15
هذا؛ والمرجح أن تكون الكتابة النبطية قد وجدت سبيلها من بلاد النبط إلى بلاد العرب بسلوك أحد طريقين؛ الأول: الطريق الدائر من حوران «إقليم دمشق» إلى وادي الفرات الأوسط «الحيرة والأنبار»، ثم إلى دومة الجندل فالمدينة فمكة فالطائف. والثاني: طريق أقصر، من بلاد النبط إلى البطراء إلى العلا فشمال الحجاز حتى مكة والمدينة. وسواء كانت رحلة الخط النبطي العربي عن هذا الطريق أو ذاك فالثابت أنها تمت بين عام 250 للميلاد - وهو تاريخ أقدم نقش عربي نبطي معروف - ونهاية القرن السادس الميلادي، وهو الوقت الذي حذق فيه الحجازيون الكتابة العربية على صورتها المعروفة لديهم قبل الإسلام بقليل.
وهكذا تعد هذه المرحلة مرحلة اقتباس وانتقال. ويساعد على الاعتقاد باشتقاق العرب لخطهم من خطوط بني عمومتهم من الأنباط وجود سوق نبطي بالمدينة في نهاية القرن الخامس الميلادي
16
يثبت وجوده هذا وجود علاقات تجارية هامة بين بلاد النبط والحجاز كان يمارسها القرشيون من دون القبائل العربية الأخرى، فليس ببعيد، والحال كذلك، أن تكون الكتابة قد انتهت إلى عرب الحجاز مع قوافل التجارة على يد تجار من العرب أو اليهود،
17
كما لا يبعد أن يكون للسوق النبطي الذي أشرنا إليه بالمدينة أكبر الأثر في تعريف العرب الحجازيين بالكتابة التي قدر أن تكون كتابتهم فيما بعد. وقد كانت الكتابة النبطية التي أصبحت كتابة العرب الحجازيين في أول أمرها غير مشكولة، ولا منقوطة، أدركها الشكل والنقط في زمن متأخر مخافة التصحيف واللحن. (6) اليهودية والفلسفة اليونانية
حين بدا في بلاد اليونان مذهب الأقانيم الثلاثة بزغ نجم مذهب آخر مشابه له لدى عدد كبير من أمم الشرق، وكان مذهب الأقانيم ذاك عند اليونان ثمرة تفكير فلسفي ومنطقي دقيق التفكير. أما المذهب الآخر المشابه له لدى الأمم الشرقية فكان من الدين بحكم تدينهم الشديد الذي رجحت كفته على العقل وحده. وقد كان هذا المذهب ناقصا بدائيا غير واضح المعالم إلى حد ما في أديان الهندوس والمصريين والفرس، لكنه اتخذ أخيرا صورة أكثر كمالا في دين اليهود. وعند الأستاذ الباحث «محمد يوسف موسى» أن العبقرية اليهودية، السامية البحتة أصلا والمفرقة بسبب هذا، لم تفكر غالبا من نفسها في أن تضع وسائط بين الخالق والمخلوق. وفي خلال مدة الاستبعاد الطويلة في مصر كان شعب إسرائيل متصلا بدين غير غريب عن فكرة التثليث؛ أي بدين المصريين القدامى. غير أن الآلهة الثلاثة في الثالوث المصري - وهم أوزوريس وإيزيس وهورس؛ أي الأب والأم والابن - لم يكن لهم إلا صلة بعيدة بالأقانيم اليونانية الثلاثة التي سيوجد ما يقابلها في الكتب المقدسة اليهودية، حتى إنه لهذا يمكن أن يقال: إن أثر التثليث أو الثالوث المصري في العقائد الدينية اليهودية ما زال موضع شك. ومع ذلك فلا يمكن أن ننكر أن الشعب اليهودي كان عند خروجه من مصر ميالا ميلا كبيرا إلى الوثنية وإلى الشرك.
18
لكن إقامة أربعين سنة في الصحراء كان من شأنها تقوية وحدة الله في نفوس بني إسرائيل، فكان الكفاح بين التوحيد والشرك ملحوظا ومستمرا. ومن البديهي أن هذا كان حريا به أن يجعل الإسرائيليين مرغمين على تقبل عقيدة التثليث التي لا يبعد أن يكونوا أخذوا عنها في مصر فكرة ولو غامضة، والتي ترمي إلى التوفيق في ذات الله بين الوحدة والكثرة؛ أي بين وحدة الذات وكثرة ما يظهر عنها، وهذا الكفاح استمر حتى بعد إقامة الشعب المختار في أرض الموعد،
अज्ञात पृष्ठ