لقد نسيت عبد الرحمن كل شيء، حتى الجثتين اللتين وجدتا فوقها، نسيت الحرب، وأزيز الطائرات، نسيت المجزرة التي كان ضحيتها أمها، أباها وإخوانها الثلاثة: هارون، إسحاق وموسى، وأختها مريم التي يقال إنها تعيش في معسكر ما للاجئين بجمهورية تشاد، حيث إنها لم تصادف المجزرة، فكانت قد ذهبت للاحتطاب مع أخريات؛ لذا لم تكن متأكدة من موقعها، ولكنها مجرد ظنون وتوقعات، وإذا كانت حية فستصبح هي العضو الوحيد من أسرتها الذي تبقى لها في الحياة. نسيت تجربة الاغتصاب الأولى يوم المعركة، نسيت الثانية، الثالثة، والرابعة بمعسكر كلمة، أو ربما تناست ذلك بمحض إرادتها. المهم، يبدو في ظاهر الأمر أن عبد الرحمن أرادت أن تغلق صفحة من حياتها وللأبد، ولا يدري أحد لماذا لم تنس اسمها أيضا؛ فقد كان بإمكانها فعل ذلك في أية مرحلة من حياتها. حذرته العمة خريفية من أن يتطرق لماضيها أو أن يحكي عن الحرب وما شاكلتها، لقد شبعا من ويلات الحرب وشبعا من أخبارها. تريدان الآن فتح صفحة جديدة من كتاب الحياة.
لم يعترض، بل شجع بحماس إبراهيم خضر فكرة زواج صديقه شيكيري، كما لم يستغرب ما قامت به العمة في تلك الجمعة، أن أخذت شيكيري وعبد الرحمن إلى الجامع، وقد اضطرت في ذلك اليوم لأداء الصلاة في الجزء الخاص بالنساء، وبعد أن سلم المصلون عقد المأذون على ابن أخيها وابنتها، بالرغم من أن المأذون والمصلين جميعا احتجوا على أن تسمى العروس باسم عبد الرحمن، الشيء الذي يجعل قسيمة الزواج كما لو كانت شهادة لزواج مثلي، وهذا غير مسموح به في القانون والشريعة، وأصرت عبد الرحمن على الاسم حتى ولو يبطل الزواج، رافضة اسم مريم الذي اقترحه عليها المأذون، إلى أن جادت قريحة أحد المصلين الحريصين على إتمام مراسم زواج بنت نازحة متشردة لعسكري غريب؛ أي آفتين اجتماعيتين لا خير منهما يرجى؛ أن تكتب في القسيمة كلمة السيدة، ثم يليها الاسم مضافا إليه نون وتاء؛ أي أن يصبح السيدة عبد الرحمانة، وعبد الرحمانة اسم شائع في كثير من قرى دارفور، فرضي المأذون ولم تمانع عبد الرحمن. لاحظ شيكيري بمجرد أن عادا للمنزل أن زوجته عبد الرحمن ليست بالمرأة الطبيعية، ليس لأنها واضحة وصريحة وجنسية أكثر مما يتوقع ويظن، لكن لأنها طلبت منه طلبا غريبا ومباشرا وهما في الساعة الأولى من الزواج، طلبت منه: إما أن ينتقم لها، أو يساعدها على الانتقام، ولا خيار ثالث.
أخبرته أنها كانت في انتظار أن يكون لها رجل، مهنته جندي وشجاع، ينتقم لأجلها، على الأقل يقتل عشرة من الجنجويد، وهي سوف تأكل كبدهم جميعا نيئة. لم يستطع أن يخفي هول المفاجأة عليه، ربما أنه شهق. لقد دخل معارك كثيرة ضد الطورابورا، لكنه لم يقتل ولو دجاجة واحدة، كان يطلق الذخيرة في الأهداف الوهمية، ومع أول بادرة للانسحاب كان ينسحب، ولكن هل تعلم زوجته عبد الرحمن أنه يحارب مع الجنجويد جنبا لجنب؟ أخبرته أنها تعرف كل صغيرة وكبيرة عن الحرب، وقالت له بصورة واضحة إن الذين قتلوا أمها وأباها واغتصبوا أخواتها حتى الموت، ليسوا جنودا نظاميين ولكنهم الجنجويد، وهي تعرف وتفهم الفرق، نعم كان بإمكان الجيش أن يحميها، ولكنه لم يفعل، تعرف أفرادا في الجيش من قبيلتها، وتعرف أنهم كانوا يتمزقون من الحزن وهم يشاهدون الجنجويد يقتلعون أسرهم وأهلهم اقتلاعا من الحياة أمام أعينهم، يكفيهم ذلك عذابا وموتا وألما، وتعرف العشرات الذين انضموا إلى الطورابورا بعد ذلك. وكل ساكني دارفور يعرفون قصص ومصائر الطيارين الذين رفضوا أن يلقوا القنابل على أبناء جلدتهم. هي تريد الجنجويد وليس إلا. قال لها إنه لا يعرف كيف يقتل إنسانا، جنجويدا كان أم طورابورا، ولا يعرف كيف يساعد على ذلك، بل لا يشجع ذلك التوجه، وأنه ليس جنديا محترفا، بل فردا يؤدي الخدمة الوطنية مكرها ومجبرا، ويساق إلى ميدان المعركة كما تساق النعاج إلى السلخانة. قالت له يمكنه أن يدربها على إطلاق النار، ويعطيها ثمن بندقية جيم ثلاثة، وألا يخبر العمة خريفية بالأمر، لا أكثر؛ لأنها اتفقت معها على ألا تنفتح طاقة الحرب مرة أخرى.
كان رأي إبراهيم خضر أن يتجنب شيكيري خريفية وابنتها معا، وإلا تورط في أفعال صعبة ومعقدة، ولكن يبدو أن شيكيري قد بدأ يحب البنت بالفعل، والأسوأ أنه لا يستطيع أن يتخلى عنها أبدا، والأسوأ من ذلك كله هي تعرف ولا تتنازل عن طلبها قيد أنملة، ولو أنها حتى الآن لم تمارس ضده أي ضغوط، بل تزداد رقة وجمالا وشبقا.
أخذ يدرسها طبيعة السلاح، فك وتركيب وأداء، كل يوم جمعة، حيث إنه كان شبه مقيم بالحامية العسكرية، يحضر ليلة الخميس ويغادر فجر السبت. كانت تتعلم الشيء منذ الوهلة الأولى بسهولة ويسر، وفي جمعتها الرابعة فاجأته بأنها امتلكت بندقية جيم ثلاثة، فكاد أن يغمى عليه من الخوف وهول المفاجأة معا، قالت إنها سرقتها من جنجويد سكران، وجدته نائما في الوادي قريبا من المطار، بينما كانت هي تتجول في الغابة الصغيرة غرب معسكر كلمة، لجمع حطب الوقود. يعرف أنها تكذب؛ لأنها لا يمكن أن تذهب لقطع الحطب ليلا، ولا يمكنها أن تأخذ بندقية الجنجويد نهارا، والشيء المهم هو أنها لا تذهب للاحتطاب مطلقا؛ لأنها لا تحتاج إليه في المنزل، فلدى العمة خريفية موقد غاز حديث، ويعرف أيضا أن النساء لا يخاطرن بالذهاب للاحتطاب في تلك المنطقة بالذات، خوفا من أن يغتصبهن الجنجويد الذين يتواجدون بكثرة هنالك، ويعرف أيضا أن الاحتطاب في هذه الأيام لا يتم إلا في جماعات محمية من قوات الاتحاد الأفريقي، وقال لها كل ذلك بالتفصيل الممل، قالت له بصرامة: سرقتها من جنجويد سكران، تصدق أو لا تصدق أنت حر.
يحس الآن باقتراب الكارثة، بدت له عبد الرحمن متهورة وغامضة في نفس الوقت، بدت له كوحش متعطش للدماء، كثائر مجنون لا يرى غير الأعداء والمكائد، يعمل من أجل هدف كبير، لكن تنقصه الخبرة والخطة، أحس بها تتبلد في كل لحظة، كانت تلغي عقلها بسرعة رهيبة، ولكنه لم يكرهها بعد، كانت رقيقة معه ، وتتجمل بصورة مستمرة، تتطيب بما يحب من العطر، وتعطيه نفسها في الفراش بجمال منقطع النظير، وهو في حاجة ماسة لمثل هذه الرعاية الجسدية، ولكنه أيضا يريد أن يظل حيا. من النظرة الأولى للبندقية عرف أنها ملك للجيش السوداني، ولكنها تحظى برعاية شخصية كبيرة، وذلك للنقش الذي في دبشكها بآلة حادة، وتزيين حمالتها ببعض الخرز الملون، ويبدو أنه قد تم بيد نسائية، ليست بها نمرة عسكرية، ولكن رائحتها تدل على أن صاحبها من الجنجويد، للقوم رائحة متميزة، خليط ما بين وبر الحيوان - الخيل والإبل - والعرق البشري، كانت صينية حديثة الصنع، ولكنها استخدمت كثيرا، فرائحة البارود ما زالت تنطلق من فوهتها التي تلمع من الداخل، الفوهة مغطاة بخرقة جلباب قديمة بها آثار زيت الخروع. لم تكن لديها خطة خاصة لاستخدام البندقية.
نيالا مدينة كبيرة وجميلة، يسميها عمال الإغاثة الأوروبيون لاس فيغاس دارفور، لا يعلم أحد عدد سكانها، إنهم في تزايد ونقصان مستمرين، وفقا لسير الحرب في دارفور، يسكنها الضحايا المهجرون من قراهم معا والقتلة الذين يرتكبون فعل التشريد والتهجير، بها أيضا المواطنون الذين لا تعني الحرب لهم شيئا ذا بال، وبها كبار التجار، وهم المستفيدون الوحيدون من الحرب، وقد تضاعفت أموالهم نتيجة للاحتكار والمضاربات والندرة الفعلية والمفتعلة للسلع، بها الجنجويد يسكنون في الأحياء الطرفية في معسكرات ضخمة، يتمظهرون في المدينة في عربات لاندكروزر مكشوفة عليها مدافع الدوشكا، وتعلق على جوانبها الآر بي جي البغيض، وهم عليها في ملابس متسخة مشربة بالعرق والأغبرة، يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة والخوذات، لهم شعور كثة تفوح منها رائحة الصحراء والتشرد، على أكتافهم بنادق جيم ثلاثة صينية تطلق النار لأتفه الأسباب، وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية؛ لا يفرقون مطلقا ما بين الإنسان والمخلوقات الأخرى؛ الكلاب الضالة مثلا.
وتعرفهم أيضا بلغتهم الغريبة «الضجر»، وهي عربي النيجر أو الصحراء الغربية، ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات، ليس من بينهم مدني ولا متدين ولا مثقف، ليس من بينهم معلم أو متعلم، مدير أو حرفي، ليست لديهم قرية أو مدينة، أو حتى دولة، ليست لديهم منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم، يعملون من أجل شيء واحد، هو ذلك المخلوق ذو السوق الطويلة والظهر القوي المحدودب، صاحب البطن التي بإمكانها أن تختزن برميلا من الماء، يصورونه في راياتهم شعارا، يأكلون لحمه وشحمه، يشربون لبنه، يسكنون في وبره وعلى ظهره، المخلوق الذي يستطيع أن يحملهم بعيدا جدا حيث يقتلون ويقتلون من أجل أن يوفروا له المرعى، هو ربهم وسيدهم، عبدهم ومملوكهم في نفس الوقت، أو ما يسمى: الجمل.
لا يدري أحد كيف ألهم الحكوميون في اختيار هذا الشعب بالذات لخوض الحرب في دارفور من بين كل شعوب أفريقيا. كانت ستصبح مهمة عبد الرحمن سهلة إذا لم يكن خصمها تلك الفئة الغريبة، وهي تعرف قدر التحدي. بنيالا الآن حامية عسكرية ضخمة، بها ما لا يقل عن عشرة آلاف جندي، ومئات الآليات الثقيلة، سلاح جو صيني فاعل وسريع الاستجابة، كل هذه القوة تعمل مع الجنجويد جنبا لجنب، لكن عبد الرحمن ترى أن هدفها ليس كبيرا، وهو - موضوعيا - شرعي بسيط وسهل: عشرة جنجويد من ستة عشر ألفا ليس بالشيء الكثير، وهو رقم لا يقدر بشيء إذا قيس بالذين يقتلون من الجنجويد في كل معركة، إنهم يخسرون المئات، وهي تريد أن تضيف لهؤلاء المئات عشرة فقط لا غير.
العمة خريفية بغريزتها الأنثوية، خبرتها الحياتية الطويلة، ومعرفتها في الإنسان، أحست أن شيئا ما يدور في بيتها ما بين بنتها عبد الرحمن وابن أخيها شيكيري، وربما صديقه الذي يأتي معه في بعض الأحيان، إبراهيم خضر. لاحظت بصورة جلية أن عبد الرحمن ليست في طبيعتها العادية، أخذت تتغيب كثيرا عن البيت، وأنها تغلق نفسها في الغرفة لساعات طوال. لاحظت أيضا أنها تقوم بتمارين قاسية كتلك التي يقوم بها العسكر، انتبهت على أن العلاقة بينها ووبين زوجها شيكيري متوترة لحد ما، بل تصيدت أذنها ذات مرة مشادة كلامية حادة بينهما. ولكنها لم تتخيل أن الأمر له علاقة بالحرب، ذلك البعبع الذي قررت أن يسقط من وعيها نهائيا وللأبد. إلى أن استيقظت ذات صباح ولم تجد عبد الرحمن في غرفتها، ظنت أن عبد الرحمن ذهبت في مشوار صباحي على عجل، كما هي طبيعتها مؤخرا، انتظرتها إلى أن حان وقت خروجها للسوق، ولم تعد، كانت غرفتها مرتبة وكل شيء موجود في مكانه، وعندما انتبهت لحركة شيء ما في الأعلى، رأت حلقة كبيرة من التمائم مدلاة من وسط القطية، النوع الذي يرتديه الجنجويد، بها دم متخثر. بأعصاب باردة، أخرجت كل ما تراه مهما من القطية، احتفظت به في مكان آمن، ثم أشعلت فيها النيران.
अज्ञात पृष्ठ