سألنا هذا السؤال من قبل، ورحنا نبحث عن شيء قريب منا لكي نستطيع الجواب عليه، ووجدنا الجرة، ولكي نصل إلى حقيقة الجرة كشيء، سألنا: ما الذي جعل الجرة جرة؟ وضاع منا هذا السؤال حين توجهنا إلى العلم نسمع منه الكلمة الأخيرة في القضية. والحق أننا لم نجد عنده إلا الفراغ كما تتصوره الفيزياء، لا فراغ الجرة كما بحثنا عنه، وأردنا أن نصل به إلى شيئية الشيء.
كيف يعي الفراغ في الجرة؟ يعي الفراغ حيث يتلقى السائل المصبوب ويحتفظ به، فكلمة «الوعي» إذن تتضمن تلقي السائل والاحتفاظ به في آن واحد، ووحدتهما معا تعين من وجه الانسكاب، سواء في ذلك سكب السائل في الجرة أو منها، سكب السائل من الجرة إهداء، وفي الإهداء ماهية الوعاء، والوعاء محتاج للفراغ الذي «يعي» ما يسكب فيه، وماهية الفراغ تكمن في إهداء ما فيه، على أن الهدية والإهداء أغنى من السكب والانسكاب، والذي يجعل الجرة جرة هو سكب ما فيها هدية للرفيق والحبيب، والجرة الفارغة أيضا تكتسب ماهيتها من الإهداء، ولو لم يكن فيها من شيء نسكبه أو نهديه، هذا الإهداء أو الامتناع عنه أمر يخص الجرة وحدها (فالمطرقة أو الحذاء مثلا لا يستطيعانه).
هدية الجرة شراب، الشراب قد يكون ماء أو خمرا، في الماء يكمن النبع، وفي النبع الصخر، وفي الصخر نعاس الأرض تستقبل الندى والمطر من السماء، في ماء النبع تلتقي الأرض والسماء في عرس بهيج، وتخضل الخمر عطية الكرم والعناقيد، ثمرة رضعت من خير الأرض، وتغذت من شعاع الشمس في انسكاب الماء وإهداء الخمر تلتقي الأرض والسماء، وفي الإهداء ماهية الجرة وحقيقتها، وفي الجرة تلتقي الأرض والسماء.
الهدية المسكوبة شراب للبشر الفانين، يروي عطشهم وينعش فراغهم ويملأ بالبهجة ناديهم، والهدية من الجرة لا تكون دائما من نصيب الفانين، فقد تدخل المعبد، وقد توهب في عيد مقدس، وقد تقدم قربانا للآلهة الخالدين، هنا تكون هدية الجرة هي الهدية الحقة، وفي إهدائها يكون جوهرها النقي، صب الشراب حين نعود به إلى أصله الأول يفيد معنى التضحية والقربان للآلهة،
11
أي الإهداء في معناه الخالص.
في إهداء الشراب يكمن البشر، وفيه تكمن الآلهة. في الشراب يجتمع الفانون والخالدون، وفي إهدائه تلتقي السماء والأرض والبشر والآلهة، وهذه العناصر الأربعة - وإن توحد كل منها بماهيته - مرتبطة في نسيج محكم، لا يستغني واحد منها عن الآخر.
إهداء الشراب يكون هدية بقدر ما تجتمع فيه الأرض والسماء، والخالدون والفانون، أي بقدر ما يتحد فيه هذا الرباع الفريد، ولكن الإهداء هو الذي يكشف عن حقيقة الجرة، والإهداء من الجرة - كما قدمت - يجمع كل ما يتصل به بسبب: تلقي الخمر والاحتفاظ بها، القاع والجدار، الفراغ في الوعاء، صب الشراب باعتباره هدية وتضحية.
الهدية تجمع هذه الأمور كلها من حيث تجمع «الرباع» الفريد، وتجعله يتلبث في هذا الشيء الذي أسميناه بالجرة، وهذا التجمع العجيب هو الذي يكشف لنا عن حقيقتها، فهي اللحظة والموضوع الذي يحل فيه.
الجرة إذن تكشف عن ماهيتها كشيء، والجرة جرة من حيث هي شيء، لكن كيف يكشف الشيء عن ماهيته؟ الشيء يتشيأ،
अज्ञात पृष्ठ