إهداء
طر
النخاسون
جنون الجسد
صيد الجن
سكك الخطر
الحرية وقرينها
الكلمة
شيزوفرينيا المستلب
العنكبوت
अज्ञात पृष्ठ
كيف كفرت العمة خريفية؟
المؤمنون بي والكافرون
ملك الموت
في طريق ابن الإنسان
مريم الحبيبة
الموكب
إهداء
طر
النخاسون
جنون الجسد
अज्ञात पृष्ठ
صيد الجن
سكك الخطر
الحرية وقرينها
الكلمة
شيزوفرينيا المستلب
العنكبوت
كيف كفرت العمة خريفية؟
المؤمنون بي والكافرون
ملك الموت
في طريق ابن الإنسان
अज्ञात पृष्ठ
مريم الحبيبة
الموكب
مسيح دارفور
مسيح دارفور
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى روح الجميلة النظيفة، النقية الشفيفة، مريم بنت أبي جبرين، أمي.
عبده بركة
أهون لجمل أن يلج من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله.
अज्ञात पृष्ठ
مسيح دارفور
طر
القوة العسكرية المنوط بها حسم الأمر لا تتجاوز ال 66 جنديا، وفريق كبير من النجارين المهرة وشبه المهرة، تم جلبهم بالقوة من نيالا وكاس وزالنجي. في الحقيقة كان هذا العدد كافيا جدا للقضاء على ثورة نبي كاذب - كما تم وصفه من قبل القادة الميدانيين وبعض الساسة الضالعين في إطلاق الألقاب الجيدة - كل قوته التي لا تحمل أيا من الأسلحة هي 15 رجلا وامرأة واحدة، وما يسمونه بالنبي الكاذب هذا قد أحيا في الجمعة الماضية أربعين شخصا من الموت، وشكل من ريشة واحدة غرابا حقيقيا جميلا، وقال له طر؛ فطار.
الشخص الذي صمم طريقة القضاء على الرجل كان يمتلك خيالا خصبا يحسد عليه، كما أنه يتسم ببرود أعصاب وإصرار على القتل بصورة مدهشة، وكان عليه أن ينجز الأمر بأسرع ما يمكن، خاصة بعد أن تناوله الناس المروجون من المتربصين بالحكومة الوطنية في الفيسبوك والتويتر والمواقع الإلكترونية العميلة مثل؛ الراكوبة، وسودان فوراول وغيرهما، كما أن الأمم المتحدة التي تدخل أنفها في كل شيء فيما يخصها وما لا يخصها، تتداول النقاش مع بعض الدول على إرسال مبعوث خاص لمعاينة موضوع النبي الدارفوري الغريب، كما أسمته الصحافة الغربية، من قرب كاف ورفع تقرير بذلك، كما أن الجماعات التي أعلنت إيمانها المطلق به حتى قبل أن تعرف تفاصيل دعوته، تتجمع الآن من كل أنحاء العالم وتسير في قافلة عملاقة نحو دارفور. عليه أن يقطع الطرق أمام هذا وذاك ويقوم بالتخلص منه بقتله، ولكنه يريد أن يقتله بطريقته الخاصة، بأسلوبه الذي يحب، يريد أن يختار له نهاية تليق بأسلوب ادعائه.
يقول إنه المسيح، ليس متشبها به، وليس داعيا بدعوته، وليس أحد تلامذته ولا مريديه، وليس المسيح الدجال ولا المهدي المنتظر، ولا برمبجيل، يقول إنه السيد المسيح بلحمه ودمه، وبهذا يستحق صلبا حزينا بائسا يجعل كل من يحاول أن يدعي النبوة - وهم كثر في هذه الأيام - أن يفكر ألف مرة قبل أن يعلن ذلك.
كان النجارون وأشباه النجارين مشغولين في صنع خمسة عشر صليبا من أفرع أشجار السنط المقطوعة حديثا الصلبة وعليها بقايا الشوك، كانت صلبانا ثقيلة، يحاولون أن يجعلوها أثقل ما يمكن، يختارون السوق الأكثر رطوبة، المروية جيدا بماء الأنهر البعيدة في عمق الأرض، يضعون حولها دعامات ثقيلة من سوق أخرى أكثر ثقلا، يدقون في أعماقها مسامير غليظة من الحديد الصلب ذات نهايات حادة، ويتم تذكيرهم بين وقت وآخر أنهم قد يصلبون على ذات الصلبان التي يصنعونها الآن إذا لم تكن جيدة الصنع، كان النجارون وأشباه النجارين مجتهدين، يصلون الليل بالنهار، أمامهم ثلاثون ساعة لا غير، العساكر لم يكونوا على أهبة، ولم يصبحوا كذلك، لا يمكن أن يؤذي من لا سلاح له، بل من يقول إنه سوف يبارك قاتليه؟ فكانوا لا يكفون عن لعب الورق والشجار حول من الذي صنع البندقية الكلاشنكوف.
الجنود ال 66 شرسون، حاربوا في كل بقاع السودان، كانت لهم صولات وجولات في الجنوب والشرق والغرب، وقد يقاتلون في ميادين أخرى من أرض الوطن الحبيب، وهنا تكمن خطورتهم، إنهم متخصصون في القضاء على ثورات مواطنيهم بالذات؛ أي مثل القطط التي تأكل أبناءها، وتهرب من نباح كلب الجيران، الجنود ال 66 مدججون بأسلحة ثقيلة وخفيفة؛ دبابتين، ناقلتين للجنود، وعربتين لاندكروزر مزودتين بدوشكا، يلفون رءوسهم ووجوههم بشالات ملونة وكأنهم فرسان من قبيلة الطوارق. من الخطأ التعامل معهم وكأنهم شخص واحد، هم يختلفون كثيرا عن بعضهم البعض؛ في النشأة ، والموطن، استخدامهم للسلاح، حبهم للحياة، وفي فهمهم للحرب، بل في إيمانهم بالقضايا التي يحاربون من أجلها، أسرهم، عشيقاتهم وأحبائهم، من له أبناء وبنات ومن هو أعزب ومن ليس له غير نفسه، حبهم للحياة، مقدرتهم على التضحية بالروح والدم. فال 66 جنديا، هم في الحقيقة 66 إنسانا، يكتشف ذلك من يقترب منهم أكثر، من يستمع لنبض قلوبهم، من يتحسس سريان الدم في شرايينهم، من يستطيع أن يدخل أصابعه في جيوبهم ويلمس لزوجة فقرهم وحرمانهم. الجنود ال 66 مستعدون لتنفيذ الأوامر في الحال.
إبراهيم خضر، ليس هو القائد الميداني، كما أنه ليس صاحب قرار في مصير الرجل، وهو أيضا ليس من مهمته إقناعه وقيادته إلى جادة الطريق. كان مكلفا بفهم آراء الرجل، وكتابة تقرير واف عن ذلك، لا أكثر ولا أقل، تحت عنوان وإرشادات معطاة مسبقا، ولا نريد منك أكثر من ذلك، وليس من ضمن تلك الأسئلة القائدة سؤال مثل: هل هو نبي أم لا؟ كان بوده أن يسأل مثل هذا السؤال، ولكنهم للأسف يعرفون ويؤمنون بأنه ليس نبيا، فآخر الأنبياء في الدين الإسلامي هو النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وآخر الأنبياء عند الدين المسيحي هو السيد عيسى المسيح. أما البوذيون والصوفيون وغيرهم فيتمسكون بمقولة: كل عقل نبي، ويفتحون بذلك الباب واسعا لكل من هب ودب، الذين أرسلوه في هذه المهمة لا يخطر ببالهم مجرد خاطرة أن يكون هذا الرجل نبيا حقيقيا، أو كما يقول هو عن نفسه: عيسى ابن الإنسان.
وكان الجنود يلعبون الورق، يشربون المريسة اللذيذة التي يصنعونها من بقايا خبز الطعام وأشعة الشمس الحارقة، كانوا 66 جنديا، ينضوون تحت كتيبة جاءت لدارفور من شرق السودان؛ لذا يسمونهم الشرقية، شعارهم خنجر، عندما تراه تحس به يتوغل في جسدك، يخترق جلدك؛ ليقبل قلبك الخائف قبلة أخيرة لا فكاك منها. ليسوا بجا جميعا، بل في الحقيقة ليس من بينهم بجا، يعني أن البجا بهذه الفرقة الصغيرة عددهم خمسة أفراد، ليست لديهم شعور كثة، وليست بوجوههم وشام كتلك التي لدى جدودهم منذ ما قبل مملكة كوش ، أقصد تلك الخطوط الثلاثة الأفقية، التي تشير للرب، وهو في ذلك الزمان الفيل؛ حيث إنه كان أكبر المخلوقات حجما، للأرض، والسماء. الشرقية بها تشكيلة من كل سكان السودان القديم والحديث، يوحدهم شيء واحد، وهو أنهم شجعان ولا يعصون الأوامر، وأنهم يلعبون الورق في هذه اللحظة.
अज्ञात पृष्ठ
أما النجارون وأشباه النجارين؛ فكانوا مرهقين جدا وناقمين، وليسوا سعداء بالمرة، ولم يخفف عنهم دوام العمل الطويل الممل العمال المائة الذين ألحقوا بهم، وهم قاطعو الأشجار موضبو الأخشاب، الذين يثبتون المسامير في مواضعها، وطارقو المسامير الحديدية الحادة القاسية، وصانعو الطعام والشراب، الذين يرفضون رفضا قاطعا صناعة المحرمات مثل المريسة، كما أن لا خبرة لهم في صنعها، كانوا لا يعرفون لم يصر القائد الميداني على صناعة الصلبان، أليس من الأسهل والمفيد للوقت ولهم أن يتم إعدام هذا الكافر ومن يتبعه بالرصاص؟! نعم إنه مزعج ومخيف ويصدر ضجيجا مرعبا، ولكنه سيريحهم من صنع هذه الصلبان البغيضة المعقدة، الثقيلة، كانوا شبه أميين، لا يعرفون شيئا عن يوسف النجار، وحدثهم خطيب صلاة الجمعة أن الصليب الذي يلبسه المسيحيون في أعناقهم مصلوب فيه شبيه السيد المسيح، وليس سيدنا عيسى ابن مريم؛ لأن الله رفعه للسماء وأنزل بدلا منه هذا الرجل المسكين الذي صلبه اليهود وهم يظنونه عيسى ذاته، لم يصر هذا العسكري على صلبهم، بينما لم يصلب السيد المسيح عيسى ابن مريم؟ إذن ما ذنبنا نحن النجارين؟
العسكر ال 66 لا يرغبون في الحرب، وليست هي من ضمن هوايات أي منهم. إنهم من أسر كريمة تقدس الحياة وتحترم الجار والصديق، وتقيم الصلاة أيا كانت، في الكنيسة أو في الجامع أو في أي من أمكنة الله الكثيرة، وتعرف أن الرب لا يحب أن تقتل النفس البشرية، وأنه حرم ذلك، ولكن من يطلق الأوامر هو من يتحمل الذنوب والخطايا التي ترتكب في الحرب، إنهم سيطلقون الرصاص إذا أمروا بذلك، ولكن المرتكب الحقيقي لجريمة القتل هو القائد الميداني، وهو الوحيد الذي يمتلك حق إصدار الأوامر. إنهم يعرفون ذلك جيدا، وهذا أخطر ما في الأمر ؛ لأن ضمائرهم ستصاب بالموت، بالخدر البارد مثل الطين المخلوط بماء آسن؛ أي إنهم عندما يذهبون إلى منازلهم بعد كل معركة، سوف لا يحملون في ظهورهم أوزار موتى أبرياء أزهقوا أرواحهم قبل ساعات قلائل، القادة الميدانيون بدورهم يحملون جرم ما يفعلون لقادة أكبر يتسكعون في المركز، يستحسنون شرب القهوة المعطرة بحدائق أوزون، وبيرة بافاريا على شاطئ النيل الحبيب، وهؤلاء يقولون إن القاتل هو من أشعل الحرب؛ أي ذلك السياسي الرقيق الذي ينام في بيته مع أطفاله بعد أن يغني لهم بعض التبتبات، ويرضي زوجته المتبرمة بأوقية من الذهب الخالص، والسياسي الحصيف يقف وراء المايكروفون قائلا: أمريكا وإسرائيل - وأخيرا أخذوا يضيفون حكومة جنوب السودان - وراء هذه الحروب، بذلك يكون قد ولغ من الدم ما يشبع روح غول رحيم.
النجارون وأشباه النجارين يصنعون الصلبان في مقاس واحد فقط، وهو يصلح للجميع، نساء ورجالا، يعملون عليه بصورة نظرية، فليس لديهم تصور على كيفية عملها؛ لأنهم لم يروا ذلك من قبل، بل لم يشاهدوا صورا لأشخاص مصلوبين. لقد أعطوا المقاسات من طول وسماكة الأخشاب وقوتها وعدد المسامير ونوعها، وفوق ذلك كله طلب منهم أن يقوموا بدق المسامير على المصلوبين فيما بعد. لا يوجد أكثر حرفية من نجار في دق المسمار، أليس كذلك؟! ومن الأحسن أن تكون أنت من يدق المسمار وليس من يدق المسمار في جبهته وكفتي يديه، وواحد طويل وسميك في منتصف الصدر.
الرجل ومحبوه ومؤيدوه كانوا يجلسون في مكان مجهول لدى الجميع، بمن فيهم العسكر الذين جاءوا لقتلهم، والنجارون الذين يصنعون الصلبان، وإبراهيم خضر إبراهيم نفسه، ولكي يتضح هذا اللبس، دعونا نلقي نظرة على المكان، وهو عبارة عن موقع لقرية قديمة تم حرقها وإزالتها من الوجود قبل عامين، تقع في وادي عميق خصيب، حولها سلسلة جبلية مستطيلة، تحيط بنصفها الجنوبي والغربي، يوجد في لصق الجبل الغربي منبع مائي صغير، وكان هو من الأسباب التي قادت الجنجويد إلى المكان وإبادة ساكنيه، وإنهم فيما بعد جلبوا إليه بضعة مئات من الجمال لترعى فيه مع بعض الأسر، ولكننا الآن لا نرى أيا من هؤلاء الجنجويد وأسرهم، لقد قضى عليهم الرجل بكلمة واحدة، قال لهم اذهبوا نحو بلدكم؛ فأخذوا جمالهم وأطفالهم ونساءهم وعادوا للنيجر، تركوا بعض بعر الإبل وقليلا من الوبر متناثرا هنا وهنالك، ورائحة بول ماشيتهم ظلت عالقة بالهواء لأيام معدودات، ثم زالت أو أنها لحقت بهم. هكذا بكل بساطة ويسر، على مبعدة من النبع ببضعة أمتار توجد مغارات كبيرة وصغيرة، وهي بقايا سكنات دولة الداجو القديمة في قرون ما قبل الميلاد، مرسوم بها تفاصيل حياتهم اليومية، إنهم يقضون وقتا طويلا بالداخل، لا يدري أحد ما يفعلون، ولكنهم يخرجون في صبيحة كل جمعة، ويبقون في ظل راكوبة كبيرة منصوبة بين الأشجار التي تحيط بالنبع، وفي هذا المكان والزمان سيجدون جنودنا في انتظارهم والصلبان الغليظة تتشهى أجسادهم النحيلة الكافرة وتتشوق لعناقهم الأبدي.
النجارون وأشباه النجارين تعبوا من معالجة الأخشاب الصلبة الحمراء، استعانوا بالأغنيات التي تزخر بها ذاكرتهم المملوءة بنشارة الخشب، فحيح المناشير وأنين الأشجار. بالنسبة للكثيرين منهم إن هذه المهمة التعيسة قد توفر لهم كثيرا من المال أو بعضه بالقدر الذي يمكنهم من توفير مصروفات منزلية ملحة، ظلت عالقة في حبال المشيئات يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر، وقد تبدو بسيطة تافهة لدى البعض مثل أحذية الأطفال، أو ثوب جديد للزوجة التي لا تملك سوى بعض الأحلام، قل بيتا صغيرا، أو تحسينات في القطيات القديمات، أو سروالا جديدا لطفل كبير: قد يعطوننا مالا كثيرا. أما بالنسبة للقلة فإنهم يتشاءمون كثيرا بصنع الصلبان، وإن المال الذي سوف يجنونه من ذلك هو مال حرمته مؤكدة، يقيسون في لا وعيهم بتحريم الإسلام للخمور، فما حرم شربه تقطيره حرام بالتالي، ما حرم لبسه فحرام صنعه، وها هم يفعلون ما حرم الخالق، ويستر الله إذا لم يدخلوا النار يوم القيامة من جراء هذه الصلبان التي يقومون بصنعها الآن؛ يعملون بجد واجتهاد، بينما تدور كل هذه الهواجس في رءوسهم.
الجنود ال 66 والنجارون وأشباه النجارين، لا دخل لهم بما يدعيه الرجل من نبوة أو ألوهية أو ما يشاء، وما تنوي الحكومة من نوايا تجاهه، هو لا يضر بنا بشيء، كما أن ما تنويه الحكومة لا شأن لنا به، ولكنهم كانوا لا يسألون أنفسهم مثل هذه الأسئلة، أقصد أنها لا تخطر ببالهم. بمعنى آخر، إنهم لا يمضون بها إلى حيث نهاياتها، لم ينالوا فيما قبل المعرفة التي تمكنهم من صياغة مثل هذه الأسئلة. لقد حالت أسئلة اليوم دون أية أسئلة أخرى، أسئلة أكثر جمالا وتعقيدا، أو بالإمكان القول: لقد حيل بينهم وبين الأسئلة الفعلية أو طرائق نهاياتها، الأسئلة التي تخصهم كبشر، التي تخص خياراتهم بالذات، التي تجعلهم أحرارا في نهاية المطاف.
سمعوه يقول فيما بعد: السجان هو سجين باختياره، والصليب لنا، ولمن صنعه لنا.
ويقول أيضا: لا يصبح حرا من لا يستطيع أن يتبين أسئلته.
وكان يقصد الأسئلة التي تطلقهم أحرارا مثل طيور السمبر، ولم يتحدث يوما عن الإجابات؛ لأنها كما علموا: متغيرة.
في الجمعة السابقة خرجوا من أوكارهم وتمشوا قليلا ناحية ما كان في الماضي وسط القرية. وقف الرجل عند كوم تراب عليه بعض الحجارة، قال لأصحابه، بلغة دارفورية قديمة يجيدونها جيمعا عربا ودارفوريين: من منكم يرى ما بداخل هذه الكوم من التراب؟
अज्ञात पृष्ठ
كانت مريم، تلك المرأة الجميلة التي سميت فيما بعد بمريم الحبيبة، ومن قبل سماها القائد العسكري المتمرد شارون بمريم المجدلية، قبل أن تتركه وتنضم لجماعة الرجل، قالت له: أنا لا أرى شيئا.
وكذلك أكد بقية أصحابه أنهم لا يرون شيئا، قال لهم إن بإمكانهم أن يروا إذا أرادوا، وكانوا يريدون ولكنهم لا يرون شيئا، وقال لهم أشياء كان يقولها كثيرا، تخص الموت والحياة والإنسان وقدراته غير المتناهية. وفي تلك اللحظة هبت ريح خفيفة كانت بها ريشة طائر، هبطت الريشة على كتف أحد أصحابه وكان يقف قريبا منه؛ أي بينه وبين مريم الحبيبة. أخذ الريشة، لونها رمادي تميل للسواد، كانت أشبه بريشة غراب أو طائر سنبر صغير، قال لهم: إن الريشة هي الطائر.
وبينما كانوا مندهشين ينظرون، إذا به يرسم غرابا على الأرض، يضع الريشة في مكانها المناسب، بل الصحيح، تنمو بقية الرياش في أماكنها بالقرب من الريشة الأولى، تكتمل بنية الرياش؛ من ثم يظهر المنقار، القوائم، المخالب، إلى أن اكتمل الغراب، يبتسم، سألهم: هل منكم من يستطيع أن يجعل هذا الغراب يطير؟
قال رجل من الأعراب اسمه حامد: لا أظن أن أحدنا يستطيع ذلك.
فقال للغراب: طر.
فطار الغراب، حلق بعيدا، تقلب في الفضاء مستعرضا جناحيه وسواد أرياشه، نعق مخترقا السماء الصافية نحو الشرق إلى ما لا يدرون، إلى أن اختفى عن دائرة نظرهم جميعا، فقال لهم: إذا كان قد قال أي منكم لهذا الغراب كما قلت له لفعل، كل ما ينقصه هو كلمة: طر.
وقال لهم: إذا كانت الريشة تدري الكلمة لقالتها لنفسها، فجمعت أشلاء الجسد الذي كانت تنتمي إليه، استدعت دمها ونعيقها وروحها وطارت، لما انتظرت مجيئنا لحظة.
وظن الكثيرون أنه قد يعني بذلك أن الكلمة في الأحياء كما هي في الأشياء.
وقال لهم: أعدوا العدة للموكب.
وما كانوا حينها يدرون ما هو الموكب، ولكنهم أخذوا يعدون له العدة.
अज्ञात पृष्ठ
وقال لهم: الموكب الموكب.
كان النجارون وأشباه النجارين، مشغولين في صناعة الصلبان الثقيلة، الجنود ال 66 يلعبون الورق، والرجل يعلم الكلمة للمؤمنين به وللكافرين على حد سواء، ويعدهم للموكب، لا يدرون متى قال لهم: الكفر يا أحبائي درجة بالغة التعقيد من الإيمان.
النخاسون
يبدو أن مصائرهما قد ارتبطت بعضها البعض رباطا لا فكاك منه، وليست هي الصدفة وحدها، ولكنهما في أحيان كثيرة كانا يسعيان لذلك، قد التقيا في المرة الأولى بتخطيط من القدر، وعملت أياد نجسة - وسمياها فيما بعد شيطانية - كثيرة في جعل ذلك اللقاء: ممكنا، مؤلما ونهائيا.
في 23 نوفمبر 2002 حوالي الرابعة مساء، عند نقطة تفتيش سوبا على مشارف مدينة الخرطوم، توقف الباص خلف باصات كثيرة سبقته في المكان والزمان، ترجل السائق وفي معيته المضيف، اختفيا لبعض الوقت، عندما عادا كان في صحبتهما رجل يحمل قائمة أسماء المسافرين بيد، وبالأخرى يحمل قلما أزرق ماركة بك، يرتدي بذلة سفاري رمادية، له عينان صغيرتان ضيقتان، ولكنهما حادتان كعيني نسر كاسر، بنظرة واحدة - في ثوان معدودات - شاهد كل الركاب. نظر إلى قائمة المسافرين، خطط بقلمه ثم أشار إلى البعض بأن يترجلوا من الباص ويتبعوه، وذلك دون أن يكلف نفسه قول كلمة واحدة، نزل خمسة من الشبان في أعمار متقاربة - بصمت - في ترقب مضوا خلف الرجل ذي السفاري الرمادي، الذي دخل خيمة من الكانفاس غبشاء، تقع شرق الطريق السريع، خلفها يقف لوري عليه قفص من الحديد به نوافذ صغيرة للتهوية منسوجة من السيخ الصلب، باختصار كان اللوري قبيحا، بائسا ومثيرا للتشاؤم. وانتبه الجميع وهم يصعدون إليه، إنه أشبه بقبر من الحديد على الأسفلت.
يصعب تتبع الدوامات الأولية التي وجدا فيها نفسيهما؛ لأنها كانت سريعة، بل تمر بصورة لولبية وعنيفة لا تصدق، أدخلا عددا من المكاتب الحكومية الصفراء التي تفوح من جوانبها رائحة الورق والسجائر البرنجي، مختلطة بزنخ الجوارب المتعبة، قابلا رجالا من العسكر والمدنيين لهم نفس الملامح والسحنات، تم سؤالهما ذات الأسئلة مرارا وتكرارا، وقيل لهما ذات الكلام مرارا وتكرارا، وحذرا من ذات الأفعال، فعل ذلك كل من التقى بهما من الرجال العسكريين والذين أخطر منهم وهم «العسكر ومدنيون»، طلب إبراهيم خضر، وهو الأصغر عمرا، كان شحما بعض الشيء، يتحدث بصورة متقطعة، وهي عادة ورثها جدا عن جد، طلب منهم أن يتركوه يوصل أخته التي تدرس بالجامعة وهي في سنتها الأولى وزيارتها الأولى لمدينة الخرطوم، أن يوصلها إلى الداخلية ويكمل إجراءات تسجيلها ويعود إليهم مرة أخرى، ضحكوا من سذاجته وقالوا له فيما يعني: تجدها عند الغافل، وأكد له «عسكر ومدني» نحيف له شفاه مبتلة ترتجف لاإراديا، أن الحكومة سوف تعين لها من يسهل كل ما يخصها، فقط عليه أن يتفرغ لأداء الخدمة الوطنية العسكرية الإلزامية، وأن يمضي إلى المعسكر خالي البال من كل هم.
الشخص الآخر الذي سوف نتتبع أخباره عبر هذه الحكاية أيضا، هو شيكيري توتو كوه، الذي ظل صامتا طوال فترة التحقيق، حتى إنه لم يذرف دمعة واحدة في اللحظة التي بكى فيها كل المجندين، عندما أقلعت بهم الطائرة العسكرية اليوشن الروسية العجوز نحو ما لا يعلمون من البلاد، لكنهم جيمعا كانوا موقنين أنهم يتوجهون إلى ميدان معركة ما، حامي الوطيس، في الجنوب أو الغرب، بعد أن قضوا فترة التدريب على الأسلحة الخفيفة في الأربعين يوما السابقة، وكانوا يعرفون أنهم سوف لا يرون الخرطوم مرة أخرى إلا إذا كانت في الجحيم مدينة بهذا الاسم.
الشخص العادي - وأقصد هنا الطبيعي - في رأي إبراهيم خضر، هو الذي لا يرى غضاضة في أن يحب مدينة نيالا ويعشق الأستاذ محمود محمد طه. لا يوجد ربط بين الاثنين غير أنهما ينطبقان على الشخص الطبيعي، شيكيري توتو كوه لم يسمع بالأستاذ محمود محمد طه قبل أن يلتقي إبراهيم خضر، الذي ينتمي لهذا المفكر والفكرة معا، ولا نظن أن ذلك سوف ينقص من أن شيكيري توتو كوه شخص طبيعي، ولكن والده توتو أخبره كثيرا عن مدينة نيالا، وحكى له عن أخته غير الشقيقة التي انقطع عنها قبل ميلاده، بل قبل أن يتزوج كاجيلا أمه، تسكن حي الوادي. يستطيع الآن أن يتذكر اسمها؛ لأنه غريب، وكان دائما ما يوحى له بصورتها، بل كان يراها كما يصورها اسمها وسط عشب كثيف وأبقار وأغنام ترعى، ومطر لا يتوقف. كان اسمها خريفية تور جاموس، سوف يبحث عنها عندما يستقر به الحال في المدينة، وإذا سمحوا لهم بالخروج من المعسكر. لا بد أنها قد أصبحت عجوزا كما هو الحال بأبيه الآن.
يؤرخان للقائهما الحقيقي باليوم الذي اختيرا فيه عشوائيا من قبل أيد ما، للعمل ضمن وحدة الاستخبارات الخاصة بالكتيبة التي أدغما فيها، وعندما شاهدا بعضهما البعض تذكرا ذلك اليوم جيدا، الذي تم صيدهما فيه على مشارف مدينة الخرطوم، ربما قابلا بعضهما البعض في معسكر التدريب بصحراء بغيضة شمال الجيلي، ولكنهما كانا وسط ألفين وثلاثمائة واثنين وعشرين مجندا، وكان المجندون إما مشغولين بالهرب؛ لأن الفرصة الوحيدة للنجاة هي الهرب من هذا المعسكر بالذات، بالرغم من الحراسة المشددة التي به، إلا أن المجند إذا لم يتمكن من الهرب منه، فإنه لا محالة مواجه للموت في معركة ما، ضد سودانيين متمردين على الحكومة المركزية في غابة أو صحراء ما، وإما أنهم مشغولون بمحاولة الاتصال بأحد ذويهم من أولي النفوذ الواصلين لكي يتدخل في الوقت المناسب ويفك أسرهم. في المعسكر الوقت يمضي سريعا نحو ميدان القتال، ولا أحد يثق في الآخر، فيشاع أن من بين المجندين مندسين يعملون لصالح السلطة، ولا يعرفون إلا عند الذهاب للقتال، حيث إنهم يتخلفون، وإذا اشتركوا في المعركة فإنهم بصدد تصفية بعض من يسمونهم الطابور الخامس. والمربك في الأمر أن أيا من المجندين عرضة لكي يصنف طابورا خامسا ولأسباب واهية، ربما لطريقة لبسه أو لمجرد كلمة تفوه بها عرضا، بل لمجرد لون بشرته؛ لذا لم تتوطد علائق لا جيدة ولا حسنة من قبل، بين شيكيري توتو كوه وإبراهيم خضر إبراهيم، ولا بين أحدهما وأي إنسان آخر. ونستطيع أن نقول: الأيام الأولى لهما في شعبة الاستخبارات شهدت شكوكا متبادلة بين الاثنين، ومشادات عنيفة كادت أن تنتهي بمعركة يدوية لولا برود أعصاب إبراهيم وحكمة شيكيري، ولكنهما وجدا نفسيهما معا ذات موقف إنساني عميق وظلا معا للأبد.
الليل في الصحراء بعيدا عن البيت لا يعني شيئا غير العدم، والصحراء لا تعني للجندي غير الهلاك، الجندي المعني ليس ذلك الثوري الذي يحارب من أجل قضية وطنية ضد عدو أجنبي دخيل، طالما آمن بها وتبناها، ولكن الحديث هنا عن الجندي الذي يدفع للحروب دفعا، الذي يصفي السياسيون بدمه حسابات ومطامع تخصهم، حتى إذا كانت ضد قبيلته وأسرته، بل مسقط رأسه، مثل الذي ظل يحارب ثلاثين عاما في ميدان معركة ولا يدري شيئا عمن يقتل أو من سوف يقتله هو في آخر المطاف، ذلك الجندي الحزين. وكان إبراهيم الخضر دائما ما يسخر من الشهداء والأبطال الذين توجوا بهذه الألقاب وهم يحاربون بني جلدتهم ذات بني ترابهم.
अज्ञात पृष्ठ
الليل في الصحراء صحراء أخرى، تدب في النفس مثل ثعبان أسطوري، كانا يزحفان على بطنيهما فوق رمل بارد، قرب معسكر للمتمردين يطلقون عليه الاسم الحركي ط 50، كان الهدف مراقبة طريق الإمداد الصحراوي الذي يمر بنقطة شمال مدينة الفاشر بثلاثمائة ميل، وتحديد الوقت اللازم للاعتراض، وهو عمل روتيني يقوم به العسكريون عادة، وهو أيضا لحد ما سهل وأقل مخاطرة في ظل أجهزة الرصد الصينية الحديثة، التي لا تتطلب من الراصد أن يبقى قريبا من موقع الحدث، بل يكفي أن يختار الزاوية المناسبة والوقت المناسب، وأن يقبع في مسافة معقولة لكي يحصل على أفضل النتائج، المشكلة هي أن القائد طلب من شيكيري توتو كوه أن يقوم بمراقبة إبراهيم خضر، وأن يعد تقريرا عنه، بل قيل لشكيري صراحة إنهم يشكون في ولاء إبراهيم.
ولا يدري شيكيري توتو كوه هل كان الضابط جادا أم أنها هفوة كبيرة منه عندما أتبع أوامره بلفظة قاسية ومربكة، حيث قال: راقب العبد.
وافتكر شيكيري توتو كوه أن اللفظة أطلقت عليه هو، حيث إنه استبعد تماما أن المقصود بها إبراهيم خضر إبراهيم، حيث إن إبراهيم لا يمكن أن ينطبق عليه هذا اللفظ وفقا للثقافة اليومية الموروثة؛ فإبراهيم له بشرة صفراء ناصعة وشعر ناعم، ويبدو واضحا من شكله الخارجي أنه من تلك المجموعات التي تطلق لفظ عبد على الآخرين، وليس هو من يطلق عليه هذا اللفظ؛ لذا اعتبر شيكيري أن الملازم يعنيه واستعد لمشاجرة عنيفة، إلا أن الملازم شرح له الأمر، وأكد له أنهم يمتلكون التفاصيل عن كل شخص؛ أي ما وراء المظهر الخارجي، وقالوا له: إن أسرة إبراهيم لوقت قريب لها أسياد، بل إن جدته المباشرة لها أسيادها الذين لولا الإنجليز لكانوا لا يزالون تحت القيد، وإن جد إبراهيم هو ابن السيد، ليس يعني هذا أنه ابن غير شرعي؛ لأن أمه مما ملكت أيمان سيدها، وهذا حلال في الشريعة ولم يختلف عليه فقيهان، ولكنه - كما أكدوا له - شخص حاقد على الآخرين والمجتمع؛ لذا يتبنى الأفكار الهدامة، مثل الشيوعية والجمهورية وغيرها.
كانت الأفكار تدور في رأس شيكيري وهو يزحف على الرمل البارد قرب إبراهيم، وربما شطح بعض الشيء وهو يفكر في علاقة جدة إبراهيم بالسيد، وهل لها زوج آخر، بل هل يحق لها أن تمتلك زوجا آخر، وما هي علاقة الزوج بالسيد، بل كيف صاد الصائدون النخاسة جدوده الأولين، لماذا لم يهربوا، هل قاوموا كثيرا، بل من هم النخاسة، أهم سودانيون كذلك؟ وتخيل نفسه مملوكا لسيد يمارس الجنس مع أمه؟ كان إبراهيم مشغولا بقراءة إشارات الجهاز الصوتية، يعتبر إبراهيم أن هذه المهمة ليست سوى مضيعة للزمن لا أكثر؛ لأنه سوف لا ينقل لقائده أية معلومة مفيدة عما يسمونهم الطورابورا، ويتمنى في عمق ذاته أن يستطيع الطورابورا الحصول على الإمدادات الكافية التي تمكنهم من الانتصار على جيشه وسحقهم جميعا، بمن فيهم هو نفسه.
في الحقيقة ما كان يثق في شيكيري توتو كوه إطلاقا؛ أولا لأن شيكيري لا يتكلم كثيرا ولا يعبر عما في نفسه، بل لا يعرف عنه حتى الآن إلا القليل، ولقد حدثه هو كثيرا عن أسرته وأهله وهمومه اليومية، بل حتى حبيبته، وأبعد من ذلك، إنه حكى له كيف أصبح جمهوريا في اليوم ذاته الذي ذهب فقط للضحك والشماتة على الجمهوريين في سجن كوبر، يوم إعدام ما يسميه أو يرمز إليه إبراهيم بالأستاذ. في 18 يناير 1985 الساعة العاشرة صباحا، برفقة كثير من المستهترين والجبهجية، قال له بصدق تام: عندما اعتلى الأستاذ منصة المشنقة، بمجرد النظر إليه - وقد تجنب الجميع أن تلتقي أعينهم بعينيه - عرفت أنه على حق، وأننا جميعا لسنا سوى القتلة؛ فلم يعدمه القضاة ونميري وحدهما، ولكن أيضا الذين لم نبذل جهد المقل في توقيفهم، قتلناه أكثر. لقد كان جميلا، شجاعا، نبيا، قديسا وإنسانا لا شبيه له، وهو يرفع رأسه في سلطة مطلقة. أحسست في تلك اللحظة أنه كان بإمكانه أن يحول تلك المشنقة إلى عرش عظيم، ويتوج نفسه ملكا أسطوريا ونهائيا لهذا العالم، إذا أراد. لكنه كان يريد أن يبقى هنالك، لوقت أكثر، وقت يمكن جلاديه من أداء واجبهم التاريخي، مثل ذلك الوقت الذكي الذي تكرم به السيد المسيح بين أيدي بعض الغوغاء المتعطشين للدم الأنقى. يحكي له يوميا عن كل ما يخطر بباله، لكن شيكيري كان يبتسم، يعلق باختصار، لكنه لا يقول شيئا خاصا به أبدا.
لكن لدى شيكيري اليوم رغبة كبيرة في التحدث، يريد أن يقول شيئا مهما لإبراهيم، سيحكي له عن القائد ويخبره عن التقرير ورأي القيادة فيه، بل لا يخفي عنه حكاية أنه عبد لقوم ما زالوا يمتلكونه طالما كان حيا، وسوف يتوارثونه أبا عن جد، وأبعد من ذلك سيقول له إنه نتاج معاشرة «ما ملكت أيمانكم»، ولكنه عندما تحدث أخبره عن رغبته في الهرب من الجيش، بأسرع ما يمكن؛ مما أدهش إبراهيم خضر؛ لأنه ما كان يتوقع ذلك من شيكيري بالذات، كان يحس بينه وبين نفسه أن هذا الشيكيري قد تم تجنيده ضمن آليات السلطة. حدثه شيكيري أنه منذ أن قبض عليه كان يفكر في شيء واحد: الانتقام أو الهرب.
كما يجب أن يحس أي شخص ذكي في مثل هذه الظروف، أحس إبراهيم خضر - وتأكدت له شكوك قديمة - أن شيكيري يريد أن يقيس ماءه، ويسبر أغواره؛ فابتسم كما يبتسم شيكيري عندما يحكي له هو آلامه وأفراحه، فتشكك شيكيري توتو كوه في نوايا إبراهيم خضر، وأحس أنه لم يقدر الموقف جيدا؛ من ثم قرر أن يتراجع عن تصريحه، ولكنه وجد نفسه قد تورط أكثر، عندما أضاف: أفضل الانتماء للمتمردين.
كانا يزحفان في الرمال منسحبين؛ فقد حان ميعاد استلام الوردية الثانية، الرمل البارد: بارد، جسداهما الباردان ينسحقان على الرمل، كانت الوساوس باردة، ولكن في داخل الرجلين لغة واحدة مشتركة تنمو رويدا رويدا، لم يستطيعا التعبير عنها جيدا، بل كلما حاولا الاقتراب منها ضلا سبل الإفهام، لكنهما أصبحا الآن أكثر قربا، عندما أخبر شيكيري إبراهيم بأن القائد طلب منه أن يراقبه ويكتب عنه تقارير مفصلة، يعني ذلك فيما يعني ربما يتوج إبراهيم قريبا بلقب: البطل الشهيد، طالما كان يسخر من هذا اللقب بمرارة ويكرهه.
جنون الجسد
العمة خريفية، امرأة سمينة، وليس ببيتها أشجار، يتكون منزلها من حجرتين مبنيتين من الطوب الأحمر، وحولهما برندة متسعة، وقطية جميلة منفصلة تقع على الجهة الجنوبية من المنزل، ربما كانت تستخدم للضيوف في الماضي، وهي الآن تخص ابنتها، تحيط بالمنزل أشجار المانجو العملاقة، يقع البيت على تخوم وادي برلي العظيم. على الرغم من أن هذا الوادي هو المكان الوحيد للحب في نيالا، إلا أن العمة خريفية ليس لديها أي أطفال نتيجة علاقة حب أو عاطفة ما. لديها بنت واحدة كانت مشردة فآوتها، ثم اعتادت عليها ثم تبنتها، ثم أصبحت بنتها وهي البنت الوحيدة في نيالا - وربما في السودان - تحمل اسم عبد الرحمن، على الأقل هذا هو الاسم الذي عرفت به وهم يلتقطونها من لظى المذبحة، حيث إن موظفي الإغاثة وجدوها حية تحت جثتين متحللتين، وعندما سألها أحدهم عن اسمها، قالت: عبد الرحمن.
अज्ञात पृष्ठ
كانت عبد الرحمن هي أول من استقبل شيكيري، وقادته إلى الراكوبة، وطلبت منه أن ينتظر هنالك إلى أن تعود العمة من سوق الجمعة، سقته ماء، جلبت له إفطارا، أعطته شبشبا خفيفا طلبت منه أن يحرر رجليه من البوت، ثم أخذت تحكي له عن عمتها خريفية، وأبدت له رغبة واضحة ومباشرة في أنها ترغب في أن تكون جنديا. يقدر عمرها بعشرين عاما؛ أي إنها قد تصغره بأكثر من سبعة عشر عاما، كانت رقيقة جدا وناعمة، وبها أنوثة طاغية وملفتة، على الرغم من آثار التقرحات القديمة البادية على ساقيها المنحسر عنهما ثوبها القصير، وأثر الجرح العميق في خدها الأيسر، ذلك التشوه الذي أصبح أثرا جماليا رهيبا، قالت له عندما شاهدته يحملق فيه: إنها سقطت من على ظهر فرس، كان لأسرتها في قرية خربتي أفراس وخيول كثيرة، وهي تمتطي الخيل منذ سن مبكرة جدا، وهي أحب الحيوانات لديها، وحدثته عن خيل جارهم صاحب جنينة المانجو، هنا في الجوار، الحديقة الملاصقة لبيتنا، الذي يقيم وحده بعد أن قتل أبناؤه في الحرب، وكيف أنه يسمح لها بامتطاء الخيل واللهو بها في وادي برلي، وقالت له إنها ستأخذه لحظيرة خيله إذا بقي معهما في المنزل طويلا: هل تسمع صهيلها؟
استطاع أن يخمن من أي القبائل هي بسهولة ويسر، الأهم من ذلك، وهو الشيء الذي يحدث أول مرة لشيكيري توتو كوه في حياته، أن هذه العبد الرحمن يتشهى أن يمارس معها الجنس، الآن وقبل أن تأتي عمتها خريفية، ربما للحرمان الذي عايشه بعيدا عن النساء طوال هذا العام الذي قضاه في ميادين الموت والحرب، ربما لرغبة جنسية عارمة أثارتها فيه أنوثتها، ربما لسبب عصي لا يدريه، ولكنها على أية حال تحرك الآن فيران رغباته، بل يحس بالمني يتجمع في رأس شيئه ويفتعل حرقانا لذيذا، ولكنه ملح ومربك. اعتذرت بشدة على أنه ليس بالبيت جلباب رجالي يلبسه؛ لأن ليس بالبيت رجل، آخر أزواج العمة خريفية طلقها قبل عشرين عاما، وليس هنالك سبب يجعله يزور البيت مرة أخرى، وليس هنالك رجل تدعه خريفية يدخل بيتها؛ لأن العمة تظن أن الرجل لا يمكن أن يتقرب إليها وهي في هذا العمر، إلا لشيئين؛ إما أنه يرغب في غواية بنتها عبد الرحمن، أو أنه يريد الاستيلاء على مالها، وهو كما تؤكد عبد الرحمن: مال كثير مثل التراب.
أخذ البوت ووضعه في الخارج، أحس أن رائحته قد لا تطاق، هو لا يستطيع أن يشمها، لقد اعتاد عليها. كانت تغيب عنه لبعض الوقت، تقضي أغراضا ثم تعود لتحدثه عن عمتها خريفية التي تظن أن كل ما تفعله غريب ومدهش، بدءا من علاقاتها بالناس، حتى طريقتها في شرب القهوة، طلبت منه أن يتكئ قليلا ويرتاح، لا بد أنهم يرهقونه كثيرا في الخدمة، في الحق كان مرهقا، ولكن ما أصابه من شبق عارض كان أقوى من النعاس، بعد إحدى غيباتها، أخبرته بأن الحمام جاهز، وبإمكانه أن يستحم إذا أراد، الحمام عبارة عن صريف من القش والقنا، له ما يمكن أن يطلق عليه مجازا باب من الصفيح، على ركن المنزل الجنوبي، تظله أفرع شجرة مانجو عملاقة، ظن أن العمة خريفية وابنتها عبد الرحمن لا تحبان المانجو أو أنهما قد شبعتا منه أو ملتا أكله؛ لأن الفروع التي تظلل الحمام تحتوي على ثمار مانجو ناضجة وشهية كثيرة مهملة، إلا أنه عرف فيما بعد أنهما لا تأكلان تلك الثمار؛ لأنها ليست ملكا لهما، ما لم يأذن لهما صاحب الجنينة بذلك.
جلس على بنبر من الحديد الصلب منسوجا بحبال البلاستيك، وضع لغرض الاستحمام، كان الماء كثيرا في سطل كبير، ونقيا؛ لأنه يستطيع أن يشاهد أسد الملك تنبل بيه الأحمر المرسوم في بطن سطل الطلس العملاق. تخلص من ملابسه سريعا، وبدلا من أن يصب الماء على رأسه، أرغى الصابون ومسح به شيئه المنتعظ، مسه برفق، ثم أخذت كفه تمر عليه طلوعا ونزولا، وفي ذهنه تلك الندبة العميقة في وجه عبد الرحمن، عندها سمع عبد الرحمن تطلب منه ألا يفعل، عليه أن يستحم سريعا فحسب، كانت تقف خلف باب الحمام الموارب، ونصف وجهها داخل الحمام، عيناها تبحلقان في الشيء، صهيل الخيل الآتي من خلف الصريف يطربها، ويمثل لها موسيقى تستمتع بها دائما عندما تكون بهذا الحمام.
كانت العمة خريفية تعمل في سوق النسوان تبيع البهارات والويكة قرب الجزارة، تعود مع مؤذن الجمعة، حيث يغلق السوق إجباريا، وهي لا ترغب في أن تجلد أربعين جلدة، وأيضا لا ترغب في أداء صلاة الجمعة ولا غيرها من الصلوات؛ لذا تحمل ما تبقى من سلع لم تبع وتأتي للبيت، بعد أن تشتري حاجيات الغداء والعشاء، بعض الحلوى واللبان لعبد الرحمن. وقد اعتادت أن تشتري لها ذات الحلوى واللبان منذ خمس سنوات؛ أي منذ أن كانت عبد الرحمن في السادسة عشرة من عمرها، وهو العمر الذي أخذتها فيه من السوق، حيث إن عبد الرحمن قد هربت من معسكر كلمة للنازحين، وفضلت عليه التشرد التام في سوق نيالا، كانت تعمل مراسلة للنساء اللائي يبعن الشاي، تغسل لهن الأكواب، تناول الشاي للشاربين، وتقوم بتنفيذ المراسيل القصيرة، استقطبتها خريفية لتساعدها في سحن الويكة وتقشير الفول السوداني، ثم مؤانستها في المنزل، عبد الرحمن تدين لخريفية بكل شيء جميل في حياتها.
عندما سمع الأذان انتفض، أبقته على جانبها برفق، كانت في شبه إغماءة، وهي تلصق جسدها العاري بجسده، ذكرها بأن العمة تتحرك الآن من السوق كما قالت له من قبل، وأنها قد تجدهما في وضع حرج، ولا يريد أن تراه عمته لأول مرة وهو في علاقة جنسية غير شرعية مع من تعتبرها ابنتها، منتهكا حرمة بيتها. لكنها، كما لو لم تستمع إليه مطلقا أبقته بجانبها، ضمته إليها بشدة، عبثت بأناملها فيما بين فخذيه، وللمرة الثالثة دخلا في مجاسدة ساخنة ومجنونة، استسلما لها كلية. لقد افتقد شيكيري النساء كثيرا، يمتلك الآن رغبة طازجة لأجلها وشهية لا تحدها حدود. أما هي فلم تمارس الجنس برغبتها الكاملة إلا اليوم. عندما سمعا كركبة باب الشارع، انتفض فزعا مرة أخرى. ولكنها بحركة من يديها طلبت منه أن يبقى كما هو وحيث هو. ارتدت ملابسها برفق، استعدلت خصلات شعرها، ببعض ثوب جففت ما بين نهديها، مسحت وجهها بكفها ومضت للقاء العمة خريفية، التي بادرتها بسؤال ملح عن مكان شيكيري توتو كوه ابن أخيها، ولماذا لم تره، قالت لها: إنه جاء مرهقا وهو الآن ينام في غرفتها. كان شيكيري يسمع كل ذلك، ولكنه لم يتوقع قط أن تهاجمه العمة خريفية في القطية وهو في لباسه الداخلي فقط، كانت تضمه إليها وهي تضحك وتبكي في آن واحد، لقد افترقا مع والده منذ أكثر من أربعين عاما، وكانت ترى فيه صورة والده وتشم فيه رائحته، ولكنها مخلوطة برائحة عرق تعرفه تماما، وعبق سائل شهير لا يخفى عليها أبدا، قالت له مندهشة وهي تحملق في حافظة صدر (ستيانة) عبد الرحمن المسجاة في السرير: ود البقس، أنت عرست عبد الرحمن؟
قال لها دون تردد وهو يحاول أن يخفي ما تعرى من جسده: نعم، عرستها يا أمي.
قالت وهي تخاطب عبد الرحمن التي تقف خلفها تشاهد وتسمع وفي فمها ابتسامة مطمئنة، وتبدو الندبة التي في خدها الأيسر أكثر جمالا وإشراقا، وتظهر عليها علامات السعادة المفرطة: ليه ما انتظرتيني، ولا قلت لي إنك حتعرسي الولد لما جيتيني في السوق وقلت لي ولد أخوي توتو جاء؟
ابتسمت عبد الرحمن في خجل، وبتأثر شديد ضمت العمة خريفية إليها وقبلتها في وجهها، وأخذت تبكي، في ذلك الحين كان شيكيري يرتدي ملابسه على عجل ثم يذهب للحمام ويترك عبد الرحمن وعمتها متعانقتين.
صيد الجن
अज्ञात पृष्ठ
لقد نسيت عبد الرحمن كل شيء، حتى الجثتين اللتين وجدتا فوقها، نسيت الحرب، وأزيز الطائرات، نسيت المجزرة التي كان ضحيتها أمها، أباها وإخوانها الثلاثة: هارون، إسحاق وموسى، وأختها مريم التي يقال إنها تعيش في معسكر ما للاجئين بجمهورية تشاد، حيث إنها لم تصادف المجزرة، فكانت قد ذهبت للاحتطاب مع أخريات؛ لذا لم تكن متأكدة من موقعها، ولكنها مجرد ظنون وتوقعات، وإذا كانت حية فستصبح هي العضو الوحيد من أسرتها الذي تبقى لها في الحياة. نسيت تجربة الاغتصاب الأولى يوم المعركة، نسيت الثانية، الثالثة، والرابعة بمعسكر كلمة، أو ربما تناست ذلك بمحض إرادتها. المهم، يبدو في ظاهر الأمر أن عبد الرحمن أرادت أن تغلق صفحة من حياتها وللأبد، ولا يدري أحد لماذا لم تنس اسمها أيضا؛ فقد كان بإمكانها فعل ذلك في أية مرحلة من حياتها. حذرته العمة خريفية من أن يتطرق لماضيها أو أن يحكي عن الحرب وما شاكلتها، لقد شبعا من ويلات الحرب وشبعا من أخبارها. تريدان الآن فتح صفحة جديدة من كتاب الحياة.
لم يعترض، بل شجع بحماس إبراهيم خضر فكرة زواج صديقه شيكيري، كما لم يستغرب ما قامت به العمة في تلك الجمعة، أن أخذت شيكيري وعبد الرحمن إلى الجامع، وقد اضطرت في ذلك اليوم لأداء الصلاة في الجزء الخاص بالنساء، وبعد أن سلم المصلون عقد المأذون على ابن أخيها وابنتها، بالرغم من أن المأذون والمصلين جميعا احتجوا على أن تسمى العروس باسم عبد الرحمن، الشيء الذي يجعل قسيمة الزواج كما لو كانت شهادة لزواج مثلي، وهذا غير مسموح به في القانون والشريعة، وأصرت عبد الرحمن على الاسم حتى ولو يبطل الزواج، رافضة اسم مريم الذي اقترحه عليها المأذون، إلى أن جادت قريحة أحد المصلين الحريصين على إتمام مراسم زواج بنت نازحة متشردة لعسكري غريب؛ أي آفتين اجتماعيتين لا خير منهما يرجى؛ أن تكتب في القسيمة كلمة السيدة، ثم يليها الاسم مضافا إليه نون وتاء؛ أي أن يصبح السيدة عبد الرحمانة، وعبد الرحمانة اسم شائع في كثير من قرى دارفور، فرضي المأذون ولم تمانع عبد الرحمن. لاحظ شيكيري بمجرد أن عادا للمنزل أن زوجته عبد الرحمن ليست بالمرأة الطبيعية، ليس لأنها واضحة وصريحة وجنسية أكثر مما يتوقع ويظن، لكن لأنها طلبت منه طلبا غريبا ومباشرا وهما في الساعة الأولى من الزواج، طلبت منه: إما أن ينتقم لها، أو يساعدها على الانتقام، ولا خيار ثالث.
أخبرته أنها كانت في انتظار أن يكون لها رجل، مهنته جندي وشجاع، ينتقم لأجلها، على الأقل يقتل عشرة من الجنجويد، وهي سوف تأكل كبدهم جميعا نيئة. لم يستطع أن يخفي هول المفاجأة عليه، ربما أنه شهق. لقد دخل معارك كثيرة ضد الطورابورا، لكنه لم يقتل ولو دجاجة واحدة، كان يطلق الذخيرة في الأهداف الوهمية، ومع أول بادرة للانسحاب كان ينسحب، ولكن هل تعلم زوجته عبد الرحمن أنه يحارب مع الجنجويد جنبا لجنب؟ أخبرته أنها تعرف كل صغيرة وكبيرة عن الحرب، وقالت له بصورة واضحة إن الذين قتلوا أمها وأباها واغتصبوا أخواتها حتى الموت، ليسوا جنودا نظاميين ولكنهم الجنجويد، وهي تعرف وتفهم الفرق، نعم كان بإمكان الجيش أن يحميها، ولكنه لم يفعل، تعرف أفرادا في الجيش من قبيلتها، وتعرف أنهم كانوا يتمزقون من الحزن وهم يشاهدون الجنجويد يقتلعون أسرهم وأهلهم اقتلاعا من الحياة أمام أعينهم، يكفيهم ذلك عذابا وموتا وألما، وتعرف العشرات الذين انضموا إلى الطورابورا بعد ذلك. وكل ساكني دارفور يعرفون قصص ومصائر الطيارين الذين رفضوا أن يلقوا القنابل على أبناء جلدتهم. هي تريد الجنجويد وليس إلا. قال لها إنه لا يعرف كيف يقتل إنسانا، جنجويدا كان أم طورابورا، ولا يعرف كيف يساعد على ذلك، بل لا يشجع ذلك التوجه، وأنه ليس جنديا محترفا، بل فردا يؤدي الخدمة الوطنية مكرها ومجبرا، ويساق إلى ميدان المعركة كما تساق النعاج إلى السلخانة. قالت له يمكنه أن يدربها على إطلاق النار، ويعطيها ثمن بندقية جيم ثلاثة، وألا يخبر العمة خريفية بالأمر، لا أكثر؛ لأنها اتفقت معها على ألا تنفتح طاقة الحرب مرة أخرى.
كان رأي إبراهيم خضر أن يتجنب شيكيري خريفية وابنتها معا، وإلا تورط في أفعال صعبة ومعقدة، ولكن يبدو أن شيكيري قد بدأ يحب البنت بالفعل، والأسوأ أنه لا يستطيع أن يتخلى عنها أبدا، والأسوأ من ذلك كله هي تعرف ولا تتنازل عن طلبها قيد أنملة، ولو أنها حتى الآن لم تمارس ضده أي ضغوط، بل تزداد رقة وجمالا وشبقا.
أخذ يدرسها طبيعة السلاح، فك وتركيب وأداء، كل يوم جمعة، حيث إنه كان شبه مقيم بالحامية العسكرية، يحضر ليلة الخميس ويغادر فجر السبت. كانت تتعلم الشيء منذ الوهلة الأولى بسهولة ويسر، وفي جمعتها الرابعة فاجأته بأنها امتلكت بندقية جيم ثلاثة، فكاد أن يغمى عليه من الخوف وهول المفاجأة معا، قالت إنها سرقتها من جنجويد سكران، وجدته نائما في الوادي قريبا من المطار، بينما كانت هي تتجول في الغابة الصغيرة غرب معسكر كلمة، لجمع حطب الوقود. يعرف أنها تكذب؛ لأنها لا يمكن أن تذهب لقطع الحطب ليلا، ولا يمكنها أن تأخذ بندقية الجنجويد نهارا، والشيء المهم هو أنها لا تذهب للاحتطاب مطلقا؛ لأنها لا تحتاج إليه في المنزل، فلدى العمة خريفية موقد غاز حديث، ويعرف أيضا أن النساء لا يخاطرن بالذهاب للاحتطاب في تلك المنطقة بالذات، خوفا من أن يغتصبهن الجنجويد الذين يتواجدون بكثرة هنالك، ويعرف أيضا أن الاحتطاب في هذه الأيام لا يتم إلا في جماعات محمية من قوات الاتحاد الأفريقي، وقال لها كل ذلك بالتفصيل الممل، قالت له بصرامة: سرقتها من جنجويد سكران، تصدق أو لا تصدق أنت حر.
يحس الآن باقتراب الكارثة، بدت له عبد الرحمن متهورة وغامضة في نفس الوقت، بدت له كوحش متعطش للدماء، كثائر مجنون لا يرى غير الأعداء والمكائد، يعمل من أجل هدف كبير، لكن تنقصه الخبرة والخطة، أحس بها تتبلد في كل لحظة، كانت تلغي عقلها بسرعة رهيبة، ولكنه لم يكرهها بعد، كانت رقيقة معه ، وتتجمل بصورة مستمرة، تتطيب بما يحب من العطر، وتعطيه نفسها في الفراش بجمال منقطع النظير، وهو في حاجة ماسة لمثل هذه الرعاية الجسدية، ولكنه أيضا يريد أن يظل حيا. من النظرة الأولى للبندقية عرف أنها ملك للجيش السوداني، ولكنها تحظى برعاية شخصية كبيرة، وذلك للنقش الذي في دبشكها بآلة حادة، وتزيين حمالتها ببعض الخرز الملون، ويبدو أنه قد تم بيد نسائية، ليست بها نمرة عسكرية، ولكن رائحتها تدل على أن صاحبها من الجنجويد، للقوم رائحة متميزة، خليط ما بين وبر الحيوان - الخيل والإبل - والعرق البشري، كانت صينية حديثة الصنع، ولكنها استخدمت كثيرا، فرائحة البارود ما زالت تنطلق من فوهتها التي تلمع من الداخل، الفوهة مغطاة بخرقة جلباب قديمة بها آثار زيت الخروع. لم تكن لديها خطة خاصة لاستخدام البندقية.
نيالا مدينة كبيرة وجميلة، يسميها عمال الإغاثة الأوروبيون لاس فيغاس دارفور، لا يعلم أحد عدد سكانها، إنهم في تزايد ونقصان مستمرين، وفقا لسير الحرب في دارفور، يسكنها الضحايا المهجرون من قراهم معا والقتلة الذين يرتكبون فعل التشريد والتهجير، بها أيضا المواطنون الذين لا تعني الحرب لهم شيئا ذا بال، وبها كبار التجار، وهم المستفيدون الوحيدون من الحرب، وقد تضاعفت أموالهم نتيجة للاحتكار والمضاربات والندرة الفعلية والمفتعلة للسلع، بها الجنجويد يسكنون في الأحياء الطرفية في معسكرات ضخمة، يتمظهرون في المدينة في عربات لاندكروزر مكشوفة عليها مدافع الدوشكا، وتعلق على جوانبها الآر بي جي البغيض، وهم عليها في ملابس متسخة مشربة بالعرق والأغبرة، يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة والخوذات، لهم شعور كثة تفوح منها رائحة الصحراء والتشرد، على أكتافهم بنادق جيم ثلاثة صينية تطلق النار لأتفه الأسباب، وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية؛ لا يفرقون مطلقا ما بين الإنسان والمخلوقات الأخرى؛ الكلاب الضالة مثلا.
وتعرفهم أيضا بلغتهم الغريبة «الضجر»، وهي عربي النيجر أو الصحراء الغربية، ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات، ليس من بينهم مدني ولا متدين ولا مثقف، ليس من بينهم معلم أو متعلم، مدير أو حرفي، ليست لديهم قرية أو مدينة، أو حتى دولة، ليست لديهم منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم، يعملون من أجل شيء واحد، هو ذلك المخلوق ذو السوق الطويلة والظهر القوي المحدودب، صاحب البطن التي بإمكانها أن تختزن برميلا من الماء، يصورونه في راياتهم شعارا، يأكلون لحمه وشحمه، يشربون لبنه، يسكنون في وبره وعلى ظهره، المخلوق الذي يستطيع أن يحملهم بعيدا جدا حيث يقتلون ويقتلون من أجل أن يوفروا له المرعى، هو ربهم وسيدهم، عبدهم ومملوكهم في نفس الوقت، أو ما يسمى: الجمل.
لا يدري أحد كيف ألهم الحكوميون في اختيار هذا الشعب بالذات لخوض الحرب في دارفور من بين كل شعوب أفريقيا. كانت ستصبح مهمة عبد الرحمن سهلة إذا لم يكن خصمها تلك الفئة الغريبة، وهي تعرف قدر التحدي. بنيالا الآن حامية عسكرية ضخمة، بها ما لا يقل عن عشرة آلاف جندي، ومئات الآليات الثقيلة، سلاح جو صيني فاعل وسريع الاستجابة، كل هذه القوة تعمل مع الجنجويد جنبا لجنب، لكن عبد الرحمن ترى أن هدفها ليس كبيرا، وهو - موضوعيا - شرعي بسيط وسهل: عشرة جنجويد من ستة عشر ألفا ليس بالشيء الكثير، وهو رقم لا يقدر بشيء إذا قيس بالذين يقتلون من الجنجويد في كل معركة، إنهم يخسرون المئات، وهي تريد أن تضيف لهؤلاء المئات عشرة فقط لا غير.
العمة خريفية بغريزتها الأنثوية، خبرتها الحياتية الطويلة، ومعرفتها في الإنسان، أحست أن شيئا ما يدور في بيتها ما بين بنتها عبد الرحمن وابن أخيها شيكيري، وربما صديقه الذي يأتي معه في بعض الأحيان، إبراهيم خضر. لاحظت بصورة جلية أن عبد الرحمن ليست في طبيعتها العادية، أخذت تتغيب كثيرا عن البيت، وأنها تغلق نفسها في الغرفة لساعات طوال. لاحظت أيضا أنها تقوم بتمارين قاسية كتلك التي يقوم بها العسكر، انتبهت على أن العلاقة بينها ووبين زوجها شيكيري متوترة لحد ما، بل تصيدت أذنها ذات مرة مشادة كلامية حادة بينهما. ولكنها لم تتخيل أن الأمر له علاقة بالحرب، ذلك البعبع الذي قررت أن يسقط من وعيها نهائيا وللأبد. إلى أن استيقظت ذات صباح ولم تجد عبد الرحمن في غرفتها، ظنت أن عبد الرحمن ذهبت في مشوار صباحي على عجل، كما هي طبيعتها مؤخرا، انتظرتها إلى أن حان وقت خروجها للسوق، ولم تعد، كانت غرفتها مرتبة وكل شيء موجود في مكانه، وعندما انتبهت لحركة شيء ما في الأعلى، رأت حلقة كبيرة من التمائم مدلاة من وسط القطية، النوع الذي يرتديه الجنجويد، بها دم متخثر. بأعصاب باردة، أخرجت كل ما تراه مهما من القطية، احتفظت به في مكان آمن، ثم أشعلت فيها النيران.
अज्ञात पृष्ठ
ربط الناس جميعا - بالطبع ما عدا الخال جمعة ساكن - بين حريق القطية وغياب - أو بالأحرى اختفاء - عبد الرحمن، ربط الناس بين قلق العمة خريفية، قلة كلامها مع الآخرين، حديثها لنفسها، بقائها في السوق لزمن أطول، شربها للقهوة المتكرر، وبين اختفاء ابنتها وصديقتها وحبيبتها عبد الرحمن. ربط الناس ما بين شكوى خريفية من آلام الظهر، وغيابها عن الأفراح والأتراح، صبرها على عباطة شليل المجنون، وبين اختفاء عبد الرحمن، بل استلطافها له وهي التي كان يفكر مليون مرة قبل أن يطرق الطريق التي تعمل فيها العمة خريفية، حيث إن العمة خريفية عندها خوف فطري من المجانين، وكما هو معروف أن نيالا بها هذه الأيام عدد هائل من المجانين؛ إنهم ورثة الحروب، من كل نوع وكل عمر. ولكنهم أبدا لم يخطر ببالهم أن يربطوا ما بين اختفاء عبد الرحمن واختفاء اثنين من الجنجويد بصورة نهائية وتامة، حيث لا أثر، لا دليل، لا خيط، ولا رائحة تدل على مصيرهم، على الرغم من الحملة الأمنية التي شنتها الحكومة بحثا عنهما، فقد استنفر كل الشرطيين بالمدنية، أهملت كل الحراسات المدنية، جند ألف رجل من الاستخبارات العسكرية والأمن العام، استخدم مئات المدنيين كمخبرين مؤقتين وجواسيس يسعون بين الناس يخبرون عن الجميع، لا فرق بين أصدقائهم، جيرانهم أو ذويهم، استعانوا بالفكيان وضاربي الرمل، وضاربي الودع وبعض السحرة من قبيلة الداجو المعتصمين في أحد كهوف جبل أم كردوس شرق نيالا. كان يعمل الجميع بجد وجهد متواصل من أجل الوصول لقتلة الجنجويدين، اللذين أقسم قائدهما برأس أبيه ثم بالله، إذا لم تسلمه الحكومة قاتلهما أو قتلتهما، فإنه سيقتل - عشوائيا - على الأقل مائتين من المواطنين، بسوق نيالا والشمس في قبة السماء، لا فرق بين طفل ورجل وامرأة، أو بنت عرب أم زرقة ولا أم خفير، وتحرك بمليشياته الغاضبة في اليوم السابع، بعد أن فقد الأمل في تحركات الحكومة التي وصفها بالبطيئة والمتواطئة، أحاط سوق نيالا، أغلق كل المداخل التي تقود للسوق، ومنع الخارجين منه، ولكنه سمح للداخلين إليه فقط بالولوج، عند الثانية عشرة ظهرا، استطاعت الحكومة أن تقبض على قتلة الجنجويدين، وهما رجلان من قبيلة المساليت: قبضنا عليهما بينما كانا يحاولان الهرب إلى خارج المدينة من السوق، في طريقهما إلى معسكر كلمة، حيث يمكنهما الاختفاء نهائيا وللأبد، هؤلاء القتلة الكافرون.
كانا في غاية الإعياء من أثر الضرب، لدرجة أنه عندما صعد على ظهريهما قائد الجنجويد، أبا جربيقا جلباق، بعربته اللاندكروزر ذات الدفع السداسي، حديثة الصنع، التي تزن خمسة أطنان بالإضافة لحمولتها من الدوشكا والحراس الأربعة الغاضبين، فإنهما لم يتألما كثيرا، ماتا بسهولة ويسر.
سكك الخطر
التقرير الذي كتبه شيكيري عن إبراهيم خضر إبراهيم، هو الذي عجل بأن يتم اختيار الاثنين لمصاحبة القوة الخاصة المنوط بها إيصال الوقود إلى كتيبة مرابطة على مشارف مدينة زالنجي، ولا يمكن الوصول إليها إلا من نيالا، بالرغم من أنها لا تبعد عن زالنجي أكثر من عشرين ميلا، وعشرة أميال عن مدينة كاس، ومن أجل التشويش للجواسيس والخائنين، على القوة أن يخرج أفرادها فرادى، ويتم تجميعهم على بعد ثمانية أميال جنوب نيالا، ثم تلحق بهم السيارات اللاندكروزر حاملات الدوشكا الخمس، تليها شاحنة الوقود، ثم المدرعتان الخفيفتان اللتان نستخدمهما للهجوم السريع المباغت ونقل الجنود أيضا.
لا يتوقع الناس عادة أن تصل مثل هذه القوة إلى هدفها بسهولة ودون مناوشة، وربما معركة صغيرة، ولكن التغطية التي سوف تقوم بها المروحيات على مدار الساعات الثماني التي يجب أن تأخذها القوة في الطريق، سوف تسهل مهمتها كثيرا، قد تقوم بواجب الإنذار المبكر وتمشيط الطريق. لكن للأسف بدأت المعركة الصغيرة مبكرا جدا، وهي في ذات المكان الذي بدأت تتجمع فيه القوات، وقبل أن تنتظم صفوفها وتأخذ التمام الأخير، في اللحظة التي وصلت فيها شاحنة الوقود، كان الطورابورا قد سيطروا على الموقف تماما، واستطاعوا أن يستولوا على حاملات الدوشكا، وأن يعطبوا المدرعتين الخفيفتين، ويأسروا تقريبا كل الجنود الأصحاء، وينسحبوا كما لو أن الأرض قد انشقت وبلعتهم، تاركين خلفهم خمسة من الجنود الجرحى، كثيرا من القتلى، مدرعتين معطوبتين، شاحنة الوقود كما هي، حيث إن السائق الذي استطاع أن ينسحب في الوقت المناسب قام بتأمينها بصورة لا يمكن قيادتها مطلقا ما لم يبطل التأمين، ولسبب أو لآخر فضل الطورابورا تركها دون أن تحرق.
كان الأسرى يرقدون في باطن صناديق العربات كالخراف فوق بعضهم البعض، والعربات تسابق الريح، تقفز في الحفر والخيران دون أية مراعاة للسلامة، وكأنما بها جوالات من التبن، وسط غابة من الأغبرة، حيث لا يمكن رؤية ما أمامها وما خلفها، غير سحابات من الرمل. بعد أربع ساعات من توقع الموت المحقق، دخلت العربات السلسلة الجبلية الوعرة، حيث معسكراتنا الآمنة التي لا يقترب منها الطيران الصيني مطلقا، إلا في مغامرات مهلكة؛ لأن مضادات الطيران الأمريكية الدقيقة سوف تسقطه في الحال.
وضع الأسرى في صف واحد، راقدين على الأرض، كانوا عشرين أسيرا، سجلت بياناتهم الأساسية وجمعت ما في حوزتهم من وثائق ثبوتية، تم كل ذلك عبر ركلات، شتائم وبصاق في الوجوه. أخيرا تم قسمتهم إلى ثلاث مجموعات: اثنان من مجندي الخدمة الوطنية الإلزامية، عشرة من الجنود النظاميين، ثمانية من المجاهدين وحرس الحدود وهو الاسم الرسمي للجنجويد. في الحال، تم إعدام الجنجويد والمجاهدين بصورة بشعة، حيث ذبحوا ذبحا، طالبين منهم في سخرية أن يبلغوا تحياتهم للحور العين بالجنة، وهذه سخرية مبالغ فيها؛ لأن الجنجويد لا يعرف شيئا عن الجنة أو النار، يحارب من أجل هدف غامض لا يعرفون كيف يعبرون عنه؛ لأن السياسيين الذين يدفعون بهم للتهلكة لا يفصحون عنه في الغالب، إما لقناعتهم الشخصية بأن الجنجويد لا يفهمون، أو لخوفهم منهم إذا فهموا، وهدف آخر، وهو الغنائم، وتشمل الغنائم فيما تشمل كل شيء يمكن حمله، بالإضافة إلى النساء والطفلات، أو مجرد أن يفرغ حيواناته المنوية في رحم سيدة أو طفلة ما عنوة. وقد يفكر الجنجويد كبير السن في مرعى آمن ودائم لإبله وإبل أحفاده من بعده وأحفاد أحفاده، فيما تبقى من زمان قبل نهاية الكون. الجنود قيدوا ووضعوا في سجن عبارة عن غرفة كبيرة من الحجر، مع جنود أسرى سبقوهم. أما مجندا الخدمة الوطنية، وهما إبراهيم خضر إبراهيم وشيكيري توتو كوه؛ فخيرا، إما أن يبقيا بالسجن مع الجنود النظاميين أو يعملا في صفوف الطورابورا، ولأنهما ظنا - لسوء أو لحسن تقدير منهما - أن هذين الخيارين ليسا سوى خيار واحد والآخر هو الموت، اختارا العمل في صفوف الطورابورا.
كان إبراهيم مرهقا، بل مريضا، ارتفعت درجة حرارته بصورة مرعبة، فأحضروا له طبيبا أسيرا، يعمل في صفوف الطورابورا، رجلا مرحا وذكيا، أعطاه بعض الأدوية وأخذ يدير معه حوارا مضحكا، حيث إن إبراهيم كان في حالة أشبه بالغيبوبة، لكن حديثه اللاواعي هذا رفع من مكانته بين الطورابورا، وأخذوا يثقون فيه بصورة مطلقة؛ لأنه في غيبوبته تلك، قال بصورة واضحة إنه يكره الصينيين الذين جلبوا الدمار لدارفور ويؤيد الطورابورا.
في بادئ الأمر كانوا يستخدمونهما في طهو العدس وصنع اللقمة للأسرى من الجنود النظاميين، الذين ما كانوا يبقون على حياتهم إلا لأنهم يمثلون دروعا بشرية، ويقوون جانبهم في المفاوضات، ثم بعد ذلك للاعتبارات الإنسانية، وقد تحدث أحد المقاتلين عن اتفاقيات جنيف والقانون الإنساني الدولي. كان إبراهيم قد وضح لقادة المقاتلين أنه لا يحمل السلاح، ويستطيع أن يموت في سبيل هذا المبدأ، ولو أنهم احترموا ذلك إلا أنهم كانوا يستخدمونه في حمل الأسلحة والذخائر؛ أي كحمار. أما شيكيري كعادته كان سكوتا، يسمع جيدا ويفعل ما برأسه، وكان لا يتردد في الذهاب إلى المعارك، والمشاركة في نصب الكمائن، بل أصبح ماهرا جدا في ذلك. قال لإبراهيم مرة إنه ما عاد يخشى سكك الموت، بعد أن خسر عبد الرحمن لا شيء يهم، وكان يفكر بجدية في عبد الرحمن وهو قلق جدا عليها؛ لأنه لا يعلم أين اختفت، وكيف ستنتهي مغامراتها في قتل الجنجويد، يعلم أنها قد قتلت اثنين، صاحب البندقية، أو ما أسمته بالجنجويد السكران، وصاحب التمائم.
لا يدري أحد كيف تستدرج الجنجويد إلى حيث يلاقي حتفه، وكيف كانت تفعل ذلك وحدها. السؤال الأغرب: هل كانت تأكل أكبادهم حقا؟ أين هي الآن؟ وماذا لو قبض عليها؟ بلا شك سوف يقتلونها بالطريقة التي تعرف برقصة الطورابوراي، وهي أن يضعوا القرنيت منزوع التيلة داخل فستانها، بعد تقييد رجليها، ويهربون من قربها، فحتما ستؤدي الرقصة المرعبة لبعض الثواني قبل أن ينطلق جسدها في الفراغات مزقا. وتخيل ذلك يحدث أمام عينيه، فهو ما زال يحبها، وقرر بصورة قاطعة ونهائية أنه - إذا حدث في يوم والتقى بها - سوف لا تكون بينهما أية صلة، إذا اكتشف أنها كانت تأكل أكباد الجنجويد، نيئة كانت أم مشوية، لا يحب أن تكون زوجته آكلة للحوم البشر، ببساطة الفكرة كانت تخيفه.
अज्ञात पृष्ठ
تتكون مجموعة المحاربين الطورابورا من قبائل كثيرة، تجمع بينهم أنهم مستهدفون من قبل الحكومة المركزية بصورة خاصة، يطلقون عليهم الزرقة، وهو لفظ خجول بديل للفظة السود. يقود المعسكر رجل شرس من قبيلة المساليت، يلقبونه بشارون، شاب له جسد صلد ورياضي، بشوارب ووجه حاد التقاطيع، أهم هواياته الضحك بصوت عال وابتكار الخدع العسكرية، لم يدخل معركة مع أعدائه وهم مستعدون لها مطلقا، بل كان دائما ما يفاجئهم في الزمان والمكان الذي لا يتوقعونه فيه، ويقول إن تلك هي عبقرية الحرب، ورسول الله محمد
صلى الله عليه وسلم
يقول: «الحرب خدعة».
ويقول شارون إنه تعلم من هزائم الخليفة عبد الله التعايشي كيف ينتصر؛ فالخليفة كان يعتبر الحرب رجولة وشجاعة، وهي عكس ذلك، فلكي تنتصر عليك أن تخاف من قوة عدوك، مهما كان واهنا، مرتبكا وعلى باطل، مهما كنت أنت قويا، مرتبا وعلى حق. كان شخصا مثقفا، تخرج في كلية الاقتصاد جامعة المنصورة بجمهورية مصر العربية في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم. تزوج نساء كثيرات، أنجب أطفالا أكثر، وهو يدعو دائما أن يتزوج الرجل من دارفور كل النساء اللائي يقبلن به زوجا، وذلك لتعويض المفقودين في الحروب. كان رقيقا شرسا في ذات الوقت، لا يصبر على الجنجويد دقيقة واحدة. لقد حرق الجنجويد قريته وقتلوا أباه، والآن يسكنون فيها، وهم يعتقلون عددا من السكان الأصليين، يستخدمونهم كرق في العمل بذات مزارعهم، جنائنهم وأراضيهم، يغتصبون نساءهم.
بعد معركة قصيرة غير متكافئة وقعت بين أهل ضلاية، والجنجويد وجيش الحكومة مدعومين بالطيران الصيني العنيف، قبل ما تبقى من سكان ضلاية بالهزيمة، على أن تبقي الحكومة على أرواحهم. جردوا أولا من كل الأسلحة، حتى تلك البيضاء، وكانوا يطلبون منا أن نشترك في الدوريات الليلية لحماية القرية حاملين عصا من الحطب والسياط، بينما يحمل الجنجويد الأسلحة النارية. وكانوا يضعون كل عشرة من الرجال الدرافوريين، يسمونهم جهرا وفي أوجههم أمبايات، وهي بعربي دولة النيجر موطنهم تعني العبيد؛ يوضعون وسط خمسين من الجنجويد، حتى لا يتمكنوا من الهرب أو المقاومة، وكل الرجال الدارفوريين أو الأمبايات على حد قول الجنجويد المتبقين بالقرية لا يتجاوز عددهم السبعين، هم ينقصون بصورة مستمرة. لقد كانوا مائة وخمسين رجلا، جلهم مات في مقاومة فاشلة، أو قتل أثناء هروب لم يكتب له النجاح، أو مات واحد لواحد؛ أي خنق أحد الجنجويد إلى الموت، ولم يطلقه إلا وهو مقتول عليه.
يظل الدارفوري الليل كله في الدوريات مع فرقة من الجنجويد تتغير باستمرار، لتحل محل دورية أخرى من الجنجويد كانت في بيوت الدارفوريين حيث النساء والطفلات، تقوم باغتصابهن، يحدث هذا كل ليلة. وكل من يحتج منا يتم قتله. الآن بالقرية جيل كامل من الأطفال، آباؤهم من الجنجويد وأمهاتهم من الدارفوريين.
الغريب في الأمر أن مسئولا كبيرا في صحبة بعثة من الأمم المتحدة زاروا تلك القرية، واعتبرت أنموذجا للتعايش الإرادي السلمي ما بين الجنجويد والدارفوريين، وهي برهان لتكذيب كل الأقاويل والافتراءات الغربية التي تتحدث عن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وما يسمى بجرائم الحرب واستحالة التعايش بين الشعبين. يحكي شارون ذلك لكل من يجالسه في أول دقيقة، ويعلن أن أول أهداف ثورته هي تحرير مواطني قريته ضلاية، ثم يضيف لك في يأس: لا يمكن أن تحرر ضلاية ما لم تحرر دارفور كلها؛ لأنه يحيط بها أكبر ثلاثة معسكرات للجنجويد والمجاهدين في العالم.
للرجل علاقة جيدة مع كل جنوده ومع الأسرى أيضا، يظل مرحا، وتسمع ضحكته في كل أرجاء المعسكر إذا لم تكن هنالك محاولة هروب لأحد الأسرى، فاشلة كانت أم ناجحة، حينها يتحول هذا الرجل إلى وحش كاسر لا يرحم، ومن هنا أطلق عليه لقب شارون، ذلك البحار الذي يأخذ الأرواح إلى جزيرة الموتى؛ لأن شارون حينها سيأخذ أرواحا كثيرة في قاربه إلى جزيرة الموتى.
كان الوقت أواخر ديسمبر، لا تزال الأعشاب تحتفظ بشيء من الخضرة، وأشجار السيال والنبق وبعض اللالوبات العملاقة ما زالت مخضرة وبهية. التقط منظار الحرس هيئة شخص على ظهر فرس يهيم بين الأشجار التي تقع جنوب الوادي الكبير، ويحدد المنظار المسافة بثلاثة كيلومترات لا أكثر، ولا يختلف جنديان في تفسير هذه الظاهرة؛ فهو جندي استخبارات في طليعة قوة سوف تظهر عاجلا أم آجلا من مكان ما قريب، ووصف في الوقت ذاته بالبليد؛ لأنه لا يمكن أن يستخدم فرسا إلى هذه المسافة القريبة، ويعرف الجميع موقع المعسكر، والغريب في الأمر كان الهدف يقترب أكثر وأكثر من دفاعات المعسكر المتقدمة، ويقترب أكثر من حقل الألغام البشرية ويتخطاه، بعد أن عبر ألغام المدرعات والآلات الثقيلة عبرها كالشبح، هنا انتبه المقاتلون بأن الهدف ليس عسكريا، وأنه يرفع الآن بيرقا أبيض؛ فأسرعوا بإرشاده إلى المدخل الآمن.
كانت فتاة هزيلة، ولكنها لا تبدو منهارة، بل بالعكس، كانت متماسكة، وتتحدث بثبات، عرفت عن نفسها، وطلبت أن تقابل هارون، وهو الاسم الحقيقي لشارون. أكلت قدرا كبيرا من العصيدة بالويكة التي قدمت لها، تعرف عليها شارون بمجرد أن رآها، كانت تعرفه من زمان مبكر، منذ أن كانت تعمل مساعدة لصانعات الشاي بموقف الجنينة بنيالا، تعرف إحدى زوجاته وأطفاله، كانوا يسكنون حي الجير، قبل أن يختفوا تماما عن المدينة، قالت له إنها جاءت من أجل زوجها شيكيري توتو كوه الأسير لديه؛ مما جعل كل من يستمع إليها يكاد أن يموت من الدهشة، وكانت فرصة لشارون أن يطلق ضحكته المجلجلة تلك، كان شيكيري في تلك الأثناء يعمل مع صديقه إبراهيم ومفرزة من المقاتلين على حفر خندق كبير خلف الجبل لغرض لم يفصح عنه شارون، عندما أتاه المنادي، خفق قلبه بشدة، وبدون أية مقدمات سأل المرسال ما إذا كانت زوجته عبد الرحمن أو عمته خريفية بانتظاره.
अज्ञात पृष्ठ
أحس أنها كانت جميلة بأكثر مما يجب أن تكون عليه امرأة في مثل هذا المكان، وشعرت بأنه كان منهكا وبائسا، وقد فقد الكثير من وزنه، وهو ما يجب أن يكون عليه رجل في هذا المكان. احتضنا بعضهما البعض بشدة، فرحت المقاتلات عندما عرفن أنها جاءت لتبقى وتحارب في صفوفهن. كانت هنالك تسعون امرأة أخريات، كلهن متزوجات من الجنود ما عدا مريم، التي يطلق عليها شارون اسم مريم المجدلية؛ فهي تؤجل زواجها دائما لحين تحرير دارفور أو ظهور السيد المسيح، أيهما أقرب، ويشاع عنها بين المقاتلين ما يشاع.
ما يسمى بالمدينة، التي سمع عنها شيكيري وصديقه كثيرا في المعسكر، ليست سوى بضعة مساكن من الحجر مسقوفة بالطين والأعشاب البرية تحاط بصورة تامة بمرتفعات صخرية، تحيط بنبع ساخن صغير، تبدو من الجو مثل خاتم من الحجر والعشب البري. هذا النبع هو المصدر الوحيد لماء الشرب غير الصالح للاستهلاك الآدمي إلا بمعالجات تجعله صالحا بنسبة خمسين بالمائة. وهنالك أيضا زريبة للمواشي والأبقار والجمال التي في الغالب تمت مصادرتها من الجنجويد، ترعى خريفا وصيفا على العشب النابت على حواف مجرى العين، في واد ضيق يتلوى بين المرتفعات مثل ثعبان من الماء. توجد أيضا كثير من أشجار العرديب والتبلدي العملاقة، التي تغرق كل شيء في ظلها. هذا المكان الصغير الجميل الاستراتيجي فشلت الحكومة في السيطرة عليه تماما، نسبة للدفاعات الصاروخية ومضادات الطيران التي به، حقول الألغام واللواء الذي لا يقهر، وهو المرتفع الصخري الذي يحيط به كحصن أسطوري.
تستخدم المدينة لسكن الأسر فقط، ولا يوجد بها أطفال في عمر المدرسة؛ لأنه يتم تسريبهم لإحدى المدن الكبرى في هذا العمر للدراسة، بها نساء جميلات محاربات وزوجات في نفس الوقت، يقمن بواجب الزوجية بمتعة ويحاربن بشرف وبسالة، وهن دائما ما يبقين للدفاع عن المدينة حينما يكون الرجال بعيدين ينصبون الكمائن والفخاخ للجنجويد. جهزت غرفة لعبد الرحمن وزوجها شيكيري توتو كوه، لم تكن لدى الزوجين رغبة في فعل شيء، تحدثا قليلا، احتضنا بعضهما وناما.
حلم شيكيري بينما كانت أنفاس عبد الرحمن تعلو وتهبط في هدوء قرب وجهه، حلم بعبد الرحمن تذبح جنجويدا سمينا شحما، وتخرج كبده وتطعمها لحيوان صغير فمه فم إنسان وبقية جسده وأعضائه تشبه القطط، كان الحيوان يأكل الكبد بشراهة، ويريد المزيد، فتذبح عبد الرحمن آخر، وهكذا إلى أن أتت على صف طويل من الجنجويد، ثم أشار الحيوان بلسانه إلى شيكيري، وكشر عن أنيابه، ثم بال، ويبدو أنه عندما يفعل ذلك لا بد أن يكرم بما أشار إليه بلسانه، ولا خيار آخر. فجاء مقاتلون بشيكيري، وضعوا السكين في عنقه، وطلب منه أن يقول كلمة أخيرة، عندها استيقظ فزعا، نهض من قرب عبد الرحمن التي استيقظت هي الأخرى، فسألها ما إذا أكلت كبد الجنجويد. تثاءبت، مسحت وجهها بكفها، أخبرته بأنها ندمانة لعدم فعله. عندما حاولت وجدت أن كبد الجنجويد تفوح منه رائحة كالبراز الآدمي، فكرهته واستفرغت. أكدت له أيضا أنه لا يوجد داع لكل ذلك، يكفي قتل هذا الشيء.
حدث ذلك في الصباح الباكر، كعادة عبد الرحمن تستيقظ متأخرة قليلا عن العمة خريفية ومتأخرة كثيرا جدا عن زوجها شيكيري توتو كوه الذي يذهب للطابور والتمام العسكري عند الخامسة والنصف صباحا. أول شيء تفعله هو أن تذهب للمرحاض، تقضي حاجتها، ثم تملأ جردل الماء وتدخل الحمام، تستحم وهي تغني بصوتها الجميل، تحب أغنيات عمر إحساس، تقضي في الحمام عادة نصف الساعة، فهي تهتم بنظافة جسدها الشخصية يوميا وبصورة دقيقة، بدءا بحك أخمص قدميها، تنتف إبطيها ، انتهاء بقص أظافرها، بالنسبة لها الحمام الجيد مفتاح ليوم جميل؛ بالتالي عندما تحرم منه لأي سبب من الأسباب، يكون ذلك مدعاة لتوترها وتشتتها فيما يتبقى من اليوم، والأهم في الحمام في هذا المكان بالذات صهيل الخيل الذي يأتيها من الحديقة، يذكرها بأيامها الغابرات في خربتي، ويثير فيها شجنا جميلا.
بينما كانت تدلك ظهرها بالليف والحبل، إذا بها تسمع خشخشة في العشب الذي يمثل الجدار الخلفي للحمام المقابل لجنينة المانجو، ظنته في بادئ الأمر الورل، وهو من الزواحف الكبيرة التي تتواجد بكثرة في وادي برلي، وخاصة قرب البركة الدائمة التي توجد في جنينة المانجو، ولكنها عندما فكرت في أنه ثعبان ارتعدت قليلا وانكمشت على جسدها، وأخذت تبحلق في الناحية التي أتى منها الصوت بتركيز أكثر، وهي في تمام الاستعداد للهرب في الوقت المناسب، كانت الخيل تصهل، لا شيء آخر، تصهل في رعب كما لو أنها شاهدت جنيا رجيما، ويأتي إلى مسمعها أيضا صوت العم جبريل يهدئها ويتساءل عن سبب ثورتها، لكن فجأة انفتحت كوه كبيرة في الجدار العشبي للحمام، وأطل من الجهة الأخرى وجه رجل، كان أصفر البشرة، مشعرا، له شعر كث وكأنه الشيطان، له ذقن صغيرة غير حليقة وشاربان كبيران، لأول وهلة عرفت أنه جنجويد، وبسرعة البرق فج الجدار بصورة تامة، وكان أمامها وجها لوجه، كان قد تملكها الرعب بالصورة التي منعتها من التصرف السريع، كل ما فعلته هو أنها انكمشت على نفسها محاولة ستر عورتها ونهديها، بالانطواء التام على فخذيها، كانت تفوح منه رائحة العرق، مختلطة بصنان زنخ من إبطيه، رائحته أشبه بالجيفة منها لرائحة الإنسان، كان يرتدي بنطلونا عسكريا عليه جلباب مدني مشرب بالأوساخ، على كتفه بندقية جيم ثلاثة.
كان يحاول أن يتحدث معها برفق، لكنها تجنبت تماما النظر أو الاستماع إليه، حينها هددها بالقتل، واستل سكينته من ضراعه، مررها أمام وجهها المنكفئ، حتى كاد أن يلامس نصلها أنفها، شمت رائحة الدم، عندها فكرت بجدية وبطريقة مختلفة تماما، طلبت منه أن يدخلا حجرتها، وأنه لا أحد بالمنزل، أكد لها إذا تفاجأ أن بالمنزل أي إنسان فإنه لا يتردد في قتله وقتلها، ووضع بندقيته في موضع إطلاق النار، أنا أفهم تماما أنه يستطيع أن يفعل ذلك بدم بارد؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يعاقبه على شيء، ولو قتل سكان المدينة جميعا؛ لذا تمالكت نفسي، حملت بقية ملابسي بيدي بعد أن سمح لي بارتداء الجلباب فقط، عندما دخلنا قطيتي، أغلق الباب، وطلب مني أن أرقد في السرير بعيدا عنه حتى يدبر حاله وألا ألتفت إليه مطلقا، عندما سمعت صوت حك حنجرته، كان يقف أمامها، يرتدي لباسا داخليا طويلا به بقع كبيرة من الأوساخ، كان عاري الصدر وبيده اليمنى سكينة كبيرة.
قال لها فيما يعني إذا أرادت أن يتم الأمر بخير، فعليها أن تستسلم ولا تحاول المقاومة، وإذا لم ترده كذلك فإنه سوف يستخدم سكينته، وعرفت أنه يظنها عذراء؛ لذا نبهته بأنها متزوجة، هنا وضع سكينه جانبا، أرخى لباسه المتسخ الكبير، وأخفى عنها شيئه، لكنها استطاعت أن تراه، كان شيئا قصيرا هزيلا، في لون الطوب محاطا بشعر كث، إنه أقرب لعضو طفل كبير منه لعضو رجل بالغ، ضحكت بينها وبين نفسها، وقامت بفتح رجليها على مصراعيهما، أغمضت عينيها، وغابت في خيالاتها.
أول مرة تغتصب فيها كان الأمر مؤلما ومختلفا تماما؛ لأنها كانت في ذلك الحين عذراء ومختونة بصورة قاسية، ما يسميه الناس في تلك الأنحاء ختانا فرعونيا، ولأن الرجل لا يمكنه أن يخترق تلك المعضلة بعضوه في يوم واحد أو لحظات كما يرجو المغتصب، فإنه استخدم سكينته، ثم لم ينتبه هو أو الذين توالوا عليها من بعده في نفس اليوم، نفس اللحظات، إلى أنها كانت مغمى عليها بصورة تامة، أقرب لجثة. كانت تفكر بجدية وبعمق، وهو يصدر أصواتا تنم عن استمتاعه بالفعل، ورائحة تنم على قذارة في الجسد؛ النفس والروح، كان هزيلا وغير فاعل بالمرة، يحاول جهده أن يبث فيه الحياة عبثا، وقد ضايقتها أكثر أنفاسه النتنة، ورائحة جسده، بدا لها ضعيفا قذرا وأكثر بؤسا؛ لأنها تريد أن ينتهي كل شيء بأسرع ما يمكن، أظهرت له ما يعني أنها استجابت، لمسته برفق متوحش، وبحركتين تافهتين من فخذيها جعلته يصل ذروته، دفعته في الوقت المناسب بعيدا عنها، حتى لا يلوثها بقاذوراته، رقد قربها كالطفل لدقائق، عبث بنهديها، ثم علا شخيره، كان شخيره مثل عواء الذئب الجائع.
حررت جسدها من مخالب كفتيه، وانسحبت للخارج، مسحت فخذيها بالملاءة، البقية كانت في سرواله المتسخ، لم يستغرق منها الأمر طويلا؛ لأنه منذ الضربة الأولى توقف عن التنفس تماما، واسترخى جسده، ظلت أصابع قدميه ترتجف لثوان أو ربما لبعض دقائق، ثم لم يعد هنالك ما يخيف أو يتطلب إجراء ما، كأنه ما جاء إلا ليموت، لم تخف. «كنت باردة الأعصاب كأنما لو كنت أقتل كل يوم جنجويدا، أحسست بلذة عظيمة، إنني الآن أنتقم لكل أسرتي وأقاربي، أحسست بأني الآن إنسانة، رأيت أمي، أبي، إخواني، وأخواتي يبتسمون لي، يقولون لي بلغتنا: أحسنت
अज्ञात पृष्ठ
Say Say .»
سألها شيكيري توتو كوه، أين خبأت الجثة؟ قالت له: كنا كل يوم أنا وأنت وأمي وصديقك إبراهيم خضر أيضا نغوط عليها، صببت خلفها جوالا من الجير المتبقي من العيد الماضي؛ من ثم توقف المرحاض عن إصدار الروائح الأكثر نتانة من الغائط. ذكرها بأنها في حكاية سابقة تحدثت عن نتانة كبده، قالت له: إن ذلك جنجويد آخر بقصة مختلفة.
منذ أن أسر زوجها شيكيري توتو كوه، قررت عبد الرحمن أن تغادر مدينة نيالا وتنضم للمتمردين، لا يهم من هم ولا يهم من قائدهم ولا ما هي أهدافهم الأساسية، يكفي أنهم يحاربون الحكومة والمليشيات التابعة لها، وأنهم متفقون على تحرير دارفور من قائمة القتلة الطويلة، وحماية من تبقى من أهلها من صلف من تحب أن تسميهم الملاعين، ولكن دائما ما تخونها الخبرة في طرائق الخروج والانضمام، هي لا تعرف أيا من الخيوط التي تربطها بالمقاتلين، الذين يقال إن لهم أعينا كثيرة في المدينة، وإنهم يجندون الشباب سرا ويأخذونهم إلى ميادين القتال، تريد أن تتعرف عليهم وتطلب منهم أن يأخذوها معهم، «أستطيع أن أحارب مثل الرجال، بل إنني أكثر شجاعة منهم.» إنها تقاتلت مع الجنجويد شخصا لشخص، بالتحام جسدي مباشر على رمال وادي برلي العظيم، تعرف كيف تقاتل كامرأة بأدوات المرأة، وتعرف كيف تحارب بأدوات الرجال أيضا، حيث إنها أمسكت بقبضة يدها اليمنى بمذاكيره بكل ما تمتلك من قوة وجذبتها نحوها، ولم تطلقه إلا عندما أغمي عليه تماما، ثم خنقته إلى أن أطلق روحه، هل هنالك رجل فعل ما فعلته؟ وهي الآن تمتلك بندقيتين جيم ثري فاعلتين، تمتلك أربعة قنابل يدوية، لا تعرف كيف تستخدمها، ولكنها تحتفظ بها بحرص شديد، وعتاد جنديين كاملين من الذخيرة الحية، ونقودا كثيرة استولت عليها من جيوب الجنجويدين، فقط تبحث الآن عن ميدان المعركة، تريد أن تنضم لرفاق مقاتلين.
كان الخال جمعة ساكن كعادته، يقضي المساء على كرسي أمام باب الحديقة الجنوبي الذي يطل على الوادي مباشرة، بعد أن تتم مراجعة أحوال الخيل مع مساعده الوفي العم جبريل سائس خيله وراعي الحديقة الكبيرة، العم جبريل يظل بالداخل يحتسي مريسته ويستمع للراديو، وأحيانا تتسلل إليه علوية، وهي أرملة يحبها جدا ويقضيان وقتا طيبا في الأنس والإيناس. جلست عبد الرحمن قربه على الرمال، على الرغم من إلحاحه عليها بأن يحضر لها جبريل كرسيا من الداخل، أو تذهب هي وتتناول واحدا، قالت له إنها تريده في أمر مهم. كان الخال جمعة ساكن في الخامسة والخمسين من عمره، رجلا قوي البنية، أشيب، كل شعرة في رأسه ووجهه بيضاء، على الرغم من عزلته إلا أنه مرح جدا عندما يجد من يؤانسه ويطمئن إليه. صب لها كوبا من الشاي من إبريق قربه، طلبت منه أن يعطيها الأمان، وهذا يعني في ثقافة دارفور أن ما يدور بينهما الآن يبقى سرا، وأنهما إذا لم يتفقا على مسألة ما، فإن ذلك لا يضر بعلاقتهما في المستقبل، فأعطاها الأمان. قالت له باللغة المحلية، هي لغة قبيلتها: أحتاج لفرس.
فجأة انتبه بكل حواسه، وضع كوب الشاي جانبا، صمت.
ماذا تفعلين بفرس؟
قالت له وقد التقت عيناهما في لحظة كخطف البرق: أريد أن أذهب إلى ميدان الحرب.
صمت، لزمن لا يدريانه، سألها: أين ميدان الحرب؟
قالت: لا أدري، أريد أن أقاتل الجنجويد والحكومة، أريد أن أنضم للثوار بالجبال.
سألها بلطف: هل تدرين أين هم؟
अज्ञात पृष्ठ
قالت: لا، لا أعرف عنهم شيئا، سمعت باسم شارون، وكنت أعرف أسرته في الجير، لكني لا أعرف أين هو الآن.
طلب منها أن تتريث، وأن الحرب ليست بالشيء السهل؛ فقد تتعرض للموت أو على أقل تقدير الاغتصاب، ولكنها عندما قصت له حكاية الجنجويدين، والأسلحة التي تمتلكها، برقت عيناه إثارة، وقادها نحو مظلة الحصين، وطلب من جبريل أن يهيئ فرسين سماهما بالاسم بكامل عتادهما، عندما استفسرت لماذا فرسين؟ قال لها: لقد قلت لي إنك لا تعرفين موقع الثوار، أليس كذلك؟ أنا أعرف دارفور كما أعرف أصابع يدي، قضيت عمري كله متجولا في بواديها، سآخذك إليهم وأعود.
قالت له إنها سوف تدفع ثمن الفرس، إلا أنه أكد لها أنه لا يمانع أن يعطيها ثروته كلها، إنها تفعل ما لا يستطيع هو فعله، فقط طلب منها شيئا واحدا؛ أن تتذكر أبناءه الذين ذبحهم الجنجويد، أن تنتقم لهم أيضا.
أتت عبد الرحمن إليه وبذهنها فكرة واحدة فقط، أن تأخذ فرسا منه، مهما كلف ذلك، وكانت بينها وبين نفسها تعلم أنه لا علاقة له بالنساء منذ أن توفيت زوجه قبل أكثر من عشرة أعوام، لم تثر حوله أية قوالات أو نميمة أو شبهة ظنون بأنه يتعاطى النساء، ولكنها أيضا تضع احتمال أن تغويه بجسدها إذا دعا الداعي، ذلك الجسد المنتهك الذي ناله الجنجويد مجانا وعنوة، وناله أبناء جلدتها في معسكر كلمة وأب شوك بغير حب أو رحمة، وناله آخرون كثر بكامل إرادتها ومن أجل بعض النقود القليلة، ما العيب في أن تهبه من أجل قضية ملحة؟ قضية تؤمن بها وتعمل لأجلها، ولا ترى في ذلك خيانة لزوجها شيكيري توتو كوه، ولا لأي مخلوق آخر؛ فهي تعطي لشيكيري قلبها كله وجسدها كله بالحب، له وحده، أما نصيب وطنها وشعبها من جسدها فهي لا تهمله إطلاقا، تذكيه عند الضرورة بدون تردد. الخطة الأخرى التي كانت سوف تطبقها في حال عدم اقتناع الخال ساكن بالمنطق، وعدم استجابته لغواية جسدها الجميل الشهي، بالإضافة لما لديها من مال قليل أخذته من الجنجويد، هي سرقة الفرس، حتى إذا أدى الأمر لقتل العم جبريل والخال جمعة ساكن الطيب، الذي يسمح لهما دائما بأخذ المانجو التي تتدلى أفرعها في بيت الخالة خريفية، الذي يتحدث لغتها القبلية، الذي يحبها جدا ويسمح لها بالتجوال بأفراسه الغالية الثمن، التي يكسب من ورائها الملايين في سباق الخيل في المواسم، التي تكسبه مكانة اجتماعية سامية.
كان الليل دامسا، يقول الخال ساكن: إنه الوقت الأنسب للترحال، فالطريق واضح لديه، ويستطيع أيضا استخدام النجوم، والكواكب، والريح، وملمس التربة ورائحة الأمكنة والأصوات في الاستدلال على الطريق ومعرفة المواقع، كان الفرسان أسودين وهما يرتديان أيضا ملابس داكنة الألوان، حتى تصعب رؤيتهما من قبل الآخرين. كانا لا يتحدثان إلا لماما، بالهمس، يعرفان أن الليل يحمل الأصوات بعيدا جدا، مع طلوع الفجر كانا على مشارف قرية خاوية من السكان، وبيوتها محروقة بكاملها، تتناثر العظام والجثث البشرية المتيبسة في أنحاء المكان بين عشيبات الخريف التي بدأت في الذبول، القرية معروفة لكليهما، ولأن القش البوص الذي نما في الفصل المطير ما زال منتصبا على الأرض - هما في سبتمبر - قطعا بعضه وصنعا منه مظلة صغيرة، أعدا في ظلها بعض الطعام، وقررا أن يبقيا في ذات المكان إلى قبيل نزول الظلام؛ لأن الترحال نهارا قد يقودهما إلى صدام مع جهة ما، وقد تكشفهما مناظير الحكومة أو غيرها من المليشيات الموالية وطائرات التجسس.
صنعا فرشين من العشب، كانت عبد الرحمن مرهقة، لم تركب الخيل لمسافة طويلة منذ سنوات كثيرة ماضية، كانت تحس بآلام مبرحة في باطن فخذيها وسمانة رجليها، شربت قليلا من العصير المصنوع من الدخن، ونامت.
حياة المدينة لم تفقده مهاراته في الصيد والعيش على الطبيعة مباشرة، فبمجرد أن نامت عبد الرحمن، وتأكد تماما من خلو المكان من الثعابين والعقارب السامة، عبث في أشيائه، وأخرج شراك الفئران وطعمها من البصل الأحمر ذي الرائحة القوية، كان يعرف مسارات مرور الفئران الكبيرة عبر أقصاب البوص، حيث إنها تترك أثرا على الأرض واضحا، يبدو وكأنه أنبوب طويل شفاف يخترق العشب، هو سوف لا يضع الشراك في طريقها مباشرة، وإلا أثار شكوكها وأسرعت بالفرار، ولكنه نصبها بعيدا عكس اتجاه الريح، بحيث تصلها الرائحة الشهية للبصل، ويتركها هي التي تبحث عن مصيدتها، طائعة مختارة.
يحبها مشوية على لهب خفيف، استيقظت على رائحة الشواء اللذيذة، وكان منظر الفئران الكبيرة وهي متدلية من عمود مصنوع من أخشاب العرد، مطلة على لهب فاتر يلعق بألسنته الصيد السمين، كانت كما لو أنها في حلم، امتلأت رئتاها بعبق الشواء ودخان الحريق يجعلها تكح بشدة، وهي تحملق في الخال جمعة ساكن وهو يجلس القرفصاء يعد فأرا ناضجا للأكل، جلست قربه، كانت تبدو عليها السعادة البالغة، تحدثت معه قليلا عن وجبة فئران شهية أطعمتها في قريتها وهي طفلة، كانا يأكلان بمتعة خاصة، قال لها بلغتها المحلية: الحرب عدو.
أضاف وهو يرقب اللهيب المتصاعد: الحرب عدو.
كانت تنظر إليه كما لو أنها تنتظره أن يقول شيئا آخر، شيئا مهما، حمل عصا صغيرة من خشب العرد، حرك بها بعض الجمرات الصغيرات، فتطاير كثير من الشرر، صمت لزمن طويل، الحرب تعني عنده الكثير، إنها أخذت كل أسرته، كل الذين يحبهم، التهمتهم بدون أية رحمة.
अज्ञात पृष्ठ
العم ساكن من قبيلة الفور، وهي القبيلة التي تسكن جبل مرة والأودية التي حوله منذ آلاف السنين، قبيلة مسلمة مسالمة لا تميل للحرب والاقتتال، إلا أن الأراضي الخصيبة التي تشغلها جعلت منها هدفا لأطماع الطامعين منذ أقدم العصور.
عبد الرحمن كانت تفكر بجدية في الطريق التي تشكر بها هذا الرجل. نعم إنه يرى فيها المنفذ العملي للانتقام من أجل أبنائه الذين لم تترك لهم الفرصة للدفاع عن أنفسهم، قتلوا ببرود، سيحكي لها قصة موتهم للمرة العشرين؛ كانوا يستقلون عربة نقل تجاري من كاس إلى زالنجي، وجدوا نقطة تفتيش في الطريق، بها جنجويد وجنود نظاميون، سألوا الناس عن قبائلهم، ومن كذب في اسم قبيلته اكتفوا بأن يحرزوا اسمها، كان يهمهم أن يعرفوا هل الشخص زرقة أم عرب؛ لأن اللون وحده لا يكفي؛ فكثير من منسوبي القبائل العربية أكثر سوادا من منسوبي القبائل الدارفورية الأخرى. كانوا أيضا يعتمدون اللسان، طريقة النطق والتعبير، وفوق ذلك كله يعتمد الأمر على مزاج الجنجويد المسئول عن نقطة التفتيش، وهو دائما في رتبة وسلطة أعلى من القائد العسكري النظامي، بل يستطيع تصفيته دون أن تعاقبه أية جهة كانت؛ ففي ذلك اليوم كان مزاج الجنجويد عكرا؛ فقد جرح أحد أفراد قوته جرحا بليغا قد يودي بحياته، في عراك مع أحد الرجال الدرافوريين، ومما أثار غضبه أكثر أن الرجل استطاع أن يهرب ولم يصبه الطلق الناري الكثيف الذي أمطر به؛ لذا قام بإعدام كل الرجال والأطفال الذكور الذين باللوري السفري، جميعهم، عربا كانوا أم زرقة، ومن بينهم أبناؤه الأبرياء؛ رجلان بالغان وطفل في العاشرة من العمر.
تحس في أعماقها أنها أخذت تنتمي للرجل، قد بدا لها حقيقيا وحزينا جدا، وترغب في مواساته، وعبد الرحمن لا تدري كيف تفعل ذلك. إنها تخشى ألا يقبل الطريقة التي تفكر في أن تعبر بها عن تعاطفها معه، إنه ذات الجسد الذي تصيد به الأشرار والقتلة، وهو يفيد جدا في تقديمه هدية للطيبين والصالحين والذين تحبهم، وفي سبيل قضيتها؛ فلم يخلقه الله لها عبثا، إنه سلاحها وثروتها. لا يستطيع أن يقرأ ما يدور بخاطرها في تلك اللحظة، وإلا لأراحها من الحيرة بإجابة ما سلبية كانت أم إيجابية.
حسنا، يمكنها أن تعطيه النقود التي أخذتها من الجنجويدين، إنه مبلغ كبير من المال، لا تدري ماذا تفعل به في ميدان المعركة، قال لها إنه لا يحتاج لنقود، لديه من المال ما لا يدري ماذا يفعل به ولا كيف يصرفه، المال لا يمثل لديه أية قيمة، قالت له إنها لا تدري ماذا تفعل به أيضا. وأخيرا اتفقا على أن يقوم بإعطائه للعمة خريفية، بأسلوب لا يجعلها تشك في أن مصدره هو ابنتها المختفية عبد الرحمن.
حسنا، إنها لم تكافئه أيضا. الطريق إلى المعسكر قد اتضح تماما، وعليها عندما تتخطى الخور الصغير أن تتخذ يسارها، وتتجه نحو المرتفعات التي سوف لا تبعد حينها كثيرا. إنهم في وسط تلك المرتفعات فيما يسمونه المدينة، وعليها أيضا أن تتخذ تمام الحيطة والحذر؛ لأنهم سوف يرونها بمناظيرهم من على بعد كاف، وإذا التزمت السير كما شرحته لها، فإنها ستتجنب حقل الألغام البشرية. أما ألغام الآلات الثقيلة فبإمكانها أن تعبره دون مخافات تذكر؛ لأنها لا تنفجر إلا تحت ضغط حمل ثقيل مثل دبابة أو شاحنة جنود، عربة لاندكروزر، أو غيرها من المقاتلات ذات الوزن الذي يفوق ثلاثة أطنان، وطالما كانت تحمل طرحتها البيضاء في بيرق ترفعه عاليا، فإنهم سوف لا يطلقون عليها النار. حدثها بسر كتمه طويلا، وهو أنه أحد الذين يعملون على إرسال المقاتلين الدارفوريين من مدينة نيالا إلى ميدان المعركة، وفي كل الجبهات، وهو المسئول الأول في هذا الشأن، وحدثها أن بنيالا الآن أكثر من عشرين خلية مقاومة ثورية، تحت إدارته، وبها عشرات النساء والرجال، مدنيين وعسكريين، طلابا وموظفين. وذكر لها اسم أحد الثوار وهو يعمل بمكتب الوالي شخصيا، بل من أقرب المقربين إلى الوالي.
قال لها: أعمل أنا من عشر سنوات في هذا التكليف، وكنت مقاتلا في أكثر من جبهة، أكد لها بلغتها المحلية وهو يشيعها بابتسامة عريضة بينما يتوغل بها الفرس في عمق المكان. كانت مندهشة، ممتنة، وترغبه بل تتشهاه بشدة، فلو عادت بها الأيام لأصبحت من أقرب أصدقائه أو عشيقته، لا فرق، كم هي حزينة: أن أتعرف عليك في الزمن الضائع.
الحرية وقرينها
جدود إبراهيم خضر إبراهيم منحدرون من العبد الذي سمي بخيت، هو والد الخادم التي سميت بخيتة وعرفت فيما بعد في مجتمع العبيد والأسياد معا ببخيتة «سجم الرماد». لم يهتم أحد بمعرفة اسميهما الحقيقيين، يكفي أن يكون لكل منهما سعر محدد، بيع الجد بسعر أعلى من أقرانه 55 ريالا مجيديا، نسبة لوجود علامات الجدري في وجهه؛ لأن ذلك يعني أنه سوف لا يصاب به مرة أخرى. طالما كلف الجدري التجار خسائر فادحة في العام الماضي، ووهبت هي مجانا لذات التاجر؛ لأنها كانت صغيرة في السن وتحتاج لرعاية قريب حتى لا تموت، كما أنه لا يمكن أن يشتريها أي من التجار؛ فهي خسارة مؤكدة، ولولا رأفة طارئة في قلب النخاس، لتخلص منها برميها للذئاب التي كثيرا ما تتبع قافلة صيد الرقيق، طمعا في وجبات طازجة من موتى أو جرحى من الرقيق فقد الأمل في أن يشفوا.
كان الأب بخيت، وسندعوه بخيت؛ لأن اسمه الحقيقي ظل مجهولا إلى تاريخ وفاته؛ كان يحمل ابنته حديثة الولادة البكر، إلى الرب الخاص بقبيلته في جبل مجاور لمباركتها، وفي الطريق صاده الصائدون، بهذه البساطة، ولكن بخيت كان يلوم نفسه على ذلك؛ لأنه وقع في ثلاثة أخطاء كبيرة؛ أولا أنه لم يذهب في جماعة مدججة بالحراب والنبال، كما هو الحال دائما في مثل تلك الأيام التي يكثر فيها صائدو البشر النخاسون، وهي نهاية هطول الأمطار إلى بداية هطولها مرة أخرى. الشيء الآخر هو أن بخيت نسي أن يحمل معه تميمته الخاصة بحمايته من الطلق الناري والسلاح الأبيض، إلا لما أخافه النخاسون ببنادقهم وحرابهم. الخطأ الثالث وهو الأفدح، أن بخيت ما كان يرغب في الذهاب إلى الرب الخاص بقبيلته؛ لأنه في الآونة الأخيرة انتمى لجماعة تعبد إلها آخر غير الذي تعارف الناس عليه في القرية، يحرم هذا الدين الرب الخاص والخمر والتمائم ويلزم الناس بالصلاة والصيام.
ولكن تحت إصرار وإلحاح أمه وأبيه وزوجته، أخذ ابنته ومضى للرب مكرها؛ لذا فعل الرب به ما فعل. لقد جعله فريسة لأفراد يتخذون نفس دينه الجديد ويعبدون ذات الإله ويصلون تماما كما تعلم أن يصلي، ويكفرون بالرب الخاص بقبيلته.
अज्ञात पृष्ठ
أخذ الأب والبنت إلى سوق الديم، ولأنه كان قويا وبصحة جيدة وتجاوز مرض الجدري، تم عرضه في السوق مباشرة، ولو أنه كان حانقا ومتورم الوجه؛ لأنه دافع عن حريته بشراسة، ولكن كما يقولون: الكثرة غلبت الشجاعة. في السوق، قال للنخاس باللغة الوسيطة الشائعة في تلك الأنحاء: أنا مسلم مثلك.
أجابه النخاس ضاحكا: لكنك عب، والعب مكانه السوق.
ولم يزد، كانت لديه معرفة كاملة بما سيصير إليه أمره، سيباع من سوق إلى سوق، وإذا كان محظوظا، ينتهي به المطاف في أم درمان، هنالك العبيد أحسن حالا، أما إذا لاحقته لعنة ربه الجبلي، فإنه سوف يقع في يد فلاح أو تاجر جوال، أو سلطان يستخدمه جنديا يخوض به الحروب وقد يخصيه، وهي فعلة مؤلمة كثيرا تحدث عنها الناس، وكلما قبض رجل بواسطة النخاسة، تقوم أمه أو زوجته وأطفاله بأداء صلاة خاصة للرب طالبين منه، في حال أنه لا يستطيع أن يعيده إليهم، فليحمه من أن يخصى؛ لأن ذلك مؤلم جدا ويقطع النسل.
وفي اليوم الثالث بينما كان يطعم بنته التي تصرخ بشدة عندما تجوع فيضطر الحراس إلى توفير اللبن لها، إذ بثمانية من الشبان يلقى بهم في الزريبة، إنهم جماعته أنفسهم، الذين كان يتعبد معهم؛ أي خليته الإيمانية، فلقد تطير بهم سكان القرية بعد أن اختفى بخيت، وحاولوا قتلهم، فهربوا بدينهم إلى مغارة قصية عند جبل بعيد، فصادفهم النخاسة في صحبة البازنجر، ولأنهم غير مسلحين، وكانوا يكفرون بالتمائم الواقية من الطلق الناري، وهاربين، تمت السيطرة عليهم بكل سهولة، ربطوا في صف طويل. أتى بهم النخاس المحظوظ إلى الديم، فلقد كانوا فتية في صحة جيدة، أعمارهم جميعا تجارية، ويعرفون اللغة العربية الوسيطة، كل ذلك يجعل سعرهم مرتفعا وبيعهم سهلا. كانوا وهم يدفعون للأمام ويضربون بالسياط للمضي قدما، يصيحون بصوت واحد منغم وبحرقة: الله أكبر، الله أكبر ...
تم عرضهم أولا لممثل الحكومة؛ فهو المسئول الرئيسي عن الرق، الذي من حقه أن يشتري منه ما يشاء بالسعر الذي يضعه؛ لأن كل الرقيق يعتبرون في الأصل ملكا للحكومة؛ فهي تعطي تصاريح للصيد فقط وليس للملكية، فالملكية تحتاج إجراءات أخرى، وهذا المسئول بالذات يعرف عنه أنه يشتري الرقيق من أجل متعته الشخصية، وذلك عندما لا تكون الدولة في حاجة إلى جهايدية محاربين. يختار الرجل فتيات جميلات صغيرات، صبيان مردة. أما النساء فخلقن لذلك.
أما الرجال فإن أمام الرقيق الذي صادف شهوة رجل الحكومة أن يختار بين اثنين؛ إما أن يتم خصيه ومن ثم يصبح في حكم النساء، وبعد ذلك يرضخ للفعلة مكرها، أو يرضى طائعا أن يفعل به كما يفعل بالنساء. ويعرف عن الحكومي أيضا، أنه يفضل الحالة الأخيرة، حيث إن غاية متعته هي أن يقبض على ذكر المفعول به ويعضه في ظهره عندما يصل ذروة نشوته، فالخصي يحرم الحكومي المسكين تمام متعته المرجوة، كما أن المهدي قد أحل الرق ولكنه - رضوان الله عليه - حرم الخصي، فلا يمارسه الرجل إلا مضطرا ومخاطرا. اختار الحكومي لمتعته الشخصية المتجددة أحد المؤمنين، أحدثهم سنا، وبيع البقية بالجملة لوكيل مهرب مغربي شهير اسمه محمد البخيت، الذي برع في تهريب الرقيق إلى مصر، بعد أن حرم تصديره إليها الخليفة عبد الله التعايشي، خوفا من أن يجندهم الأتراك جيوشا لإعادة فتح السودان مرة أخرى، ينوي الوسيط توريدهم إلى أسواق استانبول مباشرة، ولربما أصبحوا فيما بعد بعض الجند العثمانيين الذين قتلوا في إحدى المعارك التي دحرت فيها السلطنة العثمانية المتهالكة في ذلك الوقت.
عبر مجرى النيل الأزرق الفتي، انتهى بهما المطاف إلى أم درمان، ثم عبر النيل العظيم إلى سوق النخاسة بشندي، اشتراهما إقطاعي، ودارت بهما دوائر الأيام والعبودية، إلى أن بلغت بخيتة الرابعة عشرة من عمرها، وأصبحت في طور ما يمكن أن يؤتى من النساء. اشتراها نخاس متجول، فودعت والدها وداعا مؤلما؛ لأنهما كانا يعلمان أنه نهائي وأبدي، أعادها النخاس إلى أم درمان حيث أخذ يستثمرها في سوق الدعارة مع أخريات، يستأجرها للناكحين الأغنياء بالساعة والليلة والأسبوع. أنجبت من آباء كثر بنتا سميت السرة، ثم من آباء آخرين ولدا سمي مستور، ثم من رجل واحد ثري اشتراها لمتعته الخاصة توأما سميا التوم والتومة، والتومة هي الجدة المباشرة لإبراهيم، اشتراها بدوي بكسلا ب 160 ريالا مجيديا، وهو أعلى سعر لرقيق بسوق أم درمان؛ لأن الخادم الشابة أو كما يسمونها «الفرخة الفاتية»، تعتبر استثمارا مربحا لسيدها، خاصة الجيل الثاني من الرقيق الذي كان نتاج علاقات بين الرقيق الأنثى والذكور العرب، حيث إنهم أخذوا من الآباء ألوانهم البنية والصفراء، والأجساد الأفريقية ذات البنية الجسمانية المتينة والقوام السامق، بل أحيانا يصعب أن يحدد ما إذا كان الشخص من الرقيق أو السادة وفقا للونه.
كان البدوي قاسي القلب، يجعلها تعمل اليوم كله في طحن الغلال بحجر الصوان، ويبيع الطحين للتجار، تطعم ضيوفه الكثر الذين لا يشبعون، ونساءه وأطفاله الآخرين، وبالليل يستأجرها لطلاب المتعة والهوى من الأثرياء.
في صباح باكر، سمعت سيدها المجروح - نتيجة لطلق ناري أصيب به لاشتراكه في معركة كرري - يتحدث مع بعض أصحابه الذين فقدوا أموالهم وثرواتهم بعد عودة الإنجليز لحكم السودان، وسقوط دولة المهدية، يتجمعون كل ليلة يتحسرون ويتباكون على أيام زمان، يتحدثون بحرقة عن طلب الإنجليز غير المعقول وغير الشرعي، بل والمستفز والغريب، الذي يطلب منهم إطلاق الرقيق الذين بين أيديهم أحرارا فورا. ومنذ إعلان هذا القرار، ويجرم ويحاكم بالسجن والغرامة كل من يمتلك أو يتاجر أو يحتفظ بأي شخص ذكرا كان أم أنثى، طفلا أو بالغا، كعبد، أو سرية، أو أي شكل آخر من أشكال الاسترقاق.
كادت أن تطير من الفرح، وتأكدت لها تماما صحة الإشاعات التي انطلقت قبل الحرب قائلة إن الإنجليز سوف يطلقون الناس أحرارا، وسوف يرجعون الناس إلى قبائلهم وأهليهم أينما كانوا.
अज्ञात पृष्ठ
انتظرت يوما، ويوما آخر، ولم يخبرها سيدها بأنها حرة، إلى أن طلب منها فجأة ذات عصر، أن تترك ما بين يديها، وتختفي بأسرع ما يمكن في أعشاب القاش، وألا تعود، إلا في المساء، عندما سألته لم، قال لها: الإنجليز يريدون أخذها وبيعها إلى الأتراك، والذين سوف يقومون بقتلها وإطعامها لكلابهم. كانت تعلم أنه كاذب، وكانت تعرف أن المفتش الإنجليزي يقوم بمداهمة البيوت التي تحتفظ بالرق ولم تنفذ القرارات الحكومية، وجدت بين أشجار نهر القاش الكثيفة يختبئ المئات من الرقيق، وكثير منهم كان يظن أن الإنجليز ينوون بهم شرا، بل بعضهم كان يطلق مقولة قالها لهم السيد: عبد بسيده خير من حر مجهجه.
وكانوا يخافون من أن يجهجههم الإنجليز، فماذا سوف يفعلون بحريتهم، من أين يأكلون، ويشربون، بل أين ينامون بالليل وهم لا يمتلكون أرضا ولا بيتا ولا وظيفة، ولا عملا؟ سيكونون صيدا سهلا للذئاب والثعابين والجوع والمرض. ولقد حلف كثير من الأسياد لمملوكيهم أنهم سوف لا يقبلون بهم إذا تحرروا الآن، ثم خرج الإنجليز كما خرج من قبلهم الأتراك الذين هم أقوى من الإنجليز، وذكروهم بكيف أعاد المهدي - رضي الله عنه وأرضاه - العبيد الذين حررتهم التركية إلى أسيادهم مرة أخرى، بعد أن هزم بسيفه الترك الكفار، وكيف أن بعض الأسياد من الغضب قام بقتل كل عبيده العائدين بحرقهم أحياء بالنار. وأكدوا لهم أن سيدنا المهدي عائد عائد، وهو لم يمت إنما يذهب ليقضي وطرا في مكة ويعود مرة أخرى بجيش من الملائكة.
قلة قليلة من الرقيق كانت تعي معنى الحرية، والتومة واحدة منهم، كانت تقول لهم إنها تفضل الجحيم من هؤلاء السادة الأشرار، بالنسبة لها الإنجليز أفضل من المهدية، والخواجة كتشنز خير من المهدي وخليفته. التومة هي أول من اتخذت قرارا بتسليم نفسها للإنجليز، وخرجت من عشيبات العدار الغزير. أحست بنسمة رقيقة من الهواء تمسح وجهها، شهقت هواء تحس به لأول مرة في حياتها نقيا، كانت تسير نحو عمق المدينة خفيفة كالريشة، ثم فجأة أحست بنفسها تجري، تجري بكل ما أوتيت من قوة وسرعة، كان الناس يشاهدونها في الشارع تمر مثل الطلقة، مرت بسادة كثر، لم تترك لهم الطريق، بل شقتهم شقا. مرت بعبيد يعملون، لم تهتم بشأنهم، مرت بإنجليز يتمشون وأسرهم لم تعرهم اهتماما، مرت بهنود يجرون عربة عليها إنجليزي عجوز، مرت بأناس شتى، بدو، تجار، بقايا جهادية منكسرين، عبرتهم إلى المديرية، وقفت أمام أول رجل أبيض تقابله، قالت له من بين أنفاسها المتلاحقة: أنا حرة.
في ذلك اليوم أخرج الإنجليز من بين قصب العدار الذي ينمو في مجرى نهر القاش الموسمي والأحراش التي تحيط به، ما لا يقل عن ألف رجل وامرأة ومئات الأطفال، وقالوا لهم: أنتم أحرار، بكى كثير منهم من الفرح، وبكى الآخرون من الخوف على مستقبل حريتهم المجهجهة. وأصبح الخوف جديا وماثلا، خاصة بعد مذكرة السادة على الميرغني، الشريف يوسف الهندي وعبد الرحمن المهدي في 6 مارس 1925 إلى مدير المخابرات الإنجليزي التي طلبوا فيها من الحكومة الإنجليزية، إعادة النظر في الحرية الموهوبة للرق في السودان، بل استثناء الرقيق السوداني بالذات من الحرية التي كفلتها لهم المواثيق الدولية، وتركهم عبيدا إلى أبد الآبدين؛ لأن ذلك أجدى لهم وأنفع. وقد روج النخاسون والمالكون للرق دعاية مفادها أن الحكومة البريطانية قد استجابت لهؤلاء القادة الدينيين، وقريبا جدا سوف يعاد إليهم عبيدهم؛ مما جعل أسرا كثيرة وأفرادا من المعتوقين يهربون إلى إثيوبيا.
رجل اسمه فرج الله ود ملينة، كان مملوكا للحكومة كجندي جهادية، ويبدو أنه كان يفكر في مستقبله كثيرا؛ لذا، منذ خمسة عشر عاما، كان يستقطع أو بالأحرى يسرق من المال الذي يجبيه من التجار والمزارعين كزكاة أو عشور، ورشاوى للأمراء، ويدفنه في مغارة بجبل توتيل؛ فهو الآن يمتلك ثروة من الذهب والريالات الفضية، بالقدر الذي يضعه في مصاف أثرياء المدينة، اشترى بعد التحرير الأبقار والماعز، وبيتا كبيرا، به غرف متسعة مبنية بالطين اللبن ومعروشة بسوق الدوم والنخيل، تماما كما يفعل أسياده في الماضي. وإذا كان الرق مباحا، لسعى فرخان أو ثلاثة لخدمته، ولاتخذ لنفسه من السرايا كثيرات. فلقد كان رقيقا مميزا جدا؛ فهو مملوك للدولة، ولديه رتبة عسكرية، وسلطة مطلقة في البطش، فبسقوط الدولة المهدية التي كان مملوكا لها فقد تحرر، فلولا أن حرمت السلطة الجديدة الرق، لما فكر أن يكون شيئا آخر غير تاجر رقيق.
أعجب هذا الجهايدي المعاشي بالتومة وجمالها، وكان يرغب فيها بالماضي ولم يكن باستطاعته منافسة السادة. تقدم الآن إليها، بسنة الله ورسوله؛ أي يتزوجها كما يتزوج الذين كانوا أسيادهم، وراقت لها الفكرة، زميلاتها في العبودية قمن بتجهيزها، فلقد كانت توكل إليهن هذه المهام في الماضي، فصارت مثل الأميرة حسنا ورقة وإشراقا، وتطيبت بأحسن العطر، وهو الشيء الذي كان محرما عليهن في زمن الرق والعبودية، ألبست الذهب والفضة والثوب الزراق والفوطة الهندية، ولأول مرة ترتدي حذاء جديدا وقرقابا من الحرير، وكانت حديث المدينة، حيث يعلق الناس في حسد قائلين: لقوها الخدم والعبيد.
لم يكن الناس معترفين بالحرية التي أعطاها الإنجليز لهؤلاء العبيد، وكانوا يعتبرونها عارضة، وغير شرعية؛ لأن في رأيهم أن الإسلام نفسه لم يحرم الرق والاتجار به واتخاذ السرايا، سارت على نهجه المهدية المباركة، وقبلها السلطنة الزرقاء، التي امتلك فيها حتى أولياء الله الصالحين مئات العبيد، فكيف يحرم الإنجليز الكفار ما أحله الله على عباده؟ بل ماذا سوف يفعل الرقيق الأحرار بحريتهم، لنرى إذن.
بمرور الزمن تطور مفهوم العبودية بأن يظل العبد عبدا ما عاش، حرره الإنجليز أم أعتقه سيده. بل يرث الأبناء تلك الصفة، وذهب لأبعد من ذلك، فبعض السادة القدامى ضربوا ما كان رقا لهم بالعصي، محاولين إعادتهم إلى بيت الطاعة، وهنالك من السراري من فضلن البقاء في رفقة أزواجهن بشرعية ما ملكت الأيمان، وذلك طوعا، ولكن الأسوأ هو أن السادة قد أصابتهم حالة سعر نتيجة لجنون الفقد والحرمان، فأصبحوا يطلقون على كل شخص شابه في لونه أو هيئته ما كانوا يمتلكونه من رق، العبد؛ وهذا ما جعل رجلا من الجنوب، كان يعمل في المديرية كاتبا، أن يقتل رجلين بسلاح شخصي؛ لأن أحدهما ناداه بالفرخ، واستطاع أن يهرب ويختفي في الغابة المجاورة، وظل يطلق النار على كل من يقترب من غابته. ولأن الإنجليز كان يعجبهم هذا التصرف، فإنهم لم يرسلوا جنودا للقبض عليه لمحاكمته بجريمة القتل التي ارتكبها، كانوا يريدون أن يلقنوا الناس درسا، ويجعلوهم يفهمون أن ذلك العصر الذي يقسم الناس لعبيد وأسياد، قد ولى، وعلى الناس أن تفهم متطلبات العصر الجديد وأن تتعايش معه.
أنجبت التومة، في أكتوبر 1933 بنتا جميلة في بشرة جدها البدوي السيد وقوام أبيها، وبها ملامح ملكة نوبية عظيمة، سماها أبوها فرج الله على أمه التاية، في مارس 1956 تزوجت التاية من رجل اسمه خضر إبراهيم خضر، يطعن الناس في نسبه، يظنون أنه من السودانيين على الرغم من بشرته الصفراء. في أكتوبر 1963، أنجبت له ولدا أسماه إبراهيم على أبيه، وبعد عشر سنوات أخرى أنجبت له بنتا سماها أمل، وأمل هي البنت التي عندما تم صيد إبراهيم خضر عند مدخل مدينة الخرطوم في نقطة التفتيش بسوبا لأداء الخدمة الإلزامية، كانت في صحبته بالباص، وكان على إبراهيم توصيلها للجامعة وتيسير أمر إقامتها.
أخذ إبراهيم خضر يعي حقيقة وضعه الاجتماعي متأخرا جدا؛ لأن والديه كانا يصران على قطع أية صلة بينه وبين أقاربه وجدوده وجداته، الذين ما زالوا محتفظين بكثير من سمات قبائلهم التي أتوا منها من شتى أنحاء السودان، مجلوبين من قوافل الرقيق، وهي أسر شهيرة ومعروفة في كل أنحاء مدينة كسلا، بل إن والده كان يصر على أن يطلق كلمة عبد على كل شخص له بشرة سوداء داكنة، أو ملامح موغلة في أفريقيتها، ويحكي قصصا أسطورية عن أصوله البدوية وما كانوا يمتلكونه من رقيق، عن قوافل جده التي تجوب الأحراش في صيد الرجال والأطفال والنساء. لم يبق كثيرا إبراهيم خضر بهذا الوعي الزائف، لقد نضج وبصورة جيدة، لم يخجل من أصوله التي عيره بها الكثيرون، وقصتها له الجدة التومة ذاتها، وقالت له: إن أباه موهوم؛ فقد أخذ يبحث بصورة جادة عن أصول جداته المسبيات والمباعات في أسواق الرق مسترشدا بخارطة طريق جدته التومة، وظل لفترة طويلة خاصة أيام دراسته الجامعية بكلية الآداب جامعة الخرطوم، ينقب في دار الوثائق القومية والمجلات الدورية الرصينة مثل مجلة
अज्ञात पृष्ठ
Sudan Notes and Records ، وهو لا يحمل نفسه أو أبويه أو جدوده أية مسئولية في ذلك، كان النظام المتخلف في ذلك الوقت البعيد يقوم على سيطرة القوي، وكانت أسر جدوده من الضعفاء، وهذا أوقعهم في يد من لا يرحم وبطش دولة دخلها الأساسي من أثمان مواطنيها في أسواق النخاسة العالمية والمحلية، عصر فيه الدولة هي تاجر الرقيق الأعظم؛ لذا كان إبراهيم خضر يكره السلطنة الزرقاء ويعتبرها أساس إشكالات الهوية في السودان، ويقول صراحة بأنه ليست هنالك أية سمات حضارية تخصها، وهي ليست سوى تحالف تجار رقيق، وعندما انفضت تجارتهم وعفا عليها الزمن، وحاصرتها الحضارة الأوروبية، أزيلوا من وجه التاريخ إلى مزابل النسيان.
يعرف أنه يقسو كثيرا في حكمه عليها، ولكنه لا يمتلك خيارا آخر، أن يحبها مثلا أو أن يكون محايدا، فما التاريخ عنده سوى ملحوظات دونها البشر، ومن حقنا كبشر أن ندون التاريخ الذي يخصنا، ومن حقنا ألا نصدق المدونين، فليست هنالك حقيقة مطلقة فيما يسجل، ولكن ليست هنالك حقيقة أكثر مما نراه بأعيننا ونحسه ونتعذب من أجله يوميا: هذا الإرث البائس من علاقات الرق؟
لم تكن أخته أمل بذات الوعي، بل ظلت في غيبوبة اختيارية عميقة، وتشربت الدرس الذي لقنته لها الأسرة، بل إنها تظن ظنونا مدهشة، أقصد تصدق بصورة قاطعة، أن أسرة جدودها كانت تمتلك رقيقا، وما تلك الجدات السوداوات شديدات السواد المشئومات إلا بقايا إرث ومجد تليد، ونتيجة للتسامح الذي عرف به المجتمع السوداني منذ عصور سحيقة، أصبحن جزءا أصيلا من الأسرة. أمل تنتمي الآن للجد البدوي، وبها من ملامحه الكثير، إذا أغضضنا الطرف عن أنفها الأفريقي الجميل، وقوام ملكات كوش. جدها البدوي من قبائل هاجرت حديثا من الجزيرة العربية لشرق السودان، بذلك أراحت نفسها من جدل الهوية المؤذي.
لم تمر أمل بظروف شديدة التعقيد بعد أن تم فصلها عنوة من أخيها، اتصلت بوالدها وجاء بنفسه وقام بتسجيلها في الجامعة، وهيأ لها سكنا داخليا مع أخريات، وقد تجنبت بقدر الإمكان الإقامة مع طالبات من مدينة كسلا، أو معارفها، كانت تريد أن تفتح صفحة جديدة في حياتها، وفتحت هذه الصفحة، أو في الحقيقة الصفحة انفتحت لها، عندما شاهدها مخرج تليفزيوني عن طريق الصدفة يوم حفل تخرجها، حيث كان قد دعي لتصميم حفل التخرج، وطلب منها أن تقوم بدور بطولة قصير في اسكتش رمضاني، ثم رآها مدير قناة فضائية شهير، حداثي متدين ومحب للجمال، عرف من أول نظرة أنها «تنفع مذيعة»، مع قليل من تقويم الأنف وصنفرة البشرة، وتثقيف اللسان، والبقية مقدور عليها. قال لنفسه بتشه وخبرة: مدهشة، وبصق سفة صعوط كبيرة على الأرض.
لم تكن فرحة والدها بذلك كبيرة، عندما تصبح ابنته مذيعة معروفة سيحرك ذلك ألسنة الناس، والدنيا مملوءة بالحاسدين والحاقدين، الذين لا هم لهم سوى التقليل من شأن الآخرين بشتى السبل، شهرة ابنته قد تفتح في وجه أسرته بوابة من الجحيم يعمل دائما على أن تظل مقفلة جيدا. في الحقيقة هو حزين منذ أن أخذ ابنه إلى مجاهل الحروب، ولم يسمع عنه شيئا سوى خطاب واحد طويل أتت به إليه منظمة الصليب الأحمر الدولية في مرة من المرات، وهو لم يعرف أن ابنه كان أسيرا إلا يوم أن استلم الخطاب، وبعد ذلك لا يعرف شيئا، هل تستطيع ابنته الشهيرة أن تعيد ابنه المخطوف المجهول؟
سأل نفسه هذا السؤال بعد عشرة أعوام وشهرين من اختفاء إبراهيم خضر إبراهيم، وعامين كاملين منذ أن اعتلت ابنته الجميلة أمل فضاءات الشهرة الرهيبة، وأصبحت مقدمة البرامج الأولى في القناة، وخاصة بعد عودتها من فرنسا، حيث هيأت لها القناة الفضائية عملية تجميل باهظة الثمن، والحق يقال كان لوالدها أن ينظر إليها مرات عديدة ليعرف أنها ابنته أمل، لا يدري كيف صنعوا لها أنفا غريبا مخروطيا أشبه بأنف امرأة فرنسية وعينين شديدتي الزرقة مثل ماء البحر، كل ما تبقى من وجهها القديم شفتاها المكتنزتان لا غير.
لم ينس الأبوان ولم تنس الأخت أخاها إبراهيم، كان يرن في وعيهم كدقات الساعة، منذ اللحظة التي فقد فيها، وقد قامت الأسرة بمحاولات كثيرة ومريرة في استعادته، ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا، فهم أسرة بسيطة ليس من بين أقاربهم سياسيون وذوو مال نافذون، أو عسكريون يشار إليهم بالبنان، طرقوا أبواب مكاتب الخدمة الوطنية مستفسرين، وكانوا دائما ما يقولون لهم إنه حي وسيعود عندما يكمل فترة خدمته، وبعد عامين؛ أي عندما اكتملت الفترة القانونية، قالوا لهم ينتظر بديله، وظلوا يكررون لهم جملة ينتظر بديله بإيقاعات متعددة إلى اليوم وغدا.
الكلمة
الكلمة يا أصحابي لا تأتي إليكم، إنما أنتم الذين تنتبهون لها، أنتم الذين تختارونها من بين الكلمات الكثيرة، ولمن يرى فهي مضيئة، تشع مثل الجوهرة أو قل إنها مثل الشمس في السماء، أما لمن لا يرى فإنها كنقطة ماء عذبة في المحيط، وأنا هنا من أجل الكلمة لا غير، أنا أبشركم بها وأهبها لكم جائزة، وأزوجكم إياها وأخطبها للعاشقين والعاشقات. سأغنيها كماء النهر وأرقصها كالموج، وأصلي لها في الرمل الحارق النبيل، الكلمة هي حياتكم وموتكم، وهي سبيل المحبة والكراهية.
قال: المؤمنون بي لا يرونني، يعرفني أكثر الكافرون بي.
अज्ञात पृष्ठ