في الشرع، وأحمد ﵀ أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ﵃ والتابعين لهم بإحسان ﵏ ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصًا كما يوجد لغيره، ولا يوجد قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه ما يوافق القول القوي وأكثر مغاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحًا انتهى كلامه ﵀.
وهو موافق لما ذكره صاحب الافصاح من أن القاضي عليه أن يتوخى أصابة الحق فيتوخى مواطن الاتفاق فيعمل بما اتفقوا عليه فان لم يكن الحكم متفقًا نظر فيما عليه الجمهور إذا لم يكن مع مخالفهم دليل فليس الناظر في كتب الخلاف ومعرفة الأدلة بخارج عن التقليد وليس في كلام صاحب الإفصاح ما يقتضي التمذهب بمذهب لا يخرج عنه بل كلامه صريح في ضد ذلك.
وهذه شبهة ألقاها الشيطان على كثير ممن يدعي العلم وصار بها أكثرهم فظنوا أن النظر في الأدلة أمر صعب لا يقدر عليه إلا المجتهد المطلق، وأن من نظر في الدليل وخالف إمامه لمخالفة قوله لذلك الدليل فقد خرج عن التقليد ونسب نفسه إلى الاجتهاد المطلق، واستقرت هذه الشبهة في قلوب كثير حتى آل الأمر بهم إلى أن ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ وزعموا أن هذا هو الواجب عليهم، وأن من انتسب إلى مذهب إمام فعليه أن يأخذ بعزائمه ورخصه وإن خالف نص كتاب أو سنة، فصار إمام المذهب عند أهل مذهبه كالنبي في أمته لا يجوز الخروج عن قوله، ولا تجوز مخالفته، فلو رأوا أحدا من المقلدين قد خالف مذهبه وقلد إمامًا آخر في مسألة لأجل الدليل الذي استدل به قالوا هذا قد نسب نفسه إلى الاجتهاد ونزل نفسه منزلة الأئمة المجتهدين، وإن كان لم يخرج عن التقليد وإنما قلد إمامًا دون إمام آخر لأجل الدليل وعمل بقوله تعالى: ﴿فإ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾
فالمتعصبون للمذاهب إذا وجدوا دليلًا ردوه إلى نص إمامهم فإن وافق الدليل نص الإمام قبلوه وإن خالفه ردوه واتبعوا نص الإمام، واحتالوا في رد الأحاديث بكل حيلة يهتدون إليها، فإذا قيل هذا حديث رسول الله ﷺ قالوا أنت أعلم بالحديث من الإمام الفلاني؟ مثال ذلك إذا حكمنا بطهارة بول ما يؤكل لحمه وحكم الشافعي بنجاسته وقلنا له قد دل على طهارته حديث العرنيين وهو حديث صحيح وكذلك حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم، فقال هذا المنجس لأبوال مأكول اللحم: أنت أعلم بهذه الأحاديث من الإمام الشافعي فقد سمعها ولم يأخذ بها؟ فنقول له قد خالف الشافعي في هذه المسألة من هو مثله أو أعلم منه كمالك والإمام أحمد رحمهما الله وغيرهما من كبار الأئمة، فنجعل هؤلاء الأئمة بازاء الشافعي ونقول إمام بإمام وتسلم لنا الأحاديث ونرد الأمر إلى الله والرسول عند تنازع هؤلاء الأئمة ونتبع الإمام الذي أخذ بالنص ونعمل بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ فنمتثل ما أمر الله به. وهذا هو الواجب علينا ولسنا في هذا العمل خارجين عن التقليد بل خرجنا عن تقليد إمام إلى تقليد إمام آخر لأجل الحجة التي أدلى بها من غير معارض
1 / 53