بَلَّغَ كَلَامَ الرَّسُولِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ صَوْتَ الصَّحَابِيِّ الْمُبَلِّغِ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ، سَمِعَهُ مِنْهُ جِبْرِيلُ وَبَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ إلَى مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدٌ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَبَلَّغَهُ إلَى أُمَّتِهِ، فَهُوَ كَلَامُ اللَّه حَيْثُ سُمِعَ وَكُتِبَ وَقُرِئَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ وَكَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِنَفْسِهِ، تَكَلَّمَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ، لَيْسَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ، بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، مَعَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَيْسَ قَائِمًا به بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَالسَّلَفُ قَالُوا: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ.
فَإِذَا قِيلَ: كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا كَلَامُهُ مَخْلُوقًا وَلَا مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ بِذَاتِهِ، بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ، فَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ قَدِيم، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ، وَلَا قَالُوا إنَّ كَلَامَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَلَا قَالُوا إنَّ الْقُرْآن أَوْ حُرُوفَهُ وَأَصْوَاتَهُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ، بَلْ قَالُوا: إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْحُرُوفَ.
وَكَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. ويَقُولُونَ: مَنْ قَالَ: هُوَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي، وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. فَإِنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا، وَيُرَادُ بِاللَّفْظِ الْمَلْفُوظُ بِهِ، وَهُوَ نَفْسُ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ.
وَأَمَّا أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُ الْمَصَاحِفِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّ أصوات الْقَارِئِ صَوْتُ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ أَحْمَد مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَقَالَ أَحْمَد: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ يُرِيدُ بِهِ الْقُرْآنَ فَهُوَ جهمي.
وَالْإِنْسَانُ وَجَمِيعُ حَرَكَاتهُ وَأَفْعَالهُ وَأَصْوَاته مَخْلُوقَةٌ، وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ، فَمَنْ قَالَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِه إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ قَدِيمَةٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ، وَمَنْ قَالَ
1 / 102