وقد أشاع في كل أنحاء المدينة رجال يعملون على جمع الأموال بكل الوسائط الدنيئة الإشاعات المزعجة للخواطر بشأن نوايا الأتراك، فمتى علم الأهالي بأن أحد بواخرنا تقصد ميناء الأرخبيل تأتيني العائلات اليونانية وتسألني من كل جانب السفر على هذه البواخر، وقد يطول بي الأمر إذا أردت أن أشرح لسعادتكم كل الوسائل التي يمليها الشره وسوء القصد على رجال يعملون لجمع الأموال بدعوى الإنسانية، وأنه يجب أن يكون الإنسان هنا ليعتقد ذلك.
وقد استعملت هذه الوسائل في جهات مختلفة، وأهاج ثوار اليونان كل المسيحيين في البلاد اليونانية، إما بدعوى الدين، وإما بالتهديدات والإنذارات.
أما في الأرخبيل، فقد جعل اليونانيون همهم الأكبر السرقة واللصوصية والقتل والسلب والنهب، وقد كانت الدولة العلية استخدمت الكثيرين من أبناء اليونان في بحريتها ثقة منها بهم، كثقتها بكل رعاياها على اختلاف دياناتهم وأجناسهم. فلما قامت الثورة اليونانية ترك البحرية العثمانية كل اليونانيين الموظفين بها، فعاق ذلك الدولة العلية عن قمع الثورة في الأرخبيل كما قمعتها بعد في بلاد اليونان نفسها.
وقد قدمنا فيما سبق أن شيخ الإسلام أصدر منشورا بالآستانة نصح فيه المسلمين بالسكينة وعدم الاعتداء على الأبرياء من اليونانيين، وقلنا إن مكافأته من هؤلاء كانت القتل، وذلك أن المرحوم السلطان «محمود» عزله من منصبه لهياج الشعب ضده، فغادر الآستانة على باخرة عثمانية قاصدا بلاد الحجاز، ولما وصلت الباخرة الأرخبيل هجمت عليها بعض السفن اليونانية، وضايقتها من كل جانب حتى أسرتها وأخذت ما فيها من الأموال والخيرات، ولما رأى البحارة اليونانيون أن شيخ الإسلام وعائلته بين ركاب السفينة قبضوا على بناته وذبحوهن أمامه، وألقوا بهن إلى البحر، ثم قتلوا كل من بالسفينة على مشهد منه حتى صار وحده أمامهم، فقتلوه شر قتلة جزاء له على نصحه المسلمين بالسكينة وعدم الاعتداء على الأبرياء من بني اليونان! •••
وقد أحدثت مذابح اليونان تأثيرا شديدا في الروسيا، فقام القس ورجال الدين يحرضون الأهالي ورجال الحكومة على أن يطلبوا من القيصر الانتقام من الهلال للصليب، وطرد الأتراك المسلمين من بلاد اليونان المسيحية، ومع أن اليونانيين هم الذين اعتدوا على المسلمين وأتوا الفظائع الجسام فإن أنصار اليونان في أوروبا ملأوا الأرض بكاء وعويلا، واتهموا الدولة العلية بأنها تذبح الأبرياء وتسفك الدماء، فأرسل عندئذ القيصر «إسكندر» إنذارا للدولة العلية على يد سفيره بالآستانة المسيو «ستروجونوف» جاء فيه: «إن الباب العالي يجبر المسيحية على أن تتساءل إذا كانت تستطيع أن تنظر بغير حراك إلى إبادة أمة مسيحية، وترضى بهذه الإهانات الموجهة للدين المسيحي»، وطلب القيصر من الدولة العلية في مذكرته هذه طلبات ملؤها التهديد والوعيد.
وفي الوقت نفسه أرسل إلى الدول الأوروبية مذكرة يفسر فيها لها خطته وسلوكه، ويسألها عن الخطة التي تنوي كل واحدة منها اتباعها إذا قامت الحرب بين الروسيا والدولة العلية، وعلى أي صورة ترضى كل منها تقسيم الدولة العلية ...
فكان القيصر إسكندر الأول يريد بثورة اليونان تقسيم الدولة العلية وبلوغ أمانيه من الآستانة والبوسفور.
أما الدولة العلية، فقد أجابت على إنذار الروسيا بغاية الشرف والشهامة غير خائفة تهديدها ووعيدها. فترك عندئذ سفير الروسيا الآستانة، وأعلن في 8 أغسطس سنة 1821 انقطاع العلائق السياسية بين الدولتين، فلما رأت النمسا ذلك خافت النتائج الهائلة والعواقب الوخيمة التي تنتج عن الحرب بين تركيا والروسيا، واتفقت مع إنكلترا على مقاومة الروسيا ومعارضة أغراضها، واتحدت معها على منع الحرب بين الدولة العلية وبينها بكل الوسائل، فكتبت وزارة لوندرة كما كتبت وزارة فيينا إلى القيصر تعارض مشروعاته، وتعده بالتوسط مع النمسا لدى الباب العالي لنوال ترضية للروسيا، فقبل القيصر توسط النمسا وإنكلترا وأطاع نصائحهما، وبالفعل توصل ساسة النمسا وإنكلترا إلى منع الحرب بين الروسيا وتركيا.
ولا يحسبن القارئ أن توسط إنكلترا مع النمسا لمنع الحرب بين الدولة العلية والروسيا كانت تقصد به إنكلترا خدمة تركيا أو مساعدتها، بل الحقيقة أن الإنكليز لما رأوا الروسيا تسعى لجعل بلاد اليونان تحت حمايتها المعنوية واستخدامها في سبيل سياستها، قاموا في وجهها وردوها عن محاربة تركيا، ثم تظاهروا بعدئذ بنصرة اليونان أكثر منها حتى حول اليونانيون أنظارهم إلى بريطانيا، وصار للإنكليز النفوذ الأول في اليونان؛ حيث شكلوا في لوندرة الجمعيات العديدة لمساعدة اليونان ونصرتهم، ولم يتأخر ماليو إنكلترا عن تسليف مبالغ طائلة لحكومة اليونان الثوروية، فصارت إنكلترا بذلك أول عدوة للدولة العلية وأول دولة منتصرة لليونان.
وفي أوائل عام 1823 صار حاكم الجزائر اليونانية الإنكليزي الذي كان يعامل قبل هذا الحين ثوار اليونان بغاية القساوة والشدة يحميهم ويساعدهم، ويتركهم يتآمرون في جزائره ضد الدولة العلية.
अज्ञात पृष्ठ