ولكن هل يعرف سجيننا الذي تحرر منذ لحظة أن الأشياء الآن أكثر حقيقة مما كانت عليه في أي وقت مضى؟ هل يكفي أن يغمض عينيه قليلا لتستريحا من قسوة الضوء الباهر ليعرف الحقيقة دفعة واحدة؟ إن كان تحويل البصر من الظلال إلى النار في داخل الكهف قد تطلب منه كثيرا من الجهد والمشقة، فما أشد ما يحتاج إليه الآن من صبر وعناء ليرى الشمس وما تغمره من موجودات!
إن عليه أن يتعلم أولا أن التحرر من القيود والأغلال هو أضعف درجات الحرية، وأن الحرية الحقيقية لن تبدأ قبل أن يعود عينيه على النظر والتفكير، وليست التربية إلا هذا «التوجه» ناحية الحقيقة، لا بل إلى ما هو أكثر حقيقة، ولن تكون التربية غير هذا «التعليم» والتعويد الصابر الشاق على رؤية الحقيقة، فجوهر التربية إذن يقوم على جوهر الحقيقة، ولا سبيل إلى الفصل بينهما. وإذا كانت ماهية التربية في هذا التوجيه الشامل المتصل للنفس بكليتها، فإنها تظل كذلك محاولة متصلة للتغلب على نقص التربية. وما دام رمز الكهف هو الذي يصور ماهية التربية ويرسم الطريق الصاعد إليها، فهو يصور كذلك الوسيلة إلى التغلب على الجهل والغباء والبلادة وكل ما نسميه بنقص التربية؛ لذلك لم يكن الوصول إلى نور الشمس أو نور الحقيقة هو الغاية الأخيرة من حكاية الكهف، بل إنها [وتلك هي المرحلة الرابعة والأخيرة من رحلة الكهف] تعود بسجيننا الذي تحرر من أغلاله إلى الكهف مرة أخرى، إنه يعود إلى رفاقه السابقين إنسانا آخر، ورسولا للتحرر والخلاص، فالحياة بين جدران الكهف لن تقنعه بعد ذلك أو ترضيه، وهو لا شك يدرك مدى الخطر الذي سوف يتعرض له، فرفاقه المساجين لا يعرفون أنهم مساجين، والحرية كلمة لا يفهمون عنها شيئا، والحقيقة الوحيدة التي يعرفونها هي هذا الواقع الحسي الشاحب الذي يحيط بهم، ولو تجرأ رفيقهم على الحديث إليهم عن الحقيقة الأخرى أو عن الحرية أو النور فلا شك أنهم سيسخرون منه، بل إن السخرية ستكون أهون ما يتعرض له، فليس بعيدا أن يهجموا عليه؛ لا ليضعوا قدميه ورقبته في الأغلال مرة أخرى وإلا لهان الأمر أيضا! بل ليمسكوا به ويقتلوه، وهو مصير يعرف أفلاطون تمام المعرفة أنه غير مستبعد في العالم؛ فلقد راح أستاذه سقراط ضحية له. وحين يسأل أفلاطون في نهاية الحكاية على لسان سقراط: وإذا حاول أحد أن يمد يديه ليفك عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، ألا تعتقد أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه بالفعل؟ وحين يسأل هذا السؤال نجد محدثه لا يتردد لحظة في الجواب، بل يقول يقينا: سيفعلون؛ ذلك لأنه قد آمن مع أفلاطون بأن الصراع من أجل الحقيقة ليس مجرد نزاع حول المبادئ والقيم والأفكار، بل هو في صميمه مسألة حياة أو موت.
ماذا يقصد أفلاطون من وراء هذا الرمز؟
إنه - كما قدمنا - يفسره بنفسه حين يقول: إن الهدف منه هو إعطاء صورة محسوسة لماهية التربية، وماهية التربية هي تحرير النفس الإنسانية بكليتها، وتحرير البصر حتى يرى الجوهر والحقيقة، وتحرير النفس والبصر مرادف للأخذ بيد الإنسان على الطريق الصاعد إلى ما يسميه أفلاطون مثال المثل، أو الخير الأسمى، كما تقول الترجمة الشائعة. لكن ما السبب في كل هذه الأهمية التي يضفيها أفلاطون على مثال المثل؟ سيقول: «إن مثال الخير هو السيد الذي يضمن الحقيقة كما يضمن إدراكها.» (517ج)، إنه هو الوجود الأسمى الذي يتيح لكل موجود أن يتجلى على ما هو عليه، أو هو الذي يضفي عليه الوجود الحق، بل إن من الأمور الواضحة لدى الناس جميعا أنه علة كل صواب [في سلوكهم]، كما هو سبب كل جمال (517ج)، إنه هو الذي يضفي الحقيقة على ما يعرف، ويهب ملكة المعرفة لمن يعرف (الكتاب السادس، 508)، وكل إنسان يحرص على أن يكون على بصيرة في سلوكه الخاص أو العام، لا بد له أن يحرص كذلك على ألا يغيب المثال عن بصره (517ج، 4، 5).
إن الكهف المليء برموزه الغنية يجعل لمثال المثل أو مثال الخير مكانه الفريد بينها؛ فهو يقابل الشمس ذات البهاء والجلال، ومصدر الدفء والحقيقة والحياة، إنها تتوهج في سناها الأبدي خارج الكهف، وعلى من يريد أن يجتلي بنورها أن يتجشم عناء الطريق الصاعد الطويل من باطن الكهف الرطب، حيث تسود معرفة الظن والحس، وحيث ترتعش الظلال والأصداء، إلى حيث تشاهد العين فتسعد، وتتملى النفس فتستريح، وهل أدل على خطورة شأنه من أن النار الشاحبة المتواضعة التي تعصم المساجين من التصادم في الظلام هي نفسها قبس ضئيل منه؟ وأن السجين الذي واتاه الحظ فرآه لا يستطيع أن يستأثر لنفسه بهذا الجمال، بل يستجيب لصوت الواجب فيهبط إلى إخوانه المساكين ليدعوهم إلى الوجود الأسمى، ويبشرهم بالحقيقة الرائعة؟ ما أنبله من رسول منقذ! إنه يعرف أن خطر الموت يحدق به، ومع ذلك لا يتردد عن أداء رسالته، لقد تجاوز المحسوس إلى ما وراء المحسوس، وارتفع من معرفة زائلة إلى حكمة باقية، وصعد من الكهف المعتم إلى الشمس المضيئة، لا كما يصعد الساكن من البدروم إلى الدور الأعلى، بل كما يخرج السجين من كهف الظلام والنسيان ليعود المربي الذي يبني الإنسان. •••
رمز الكهف صورة تجمع بين صدق الشعر ووضوح المنطق، إنها التعبير الحي عن الخير الأسمى، ذروة فلسفة أفلاطون كلها وتاجها المضيء، وهل تهدف رحلة الخروج من الكهف - أو قل من هذا العالم - إلى نور الشمس الساطع - أو قل إلى مثال الخير الأكمل - إلى غاية أخرى غير هذه الغاية؟ إن فكرة الخير هي مصدر العدل والجمال كله (505أ) وكل معرفة نحصلها تظل بدونها عبثا لا طائل وراءه، لكن الخير ليس هذا الخير الجزئي أو ذاك، بل هو الخير الكلي، أو هو مثال الخير الذي يشارك كل ما ينطوي على شيء من جمال أو صدق أو انسجام أو بهجة بنصيب فيه، أو ليس الخير بعد هذا كله ما لا يمكن أن يتنازع حوله اثنان.
على أن أفلاطون لم يقدم في أي كتاب من كتبه تعريفا محددا للخير، وإن كان في إحدى محاوراته المتأخرة «فيليبوس» يضع ثلاثة من المثل هي الجمال والتجانس والصدق، ويجعل منها معايير للحكم على ما إذا كان التعقل أو اللذة أقرب إلى الخير.
ويبدو أن المفكر حين يقترب من ذروة تفكيره لا يجد المنطق الذي يسعفه بالتعريف والتجديد؛ فيلجأ - والعذر لبشريتنا المحدودة! - إلى الرمز والصورة، ويستعير من الشاعر خياله ومن الرسام فرشاته، وهذا هو ما فعله أفلاطون في جمهوريته حين لم يجد وسيلة يصور بها طريق التربية الشاق إلى الخير الأسمى خيرا من رمز الكهف، هذا الطريق الصاعد [أو ما يسميه الفلاسفة بالديالكتيك] يصل إلى غايته عندما يتأمل سجين الكهف القديم نور الشمس.
ولكن كيف له أن يعبر عن هذه الرؤية بالكلمات؟ لا بد إذن من اللجوء إلى الرمز والصورة؛ فالخير الأسمى - كما يقول في موضع سابق (507أ) - يكشف عن طبيعته في ولده هليوس [أي الشمس]، أسمى الآلهة وأكثرها تألقا في السماء. ولكن ما العلاقة بين قوة البصر وبين إله النور السماوي؟ قد نقول: إن العين هي أكثر الأعضاء شبها بالشمس
2
अज्ञात पृष्ठ