الذي يروي عن عباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن جده، وعن الشرقي بن القطامي أن ثلاثة من «طي» اجتمعوا «ببقة»،
8
هم: «مرامر بن مرة»، و«أسلم بن سدرة»، و«عامر بن جدرة»، وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية ... فتعلم منهم قوم من أهل «الأنبار»، ثم تعلم عن هؤلاء نفر من أهل «الحيرة». يقول: وكان «بشر بن عبد الملك» أخو «لأكيدر» صاحب دومة الجندل، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، فتعلم الخط العربي من أهلها، ثم أتى مكة في بعض شأنه، فرآه «سفيان بن أمية بن عبد شمس» و«أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب» يكتب، فسألاه أن يعلمهما الخط، فعلمهما الهجاء، ثم أراهما الخط فكتبا، ثم أتى «بشر وأبو قيس» الطائف في تجارة يصحبهما «غيلان بن سلمة الثقفي»، وكان قد تعلم الخط منهما، فتعلم الخط منهم نفر من أهل الطائف. ثم مضى «بشر » إلى ديار «مصر»، فتعلم الخط عنه نفر منهم، ثم رحل إلى الشام، فتعلم الخط منه أناس هناك، وهكذا عرف الخط بتأثير الثلاثة الطائيين عدد لا يحصى من الخلق في العراق والحجاز وديار مصر والشام.
تحاول هذه النظرية أن تفسر لنا كيف انتهت الكتابة إلى الحجاز من إقليم الحيرة، ونحن نستسيغ منها أن تكون «الحيرة» مركزا من مراكز تعليم الخط، لا ضير في ذلك؛ لأن خط العرب الشماليين انتهى في وقت ما، كما أثبت البحث الحديث، إلى هذه البقعة في رحلته من موطنه الأول إلى الحجاز، بطريق العراق فدومة الجندل؛ ونستسيغ منها كذلك أن تكون «الأنبار» قد تلقفت هذا الخط من بعض جهات الشام، ثم أزجته إلى الحيرة قائمة بدور الوسيط؛ ثم نستسيغ منها أيضا أن تكون دومة الجندل طريق انتقال ذلك الخط إلى المدينة ومكة.
نستسيغ ذلك كله، ولكنا لا نكاد نفهم لماذا يناط انتقال الخط بشخصية «بشر بن عبد الملك» الكندي الذي تجعل منه الرواية جائلا يكلف نفسه مشقة الانتقال في أرجاء مترامية في شبه الجزيرة يعلم الخط؛ وهو ذلك «الأرستقراطي» المترف الذي لا يجول لهذا الغرض. وانتقال ظاهرة ثقافية كظاهرة الكتابة أمر يكون بطبعه بطيئا، ويصعب أن نستفيد من الرواية شيئا هاما آخر، فعلى فرض أن شخصية بشر هذه وجدت حقا، وكلفت نفسها مثل هذه المهمة الشاقة، فلا بد أنها قد عاصرت «سفيان وحربا» ولدي أمية، بمعنى أن الكتابة العربية الشمالية لا بد أن تكون قد رحلت رحلتها من الحيرة صوب شبه الجزيرة في خواتيم القرن الخامس الميلادي.
وتهمل رواية ابن النديم
9
ذكر اسم بشر، وتحل محله في هذه المهمة اسم «أبي قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب»، واسم «حرب بن أمية»، وتنسب إلى واحد منهما نقل الكتابة من الحيرة إلى الحجاز. ولا نرى تفسيرا لهذا التناقض خيرا من القول بأن انتقال الكتابة كان نتيجة لرحلة الأعراب من شبه الجزيرة إلى وادي الفرات، والعكس، بقصد تبادل المنافع بالتجارة.
وإن صح أنه كانت لمرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة، جهود في شأن الكتابة العربية، فلا تعدو هذه الجهود أن تكون اقتطاعا لخط يكتب به العرب من خطوط النبط الذين كانوا يجاورون حوض الفرات الأوسط «في حوران». على أن الشك يعتور أسماءهم ذاتها، فهي أسماء يغلب عليها التسجيع، ويغلب أن تكون هذه الأسماء قد صيغت على هذا النحو من السجع ليحسن وقعها في الأسماع، والحق أنه يصعب أن يقوم ثلاثة من بولان من طي بمهمة «أكاديمية» شاقة كهذه لمجرد الرغبة في توفير خط يكتب به الأعراب!
يكاد يكون هناك اتفاق على أن العرب لم يصيبوا دراية بالكتابة إلا حيث كان لهم بالمدنية اتصال. وقد كان اتصال العرب بالمدنية نتيجة لانتجاعهم تلك الأطراف الغنية المحيطة بشبه الجزيرة «في اليمن ووادي الفرات وسوريا ونجوع النبط وحوران». هنالك خرجت بعض القبائل العربية عن طبيعتها البدوية، وعرفت نوعا من الاستقرار، وأخلدت إلى حياة جديدة، واتخذت أساليب الحضر في كثير من طرائق المعيشة ومظاهر العمران. وكان أكثر تلك القبائل العربية تأثرا بالحضارة ما نزل منها على تخوم الشام، لطول عهدها بالاحتكاك بحضارة الرومان، ففي المنطقة الممتدة من شمال الحجاز وخليج العقبة وحيث يقع الآن إقليم شرق الأردن، حتى منطقة دمشق نزلت قبائل من الأعراب تمت إلى عرب الجنوب بصلة وثيقة، ولم تلبث أن تكونت لها في موطنها الجديد وحدة جغرافية خاصة، ونشأت لها في ديارها هذه ثقافة العرب الجنوبيين.
अज्ञात पृष्ठ