قالوا له إنهم لم يسمعوا بتلك الدويلات، ولم يطلب منهم أي كان أن يغادروا الأرض أو يحاربهم، وأن النهب المسلح يقوم به أفراد من كل قبائل دارفور ولا تتصف به قبيلة دون الأخرى، وأنهم لا يرغبون في السلاح، ولا يرغبون في التدريب في الدفاع الشعبي، طلب منهم المفاوض الحكومي، طالما رفضوا حمل السلاح، فإن موقعهم هذا تعتبره الحكومة المركزية موقعا استراتيجيا؛ أي موقع مواجهة، عليهم إما أن يغادروا جنوبا أو أن يستضيفوا بعض القبائل العربية الوافدة حديثا من دول مجاورة، وهم من بني عمومتهم رعاة إبل، لا يمانعون في حمل السلاح، بل وهدم المشروع الانفصالي الذي يقوده الزرقة، أو أن يستهدوا بالله ويستلموا السلاح، ويأتوا بشبابهم للتدريب العسكري، ويحتفظوا بخبيرين عسكريين معهم في القرية.
كانوا يعلمون تمام العلم إذا استلموا السلاح سيصبحون مقاتلين مثلهم مثل كثير من القبائل التي انطلت عليها الخدعة، حيث طلب منهم مهاجمة جيرانهم الذين تعايشوا معهم منذ مئات السنين، وعندما رفض الشيوخ وكبار السن ذلك، قامت الحكومة باستبدال القيادات المجتمعية والشعبية المتوارثة بقيادات شبابية أسمتهم الأمراء، أخذتهم لدورات تدريبية نفسية واجتماعية وعسكرية قاسية بالخرطوم، وأعادتهم لقبائلهم وقد تغيرت عقلياتهم وأصبحوا لا يفكرون سوى بالحرب، ولا يخشون سوى من خطر الزرقة عليهم. شيوخ بني حسن لا يريدون أن يصبحوا مثل هذه القبائل؛ لأنها خسرت أكثر مما كسبت، خسرت الجيرة والشباب وأصبحت عرضة لهجمات الثوار من القبائل المستهدفة من قبل الحكومة، بل إن هذه القبائل دخلت في صراع مع تجمعات عربية مسلحة أخرى في التنازع حول الأراضي والثروات والمسالب والغنائم التي استولوا عليها من الجيران، قال الشيخ لرسول الحكومة: لا هذا ولا ذاك.
عاد وفد الحكومة بأسلحته وخبرائه، ولكن بعد أسبوعين جاء الأبالة الذين عرفوا فيما بعد بالجنجويد، يحملون زادا ثقيلا من الأسلحة، وفي رفقتهم عربات لاندكروزر مقاتلة وكثير من الخبراء العسكريين، وأقاموا في ضيافة إجبارية لدى شيخ عرب بني حسن، كما أنه كان في رفقتهم أمير القبيلة المعين الشاب المجاهد المقاتل في سبيل الله الذي لم يروه من قبل لا يعرفون اسما له أو قبيلة.
في الأسبوع الثاني، كانت قرية خربتي الجبل، كأن لم تكن، ليست سوى بقايا رماد وجثث متفحمة، وحدائق مانجو محروقة. الأحياء من النساء والطفلات المغتصبات، أخذتهم القوات الحكومية وبعض منظمات الإغاثة، إلى معسكر كلمة بنيالا، وكانت من بينهم طفلة في الخامسة عشرة من عمرها، وجدت حية تحت جثث أفراد أسرتها، أخبرت عمال الإغاثة بأن اسمها عبد الرحمن. أما الرجال والأطفال الذكور فقد تركوا بالقرية في مقابر جماعية ضخمة وقبيحة.
كيف كفرت العمة خريفية؟
في 2004، شتاء ذلك العام، في صبيحة يوم الجمعة، في سوق النسوان، بنيالا، كانت خريفية تبيع البطاطا والبصل على فراش من خيش الكتان المبتل بالماء، وهو ثلاجتها الطبيعية لحفظ الخضار من أشعة الشمس الشتوية الحارقة، جاءتها امرأة طويلة تسألها ما إذا كانت قد رأت طفلين يمران بالقرب منها، وأخذت تصف لها الطفلين؛ ولدان، يلبسان ملابس العيد، بحركة من يديها كانت تصف لها طول كل واحد منهما، لونه، عينيه، نوع شعره، نعليه، قالت لها: إنهما يحبان اللعب كثيرا، ولا يسمعان كلامها ونصائحها، لولا ذلك ما استطاع الجنجويد القبض عليهما وأخذهما منها.
شفتيهم؟
كانت خريفية تعرف قصة المرأة والطفلين، تعرفها جيدا، وبروايات شتى ورواة مختلفين، حتى على مستوى ما يمكن أن يطلق عليه حقائق، مثلا عدد الأطفال واسم القرية والمكان والزمان، ولكنها لأول مرة تسمعها عنها شخصيا، وبصورة أدق - وذلك لكي نضفي على هذا العمل السردي نوعا من الجدية المهنية - أول مرة تسمع قليلا من الحكاية عن صاحبتها شخصيا، تلك المرأة الطويلة الحزينة التي تلتهم الطعام بسرعة وهي تنظر بعيدا في الفراغ، تدفع لها خريفية بالرغيف إلى كفتيها، ظنا منها أنها لا ترى شيئا، حتى إنها لا تنظر إلى صحف الطعام، تدخل أصابعها فيه بدون تمييز أو تركيز، كأنما كانت تطعم الهواء، كانت تأكل بغير شهية، دون أية متعة، بل كانت تأكل بصورة مقرفة وبائسة، يتساقط الفتات من بين شفتيها وأسنانها، فجأة توقفت صائحة: الحمد لله، شبعت.
قدرت خريفية الطعام المتناثر على الأرض بما يساوي ثلثي ما قدمت إليها، نهضت المرأة الطويلة النحيفة، تمشت قليلا. عند حائط الاستاد الرياضي القديم، انحنت، ضغطت على بطنها، فتحت فمها واسعا، وسمعت خريفية صوت تدفق الثلث الأخير من الطعام.
في أواخر فصل الصيف المطير، من نفس العام، عند بيت الشيخ جبريل، في راكوبته الكبيرة، اجتمع ما يمكن تقديره بكل الرجال المقيمين بقرية حجيرات الوادي، ولأن الأمر في غاية الجدية والخطورة تم إبعاد الأطفال، ولكنهم دعوا عددا كبيرا من النساء كبيرات السن؛ لأنهم يعرفون أن رأي النساء في حالة الشدة قد يكون أصوب من رأي الرجال؛ لأنهن قد ينظرن للأشياء بزاوية لا يعيرها الرجل اهتماما، وقد تكون هي الحجر الذي رفضه البناءون، ولدى الرواة المحليين عشرات القصص التي تبين مقدرة المرأة وسدادة رأيها عند الشدة. بدءوا اجتماعهم بقراءة سورة يس حتى تطمئن القلوب ويستقر الفكر، ودعوا أن يلهمهم الله بالرأي الأصوب. في الحقيقة كانوا جميعا يعرفون الغرض من الاجتماع، ولكنهم هنا يريدون توحيد الرأي والمشورة، ابتدر الشيخ الحديث باللغة المحلية، وشرح الغرض من الاجتماع، ودار نقاش كثير حول صحة النبأ، ولسوء الحظ كان خبرا مؤكدا، قرر الناس إما الاحتماء بالجبل أو الإسراع في هجرة جماعية سريعة إلى مدينة نيالا، والانضام إلى النازحين في معسكر كلمة، وعلى الشباب ومن شاء من الكبار الالتحاق بقوات الثوار ومنذ اللحظة، وتقريبا أجمع الناس على هذا. لكن رجلا واحدا قال إنه سيبقى في القرية، فهو لا يستطيع أن يستغني عن أبقاره؛ لأنه يعرف مصيرها، حيث تستولي عليها قوات الحكومة والجنجويد في الطريق إلى نيالا، وإنه لا يترك أرض أجداده للعرب الغرباء الآتين من النيجر وتشاد ونيجيريا، أو الصحراء الموريتانية. عاتبه الشيخ: لا تكن مثل ابن نوح، وخير لك أن تتبع رأي الجماعة، إنهم سوف لا يرحمونك ولا يرحمون أسرتك. وأنت عارف وشايف.
अज्ञात पृष्ठ