وفي هذا الكتاب أدلى ابن الأثير بكثير من الآراء النقدية التي لها اعتبارها في موازين النقد الأدبي، وتراه في كثير من الأحيان لا يرضى بآراء الغير، بل يبسط الرأي الذي يراه، والذي يتمشَّى مع ذوقه، والذي يساير -في أكثر الأحيان- الفكرة النقدية السليمة، التي لا يسع القارئ إلّا الإقرار بها والإذعان لها، والشهادة لابن الأثير بالذوق السليم، ومن ذلك هذا العيب الذي سماه أبو هلال العسكري "التضمين" وسماه قدامة بن جعفر "المبتور"، وهو أن يطول المعنى عن أن يحتمل العروض تمامه في بيت واحد، فيقطعه بالقافية، ويتمِّمُه في البيت الثاني.
وعند أبي هلال العسكري أن التضمين هو أن يكون الفصل الأول مفتقرًا إلى الفصل الثاني، والبيت الأول محتاجًا إلى الأخير.
ومرجع هذا العيب في نظرهم أن نقَّاد الشعر العربي قد درجوا على أن وحدة الشعر هي البيت لا القصيدة، ولهذا عدّوا احتياج البيت إلى ما بعده، ليتمم معناه عيبًا من العيوب التي يجب على الشاعر المجيد أن يتجنبها، وهم لا يقصرون هذا العيب على الشعر، بل يجملونه على النثر أيضًا، إذا كانت الفقرة التي تليها.
وهذا الاعتبار لا يخفى فساده؛ لأن القصيدة ينبغي أن تكون وحدة متماسكة، والحكم على الشعر أو الشاعر ببيت واحد لا يخلو من ظلم وتعسف، واحتجاجهم بأن خير الشعر ما كان البيت فيه قائمًا بنفسه، مستقلًّا عمَّا قبله وعمَّا بعده، حتى يكون كالمثل يصلح للاقتباس، ويصلح للاستشهاد، فيه خروج عن طبيعة الشعر الذي لا يتحرَّى الحكمة وإن كانت فيه، وإنما القصيدة من الشعر أو الفصل من النثر يحدث تأثيره بمجموعه الكلي، حين يحس القارئ أو السامع بالنشوة أو الطرب أو الانفعال، حين يتم قراءة القصيدة من الشعر، أو الفصل من النثر، وإلا فقد جوزنا للشاعر -حين نقصر النظر على البيت الواحد- أن يرضينا في بيت، وأن يسخطنا في تاليه، ويكون الأول في غاية الجودة، ويكون الثاني كذلك، من غير نظر إلى تتابع الأفكار وتناسق الصور، ولا بأس حينئذ بالتعارض أو التناقض على رأيهم.
نعم! قد يكون ذلك عيبًا إذا لم تتمّ الكلمة في البيت، وأتَمَّها الشاعر في البيت الثاني، كتلك الأبيات التي نقلها الخفاجي في سر الفصاحة، ووصفها بأنها قبيحة ظاهرة التكلف، أما احتياج بعض الكلام إلى بعض فلا عيب فيه، بل هو دليل
1 / 24