الانتقال من الكهف إلى ضوء النهار ومن ضوء النهار إلى الكهف يتطلب تحولا وتغييرا فيما تعودت عليه العين من الظلام إلى النور ومن النور إلى الظلام، إن العين ترتبك مرتين - على حد قول أفلاطون - وارتباكها يكون لسببين: فإما أن يخرج الإنسان فجأة عن جهله الذي لا يكاد يحس به ليصل إلى حيث يتجلى له الوجود أكثر وجودا وأكثر حقيقة، دون أن يكون قد بلغ درجة من النضج تهيئه لذلك، وإما أن يسقط من سماء المعرفة الحقة إلى ظلام المعرفة المألوفة بالواقع، ويفقد القدرة على النظر إلى المألوف والمعتاد على أنه هو الواقع.
كما ينبغي للعين أن تتعلم كيف تتعود شيئا فشيئا على النور أو على الظلام، فلا بد للنفس كذلك أن تتعلم خطوة فخطوة كيف تتعود على الوجود الجديد. إن عليها أن تغير نزوعها واتجاهها من أساسه، كما أن على الجسد أن يغير من وضعه إذا أرادت العين أن تغير مجال الرؤية، ولكن لماذا يستغرق التغيير كل هذا الوقت الطويل؟ لماذا يحتاج التعود إلى هذا البطء الشديد؟ لأنه تغيير يتصل بوجود الإنسان كله ويشمل جوهره بأجمعه، ويحول سلوكه إلى اتجاه جديد، هذا التغيير الشامل في وجود الإنسان وحقيقته هو ما يسميه أفلاطون بالتربية «بايديا»، وهو ما يعبر عنه بقوله «تعديل النفس بأكملها»، وهو لذلك انتقال من حال إلى حال، وليس رمز الكهف كله سوى حكاية أو صورة تجسم لنا طبيعة التربية وتوضحها، فليست التربية أن نملأ النفس بالمعارف التي لم تتهيأ لها كما لو كنا نصبها في وعاء فارغ، بل التربية الأصيلة هي التي تغير النفس وتحولها، فتضع الإنسان في مكانه الحق وتعوده على الحياة فيه. وأفلاطون نفسه يؤكد أن رمز الكهف إنما هو صورة للتعبير عن جوهر التربية حين يقول في مطلع الكتاب السابع من الجمهورية: «اتخذ لنفسك إذن من مثل هذه التجربة [التي سيشرحها ويصورها فيما بعد] نظرة إلى [جوهر] التربية وعدم التربية الذي يتصل بوجودنا الإنساني في أساسه.»
صورة الكهف إذن تعبر لنا عن رأي أفلاطون في التربية، إنها تصور المراحل التي تنتقل فيها النفس من الظلام إلى النور، من حالة نسيان للوجود إلى لقائه وجها لوجه، من معرفة الحس والظن إلى معرفة العقل واليقين، ولكنها تصور لنا كذلك رأيه في الحقيقة [ولا أقول مذهبه، فهذه الكلمة البشعة لم تكن قد عرفت بعد!] التي تحدد بدورها شكل التربية وتجعلها ممكنة.
فالتربية تعني تغيير الإنسان كله حين تنقله من مجال تعود عليه إلى مجال آخر يظهر فيه الوجود على حقيقته. بهذا الانتقال يتغير كل ما كان مألوفا للإنسان ويتحول شيئا آخر؛ ما كان يحسبه حقيقة يصبح ظنا، والحقيقة التي لم يكن يعرف عنها شيئا تتجلى له بعد طول تعود ومراس. إنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ويترك مجالا ليدخل في مجال، كما يترك وراء ظهره حقيقة ليشاهد حقيقة أخرى جديدة عليه.
رمز الكهف يصور لنا هذه المراحل وكيف ينتقل الناس منها وإليها؛ فهم في المرحلة الأولى يعيشون في الكهف تغلهم السلاسل من أقدامهم ورقابهم، وتقيدهم الموجودات التي يفتحون عيونهم عليها ليل نهار، ليس هناك شيء يربطهم بالعالم الخارجي سوى الظلال الصامتة المضطربة التي تنعكس فوق جدار أمامهم، هذا إذا تنبهوا إلى أنها تأتي من عالم خارجي على الإطلاق. هم يستيقظون وينامون على الأشياء التي تحيط بهم، وهم يأخذونها معهم أيضا في أحلامهم، وهم يتحدثون - إن تحدثوا - عن الظلال التي تهيم أمامهم، ولا تكاد توقظ فيهم أثرا للدهشة أو السؤال: «أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئا حقيقيا غير الظلال.»
وتأتي المرحلة الثانية، فها هي ذي السلاسل تفك عنهم ، وها هم أولاء يستطيعون أن يحركوا رءوسهم وأقدامهم كما يشاءون، صحيح أنهم ما زالوا أسارى الكهف، ولكن في وسعهم الآن أن يلتفتوا إلى ما لم يكونوا يلتفتون إليه، وصحيح أن عيونهم ما زالت ترى الظلال المنعكسة على الجدار، وأجسادهم ما تزال ترتعش من الرطوبة المنبعثة من الأرض، ولكن في مقدورهم الآن أن يشاهدوا النار التي تشتعل خلف ظهورهم وأن يقتربوا بذلك كثيرا من الوجود.
اتضحت الأشياء بعض الوضوح، واستراحت العين قليلا من الظلال، وعرف المساجين أن هناك مصدرا للضوء الشاحب الذي كان ينسكب على الأشياء، والظلال القاتمة التي كانت تتراقص على الجدار. تحررت العيون من الظلال، واستطاعت بذلك أن تقترب مما يزيد عليها في الحقيقة. ولكن هل أدركت حقا أن ما تراه الآن أكثر حقيقة مما كانت تراه؟ إن السجين الذي نال هذه الدرجة من الحرية ما زال في الواقع سجين عادته؛ إنه سيعتقد أن ما كان يراه من قبل [أي الظلام] أكثر حقيقة مما يتبين له الآن.
ولكن ما الذي يمنعه من اكتساب حريته على الفور؟ أي قناع هذا الذي لا يزال يغشي عينيه؟ إن النار المشتعلة - على ضعفها واضطرابها - تعشي عينيه، لقد تحرر حقا من سلاسل الحديد، ولكنه لم يتحرر بعد من قيود التعود والتقليد.
إن عشى العينين يمنعه من أن يرى النار نفسها، ويدرك أن ضوءها هو الذي يسقط على الأشياء ويجعلها تظهر على ما هي عليه، وهو لذلك لا يستطيع أن يدرك أن ما كان يراه من قبل إنما هو ظل الأشياء الذي كانت تعكسه هذه النار. حقا إنه يرى الآن شيئا يختلف عن الظلال، ولكن كل ما يراه يضطرب أمام عينيه اضطرابا عجيبا، وهو حين يقارنه بالظلال التي كان يراها منذ حين، تبدو له هذه الظلال ثابتة الأطراف محددة الأبعاد. ولن نستغرب عليه أن يظن في اضطرابه واختلاط الأمر عليه أن الظلال أكثر حقيقة من الأشياء التي يراها الآن على ضوء النار المتوهجة وراءه، إنه لم يستطع بعد أن يميز بين الحقيقة والوهم، ولا بين الموجود والظل؛ فالخلاص من القيود ما يزال بعيدا عن الحرية الحقيقية.
هنا ننتقل إلى المرحلة الثالثة، فقد صعد «السجين الحر» على الطريق المؤدي إلى خارج الكهف، خرج - كما نقول اليوم - إلى الحرية؛ كل شيء الآن واضح أمامه وضوح النهار، والأشياء التي تقع عليها العين لم تعد تضطرب في الضوء الشاحب الذي كانت ترسله عليها نار الكهف. الآن فقط انتقل حقا إلى الحرية، لا لأن المكان اتسع فصار بلا حدود، بل لأن ضوء الشمس يغمر كل ما هو موجود، العين ترى كل شيء على ما هو عليه، وكل شيء يبدو للعين ويتجلى في مظهره [أيدوس] أكثر حقيقة وأشد صفاء مما كانت عليه تلك الأشياء التي تضيئها النار «الصناعية» في الكهف إذا قورنت هذه الأشياء نفسها بالظلال.
अज्ञात पृष्ठ