Sudan Notes and Records ، وهو لا يحمل نفسه أو أبويه أو جدوده أية مسئولية في ذلك، كان النظام المتخلف في ذلك الوقت البعيد يقوم على سيطرة القوي، وكانت أسر جدوده من الضعفاء، وهذا أوقعهم في يد من لا يرحم وبطش دولة دخلها الأساسي من أثمان مواطنيها في أسواق النخاسة العالمية والمحلية، عصر فيه الدولة هي تاجر الرقيق الأعظم؛ لذا كان إبراهيم خضر يكره السلطنة الزرقاء ويعتبرها أساس إشكالات الهوية في السودان، ويقول صراحة بأنه ليست هنالك أية سمات حضارية تخصها، وهي ليست سوى تحالف تجار رقيق، وعندما انفضت تجارتهم وعفا عليها الزمن، وحاصرتها الحضارة الأوروبية، أزيلوا من وجه التاريخ إلى مزابل النسيان.
يعرف أنه يقسو كثيرا في حكمه عليها، ولكنه لا يمتلك خيارا آخر، أن يحبها مثلا أو أن يكون محايدا، فما التاريخ عنده سوى ملحوظات دونها البشر، ومن حقنا كبشر أن ندون التاريخ الذي يخصنا، ومن حقنا ألا نصدق المدونين، فليست هنالك حقيقة مطلقة فيما يسجل، ولكن ليست هنالك حقيقة أكثر مما نراه بأعيننا ونحسه ونتعذب من أجله يوميا: هذا الإرث البائس من علاقات الرق؟
لم تكن أخته أمل بذات الوعي، بل ظلت في غيبوبة اختيارية عميقة، وتشربت الدرس الذي لقنته لها الأسرة، بل إنها تظن ظنونا مدهشة، أقصد تصدق بصورة قاطعة، أن أسرة جدودها كانت تمتلك رقيقا، وما تلك الجدات السوداوات شديدات السواد المشئومات إلا بقايا إرث ومجد تليد، ونتيجة للتسامح الذي عرف به المجتمع السوداني منذ عصور سحيقة، أصبحن جزءا أصيلا من الأسرة. أمل تنتمي الآن للجد البدوي، وبها من ملامحه الكثير، إذا أغضضنا الطرف عن أنفها الأفريقي الجميل، وقوام ملكات كوش. جدها البدوي من قبائل هاجرت حديثا من الجزيرة العربية لشرق السودان، بذلك أراحت نفسها من جدل الهوية المؤذي.
لم تمر أمل بظروف شديدة التعقيد بعد أن تم فصلها عنوة من أخيها، اتصلت بوالدها وجاء بنفسه وقام بتسجيلها في الجامعة، وهيأ لها سكنا داخليا مع أخريات، وقد تجنبت بقدر الإمكان الإقامة مع طالبات من مدينة كسلا، أو معارفها، كانت تريد أن تفتح صفحة جديدة في حياتها، وفتحت هذه الصفحة، أو في الحقيقة الصفحة انفتحت لها، عندما شاهدها مخرج تليفزيوني عن طريق الصدفة يوم حفل تخرجها، حيث كان قد دعي لتصميم حفل التخرج، وطلب منها أن تقوم بدور بطولة قصير في اسكتش رمضاني، ثم رآها مدير قناة فضائية شهير، حداثي متدين ومحب للجمال، عرف من أول نظرة أنها «تنفع مذيعة»، مع قليل من تقويم الأنف وصنفرة البشرة، وتثقيف اللسان، والبقية مقدور عليها. قال لنفسه بتشه وخبرة: مدهشة، وبصق سفة صعوط كبيرة على الأرض.
لم تكن فرحة والدها بذلك كبيرة، عندما تصبح ابنته مذيعة معروفة سيحرك ذلك ألسنة الناس، والدنيا مملوءة بالحاسدين والحاقدين، الذين لا هم لهم سوى التقليل من شأن الآخرين بشتى السبل، شهرة ابنته قد تفتح في وجه أسرته بوابة من الجحيم يعمل دائما على أن تظل مقفلة جيدا. في الحقيقة هو حزين منذ أن أخذ ابنه إلى مجاهل الحروب، ولم يسمع عنه شيئا سوى خطاب واحد طويل أتت به إليه منظمة الصليب الأحمر الدولية في مرة من المرات، وهو لم يعرف أن ابنه كان أسيرا إلا يوم أن استلم الخطاب، وبعد ذلك لا يعرف شيئا، هل تستطيع ابنته الشهيرة أن تعيد ابنه المخطوف المجهول؟
سأل نفسه هذا السؤال بعد عشرة أعوام وشهرين من اختفاء إبراهيم خضر إبراهيم، وعامين كاملين منذ أن اعتلت ابنته الجميلة أمل فضاءات الشهرة الرهيبة، وأصبحت مقدمة البرامج الأولى في القناة، وخاصة بعد عودتها من فرنسا، حيث هيأت لها القناة الفضائية عملية تجميل باهظة الثمن، والحق يقال كان لوالدها أن ينظر إليها مرات عديدة ليعرف أنها ابنته أمل، لا يدري كيف صنعوا لها أنفا غريبا مخروطيا أشبه بأنف امرأة فرنسية وعينين شديدتي الزرقة مثل ماء البحر، كل ما تبقى من وجهها القديم شفتاها المكتنزتان لا غير.
لم ينس الأبوان ولم تنس الأخت أخاها إبراهيم، كان يرن في وعيهم كدقات الساعة، منذ اللحظة التي فقد فيها، وقد قامت الأسرة بمحاولات كثيرة ومريرة في استعادته، ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا، فهم أسرة بسيطة ليس من بين أقاربهم سياسيون وذوو مال نافذون، أو عسكريون يشار إليهم بالبنان، طرقوا أبواب مكاتب الخدمة الوطنية مستفسرين، وكانوا دائما ما يقولون لهم إنه حي وسيعود عندما يكمل فترة خدمته، وبعد عامين؛ أي عندما اكتملت الفترة القانونية، قالوا لهم ينتظر بديله، وظلوا يكررون لهم جملة ينتظر بديله بإيقاعات متعددة إلى اليوم وغدا.
الكلمة
الكلمة يا أصحابي لا تأتي إليكم، إنما أنتم الذين تنتبهون لها، أنتم الذين تختارونها من بين الكلمات الكثيرة، ولمن يرى فهي مضيئة، تشع مثل الجوهرة أو قل إنها مثل الشمس في السماء، أما لمن لا يرى فإنها كنقطة ماء عذبة في المحيط، وأنا هنا من أجل الكلمة لا غير، أنا أبشركم بها وأهبها لكم جائزة، وأزوجكم إياها وأخطبها للعاشقين والعاشقات. سأغنيها كماء النهر وأرقصها كالموج، وأصلي لها في الرمل الحارق النبيل، الكلمة هي حياتكم وموتكم، وهي سبيل المحبة والكراهية.
قال: المؤمنون بي لا يرونني، يعرفني أكثر الكافرون بي.
अज्ञात पृष्ठ