة المعينة من حيث كونها حقا أو باطلا، هي كالعملة النقدية من حيث كونها صحيحة أو زائفة، فالعملة النقدية صحيحة ما دامت مقبولة في التبادل التجاري، فإذا ما اعترض عليها معترض ذات يوم بحيث بطل استعمالها في البيع والشراء، أصبحت زائفة منذ ذلك التاريخ. وكذلك القول المعين يظل صحيحا ما دامت له (قيمة فورية) أي ما دامت له نتائج عملية تحقق الأهداف المنشودة حتى إذا ما أخذ يتعثر في التطبيق بدأ بطلانه، وقد يظل إلى الأبد ناجحا في التنفيذ فيظل إلى الأبد قولا «حقا» أو «صادقا».
لكن فيلسوفنا المتدين بحكم نشأته، الرقيق المهذب بحكم فطرته، العاطفي الحساس بحكم نظرته، قد عرف كيف يستخدم معياره في «الصدق» ليبرهن به هو نفسه على حقيقة وجود الله. أليس صدق العبارة المعينة مرهونا بنتائجها العملية في مجرى التجربة ومجرى الحياة؟ إذن فهاك عبارة تقول إن «الله موجود»، وانظر إليها محتكما إلى هذا المعيار نفسه ، تجد الفرق شاسعا بين سلوك من يؤمن بصدقها ومن لا يؤمن، فالأول يكون عادة مستبشرا متفائلا مليئا بالأمل والرجاء، على حين يكون الثاني متشائما يائسا ينظر إلى الدنيا وما فيها نظرة سوداء. فماذا تسمي هذا الفرق في الحياة عند الرجلين إلا أن يكون «نتائج عملية» ترتبت على الأخذ بالجملة المذكورة أو برفضها؟ وإذن فمن الوجهة البرجماتية الصرف، يقوم الدليل على صدق تلك الجملة، لكن صدقها في هذه الحالة لا يكون مستندا بالضرورة إلى كائن موجود فعلا خارج الإنسان، بل يستند إلى الطريقة السلوكية ونوعها، إذا ما اتخذت تلك الجملة أداة هادية للعمل. وفي هذا يختلف وليم جيمس عن بقية زملائه البرجماتيين، اختلافا حدا ب «بيرس» - وهو الذي استعمل كلمة برجماتية لأول مرة - أن يحتج على إساءة استخدام هذه الكلمة على يدي جيمس، قائلا إنه سيتخذ لنفسه كلمة أخرى يسمي بها مذهبه، وسيتوخى فيها أن تكون قبيحة ثقيلة على النطق حتى لا يخطفها الخاطفون ثم يسيئون استعمالها، ألا وهي كلمة «براجماتيقية». فما كان بيرس يحب لمذهبه أن يجاوز حدود العبارات العلمية ومعانيها إلى حيث العقائد التي مدارها الإيمان لا المنطق.
لكن وليم جيمس بما وهبه الله من خفة روح وطلاوة حديث وسلاسة، ظل في دنيا المثقفين غربا وشرقا هو اللسان المعبر عن المذهب البرجماتي، أو قل عن الفكر الأمريكي كله، أمدا طويلا. (7) جون ديوي
ولد جون ديوي
John Dewey
سنة 1859م وهي السنة نفسها التي أصدر فيها «دارون» كتابه أصل الأنواع
Origin of Species
الذي تستطيع أن تعده فاصلا بين عصرين ثقافيين، عصر ثقافي قبله يتصور العالم سكونيا ثابتا، وعصر ثقافي بعده - يمتد حتى يومنا الراهن - يجعل حقيقة العالم تغيرا وتطورا وحركة. وأحسب أن لو وضحت لنا هذه الحقيقة الكبرى، فقد وضحت بالتالي المبادئ الأساسية التي تقوم عليها كل ثقافتنا القائمة، وهي الثقافة التي تمثلت - كما أسلفت - في فلسفة جون ديوي. ولن يضيع وقتنا سدى إذا ما وقفنا وقفة قصيرة لنلقي بعض الضوء على هذا الذي نقوله.
فالكثرة الغالبة من الفلاسفة فيما قبل القرن التاسع عشر، كانت تنظر إلى الكون على أنه شيء أزلي أبدي ثابت على سنن بعينها، وما كان على الفيلسوف إلا أن يحاول استخلاص الإطار الثابت الذي تجري الأحداث على مقتضاه، فلئن رأيت بعينك الأشياء الجزئية متحولة متغيرة، فذلك خداع ووهم، وعمل العقل أن يزيح هذه الغشاوة الخادعة، ليغوص إلى ما وراءها من حق لا يطرأ عليه تغير ولا تحول. ولكم سمعنا أولئك الفلاسفة يقولون إنهم ينشدون (الحق) وراء هذه الظلال العابرة، ثم هم بعد ذلك يختلفون فيما بينهم عن كنه ذلك (الحق) الثابت ماذا عساه أن يكون. وقد كان من نتائج هذه النظرية السكونية أن تصور الناس أن لا سبيل إلى تغيير وتبديل في أوضاع هي (بطبيعتها) هكذا، فالحيوان حيوان والشجر شجر والإنسان إنسان، لا بل إن هذا الإنسان بدوره فيه - بحكم طبيعته الثابتة - أعلى وأدنى، إلى آخر النتائج البعيدة المدى التي ترتبت على تلك النظرة، وهي نتائج إن يكن العلم الحديث قد أزال بعضها، فما زلنا نستمسك ببعضها الآخر؛ إذ ما زلنا في عالم القيم - الأخلاقية والجمالية - نحسب أن ثمة مثلا عليا متفقا عليها، محال أن تتغير إلا عند من طمس الله فيهم البصر والبصيرة. فهكذا نقول حتى اليوم؛ نقول إن الفضائل الفلانية لا ينكر فضلها إلا زنديق أو جاهل أو مخدوع، فكأنما رضي الإنسان لنفسه تحت ضغط العلم وقوته أن يسلم له الزمام في مجال الظواهر الطبيعية، بل في كثير من الظواهر الاجتماعية ذاتها، أما القيم الأخلاقية والسياسية والجمالية، فقد تشبث بالحرص عليها، لا يدعها تخضع للنظرة العلمية الجديدة، ليظل الأخلاقي على معناه القديم وليظل الجميل جميلا أبد الآبدين.
وجاء جون ديوي ثالث ثلاثة ضخام حملوا الفلسفة البرجماتية (العملية والعلمية) على كواهلهم - والآخران هما (بيرس) و(وليم جيمس) - لكن هؤلاء الثلاثة جميعا، وإن اتفقوا في الأصول، فقد كان لكل منهم لون يميزه. واللون الذي يميز ديوي من دونهم، هو محاولته استخدام منهج العلوم عند التفكير في القيم، فينبغي أن تكون الصورة المثلى التي نصور بها فضيلة من الفضائل - مثلا - بمثابة (فرض علمي) يخضع للتجربة العملية، فإن ثبت صدقه على الواقع كان بها، وإلا وجب أن نصوغه صياغة أخرى بحيث يحقق للإنسان حياة يبتغيها. وليست العبرة هنا بكل فرد على حدة، بل بمجموع الأمة أو الإنسانية كلها، تماما كالفروض، لا تتحقق لفرد بعينه وكفى، بل لا بد لها أن تتحقق لمجموعة العلماء المشتغلين بالفرع الذي جاءت تلك الفروض لتفسير ظواهر تقع في مجاله.
ولنبدأ قصة فيلسوفنا من بدايتها؛ فنقول إنه قد ولد ونشأ في أسرة زراعية ريفية في ولاية بأقصى الشمال الشرقي من الولايات المتحدة، ثم كتب له وهو في الجامعة أن يدرس فلسفة هيجل
Hegel
ويتأثر بها، شأنه في ذلك شأن كل دارس للفلسفة عندئذ بغير استثناء؛ إذ الموجة الهيجلية كانت إذ ذاك قد طغت على كل ما عداها من موجات الفكر الفلسفي، سواء في القارة الأوروبية بما فيها إنجلترا، والقارة الأمريكية. لكن الحظ قد شاء لفيلسوفنا أن ينتقل إلى شيكاغو في أوائل أعوام نضج الرجولة، فما أشد ما لحظه من خلاف بين الحياة كما رآها في هذا الإقليم الأوسط وبين الحياة كما عهدها في شرقي الولايات المتحدة الذي كانت قد استتبت أموره، واستقرت على حال معينة، حتى لكأنه امتداد لأوروبا والعالم القديم. ففي شرقي الولايات المتحدة - حيث ولد ديوي ونشأ - محافظة على القديم، وإيثار للسلامة والأمن، وبعد عن المخاطرة والمغامرة، أما في هذا الإقليم الأوسط فقد رأى الثراء الطائل يجمعه صاحبه في مثل اللمح بالبصر، وقد يفقده كذلك في مثل اللمح بالبصر! ها هنا مغامرة ومخاطرة وجرأة وطموح. ولئن كان هذا كله ينتهي أحيانا بالإخفاق فهو في معظم الأحيان ينتهي بصاحبه إلى نجاح. إن الحياة هنا «مقامرة» كبرى لا «يقين» فيها، لكنها مقامرة تبنى على «ترجيح» الكسب، أوتحسب أن معلما جاء ليعلم أبناء قوم كهؤلاء، كان لينظر إلى هذه الحياة الجارفة من حوله، التي تملؤها روح الابتكار ويسودها الأمل فيما هو جديد، ثم يعلم النشء أن «الحق» واحد ثابت لا يتغير ولا يتطور؟ أي حق هذا؟ أهو الحق في عالم التجارة أم الحق في عالم الصناعة؟ فقد وفد جون ديوي على قوم لا يؤمنون بالجلوس الهادئ على كراسي ثابتة القوائم يدرسون «نظريات» لا تسمن ولا تغني، بل يؤمنون «بالعمل» اليدوي وبالسعي الدءوب الذي لا يفتر لحظة عن الإنتاج والخلق.
ألا ماذا كان لفيلسوف حساس لما حوله - وهذا هو ما كان قائما حوله - سوى أن يوائم بين الفكر والعمل؟ أكان يجوز لفيلسوف يعيش وسط هذا النجاح المزدهر، أن يقول للناس: ليكن مقياس الصواب عندكم هو ما قاله الأسلاف؟ أم كان لا بد له أن يتأثر بالواقع وقوته فيقول: بل إن مقياس الصواب هو النتائج، فما كانت نتيجته نجاحا في حل المشكلات العملية فهو الصواب. إن كل شيء في حياة الإنسان قابل للتغير، ولا مفر من تغييره إن دعت الضرورة إلى ذلك التغيير، فلا يجوز لشيء - كائنا ما كان - أن يقف حائلا في طريق الإصلاح الاجتماعي وتوفير العيش الرغد للإنسان العامل. نعم إنه لا بد من تغيير قواعد الأخلاق ذاتها إن اقتضى الإصلاح هذا التغيير، وكذلك لا بد من تغيير أسس السياسة والاقتصاد والتربية وكل شيء مما قد يظن به الدوام والثبات ، في سبيل تغيير الحياة تغييرا يجعلها أكثر ملاءمة لظروف العصر الجديد.
وإذا تصورنا الإنسان كيف ينبغي أن يكون في ظروف العصر الجديد، كانت الوسيلة لتكوينه على الصورة الجديدة هي التربية، ومن ثم انصرف ديوي باهتمامه أول الأمر إلى «التربية» يمعن النظر في أسسها وطرائفها، وما أظن أن معلما واحدا في شرق الدنيا أو في غربها لم يتأثر بالمبادئ التربوية الجديدة التي أعلنها ديوي وأشاعها، والتي قلبت وجهة النظر في هذا الميدان رأسا على عقب، فمهما اختلف المخالف له في تفصيلة هنا وتفصيلة هناك، فما أحسب أحدا يماري في الأساس العميق، ألا وهو أن يكون محور العملية التربوية هو «المتعلم» نفسه لا «مادة الموضوع» المدروس. وكان أول كتاب تربوي أخرجه ديوي هو كتاب «المدرسة والمجتمع» (1899م)
School And Society
الذي شرح فيه طرائقه التي كان يتبعها في مدرسته التجريبية الملحقة بالجامعة، جامعة شيكاغو، حيث كان مبدؤه الأساسي هو أن يجعل من تلاميذ المدرسة مجتمعا صغيرا يشبه المجتمع الكبير في حياته ونشاطه. ثم تلا ذلك كتاب آخر هو «الديمقراطية والتربية» (1916م)
Democracy and Education - وهو مترجم إلى العربية - يبين فيه أن التربية هي أن ننشئ الناشئ على سرعة المواءمة بين نفسه وبين بيئته، لا على أن يحافظ على التقاليد القديمة مهما تكن آثارها على حياته العملية الجديدة.
على أن أهم موضوع أدار جون ديوي حوله الفكر، هو تحليل عملية الفكر نفسها؛ «فالأفكار» ما طبيعتها وما أصلها؟ وكيف تطورت في عقل الإنسان من أصولها البيولوجية والاجتماعية الأولية البسيطة حتى أصبحت ما أصبحت؟ وبعبارة أخرى كان «المنطق» هو أهم ما خلفه لنا هذا الفيلسوف، فكما أن أرسطو قد خلف من بعده «منطقا» أقامه على أساس المنهج الاستنباطي الرياضي الذي يصور طريقة اليونان الأقدمين - وطريقة أهل العصور الوسطى المتدينة - فقد كان ديوي في عصرنا الحاضر من بين من أقاموا «منطقا» جديدا يصور طرائق البحث في العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وهو المنطق الذي أطلق عليه اسما فنيا هو «نمط البحث»، قاصدا بكلمة «البحث» هنا أن ينخرط الإنسان في مسلك عملي يعالج به موقفا مشكلا حتى ينفض إشكاله.
فلا بد لكي ينشأ عند الإنسان «فكر» على الإطلاق، من أن يكون هنالك موقف معين، رتبت فيه الأشياء على صورة من شأنها أنها لا تحقق غرضا من أغراض الإنسان - صغر ذلك الغرض أو كبر - وإذن فلا بد أن يلم صاحب المشكلة المعينة بعناصر الموقف المشكل من حوله، ثم يديرها في رأسه محاولا أن يجد لتلك العناصر ترتيبا آخر، لو رتبت به لانحل الإشكال. وبعدئذ يعود صاحب المشكلة إلى الموقف من جديد يحاول به مرة أخرى إعادة ترتيب العناصر، وهلم جرا. معنى ذلك أن «الفكر» يستحيل قيامه بغير «مشكلة» فعلية، أما أن تجلس على كرسيك وتتأمل في فراغ ثم تظن أنك «تفكر»، فأمر لا يقبله البرجماتيون جميعا، بل إن «العقل» نفسه لم يعد عندهم كائنا غيبيا قائما بذاته داخل الجسم، سواء نسبنا له التفكير حينا بعد حين، أو نسبنا له التفكير في كل حين، كلا، إن «العقل» هو نفسه نمط من سلوك بدني نلاحظ فيه أنه هو السلوك الذي يحاول أن يحقق هدفا بعينه في مواقف الحياة الفعلية.
لكن جون ديوي يعود فينفرد وحده دون سائر البرجماتيين بما يسميه هو «المذهب الوسلي» (من وسيلة)، وشرحه باختصار هو أن ليس هنالك حقيقة قائمة بذاتها أبدا، بل إن كل حقيقة إنما هي خطوة في طريق متسلسل طويل يؤدي في النهاية إلى «حل» لمشكلة معينة. وهذا الحل الأخير نفسه يستحيل أن يكون حقيقة قائمة بذاتها، بل إنه سرعان ما يصبح حلقة في سلسلة فكرية جديدة يراد بها حل إشكال جديد. فلو قلت لي مثلا: «هذا قادوم.» - مشيرا إلى آلة معينة - فقولك هذا من الناحية المنطقية عند ديوي ليس بذي بال، ما لم نكن في موقف يكون فيه القادوم وسيلة تؤدي إلى نتيجة منشودة. أما أن أعرف أن هذا قادوم وكفى، ليس قبلها شيء ولا بعدها شيء، فما هو من المعرفة في شيء. المعرفة هي معرفة وسائل لحلول، والحلول لا تكون إلا لمشكلات قائمة فعلا. ومن هنا تستطيع أن تحكم على كل هاتيك الشطحات التي يشطح بها الشاطحون ويقولون إنهم يفكرون! دون أن يكون قد صادفهم في حياتهم إشكال يقتضي بحثا وحلا! إن أمثال تلك الشطحات ليست فكرا، بل هي دوران عقيم في دائرة من لفظ أجوف.
وقد بسط ديوي «منطقه البرجماتي» تفصيلا في عدة كتب، منها كتاب «المنطق» وكتاب «البحث عن اليقين»
The quest For Certainty
وكلاهما مترجم إلى العربية، وكذلك منها كتاب «كيف نفكر»
How We Think
وصفوة ما في هذه الكتب كلها أن «الفكرة» - أي فكرة - لا تستحق أن تسمى بهذا الاسم ما لم تكن ذات علاقة وثيقة بموقف ماثل أمام صاحبها، بأن تقدم له حلا مقترحا لما يكتنف ذلك الموقف من إشكال. ولكن ما الذي يدل صاحبنا على أن «فكرته» صواب؟ يدله على ذلك أنه يطبقها فتنفع، وإذن «فمعنى» الفكرة و«طريقة تحقيقها» شيء واحد، وما لا تطبيق له لا معنى له، فلسنا نحكم بأن الفكرة ذات معنى، أو أنها فكرة صواب لمجرد احتكامنا إلى «عقل» نظري غيبي يقال إنه يسكن رءوسنا، كلا، بل الحكم مرهون بالتطبيق وحده، وبعبارة أخرى لعلها أوضح، نقول إن الفكر لا يكون فكرا إلا إذا كانت له علاقة وسلية بما ليس فكرا، كالسكين تقطع غيرها، والمنشار يشق ما ليس بمنشار، والقلم يكتب شيئا ليس هو بالقلم وهكذا، فكذلك كل فكرة هي أداة أو هي وسيلة تعالج شيئا سواها، تعالج موقفا خارجيا، أما أن تظل الفكرة مستندة إلى فكرة أخرى، وهذه إلى ثالثة وهلم جرا، فطريق لا نجاوز به حدود جمجمة الرأس من داخل، مع أن الفكر لا يكون فكرا إلا إذا جاوزت النظرية حدود الرأس إلى حيث العمل. •••
مات ديوي في اليوم الأول من شهر يونيو عام 1952م، عن اثنين وتسعين عاما، بعد أن ملأ الدنيا بفكره، لأنه كان بذلك الفكر أقوى من عبر عن حضارة العلم والصناعة، حضارة القرن العشرين. (8) إرنست كاسيرر
ميدان الفلسفة المعاصرة تتقسمه معسكرات رئيسية أربعة، تختلف فيما بينها اختلافات بعيدة المدى في الفروع، وتتحد كلها في الأصول العميقة. ومن هذه الأصول العميقة المشتركة تتكون ثقافة عصرنا في اللباب والصميم، وما هذه الأصول المشتركة التي نجد فيها مفتاح ثقافة عصرنا، إلا الثورة بأشكال مختلفة على فلسفة كانت لها السيادة من قبل، وهي فلسفة هيجل.
مذهب هيجل
ومؤدي المذهب الهيجلي هو أن الكون كله. بجميع من فيه وما فيه، إن هو إلا تعبير عن «روح» مطلق لا تحده حدود ولا تقيده قيود، فهذا «المطلق» الروحاني في جوهره، إنما يتبدى ويكشف عن نفسه في مظاهر العالم التي ندركها بحواسنا. فلئن كان العالم المحسوس متطورا من مراحل أدنى إلى مراحل أعلى، فما ذلك إلا تطور في كشف «الروح المطلق» عن نفسه كشفا متدرجا، كأنما هو الشريط المنطوي يبسط نفسه بسطا ليبدو منه ما قد كان خافيا. وليس الكون على هذا المذهب بمختلف عن كائن عضوي حي واحد ذي رغبات وأهداف؛ ومعنى ذلك بعبارة واضحة هو أن هذه الأفراد والمفردات التي تصادفها من حولك لا تزيد على وسائل تخدم الكل في تحقيقه لأغراضه.
ثورة على مذهب هيجل، اتخذت صورا أربعا
وجاءت ثقافة القرن العشرين لتثور على فلسفة كهذه تطمس الأفراد طمسا لا يجعل لها وجودا مستقلا بذاته، لكن الثورة اتخذت صورا عدة أهمها الأربع التي أشرت إليها، والتي ازدهر كل منها في رقعة معينة من رقاع الأرض:
ففي إنجلترا سادت فلسفة «تحليلية» تفك المدمج إلى عناصره والكل إلى أفراده، وعلى رأس تلك الفلسفة كان «مور» و«رسل».
وفي أمريكا قامت فلسفة «برجماتية» تجعل «الحق» في النتائج الناجحة في التطبيق، أي أن «الحق» ليس كائنا أعلى من هؤلاء الناس في مشاكلهم التي تنشأ في مجالات البحث العلمي والحياة اليومية.
وفي القارة الأوروبية - فرنسا بصفة خاصة - نشأت فلسفة تغوص في ذات الإنسان الفرد غوصا تستكشف به كنهها. ومن ثم كانت الفلسفة الوجودية في فرنسا التي تعلي وجود الأفراد وجودا خارجيا حقيقيا على الماهيات المجردة التي كان يظن أنها تسبق هؤلاء الأفراد في وجودهم العيني، وتحدد لهم صورة ذلك الوجود تحديدا مسبقا لا مناص لهم من الخضوع له.
وفي الروسيا سادت فلسفة ماركسية تثور على الفلسفة الهيجلية بصورة أخرى، وهي أن تسلم بمذهبه الجدلي في تطور الكون المتماسك، لكنها تجعل ذلك الكل هو مجموعة البشر في سيرها خلال مراحل التاريخ، بدل أن كان عند هيجل هو «الروح الكلي المطلق». فالفلسفة الماركسية «جدلية» (أي أن سير التطور يجري من «الموضوع» إلى «نقيض الموضوع» ثم إلى التآلف بين النقيضين، وهكذا دواليك). أقول إن الفلسفة الماركسية «جدلية» كفلسفة هيجل، لكنها جدلية «مادية» تجعل التطور منصبا على البشر وحياتهم الفعلية، لا جدلية «فكرية» تجعل التطور منصبا على «العقل» وما يدور فيه.
ثورة على فلسفة كانت
أرأيت - إذن - كيف التقت هذه الفلسفات المعاصرة كلها في نبذها «للمطلق» الذي أراد له هيجل أن يكون هو الحقيقة كلها، وفي اهتمامها بالفرد وحياته على هذه الأرض؟ لكن هذا الاهتمام بالفرد البشري كما هو كائن فعلا، وكما هو يحيا ويفكر، قد وجد سبيله أيضا في ثورة أخرى على «عمانوئيل كانت» بدل أن تخص هيجل بغضبتها، ولذلك سمي أصحابها - وهم من الألمان - بالكانتيين الجدد، وهذا المقال حديث في أحدهم وأشهرهم، وهو أرنست كاسيرر
Ernest Cassirer
فكيف كان ذلك؟
نشأة كاسيرر
ولد أرنست كاسيرر في مدينة برسلاو
Breslaw
بألمانيا عام 1874م لأسرة يشتغل عائلها بالتجارة، وكان الغلام في صباه مرحا ذا خيال مبدع تبدى في ألعابه مع لداته، ولم تكن تبدو عليه في يفاعته علامات تشير بأن مصيره إلى حياة التأمل الهادئ العميق، لكنه لم يكد يزور جده لأمه الذي كان يعيش على غير مبعدة من برسلو حتى شهد في داره مكتبة ضخمة، لم يكن له بمثلها عهد، فكانت صفوف الكتب أمام عينيه، وطريقة جده في الحديث المثقف المصقول في مسمعيه، حافزا إلى حياة جديدة، كأنما قلب صفحة من حياته وبدأ صفحة؛ فقد مضى عهد المزاح واللعب، وجاء عهد العمل الجاد، المتصل، الذي سرعان ما أظهر منه في مدرسته طالبا لفت إليه الأنظار.
وحان حين دخول الجامعة فالتحق بجامعة برلين، وكان عمره عندئذ ثمانية عشر عاما، وكان موضوع التخصص الذي اختاره بادئ الأمر هو القانون ، ولم يكن اختياره هذا إلا إرضاء لرغبة أبيه التاجر؛ ولذلك فلم يلبث فتانا أن استجاب لصوت في دخيلة نفسه، وترك دراسة القانون لينصرف إلى الفلسفة وإلى الأدب والفن. انصرف إلى هذه الدراسات وفي ذهنه مسائل أشكلت عليه كان يرجو أن يجد عنها الجواب المقنع، لكنه - وا أسفاه - لم يجد في أساتذة برلين العمق الذي يبتغيه، فراح يتنقل من جامعة إلى جامعة، من برلين إلى ليبزج، ومن ليبزج إلى هيدلبرج، ومن هيدلبرج عائدا إلى برلين لما سمع أن محاضرا ناشئا هناك يجيد المحاضرة في فلسفة كانت.
وسقطت من شفتي المحاضر المجيد في غضون حديثه عبارة كأنها وردت بغير قصد؛ إذ قال: «إن أحسن المؤلفات عن فلسفة كانت هي بغير شك كتب هرمان كوهين (في جامعة ماربورج)، لكنني لا بد أن أعترف بأنني لا أفهمها.» فماذا يصنع الفتى كاسيرر إلا أن يسرع بعد المحاضرة إلى مكتبة فيشتري كتب كوهين هذا، ثم ينكب عليها انكبابا لا يلبث معه حتى يقرر مغادرة برلين إلى ماربورج ليحضر على هذا المؤلف النادر في فهمه وفي عمقه. وسرعان ما برز كاسيرر بين الطلاب، حتى لقد قال كوهين في ذكرياته عنه: «إنني أحسست من فوري أنني بإزاء طالب أعلم من أن يتعلم عني شيئا.» ذلك أن كاسيرر كان قد طالع في الفلسفة مطالعات واسعة، ووهبه الله ذاكرة لا تضيع شيئا مما حفظت، فكان في مستطاعه أن يتلو من الذاكرة صفحات بعد صفحات مما قد قرأه، لا في ميدان الفلسفة وحدها، بل كذلك من الأدب الذي كاد ألا يترك من روائعه رائعة لم يقرأها بمثل هذا الحفظ العجيب، ولم يكن هو الحفظ السلبي الذي يعي وكفى، بل هو الحفظ الإيجابي الفعال الذي يستخدم المادة المحفوظة استخداما ينتهي به إلى خلق وإبداع.
كتابه: مشكلة المعرفة
جاوز كاسيرر الثلاثين بسنتين، وإذا هو يستوقف أنظار المشتغلين بالفلسفة في أرجاء العالم كله بمجلدين يخرجهما في «مشكلة المعرفة» يستعرض فيهما - استعراض المتمكن القدير - صورة الفكر الأوروبي كيف تطور حتى بلغ قمته في فلسفة كانت . ومرت بعد ذلك خمس عشرة سنة فأتبع المجلدين بثالث يعرض فيه ما بعد كانت. ثم لما رحل أخيرا إلى أمريكا (1941م) أعد مجلدا رابعا يكمل به الرواية إلى آخر فصولها.
كتابه: الجوهر والأداء
على أن هذا المؤلف العظيم إن دل على علم غزير، فلم يكن هو المؤلف الذي أخرج عبقرية الرجل في أتم صورها. وقد بدأت دلائلها القوية تظهر في كتاب آخر أخرجه وهو في السادسة والثلاثين، عنوانه «الجوهر والأداء»، فكان هذا الكتاب أول ما ترجم للفيلسوف إلى لغات كثيرة، منها الإنجليزية والروسية. وخلاصة الفكرة هي أن حقيقة الإنسان ليست في جوهر ساكن، بل في أداء حي فعال، وذلك أن الفلسفة قد لبثت ألفي عام من قبل ذلك تأخذ بمنطق أرسطو في مدركات العقل، وهو منطق يبنى على أن العقل الإنساني إنما يصل إلى المعاني الكلية بوساطة التجريد من الجزئيات المحسوسة. فمثلا: كيف يصل العقل إلى الفكرة الكلية العامة «منضدة»؟ إنه يصل إليها بعد أن تدرك العين مناضد مفردة، منها المربع ومنها المستطيل، ومنها ما لونه كذا وما لونه كيت، فيطرح العقل من حسابه الجوانب المختلفة في مفردات المناضد، ليستبقي الجوانب المشتركة وحدها فتكون هذه الجوانب المشتركة هي المعنى الكلي لكلمة «منضدة» وهو في استعراضه لمفردات المناضد إنما يعتمد على أوجه «الشبه» التي تجعل منها أعضاء من مجموعة واحدة.
وهنا يتدخل كاسيرر باعتراضه القوي: وكيف للعقل بادئ ذي بدء أن يعرف بأن الشيء الأول الذي وقعت عليه العين هو من نوع الشيء الثاني الذي وقعت عليه العين أيضا؟ إننا إذا قلنا إنه يعرف ذلك لما بينهما من «شبه» كنا كمن يسير في دائرة مفرغة، لأن ذلك معناه أننا قد عرفنا النوع قبل أن نعرف الأفراد، ثم إذا بنا نزعم أننا لم نعرف النوع إلا بعد أن رأينا الأفراد! فلماذا - مثلا - لم أقارن المنضدة الأولى بمقعد أو بفنجان أو بقبضة من هواء؟ لماذا قارنتها «بمنضدة» ثانية إلا أن يكون في العقل قدرة سابقة على الفاعلية النشيطة التي تعرف كيف «تختار» الأشباه من الأشياء فتقارن بينها، وإذن فالعقل حقيقته فاعلية وأداء قبل أن يكون جوهرا ذا كيان قائم بذاته.
وبعد أن بسط كاسيرر هذا الجانب في كتابه «الجوهر والأداء» أخذ يفرق تفريقات دقيقة بين أنواع المدركات العقلية في شتى فروع العلم، فلكل علم مدركات أساسية يقوم عليها بناؤه: للرياضة مدركات العدد، وللطبيعة مدركات المكان والزمان والطاقة، وهكذا، فكيف تتغير البنية المنطقية في هذه المدركات من علم إلى علم، فإذا ما انتقلنا - مثلا - من العلوم الرياضية ومدركاتها إلى العلوم الفيزيائية ومدركاتها نكون قد انتقلنا من ضرب من الأداء العقلي إلى ضرب آخر، وكذلك إذا انتقلنا من العلوم الفيزيائية إلى علوم الحياة وهكذا. وإنه ليقال إن كاسيرر في تحليله هذا الدقيق العميق، كان أول من أدرك - في تاريخ الفكر الإنساني - طبيعة المدركات العقلية في مجال الكيمياء.
جامعة هارفارد تعرض على كاسيرر أستاذية الفلسفة بها
ولكن هل كان هذا الإنتاج الفلسفي الممتاز ليغير من وضعه في بلده - ألمانيا - شيئا؟ كلا! فأمر الحياة في هذا الصدد عجب من العجب، فالألسنة جميعا تنطلق بتقديره والثناء عليه، حتى إذا ما كان الأمر أمر مناصب لم تتقدم إليه جامعة واحدة بمنصب الأستاذية، وترك الرجل العامل الجاد العميق ينتج الفلسفة الجديدة، وهو مغتبط بما ينتجه، والعالم من حوله مقدر لفضله، إلا أصحاب الكلمة في توزيع المناصب على مستحقيها. وكم يذكر لنا التاريخ حالات يجيء فيها العرفان والتقدير من غير الأهل. وهكذا كانت جامعة هارفارد بالولايات المتحدة أول جامعة ترسل إلى كاسيرر تعرض عليه كرسي الأستاذية في الفلسفة.
كتابه الصور الرمزية
ومضت السنون بعد ذلك بما فيها من أحداث الحرب العالمية الأولى، والعشرة الأعوام التي تلتها. وها هنا خرج كاسيرر على العالم بذروة عبقريته الفلسفية كلها، وأعني كتابه «الصور الرمزية». وسنعود إليه بعد قليل.
تنقله بين الجامعات
فانتخب على أثر ذلك أستاذا فمديرا لجامعة هامبرج. ثم نشبت الحرب العالمية الثانية، وهم بالهجرة من ألمانيا، فدعته جامعة إكسفورد أستاذا بها، وكذلك جامعة جنبرج بالسويد. وبعد أن قضى فيهما حينا، عبر المحيط ملبيا دعوة جامعة ييل
Yale
في الولايات المتحدة، ومنها إلى جامعة كولمبيا بنيويورك حيث وافاه الأجل عام 1945م، بعد أن أصدر كتابا أخيرا عنوانه «مقالة في الإنسان» (ترجم إلى العربية) لخص فيه معالم فلسفته كلها.
بين كاسيرر والفيلسوف كانت
قلنا إن كاسيرر - كغيره من فلاسفة هذا العصر - يعبر عن ثقافة زمنه التي محورها البعد عن التجريد، والتركيز على الإنسان في تعينه وفي وجوده الحي، ولكنه - على خلاف فلاسفة العصر - قد جعل ركيزته «عمانوئيل كانت
Kant » الذي عني طول حياته بدراسته، ثم راح آخر الأمر يعدل من نتائجه بحيث يجعلها أكثر ملاءمة لروح عصرنا. وشرح ذلك أن «كانت» في كتابه «نقد العقل الخالص» كان قد اضطلع بتحليل العمليات «العقلية» الصرفة، التي لا بد للعقل أن يقوم بها لكي يتاح له أن يبلغ الحقائق العلمية؛ ففي مستطاع الإنسان أن يصوغ المعادلات الرياضية التي لا شك في يقينها، وكذلك في مستطاعه أن يصوغ قوانين العلوم الطبيعية - كقانون الجاذبية مثلا - وهي أيضا قوانين لا شك في يقينها من وجهة نظره، التي هي نفسها وجهة نظر علماء الطبيعة في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
رأي للفيلسوف ديفد هيوم
وكان تاريخ الفلسفة قد شهد فيلسوفا إنجليزيا - هو ديفد هيوم
David Hume - شهده وهو يتصدى لليقين المزعوم لقوانين العلم، ليخرج بنتيجة عجيبة، ألا وهي أن الحقائق العلمية ما دامت مستندة إلى مشاهدات الحواس، فيستحيل منطقيا أن توصف باليقين؛ لأن ما تشاهده الحواس قد كان يمكن عقلا أن يكون على صورة أخرى غير التي هو عليها بالفعل. فلئن كان الحجر الملقى يميل نحو السقوط إلى الأرض بفعل الجاذبية كما تدل المشاهدات، فليس عند العقل الخالص ما يمنع أن كانت تكون حال الأشياء على غير هذا الوضع، بحيث نلقي بالحجر فيميل نحو الصعود إلى أعلى بدل الهبوط إلى أسفل، أي أن كل ما في وسعنا إثباته هو أننا قد شاهدنا الأمور على هذا النحو المعين لا على نحو سواه، وإذن فلا يقين ولا حتم يقضي بضرورة أن تجري الطبيعة هذا المجرى في كل آن .
الفيلسوف كانت ينقض رأي هيوم
ولو صدق هذا الذي زعمه هيوم لاهتز بناء العلم كما كان أهل العلم يتصورونه، فكان لا بد لفيلسوف آخر أن يأخذ هذا الزعم مأخذ الجد، ليكشف عما قد يكون مدسوسا فيه من مواضع الخطأ. وكان هذا الفيلسوف هو عمانوئيل كانت، الذي قال إن هيوم قد أيقظه من سباته الفكري. نعم، لو كانت الحواس بمشاهدتها هي وحدها أبواب العلم الطبيعي، لوجب أن ننتهي إلى النتائج التي انتهى إليها هيوم، لكن الأمر ليس كذلك، فالحواس تأتينا بالمادة الخام من أحاسيس تسلك إلينا هذا الطريق أو ذاك، إذ تهجم الأحاسيس على العين والأذن والجلد وغيرها، فتصل إلينا خليطا. ولو وقف الأمر عند هذا الحد لما كانت معرفة، لكن هنالك وراء الحواس «عقلا» لا بد أن يكون قد جهز بمقولات - أو قوالب - تنصب فيها مادة الإحساسات فتكون بذلك علما سويا، كما تنساق حروف المطبعة فوق صفحات الكتاب على نسق معلوم فإذا هي معان لا مجرد أحرف مفككة متناثرة. ويخلص «كانت» من هذا إلى أنه لا بد للمعرفة العلمية من جانبين: إحساسات تجيء إلى حواسنا من خارج، ومقولات عقلية تنظم تلك الإحساسات، وهي مفروزة في نظرتنا من داخل، ولولا الأولى لظلت المقولات فارغة من المضمون، ولولا الثانية لأصبحت الإحساسات كومة مهوشة عمياء بغير معنى معقول.
كاسيرر يتمم رأي كانت
وجاء صاحبنا أرنست كاسيرر لا لينقض «كانت» بل ليضيف إليه ويتممه؛ فليس الإنسان عقلا صرفا كما صوره «كانت»، وإلا لذهبت جوانب كثيرة من ثقافته هباء مع الريح. فانظر إلى ثقافة الإنسان على طول التاريخ وفي كل مجتمع، تجدها نسيجا من أشياء كثيرة لا غنى له عن واحد منها؛ فهو أن يكون بحاجة إلى الجانب العلمي العقلي الذي اقتصر كانت على تحليله وتوكيده، إلا أنه كذلك بحاجة إلى «الفن» وإلى «الأساطير» وإلى «اللغة» وإلى «التاريخ» وإلى «الدين» وإلى غير ذلك كله من جوانب يستحيل عليه أن يحيا بغيرها، فهل شهدت شعبا واحدا - همجيا كان أو متحضرا - عاش بغير فن؟ عاش بغير دين ؟ عاش بغير أسطورة؟ عاش بغير لغة؟ عاش بغير تاريخ يرويه؟ وليست هذه «علوما» تنصب في مقولات العقل الخالص، وإذن فلا مناص من التسليم بأن فطرة الإنسان أوسع من مجرد العقل الخالص، وأنه لا تفضيل في تلك الفطرة بين جانب وجانب، لأنها كلها مطلوبة لحياته وضرورية لحضارته، وتلك الجوانب الكثيرة هي التي يطلق عليها كاسيرر اسم «الصور الرمزية» أو قل إنها القوالب التي تصاغ فيها هذه المواد كلها، والتي يتخذ منها الإنسان رموزا يهتدي بها في هذا المسلك أو ذاك من مسالك حياته.
كاسيرر فيلسوف واسع الاطلاع غزير العلم
وكانت المهمة الكبرى التي اضطلع بأدائها كاسيرر هي أن يحلل هذه الصور تحليلا يستقصي فيها كل شيء حتى الجذور، ولبث في الفترة الممتدة بين عامي 1923م و1929م يعد المجلدات الثلاثة التي أصبحت آخر الأمر هي كتابه العظيم «الصور الرمزية» الذي أفاض في تفصيلات الشواهد التي ساقها فيه إفاضة لم يكن يستطيعها إلا رجل في مثل سعة اطلاعه وغزارة علمه، لأنه إذا زعم لك زعما عن هذا الجانب أو ذاك من فطرة الإنسان الأصيلة، ساح بك سياحة طويلة في كل ما قد شهده التاريخ من حضارات وثقافات، فكأنما الآداب كلها والأساطير كلها والديانات كلها والعلوم كلها، والتاريخ كله ملك يمينه ورهن إشارته.
كاسيرر يضمن للإنسان الوحدة المتكاملة
أما بعد، فلئن كان التعصب لناحية واحدة من نواحي الإنسان وإهمال كل ما عداها ضربا من الجنون، لا يرده إلى حكمة العقل إلا النظرة المتزنة التي تلحظ شتى النواحي لتنسج منها نسيجا واحدا متكاملا يخلق من الإنسان وحدة متماسكة البناء: عقلا وعاطفة، وروحا وبدنا، وصحوا وحلما، وحاضرا وماضيا، فإن أرنست كاسيرر بين فلاسفة عصرنا هو الذي ضمن للإنسان هذه الوحدة المتكاملة بعد أن تجزأت على أيدي سواه أشلاء متناثرة.
مقومات الشخصية الإفريقية الآسيوية1
ألفان من ملايين البشر يسكنون آسيا وأفريقيا، وهم الثلثان من سكان العالم أجمع، فمن كل ثلاثة أفراد من الأسرة الإنسانية ينتمي اثنان إلى هاتين القارتين العظيمتين! والكتاب من هذا الخضم البشري العظيم، هم قلوبه النابضة وعقوله المفكرة وألسنته الناطقة، وأنتم - أيها السيدات والسادة - من هؤلاء الكتاب ممثلوهم! وإذن فالكلمة الواحدة تنطقون بها، إنما هي كلمة ينطق بها هؤلاء الملايين على لسانكم، فأكرم بها من كلمة وأعظم.
لقد يسألنا سائل - ونحن بصدد الحديث عن الشخصية الإفريقية الآسيوية ومقوماتها: أتكون لهاتين القارتين الفسيحتين شخصية واحدة برغم ما تحتويان عليه من أوجه التباين؟ إنهما لا تشتركان في ديانة واحدة، بل الديانات فيها متعددة، ولا تشتركان في نظام أسري واحد؛ فمنها ما يوحد في الأزواج ومنها ما يعدد، ولا تشتركان في نظام طبقي واحد؛ إذ الطبقات في بعضها صلبة الفواصل وفي بعضها الآخر لينة أو ممتنعة، ولا تشتركان في مرحلة اقتصادية واحدة؛ لأن أقطارها تتفاوت من أعلى درجات الصناعة إلى أدنى درجات الزراعة والرعي، ولا تشتركان في درجة واحدة من درجات التعليم ولا في لغة واحدة. أقول إن سائلا قد يسألنا منذ بداية الحديث قائلا: هل تكون للقارئين شخصية واحدة برغم هذا التباين كله؟ وجوابنا هو بالإيجاب. وفيما يلي بعض ملامح هذه الشخصية المشتركة.
فالقارتان تلتقيان في ماض واحد، وفي حاضر واحد، وفي مصير واحد.
أما ماضيهما المشترك فمنه القريب ومنه البعيد؛ وقريبه هو أن القارتين معا قد لبثتا حينا طويلا من الدهر هدفا لمطامع المستعمرين، ولطالما وحدت المصيبة بين المصابين. وكانت آسيا أسبق من أختها الإفريقية في هذه المحنة، فمنذ القرن الخامس عشر، كانت الهند وكان الشرق الأقصى كله هدف الرحالة والمستكشفين، ليمهدوا الطريق من بعدهم لأصحاب التجارة، وهؤلاء بدورهم يمكنون بعدئذ للساسة والحاكمين. ولم تكن أفريقيا عندئذ إلا مرحلة وسطى تعترض الطريق، يطوفون بها من هنا ويدورون حولها من هناك، لعلهم يصلون إلى الغاية المنشودة بأقل جهد وأقصر طريق. حتى كولمبس حين عبر المحيط الأطلسي لم يعبره إلا ليلتمس طريقه إلى آسيا.
ثم جاء القرن التاسع عشر، وجاءت معه النتائج الفادحة التي تولدت عن الثورة الصناعية، من حاجة أوروبا المنهومة إلى المواد الأولية - زراعية ومعدنية - وإلى الأسواق لمنتجاتها الصناعية؛ وها هنا اتجهت الأبصار إلى أفريقيا ؛ وتسابق القوم إلى خطفها، فلما أن تضاربت مصالحهم، راحوا يقسمونها فيما بينهم كما تقسم الغنيمة الباردة، التي لم يكسبها كاسبها بجهد مشروع. واشتركت في الغنيمة إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال وبلجيكا وهولنده، وإن تكن إنجلترا قد خرجت من القسمة بنصيب الأسد لتفوقها على زميلاتها في الصناعة والتجارة وفي القوة البحرية. ولعل هذه الجريمة المشتركة قد أيقظت في المعتدين ضميرا به بقية من حياة، فراحوا يسوغون الفعلة لضميرهم بأنه واجب الرجل الأبيض إزاء من لم يرزقهم الله جلودا في بياض جلودهم، وشاعت على أقلام كتابهم عبارة «عبء الرجل الأوروبي» ليصوروا الأمر لأوهامهم تصويرا يخرجون به حماة للحضارة الإنسانية، بدل أن تصمهم وصمة السرقة والاعتداء.
ذلك هو الماضي المشترك القريب لقارتي آسيا وأفريقيا، وأما ماضيهما المشترك البعيد فهو أنهما أمدا العالم بدعامتين من دعائم المدنية، وهما دعامتا الفن والدين، فما من عقيدة دينية اهتز بها وجدان البشر إلا وهاتان القارتان أصلها ومهبط وحيها، ثم ما من فن إلا وجذوره نابتة في أرض هاتين القارتين. ولقد يطور الغرب هذا الفن أو ذاك تطويرا يبعد به عن أصله الآسيوي والإفريقي، لكنه لا يلبث أن يعود تائبا إلى أصله المتروك، كما هي الحال في عصرنا الحاضر بالنسبة إلى التصوير والنحت والموسيقى.
وكما تشترك القارتان في ماض واحد: ماض سياسي قريب، وماض ثقافي بعيد، فهما كذلك تشتركان في حاضر واحد، هو حاضر الكفاح ضد المستعمر، إثباتا لوجودهما وتثبيتا لشخصيتهما. وإذا كانت المحنة قد وحدت بين القارتين، فإن الكفاح للتخلص من هذه المحنة يزيد الوحدة بينهما قوة ووثوقا. أليس المستعمرون أنفسهم - على ما بينهم من ضروب الخلاف التي قد تبلغ حد الحروب الطاحنة - يتحدون علينا كلما رأوا في وحدتهم تلك ضمانا لبقاء الغنيمة في أيديهم؟ إذن فهل يكون غريبا أن نتحد من جانبنا في جبهة واحدة استخلاصا لحقنا المنهوب؟ إن آسيا وأفريقيا في أعين المستعمرين شيء واحد، وبلاد الغرب شيء آخر، وإلا فلماذا أجازوا لأنفسهم أن يستخدموا القنبلة الذرية على أرض آسيوية ولم يستخدموها ضد ألد أعدائهم من الشعوب الأوروبية؟ إنهم فعلوا ذلك لعقيدة راسخة في أنفسهم بأن الغرب غرب والشرق شرق، وما يجوز فعله هنا لا يجوز فعله هناك. وإذا كان هذا شعورهم الموحد ضدنا نحن أبناء آسيا وأفريقيا، فهل يقابل منا إلا بشعور موحد ضدهم؟
إن أهل القارتين يشتركون اليوم في شعورهم بأن بلادهم قد أصبحت بلادهم! نعم إن في هذه العبارة شيئا من المفارقة اللفظية؛ إذ لا يعقل أن تكون بلادهم بلاد سواهم، لكنها الحقيقة المرة برغم ما فيها من تناقض في اللفظ والمعنى؛ فلم تكن البلاد الآسيوية الإفريقية بلاد أهلها إلا منذ قريب، منذ خرج الآسيويون والإفريقيون من كفاحهم ظافرين أو أوشكوا على الظفر. أما قبل ذلك فقد كانت بلادهم مرتعا خصيبا لسواهم، فكان الدوح - كما قال شاعرنا - حراما على بلابله، حلالا على الطير من كل جنس.
كنا إلى عهد قريب شعوبا تعد بالجماعات كأنها القطعان، وتوزن بالموارد الطبيعية كأنها من الحجر الأصم ؛ بل كان الساسة في الغرب يجتمعون معا على موائد المفاوضات وأمامهم خرائط بلادنا، وفي أيديهم أقلام يخطون بها خطا هنا وخطا هناك، فكانت كأنها أيدي القدر، تفتت الشعوب وتفتك بالأمم كلما رسمت من تلك الخطوط خطا. وإنه لمما يروى عن بلفور صاحب الوعد المشئوم، أنه حين خط بقلمه على خريطة أمامه ما قد أرادت نزواته أن ينزله على أرض فلسطين الحبيبة من مصير، سأله سائل: وماذا تنوي أن تصنع بأهل هذا الإقليم المقتطع؟ فأجاب في دهشة مصطنعة سائلا بدوره: ألهذا الإقليم أهل وفيه ناس؟ هكذا كنا إلى عهد قريب، فأصبحنا نعد أنفسنا بالآحاد، لأن كل فرد منا له عندنا قيمة. لم يكن للفرد في قارتينا إلا حرية واحدة تركوها له، وهي حريته الدينية، لا بل حتى هذه الحرية الواحدة كثيرا ما جعلوها موضع الأطماع، فراحوا يحاولون تغييرها كلما أمكنهم ذلك؛ وأما سائر الحريات من اقتصادية وسياسية واجتماعية فلم تكن قط من حقنا؛ فالاقتصاد في أيديهم، والسياسة لهم، والأوضاع الاجتماعية من صنعهم، فهم الذين يرفعون وهم الذين يخفضون كيف شاءت لهم مصالحهم؛ ففي هذا الميلاد الجديد تتشابه القارتان.
وكذلك تتشابه القارتان فيما قد خيم عليهما من جهل فرض عليهما فرضا، حتى إذا ما استرخت قبضة المستعمر عنهما، فتحت المدارس والجامعات فتحا بالعشرات والمئات؛ فقد تعمد المستعمرون - كل فيما قد وقع في براثنه - أن يهملوا التعليم كما وكيفا، فلا المدارس يتناسب عددها مع تعداد الشعب، ولا مستويات التعليم ترتفع إلى حاجة العصر؛ فقد كان يندر جدا أن يزيد التعليم في أي بلد إفريقي عن مستوى المدرسة الثانوية، فلم يكن في الكونجو كلية جامعية واحدة، ولم يكن في أفريقيا الغربية الفرنسية مدرسة عالية واحدة، ولا في نيجيريا مدرسة عليا واحدة، وهكذا. وإنه لمما يلفت النظر أن التعليم العالي حتى إن وجد لم يوجه إلى الجانب العلمي الذي من شأنه أن يخلق الصناعة، بل وجه كله تقريبا إلى الدراسات الأدبية، وحتى هذه الدراسات الأدبية لم توجه نحو ما من شأنه أن يلهب الشعور القومي ، بل وجهت الوجهة التي تظهر الآداب الغربية بالقياس إلى التراث الشعبي بمظهر العملاق. وكادت أبواب المدارس توصد في وجه المرأة، لأن المستعمرين يدركون أتم إدراك مدى ما تصنعه المرأة المستنيرة في النهوض ببلدها. أإذا وجدت بلاد آسيا وأفريقيا أن هذه الغشاوة تنزاح عنها معا، وأنها معا - كأنها على اتفاق - قد أخذت تنهض ببنيها نهوضا قويا سريعا بفتح الجامعات والمدارس العليا، وبتوجيه التعليم في الاتجاه العلمي الذي سيلد لها الصناعة فتخلق خلقا جديدا، ألا تكون هذه الروح المشتركة رباطا يجمع أشتاتها في شخصية واحدة؟
وأقول «أشتاتها» لأن المستعمر لم يغب عنه منذ اللحظة الأولى أن الوحدة إذا تماسكت استعصت عليه، وهي تهون إذا تفككت أشتاتا؛ ولهذا جعل يقسم البلد الواحد أقساما، والعصبة الواحدة أحزابا، حتى نظرت كل رقعة من الأرض إلى نفسها فإذا هي أجزاء متنافرة برغم ما بينها من وحدة جغرافية واقتصادية وجنسية ولغوية وثقافية ومعاشية. ويا ليتهم شطروا الجسم الواحد أشطرا ثم وقفوا عند هذا، بل راحوا يؤلبون كل شطر على الآخر، حتى حركوا العصبية القبلية وشجعوا النزعات الانفصالية على نحو ما نشاهده اليوم في مواضع كثيرة. ونحن إذا كنا نجتمع اليوم متضامنين، فإنما نرد اللطمة بلطمة مثلها.
وإن حديث التضامن الآسيوي الإفريقي لينقلنا إلى سمة لعلها أبرز سمات هذا العصر إطلاقا، كما أنها بغير شك أوضح ملامح الشخصية الآسيوية الإفريقية التي نتحدث عنها الآن، فلنقف عندها وقفة قصيرة:
لقد قال وليم إدوارد دي بوا
Du Bois - الكاتب الأمريكي الزنجي - في أوائل هذا القرن «إن مشكلة القرن العشرين هي مشكلة الفاصل اللوني.» ففهمت عبارته بادئ ذي بدء على أنها تعني مشكلة الزنوج في أمريكا على وجه التخصيص؛ لكن الرجل كان أوسع أفقا وأغزر علما وأنفذ بصيرة من أن يجعل مشكلة الزنوج في أمريكا هي مشكلة القرن العشرين كله؛ فالذي عناه بعبارته تلك هي أن مشكلة هذا القرن هي نهضة الشعوب الملونة نهضة تهز قوائم العرش الذي تربع عليه أصحاب الجلدة البيضاء زمنا ما؛ وهذا يذكرنا أيضا بنبوءة تنبأ بها قيصر ولهلم الثاني في مطلع الحرب العالمية الأولى، حين قال إن أكبر صراع ستشهده البشرية حين ينشأ الصراع بين آسيا والغرب، بين الأصفر والأبيض؛ إنها ستكون أفظع الأزمات التي حاقت بسكان الأرض، وإنها لوشيكة الوقوع؛ فلو أضفنا - في نبوءة ولهلم الثاني - إلى آسيا أفريقيا، ثم أضفنا إلى اللون الأصفر الأسود والأسمر، رأينا صدق نبوءة القيصر.
فلأول مرة في التاريخ اجتمعت الآسيوية الإفريقية في مؤتمر باندونج عام 1955م؛ لأول مرة في التاريخ اجتمعت الدول نفسها التي حرص الغرب قبل ذاك على ألا يجعل لها نصيبا في السياسة الدولية؛ فما الذي كان يربط بينها؟ إننا نجيب عن هذا السؤال بلسان الرئيس سوكارنو؛ حيث قال عندئذ: «هذا أول مؤتمر دولي للشعوب الملونة في تاريخ البشر. إن الروابط التي توحدنا أهم بكثير من الفوارق السطحية التي تفرق بيننا ... والذي يوحدنا هو اتفاقنا جميعا على مقت التفرقة العنصرية.» إذن فالثورة الآسيوية الإفريقية المشتركة هي في أعماقها ثورة على ما كان الغرب قد أراده لبني الإنسان من عدم المساواة. لقد كان المجتمعون في باندونج يمثلون شعوبا احتقرت في قلب بلادها، وزحزحت إلى الصفوف الخلفية من الجماعة البشرية، وصب عليها الاستغلال ونزل بها الاضطهاد، لا من الوجهة السياسية وحدها، بل من الوجهة العنصرية كذلك؛ فجمع أهل اليابان وأهل الصين وأهل إندونيسيا وأهل الهند وأهل الشرق الأوسط وأهل أفريقيا، جمعوا كلهم في عين الغربي في مجموعة واحدة، قوامها اللون اللاأبيض؛ فما كان من هذه الشعوب كلها اليوم إلا أن تقبل هذا التحدي، وتجعل من نفسها مجموعة واحدة بالفعل، على هذا الأساس العنصري نفسه، وبهذا اجتمعت اجتماعها التاريخي في باندونج، اجتمعت تسع وعشرون دولة اختلفت مذهبا، لكنها اتحدت عنصرا؛ وكان لهذا مغزاه السياسي العميق؛ فقد كانت سياسة الدول الغربية مدى سبعة قرون استقرت على أساس أن التفاوت العنصري بين الغرب والشرق قد انحسمت فيه الكلمة إلى الأبد، وأن تفوق الغربي لن يصبح موضعا لنزاع، وعلى هذا الأساس حيكت خيوط العلاقات الدولية طوال هذا الأمد الطويل، وها هي ذي الدول الآسيوية والإفريقية قد اجتمعت كلها معا في باندونج لتمحو من سجل السياسة الدولية آية وتثبت مكانها آية.
ثم تلا ذلك الاجتماع اجتماعات تضامنية أخرى بين دول آسيا وأفريقيا؛ ففي القاهرة عام 1957م اجتمعت أربع وعشرون دولة إفريقية آسيوية، وأيدت فيما أيدته مبادئ باندونج.
وفي أكرا عاصمة غانا عام 1958م اجتمعت ثماني دول إفريقية مستقلة، فأكدت التعاون فيما بينها عند النظر إلى المشكلات الدولية عامة وإلى مشكلات القارة الإفريقية بصفة خاصة. وفي أديس أبابا عام 1960م انعقد مرة أخرى مؤتمر للدول الإفريقية المستقلة، لتؤكد فيه هذه الدول من جديد تضامنها ومؤازرتها لقرارات باندونج. وفي الدار البيضاء بالمغرب عام 1961م اجتمع أقطاب أفريقيا وتناولوا الموقف في الكونجو وغيره من الأحداث العالمية الكبرى. فهذه كلها اجتماعات تدل على أن الشخصية الآسيوية الإفريقية قد أخذت ملامحها تظهر واضحة، وعلى أن هذه الشخصية الموحدة ستتولى توجيه العالم إلى المساواة وإلى العدل وإلي الحرية بمعناها الصحيح.
لقد أوضحنا كيف تتفق آسيا وأفريقيا في ماض واحد وكيف تتلاقيان في حاضر واحد، وبقي أن نكمل الصورة ببيان يوضح التقاءهما في مصير واحد.
إن من أهم الظواهر المشتركة بين هاتين القارتين ما يقوم به المثقفون من قيادة فكرية نحو مستقبل منشود. نعم إن المستنيرين في كل بلاد الأرض يتولون زمام القيادة الفكرية، لكن موقفهم في قارتينا يلفت النظر ببعض الخصائص المميزة؛ بسبب الفجوة التي كانت - وما تزال إلى حد ما - تفصل جماهير الشعب من جهة، والطبقات العليا من جهة أخرى؛ فحيث لا تكون هنالك فجوة بين هذين الطرفين، تكون مهمة المستنيرين هي التنوير العقلي والتهذيب الوجداني بطريقة لا يكون الدور القيادي فيها واضحا. أما حين يكون هناك مثل هذه الفجوة، فإن المستنيرين يكونون مركز الحساسية أولا ثم مكان القيادة الظاهرة ثانيا، هادفين إلى سد الفجوة الفاصلة بين طرفي الشعب الواحد.
وأمام المستنيرين في شعوبنا الآسيوية الإفريقية فجوتان من نوعين مختلفين؛ فالمسافة بعيدة داخل البلد الواحد بين العلية والجماهير، والمسافة بعيدة كذلك بين البلد كله من ناحية والعالم العلمي الصناعي الفني المتسلط من جهة أخرى، فلا مندوحة لها عن قيادتين في آن واحد: إحداهما ترمي إلى التسوية بين المرتفع والمنخفض في الداخل، والأخرى نهوض عام ليلحق البلد كله ببلاد سبقته فسيطرت عليه بسبقها.
وليس بد أمام المستنيرين منا - لكي يحققوا أهدافهم - من إشعال الروح القومية بشتى الوسائل. ومن هذه الوسائل تركيزهم على إحياء التراث القومي، ليظهر لكل شعب مجده القديم فيستحثه هذا على استرداد شخصيته وكرامته، ليصل طارفا بتليد.
وتلك نظرة إلى المستقبل تنظرها القارتان كأنما هما تنظران نظرة واحدة. وحين يتحقق لها أملها يتحقق للإنسانية كلها أمل أخفق الغرب في بلوغه، ألا وهو العدالة والسلام؛ لأن فوارق كثيرة؛ مما يسبب الظلم. والحروب ستزول؛ فستزول الفوارق العنصرية، وفوارق الثروة بين قارات العالم، وفوارق العلم، وفوارق القوة بشتى ضروبها.
ولقد أراد الله للقارتين أن يظهر بين أبنائهما قادة يحسنون التعبير عن آمال شعوبهم، ويحسنون القيادة نحو تحقيق تلك الآمال، فرأينا رجالا في مستوى أبطال التاريخ ينبغون هنا وهناك دفعة واحدة كأنما هم والقدر على ميعاد.
هؤلاء الهداة البناة العمالقة يشتركون معا في بناء آسيا وأفريقيا بناء جديدا، يعيد لها قيادة الحضارة. فمن بين سبعين قرنا من قرون التاريخ الحضاري، لبث زمام القيادة في أيدي هاتين القارتين العظيمتين ما يقرب من خمسة وستين، ولم يفلت منهما الزمام إلا مدى الخمسة القرون الأخيرة. أيكون حلما بعيد التحقيق - إذن - أن تعود القارتان من جديد، وهما اللتان علمتا الإنسان أصول الحضارة وفروعها، فتعلمانه مرة أخرى درسا نسيه فجلب عليه الكوارث بنسيانه، وهو أن المساواة بين البشر أساس لا بد من إقامته أولا قبل أن يذوق العالم طعما للسلام؟
अज्ञात पृष्ठ