ومع هذا فلا ينبغي لصاحب هذه الصناعة من النظم والنثر أن يهمل من علم العربية ما يخفى عليه بإهماله اللحن الخفي، فإن اللحن الظاهر قد كثرت مفاوضات الناس فيه حتى صار يعلمه غير النحوي، ولا شك أن قلة المبالاة بالأمر، واستشعار القدرة عليه، توقع صاحبه فيما لا يشعر أنه وقع فيه، فيجهل بما يكون عالمًا به. ألا ترى أن أبا نواس١ كان معدودًا في طبقات العلماء مع تقدمه في طبقات الشعراء، وقد غلط فيما لا يغلط مثله فيه، فقال في صفة الخمر:
كأن صَغرَى وكُبَرى من فواقعها ... حصباء درٍّ على أرض من الذهب٢
وهذا لا يخفى على مثل أبي نواس، فإنه من ظواهر علم العربية، وليس من غوامضه في شيء؛ لأنه أمر نقلي يحمل ناقله فيه على النقل من غير تصرف، وقول أبي نواس "صغرى" "وكبرى" غير جائز، فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها، وإنما يجوز حذفها من فعلى التي لا أفعل لها، نحو: "حبْلَى"، إلّا أن تكون فُعْلَى أَفْعَلَ مضافة، وههنا قد عريت عن الإضافة وعن الألف واللام، فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته.
وقد غلط أبو تمام٣ في قوله:
_________
١ أبو نواس هو الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح الحكمي، ولد سنة ١٤١هـ في كورة خوزستان، واشتغل في صباه عند عطار حتى تعرَّف إلى والبة بن الحباب، فأعجب به وصحبه إلى الكوفة ثم بغداد، وهناك صحب الشعراء، ودرس على العلماء حتى أصبح من أشعر أهل عصره وأغزرهم علمًا، وطار ذكره في الآفاق، واتَّصل بالرشيد والأمين ومدحهما، ونال منهما الجوائز السنية، وتوفي أبو نواس في الثامنة والخمسين من عمره سنة ١٩٩هـ.
٢ ديوان أبي نواس: ص٢٤٣ "فواقعها" بالواو كما هنا، وأكثر الرواة على أنها "فقاقعها" بالقاف، وهي النفاخات التي تعلو الماء أو الخمر. ومحل الخطأ قوله "صغرى وكبرى" حيث جاء بأفعل التفضيل مؤنثًا، مع كونه مجردًا من أل ومن الإضافة، وكان حقه أن يأتي به مفردًا مذكرًا، فيقول: "أصغر وأكبر". وقد اعتذر بعض العلماء عنه بأنه لم يرد التفضيل، وإنما أراد معنى الوصف المجرد عن الزيادة.
٣ أبو تمام هو حبيب بن أوس الطائي؛ قال الآمدي في الموازنة: والذي عند أكثر الناس في نسب أبي تمام أن أباه كان نصرانيًّا من أهل جاسم -قرية من قرى دمشق- يقال له: تدوس العطار، فجعلوه أوسًا، ولفقت له نسبة إلى طيء، وكان واحد عصره في ديباجة لفظه ونصاعة شعره وحسن أسلوبه، وله كتاب الحماسة الذي دلَّ على غزارة فضله وإتقان معرفته بحسن الاختيار، وله مجموع آخر سماه: "فحول الشعراء"، جمع فيه بين طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين، وله كتاب "الاختيارات من شعر الشعراء"، وكان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره، وقيل: إنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع. ومدح الخلفاء وأخذ جوائزهم، وجاب البلاد، وتوفي بالموصل سنة ٢٣١هـ.
1 / 47