لما أقبل ولداك مع أبيهما إلى بيت العروس، ابتهجنا كثيرا نحن الخدم الذين كنا نحس من قبل بالأسى على آلامك. وسرعان ما ذاع النبأ السار أن العداوة السالفة بينك وبين زوجك قد زالت. فلاطفنا ولديك وقبل أحدنا أيديهما، وقبل الآخر وجناتهما المتوردة، وقدتهما بنفسي إلى غرفة النساء يحدوهما السرور. وهناك كانت مولاتنا، التي كان يتحتم علينا حينئذ أن نقدم لها الطاعة بدلا عنك. وقبل أن تقع عيناها على ولديك كانت ترمق جيسن بعين المرح والغبطة، ولكنها سرعان ما نكست طرفها وأشاحت بوجهها جانبا، وقد علاه الشحوب، لأنها نفرت من اقتراب ولديك. وحينئذ لاطفها زوجك وتوسل إليها باللفظ الرقيق ألا تستقبل أحباءه بجفاء، وأن تهدئ من سورة الغضب، وأن ترفع رأسها، وتعد أصدقاء زوجها أصدقاء لها. وطلب إليها أن تقبل هداياك، وأن ترجو أباها - إكراما لك - ألا يطرد ولديه إلى المنفى. ولما رأت الزينة الفاخرة لم يسعها أن ترفض، ووعدته بكل ما سأل. وقبل أن يبتعد زوجها وولداك عن الدار، مدت يدها إلى الثوب ذي الألوان المتعددة، وارتدته، ثم وضعت على رأسها التاج الذهبي. وبعناية فائقة صففت شعرها أمام المرآة الصقيلة، وابتسمت لمرأى خيالها الذي لا حياة فيه في المرآة. ثم نهضت من مقعدها بخطى أنيقة، وعبرت الغرفة، وقد امتلأ قلبها بالسرور بالهدايا الفاخرة. وكم مرة شمخت برأسها وألقت إلى المرآة نظرة إعجاب بنفسها. ثم تلا ذلك منظر يبعث في النفوس الفزع، لقد ذوت ورود وجنتيها، وارتعدت فرائصها، وتعثرت في خطاها وهي تسير متألمة صوب مقعدها، ثم خرت على الأرض صريعة. ثم شقت السماء بنشيد الضراعة الحزين سيدة مسنة، إحدى القائمات بخدمتها، وكانت تعتقد أن «بان» أو أن إلها آخر قد هبط من السماء غاضبا. ولما رأت الزبد الأبيض يتدفق من فم مولاتها، وأن عينيها قد جحظتا، وأن ملامحها قد تغيرت تغيرا مشينا، وأن دمها القاني قد عاد بغير لون، صاحت مذعورة بصوت يختلف عن صوت نشيدها السابق. ثم اندفعت إحدى الوصيفات إلى حجرة أبيها، واندفعت الأخرى إلى قرينها الذي تزوج منها قريبا. وساد البيت اضطراب شنيع، وسرت العلة في أطرافها متنقلة على عجل. ما أتسعها! لقد كفت عن الكلام، وأغمضت عينيها الجامدتين، وأنت أنة عميقة، وحاولت أن تنهض وهي تكافح مرضا مضاعفا. والذهب الذي يكلل رأسها ويخطف الأبصار يرسل ألسنة من النار التي لا تبقي ولا تذر. والقميص الموشى المطرز، الذي قدمه إليها ولداك، يشوي لحمها شيا. ثم نهضت من مقرها، والنار تتأجج حولها، وهزت خصلات شعرها المشتعلة، ومالت برأسها يمينا ومالت به يسارا، وحاولت أن تلقي عن رأسها التاج، ولكن الذهب الذي كان يتحوط رأسها كان شديد الالتصاق. ولما هزت رأسها ازداد لهيب النار المشتعلة واندلع لها لسانان. وأخيرا صرعتها آلامها فخرت فوق الأديم، وما أبعد الشبه بينها وبين صورتها السابقة. إن عين أبيها لا تكاد تميز ابنته. لقد انطفأ بريق عينيها، وذوى ورد خديها، وتدفقت من رأسها الدماء ممزوجة بالنار، وذاب لحمها قطرات فاسدة كقطرات الندى فوق أشجار الصنوبر، وانحل جسدها من أثر السم الزعاف، ما أروعه منظرا! وقد خشي كل امرئ أن يمس جسدها حذرا من آلامها. ولكن الأب البائس كان يجهل كل ما لحقها من شقاء، فسارع الخطى، وولج غرفتها، وانقض على جسمها يصيح صيحة الحسرة والأسى، وضمها إلى صدره، وقبلها ثم خاطبها قائلا: «ابنتي، ابنتي البائسة، أي إله قاس قضى عليك هذا القضاء؟ من ذا الذي حرمني منك فأحنى ظهري الضعيف - وأنا شيخ كبارة - ورمى بي إلى قبري؟ وا حسرتاه يا بنيتي! لا بد لي أن أموت معك!» ثم سكت عن ولولته الحزينة وحاول أن ينهض بجسمه الذي أضعفته السنون، ولكن الثوب المطرز تعلق به كما يتعلق نبات اللبلاب ويلتف حول غصون الغار. وأخذ يناضل نضالا مريعا، وحاول أن ينهض على ركبتيه. ولكن الثوب جذبه إلى الوراء. ولو أنه حاول أن يستخدم قوته بجهد عنيف لنزع الثوب لحمه المسن عن عظامه. وأخيرا استلقى في إغماء بغير حراك، ولفظ حياته البائسة، وقد أنهكته الآلام وأوهنته. وهكذا استلقت الابنة وأبوها الأشيب وقد طواهما الردى. ويا له من منظر يستدر الدموع. والآن بعدما سمعت قصتي يا مولاتي، اهربي من هنا ، واختفي، وإلا فثقي بأن الانتقام سيحل برأسك. وليست هذه أول مرة أدرك فيها أن شئون الأحياء جميعا إن هي إلا خيال، ولست أخشى أن أقول إن أولئك الذين يبالغون في الافتخار بالحكمة وبعمق البحث هم أكثر الناس ضلالا في تيه الجهل والنزق. ليس أحد من الأحياء سعيدا، وإذا كان تيار الثروة يتدفق عليه تدفقا، فقد يكون أوفر من غيره حظا، ولكنه لن يكون سعيدا.
الجوقة :
اليوم ستصب الآلهة على جيسن مختلف النقم، وهي فيما تفعل عادلة، ولكنا نرثي لك ونرثي لما حل بك من نوائب يا ابنة الملك الشقية؛ فقد انحدرت إلى دار «بلوتو» - دار الفناء - الموحشة، بعيدة عن جيسن وبعيدة عن سريرك الزوجي.
ميديا :
لقد عقدت العزم يا صديقاتي على هذا العمل، أن أقتل ولدي بأقصى سرعة، ثم أفر مسرعة من هذه البلاد. ولن أتوانى متراخية وأتركهما كي يلاقيا حتفهما بيد أكثر من يدي عداوة. ولما كان لا مفر لهما من الموت - إذ لا بد لهما أن يموتا - فليلاقيا الموت على يدي أنا التي وهبتهما الحياة. وأنت يا قلبي تسلح بالعزيمة، ولا تجعل للضعف والإحجام إليك سبيلا، ولا تؤجل عملا إن يكن مفزعا فهو ضرورة لازبة. هيا أيتها اليد الشقية، امتشقي الحسام، واقبضي عليه، وسيري بي إلى نهاية الحياة البائسة. لا تهني، ولا تفكري في ابني المسكينين. آه، ما أعزهما لدي. لا تذكري ابنيك هذا اليوم القصير، ثم استرسلي ما شئت بعدئذ في الأحزان. إني أمد يدي الآن لقتلهما، وإن كانا لدي عزيزين. حقا، إني لشقية بائسة.
الجوقة
الفرقة الأولى :
أيتها الأرض، أيتها الشمس التي تشق عنان السماء العالية بلهيبها المتوهج، أرسلي من قرصك المتألق نظرة ترمقين بها هذه السيدة الثائرة، قبل أن تطلق لنفسها العنان وتقتل ولديها، وقبل أن تلوث يديها بدم طفليها؛ فإنهما يرجعان بأصلهما العريق إلى سلالتك الذهبية. والإنسان تأخذه رهبة الدين فيكف عن إراقة الدماء المقدسة. يا إله النور، اكبح جماح هذه النفس الطائشة، وقف في سبيلها وكبلها بالقيود، واكتسب لولديها الحياة، وأبعد عن هذا البيت الدامي «أرنايز» العسوف.
الفرقة الثانية :
عبثا ما تحملت من آلام الأمهات، وعبثا ما لاقيت من هموم ومشقات. وإنك لتحملين اسم الأم سدى، وباطلا ما تزعمين من الفخر بولديك وإعزازهما. إنك قد استطعت بقلب جسور أن تجسري على عبور ذلك البوغاز الضيق حيث تصطخب الأمواج الشديدة التي تتدفق مياهها الغزيرة بين الصخور الوعرة الحالكة، فلماذا إذن أيتها الملكة البائسة يقطر فؤادك هذا الغضب الثائر؟ إن اليد القاتلة التي تدنسها دماء ذوي القربى لن تجد لها ماء نقيا يطهرها. إن هذا البيت سيحل به الخراب عما قريب، لأن الدمار أثر من آثار نقمة السماء.
अज्ञात पृष्ठ