التماسك والترابط بين أجزاء النص الأدبي، وهذا هو المحمود الذي يكون به بعض جزاء الكلام آخذًا برقاب بعض.
ولا يقرّ ابن الأثير أولئك النقاد فيما ذهبوا إليه، فيقول: إن المعيب عند قوم "تضمين الإسناد"، وذلك يقع في بيتين من الشعر أو فصلين من الكلام المنثور، على أن يكون الأول منهما مسندًا إلى الثاني، فلا يقوم الأول ولا يتمّ معناه إلّا بالثاني، وهذا هو المعدود من عيوب الشعر، وهو عندي غير معيب؛ لأنه إن كان سبب عيبه أن يعلق البيت الأول على الثاني، فليس ذلك بسبب يوجب عيبًا؛ إذ لا فرق بين البيتين من الشعر في تعلق أحدهما بالآخر، وبين الفقرتين من الكلام المنثور في تعلق إحداهما بالأخرى؛ لأن الشعر هو كل لفظ موزون مقفَّى دلَّ على معنى.
والكلام المسجوع هو كل لفظ مقفَّى دل على معنى، فالفرق بينهما يقع في الوزن لا غير، والفقر المسجوعة التي يرتبط بعضها ببعض قد وردت في القرآن الكريم في مواضع منه، فمن ذلك قوله ﷿ في سورة الصافات: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ . فهذه الفقر الثلاث الأخيرة مرتبط بعضها ببعض، فلا تفهم كل واحد منهن إلّا بالتي تليها، وهذا كالأبيات الشعرية في ارتباط بعضها ببعض، ولو كان ذلك عيبًا لما ورد في كتاب الله ﷿. وكذلك ورد قوله تعالى في سورة الصافات أيضًا: ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ، مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ، إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾، فالآيتان الأوليان لا تفهم إحداهما إلا بالأخرى، وهكذا ورد قوله ﷿ في سورة الشعراء: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ .
فهذه ثلاث آيات لا تفهم الأولى ولا الثانية إلا بالثالثة، ألا ترى أن الأولى والثانية في معرض استفهام يفتقر إلى جواب، والجواب هو في الثالثة، وقد استعمله العرب كثيرًا، وورد في شعر فحول شعرائهم، فمن ذلك قول الشاعر:
ومن البلوى التي ليس ... لها في الناس كنه
أن من يعرف شيئًا ... يدَّعي أكثر منه
1 / 25