مقدمة تحصر مقصود الكتاب وترتيبه وأقسامه
اعلم أنك إن التمست شرط القياس الصحيح والحد الصحيح والتنبيه على مثارات الغلط فيها وقفت للجمع بين الأمرين، فإنها رباط العلوم كلها. فإن العلوم إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحادث والقديم وسائر المفردات وإدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى البعض بالنفي والإثبات. فإنك تعلم أولًا معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد ومعنى لفظ الحادث ومعنى لفظ القديم وهما أيضًا أمران مفردان، ثم تنسب مفردًا إلى مفرد بالنفي كما تنسب القِدم إلى العالم بالنفي، فتقول ليس العالم قديمًا وتنسب الحادث إليه بالإِثبات فتقول العالم حادث والضرب الأخير هو الذي يتطرق إليه التكذيب والتصديق، فأما الأول فلا يدخله تصديق وتكذيب، إذ يستحيل التصديق والتكذيب في المفردات بل إنما يتطرق ذلك إلى الخبر ولا ينتظم خبر إلا بمفردين موصوف ووصف، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات فلا بأس أن يُصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين. فإن حق الأمور المختلفة أن تختلف ألفاظها إذ الألفاظ مثل المعاني فحقها أن يحاذي بها المعنى فلنسمِ الأول معرفة ولنسمِ الثاني علماَ، متأسين فيه بقول النحاة: إن المعرفة تتعدّى إلى مفعول واحد إذ تقول عرفت زيدًا، والظن يتعدّى إلى مفعولين إذ تقول ظننت زيدًا عالمًا. والعلم أيضًا يتعدى إلى مفعولين فتقول علمت زيدًا عدلاَ، فهو من باب الظن لا من باب المعرفة. هذا هو الوضع اللغوي وإن كانت عبارة أهل النظر بهما تخالفه في استعمال أحدهما بدلًا عن الآخر. فإذا استقر هذا الاصطلاح فنقول الإدراكات المعلومة تنحصر في المعرفة والعلم. وكل علم يتطرق إليه التصديق فمن ضرورته أن تتقدم عليه معرفتان، فإن من لا يعلم المفرد كيف يعلم المركب، ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث. والمعرفة قسمان: أولى وهو الذي لا يطلب بالبحث كالمفردات المدركة بالحس، ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل فيطلب تفصيله. وكذلك العلم ينقسم إلى أولي وإلى مطلوب. فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس؛ وكأن طالب القياس والحد طالب الآلة التي بها تقتنص العلوم والمعارف كلها. فليكن كتابنا قسمين قسم هو محل القياس وقسم هو محل الحد.
1 / 203
القول في شروط القياس
اعلم أن القياس عبارة عن أقاويل مخصوصة أُلفت تأليفًا مخصوصًا ونُظمت
1 / 204
نظمًا مخصوصًا بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر، والخلل يدخل عليه تارة من الأقاويل التي هي مقدمات القياس إذ تكون خالية عن شروطها وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية، ومرة منهما جميعًا. ومثاله في المحسوس البيت المبني فإنه أمر مركّب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف، بأن تكون الحيطان معوجة والسقف منخفضًا إلى موضع قريب من الأرض، فيكون فاسدًا من حيث الصورة، وأن كانت الأحجار والجزوع وسائر الآلات صحيحة. وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها، ولكن يكون الاختلال من رخاوة في الجزوع وتشعث في اللبنات. فهذا حكم القياس والحد وكل أمر مركب، فإن الخلل فيه إما أن يكون في هيئة تركيبه وترتيبه وأما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب، كالثوب في القميص والخشب قي الكرسي واللبن في الحائط والجذوع في السقف. وكما أن من يريد بناء بيت بعيد من الخلل يفتقر إلى أن يعذ الآلات المفردة أولًا، كالجذوع واللبن والطين، ثم إذا أراد اللبن يفتقر إلى إعداد مفرداته وهو الماء والتراب والقالب الذي فيه يضرب فيبتدئ أولًا بالأجزاء.المفردة فيركبها ثم يركّب المركب، وهكذا إلى آخر العمل، فكذلك طالب القياس ينبغي أن ينظر في نظم القياس وفي صورته وفي الأمر الذي يضع الترتيب والنظم فيه، وهي المقدمات. وأقل ما ينتظم منه قياس مقدمتان أعني علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب. واقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مُخبرًا عنه والأخرى خبراَ أو وصفًا. فقد انقسم القياس إلى مقدمتين، وانقسمت كل مقدمة إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى، وكل مفرد فهو معنى ويُدل عليه لا محالة بلفظ. فيجب ضرورة أن ينظر في المعاني المفردة وأقسامها، وفي الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها. ثم إذا فهمنا اللفظ مفردًا والمعنى مفردًا
1 / 205
ألفنا معنيين وجعلناهما مقدمة، وننظر في حكم المقدمة وشرطها ثم نجمع مقدمتين فنصوغ منهما قياسًا، وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة. وكل من أراد أن يعرف القياس بغير هذا الطريق فقد طمع في محال، وكان كمن طمع في أن يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتبة الكلمات، أو يطمع أن يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتبة الحروف المفردة، وهكذا القول في كل مركب. فإن أجزاء المركب تتقدم على المركب بالضرورة حتى لا يوصف الله تعالى بالقدرة على خلق العالم المركب دون الآحاد، كما لا يوصف بالقدرة على تعليم كتبة الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات والحروف، فهذه الصورة ينبغي أن تشمل كلامنا.
القياس على ثلاثة فنون
الفن الأول: في السوابق
وهو النظر في الألفاظ ثم في المعاني ثم في تأليف مفردات المعاني إلى أن تصير علمًا تصديقيًا يصلح أن يجعل مقدمة.
الفن الثاني: النظر في كيفية تأليف المقدمات
لينصاغَ منها صحيح النظم وهو في المقاصد، فإن ما قبله استعداد له. ويشتمل هذا الفن على مدارك العلوم اليقينية الأولية التي منها التأليف ونسبتها إلى القياس نسبة الثوب إلى القميص.
الفن الثالث: في لواحق ينعطف عليها بالكشف عند الفراغ منها تبتدي بالنظر في الحدود وشروطها.
1 / 206
الفن الأول
في السوابق وفيه ثلاثة فصول
فصل في الألفاظ.
فصل في المعاني.
فصل في تأليف المعاني.
حتى تصير علماَ يتطرق إليه التصديق والتكذيب.
الفصل الأول:
في دلالة الألفاظ على المعاني
إعلم وفقك الله أن الكلام في هذا الفن يطول ولكن لا أتعرض لما أظنك مستقلاَ بإدراكه من نفسك، وأقتصر على التنبيه على تقسيمات تثور من إهمالها أغاليط كثيرة.
القسم الأول: إن دلالة اللفظ على المعنى ينحصر في ثلاثة أوجه: وهي المطابقة والتضمن والالتزام. فإن لفظة البيت تدل على معنى البيت بطريق المطابقة، وتدل على السقف وحده بطريق التضمن. فإن البيت يتضمن السقف لأن البيت عبارة عن السقف والجدران. وكما يدل لفظ الفرس على الجسم إذ لا فرس إلا وهو جسم، إذ وجدنا الجسمية في الفرسية مهما قلنا فرس. فلنصطلح على تسمية هذا الوجه تضمّنًا وعلى تسمية الوجه الأول مطابقة.
وأما طريق الالتزام: فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط، فإنه غير موضوع للحائط وضع لفظ لحائط حتى يكون مطابقًا له، ولا بتضمن. إذ ليس الحائط جزءًا من السقف كما كان السقف جزءًا من نفس البيت، وكما كان الحائط جزءًا من نفس البيت، لكنه كالرفيق اللازم الخارج من ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه، فدلالته على نمط أخر. فلنخترع له لفظًا آخر وهو الالتزام والاستتباع. وإياك أن تستعمل في نظر العقل من الألفاظ ما يدل بطريق الالتزام أو تمكن خصمك بل اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة أو التضمن. فإن الدلالة بطريق الالتزام لا
1 / 207
تنحصر في حدٍ، إذ الحائط يلزم السقف والأس يلزم الحائط والأرض تلزم الأس ويتداعى هذا إلى غير نهاية.
القسم الثاني: إن اللفظ بالإضافة إلى خصوص المعنى وشموله ينقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة نسميه معينًا وإلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد نسقيه مطلقًا، مثال الأول قولك زيد وهذا الفرس وهذه الشجرة، فإنه لا يدل إلا على شخص معيّن، وكذلك قولك هذا السواد وهذه الحركة وحده إنه اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه. فإن قصد اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم اللفظ منه. وأما المطلق فهو الذي لا يمنع نفس مفهوم اللفظ من وقوع الاشتراك في معناه، كقولك السواد والحركة والإنسان، وبالجملة الإسم المفرد في لغة العرب إذا أُدخل عليه الألف واللام كان لاستغراق الجنس. وقد يسقى لفظًا عاماَ، ويقال الألف واللام للعموم، فإن قيل كيف يستقيم هذا ومن يقول الإله أو الشمس أو الأرض فقد أدخل الألف واللام، ولا يدل اللفظ إلا على وجود معيّن خاص لا شركة فيه.
فاعلم أن هذا الوهم غلط فان امتناع الشركة هاهنا ليس لنفس اللفظ بل الذي وضع اللغة لو جوّز في الآلهة عددًا لكان يرى هذا اللفظ عاما في الالهة، فحيث امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ بل لاستحالة وجود إلَه ثان، فلم يكن المانع نفس مفهوم اللفظ يل المانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة. فإن فرضنا عوالم وفي كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملًا للكل فتأمل هذا. فإن من له قدم في جملة الأمور النظرية ولا يفرّق بين قوله السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم شهوة في النظريات من حيث لا يدري.
القسم الثالث: إن الألفاظ المتعدّدة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل، فلنخترع لها أربعة ألفاظ: وفي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة.
أما المترادفة: فنعني بها الألفاظ المختلفة في الصيغة المتواردة على مسمى واحد كالخمر والعقار والليث والأسد والسهم والنشاب، وبالجملة كل إسمين عبّرت بهما عن معنى واحد فهما مترادفان.
وأما المتباينة: فنعني بها الأسامي المختلفة المعاني كالسواد والقدرة والأسد والمفتاح والسماء والشجر والأرض وسائر الأسامي، وهي الأكثر. وأما المتواطئة: فهي الأسامي التي تطلق على أشياء متغايرة بالعدد ولكنها متّفقة بالمعنى الذي وضع له، كاسم الرجل فإنه يطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد وكاسم الجسم فإنه يطلق على الإنسان والسماء والأرض لاشتراك هذه الأعيان في معنى الجسمية التي
1 / 208
وضع بإزائها. فكل اسم مطلق ليس بمعين كما سبق فانه يُطلق على آحاد مسمّياته الكثيرة بطريق التواطئ. فاسم اللون للبياض والسواد بطريق التواطئ، فأنها متفقة في المعنى الذي سُقي به اللون لونًا وليس بطريق الاشتراك البتة.
وأما المشتركة: فهي الأسامي التي تُطلق على، مسمّيات مختلفة لا تشترك بالحد والحقيقة، كاسم العين للعضو الباصر وللميزان وللموضع الذي ينفجر منه الماء، وهي العين الفوَّارة، وللذهب والشمس وكاسم المشتري لقابل عقد البيع والكوكب الذي هو في السماء المعدود عند المنجمين من السعود. ولقد ثار من التباس المشتركة بالمتواطئة غلطٌ كثير في العقليات، حتى ظن جماعة من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من الإسم، وأن ذلك كمشاركة الذهب للحدقة إلباصرة في اسم العين وكمشاركة قابل البيع للكوكب في اسم المشتري. وبالجملة الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم فلنزد له شرطًا. ونقول الإسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرنا وقد بدل على المتضادين ولا شركة بينهما البتة، كالجليل للحقير والخطير والناهل للعطشان والريان والجون للأسود والأبيض والقرء للطهر والحيض، وأيضًا المشترك قد يكون مشككًا قريب الشبه من المتواطئ ويعسر الفرق على الذهن وإن كان في غاية الصفاء، ولنسّم ذلك متشابهًا، وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء الذي يدرك بحاسة البصر من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدي في الغوامض ولا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للإنسان في كونه جسما، إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتة مع أنه ذاتي لهما ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان، فإنه بالاشتراك المحض، إذ يُراد به من النبات المعنى الذي به نماؤه ويُراد به من الحيوان المعنى الذي به يحسّ ويتحرك بالإِرادة وإطلاقه على الباري جلَّ وعلا إذا تأملت عرفت بأنه لوجه ثالث يخالف الأمرين جميعا. وأمثال هذه ينابيع الأغاليط وساشرحه زيادة شرح في اللواحق عند حصر مدارك الغلط في القياس.
" مغلطة أخرى " قد تلتبس المتباينة بالمترادفة وذلك مهما أطلقت أسامي مختلفة على شيء ولكن باعتبارات مختلفة ربما ظن أنها مترادفة كالسيف والمهنّد والصارم، فإن المهنّد يدلّ على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند، يخالف إذًا مفهومه مفهوم السيف والصارم والصارمُ يدلّ على السيف مع صفة الحدة والقطع، لا كالليث والأسد فإن ثبت ان الليث يدل على صفة ليست في الأسد التحق بالمتباينة ولم يكن مع المترادفة، وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نفتكر إلى تبديل الأسامي على شيء واحد عند تبديل
1 / 209
اعتباراته، كما إنا نسمّي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدّى به المتحدّي ولم يكن عليه برهان وكان في مقابلة القائل خصم فان لم يكن في مقابلته خصم سقيناه قضية لأنه قض على شيء بشيء، فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سقيناه نتيجة، فإن استعمله دليلًا في طلب آمر آخر ورتّبه في أجزاء قياس سقيناه مقدمة وهذا ونظائره مما يذكر كثير.
" مغلطة أخرى " المشترك في الأصل هو الاسم الذي يعبّر به عن مسميين لا يكون موضوعا لأحدهما ومستعارا منه للآخر أو منقولًا منه إلى الآخر بل لا يكون أحدهما بأن يجعل أصلا والأخر منقولًا إليه أو مستعارًا منه باولى من نقيضه كلفظ المشتري، إذ لا يمكن أن يقال استعير الكوكب من العاقد أو العاقد من الكوكب أو وضع لأحدهما أولاَ ثم حدث الثاني بعده.، وكذلك لفظ المفعول والفاعل فيما لا يختلف تصريفه كقولك اختار يختار اختيارًا فهو مختار وذلك مختار، فالفاعل والمفعول لهما صيغة واحدة وليس اللفظ بأحدهما هو أولى من الآخر، وليس كذلك لفظ الأم ل (حوّاء) فإنها أم البشر، والأرض فإنها تسقى أم البشر ولكن الأول بالوضع والثاني بالاستعارة. ولا كذلك الألفاظ التي نقلت وغيّرت كلفظ المنافق والفاسق والكافر والملحد والصوم والصلاة وسائر الألفاظ الشرعية فإنها مشتركة لأمرين مختلفين، ولكن لبعضها أول ولبعضها ثان، أي منقول من البعض إلى البعض. فالأول منقول عنه والثاني منقول إليه. وقد حصل مقصود الاشتراك وإن كان على الترتيب، كما حصل في لفظ العاقد والكوكب وإن لم يكن على الترتيب، مثال الغلط في المشترك حتى تستدل به على غيره إن الحال ليس يحتمل استقصاء هذه المفاضة. م أما سمعت الشافعي ﵁ في مسألة لمُكره يقول يُلزمُ القَصاص لأنه مُكْرَه مختار. ويكاد الذهن ينبو عن التصديق بالضدين فإنه محال. فنرى الفقهاءَ يعثرون فيه ولا يهتدون إلى حله وإنما ذلك لأن لفظ المختار مشترك، إذ قد يحمل لفظ المختار مرادفًا للفظ القادر ومساويًا له إذا قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة، كالمحمول فنقول هذا عاجز محمول هذا مختار قادر ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل والترك، وهذا يصدق على المُكرَه. وقد يعبر بالمختار عمّن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته ولا تحرر دواعيه من خارج، وهذا يكذب على المُكرَه ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه، فإذا صدق أنه مختار وصدق أنه ليس بمختار ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت. ولهذا نظائر في النظريات لا تحص تاهت بسببها عقول
1 / 210
الضعفاء فاستدل بهذا اليسير على الكثير. فإن الخال ليس يحتمل التطويل وأقنع بهذا القدر من النظر في دلالات الألفاظ وإن كان فيها مباحث سواه.
الفصل الثاني:
في النظر في المعاني المفردة
ولنقتصر فيه على ثلاث تقسيمات جلية: التقسيم الأول: إن المعاني التي يُدَلُ عليها بالألفاظ إذا نُسِبَ بعضها إلى بعض وُجِدَ إما مساوياَ لها وإما أعم منها وإما أخصّ منها، وهذا ممّا يحتاج إلى معرفته في القياس. فإذا نسبت الجسم إلى المتحيز وجدته مساويا لا يزيد ولا ينقص، إذ كل جسم متحيز وكل متحيّز جسم، هذا على رأي من يقول إن كل متحيز منقسم. وأما نحن فننسب التحيّز إلى الجوهر فنرى التحيز مساويا له. وأما إذا نسبنا الوجود إلى الجسم وجدناه أعم منه، فربّ موجود ليس بجسم. وأما إذا نسبنا الحركة إلى الجسم وجدناها أخص منه، مربّ جسم ليس بمتحرك بالفعل كالأرض عند عدم الزلزلة.
التقسيم الثاني: المعنى إذا نسب إلى المعنى وجدناه إما ذاتيًا له ويُسقى صفة النفس وإما لازمًا ويُسقى وصفًا لازماَ وإما عارضًا له لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود. ولا بدّ من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في القياس والحد جميعًا.
أما الذاتي: فإني أعني به كل شيء داخل في حقيقة الشيء وماهيته دخولًا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه، وذلك كاللونية للسواد وكالجسمية في الفرس والشجر. فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصًا. فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولًا به قِوامها في الوجود والعقل على وجه لو قدّر عدمها لبطل وجود الشجر والفرس وما يجري هذا المجرى. ولا بدّ من إدراجه في حدّ الشيء فمن يحدّ النبات يلزمه أن يقول إنه جسم نامي لا محالة.
وأما الالتزام: فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية
1 / 211
غير موقوف عليه، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات عند طلوع الشمس. فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعتر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده، ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له، وأعني به أن فهم كُنه حقيقته غير موقوف على فهم ذلك، بل الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل الجسم الذي هو أعم منه، ولم يخطر بباله ذلك، وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا تتصور مفارقته لها، ولكن فهم الأرض غير موقوف على كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعدُ أنهما مخلوقتان. فإنا نعلم أولًا حقيقة الجسمية ثم نطلب بالدليل كونه مخلوقًا ولم يمكنا أن نعلم السماء والأرض ما لم نعلم الجسم.
وإما العارض فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل تتصور مفارقته إما سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب، وربما لا يزول في الوجود كزرقة العواد وسواد الزنجي، ولكن يمكن رفعه في الوهم. وأما كون الأرض مخلوقة وكون الجسم الكثيف ذا طل مانع نور الشمس فلازم لا تتصور مفارقته. ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة واستقصاؤه في هذه العجالة غير ممكن البتة.
التقسيم الثالث: إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة. ولنصطلح على تسمية سبب الإدراك قوة فنقول في حدقتك معنى تتميز به الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر به، وإذا بطل ذلك من الأعمى بطل الإبصار، والحالة التي تدركها عند الإبصار شرطها وجود المبصر. فلو انعدم المبصر بقيت صورته في دماغه وتلك الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل وعدمه لا ينفي الحالة المسمّاة تخيلًا وينفي الحالة المسمّاة إبصارًا، ولما كنت تحس في التخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في هذا الدماغ غريزة وصفةَ بها تهيأ للتخيل وبها باين البطن والفخذ كما باينت العين الجبهة والعقب في الإبصار بمعنى اختص به لا محالة. والصبي في أول نشؤه تقوى به قوة الإبصار دون قوة التخيّل. ولذلك إذا أولع بشيء فغيبته عنه وشغلته بغيره اشتغل به، وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للخيال ولا يفسد الإبصار فيرى الشيء، ولكن كلما يغيب عن عينه فينساه، وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الإنسان، ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكّر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق وأنه مستلذ لديه فبادر إليه، ولو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته له ثانيًا كرؤيته له أولا، حتى لا يبادر إليه ما لم يجده بالذوق مرة
1 / 212
أخرى ثم فيك قوة ثالثة شريفة بها يباين الإنسان البهيمة تسمى عقلًا، ومحله إما دماغك أو قلبك وعند من يرى النفس جوهرًا قائمًا بذاته غير متحيّز محله النفس ولها أعني قوة العقل إدراك وتأثير بالتخيلات مباين لإِدراك التخيّل مباينة اشد من مباينة إدراك التخيّل لإدراك البصر، إذ لم يكن بين التخيل والإبصار فرق إلا أن وجود المبصر وحضوره كان شرطًا لبقاء الإبصار ولم يكن شرطًا لبقاء التخيل، وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبُعدٍ منك مخصوص، ويبقى في التخيل ذلك القدر وذلك البُعد وذلك الشكل والوضع، حتى كأنك تنظر إليه ولعمري فيك قوة رابعة تُسمى المفكّرة شأنها أنها تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر، ولكن إذا حضر في الخيال صورة الإنسان قدر أن يجعله بنصفين فيصور نصف إنسان، وربما ركب شخصًا نصفه من إنسان ونصفه من فرس، وربما صور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحدَّه وصورة الطيران وحدّه، وهذه القوة تجمع بينهما كما تفرق نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال، بل كل تصرفاتها بالتفريق والتأليف في الصورة الحاصلة في الخيال. والمقصود أن مباينة إدراك العقل الأشياءَ لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيل للإبصار، إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العرية عن القرائن العربية التي ليست داخلة في ذاتها، أعني الذي ليست ذاتية لها كما سبق. فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص من الجسم ووضع مخصوص منك بقرب أو بُعد. ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل، فإن المثلث له شكل واحد صغيرًا كان أو كبيرًا، وإنما إدراك هذه المفردات المجردة ليس إلا بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلًا فيدرك ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجرّدة ويدرك الحيوانية والجسمية مجرّدة، وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره التفات إلى العاقل وغير العاقل، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين، وحيث يستمر في نطره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضره معنى السوادية والبياضية وغيرهما، وهذا من عجيب خواصهما وبديع أفعالهما، فإذا رأى فرسًا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت والبعيد منك في المكان والقريب، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة منزهًا عن كل قرينة ليست ذاتية له. فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيًا بل عارضًا أو لازمًا في الوجود، إذ مختلفات القدر واللون تشترك في حقيقة الفرسية. وهذه المطلقات المجردة
1 / 213
الشاملة لأمور متخيّلة هي التي يعبّر عنها المتكلمون بالوجوه أو الأحوال أو الأحكام، ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة، ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان. وتارة يعبّرون عنها بأنها غير موجودة في خارج بل في داخل يعني خارج الذهن وداخله. ويقول أرباب الأحوال أنها أمور ثابتة ثم
تارةرة يقولون أنها موجودة معلومة وأخرى يقولون لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، وقد دارت فيه رؤوسهم وتاهت عقولهم، والعجب انه أول منزل ينفصل به المعقول عن المحسوس. إذ من ها هنا يأخذ العقل ألإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك هذا التخيل البهيمي التخيل الإنساني ومن تحيّر في أول منزل من منازل تصرف العقل كيف يُرجى فلاحه في تصرفاته الغامضة، ومن التبس عليه قول القائل إن السواد والبياض يشتركان في أمر معقول هو اللونية والوجود ويختلفان في أمر ذاتي، وما فيه الاختلاف بالضرورة غير ما فيه الاشتراك. إذ ليس هذا اشتراكًا في مجرد الاسم كاشتراك العائد والكوكب في اسم المشتري، وان هذه الغيرية معلومة على القطع إلى أن يبحث عن حقيقتها أنها تباين في الوجود أو تباين في العقل، وهو من خواص العقل. فمن التبس عليه هذا كيف يتضح له أمر من الغوامض ولنتجاوز هذه المغاصّة فإن كشف غطائها يقرع أبوابًا مغلقة على أكثر التضاد ولا يمكن التكفل ببيانه مع ما نحن بصدده من الاختصار. يقولون أنها موجودة معلومة وأخرى يقولون لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، وقد دارت فيه رؤوسهم وتاهت عقولهم، والعجب انه أول منزل ينفصل به المعقول عن المحسوس. إذ من ها هنا يأخذ العقل ألإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك هذا التخيل البهيمي التخيل الإنساني ومن تحيّر في أول منزل من منازل تصرف العقل كيف يُرجى فلاحه في تصرفاته الغامضة، ومن التبس عليه قول القائل إن السواد والبياض يشتركان في أمر معقول هو اللونية والوجود ويختلفان في أمر ذاتي، وما فيه الاختلاف بالضرورة غير ما فيه الاشتراك. إذ ليس هذا اشتراكًا في مجرد الاسم كاشتراك العائد والكوكب في اسم المشتري، وان هذه الغيرية معلومة على القطع إلى أن يبحث عن حقيقتها أنها تباين في الوجود أو تباين في العقل، وهو من خواص العقل. فمن التبس عليه هذا كيف يتضح له أمر من الغوامض ولنتجاوز هذه المغاصّة فإن كشف غطائها يقرع أبوابًا مغلقة على أكثر التضاد ولا يمكن التكفل ببيانه مع ما نحن بصدده من الاختصار.
الفصل الثالث:
من فن السوابق في أحكام السوابق
المعاني المؤلّفة تأليفا يتطرق إليه التصديق والتكذيب
كقولنا مثلًا العالم حادث والبارئ تعالى قديم، فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردين ونسبة أحدهما إلى الآخر بالإثبات، فإن قلت العالم ليس بقديم والباري ليس بحادث كانت النسبة نسبة النفي. وقد التئم هذا القول من جزئين يُسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرًا، ويُسمي المتكلمون أحدهما موصوفًا والآخر صفة، ويُسمي الفقهاء أحدهما حكمًا والآخر محكومًا عليه، ويُسمي المنطقيون أحدهما موضوعًا وهو المخبر عنه والآخر محمولًا وهو الخبر، ولنصطلح نحن على تسمية الفقهاء فنسمّيهما حكمًا ومحكومًا عليه ولنسمِّ مجموع الحكم والمحكوم عليه قضية ولنسميهما إذا استعملناهما في سياق قياس مقدمةً، فإذا استفدناهما من قياس نتيجةً. وما دام غير مستنتج من القياس دعوى إن كان لنا خصم ومطلوبًا إن لم يكن لنا خصم. فإن هذه الاصطلاحات إذا لم تتحرر اختبطت المخاطبات والتعليمات بل ربما اضطرب الفكر
1 / 214
على الناظر المنفرد بنفسه. فإن فكر الناظر أيضًا لا ينتظم إلا بألفاظ وآمال يرتبها في نفسه. ولنذكر من أحكام القضايا وأقسامها ما يليق بهذا الإيجاز ويتضح الغرض بتفصيلات أربعة:
التفصيل الأول
إن القضية بعد انقسامها إلى النافية مثل قولنا العالم ليس بقديم وإلى المثبتة مثل قولنا العالم حادث تنقسم بالإضافة إلى المحكوم عليه إلى التعيين والخصوص والعموم والإِهمال والقضايا بهذا الاعتبار أربعة: الأولى: قضية في عين كقولنا زيد كاتب وهذا السواد المشار إليه باليد عرض.
الثانية: قضية مطلقة خاصة كقولك بعض الناس كاتب وبعض الأجسام ساكن.
الثالثة: قضية مطلقة عامة كقولك كل جسم متحيّز وكل سواد لون وكل حركة عرض.
الرابعة: قضية مهملة كقولنا الإِنسان في خسر، وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عينًا مشارًا إليه أو لا يكون عينًا. فإن لم يكن عينًا فإما أن يحصر بسور بين مقداره بكلية فتكون مطلقة عامة أو بجزئية فتكون مطلقة خاصة أو لا يحصر بسور بل بمهمل. والسور هو قولك كل وبعض وما يقوم مقامهما، فإن سكت عنهما بقيت القضية مهملة، ومن طرق المغالطين المحتالين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة. فإن المهملات قد يعني بها الخصوص فيصدق طرف النقيض فيها إذ قد يقال ليس الإِنسان في خسر ويراد به الأنبياء والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد يقال الإِنسان في خسر ويراد به أكثر الخلق. فإياك وأن تسامح بهذا في النظريات فتغلط، ومثاله من الفقه إن طلبت استيضاحًا أن يقول الشافعي مثلًا معلوم أن المطعوم ربويّ والسفرجل مطعوم فليكن ربويًا. فإذا قيل فلِمَ قلت إن المطعوم ربوي فيقول الدليل عليه أن البُر والشعير والتمر والرز مطعومات وهي ربوية، فينبغي أن يقال له قولك العموم ربويَ أردت به كل المطعومات أو بعضها، فإن أردت به البعض لم تلزم النتيجه. إذ يمكن أن يكون السفرجل من البعض الذي ليس بربوي، ويكون هذا خللًا في نظر القياس مُخرجًا له عن كونه منتجًا كما سيأتي وجهه. وإن أردت به الكل فمن أين عرفت هذا وليس يظهر هذا بما ذكرته من البُر والشعير والتمر والرز ما لم تبتين أن كل المطعومات ربويّة، وهذا المثال وإن كان في هذا المقام واضحًا فإنه يتفق في أمثاله عند تراكم الأقيسة صور غامضة يجب الاحتراز عنها.
1 / 215
التفصيل الثاني
إن الحكم المنسوب إلى المحكوم عليه في القضية لا يخلو عن ثلاثة أقسام: وهي الإِمكانُ والوجودُ والاستحالةُ. مثال الحكم الذي نسبته نسبة الإمكان قولك الإِنسان كاتب الإِنسان ليس بكاتب، إذ الكتابة بالإضافة في حيّز الإِمكان. ومثال الواجب قولك السواد لون والسواد ليس بلون، إذ نسبة اللون إلى السواد نسبة الوجوب والضرورة. ومثال الممتنع قولك السواد علم والسواد ليس بعلم والإنسان حجر والإِنسان ليس بحجر. فإن قلت لا استحالة في قولك الإِنسان ليس بحجر بل هو واجب ولا وجوب في قولك السواد ليس بلون بل هو ممتنع فكيف جمعت بين النفي والإِثبات؟ فاعلم أني لم أقصد ذكر الامتناع والوجوب في جملة القضية المسلّمة على الحكم والمحكوم عليه ولكني أخذت الحكم مفردًا وبيّنت نسبته إلى المحكوم عليه. ثم القضية قِد تتضمن النفي والإثبات ويكون بعضه صادقًا وبعضه كاذبًا وليس الغرض ذلك.
التفصيل الثالث في بيان نقيض الفضية
وهذا ممّا يحتاج إليه، إذ ربّ مطلوب لا يقوم على نفسه دليل ولكن يقوم الدليل على بطلان نقيضه فيتسلق من إبطاله إلى إثبات نقيضه، فلا بد من معرفته. وربما يظن أن نقيض
1 / 216
القضية جلي لا يحتاج إلى البيان، ومع ذلك فإنه مثار لجملة من الأغاليط لا تحصى، فإن الأمور في أوائلها تلوح جلية ولكن إذا لم يهتم الناظر بتنقيحها وتحقيقها اعتاص عليه التفصيل بين القضيتين المتنافيتين. وأعني بالقضيتين المتنافيتين كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة، كقولنا العالم حادث العالم ليس بحادث، وهما قضيتان تصدق إحداهما وتكذب الأخرى، وإنما يلزم صدق إحداهما من كذب الأخرى بستة شروط.
1 / 217
الأول: أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحدًا بالذات لا بمجرد اللفظ، فإن اتحد الاسم دون المعنى لم يتناقضا، كقولك النور مدركٌ بالبصر النور ليس بمدرك بالبصر، فهما صادقان إن أردت بأحدهما الضوء وبالآخر نور العقل، وكذلك لا يتناقض، قول الفقهاء المضطر مختار المضطر. ليس بمختار في مسئلة المُكْره، وقولهم المضطر آثم المضطر غير آثم إذ المضطر قد يعبّر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل فالاسم متحد والمعنى مختلف.
الثاني: أن يكون الحكم واحدًا والإِثم متناقضًا كقولك العالم قديم العالم ليس بقديم، وأردت بأحد القديمين ما أراد الله تعالى بقوله (كالعرجون القديم) وكذلك أيضًا لم يتنافى قول الخصمين المُكْره مختار والمُكْره ليس بمختار، إذ ذكرتا أن المختار عبارة عن معنيين مختلفين.
الثالث: أن تتحد الإضافة قي الأمور الإضافية فإنك لو قلت زيد أب زيد ليس بأب لم يتناقض، إذ يكون أبًا لبكر ولا يكون أبًا لخالد، وكذلك تقول زيد أب، زيد ابن، فيكون أبًا لشخص وابنًا لآخر، والعشرة نصف والعشرة ليست بنصف أي هي نصف العشرين. وليست نصف الثلاثين. وفي النظريات الفقهية والعقلية أغاليط كثيرة هذا منشأها كقولك المرأة مولّى عليها المرأة ليس بمولّى عليها وهما صادقتان بالإضافة إلى النكاح والبيع وإلى العصبة والأجنبي.
الرابع: أن يتساويا في القوة والفعل فإنك تقول الماء في الكوز مروٍ بالقوة وليس بمروٍ بالفعل وهما صادقتان، والسيف بالغمد صارم وليس بصارم وهما صادقتان، والفاسق شاهد وليس بشاهد. ومن هذا خلط المختلفون في أن الله تعالى في الأزل خالق وأن الله تعالى في الأزل ليس بخالق.
الخامس: التساوي في الجزء والكل فإنك تقول الزنجي أسود الزنجي ليس بأسود أي أسود البشرة ليس بأسود الأسنان فيصدقان. وعن هذا الغلط تخيل من بعد عن التحصيل أن العالمية حال بجملة زيد إذا قلنا زيد عالم وزيد عبارة عن جملته، ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد لم نرد به أنه في كل البلد بل في بعضه، وان كانت بغداد عبارة عن كل البلد. ولكن أعني بالعادة والحس بيان أن زيدًا في بغداد في مكان يساوي مساحة بدنه، وكذلك أعني وضوح الأمر إذ تقول إن زيدًا عالم بحر لا يجري من قلبه أو دماغه.
السادس: التساوي في الزمان والمكان فإنك تقول العالم حادث العالم ليس
1 / 218
بحادث وهما صادقان، ولكنه حادث عند أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده بل قبله معدوم وبعده باق، وتقول الصبي ينبت له أسنان الصبي لا ينبت له أسنان ونعني بأحدهما السنة الأولى وبالآخر بعده ولا ينبغي أن نطول بتحديد الشروط والأمثلة فلنجمل له ضبطًا وهو أن القضية المناقضة هي التي تسلب مثلًا ما تثبته الأولى بعينه أو تثبت ما سلبته الأولى ونفته، وفي ذلك الوقت والمكان والحال وتلك الإضافة بعينها، وبالقوة إن كان ذلك بالقوة وبالفعل إن كان ذلك بالفعل. وكذا في الجزء والكل. ويحصل ذلك بان لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبديل النفي بالإثبات فقط هذا إذا كانت القضية قضية في عين، فإن كانت عامة زادت شريطة أخرى وهي أن تكون إحداهما عامة والأخرى خاصة ليلزم التناقض وألا يتصور أن يجتمعا في الصدق أو الكذب ولا يكون التناقض ضروريًا، فإن القضيتين العامتين في نسبة الممكنات كاذبتان، كقولنا كل إنسان كاتب لا أحد من الناس كاتب والخاصتان صادقتان، كقولك بعض الناس كاتب بعض الناس ليس بكاتب، فتأمل هذه الشروط واستخرج من نفسك بقية الأمثلة.
التفصيل الرابع في بيان عكس القضية
وهذا أيضًا يحتاج إليه وربما لا يصادف الدليل على نفس المطلوب ويصادف على عكسه، فيمكن التوصل منه إلى المطلوب، وأعني بالعكس أن تجعل الحكم محكومًا عليه والمحكوم عليه حكمًا ولا تتصرف فيه إلا هذا القدر وتبقى القضية صادقة، فعند ذلك تقول هذه قضية منعكسة، أي عكسها أيضا صادق. والقضايا بهذا الاعتبار أربع: الأولى: نافية عامة ولسنا نتكلم في قضية العين فإنها لا تستعمل في النظريات بل في الأعمال والصناعات والعادات. فالنافية العامة تنعكس مثل نفسها نافية عامة، فمهما صدق قولنا لا متحيّز واحد عرض صدق قولنا لا عرض واحد متحيز. وإذا صدق قولنا لا سواد واحد علم صدق قولنا لا علم واحد سواد، فإن ما يسلب عن الشيء فمسلوب عنه الشيء بالضرورة.
الثانية: النافية الخاصة ولا يصدق عكسها البتة، فإنك إذا قلت بعض اللون ليس بسواد لم يمكن إن تقول وبعض السواد ليس بلون ولا أمكنك أن تقول كل السواد ليس بلون.
الثالثة: المثبتة العامة ولا تنعكس مثل نفسها فانك مهما قلت بعض الألوان سواد
1 / 219
صدق قولك بعض السواد لون، فإن كون كل سواد لون لا يخرج عن الصدق قولنا بعض السواد لون ولا يلتفت إلى فحوى الخطاب فليس ذلك من مقتض وضع اللفظ وهو خارج عن غرضنا هذا وإن كان صحيحًا في موضعه.
الرابعة: المثبتة الخاصة وهي تنعكس كنفسها فإنك مهما قلت بعض الجماد جسم صدق قولك بعض الجسم جماد. واقتصر من السوابق على هذا القدر فالزيادة غلبة لا تليق بحجم هذا الكتاب.
1 / 220
الفن الثاني
من محك القياس في المقاصد
وهو طرفان
أحدهما في نظم القياس والآخر في محك النظم وشرطه وهو المقدمات. واعلم أنى أعني بالقياس قضايا ألفت تأليفا يلزم من تسليمها بالضرورة قضية أخرى وهذا ليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها.
أما النمط الأول: فنظمه من ثلاثة أوجه: النظم الأول: أن تكون العلة حكمًا في إحدى المقدمتين محكومًا عليه في الأخرى، ممل قولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف حادث فيلزم منه أن كل جسم حادث، وقولنا في الفقه كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فيلزم منه أن كل نبيذ حرام. وعادة الفقهاء في الصيغة أن يقولوا النبيذ مسكر فينبغي أن يكون حرامًا قياسًا على الخمر، ولا ينكشف الغطاء ولا تنقطع الطالبة إلا بالنظم الذي ذكرناه. ومثل هذه الأقيسة إذا لم يمكن ردها إلى هذا النظم لم تكن النتيجة لازمة ولم تنقطع المطالبة. فإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا القياس مقدمتين.
إحداهما: قولنا كل نبيذ مسكر والأخرى قولنا كل مسكر حرام وكل مقدمة تنقسم إلى جزئين بالضرورة مبتدأ وخبر وحكم ومحكوم عليه فيكون مجموع أجزائها أربعة أمور تتكرّر في المقدمتين فتعود إلى ثلاثة بالضرورة، لأنها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شيء وبطل الازدواج بينهما ولا تتولد النتيجة، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر ولم تتعرض.
في المقدمة الثانية: لا للنبيذ ولا للمسكر ولكن قلت والقتل حرام أو العالم
1 / 221
حادث فلا ترتبط إحداهما بالأخرى. فبالضرورة لا بد من أن يكون أحد الأجزاء الأربعة متكررا في المقدمتين فيرجع إلى ثلاثة، فلنصطلح على تسمية المكرّر في المقدمتين علة وهو الذي يمكن أن يمرن بقولك لأنه في جواب المطالبة. فإنه إذا قيل لك لِمَ قلت إن النبيذ حرام فتقول لأنه مسكر ولا تقول لأنه حرام فما يقترن به لأن هو العلة، ولنسمِّ ما يجري مجرى النبيذ محكومًا عليه وما يجري مجرى الحرام حكمًا، فإنا في النتيجة نقول فالنبيذ حرام فنحكم على النبيذ بأنه حرام ونشتق للمقدمتين اسمين مختلفين من الأجزاء والمعاني التي تشتمل عليها لتسهل علينا الإِشارة إليهما في التفهيم والمخاطبة، ولا يمكن اشتقاق اسمين مختلفين لهما من العلّة. فإن العلة داخلة فيهما جميعًا فنشتقه من الجزئين الآخرين، فالمقدمة التي فيها تعرض للمحكوم عليه نسقيها المقدمة الأولى والتي فيها الحكم نسقيها الثانية اشتقاقًا من ترتيب أجزاء النتيجة. فإنا نقول في النتيجة فالنبيذ حرام فيكون النبيذ أولًا والحرام ثانيًا. والمقدمة التي فيها المحكوم عليه لا يتصور أن يكون فيها الحكم، وهي مقدمة، والتي فيها الحكم لا يتصور أن يكون فيها المحكوم عليه، وهي مقدمة بل هما خاصتان للمقدمتين. واعلم أن النتيجة إنما تلزم من هذا القياس إذا كانت المقدمتان مسلمتين يقينًا إن كان المطلوب عقليًا أو ظنًا إن كان المطلوب فقهيًا. فإن نازعك الخصم في قولك كل مسكر حرام فإثباته بالنقل وهو قوله " كل مسكر حرام " فإن لم تتمكن من تحقيق تلك المقدمة بحس ولا غيره ولا من إثبات الثاني بنقل أو غيره لم ينفعك القياس، ومهما سلّمنا لم يتصور النزاع في النتيجة البتة، بل كل عقل صدق المقدمتين فهو مضطر للتصديق بالنتيجة مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال. وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر فقد جعلت المسكر وصفًا فإذا قلت المسكر حرام فقد حكمت على الوصف، فبالضرورة يدخل فيه الموصوف، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر وكل مسكر حرام وبطل قولنا النبيذ حرام مع انه مسلم أنه مسكر بطل قولنا إن كل مسكر حرام، إذ ظهر لنا مسكر ليس بحرام. ومهما صدقت القضية العامة لم يمكن أن يخرج منها بعض المسقيات، وهذا النظم له شرطان حتى يكون منتجًا، شرط في المقدمة الأولى وهو أن تكون مثبتة، فإن كانت نافية لم ينتج لأنك إذا نفيت شيئًا عن شيء لم يكن الحكم على المنفي حكمًا على المنفي عنه، فإنك إذا قلت لا خل واحد مسكر وكل مسكر حرام لم يلزم منه حكم في الخل، إذ وقعت
1 / 222