أخرى ثم فيك قوة ثالثة شريفة بها يباين الإنسان البهيمة تسمى عقلًا، ومحله إما دماغك أو قلبك وعند من يرى النفس جوهرًا قائمًا بذاته غير متحيّز محله النفس ولها أعني قوة العقل إدراك وتأثير بالتخيلات مباين لإِدراك التخيّل مباينة اشد من مباينة إدراك التخيّل لإدراك البصر، إذ لم يكن بين التخيل والإبصار فرق إلا أن وجود المبصر وحضوره كان شرطًا لبقاء الإبصار ولم يكن شرطًا لبقاء التخيل، وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبُعدٍ منك مخصوص، ويبقى في التخيل ذلك القدر وذلك البُعد وذلك الشكل والوضع، حتى كأنك تنظر إليه ولعمري فيك قوة رابعة تُسمى المفكّرة شأنها أنها تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر، ولكن إذا حضر في الخيال صورة الإنسان قدر أن يجعله بنصفين فيصور نصف إنسان، وربما ركب شخصًا نصفه من إنسان ونصفه من فرس، وربما صور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحدَّه وصورة الطيران وحدّه، وهذه القوة تجمع بينهما كما تفرق نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال، بل كل تصرفاتها بالتفريق والتأليف في الصورة الحاصلة في الخيال. والمقصود أن مباينة إدراك العقل الأشياءَ لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيل للإبصار، إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العرية عن القرائن العربية التي ليست داخلة في ذاتها، أعني الذي ليست ذاتية لها كما سبق. فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص من الجسم ووضع مخصوص منك بقرب أو بُعد. ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل، فإن المثلث له شكل واحد صغيرًا كان أو كبيرًا، وإنما إدراك هذه المفردات المجردة ليس إلا بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلًا فيدرك ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجرّدة ويدرك الحيوانية والجسمية مجرّدة، وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره التفات إلى العاقل وغير العاقل، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين، وحيث يستمر في نطره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضره معنى السوادية والبياضية وغيرهما، وهذا من عجيب خواصهما وبديع أفعالهما، فإذا رأى فرسًا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت والبعيد منك في المكان والقريب، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة منزهًا عن كل قرينة ليست ذاتية له. فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيًا بل عارضًا أو لازمًا في الوجود، إذ مختلفات القدر واللون تشترك في حقيقة الفرسية. وهذه المطلقات المجردة
1 / 213